القواعد الفقهية (منتقى الاصول) المجلد 6

اشارة

نام كتاب: القواعد الفقهية( منتقى الأصول)

موضوع: قواعد فقهى

نويسنده: قمّى، سيد محمد حسينى روحانى

تاريخ وفات مؤلف: 1418 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 3

ناشر: چاپخانه امير

تاريخ نشر: 1413 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

مقرر: حكيم، شهيد، سيد عبد الصاحب بن سيد محسن طباطبايى

تاريخ وفات مقرر: 1403 ه ق

ملاحظات: قاعده تسامح در ج 4 و ميسور و نفى ضرر در ج 5 و قواعد يد و أصالة الصحة و فراغ و تجاوز و قرعة در ج 7 چاپ شده است

قاعدة اليد

اشارة

لا إشكال في تقدم القاعدة المذكورة على الاستصحاب و ان لم تكن من الأمارات، بل كانت من الأصول، لأنها واردة في موارده غالبا، فيلزم من تخصيص دليل الاستصحاب لدليلها عدم بقاء مورد لها إلا نادرا، فيوجب ذلك لغوية اعتبارها كقاعدة كلية كما لا يخفى.

ثم أنه لا أهمية في البحث عما يتعلق بلفظ «اليد» من كونه لفظا حقيقيا أو كنائيا أو غير ذلك، بعد معرفة المراد منها و هو الاستيلاء الخارجي. كما لا أهمية في الكلام في كون مسألة اليد مسألة أصولية أو فقهية.

و إنما يقع المهم من الكلام فيها في جهات:

الجهة الأولى: في حجية اليد على الملكية.

اشارة

و هي من المسلمات في الجملة لدى الأعلام و استدل لها ببناء العقلاء و السنة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 8

أما السنة: فهي روايات أربع:
الأولى: موثقة حفص بن غياث

التي فيها: «أ رأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أ يجوز لي أن أشهد انه لا؟. قال عليه السلام: نعم. فقال الرّجل: اشهد انه في يده و لا اشهد انه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أ فيحل الشراء منه؟. قال: نعم. فقال عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه و يصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك. ثم قال عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» «1» و وجه الاستدلال بها: انه عليه السلام أجاز الشهادة على الملك باعتبار أن الشي ء المشهود به في يد المشهود له، كما أجاز الشراء بهذا الاعتبار.

يؤكده استفهام الإمام عليه السلام التقريري للسائل و نقضه عليه حين توقف من أداء الشهادة على أنه له، فانه يدل على ان هذا الأمر من الارتكازيات العقلائية التي لا تقبل الإنكار، و لذلك اقتنع السائل بنقض الإمام عليه السلام.

و لكن التحقيق عدم دلالة الرواية المذكورة على حجية اليد على ملكية المال الّذي يكون باليد، و ذلك لأن جواز الشراء و الحكم بملكية المشتري للمبيع لا يتوقف على كون البائع مالكا للمبيع، بل يكفي فيه كونه مالكا للتصرف فيه. و عليه فما ذكره الإمام عليه السلام نقضا على السائل في توقفه من جواز الشراء من ذي اليد لا يدل على جواز الشهادة على الملكية باعتبار اليد، إذ لا ملازمة بين جواز الشراء و جواز الشهادة

على الملك. نعم، بينه و بين جواز الشهادة على ملك التصرف ملازمة. فمن اقتناع السائل بالنقض يستكشف ان المسئول عنه هو جواز الشهادة على ملك التصرف، و أن المال له تصرفا و ولاية أعم من أن يكون مملوكا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 18- 215 باب: 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 9

له أو لا يكون. و إلا لم يقتنع السائل إذ لا ملازمة كما عرفت.

فالرواية- بمقتضى ظاهر النقض و اقتناع السائل به- لا تدل إلا على جواز الشهادة على ملكية التصرف لا ملكية نفس المال.

و هذا و إن كان خلاف ظاهر التعبير ب «أشهد انه له» بدوا، إذ ظاهره كونه الشهادة بالملكية، إلاّ انه كثيرا ما يقع استعمال مثل هذا التعبير فيما يشابه ما ذكرناه في لسان أهل العرف، كما لا يخفى على الملتفت إلى موارد الاستعمال.

و يدل عليه قوله عليه السلام في النقض: «ثم تقول بعد الملك هو لي»، فانه ظاهر في ان: «هو لي» و شبهه ليس مفاده بيان الملكية، بل ما يترتب عليها من ولاية التصرف، فيدل على ان الكلام بين الإمام و السائل دائر حول الشهادة بولاية التصرف لا الملكية، و إلا لكان الأنسب ان يقول «ثم تقول بعد الشراء هو لي» لا بعد الملك، فالتفت.

و أما التزام ان المفروض كون الدوران في المورد المسئول عنه بين يد الملك و يد الغصب، بحيث إذا انتفى احتمال الغصبية يعلم بأنها يد ملك لا ولاية- مثلا- و حينئذ فتكون هناك ملازمة بين جواز الشراء و بين جواز الشهادة، لأن الشراء انما يكون باعتبار الحكم بالملكية لليد، و هو يلازم جواز الشهادة.

فهو مما لا شاهد عليه في الرواية،

لأن المسئول عنه قضية حقيقية مطلقة قد يتفق وقوعها للسائل بلا تقييد لها بنحو خاص.

و لو سلم ذلك. فلا يدل على المدعى أيضا، بعد البناء على ان جواز الشراء انما يستند إلى ملكية التصرف بالمال لا ملكية نفس المال. فان اليد حينئذ انما تدل على الملكية في خصوص المورد باعتبار العلم بالملازمة بين ملكية التصرف و ملكية المال، لأن المفروض ان الدوران بين الملكية و الغصبية، فإذا جاز التصرف فقد انتفى احتمال الغصب فيثبت احتمال الملكية، فاليد إذا دلت على ملكية التصرف بالمال- كما هو ظاهر النقض- فقد دلت بالملازمة على ملكية المال لذي اليد، فجواز الشهادة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 10

بالملكية- الّذي يدعى استظهاره من السؤال و الجواب في الرواية، و ان ناقشنا فيه و استظهرنا كون السؤال عن الشهادة بملكية التصرف بقرينة النقض و قناعة السائل به- يختص بالمورد باعتبار الملازمة الاتفاقية المذكورة، فمع ثبوت ملكية التصرف و جواز الشهادة عليها بلحاظ اليد تثبت ملكية نفس المال فتجوز الشهادة عليها.

و بالجملة: فدلالة اليد على الملكية في المورد باعتبار الملازمة، غير دلالتها على الملكية مطلقا و مطابقة كما هو المدعى.

و على هذا، فلا دلالة للرواية المذكورة على حجية اليد على الملكية.

الثانية:

ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث فدك حيث قال (عليه السلام) لأبي بكر: «أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّه؟ قال: لا. قال عليه السلام: فان كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادعيت انا فيه، من تسأل البينة؟. قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه. قال عليه السلام: فإذا كان في يدي شي ء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي ..» «1» الخبر.

و تقريب الاستدلال بها:

أن الإمام عليه السلام جعل نفسه منكرا و مدعى عليه بما انه ذو يد، و جعل أبا بكر مدعيا باعتبار مخالفة قوله للحجة- فاستنكر على أبي بكر مطالبته له بالبينة- و لا حجة في المقام سوى اليد، و الدعوى المفروضة هي الملكية، فاليد حجة عليها.

و لكن الإنصاف عدم دلالة الرواية على المدعى، لأن المعنى العرفي للمدعي و الّذي عليه المشهور هو: «من لو ترك ترك»، و الخلاف بين الإمام عليه السلام و أبي بكر إنّما هو في تطبيق حكم من أحكام القضاء، و هو مطالبة المدعي بالبينة دون المدعى عليه، و استنكار الإمام عليه السلام على أبي بكر انما هو في مطالبته بالبينة، لأنه ليس مدعيا، بل مدعى عليه، لأنه ذو يد، و مقتضى اليد صيرورته

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 18- 215 باب: 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 11

مدعى عليه و صيرورة أبي بكر مدعيا فعليه البينة، لأنه بترك أبي بكر الدعوى يجري كل أمر على ما كان عليه و يستمر على حاله السابق. فاحتجاج الإمام (عليه السلام) لنفي وجوب البينة عليه بأنه ذو يد لا يدل على كون اليد حجة، بل لصيرورة ذيها مدعى عليه. و لا يلزم ان يكون للمدعى عليه حجة كي يقال انها هاهنا منحصرة في اليد فتكون حجة على الملكية.

نعم، لو قيل بان المدعي هو من خالف قوله الحجة ثم الاستدلال بالرواية، لكنك عرفت ان المشهور على تفسيره بغير ذلك.

الثالثة: رواية حمزة بن حمران:

«أدخل السوق فأريد ان أشتري جارية تقول أني حرة. فقال عليه السلام: اشترها إلا ان تكون لها بينة» «1».

و وجه الاستدلال بها: انه عليه السلام أجاز شراء الجارية مع ادعائها الحرية الا ان

تقوم البينة على حريتها، فلا بد ان يستند الشراء إلى حجة و هي اليد لا سبب آخر كالبينة، لأنه لو كان مصحح الشراء هو قيام البينة على المملوكية لما اتجه الحكم بعدم جواز الشراء عند قيام البينة على الحرية، لأنها معارضة بالبينة القائمة على الرقية، فلا بد ان تكون هي اليد- لأنها لا تعارض البينة- فتكون حجة على الملكية.

و التحقيق: عدم سلامة الاستدلال بها من الإشكال، لأن ظاهر المورد هو سبق الرقية على الجارية- لامتياز الجواري في ذلك الزمان عن غيرهن- فترجع دعواها للحرية حينئذ إلى دعوى انقلابها عن الرقية إلى الحرية، و مقتضى الاستصحاب- مع عدم البينة- بقاء الرقية، فلعل الحكم بجواز الشراء مستند إلى الاستصحاب و هو مورود للبينة- كما لا يخفى- و لو تنزلنا عن ذلك و قلنا بعدم ظهور المورد في سبق الرقية لعدم الامتياز، بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 13- 31 باب: 5 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 2.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 12

الظاهر دعواها الحرية مطلقا و عدم الرقية أصلا. فلا ظهور للرواية في استناد جواز الشراء إلى اليد، إذ لم يفرض سائل معين يدعي الملكية و له يد على الجارية، بل قد يكون البائع مجهول الحال، بل لا يدعي الملكية بل يدعي عدمها- كما لا يخفى على من لاحظ أسواق بيع الجواري، فان البائع غالبا لا يكون المالك- و لكنه في نفس الوقت يدعي المسوغ الشرعي لبيع هذه الجارية، فقد يكون جواز الشراء مستندا إلى أصالة الصحة في عمل الغير و هي الحجة التي تسوغ الشراء، و ترتفع بالبينة. فلا دليل على إناطة الشراء باليد كي يكون الحكم بحجيتها حكما بملكية ذي اليد للجارية.

الرابعة: موثقة يونس بن يعقوب:

«عن أبي عبد

اللّه عليه السلام في امرأة تموت قبل الرّجل أو رجل قبل المرأة. قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرّجال و النساء فهو بينهما. و من استولى على شي ء منه فهو له» «1».

و تقريب الاستدلال بها: انه عليه السلام قال: «و من استولى على شي ء منه فهو له» فحكم بالملكية بمجرد الاستيلاء و هو معنى اليد، و بإلغاء خصوصية المورد يتعدى إلى باقي الموارد و يحكم فيها بحجية اليد على الملكية.

و لكنه غير تام، لأن الظاهر من السؤال عدم وجود حجة شرعية في المورد توجب ثبوت شي ء من المتاع إلى أحدهما، و ان الورثة في مقام الحيرة و التردد، و لأجل ذلك حكم الإمام عليه السلام بملكية المتاع الخاصّ بالمرأة للمرأة استنادا إلى ظاهر الحال لأن اختصاص المرأة بالمتاع يوجب الظهور في ملكيتها للمتاع، لا من جهة اليد، إذ قد لا يكون لأحدهما يد معين على متاعه الخاصّ، و مع ذلك يحكم بملكيته له من باب الظهور الحالي.

و منه يظهر انه يمكن ان يكون الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء لا من جهة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17- 525 باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 13

اليد، بل من جهة كون الاستيلاء مرجحا لملكية المستولي للمستولى عليه، لأنه يوجب ظهور ذلك، بل بقرينة ما ذكرناه أولا من ان مفروض المقام عدم الحجة على التعيين، و حكمه في صورة الاختصاص بملكية ذي الاختصاص، و بالاشتراك في الملكية في المتاع المشترك يمكن الجزم بهذا الاحتمال، و ان التقسيم انما هو بلحاظ الظاهر الحالي للمتاع.

و لو سلمنا دلالة الرواية على ان الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء باعتبار

اليد، فلا دليل على التعدي إلى سائر الموارد، لأنه يمكن ان يكون للمقام خصوصية أوجبت اعتبار اليد فيه دليلا على الملكية، بل هو الظاهر من الحكم الأولي في الرواية، فانها لا تجري في غير المورد مما يكشف عن خصوصية فيه. فالتفت.

و قد تبين من جميع ما ذكرنا: انه لا دلالة لهذه الروايات على حجية اليد على الملكية أصلا. و كأن استظهار الفقهاء حجية اليد منها مبني على ما ارتكز في أذهانهم من حجيتها. فتدبر جيدا.

و اما بناء العقلاء:

فقد يقرب: بان العقلاء بانون على التعامل مع ذي اليد في الأسواق بلا توقف و تردد حتى قيام الحجة على ملكية ذي اليد لما في يده. و ما ذلك إلا لأجل اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذيها.

و لكن هذا التقريب لا يفي بحجيتها على الملكية، لأنه انما يكشف عن اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذي اليد للتصرف في المال الّذي في يده لا ملكية نفس المال، لأنهم لا يعتنون في كون البائع مالكا أو وليا أو غير ذلك و لا يهمهم ذلك، و انما المهم لديهم هو كون البائع مالكا للتصرف، فلا يدل عدم توقفهم في التعامل على اعتبارهم اليد حجة على الملك، بل حجة على ولاية التصرف لا أكثر، و ليس المهم في مقام التعامل كون البائع مالكا للمال كي يكون عدم توقفهم دليلا على حجية اليد على الملكية عندهم.

و يمكن الاستشهاد على ذلك بتعليل الإمام عليه السلام في رواية حفص

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 14

المتقدمة التي قربناها في حجية اليد على ملكية التصرف، بأنه: «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق»، فانه تعليل لحجية اليد على ملكية التصرف، فيكشف عن أن توقف قيام السوق انما

هو على اعتبار اليد حجة على ملكية التصرف. لا على اعتبارها حجة على ملكية المال، إذ لا يتوقف قيام السوق على ذلك، لأن صحة التعامل لا تبتني على ملكية كلا الطرفين للمال.

فبناء العقلاء بهذا التقريب لا يكون دليلا على حجية اليد على الملكية.

نعم، يمكن التمسك على حجيتها ببنائهم في بعض الموارد الجزئية، كما لو مات شخص و كان في بيته مال كثير، و قد يكون أكثر من شأنه، فانهم يحكمون بملكيته للمال لأنه تحت استيلائه و تصرفه و لو لم تقم حجة عليها، و لذا لو ادعى شخص بعض تلك الأموال يطلب منه إقامة البينة، و لا يعتبر انه مدع بلا معارض. و كما لو كان بيد شخص مال يتصرف فيه و ادعى آخر انه ولي المال لا مالكه. فأنكر ذو اليد و ادعى ملكيته للمال، فإنه يحكم له بالملكية لأنه ذو يد ما لم تقم البينة على عدمها.

فمن مثل هذه الموارد يستكشف بناء العقلاء على ملكية ذي اليد لما في يده من المال لأجل اليد. و إذا ثبت بناء العقلاء على حجيتها، فعدم الردع من الشارع كاف في صحة العمل بها، و لو لم يكن في البين إمضاء صريح. فيتحصل: ان اليد حجة على الملكية في الجملة.

الجهة الثانية: في أن اليد هل تكون أمارة أو أصلا.

و لا يخفى ان هذا البحث علمي صرف لا أثر عملي له، لأن الحال لا يفترق في اليد سواء كانت أمارة أو أصلا، لأن الأثر المختلف فيه من هذه الناحية انما يدور في محورين:

الأول: في إثبات اللوازم، فانها إذا كانت أمارة كانت حجة على لوازم الملكية بخلاف ما إذا كانت أصلا.

الثاني: معارضتها مع الأمارات و الأصول، فإنها إذا كانت أمارة فهي تعارض

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7،

ص: 15

الأمارات الأخرى و تتقدم على الأصول، بخلاف ما إذا كانت أصلا فانها تؤخر عن الأمارات و لا تتقدم على الأصول.

و لكن الحال فيها لا يختلف في كلا المحورين:

أما الأول: فلما بينا سابقا من أنه لا فرق بين الأمارة و الأصل في عدم تكفل دليل اعتبارهما لإثبات لوازم مؤداهما بهما، فالأمارة بدليل اعتبارها ليست حجة على اللازم كما أن الأصل كذلك.

نعم، بعض الأمارات يكون لسانها الكشف عن المؤدى و لازمه، و إثباتهما واقعا في مرتبة سابقة عن دليل اعتبارها، فيتكفل دليل اعتبارها إثبات حجيتها فيه.

كما هو الحال في خبر الواحد، فان الاخبار بالمؤدى إخبار عرفا بلازمه، فيكون بمنزلة قيام خبرين خبر على المؤدى و خبر على اللازم، فدليل اعتبار الخبر يتكفل لاعتباره في اللازم و الملزوم. و هذا غير متحقق في اليد لأن اليد على الملكية ليست يدا على لوازمها، فلوازم الملكية لا تثبت باليد. و لو فرض ان اليد على الملكية يد على لوازمها، فلا يختلف الحال في كونها أمارة أو أصلا، لأن دليل الاعتبار على كلا التقديرين يشملها لأنها من قبيل اليدين لا اليد الواحدة كما في الخبر.

و أما المحور الثاني: فلما عرفت من انه لا كلام في تقدم اليد على الاستصحاب و باقي الأصول، كما انه لا إشكال في تقدم الأمارات الأخرى عليها كالبينة، سواء كانت أصلا أم أمارة. فمن هنا يعلم عدم الأثر العملي للكلام في هذه الجهة، فالبحث فيها علمي بحث، و تحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان الفرق بين الأمارة و الأصل، و المراد من الأصل هاهنا.

فنقول: الوظائف العملية المتبعة في مقام الظاهر و عدم انكشاف الواقع على ثلاثة أقسام:

الأول: ما يلحظ فيه الجهل بالواقع و يفرض الواقع

مجهولا و مستورا. و أن

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 16

هذه الوظيفة وظيفة للجاهل مع غض النّظر عن كون الواقع ما هو و مثل هذا يعبر عنه بالأصل كالبراءة.

الثاني: ما يلحظ فيه الواقع، بمعنى أن مفاده يكون هذا هو الواقع، لا أن يفرض مستورا. و مثل هذا يعبر عنه بالأمارة.

الثالث: ما كان وسطا بين القسمين و برزخا بينهما بان كان وظيفة للجاهل و عدم العلم بالواقع، و لكن كان فيه نظر إلى الواقع و جهة كشف عنه. فهو يشارك الأول في كونه وظيفة الجهل و عدم العلم و بهذا يفترق عن الثاني. و يشارك الثاني في كونه ذا جهة كشف و نظر إلى الواقع و بهذا يفترق عن الأول. و مثل هذا يعبر عنه بالأصل المحرز.

و المراد بأصلية اليد في قبال أماريتها انما هو النحو الثالث- أعني انها من الأصول المحرزة- لا النحو الأول. لا من جهة أن حجية اليد ثبتت ببناء العقلاء، و ليس للعقلاء أحكام ظاهرية يتعبدون بها، بل نظرهم دائما إلى الواقع، لأن هذا غير تام، إذ يمكن ان يكون لهم أحكام ظاهرية تعبدية يعملون بها عند استتار الواقع حفظا للنظام و رعاية للشئون، بل من جهة أن بناءهم على اعتبار اليد لما فيها من نظر إلى الواقع و كشف عنه.

فالكلام يقع في أن اليد أمارة أو أصل محرز- و ان كان الظاهر من الاعلام في المقام إرادة الأصلية بالنحو الأول- و غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الأمارية ثبوتا: ان الاستيلاء الخارجي لازم بالطبع لملكية المال و لازم لملكية التصرف، فهو لازم أعم لملكية المال. لكن لزومه لملكية المال أقوى من لزومه لملكية التصرف، من جهة غلبة ملكية

المال و كون الاستيلاء الخارجي ناشئا عنه، لغلبة نشوء ملكية التصرف عن ملكية المال.

فمن جهة اللزوم الطبعي و الغلبة المذكورة يكون لزوم الاستيلاء لملكية المال أقوى، فيكون فيه نحو كشف عن الملكية، و هو المعبر عنه بالكشف الناقص، فتكون طريقا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 17

للواقع و أمارة عليه.

و اما إثباتا: فلا دليل على تعيين أحد الأمرين فيها، إذ غاية ما هو ثابت ان فيها نظرا إلى الواقع و كشفا عنه. أما ان اعتبارها كان بهذا النحو فقط، أو بنحو أخذ الواقع مجهولا فلا دليل عليه.

نعم، يرجح جانب الأمارية بالاستظهار و استبعاد الأصلية، و ان الارتكاز العرفي ظاهر في كون التعبد بها لأجل طريقتها إلى الواقع.

و إلاّ فلا برهان على تعيين أحد النحوين.

و على كل فليس ذلك بمهم، لما عرفت من عدم الثمرة العملية. و إنما دخلنا في هذا المبحث جريا على طريقة الاعلام.

الجهة الثالثة: في ان اليد هل تكون حجة مطلقا

، بمعنى انها حجة على الملكية و لو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية، بل كانت يد عادية أو إجارة مثلا. ثم شك في تبدلها إلى المالكية؟. أو تختص حجيتها في صورة الجهل بعنوان اليد السابق، بحيث كان يحتمل أن تكون يد مالكية عند الاستيلاء؟.

اختار كل من المحقق الأصفهاني و النائيني و العراقي اختصاص حجيتها بصورة جهل العنوان و عدم حجيتها مع العلم بعنوان السابق و هو كونها غير مالكية.

و وجه كل منهم ذلك بوجه يختلف عن توجيه الآخر.

فاما ما ذكره المحقق الأصفهاني، فحاصله: انه بناء على أن اليد حجة من باب الطريقية فلا يصح التمسك بها في المقام- إلا على القول بان الطريقية من باب اللزوم الطبيعي، لأنه متحقق في المقام، إذ لا يتقيد تحققه بعدم

المانع، لأن عدم المانع شرط فعلية اللزوم لا تحققه، فلا يمنع العلم بالحال من تحققه، فملاكها متحقق ثبوتا-، لأن اعتبارها من باب الطريقية يستدعي وجود ملاك الطريقية فيها كي يصح اعتبارها من هذه الناحية، و إلا فلا يصح.

و في المقام ينتفي ملاك الطريقية، لأن طريقية اليد إلى الواقع: ان كان من باب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 18

غلبة الملكية في اليد، فهذا في المقام معارض بغلبة بقاء اليد على ما كانت عليه لغلبة بقاء الحادث على ما وجد عليه.

و حينئذ تتقيد الغلبة الأولى بالغلبة الثانية، فيكون الغالب من افراد اليد ان تكون مالكية إلا إذا وجد الفرد النادر، فان الغالب فيه بقاؤه على عنوانه. فالغلبة الأولى ضيقة الدائرة، فلا يلحق مثل هذا المشكوك بالأيدي المالكية، و يمتنع اعتبارها طريقا حينئذ لانتفاء ملاك الطريقية.

و ان كان من باب ان الاحتواء الاعتباري يتقوى جانبه بالاحتواء الخارجي- كما قرب (قدس سره) الطريقية بذلك- فكذلك يجري فيه ما تقدم، فان تقوي الاحتواء الاعتباري بالاحتواء الخارجي انما هو فيما إذا لم يكن ثبوت خلافه مرتكزا في الذهن بواسطة تقوي بقاء الحال على ما كان عليه، فالمعارضة أيضا حاصلة و نتيجتها التقييد المذكور.

نعم، لو قلنا بان اعتبارها من باب الأصلية لا الأمارية، جاز التمسك بإطلاق دليل اعتبارها- لو كان له إطلاق و تم- في اعتبارها في المورد المزبور. هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) «1» بتوضيح.

و لكن [1] هذا منه غريب جدا، لأن الطريقية الملحوظة في الأمارات انما يقصد

______________________________

[1] هذا و قد أورد عليه (دام ظله) في الدورة الثانية: أن المقصود من تضييق الغلبة الثانية ان كان انتفاء الغلبة الأولى فهذا باطل جزما، لأن الفرد النادر لو كان

جميعه على خلاف الغلبة الأولى لا ينافي تحقق الغلبة الأولى فضلا عن كون أغلبه كذلك.

فلو فرض ان أغلب أهل بلد كانوا شجعانا الا أغلب أهل شارع واحد منه فانه لا ينافي ان يقال: ان أغلب أهل البلد شجعانا. و إن كان أريد من ذلك تحقق المزاحمة بين الغلبتين و سقوط اليد عن الأمارية لأجل التزاحم. فيدفعه: ان غلبة مالكية اليد مزاحمة دائما للغلبة الاستصحابية سواء كان في عنوانها- كما فيما نحن فيه- أو في متعلقاتها- كما في سائر الموارد فكيف تكون حجة في مورد دون آخر؟

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 329- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 19

بها الطريقية النوعية الشأنية لا الشخصية الفعلية، بحيث يختص اعتبار الأمارة في مورد تكون كاشفة عن الواقع فعلا دون غيره، و لذلك يقال بحجية الظاهر و لو كان الظن الشخصي على خلافه.

و السر فيه: ان المناط في اعتبار الشي ء طريقا و إمارة ليس متمحضا في الطريقية و الكشف عن الواقع، بل في الأمارة المعتبرة مصلحة خاصة أوجبت اعتبارها، و لكن الاعتبار كان بعنوان الطريقية و الكشف لا بملاكه، فالطريقية حكمة للاعتبار لا ملاك و علة، و لذلك لو تخلف في بعض الموارد لا يخرج الدليل عن الحجية، كما انها لو وجدت في موارد أخر ليست موضوع دليل الاعتبار، لا يكون ذلك موجبا لحجية تلك الموارد، و من هنا يعلم بان الاعتبار لا يدور مدار تلك الطريقية وجودا و عدما.

و لأجل ذلك يلتزم بان في الأمارة جهة الموضوعية، بمعنى ان اعتبارها كان بلحاظ مصلحة خاصة فيها، و ليست متمحضة في جهة الطريقية.

و عليه، فما أفاده من انه في المقام لا يكون ملاك الطريقية

في اليد لانتفائه بالمعارضة المذكورة، فلا يصح اعتبارها فيه. ينافي ما يلتزم به من كون الظن في الأمارات نوعيا لا شخصيا، و وجود جهة الموضوعية في الأمارة. فما ذكره مساوق لإنكار ذلك، فالمعارضة المذكورة لا تنافي اعتبار اليد في المقام، كما لا ينافي الظن الشخصي على الخلاف لاعتبار الظاهر. و الاستحسان الظني المنعقد على خلاف مؤدى خبر الواحد لاعتبار الخبر، مع ان كلا منهما يوجب رفع الكشف و الطريقية.

فمن هنا يعلم ان المراد بالكاشفية النوعية أن الأمارة لو خليت و طبعها كانت كاشفة نوعا عن الواقع، و هذا متحقق فيما نحن فيه، لأن اليد مع قطع النّظر عن العلم بحالها السابق كاشفة نوعا عن الملكية، و الا فلو اعتبرت الكاشفية الفعلية للزم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 20

خروج الخبر القائم على خلافه الاستحسان، فانه يوجب رفع كاشفيته النوعية الفعلية، مع انه لا يلتزم به أحد، فلا بد من كون المراد بالكاشفية النوعية معنى لا ينافي ذلك و هو ما ذكرناه، فالتفت و تدبر جيدا.

و اما ما ذكره المحقق النائيني فهو: ان اليد انما تكون أمارة بما انها مشكوكة الحال، فاستصحاب عدم تبدل حالها و بقائها على ما كانت عليه يكون حاكما عليها، لأنه يخرجها عن كونها مشكوكة الحال بإثباته عدم كونها يد ملك، فهو يحقق الغاية و هي العلم بالحال، فيرتفع موضوع اعتبار اليد «1».

و تحقيق الكلام بنحو يتضح الإشكال عليه، و عدم تمامية ما ذكره: ان العلم المأخوذ غاية لاعتبار اليد.

إما ان يضاف إلى نفس الواقع- أعني: الملكية و عدمها- فيكون اعتبار اليد مشروطا بعدم العلم بالملكية أو عدم الملكية.

و اما ان يضاف إلى عنوان ينطبق على اليد من دون لحاظ الواقع

من كونها يد عادية أو ولاية أو مالكية.

و هذا العنوان الّذي جعل العلم به غاية لاعتبار اليد:

تارة: يكون امرا منتزعا عن الواقع، يعني انه ينتزع عن تحقق الملكية و عدمها.

و أخرى: لا يكون كذلك، بل كان امرا حقيقيا لا يرتبط تحققه بالواقع.

فالصور ثلاث:

أما الصورة الأولى- و هي ما أخذ العلم [الغاية] متعلقا بالملكية و عدمها- فلا إشكال في تقدم اليد على الاستصحاب، لأن مجرى الاستصحاب حينئذ هو عدم الملكية. و مجرى اليد هو الملكية. فهما واردان على موضوع واحد، فتقدم اليد لا محالة

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2- 225- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 21

كما لا يخفى.

و أما الصورة الثانية- و هي ما أخذ العلم متعلقا بعنوان اليد المنتزع عن الملكية و عدمها-: فالأمر فيه أوضح، لأن مورد الاستصحاب و ان كان هو العنوان، لكن نسبة العنوان- حسب الفرض- إلى الملكية- الواقع- و عدمها ليست نسبة الموضوع إلى الحكم كي يقدم على ما يجري في الواقع، بل نسبة المعلول إلى العلة، فما يكون جاريا في نفس الواقع كاليد يكون مقدما على الاستصحاب، لأنها تجري في مرحلة منشأ انتزاعه.

و الّذي يظهر من كلامه (قدس سره) إرادة هذه الصورة لأنه أخذ الجهل بالحال- أعني: بحال اليد- موضوعا لاعتبار اليد. و معلوم انه يريد من حالها كونها يد عادية أو مالكية أو شبهه لا غير ذلك.

و من الواضح ان اليد العادية تنتزع عن عدم الملكية، لأن الغصب هو التصرف في مال الغير بدون إذنه، و ان اليد المالكية تنتزع عن الملكية.

فإذا كان الحال المأخوذ قيدا للعلم و الجهل، عنوانا منتزعا عن الملكية أو عدمها، فالاستصحاب الجاري فيه لا يكون حاكما على اليد،

لأن نسبة العنوان الّذي هو موضوع الاستصحاب إلى مفاد قاعدة اليد ليست نسبة الموضوع إلى الحكم، بل نسبة المعلول إلى العلة، فتكون اليد مقدمة عليه.

نعم، لو أخذ العنوان بالنحو الثاني- كما هو في الصورة الثالثة- بان كان أمرا حقيقيا لا انتزاعيا عن الواقع، و كان نسبته إلى الواقع نسبة الموضوع إلى الحكم، فيكون الاستصحاب حاكما على اليد لأنه يجري في موضوعها.

و لكنه مجرد فرض لا تحقق له في الخارج، لأن هذه العناوين المتصورة التي يمكن أخذها في متعلق العلم و الجهل- كعنوان العادية و المالكية و غيرهما- عناوين انتزاعية كما بيّنا، و غيرها لا وجه لأخذه في متعلق العلم و الجهل إذ لا دليل عليه

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 22

و قد اعترض [1] المحقق العراقي (قدس سره)- كما في بعض تقريراته- على ما ذكره

______________________________

[1] و قد ذكر في ضمن اعتراضه: ان الجهل بعنوان اليد ان أخذ في الموضوع كان الاستصحاب واردا لعدم نظر نفس اليد إلى موضوعها، و الا لزم من وجود حجيتها عدمها لأنها إذا رفعت الجهل فقد رفعت موضوع الحجية. و أما إذا كان مأخوذا بنحو الموردية كانت اليد حاكمة على الاستصحاب لأن الاستصحاب لا يتصرف في موضوع اليد و لكن اليد تثبت عنوانها ظاهرا و كونها يد ملك لا غضب فتقدم على الاستصحاب.

و ما أفاده (قدس سره) ممنوع بكلا شقيه، أما الثاني: فلان الدليل كما لا يمكن أن يتصرف في موضوعه و ينفيه كذلك لا يمكن أن يتصرف في مورده بنفيه، إذ كما ان الدليل لا يمكن أن ينفك عن موضوعه كذلك لا يمكن أن ينفك عن مورده، و الفرق انما هو في أخذ الموضوع في رتبة سابقة

دون المورد. و عليه فكيف تصور نفي اليد للجهل بالعنوان و إثبات انها يد مالكية لا عادية و بذلك كانت حاكمة على الاستصحاب و لم يتصور ذلك فيما إذا كان الجهل مأخوذا موضوعا لليد مع أن المحذور مشترك؟ و أما الأول فلان اليد إذا لم يمكن إحرازها في تحقيق موضوعها أو نفيه فكيف يجري الاستصحاب و يكون واردا على اليد و الحال أن مورد الاستصحاب و اليد واحدة فيلزم ان يرفع الاستصحاب الجهل المأخوذ في موضوعه فان لدينا شكا واحدا مورد الاستصحاب من جهة و مورد اليد من جهة.

فإذا لم يجر فيه اليد للمحذور المزبور لم يجر فيه الاستصحاب أيضا. فلاحظ. فما أفاده (قدس سره) في مقام الاعتراض غير وجيه. و التحقيق في مقام الإشكال على المحقق النائيني ان يقال: ان المتيقن في الأدلة و الأمارات هو اعتبارها في مورد لا يعلم بمتعلقها، و ليس ذلك من جهة امتناع التعبد في مورد العلم، بل لأن اعتبارها من باب الكشف و الطريقية و هو ظاهر في كونه في مورد الجهل إذ المعلوم لا معنى لجعل الطريق إليه. و لا يخفى أن هذا الملاك انما يقتضي ملاحظة الجهل بنفس المؤدى و ذي الطريق و المنكشف. أما الجهل بعناوين ملازمة لذلك فلا مقتضى للحاظها بالمرة.

فمثلا يلحظ في حجية الخبر الجهل بالواقع المخبر عنه، أما الجهل بمطابقة الخبر للواقع الّذي هو ملازم للجهل و بالواقع فلا وجه لملاحظته بنحو الموضوع أو المورد.

و ما نحن فيه كذلك فان المتيقن ملاحظة الجهل بالواقع في حجية اليد، اما الجهل بعنوان اليد

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 23

المحقق النائيني من أخذ الجهل بالحال في موضوع اعتبار اليد: بان الجهل بالحال مأخوذ بنحو

الموردية لا الموضوعية كما هو الحال في باقي الأمارات، و إلا لكانت اليد من الأصول لا الأمارات.

و على هذا، فلا مجال لجريان الاستصحاب في عرض اليد، فضلا عن تقدمه عليها، لأن لازم أمارية هذه اليد كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما في اليد لصاحبها، و لازم تطبيق يد الملك عليها هو الحكم بعدم كونها يد غصب ظاهرا، فيرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لحكومتها عليه «1».

و ما ذكره بظاهره غير تام، لأن الجهل الّذي يقال بأخذه في الأمارة بنحو الموردية و في الأصل بنحو الموضوعية- تخلصا عن الإشكال بلزوم حكومة الأصل على الأمارة لو أخذ الجهل في موضوعها- انما هو الجهل بالواقع، و ليس متعلق الجهل فيما نحن فيه هو الواقع كي يورد عليه بهذا الإيراد العام، و انما متعلقه هو حال اليد، و هذا لا ينافي كون الجهل بالواقع مأخوذا في الأمارة بنحو الموردية لا الموضوعية، فالفرق ان الجهل المأخوذ في موضوع اليد هو الجهل بواقع اليد لا بالواقع الّذي تثبته اليد و تكون أمارة عليه. فالإشكال المذكور على المحقق النائيني أجنبي عن مفاد كلامه.

الا أن يرجع ما ذكره إلى بيان: ان ملاك أخذ الجهل بحال اليد في موضوعها ليس هو إلا لأن العلم بحالها علم بالواقع و الجهل بحالها جهل به، فمرجع أخذ الجهل بحالها في موضوعها إلى أخذ الجهل بالواقع في اعتبارها. و هذا هو المنفي بالإيراد العام من أن أخذ الجهل في مورد الأمارة لا في موضوعها.

و بهذا يتجه ما أفاده إيرادا على المحقق النائيني.

______________________________

- الملازم للجهل بالواقع فلا مقتضى لملاحظته و لا دليل عليه فالالتزام بتقييد حجية اليد بالجهل بالعنوان مما لا وجه له أصلا فتدبر. فانه لا يخلو عن

دقة.

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4- 23- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 24

و اما ما ذكره المحقق العراقي، فهو: ان الظاهر من أدلة اعتبار اليد اختصاص اعتبارها بغير هذه الصورة. بل مجرد الشك في شمول دليل الاعتبار لهذه اليد كاف في عدم ثبوت حجيتها، لأن الدليل على اعتبار دليل لبي و هو بناء العقلاء، و الدليل اللبي لا إطلاق له كي يتمسك به في مورد الشك.

و أما الأدلة اللفظية، كالاخبار، فهي واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء و بنائهم على اعتبار اليد، لا في مقام التأسيس كي يصح الأخذ بإطلاقها في إثبات حجية هذه اليد، بل المتبع ما ثبت من السيرة من مقدار حجيتها «1».

و لا يخفى ان ما ذكره (قدس سره) أولا من كون الدليل لبيا و يكفي في عدم الاعتبار، الشك في شموله لمثل هذه اليد لو لم نقل بظهوره في غيره و انصرافه عنه. مما لا إشكال فيه.

و لكن ما ذكره أخيرا من عدم إمكان التمسك بالأخبار مع تسليم دلالتها على الحجية لأنها في مقام الإمضاء لا التأسيس. لا وجه له.

و تحقيق ذلك: ان الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق الاعتبار، يمكن ان يكون على أحد أنحاء ثلاثة:

لأنه تارة يكون إخباريا. و أخرى يكون إنشائيا.

فالأخباري: ما تكون صورته إنشاء الحكم، و لكن يكون المقصود منه هو الاخبار عن تحقق متعلقه و هو الحكم، نظير الأوامر الإرشادية التي تتصور بصورة الإنشاء و لكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.

و الإنشائي: تارة: يكون منبعثا عن إرادة إيصال حكم الغير العام الّذي يكون هو على صفته، و ذلك كالأوامر التبليغية، فان أمر الأب ابنه

بالصلاة أمر حقيقي المقصود منه البعث، و ليس من الأخبار في شي ء، و لكن الغرض منه إيصال أمر اللّه

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 22- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 25

تعالى لولده، و الملحوظ فيه الأمر على طبق ذلك الأمر العام المأمور به كلي المكلف.

و هذا في العرفيات كثير.

و أخرى: لا يكون كذلك، بان لم يلحظ فيه إيصال الحكم الآخر و لا الاخبار عنه، بل لو حظ فيه إنشاء الحكم صرفا. غاية الأمر ان هذا الحكم مماثل لذلك الّذي اعتبره الغير لا أكثر.

و من هذا الدليل بأنحائه الثلاثة ينتزع عنوان الإمضاء و التقرير لحكم الغير، و هو واضح الوجه.

و لا يخفى ان الدليل ان كان على النحوين الأولين، فالتمسك بإطلاقه من دون لحاظ الحكم المعتبر من الغير و مقدار دائرته ممنوع، لأن الملحوظ في الإنشاء هو ذلك الحكم، اما بنحو الاخبار عنه أو إيصاله، فلا استقلال لهذا الحكم المنشأ أصلا.

و اما إذا كان بالنحو الأخير، فلا مانع من التمسك بإطلاقه لو كان له إطلاق بلا لحاظ الحكم المماثل له، لعدم ارتباطه به في مقام الجعل و الإنشاء لعدم لحاظه فيه أصلا. بل هو حكم مستقل. غاية الأمر انه مماثل لذلك الحكم.

و الأدلة الشرعية التي تتكفل إنشاء الأحكام المماثلة للأحكام العقلائية العرفية كلها من النحو الثالث، فان الدليل لم يلحظ فيها الا إنشاء الحكم و جعله على المكلف بلا لحاظ إيصال حكم العقلاء للمكلف أو الاخبار عنه.

و من هنا يتمسك بإطلاق قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ في إثبات حلية بعض البيوع غير المعتبرة عرفا، لأن لسانه إنشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه إيصال حكم العقلاء و لا الاخبار

عنه. غاية الأمر انه يفيد حكما مماثلا لما عليه العقلاء، و هذا لا يضر في التمسك بإطلاقه.

و حينئذ فلا وجه لمنع التمسك بإطلاق الاخبار الواردة في اعتبار اليد حجة على الملكية.

و دعوى: ان مثل هذا الدليل لا ينتزع عنه عنوان الإمضاء، لأن الظاهر من

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 26

الدليل الإمضائي ما كان ملحوظا فيه حكم الغير، و المفروض عدم لحاظ حكم الغير في هذا الدليل، فلا يكون دليلا إمضائيا، مع ان الأدلة الشرعية يصطلح عليها بأنها إمضائية واردة في مقام تقرير أحكام الغير، فلا بد ان لا تكون على هذا النحو.

مندفعة: بان إطلاق لفظ الإمضاء على الأدلّة الشرعية المذكورة ليس باعتبار لحاظ حكم الغير فيها، فان لسانها يأبى عن ذلك، بل باعتبار كون الحكم المنشأ بها مماثلا لما عليه العقلاء لا أكثر. فهي في واقعها تأسيسية و ان كان عنوانها إمضائية.

فالمراد بالإمضاء ما يساوق عدم الردع و الموافقة لا إنفاذ ما عليه الآخرون حتى يتوهم لزوم ملاحظة ذلك في الموضوع. أو فقل: ان الإمضاء هنا بلحاظ مقام الثبوت لا الإثبات، و ما يضر بالتمسك بالإطلاق هو الثاني لا الأول، فتأمل تعرف.

و التحقيق في أصل المسألة: ان سيرة العقلاء دليل لبّي، و قد عرفت ان مجرد التشكيك في قيامها يكفي في عدم جواز التمسك بها. و أما الأخبار فليس لها إطلاق من هذه الجهة، لكون المسوق له البيان أمر آخر، كما لا يخفى على من لاحظها هذا مع قطع النّظر عن التشكيك في أصل دلالتها على حجية اليد. فتدبر.

الجهة الرابعة:

لا يخفى ان اليد كما لا إشكال في ترتيب آثار الملك عليها، كذلك لا شبهة في وجوب ترتيب آثارها في مقام الدعوى، فيطالب المدعي

على ذي اليد بالبينة، و يكون هو منكرا، سواء ثبت للمدعي ملكية المال سابقا أم لم تثبت.

و لكن الكلام في انه لو أقر ذو اليد بملكية المدعي للمال سابقا، فهل تنقلب الدعوى إلى دعوى انتقال المال إليه فيكون هو مدعيا فعليه الإثبات و يكون الغير منكرا أو لا تنقلب؟ المشهور على الانقلاب.

و لا يخفى ان موضوع الدعوى الثانية المبحوث عنها ينبغي ان يكون هو تحقق السبب الناقل، كالبيع و الهبة و غيرها و عدمه، لا الانتقال و عدمه، لأن الانتقال أمر انتزاعي ينتزع عن ملكية الغير في اللاحق و عدم ملكية المالك السابق في اللاحق، فهو متأخر عن الملكية فلا كلام فيه، لأن الكلام فيما هو سابق عن الملكية، و هو

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 27

تحقق السبب الناقل- و لذلك يدعى حصول الانقلاب و تترتب عليه آثاره بالنسبة إلى الملكية الفعلية لذي اليد.

قد ذهب المحقق الأصفهانيّ إلى انه بالإقرار بالملكية السابقة لا تتشكل دعوى أخرى. و لو قلنا بتشكيل دعوى أخرى فلا انقلاب، بل المدعي في الدعوى الأولى مدع في الدعوى الثانية و المنكر منكر.

اما الأول: فقد قربه: بان الدعوى من الدعاء و طلب الشي ء، فهي من المعاني الإنشائية، فما لم يقع الشي ء موضوعا للطلب لا يقع في مصب الدعوى، و الإقرار بالملكية السابقة للمدعي مع دعواه الملكية الفعلية [و ان كان اخبارا بتحقق السبب الناقل خ ل] بالانتقال منه بالالتزام، و لكنه ليس الاخبار باللازم بالملازمة يكون موجبا لتشكيل دعوى به، بل لا بد في ذلك من وقوعه في مصب الدعوى و إنشاء الطلب به و لذلك لو وقع النزاع بين اثنين في ان المعاملة الواقعة بينهما هل كانت هبة أو

بيعا، فادعى كل منهما إحدى المعاملتين، فان لكل من البيع و الهبة لوازم يختلف حالها من حيث الدعوى و الإنكار، فلا بد من صيرورتها مصب الدعوى كي يتعين المدعي و المنكر، و إلا فمجرد ادعاء البيع لا يوجب ادعاء لوازمه، و كذلك ادعاء الهبة، فإذا كان موضوع الدعوى هو البيع و الهبة بما هما بيع و هبة من دون لحاظ لوازمهما المختلفة كان الشخصان متداعيين. و لو كان مصب الدعوى البيع و الهبة و لكن بما هما معرفان لثبوت العوض و عدمه، كان مدعي البيع مدعيا لأن الأصل على خلاف قوله، و مدعي الهبة منكرا. و لو كان مصبها البيع و الهبة من حيث الجواز و اللوازم، كان مدعي الجواز مدعيا، لأن الأصل على خلافه، إذ الأصل عدم الجواز.

فدعوى الملزوم لا تستلزم تشكيل دعوى باللازم قهرا ما لم تنشأ دعوى مستقلة فيه، و الانتقال هاهنا لم يقع مصب الدعوى و ان وقع موضوع الاخبار بالملازمة.

و اما الثاني- يعني نفي الانقلاب- فقد قرّبه: بان المعروف ان اليد أمارة،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 28

و الأمارة على المسبب أمارة على السبب، فاليد كما تكون حجة على المسبب، و هو الملكية الفعلية، كذلك تكون حجة على السبب الناقل. و حينئذ فمدعي الانتقال ذو حجة و هي اليد، فيكون منكرا لا مدعيا و يكون مقابله مدعيا، فلا يتحقق الانقلاب «1».

و في كلا تقريبيه ما لا يخفى:

أما تقريبه لعدم تشكيل دعوى ثانية، فأساسه: ان الدعوى من الأمور الإنشائية المتقومة بالإنشاء و الجعل، فالاخبار بشي ء لا يكون دعوى به ما لم ينضم إليه طلبه.

و لا يخفى انه بملاحظة الاستعمالات العرفية للدعوى و الادعاء غير المسامحية، يعلم بان الدعوى نوع من

أنواع الاخبار، و هو الاخبار في ظرف التردد و الشك، و لا يتوقف تحققها على إنشاء طلب، بل كثيرا ما يستعمل «المدعي» في المخبر بخبر في ظرف الشك مع عدم تحقق أي إنشاء منه، فالمخبر بالهلال يقال له مدعي رؤية الهلال، لأن المقام مقام شك.

و عليه، فحيث ان الانتقال من الأمور المشكوكة الواقعة موضوعا للتردد، فالاخبار بها و لو بالملازمة يشكل دعوى به بلا كلام.

و أما ما استشهد به من مثال البيع و الهبة فلا يصلح للنقض، لأن مصب الدعوى في العوض انما هو في العوض الخاصّ من كونه شخصيا أو كليا في الذّمّة.

و مدفوعا أو غير مدفوع. و أحدها ليس من لوازم البيع كما لا يخفى، و انما لازم البيع ثبوت عوض، و لكنه لا يكون محط الدعوى.

و أما اللزوم و الجواز، فهما من اللوازم الشرعية للبيع و الهبة لا اللوازم العرفية، فليس الاخبار بالبيع اخبارا باللزوم عرفا، كما ان الاخبار بالهبة ليس اخبارا

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 337- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 29

بالجواز عرفا.

و أما تقريبه لعدم الانقلاب بأن اليد أمارة، و الأمارة على المسبب أمارة على السبب. فهو غير وجيه على مذهبه في ان الأمارة ليست حجة في لوازمها، و انها كالأصل في ذلك و ليس تحقق السبب الناقل ملزوم أعم للملكية الواقعية و الظاهرية كي يثبت بثبوت الملكية الفعلية باليد، و انما هو ملزوم للملكية الواقعية، و لا ملازمة بين الحكم بالملكية ظاهرا و تحقق السبب الناقل ظاهرا.

و عليه، فلا حجة لذي اليد على تحقق السبب الناقل، فيحصل الانقلاب لموافقة قول المدعي الأول للأصل و هو استصحاب عدم السبب الناقل، فله المطالبة

بالبينة عليه و يكون ذو اليد مدعيا.

ثم لا يخفى ان الأصل المذكور- أعني: أصالة عدم تحقق السبب الناقل- انما يتعبد به بلحاظ ما يترتب على نفس التعبد من أثر شرعي من جواز المطالبة بالبينة لمن وافقه قوله و هو المقر له بمقتضى الإقرار، لا بلحاظ ما يترتب على نفس المتعبد به من أثر و هو بقاء ملكية المقر له لأن ذلك ينافي مفاد اليد من ملكية ذي اليد، و المفروض بقاؤها على حجيتها بالنسبة إلى الملكية الفعلية، و لا يكون الإقرار موجبا لارتفاع حجيتها، بل لازم الإقرار هو جعل المدعي طرفا للأصل المذكور فيكون منكرا بمقتضاه لا أكثر، كما هو شأن جميع الأصول الجارية في طرف الدعوى، لأن المفروض ان المدعي يدعي العلم بعدم تحقق مفاد الأصل و انقلاب الحالة السابقة، فلا يجري الأصل في حقه كي يثبت قول المنكر.

نعم، انما يجري الأصل في حق المنكر، بل هو لا يجري في حقه أيضا لأنه يعلم بالبقاء، و الحاكم لا يحق له خصم الدعوى بإجراء الأصل، لأن القضاء لا بد ان يكون بالبينات و الأيمان كما هو مقتضى النبوي المشهور «1»، فلا فائدة في الأصل إلا

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2- 518، الحديث 1857.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 30

كون الموافق له منكرا. فالتفت.

و لذلك يترتب آثار ملكية ذي اليد قبل خصم الدعوى، كما انه لو لم يحلف المقر له على عدم تحقق السبب الناقل في صورة عدم إقامة ذي اليد للبينة على التحقق لا يصح له التمسك به في إثبات ذلك، مما يكشف عن ان الإقرار انما استلزم صحة تمسك المقر له بالأصل من ناحية صحة مطالبته ذي اليد بالبينة على تحقق الناقل لا غير.

و

هذا- أعني: الانقلاب- على القول بعدم حجية اليد في اللوازم و الملزومات- كما هو الحق- واضح، لأن اليد لا تثبت بالملازمة تحقق السبب الناقل، فلا يرتفع موضوع الأصل، فيصح جريانه و يترتب عليه آثار التعبد بمقتضى الإقرار لا آثار المتعبد به كما عرفت. و كذلك لو قلنا بان اليد من الأصول لا الأمارات كما لا يخفى.

و لكنه على القول بان الأمارة حجة في اللوازم، فيشكل تصوير الانقلاب حينئذ، لأن اليد- بناء على انها أمارة- على هذا تثبت تحقق السبب الناقل، فلا يبقى لجريان الأصل مجال.

و لكنه- مع هذا- يمكن تصوير حصول الانقلاب بنحو لا يتنافى مع أمارية اليد و حجيتها على الملكية، و ذلك بتقريب: ان موافقة الأصل المقتضية لكون الشخص منكرا لا مدعيا ليس المراد منها الموافقة للأصل الفعلي الجاري مع وجود الحجة واقعا، بل المراد منها موافقة الأصل الجاري في نفسه و مع قطع النّظر عن وجود الحجة من بينة و أمارة رافعة لموضوعه تكوينا، و لا إشكال في وجود هذا الأصل في المقام، و هو أصالة عدم تحقق السبب الناقل.

و حينئذ فمع وجود اليد فحيث انها حجة في الملزوم و هو تحقق السبب الناقل- بدعوى ان الأمارة تثبت الملزومات الواقعية- فحجيتها فيه توجب ارتفاع موضوع الأصل المذكور- و هو عدم الطريق- فلا مجال لجريانه أصلا.

أما مع إقرار ذي اليد للمدعي بملكيته السابقة الملازم لدعوى تحقق السبب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 31

الناقل، فحيث ان اثره هو الاعتراف بطرفية المدعي للأصل و ارتباطه به، كانت اليد حجة في خصوص مدلولها المطابقي و هو الملكية دون الالتزامي- أعني: تحقق السبب الناقل- لأن اليد لا تكون حجة مع الإقرار، و حجيتها تضييق بمقدار

الإقرار، بحيث تنتفي حجيتها في مفاد الإقرار و اثره، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ و جائز، و إقرار ذي اليد بملكية المدعي السابقة- الّذي لازمه دعوى تحقق السبب الناقل- مفاده ارتباط المدعي المقر له بالأصل المذكور، و هذا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل، فيصح له التمسك به في هذه الدعوى و يكون له المطالبة بالبينة لصيرورته منكرا، فاليد حجة على خصوص الملكية الفعلية، أما على ملزومها فلا، لمنافاتها حينئذ مع الإقرار [1].

و بالجملة: فبالإقرار تنقلب الدعوى و تشكل دعوى ثانية موضوعها تحقق السبب الناقل و عدمه، و هي غير الدعوى الأولى التي موضوعها الملكية و عدمها

______________________________

[1] لا يخفى أن الإقرار بالملكية السابقة ليس إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل إذ لا ملازمة كما لا يخفى مضافا إلى أنه لو كان كذلك لكان دعواه تحقق السبب الناقل منافيا لإقراره فيؤخذ بإقراره و تخصم الدعوى، و إذا لم يكن الإقرار بالملكية السابقة إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل فلا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل، فلا وجه لنفي حجيّتها عليه، لعدم منافاتها للإقرار.

و هذا لا ينافي كون مفاده جواز التمسك بالأصل في المطالبة بالبينة، لأن المفروض أن موافقة الأصل عبارة عن موافقة الأصل الجاري في نفسه لا بالفعل. و عليه فيكون المقام من باب التداعي لأن كلا من الشخصين يوافق قوله الحجة، لو لم نقل بان مفاد الإقرار جواز التمسك بالأصل بنحو التعليق يعني لو كان هناك أصل فلا مانع من التمسك به، و قيام الحجة على المدعى و هي اليد يرفع موضوع الأصل تكوينا، فلا أصل كي يجوز التمسك به فلا يتحقق الانقلاب و ذلك لا ينافي الإقرار أصلا كما لا يخفى. و

على كل فالأمر سهل بعد أن عرفت عدم حجية اليد في ملزوم مفادها- إذ لا يأتي هذا الكلام بناء عليه- كما ان ما ذكرناه في مقام توجيه فتوى المشهور بالانقلاب بنحو لا يتنافى مع ما ستعرفه، كما سيتضح مع غض النّظر عن صحته و عدمها. مضافا إلى أنه لم يعلم بناء المشهور على أمارة اليد بل يمكن أن تكون أصلا عندهم. فالتفت.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 32

لأن مفاد الإقرار جعل المقربة هو الأصل الجاري في نفسه.

و لو لا الإقرار لما انقلبت الدعوى و لما تشكلت دعوى أخرى، لأن عدم السبب الناقل و ان كان موضوع الأصل، الا أنه لا يصح للمدعي التمسك به إذ لا حجية له على كونه طرف الملكية السابقة، بل لا دعوى لذي اليد بتحقق السبب الناقل، إذ لا يدعي سوى الملكية، لأنه لم يخبر مع عدم الإقرار بالسبب الناقل و لو بالملازمة كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك ان الدعوى الثانية انما تتشكل و يحصل الانقلاب إذا كان المدعي منكرا لتحقق السبب الناقل. أما مع عدم كونه منكرا و انما يقول بجهالة الحال و انه مالك المال الآن بمقتضى الأصل فلا تتشكل دعوى ثانية، لعدم وجود قول للمقر له في تحقق السبب الناقل مقابل ذي اليد كي تكون هناك دعوى ثانية، و يكون قوله موافقا للأصل فيكون منكرا، بل الدعوى موضوعها الملكية و عدمها، و المدعي يدعي الملكية بحسب القواعد، و حينئذ فلذي اليد التمسك بيده في إثبات ملكيته الفعلية و نفي الأصل بها.

و لا مجال لجريان الأصل و ثبوت مؤداه في قبال اليد، لما عرفت من ان الأصل المذكور انما يجري بلحاظ أثر التعبد من جواز المطالبة بالبينة

و صيرورة طرفه منكرا، لا بلحاظ أثر المتعبد به من بقاء الملكية السابقة.

و لا يذهب عليك أن تشكل الدعوى الثانية و حصول الانقلاب لا يفرق فيه بين أن يكون المقر له هو المدعي أو المورث أو الموصي لنفس الملاك.

و لكنه يقيد بصورة كون المدعي أو الوارث أو الموصى له منكرا لتحقق السبب الناقل كما عرفت.

و بهذا يندفع الإشكال على المشهور- في فتواهم: بأنه لو أقر ذو اليد للمدعي أو لمورثه بالملكية السابقة لما في يده انقلبت الدعوى و صار ذو اليد مدعيا و المدعي منكرا، لأن إقراره للمدعي بالملكية السابقة مساوق لدعوى الانتقال منه إليه،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 33

فيكون مدعيا و عليه البينة، و يكون المدعي منكرا لموافقة قوله الأصل- بان الفتوى بالانقلاب تنافي اعتراض الإمام عليه السلام على أبي بكر في مطالبته البينة من الزهراء (عليها السلام)، لأنها اعترفت بملكية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سابقا، و هذا يساوق دعوى الانتقال منه صلّى اللّه عليه و آله إليها (عليها السلام)، فتكون الزهراء (عليها السلام) مدعيا و أبو بكر- باعتبار ولايته على المسلمين- منكرا، لأن ملكية الرسول لفدك لو بقيت لانتقلت إلى المسلمين بعد وفاته بمقتضى الرواية المخلوقة: «نحن معاشر ..» المفروض تسليمها من قبل الزهراء (عليها السلام). و عليه فالبينة تكون على الزهراء (عليها السلام) لا على أبي بكر، فكيف استنكر عليه الإمام عليه السلام و نسب إليه الحكم بغير حكم اللّه؟

وجه الاندفاع واضح، لأن أبا بكر لم ينكر على فاطمة (عليها السلام) دعوى تحقق السبب الناقل و هو النحلة، و انما ادعى جهالة الحال و ان المال باق على ملك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى

القواعد الشرعية حتى يثبت خلافه، فلا دعوى أخرى، بل الدعوى موضوعها الملكية و عدمها لا تحقق السبب الناقل و عدمه، فلفاطمة (عليها السلام) التمسك بيدها في إثبات الملكية- كما فعلت- و لا منافاة بين ذلك و بين إقرارها لأن إقرارها لم يرفع اليد عن حجيتها على الملكية- كما عرفت- و لا يصح لأبي بكر مطالبتها بالبينة.

و مما يدل على عدم إنكار أبي بكر لدعوى النحلة هو: أنه حين رد البينة التي أقامتها الزهراء (عليها السلام) لم يطالب الإمام عليه السلام باليمين على عدم النحلة، مما يكشف عن انه لم يدع عدم النحلة، بل كان يدعي جهالة الحال، و لذلك كان استنكار الإمام عليه السلام موضوعه المطالبة بالبينة لا عدم الحلف.

و بالجملة: ففتوى المشهور بالانقلاب في صورة لا تطبق على مسألة فدك، و هي صورة إنكار المقر له لدعوى السبب الناقل، فلا إشكال على المشهور.

و قد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في دفع الإشكال المذكور على المشهور

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 34

ما حاصله: ان الملكية إضافة و علقة قائمة بالطرفين المالك و المملوك، الا انها تختلف في ظرف التبدل باعتبار موارده. ففي مثل البيع يكون التبدل في ناحية المملوك، بمعنى ان طرف العلقة الرابطة بين المال و المالك من ناحية المالك على حاله.

و انما الطرف من ناحية المال قد حلّ و ربط بمملوك آخر غير ذلك، فالإضافة على حالها، و انما التبدل بين المالين، و هو طرف الإضافة. و في مثل التوريث بالعكس يكون التبدّل في ناحية المالك، فان طرف العلقة من ناحية المالك يحل بموته و يربط بمالك آخر مع بقاء الإضافة و ارتباطها بالمال على حالها، و قد يكون التبدل في

نفس العلقة كما في الهبة فانها تتضمن إعدام إضافة المال للمالك و إيجاد إضافة أخرى بين المال و الموهوب له.

و مثل الهبة الوصية التمليكية الموجبة لانتقال المال إلى الموصى له بعد الموت.

و أما الوصية العهدية، فهي خارجة عن تمام الأقسام، لأنها لا توجب التمليك، بل تتكفل تعيين مصرف المال بعد الموت.

و على هذا، فالاعتراف بملكية المورث حيث انه اعتراف بملكية الوارث لعدم التبدل فيها- كما عرفت- فيكون كالاعتراف بملكية نفس المدعي في انقلاب الدعوى.

بخلاف الاعتراف بملكية الموصي لأنها أجنبية عن ملكية الموصى له، فالاعتراف له كالاعتراف للأجنبي، فلا يوجب الانقلاب.

و المقام من هذا القبيل، لأن المسلمين ليسوا بوارثين بل الانتقال إليهم من قبيل الانتقال بالوصية التمليكية.

و عليه، فلا يكون الاعتراف بملكية الرسول صلّى اللّه عليه و آله السابقة موجبا لانقلاب الدعوى، فلا تخرج الزهراء (عليها السلام) عن كونها منكرة و أبو بكر عن كونه مدعيا. مضافا إلى ان كون المقام من قبيل الوصية التمليكية ممنوع، بل الظاهر انه من قبيل الوصية العهدية فالمسلمون لا يدعون ملكية المال أصلا.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 35

و حينئذ فلا يكون الاعتراف بملكية الموصي المرتفعة يقينا مع عدم الانتقال إلى المدعي- ذي اليد- موجبا لانقلاب الدعوى، لعدم الأثر في الاعتراف بها مع ارتفاعها يقينا. هذا حاصل ما أفاده (قدس سره) «1».

و يرد عليه:

أولا: ان علقة الملكية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالطرفين بنحو يستحيل وجودها بدون الطرفين، كاستحالة وجود العرض بدون معروضه.

و عليه، فيستحيل بقاء العلقة مع تبدل أحد الطرفين، بل بارتفاع أحدهما ترتفع هي، فإذا حصلت علقة بين المال و مالك آخر، أو بين المالك و مال آخر، فهي علقة ملكية أخرى. فما ذكره (قدس سره) من إمكان

بقاء العلقة على حالها مع تبدل أحد الطرفين لا مجال له.

و عليه، فلا فرق بين الموصى له و الوارث في كون تملكهما بملكية ثانية.

و ثانيا: ان مركز الدعوى الثانية إنما هو الانتقال في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ان الملكية المعترف بها هل استمرت إلى حال الوفاة أو انقطعت أثناء الحياة، فلا ربط لذلك بسنخ ملكية المسلمين بعد الوفاة و انها استمرار لتلك الملكية أو سنخ آخر من الملكية، بل بقاء ملكية الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى وفاته هي مركز الدعوى و النزاع القائم، بحيث لو ثبت البقاء لكانت «فدك» للمسلمين قطعا و بلا ترديد، لأن المفروض تسليم الرواية المخلوقة.

و ملكية الرسول لفدك في حياته ترتبط بالمسلمين، فالاعتراف بها سابقا يوجب كون المسلمين ممن لهم الحق في المطالبة بالبينة على الانتقال و يعدون منكرين في قبال فاطمة (عليها السلام)، سواء كانوا ورثة أم موصى لهم، إذ لا علاقة بالدعوى بما بعد الوفاة، بل مركزها ما قبل الوفاة و كونهم طرف الدعوى

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي، فوائد الأصول 2- 229- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 36

لارتباطها- أعني الملكية- بهم- كما عرفت- و عليه، فلا وجه لتعليل اعتراض الإمام عليه السلام على أبي بكر في طلبه البينة: بان الملكية المعترف بها ليست عين الملكية المدعاة، فلا يحصل الانقلاب، لأن المفروض ان مركز الدعوى بقاء ملكية الرسول صلّى اللّه عليه و آله لإبقاء الملكية مطلقا، و ملكية الرسول صلّى اللّه عليه و آله أجنبية عن ملكية المسلمين على التقديرين- أعني: الوراثة و الوصاية- اما لاختلاف الإضافة أو لاختلاف سنخ الملكية.

و بالجملة: فلا يظهر لما ذكره المحقق النائيني وجه وجيه.

فتدبر.

و اما المحقق العراقي، فقد ذهب إلى: ان مقتضى القاعدة عدم انقلاب الدعوى بالإقرار للمدعي بالملكية السابقة لحكومة اليد على الأصل.

و لكن قام الإجماع على الانقلاب في صورة الإقرار بملكية المدعي أو المورث. و اما في صورة الإقرار بملكية الموصي فلا إجماع على الانقلاب، فمقتضى القاعدة عدمه، و الإجماع المذكور يقتصر فيه على مورده لأنه دليل لبي لا إطلاق له.

و حيث ان الإقرار في مسألة فدك للموصي لا للمورث لم يلزم منه انقلاب الدعوى، فيتجه اعتراض الإمام عليه السلام على أبي بكر في مطالبته إياه بالبينة مع انه ذو يد.

و لا يخفى ان هذا- مع غض النّظر عن كون الانقلاب مقتضى القاعدة كما عرفت، و كون الإجماع في مورده ليس تعبدا محضا، بل الفقهاء يعللون الانقلاب، فلا وجه للتمسك به مع كونه على خلاف القاعدة- ليس اعتذارا عن المشهور دفعا للإشكال عليهم. فالتفت.

فالأولى في الاعتذار ما عرفته فتدبره فانه بالتدبر حقيق و اللّه سبحانه و تعالى ولي التوفيق.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 37

الجهة الخامسة: في ان اليد هل تكون حجة على الملكية مطلقا

و لو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية و النقل و الانتقال، كما لو شك في كون من باليد عبدا أو حرا، أو تختص في صورة العلم بالقابلية، فتكون حجة على إضافة الملكية إلى ذي اليد.

و على الأول: يقع الكلام في مسألتين:

الأولى: ما إذا علم حال العين في انها ليست قابلة للنقل و الانتقال و اليد سابقا، بان كانت العين وقفا و اليد يد ولاية أو إجازة أو نحوهما، ثم شك في مالكية ذي اليد للعين لا حقا.

الثانية: ما إذا علم حال العين فقط و لم يعلم حال اليد، بل احتمل ان تكون اليد من أول حدوثها مالكية.

و لا

يخفى ان الكلام في هاتين المسألتين في طول ثبوت حجيتها المطلقة، و إلا فمع ثبوت اختصاص حجيتها بما له القابلية، فلا إشكال في عدم حجية اليد في المسألتين للشك في القابلية كما لا يخفى.

أما الكلام في المسألة الأولى، فيعلم من الكلام في الجهة الثالثة الّذي مر مفصلا، و عرفت فيه عدم حجية اليد، لأن القدر المتيقن غير هذا فراجع.

و أما الكلام في المسألة الثانية فهو يقع في مرحلتين:

الأولى: مرحلة الثبوت. و التكلم فيها في تحقق ملاك الطريقية و الكاشفية الناقصة في اليد، بناء على اعتبارها من باب الطريقية.

و ليس الكلام فيه بمهم في المقام، لأن الطريقية بالمعنى الّذي ذكرناه سابقا- و هي الطريقية النوعية غير المنتفية بوجود المزاحم- متحققة هاهنا، إذ اليد طريق بنفسها إلى الملكية لو لا بعض الحالات التي تكتنفها. و بالمعنى الّذي قرره المحقق الأصفهاني هناك من الطريقية النوعية الفعلية أيضا متحققة، لأن غلبة بقاء العين على ما كانت عليه- لغلبة بقاء الحادث- انما تزاحم- في المقام- غلبة كون الأموال

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 38

ملكا طلقا لا وقفا.

و أما غلبة اليد المالكية فلا تزاحم بها، فالطريقية الفعلية متحققة لتحقق ملاكها بلا مزاحم و مقيد- كما قرره (قدس سره) هاهنا- و هو يخالف المسألة السابقة، لأن غلبة البقاء هناك في حال اليد لا في نفس العين كما في هاهنا.

و قد تمسك المحقق الأصفهاني لحجية اليد فيما نحن فيه بالإطلاق.

و لا يخفى ان أصح ما استدل به- عنده- من الأدلة اللفظية هو قوله (عليه السلام) في رواية يونس: «و من استولى على شي ء منه فهو له»، و هي بدلالتها اللفظية لا إطلاق لها لاختصاصها بالمورد، لمفاد: «منه»، و التمسك بها في

غير المورد انما كان من باب إلغاء خصوصية المورد.

لا يخفى انه إذا كان للمورد خصوصيات متعددة و علم بعدم دخل بعض خصوصياته في الحكم يكون مطلقا من ناحية هذه الخصوصية دون غيرها.

و الخصوصية الملغاة في مورد الرواية انما هي خصوصية كون المال من متاع الرّجل و المرأة و موت أحدهما- بتقريب حصول العلم بعدم دخل هذه الإضافة في الحكم بالملكية لليد و ان عرفت ما فيه- فالإطلاق فيها من هذه الناحية.

و لكنه توجد في المورد خصوصية أخرى يحتمل دخلها في الحكم بالملكية لليد، و هي: كون المال قابلا للملكية و التردد في المالك، و هي منتفية فيما نحن فيه للشك في قبول المال للملكية، فلا يمكن التمسك بالإطلاق، إذ لا إطلاق للرواية من هذه الناحية.

و عليه، فيقع الكلام في معارضة اليد بأصالة عدم حصول السبب المسوغ و عدمها.

و قد قرب المحقق الأصفهاني عدم تعارض الأصل مع اليد و حكومة اليد عليه: بان اليد لما كانت حجة على الملكية فهي حجة على ملزومها و هو حصول السبب المسوغ للبيع. و عليه فتكون اليد حاكمة على الأصل.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 39

و لا يخفى ما فيه، لما عرفت من ان اليد ليست حجة في اللوازم و الملزومات، و لو كانت أمارة، بل هي حجة في نفس مفادها لا أكثر.

فالأولى التمسك في المقام بأصالة الصحة في عمل الغير، فنصحح العقد الحاصل بها، و هي مقدمة على استصحاب عدم حصول السبب المسوغ.

و قد يقال: ان مثل المورد هو مورد اليد الّذي وقع التسالم على اعتبارها فيه، لأن أصالة عدم حصول السبب المسوغ، كأصالة عدم حصول السبب الناقل مع العلم بعدم الملكية السابقة، فكما ان اليد لا تتعارض

مع هذا الأصل فكذلك لا تتعارض مع ذاك.

و لكنه يقال: فرق بين المقامين، لأن القدر المتسالم عليه هو عدم معارضة أصالة عدم تحقق السبب الناقل لليد. و اما مع العلم بتحقق السبب و لكن الشك في تحقق المؤثر لسببيته و المسوغ له، فلا يعلم تقدم اليد على الأصل الجاري لنفي تحقق المسوغ. و يمكن إجراء هذا الإشكال في جميع صور الشك في الصحة من جهة الشك في تحقق بعض شروطها كالعلم بالعوضين و غيره.

و قد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في المقام: ان اليد قد أخذ في موضوع حجيتها قابلية المحل للملكية و النقل و الانتقال، لأن مفادها: ان المال قد انتقل من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد الأسباب الناقلة، و ذلك انما يكون بعد الفراغ عن كون المال قابلا للنقل و الانتقال، و الوقف ليس كذلك، لأن الانتقال فيه انما يتحقق بعد عروض السبب المسوغ للنقل، و اليد لا تتكفل ذلك. بل استصحاب عدم طرو المسوغ يقتضي سقوط اليد لأنه يرفع موضوع اليد، فيكون حاكما عليها «1».

و قد أورد المحقق العراقي (قدس سره)- في بعض تقريراته-: ان أخذ القابلية الواقعية في موضوع اليد- مضافا إلى عدم تماميته- يستلزم سقوط اليد عن الحجية

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4- 266- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 40

بمجرد الشك في القابلية و عدمها، لأنه شك في تحقق الموضوع، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب و حكومته على اليد.

فكلامه مع المحقق النائيني في جهتين:

الأولى: عدم أخذ القابلية في موضوع اليد.

الثانية: انه لو أخذت، فلا حاجة الاستصحاب، بل مجرد الشك كاف في سقوط اليد عن الحجية.

أما الجهة الثانية: فهي غير تامة، لأنه لا

إشكال في ان لجريان الاستصحاب في عدم تحقق المسوغ- مع قطع النّظر عن اليد- أثرا شرعيا كعدم جواز بيعه و غيره من أحكام الوقف، فيمكن أن يكون جريانه بلحاظ أثره الشرعي.

و أما التعبير بالحكومة، فيمكن توجيهه: بان الدليل الحاكم لا يختص بما كان مخرجا لفرد كان مشمولا فعلا للدليل المحكوم لو لا الدليل الحاكم، بحيث كان للدليل المحكوم اقتضاء فعلي لشمول هذا الفرد.

بل هو يعم ما كان كذلك و ما كان مخرجا لفرد يتوهم شمول الدليل الآخر له، و ان لم يكن فيه مقتضى الشمول فعلا.

و الاستصحاب هاهنا أثبت عدم تحقق قابلية العين للملكية، و هي- أي العين- مما يتوهم شمول دليل اليد لها في حد نفسها و مع قطع النّظر عن كونها مشكوكة الحال و ان الشبهة موضوعية، و ان كان ليس فيه اقتضاء الشمول فعلا باعتبار الشك.

و عليه، فالاستصحاب جار و يكون حاكما على اليد بهذا اللحاظ، و هذا لا ينافي سقوط اليد عن الحجية للشك. فلا إشكال على المحقق النائيني من هذه الناحية.

نعم، لو كان مراده (قدس سره) أن سقوط اليد عن الحجية انما هو لأجل الاستصحاب، بحيث لولاه لكانت اليد حجة- كما لعله الظاهر من كلامه فتأمل-

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 41

اتجه عليه الإيراد: بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في ذلك، بل بمجرد الشك تسقط اليد عن الحجية، لأن الشبهة مصداقية كما لا يخفى.

و أما [1] الجهة الأولى- و هي العمدة في المقام كما أشرنا إليه- فتحقيق الكلام

______________________________

[1] تحقيق الحال في المسألة باختصار: ان اليد الحادثة على العين تارة يشك في انها حدثت عن تملك بعقد أو بغيره أو حدثت لا عن تملك. و مثل ذلك هو المتيقن

من بناء العقلاء على الحجية و أخرى يعلم بأنها حدثت عن عقد أو نحوه و شك في صحة العقد و عدم صحته، و في مثل ذلك يمكن ان يقال ان بناء العقلاء على غض النّظر عن اليد و ملاحظة السبب الناقل فيرى أنّه صحيح أو ليس بصحيح و يحكم بالملكية و عدمها بملاحظته. و لا أقل من التشكيك في حجية اليد في مثل هذه الصورة.

و قد يقال انهم يحكمون بحجية اليد ما لم يثبت لديهم بطريق معتبر بطلان العقد، و لا يحكمون بالملكية استنادا إلى اليد جزما، و ليس بناؤهم على ترتيب أثر الملكية قطعا. و بالجملة مع العلم بالسبب الناقل و الشك فيه إما أن يقال بقصر نظرهم عليه و سقوط اليد عن الحجية مطلقا و يقال بسقوطها في مورد ثبوت بطلان السبب.

و مفروض كلام النائيني (قدس سره)، من هذا القبيل فان المفروض العلم بسبق الوقف و احتمال عروض المصحح لبيعه.

و في مثله لا تكون اليد حجة بل لا بد من ملاحظة السبب الناقل فيتمسك له مثلا بأصالة الصحة أو غيرها. و مع الغض عن ذلك فلا يشك في أنه مع ثبوت بطلان السبب تسقط اليد عن الحجيّة و هذا كما ذكرناه ما ادعاه النائيني (قدس سره) فان استصحاب عدم طرد المسوغ يترتب عليه بطلان البيع فيثبت بطلانه بواسطة الاستصحاب فيرتفع موضوع حجية اليد و تسقط عن الاعتبار. و بهذا البيان للمسألة و توجيه كلام النائيني (قدس سره) لا يتم ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من قياس هذا الاستصحاب باستصحاب الملكية الجاري في مطلق موارد اليد، فان استصحاب الملكية لا ينفي موضوع اليد و لا يترتب عليه شرعا بطلان العقد بخلاف هذا الاستصحاب.

كما

أنه لا وجه لما جاء في كلام العراقي في البحث في ان المأخوذ هو القابلية الواقعية أو الجهل بها و تفصيل الكلام في ذلك، في مقام الإيراد على النائيني، إذ عرفت أن محل الكلام لا يرتبط

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 42

فيها يستدعي بيان المراد من القابلية المبحوث عنها هاهنا. فنقول: ليس المراد من القابلية، القابلية بمعناها الفلسفي الّذي هو عبارة عن الاستعداد الذاتي للعين.

لوضوح حصول التبدل في العين من هذه الناحية، فتارة تكون ذات قابلية. و أخرى لا تكون كذلك مما يكشف عن عدم إرادة ذلك المعنى منها، بل المراد منها تأثير السبب الناقل في العين. فإذا حكم الشارع بان السبب الناقل يؤثر في هذه العين الانتقال كان لها قابلية. و ان حكم بعدم التأثير لم يكن لها قابلية. فالقابلية و عدمها ينتزعان عن حكم الشارع بتأثير السبب في نقل العين و عدمه.

و على هذا، فقد يقال: بان محققات القابلية و شروطها- في العين المسبوقة بعدم القابلية- تكون شروطا في تأثير العقد في هذه العين، نظير العلم بالعوضين و طيب النّفس، فيقال: العقد مؤثر و ناقل لهذه العين إذا كان قد حصل الأول إلى الخراب- مثلا. فمرجع الشك في بقاء عدم القابلية و عدمه إلى الشك في حصول السبب الناقل و عدمه- إذ عدم حصوله أعم من عدم وجوده بالمرة أو حصوله غير صحيح- و لا إشكال في عدم استلزام ذلك لسقوط اليد عن الحجية، فلا ثمرة في الكلام حينئذ.

و لكنه و إن سلم ذلك، الا ان هذا النوع من الشروط- و هو شرط القابلية للنقل و الانتقال- له خصوصية عن غيره، و لذلك وقع محل الكلام دون غيره.

و على كل، فليس هذا

بمهم و ضائر، لأن الكلام في أخذ القابلية للملكية في موضوع اليد مطلقا مع غض [1] النّظر عن سبق القابلية أو عدمها و تحقق عقد

______________________________

- بأخذ القابلية و نحوها بل يرتبط بملاحظة السبب الناقل و لا يخفى عليك ان محل الكلام هو مورد العلم بسبق عدم القابلية اما مع عدم فرض ذلك بلا شك رأسا في ان ما تحت اليد ملك أو وقف فلا إشكال في حجية اليد و عدم توقف العقلاء في البناء على ملكية ذي اليد و معاملته معاملة المالك.

[1] فيه تأمل يظهر من ملاحظة تحقيق كلام النائيني (قدس سره) في الحاشية.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 43

و عدمه. بل موضوع الكلام ما إذا كانت عين في يد شخص و كانت مشكوكة القابلية، فهل اليد تكون دليلا على الملكية أو لا.

لا إشكال في ذلك- أعني كونها دليلا على الملكية- إذ لا إشكال في عدم اعتبار القابلية في موضوع اليد، لما نراه من بناء العقلاء على عدم ملاحظة قابلية ما في اليد للملكية، بل يعاملون ذا اليد معاملة المالك و يبنون على ما في يده ملكا و ان كان لديهم شك في قابلية المحل للملكية، و يتأكد ذلك بملاحظة التعليل لاعتبار اليد الوارد في رواية حفص من توقف قيام السوق للمسلمين على ذلك، إذ لا ريب في انه مع اعتبار القابلية و عدم حجية اليد مع الشك فيها يأتي المحذور السابق لأن أغلب ما في سوق المسلمين مشكوك القابلية، فالتفت.

يبقى الكلام في اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد.

و قد قرّبه المحقق العراقي: بأنه لا إشكال في ان دليل اعتبار اليد دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، و القدر

المتيقن من بناء العقلاء هو اعتبار اليد مع عدم العلم بعدم القابلية.

اما مع العلم بعدمها فلا يبنون على حجية اليد على الملكية، فيختص موضوع اعتبار اليد بعدم العلم بعدم القابلية. و حينئذ فمع الشك و سبق العلم بعدم القابلية يكون استصحاب عدم القابلية مقدّما على اليد على قول و معارض لها على قول آخر، فانه على القول بان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين و تنزيل الشك منزلة اليقين، يكون الاستصحاب مقدما على اليد لأنه يحقق العلم تنزيلا بعدم القابلية فيرتفع به موضوع اليد. و على القول بان مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، و ان اليقين مأخوذ مرآتا للمتيقن لا يكون مقدّما، لأن الاستصحاب لا يرفع الجهل بالقابلية و لو تنزيلا، بل يكون معارضا لليد «1».

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4- 27- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 44

و في كلامه- بشقيه- نظر:

أما حديث التفرقة بين القولين في جريان الاستصحاب و تقدمه على اليد.

ففيه ما سيأتي من تصحيح تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي مطلقا و على كل تقدير، حيث ان نسبة الأصل المذكور إلى اليد كنسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي، فان الأصل الجاري فيما كان الجهل فيه أو في عدمه موضوعا لمجرى أصل آخر يكون سببا، و ذلك الأصل الآخر مسببيا كما سيتضح فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أما حديث أخذ الجهل بعدم القابلية في موضوع اليد شرعا. فيتضح عدم تماميته بما عرفت من ان الجهل قد يؤخذ موردا و قد يؤخذ موضوعا. و ان الفرق بين الأصول و الأمارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية، و في الثانية الأصول و الأمارات ان

الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية، و في الثانية مأخوذ بنحو الموردية. و إلا فهما لا يفترقان في عدم جريانهما في صورة العلم بالواقع، و اختصاص جريانهما في صورة الجهل بالواقع، فاليد و ان كان اعتبارها مختصا بما إذا كان عدم القابلية مجهولا، الا انه لا يعلم كون الجهل قد أخذ بأي النحوين، فقد يكون مأخوذا بنحو الموردية و لا دليل على كونه مأخوذا بنحو الموضوعية، فتدبر جيدا.

ثم أنه (قدس سره) ذهب إلى عدم أخذ القابلية بوجودها الواقعي في موضوع حجية اليد، لاستلزام سقوط اليد عن الحجية في كثير من الموارد، مما يؤدي إلى اختلال النظام المشار إلى نفيه في رواية حفص بقوله عليه السلام: «و لو لم يجز ذلك لم يقم للمسلمين سوق». و لا يخفى ان ظاهر ما أفاده (قدس سره) هو خلط في موارد الشك في القابلية بين سبق عدم القابلية و عدم السبق بذلك.

و قد عرفت ان محل الكلام الأول دون الثاني. ثم ان الاستدلال باختلال النظام غير مسلم إذ ليس من موارد الشك في القابلية بذلك الموجبة لاختلال النظام، مع أنها لو تمت فانما تتم في موارد العلم بسبق عدم القابلية، إذ الالتزام بعدم حجية اليد في موارد العلم بسبق عدم القابلية لا يستلزم الاختلال قطعا، لعدم كونها

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 45

بحد من الكثرة بحيث يلازم سقوط اليد اختلال النظام، فلاحظ.

الجهة السادسة: في ان اليد كما تكون دليلا على ملكية العين

، هل تكون دليلا على ملكية المنفعة أم لا؟

و أساس الكلام على ان الاستيلاء الّذي هو معنى اليد هل يمكن ان يحصل على المنفعة، كما يمكن ان يكون على نفس العين أم لا؟

و قبل الخوض في تحرير المسألة لا بد من ان نعرف الثمرة من

البحث فيها.

و لا يخفى ان الغرض إثبات ملكية المنفعة باليد، كما تثبت ملكية العين بها، بحيث تكون اليد طريقا إلى إثبات ملكية المنفعة.

فقد يقال: ان ملكية المنفعة تابعة لملكية العين، فاليد على العين طريق لملكية العين و بها تثبت ملكية المنفعة، فلا يحتاج في إثبات ملكية المنفعة إلى إثبات تحقق الاستيلاء عليها و حجيته على ملكيتها، فلا ثمرة حينئذ.

و لأجل ذلك قيل: بان الثمرة تظهر في صورة اختصاص الاستيلاء على المنفعة دون العين، و ذلك كالمتصدي لإجارة الدار و الصلح على المنفعة، فان له استيلاء على المنفعة باعتبار تصديه للمعاملة عليها دون العين، إذ العين بيد الغير، فثبوت ملكية المنفعة منحصر باليد عليها إذ لا يد لمالكها على العين كي تثبت ملكيتها بتبع ملكية العين.

و يشكل هذا: بان الاستيلاء على المنفعة لا يعقل انفكاكه عن الاستيلاء على نفس العين، و التصدي للإجارة و الصلح لا يحقق الاستيلاء، و إلا لكان الفضولي المتصدي لإجارة الدار فضوليا له استيلاء على المنفعة، مع انه ليس كذلك.

فالأولى ان يقال: بان الثمرة تظهر في صورة ما إذا كان الشخص له استيلاء على العين و المنفعة و علم بعدم ملكيته العين، كالمستأجر للوقف أو لدار غيره، فان المستولي على المنفعة- في هذا الفرض- و ان كان له استيلاء على العين، لكنه ليس مالكا لها- كما هو المفروض- فلا يمكن استكشاف ملكية المنفعة بالاستيلاء على

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 46

العين.

إذا عرفت ذلك: فالمنسوب إلى الفاضل النراقي (قدس سره) تخصيص حجية اليد بالأعيان دون المنافع، ثبوتا و إثباتا.

أما ثبوتا: فلأنه لا يتصور تحقق الاستيلاء الخارجي على المنافع، لأنه انما يتحقق في الأمور القارة التي لها ما بإزاء في الخارج كالأعيان.

أما

الأمور التدريجية، فلا يتصور تحقق الاستيلاء عليها، لأن موضوع الثمرة و المهم في المقام هو الاستيلاء على المنفعة المستقبلة الحدوث. أما الاجزاء الموجودة، فلا أهمية و لا غرض في الاستيلاء عليها. و المنفعة المستقبلة عبارة عن الاجزاء الأخرى التي بعد لم تحصل، و انما يكون حصولها بعد هذا الآن، فهي معدومة الآن فلا يتحقق الاستيلاء بالنسبة إليها، إذ لا استيلاء على المعدوم. و المنفعة من الأمور التدريجية الحاصلة بالتدرج فلا يتحقق الاستيلاء عليها.

و أما إثباتا: فلأن الأدلة على حجية اليد لا إطلاق لها إلا روايتي يونس و حفص.

و الأولى: موضوعها الأعيان، لرجوع الضمير في: «منه» إلى متاع البيت و هو من الأعيان.

و الثانية: و ان كانت بحسب صدرها عامة للتعبير بالشي ء، و هو أعم من العين و المنفعة، إلا ان في الكلام ضميرا يرجع إلى بعض افراد العام و هو الأعيان، و ذلك في قوله: «تشتريه» فان الشراء يتعلق بالأعيان لا بالمنافع. فيدور الأمر بين ان يكون المراد من العام هو هذه الافراد، أو يكون استعمال الضمير من باب الاستخدام، فلا أقل من صيرورة الكلام مجملا، و هو كاف في عدم جواز التمسك به في إثبات المطلوب «1».

______________________________

(1) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة 2- 578 الموضع السادس من الفصل الخامس الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 47

و قد أورد عليه السيد الطباطبائي (قدس سره) في كتاب القضاء «1»، بوجهين:

الأول: انه يمكن تصور الاستيلاء على المنافع مستقلا على الاستيلاء على الأعيان كالمزرعة الموقوفة على العلماء و السادة مع كون العين بيد المتولي و صرف حاصلها و منافعها فيهم، فان لهم الاستيلاء على المنافع المرسلة إليهم.

الثاني: النقض عليه بحق الاختصاص، فكما يتصور الاستيلاء على

حق الاختصاص كما في العين الموقوفة المختصة بأربابها، كذلك يتصور الاستيلاء على المنافع.

و قد أورد على الوجه الأول: بان المراد من المنافع التي هي موضوع البحث ما يقابل الأعيان، و هي التي تكون تدريجية التحقق و معدومة الوجود فعلا، و المنافع المذكورة المستوفاة من المزرعة الموقوفة داخلة في الأعيان، و ان أطلق عليها لفظ المنفعة باعتبار استخراجها من عين أخرى.

و أورد على الوجه الثاني: بان الاستيلاء على الأعيان تختلف آثاره باختلاف الأعيان، و الاستيلاء على الدار اثره ملك العين و على الموقوفة اختصاصها بالمستولي، و على الأرض الحجرة أولويته بها فالكل من باب الاستيلاء على الأعيان لا الاستيلاء على العين تارة و على الحق بأنحائه أخرى.

أما الإيراد على الوجه الأول فلا شبهة فيه كما هو واضح.

و لكن الإيراد على الوجه الثاني لا يمكن الالتزام به، لأنه (قدس سره) يصرح في أوائل كلامه بمضمون الإيراد، فلا وجه للإيراد به عليه، إذ منه يعلم إرادة شي ء آخر من نقضه لا يتوجه عليه هذا الإيراد.

و يمكن ان يريد من كلامه: ان حق الاختصاص نوع من أنواع الملكية

______________________________

(1) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى 3- 122- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 48

كملكية العين و ملكية المنفعة و ملكية الانتفاع. فمتعلق حق الاختصاص من سنخ متعلق ملكية المنفعة. و بعبارة أخرى: ان الاختصاص من سنخ المنفعة، فكما يثبت حق الاختصاص باليد على العين الموقوفة- مثلا- فكذلك تثبت ملكية المنفعة بالاستيلاء على العين، إذ لا فرق بينهما.

و قد ذكر صاحب البلغة (قدس سره)- كما حكي عنه «1»-: ان قبض المنافع بقبض العين، بدليل جواز مطالبة الموجر للمستأجر بالأجرة بمجرد القبض، فما لم يقبضه المنفعة لم يكن

له المطالبة بالأجرة، لأن المعاملة قد وقعت على المنفعة.

و فيه:- كما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره)- كما حكي عنه- ان مقتضى القاعدة جواز المطالبة بالأجرة بمجرد المعاملة، لأن الموجر يملك العوض بالمعاملة، كما ان المستأجر يملك المعوض- و هو المنفعة- بها أيضا. فالحكم بعدم جواز المطالبة بالعوض في سائر المعاملات قبل الإقباض حكم على خلاف القاعدة و ليس على وفقها، من باب الالتزام الضمني من كلا المتعاقدين على ان التسليم بعد الإقباض.

فيقتصر فيه على مورده و هو غير الإجارة، فانهم حكموا فيها بعدم جواز المطالبة بالأجرة قبل التمكين من استيفاء المنافع لا قبل قبض المنفعة.

فصحة المطالبة بالأجرة حين قبض العين انما هو من جهة حصول التمكين على الاستيفاء لا من جهة إقباض نفس المنفعة.

بل هذا الوجه جار في سائر المعاوضات، فان صحة المطالبة بالعوض فيها متوقفة على التمكين من استيفاء المعوض لا على قبضه، فالتفت.

و قد أفاد المحقق الأصفهاني في رد ما ذكره الفاضل النراقي: ان منافع الأعيان حيثيات و شئون قائمة بها و موجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل، و اما السكنى بالمعنى الفاعلي، فهي من أعراض الفاعل لا من منافع الدار.

______________________________

(1) بحر العلوم بلغة الفقيه 3- 315- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 49

فحيثية المسكنية هي منفعة الدار، و ما دامت الدار على هذه الصفة تكون المنفعة مقدرة الوجود عند العقلاء، فتقبل كل صفة اعتبارية من الملك و الاستيلاء.

و لا يخفى ان المراد من المسكنية التي تكون هي منفعة الدار إن كان هو قابلية الدار للسكنى، فهم لا يلتزمون بكون المنفعة هي القابلية، و ان كان هو المسكنية الفعلية فهي مضافا إلى انها من شئون الفاعل تدريجية الحصول، فتكون

معدومة.

و التحقيق ان يقال: ان بناء العقلاء على ملكية المنفعة عند الاستيلاء على العين بحيث يعدونها من شئون الاستيلاء على العين مما لا إشكال فيه و لا ريب يعتريه، سواء في ذلك كون العين مملوكة للمستولي أو غير مملوكة له.

فلا يهمنا كثيرا معرفة قبول المنفعة للاستيلاء و تصوير المنفعة بشكل يقبله بعد البناء المذكور من العقلاء.

و قد يكون هذا البناء منهم لبنائهم على تحقق الاستيلاء على المنفعة، أو لأجل غلبة ملكية المنفعة عند الاستيلاء على نفس العين فتدبر جيدا و لا تغفل.

الجهة السابعة: في جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد.

و لا بد أولا من بيان ثمرة الكلام، إذ قد يتوهم عدم الثمرة لأنه لا يختلف الحال في الشهادة على اليد أو على الملك في ترتب الأثر المطلوب، و هو ثبوت ملكية المشهور له بل قد يقال: بان الاحتياج إلى الشهادة في مقام الدعوى، و لا تنفع البينة المستندة إلى اليد مع وجود بينة معاكسة لها، إذ البينة المستندة إلى اليد لا تزيد على نفس اليد و اليد لا تعارض البينة على الخلاف. هذا مع ان البينة المستندة إلى اليد، مع التفاتها إلى البينة المخالفة تسقط عن الحجية، لأجل استنادها إلى غير الحجية و هو موجب للفسق.

فنقول: الثمرة تظهر في ما لو كان المطلع على استيلاء المشهور له واحدا و كان هناك شخص آخر مطلعا على ملكية المشهود له السابقة، فانه بناء على قيام الطرق و الأصول مقام العلم تكون شهادة كل من الشخصين بالمسبب- أعني: الملكية-

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 50

بلحاظ وجود الطريق لكل منهما و ان كان مختلفا، مجدية في المقام لتمامية البينة على الملكية. بخلاف ما لو شهد بالسبب الّذي يعلمانه، لأن كلا منهما يشهد بسبب غير السبب

الّذي يشهد به الآخر، فلا تتم البينة على أحد السببين كي يترتب عليه الأثر. فالشهادة على اليد في الفرض لا أثر لها بخلاف الشهادة على الملك، لأنها جزء البينة، فبضميمتها إلى الشهادة الأخرى على الملك تتم البينة و يترتب الأثر.

و الّذي يقرب في النّظر عدم جواز الشهادة استنادا إلى اليد، و ذلك لأن الإخبار الجائز هو الخبر الصادق في قبال الخبر الكاذب. و الصدق و الكذب عنوانان ينتزعان عن مطابقة الخبر للواقع و عدم مطابقته، و مع الشك في المطابقة لا يجوز الإخبار قطعا و لو لأجل التجري لكونه طرف العلم الإجمالي.

و عليه، فإذا قامت اليد على الملكية لا يحرز أن الإخبار عن الملكية مطابق للواقع، فلا يحرز أنه صدق.

نعم، لو كان اليد حجة في اللوازم كانت حجة في مطابقة الخبر للواقع، و لكن عرفت منع ذلك.

و بالجملة: الحكم الشرعي غير مترتب على مؤدى اليد مباشرة، بل متعلق بعنوان ملازم له، و هي غير حجة في لوازمها بخلاف البينة، فانها إذا قامت على الملكية كان لها دلالة التزامية، على ان الإخبار عنها مطابق للواقع، و هي حجة في الدلالة المطابقية و الالتزامية.

و إذا ظهر عدم جواز الإخبار بمقتضى اليد تكليفا، ظهر عدم جوازه وضعا، فلا يكون الإخبار حجة لفسق المخبر به جزما.

و هذه الجهة مما غفل الأعلام عنها، و لم أجد من تنبه لذلك، و انما أوقعوا الكلام في اعتبار العلم في جواز الشهادة و قيام اليد مقام العلم، فتدبر.

و كيف كان فالمشهور- على ما حكي- على المنع عن الشهادة استنادا إلى اليد، لأخذ العلم الوجداني في موضوع جواز الشهادة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 51

و تحقيق الكلام في هذه الجهة يستدعي البحث في

نواح ثلاث:

الأولى: في أخذ العلم موضوعا لجواز الشهادة.

الثانية: في انه على تقدير موضوعية العلم فهل هو مأخوذ بنحو الصفتية أو الطريقية؟.

الثالثة: في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي.

أما موضوعية الأولى- أعني العلم لجواز الشهادة- فلا إشكال فيها و لا ارتياب لدلالة الاخبار الكثيرة عليها. هذا و لكن يقرب جدا: ان يكون المنظور في الاخبار النهي عن الشهادة استنادا إلى التخمين و الحدس الظني الّذي كثيرا ما يستند إليه المخبرون، و لا نظر لها إلى اعتبار العلم بالمخبر به، كما لا يخفى على من لاحظها و الأمر هيّن.

و أما الناحية الثانية- و هي كيفية أخذه و انه بنحو الصفتية أو الطريقية، فالكلام فيها يبتني على القول بإمكان أخذ العلم موضوعا بأحد النحوين.

أما من لا يرى إمكان أخذه بنحو الصفتية و انحصاره في جهة الطريقية، فهو في سعة عن الكلام فيها.

و ذلك كالمحقق الأصفهاني (قدس سره)، فانه أفاده في تقريب ذلك بان: أخذ العلم في الموضوع معناه أخذه بميزاته عن الصفات الأخرى.

فالملحوظ فيه هو الجهة المميزة له عن غيره، و الا فلو أخذ بلحاظ بعض الجهات المشتركة بينه و بين غيره، لا يكون أخذا له في الموضوع، بل أخذا للجامع المشترك بينه و بين غيره.

و لا يخفى ان الجهة المميزة للعلم التي هي بمنزلة الفصل له هي جهة الطريقية و الكشف التام. فان بها يكون العلم علما و يكون مباينا للظن و غيره من الصفات.

فمعنى أخذ العلم في الموضوع أخذه بهذه الجهة، إذ لا جهة أخرى تميزه عن باقي الصفات.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 52

و قد تقدم منا في مباحث القطع: ان هذا التقريب غير مانع من إمكان أخذ العلم بأحد النحوين.

و محصل ما ذكرناه هناك:

ان العلم و ان كان فيه جهة واحدة هي المميزة له عن سائر الصفات النفسيّة و بها صار علما، و هي جهة الطريقية و الكشف التام.

إلا ان هذه الجهة تارة: يترتب عليها الأثر بما هي هي و مع غض النّظر عن الواقع المرآتي بها و المنكشف بواسطتها. و أخرى يكون الأثر مترتبا عليها بلحاظ الواقع المنكشف بها. فالانكشاف في كلا الموردين موضوع للأثر، لكنه بنفسه و بلحاظ ذاته يكون كذلك في مورد و بلحاظ الواقع المنكشف به يكون كذلك في المورد الآخر.

و عليه، فأخذ العلم في الموضوع بما هو صفة خاصة معناه أخذ الجهة المميزة له بنفسها و بما هي. و أخذه بما هو طريق هو لحاظ الجهة المميزة فيه باعتبار كشفها عن الواقع، فكأن الواقع هو الملحوظ فيه و ان كان العلم هو الموضوع حقيقة.

و إذا اتضح إمكان تصور أخذ العلم بهذين النحوين و لو كان المميز للعلم جهة واحدة، فلا بد من تعيين انه على أي النحوين قد أخذ موضوعا لجواز الشهادة.

و الّذي يظهر من مساق الروايات الواردة في اعتبار العلم في موضوع جواز الشهادة هو أخذه بنحو الطريقية. فان الظاهر منها كون المنظور هو حفظ الواقع عن التغيير و التبديل، و ان أخذ العلم انما هو للمحافظة على حقوق الناس و ان الشهادة لا بد ان تكون على أساس و مستند و لا تكون مجازفة في القول و تهور كي تحفظ الحقوق عن الضياع.

و أما الناحية الثالثة- و هي قيام الطرق مقام القطع الموضوعي-: فهو انما يتحقق بناء على القول بان دليل الأمارة يتكفل تنزيلها منزلة العلم، لما تقدم من التمسك بإطلاق دليل التنزيل في ترتيب جميع آثار العلم عليها. لكنك عرفت

عدم ثبوت التنزيل المذكور لعدم وفاء الأدلة به. خصوصا في مثل اليد التي لا يعرف انها

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 53

أمارة أو أصل، فكيف يستطاع ان يشخص مفاد دليلها على احتمال كونها إمارة؟

فلاحظ.

أما على الأقوال الأخرى في ما يتكفله دليلها، فلا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع.

أما على ما ذكره الشيخ- و اخترناه أخيرا- من تكفل دليلها تنزيل المؤدى منزلة الواقع «1»، فعدم القيام واضح و يتلخص وجهه بما بينه صاحب الكفاية (قدس سره) في أوائل مباحث القطع في مقام الإيراد على الشيخ من: ان دليل الاعتبار إذا كان متكفلا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع، فالملحوظ فيه استقلالا هو المؤدى و الواقع، و الأمارة و القطع ملحوظان في هذا التنزيل باللحاظ الآلي المرآتي. و قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي يستدعي لحاظ الأمارة و القطع بالاستقلال في دليل التنزيل، فلا يمكن ان يتكفل دليل الأمارة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع و تنزيل الأمارة منزلة العلم، لاستلزامه اجتماع لحاظين أحدهما آلي و الآخر استقلالي و هو ممتنع «2».

و أما على ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ من جعل المنجزية و المعذرية. فقد يتوهم قيامها مقامه باعتبار كون الدليل يتكفل تنزيلها منزلة العلم في ذلك.

و لكنه غير صحيح لوجهين:

الأول: ان جعل المنجزية و المعذرية يقتضي لحاظ الواقع بالاستقلال، لأن مفاده ان الواقع يتنجز بالأمارة، فقيامها- حينئذ- مقام القطع الموضوعي يقتضي لحاظ نفس الأمارة بالاستقلال، فيلزم اجتماع اللحاظين.

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 4- الطبعة القديمية.

(2) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 264- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 54

الثاني: ان دليل التنزيل هاهنا ليس لفظيا ذا إطلاق كي يتمسك به

في ترتيب جميع الآثار، إذ هو منتزع عن ترتيب أثر خاص للعلم و هو المنجزية و المعذرية على الأمارة، فيؤخذ بالقدر المتيقن، و هو التنزيل بلحاظ هذا الأثر الخاصّ لا بلحاظ جميع الآثار- كما مر ذلك في بيان حكومة الأمارة على الاستصحاب- و أما على المختار سابقا من كون دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما و جعلها كذلك، المعبر عنه بجعل الوسطية في الإثبات و تتميم الكشف- كما عليه المحقق النائيني «1»- فلأن دليل الاعتبار انما يقتضي ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها فيما إذا لم يكن للأمارة بهذا الاعتبار أثر خارجي لا يوجب تصرفا بدليل، فانه يحكم حينئذ بدلالة الاقتضاء، بان موضوع الحكم في ذلك الدليل الظاهر في الفرد الحقيقي أعم من الفرد الحقيقي و الاعتباري، كي يترتب الأثر على هذا الفرد المعتبر، و إلا لكان الاعتبار لغوا.

و المفروض ان للأمارة بهذا الدليل القائم على اعتبارها علما أثرا يترتب عليها، و هو المنجزية و المعذرية، لأن موضوعها أعم من العلم الحقيقي الوجداني و العلم الاعتباري.

فلا تتم دلالة الاقتضاء بالنسبة إلى الآثار الأخرى، لعدم لغوية الاعتبار الترتب أثر عليه بلا تصرف تقتضيه دلالة الاقتضاء، كما لا يصح التمسك بإطلاق دليل الاعتبار لاحتياجه إلى مئونة زائدة، و هي التصرف في موضوع الآثار و جعله أعم من الفرد الحقيقي و الاعتباري- و قد تقدم بيان ذلك في حكومة الأمارة على الاستصحاب فراجع- هذا، و لكن لصاحب المستند (قدس سره) تقريبا لوفاء الأمارة بتحقق موضوع جواز الشهادة، على الأقوال الأخرى في الأمارة.

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2- 7- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 55

و قد ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في رسالته في اليد. و

حاصله: ان الملكية ليست من الموضوعات الواقعية كي يكون مرجع التعبد بها إلى التعبد بحكمها، فهي لا تكون معلومة بل المعلوم حكمها. و انما هي من الأحكام الاعتبارية المجعولة أو الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الأحكام الشرعية- كما عليه الشيخ- و عليه، فعند قيام الأمارة على الملكية تثبت هناك ملكية ظاهرية إما اعتبارية أو انتزاعية، و يتعلق بها العلم الوجداني، فتصح الشهادة بالملكية لتحقق موضوعها حقيقة تكوينا ببركة الأمارة.

أما تحقق الملكية الظاهرية بقيام الأمارة، فهو بناء على جعل المؤدى واضح، لأن المفروض ان المجعول حكم ظاهري و هو الملكية أو ما ينتزع عنه الملكية من الأحكام الموجب لثبوتها في مرحلة الظاهر «1».

و لكنه قد لا يتضح بناء على جعل المنجزية أو جعل الوسطية في الإثبات، لأجل انها على هذين البناءين أجنبية عن ثبوت حكم ظاهري بها.

إلا أنه يمكن تصويره على هذين البناءين. بأنه عند قيام الأمارة، ففي مقام العمل و الوظيفة العملية تترتب آثار الملكية الواقعية، فللملكية نحو ثبوت، و هو معنى الملكية الظاهرية.

نعم، يبقى في المقام شي ء، و هو: ان مصب الدعوى هو الملكية الواقعية و الثابت بالأمارة المعلوم بالعلم الوجداني، هو الملكية الظاهرية، فما هو المعلوم الّذي تصح الشهادة به غير مصب الدعوى، فلا يجدي ما ذكر من التقريب.

و لكنه (قدس سره) أجاب عنه: بأنه لما كان إحراز الملكية الواقعية صعبا جدا بل غير ميسور عادة- لأن ثبوت ملكية الشخص انما تكون بأسبابها، و الحكم بملكية الأسباب و صحتها انما يكون بإجراء الأصول و القواعد الظاهرية- كان

______________________________

(1) أصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 340- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 56

المدار في الدعاوي و النزاعات ثبوت الملكية الفعلية المتحققة

بحسب الأدلة و القواعد الشرعية المتعارفة، لا على الملكية الواقعية. و الملكية الفعلية ثابتة بالأمارة- كما عرفت- و هي معلومة بالعلم الوجداني فتصح الشهادة بها.

و قد حكى المحقق الأصفهاني عن المحقق في الشرائع «1»، كلاما لمنع الشهادة بمقتضى اليد مضمونه: انه لو أوجبت اليد الملك لم تسمع دعوى من يقول الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي. انتهى. و قد استظهر منه المحقق الأصفهاني انه في مقام إنكار ثبوت الملكية باليد، و الا لكان الاعتراف بها مساوقا للاعتراف بالملكية، فيكون كالاعتراف بالملكية في عدم سماع دعوى المعترف حينئذ.

فحكم بسخافته- و هو عجيب منه جدا لما عرف منه من التحفظ على الموازين العرفية و الآداب العقلائية في تعبيراته بالنسبة إلى من هو أصغر من المحقق الحلي شأنا و أقصر باعا.

و أورد عليه بوجهين:

الأول: انه إنكار لحجية اليد على الملكية مع انه مسلم و محل الكلام غير هذا، فانه جواز الشهادة بمقتضى اليد بعد الفراغ عن حجيتها، لا كونها توجب الملكية.

الثاني: ان الفرق بين الدعويين موجود، حيث ان الأولى تتضمن الإقرار بالسبب- لأن معنى كون اليد حجة كونها طريقا و سببا ظاهريا للملكية و هو يقبل الفساد- و هو لا يكون منافيا و مكذبا لدعواه بملاحظة المناقشة في شرائطه، كما إذا قال هذا الّذي اشتراه زيد من عمر- و هو لي فانه يجامع فساد الشراء، بخلاف الثانية، فانها تتضمن الإقرار بملك المدعى عليه، و هو مناف لدعواه الملك، فلا يقبل

______________________________

(1) المحقق الحلي جعفر بن الحسن. شرائع الإسلام- 339- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 57

منه كما لا يخفى «1».

و لكن الّذي يظهر من كلام المحقق الحلي انه

ليس في مقام إنكار حجية اليد على الملكية الّذي هو خارج عن محل الكلام. بل هو في مقام إنكار حجية اليد على الملكية التي هي موضوع التخاصم و النزاع و محل النفي و الإثبات- كي تجوز الشهادة بالملك استنادا إليها- في فرض تمامية شروط حجية اليد على الملكية من جهل العنوان و القابلية و غيرهما.

فمراده: ان هذه اليد المفروض كونها حجة على الملكية الظاهرية في المقام لو كانت موجبة للملك الّذي هو محل النزاع و موضوع الخصام، لكان الاعتراف بها اعترافا بالملكية المتنازع فيها، فمقتضى القاعدة عدم سماع دعوى المعترف حينئذ، لأنه أقر لذي اليد بما يدعيه، فيكون كإقراره الصريح بملكية المدعى عليه في عدم سماع دعواه حينئذ.

فاليد و ان كانت تفيد ملكية ذيها، لكن الملكية الثابتة بها لا تنفع في خصم الدعوى، و الإقرار بها ضمنا لا يجدي المدعى عليه نفعا أصلا.

و بعبارة مجملة: المراد كون الملكية التي هي موضوع الدعوى غير الملكية الثابتة بمقتضى اليد، و الا لكان الإقرار باليد موجبا لعدم سماع دعوى المعترف و اللازم منتف.

و عليه، فلا مورد للإشكالين المذكورين عليه، لأنه ليس في مقام إنكار أصل حجية اليد على الملكية، بل كلامه لا ينافي حجيتها عليها، و ان الثابت بها ملكية ظاهرية و لكنها لا تنفع.

كما انه لا فرق بين الدعويين- من جهة ان الاعتراف في إحداهما بالسبب و هو يقبل الفساد- إذ ليس المراد ان إيجاب اليد الملكية الظاهرية موجب لعدم

______________________________

(1) الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 341- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 58

سماع الدعوى بالإقرار، كي يقال: إن الإقرار هاهنا بالسبب بذاته و هو يقبل الفساد لا بالسبب بما هو سبب، إذ

المفروض كون الإقرار بالسبب بما هو سبب، هو العلة التامة لثبوت الملكية ظاهرا الّذي هو محل الكلام في جواز الاستناد إليه في الشهادة و لا جوازه.

بل المراد ان الملكية الثابتة باليد ان كانت هي الملكية التي تكون موضوع الدعوى و مصبها بالإقرار بها لزم ما هو منتف، و هو عدم سماع دعوى المعترف بها لأن إقراره يكون مكذبا لدعواه، فلا بد ان تكون ملكية أخرى غير ما هي مصب الدعوى.

و بهذا التوجيه لكلام المحقق لا يتوجه عليه شي ء أصلا، إلا ما قد يقال- كما عرفت من كلام صاحب المستند- من: ان موضوع الدعاوي ليس إلا الملكية الظاهرية لعدم ثبوت الملكية الواقعية خارجا، لأن إحراز الملكية بأسبابها انما يكون بتوسط الأصول و الطرق، فالثابت هو الملكية الظاهرية و اليد تثبتها.

فيأتي الإشكال و هو: لزوم عدم سماع الدعوى بالإقرار بها مع انه يناقش فيه. فلا بد من رجوع كلامه إلى نفي حجية اليد على الملكية بالمرة لا نفي حجيتها على الملكية التي تكون موضوع الخصام لعدم تماميته حينئذ.

و لكن يمكن التخلص عنه: بان الطرق و الأصول الجارية في إثبات الملكية ليست كلها في عرض واحد، بل هي طولية، لأن بعضها يجري في أصل السبب كأصالة القصد الجارية عند الشك في تحقق قصد الإنشاء في البيع، و اليد الجارية عند الشك في ملكية البائع و غيرهما. و بذلك تتحقق الملكية من ناحية السبب. ثم الدليل على هذه الملكية انما هو اليد و البينة و الاستصحاب و شبهها، و الملكية الثابتة بهذه الطرق كلها ظاهرية و ليست واقعية. فعند دعوى المدعى ملكية المال و إقراره باليد يعلم منه بقرينة الإقرار باليد بان موضوع دعواه ليست الملكية الظاهرية مطلقا و

لو كانت الثابتة باليد- لأنه تكذيب لدعواه-، بل الملكية الظاهرية التي تكون في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 59

مرحلة سابقة على اليد و في مرتبة الأصول في السبب- مثلا- و كذلك لو لم يقر باليد و لكن كانت اليد معلومة له.

و عليه، فموضوع الدعوى غير الملكية الثابتة باليد، فيشكل جواز الشهادة استنادا إلى اليد، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. فلا إشكال على المحقق في كلامه.

نعم، في صورة عدم إقراره باليد و عدم وضوحها له، لا مانع من جواز الشهادة لمن يعلم باليد. لأن دعواه انما هي الملكية الظاهرية مطلقا- ان لا قرينة على إرادة الملكية الظاهرية في المرحلة السابقة على اليد- و هي معلومة بالوجدان بمقتضى اليد، فتجوز الشهادة بها.

فالمتحصل: انه لا بد من التفصيل بين صورة الإقرار باليد أو العلم بها و صورة عدمها. ففي الأولى لا تجوز الشهادة بمقتضى اليد، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. و في الثانية لا مانع منها لاتحاد مصب الدعوى مع المشهود به. فالتفت و تدبر.

و أما الاستدلال على جواز الشهادة بمقتضى اليد برواية حفص بن غياث المتقدمة في أدلة حجية اليد و رواية معاوية بن وهب التي ذكرها في الوسائل مستشهدا بها على جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب، ففيه منع:

أما رواية حفص، فهي مضافا إلى ما تقدم من مناقشة دلالتها على حجية اليد على الملكية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها في إثبات الحكم.

و أما رواية ابن وهب، فهي غير دالة على المطلوب، لأن ظاهر السؤال فيها ان الشخص يرى استحقاق الورثة للمال بمقتضى الموازين الظاهرية، لكن القاضي لا يعمل بذلك تعنتا بل متوقف على الشهادة، كما هو ظاهر قوله: «و لا تقسم»، فسأل الإمام

عليه السلام عن جواز الشهادة في مثل ذلك لأجل إيصال الحق إلى أصحابه.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 60

فالحكم بجواز الشهادة هنا لا يستلزم صحة الشهادة في كل مورد حتى المورد الّذي يتوقف ثبوت الحق ظاهرا على الشهادة، إذ الحق في مورد الرواية ثابت ظاهرا مع قطع النّظر عن الشهادة لعدم المدعي في مقابل الورثة المعلومين، فانتبه و لا تغفل.

الجهة الثامنة: في الأيدي المتعددة على العين الواحدة.

لا شبهة و لا إشكال في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة عند تعدد الأيدي عن العين الواحدة.

إلا ان الإشكال في ان الحكم بالملكية المشاعة هل هو من جهة تحقق اليد على الحصة المشاعة أو من جهة أخرى، فالبحث علمي صرف، و هو يقع في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في إمكان تحقق الاستيلاء و اليد على الحصة المشاعة.

الجهة الثانية: في وجود ما يدل على تحققها عليها فيما نحن فيه بعد الفراغ عن إمكان الاستيلاء ثبوتا.

الجهة الثالثة: في جهة الحكم بالملكية المشاعة على القول بعدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ثبوتا أو إثباتا.

أما الجهة الأولى و هو- مقام الثبوت- فتحقيق الكلام فيه يتوقف على بيان المحتملات في معنى ملكية المشاع و معنى الاستيلاء الّذي هو معنى اليد.

أما ملكية المشاع، فقد قيل- كما هو المختار- بأنها ملكية واحدة طرفها متعدد، و هو طرف المالك. فأحد طرفي العلقة الملكية مشدود بالمال و الآخر مشدود بذوي الأيدي، فكل فرد له انتساب إلى هذه الملكية، بحيث تترتب آثار الملكية المستقلة عند انضمام الجميع.

و قيل بأنها ملكيات متعددة بتعدد الحصص، فكل فرد له ملكية مستقلة لحصته الخاصة به. و هذه الملكيات المتعددة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 61

تارة يقال: بأنها متعلقة بأمر شخصي خارجي، و يعبر عنه بالكسر المشاع، بحيث تكون كل

حصة من كل جزء يمكن فرضه للعين مملوكة للفرد، فالمملوك جزء خيالي فرضي.

و أخرى يقال: بأنها متعلقة بأمر كلي من قبيل الكلي في المعين- لامتناع تحقق السريان و الشيوع في الأمر الجزئي- بان يكون المملوك هو الحصة الخاصة من العين المتحققة في ضمن هذا المعين و هو العين.

ثم ان الاحتمالين في الكلي في المعين، و هما كونه امرا خارجيان من قبيل الفرد على سبيل البدل، و كونه أمرا كليا من قبيل الكلي في الذّمّة، فالمملوك أمر كلي في الذّمّة يتصوران هاهنا.

و ان كان الاحتمال الثاني فيه لا مجال له فيما نحن فيه، بل لا معنى له كما لا يخفى [1]. فمن يقول بان الكلي في المعين من مصاديق الكلي في الذّمّة لا وجه له لأن يقول بان ملكية المشاع بنحو ملكية الكلي في المعين. فالاحتمالات في ملكية المشاع- على هذا- ثلاثة:

و أما الاستيلاء، فليس المراد منه قطعا خصوص الاستيلاء الخارجي المقولي، كالاستيلاء على الخاتم بلبسه و على الدّابّة بركوبها، لصدق اليد على الأراضي الواسعة مع عدم تحقق الاستيلاء الخارجي عليها.

فلذلك ذكر المحقق الأصفهاني: بان المراد منه أعم من الاستيلاء المقولي و الاستيلاء الاعتباري، كالاستيلاء على الأعيان الواسعة، فانه بالبناء العرفي يعتبر الاستيلاء عليها و ان لم يكن بمستول عليها حقيقة «1».

و لكن الإنصاف ان الاستيلاء امر انتزاعي ينتزع عن التصرفات الخارجية

______________________________

[1] وجهه ان مقتضى ذلك كون العين مملوكة لصاحبها الأول و الشريكان لهما في ذمته- لأن الملكية لم تتعلق بأمر خارجي في المعين أصلا- و لا يظن وجود قائل بذلك فالتفت.

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 331- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 62

في العين، حتى في مثل لبس

الخاتم و ركوب الدّابّة، فالاستيلاء الحاصل على الأعيان الواسعة و غيرها استيلاء انتزاعي لا اعتباري قائم بوجود المعتبر، بل له وجود حقيقي، غاية الأمر انه انتزاعي و لا حقيقي مقولي. ففي الاستيلاء احتمالان.

ثم ان الاستيلاء الحقيقي المقولي في مورده لا يمكن تصوره على الحصة المشاعة بأي معنى من المعاني التي ذكرناها لملكية المشاع، لأنه يكون على العين كلها، إذ لا وجود للحصة المشاعة متعينا كي يتحقق الاستيلاء عليه خارجا.

و أما الاستيلاء الاعتباري، فهو خفيف المئونة، إذ لا يحتاج إلى مئونة خارجية أصلا، لتقومه بنفس المعتبر و ليس له ما بإزاء في الخارج، فيمكن تحققه على الحصة المشاعة بأي تصوير ذكر لملكيتها، و يكون شأنه شأن ثبوت الملكية لها الّذي هو ثبوت اعتباري، فكما يتصور ملكية الحصة المشاعة و اعتبارها على جميع الاحتمالات، كذلك يمكن تصور اعتبار الاستيلاء عليها.

و أما الاستيلاء الانتزاعي، فتصوره بالنسبة إلى الحصة المشاعة على الاحتمال الأول لملكيتها ممكن، لأن العقلاء ينتزعون من تصرف الشخصين بالعين تصرفا خارجيا مع استئذان كل واحد منهما من الآخر و بلا مزاحمة ثالث لهما، استيلاؤهما على العين بنحو يناسب ملكيتهما للعين، بحيث يكون استيلاء كل منهما ناقصا و بانضمامهما يكون استيلاؤهما استيلاء تاما، فهو يناسب الملكية بالمعنى الّذي اخترناه.

و أما على الاحتمال الثاني، فانتزاع الاستيلاء على الحصة المشاعة من التصرفات الخارجية لا يمكن تحققه، لأن التصرفات الخارجية لا تكون في الكسر المشاع، لأنها انما تكون في الأمور المفروزة المتعينة، فهي تقع على العين كلها.

نعم، التصرفات المعاملية كالبيع و الهبة و الصلح يمكن تحققها بالنسبة إلى الكسر المشاع. فمنها يمكن انتزاع تحقق الاستيلاء على الكسر المشاع.

و مثله- في الكلام- الاحتمال الثالث الّذي هو جعل الحصة المشاعة بنحو الكلي

في المعين، و لكنه أمر خارجي على سبيل البدل.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 63

هذا كله في مقام الثبوت.

و أما الجهة الثانية- و هو مقام الإثبات- الّذي يكون الكلام فيه في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة خارجا و عدم تحققه.

فأما على الاحتمال الأول في ملك المشاع، فلا إشكال في انتزاع الاستيلاء خارجا و الحكم بالتنصيف من جهة اليد، إذ لا يحتاج ذلك إلى أكثر من موضوع المسألة المفروض، و هو كون العين بيد شخصين أو أكثر يتصرفان فيها. كما ان اعتبار الاستيلاء أيضا متحقق.

و أما على الاحتمالين الأخيرين، فحيث لا تصرفات خارجية واقعة على الحصة المشاعة تكشف عن اعتبار الاستيلاء عليها، أو ينتزع عنها الاستيلاء، لأنها تقع على العين كلها فلا تحقق لليد على الحصة المشاعة، بل اليد على العين بمجموعها.

نعم، إذا رؤي منهما التصرفات المعاملية الواقعة على الحصة المشاعة يحكم باستيلائهما على الحصة أو ينتزع عنها ذلك.

و لكنه فرض زائد على موضوع المسألة- كما لا يخفى.

ثم انه في صورة عدم ثبوت الاستيلاء على الحصة المشاعة إثباتا أو ثبوتا، فلا بد من بيان الوجه في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة- و هو الجهة الثالثة من جهات البحث-:

و قد ذكر للحكم بالتنصيف و الملكية المشاعة وجوه:

الوجه الأول: ما في المستند من دلالة رواية يونس بن يعقوب- الواردة في المتاع- على ذلك، لقوله عليه السلام: «و من استولى على شي ء منه فهو له»، فانها تدل على ان المستولي على شي ء فهو له، و هذان الشخصان قد استوليا على هذا المال فهو لهما، و بمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.

و يعضده الروايات الدالة على الحكم بالتنصيف فما لو تداعى شخصان مالا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)،

ج 7، ص: 64

و كان بيدهما و لم يكن لأحدهما بينة أو كانت لكليهما «1»، ثم انه نفي دلالة رواية حفص على ذلك، فانه بعد ما ذكر توهم دلالتها باعتبار انها تدل على الملازمة بين جواز الشراء ممن بيده المال و الشهادة بملكيته، فكلما جاز الشراء جازت الشهادة بالملكية، و لا إشكال في جواز شراء العين من هذين الشخصين، فمقتضى الرواية الدالة على الملازمة هو الحكم بملكيتهما للعين. ذكر: ان هذا غير تام، لأن الرواية إنما تدل على ان هذا المال الّذي بيديهما بينهما دون غيرهما، فملكيته لا تتعداهما إلى ثالث، اما انه لكليهما أو لأحدهما فذلك لا تدل عليه الرواية و أجنبي عن مفادها «2».

و لا يخفاك ان ما ذكره بجهاته الثلاثة غير تام.

أما رواية يونس بن يعقوب، فهي انما تدل على المدعى لو قلنا بأن لهما استيلاء واحدا يرتبط بهما معا، كما قررناه على الاحتمال الأول لملكية المشاع، فانه يكون مشمولا للرواية، لأن هذا المال يكون لهما استيلاء عليه فهو لهما، لاندراجهما تحت: «من استولى» أما لو قلنا بان لكل منهما استيلاء مستقلا تاما- كما عليه صاحب المستند- فلا يتم ما ذكره من دلالتها على المدعى، لأن كلا منهما يكون مشمولا للرواية- لا كليهما معا- لأن له استيلاء على المال كله، و مقتضى الرواية ثبوت المال له، فيتعارضان.

و أما ما ذكره من انه تعضده الروايات الواردة في مقام التداعي، فلا وجه له، لما ستعرفه من أن محل الكلام ما لم يكن أي دعوى و تداع في البين و وجود الفرق بين الصورتين.

و أما ما ذكره بالنسبة إلى رواية حفص، فالوجه الّذي يرتكز عليه ما ذكره

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18- 188 باب: 12- من

أبواب كيفية الحكم، الحديث: 3.

(2) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة 2- 579- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 65

بحيث يخرج عن كونه دعوى جزافية، هو انه لاحظ بان الحكم بملكية ذي اليد انما هو بلحاظ نفي ملكية الغير باليد، و استفادة ملكية الشخص ذي اليد تكون بالملازمة، فمصب الرواية انما هو على نفي ملكية الغير كما يشهد به قول السائل:

«فلعله كان لغيره».

و لكنه غير سديد، فان الظاهر من الرواية كون الملحوظ هو الحكم بملكية ذي اليد باليد بلا لحاظ نفي ملكية الغير. و أما قول السائل المذكور، فهو لبيان وجود الشك في ملكية ذي اليد، إذ لو لم يشك في انه لغيره لا وجه للتوقف في ملكية ذي اليد، فالحكم بالملكية لا يرجع أولا إلى نفي ملكية الغير، بل إلى إثبات ملكية ذي اليد و عدم الاعتناء بالشك.

و على أي حال فليس تحقيق ذلك بمهم بعد ضعف سند الرواية و عدم دلالتها على حجية اليد على الملكية.

الوجه الثاني: قاعدة العدل و الإنصاف. المستفادة من الروايات الواردة في الموارد الجزئية، و مقتضاها الحكم بالتنصيف و الشركة فيما لو دار المال بين شخصين مع عدم المرجح لملكية أحدهما بالخصوص، لأنه مقتضى الإنصاف، فان الترجيح بدون مرجح ينافيه.

و لكن الإنصاف عدم تمامية الاستدلال بها فيما نحن فيه، لأنها- على تقدير تسليمها- انما تتم في صورة العلم بعدم ملكية غير هذين الشخصين، و دوران ملكية العين بينهما فقط، فلا بد في الاستدلال بها على المدعى من فرض العلم بعدم ملكية غير من بيدهما المال، أو ادعاء ان اليد من الأمارات و ان الأمارة تثبت اللوازم و حجة في الدلالة الالتزامية فاليد حجة فيها. و قد تقرر

في محله انه في صورة وقوع المعارضة بين الأمارتين يسقط عن الحجية خصوص مورد المعارضة من الدلالات و يبقى الباقي على حجيته، فيسقط في المقام خصوص الدلالة المطابقية التي موضوعها ملكية ذي اليد للمال لكل من اليدين لمعارضتها بالدلالة الالتزامية لليد الأخرى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 66

أما الدلالة الالتزامية على نفي ملكية غير ذوي اليدين فهي باقية على حجيتها، لعدم كونها موضوع المعارضة.

و كلا الفرضين ممنوعان.

أما فرض العلم، فلأنه خلاف الفرض و محل الكلام، لأن المفروض تردد الملكية بينهما و بين غيرهما، لا بينهما بالخصوص. مضافا إلى ان المدعى ثبوت الحكم المذكور لهذه الصورة مطلقا، و القاعدة لا تشملها بجميع افرادها.

و أما الفرض الثاني، فقد عرفت عدم ثبوت أمارية اليد، كما عرفت انها لو كانت فلا تكون حجة في الدلالة الالتزامية، لأن الأمارات ليست حجة فيها بقول مطلق.

و أما الحكم بعدم ملكية الغير في صورة الحكم بملكية شخص، فهو ليس لأجل الدلالة الالتزامية، بل لأجل الملازمة الظاهرية بين ثبوت ملكية الشخص و عدم ملكية غيره، و هي غير متحققة فيما نحن فيه، لأن اليد سقطت عن الحجية على الملكية بالمعارض فلا يترتب عليها ما هو أثر الملكية الظاهرية.

الوجه الثالث: الاستدلال بالخبر المرسل الدال على التنصيف في ما لو تداعى في عين اثنان و لا يد لهما عليها «1». ففي الفرض لما كانت يد كل منهما حجة على ملكيته فيتساقطان لمزاحمة كل منهما الأخرى، إذ لا يمكن اجتماع سببين متزاحمين على مسبب واحد، لاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلتين لعين واحدة، و إذا سقطت اليدان عن الحجية تكون العين كما لو لم يكن للمتداعيين عليها يد فيشملها المرسل الحاكم بالتنصيف.

و هذا الوجه- كأخويه- غير وجيه، لأن

مورد الخبر صورة التداعي و وجود الدعوى على الملكية. و المفروض في المقام عدم وجود شي ء من ذلك غير اليد،

______________________________

(1) سنن البيهقي 10- 255، إلاّ ان فيها (ليس لأحدهما بيّنة).

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 67

بحيث يكون الشك في ملكيتهما أو عدم ملكيتهما و ملكية غيرهما، لا في ملكيتهما أنفسهما و انه أيهما المالك.

و عليه فلا يتجه الاستدلال بالخبر المذكور، إذ الحال يفترق بين وجود الدعوى و عدمه، لأن الدعوى لما كانت بمنزلة الاخبار، فدعوى كل منهما الملكية كما تكون إخبارا بها تكون اخبارا بلازمها و هو عدم ملكية غيره- لأن الاخبار بالشي ء اخبار بلازمه- فدعواهما بالنسبة إلى نفي ملكية غيرهما معا دعوى بلا معارض. و من المعلوم الحكم على طبقها، فملكية الغير معلومة العدم حكما في صورة الدعوى، فيكون الفرض من موارد قاعدة العدل و الإنصاف التي يحكم فيها بالتنصيف المشاع مع عدم المرجح لأحد المتداعيين.

و هذا بخلاف صورة عدم الدعوى، لعدم العلم بعدم ملكية الغير. و المفروض فيما نحن فيه ذلك. فتعدية الحكم من تلك الصورة إلى هذه بلا ملاك و مستند.

و من هنا ظهر عدم صحة التمسك بالروايات الدالة على الحكم بالتنصيف في صورة التداعي و كون العين بيد المتداعيين و عدم المرجح- كما فعل صاحب المستند كما مر عليك.

و على هذا يتضح عدم صحة التمسك بأحد هذه الوجوه.

فالذي ينبغي أن يقال: انه على الاحتمال الأول في ملكية المشاع حيث انه لا إشكال في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة، فالحكم بملكيتها لأجل اليد و شمول دليل اعتبارها.

و أما على الاحتمالين الأخيرين، فقد عرفت عدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة.

فان قلنا: بان الاستيلاء على تمام العين و ان كان استيلاء مستقلا، الا

انه استيلاء ناقص ضعيف بحيث يكون استيلاؤهما بمنزلة استيلاء واحد تام- بتقريب ان التصرف إذا خرج عن الاختيار و كان قهريا لم ينتزع عنه عنوان الاستيلاء،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 68

و التصرف منهما و ان لم يكن في نفسه قهريا بل باختيارهما، لكنه حيث يتوقف على الاذن من الطرف الآخر كان قهريا من هذه الجهة، فيكون استيلاء كل منهما استيلاء ضعيفا لأن فيه جهة غير اختيارية- أمكن دعوى وجود بناء العقلاء على ملكيتهما للمال دون غيرهما من دون تعيين الحصة، و بمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة يكون الحكم هو التنصيف.

و ان قلنا: بان استيلاء كل منهما استيلاء مستقل تام- كما عليه صاحب المستند فانه ذكر انه لا مانع من تحقق استيلاءين كذلك على عين واحدة- بحيث لو كان وحده لدل على ملكية المستولي وحده للعين، فلا محيص عن القول بسقوط اليدين عن الحجية للتزاحم.

و لا وجه حينئذ للحكم بالتنصيف و الملكية المشتركة المشاعة، فتدبر جيدا.

الجهة التاسعة: في الحجية اليد مع شك ذيها في الملكية.

و قد حررت هذه المسألة على نحوين:

الأول: يرتبط بتكليف نفس ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده لو شك في ملكيته له، فهل يترتب آثار الملكية بملاك اليد أو لا؟

الثاني: يرتبط بتكليف الغير بالنسبة إلى ما في يد الشاك المصرح بعدم العلم، فهل يترتب على ما في يده آثار ملكيته له مع تصريحه بعدم علمه بملكيته للمال، أو تختص حجية اليد بصورة دعواه الملكية أو سكوته.

و قد حرر المسألة بهذا النحو صاحب المستند (قدس سره). كما حررها بالنحو الأول المحقق الأصفهاني (قدس سره). و لا يختلف الحال فيما هو المهم على التقديرين.

و العمدة في ثبوت دعوى الاختصاص- كما عليه صاحب المستند- خبرا جميل بن صالح و إسحاق

بن عمار.

أما صحيحة جميل بن صالح: «رجل وجد في بيته دينارا. قال: يدخل منزله

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 69

غيره؟ قلت: نعم كثير. قال: هذه لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال:

يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا. قال: فهو له» «1»، فقد قرب صاحب المستند الاستدلال بها على المدعى- بعد ان بين قصور أدلة اعتبار اليد عن شمول هذه الصورة- بأنه عليه السلام حكم فيما هو في داره الّذي لا يعلم انه له مع كونه في يده على ما مر و مستوليا عليه أنه ليس له. و أيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.

فالصدر يدل على عدم حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد في صورة التردد «2».

و يرد عليه ما أفاده السيد الطباطبائي (قدس سره) في ملحقات العروة من:

ان عدم إدخال شخص غيره يده في صندوقه لا يلزم منه ارتفاع الشك في كون الدينار له أو لغيره، و لا يوجب العلم بعدم كونه لغيره، إذ يمكن ان يكون الشك من جهة كونه عارية أو أمانة أو غيرهما، أو من جهة وضع غيره للدينار في صندوقه اتفاقا، و لا ينافي ذلك ما هو المفروض من عدم إدخال شخص غيره يده عادة «3».

فالذيل يدل على عدم الاختصاص، لأنه حكم بملكية ذي اليد مع تحقق الشك لديه في ان الدينار له أو لغيره.

و لكنه (قدس سره) أورد على استدلال صاحب المستند بالصدر: بأنه لم يصرح فيه بأنه لا يعلم انه له أو لغيره، بل الظاهر علمه بأنه ليس له، فهو أجنبي عما نحن فيه.

و لكن ما ذكره رحمه اللّه غير واضح الوجه،

إذ لا ظهور في الرواية و لا قرينة على ما ادعاه من فرض العلم بعدم كون الدينار له، بل الموارد الغالبة على خلافه، فان الغالب فيما لو وجد الشخص في داره مالا حصول الشك في كونه له أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17- 353 باب 3 من أبواب اللقطة، الحديث: 1.

(2) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة 2- 577- الطبعة الأولى.

(3) الطباطبائي الفقيه السيد محمد الكاظم. العروة الوثقى 3- 120- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 70

لغيره، و العلم بعدم ملكيته انما يكون في موارد خاصة- ليس في الرواية ما يدل على المورد منها- كما لو كان صاحب الدار عارفا بمقدار ما يملكه من المال، أو كان ما وجده نحوا من المال يخالف نحو ما يملكه عادة.

و قد أورد المحقق الأصفهاني رحمه اللّه على الاستدلال بصدر الرواية على المدعى بما يرجع إلى ان عدم حكم الإمام عليه السلام في المورد بملكية ذي اليد انما كان لأجل معارضة غلبة اليد المالكية بغلبة أخرى.

و ذلك لأنه مع كثرة الداخلين يكون احتمال كون المال لذي الدار معارضا بالاحتمالات الكثيرة التي موضوعها كون المال لغيره، يكون ضعيفا، فلا غلبة في صورة وجود الداخل، فينتفي ملاك حجية اليد على الملكية «1».

و لكن ما ذكره (قدس سره) عجيب، لأنه جار في جميع موارد الشك في ملكية ذي اليد التي يدور الأمر بين ملكيته و ملكية غيره غير المعين، لتعدد الاحتمالات المعارضة لاحتمال كون المال لذي اليد و كثرتها، كما لا يخفى.

و أما احتمال انه مع تعدد الداخل للدار أو الواضع في الصندوق يتعدد الاستيلاء على الدار و على الصندوق، و معه تكون اليد معارضة بيد أخرى، دون صورة التفرد.

فهو و

ان لم يبعد بالنسبة إلى الصندوق، إذ قد يتعارف إذن صاحب الصندوق لغيره في الاستفادة من صندوقه بوضع المال، لكنه بعيد بالنسبة إلى الدار، إذ دخول الناس في دار الغير و لو كان كثيرا لا يحقق الاستيلاء على الدار.

و الّذي ينبغي ان يقال: ان الاستيلاء كما عرفت منتزع عن التصرف الخارجي الاختياري، فإذا لم يكن وضع الشي ء في دار إنسان بعلمه و اختياره لم يعد عرفا مستوليا على ذلك المال.

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية 3- 333- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 71

نعم، إذا وضعه بنفسه أو بإذنه كان مستوليا عليه و ان غفل بعد ذلك عنه.

فمع عدم إحراز استيلائه و ان هذه العين التي يشك في ملكيتها الآن هو كان قد وضعها في هذا المكان ليكون مستوليا عليها عرفا، أو وضعها غيره بلا علمه و اختياره فلا يكون مستوليا عليها لعدم تحقق منشأ الاستيلاء عليها منه أصلا.

لا يصح الحكم بملكيته لعدم إحراز يده على المشكوك فلا ملاك للحكم بملكيته.

و من هذا القبيل مورد الصدر- أعني: الدينار الموجود في الدار- فانه بعد ان كان يدخل إلى الدار غيره كان استيلاؤه على الدينار الموجود فيها غير محرز، لاحتمال كونه من غيره و لم يكن وجوده في الدار عن اختياره، فلا يكون مستوليا عليه. فلذلك لم يحكم عليه السلام بملكية صاحب الدار للدينار، بل حكم بأنه لقطة.

و أما مع إحراز استيلائه كان الحكم بملكية المشكوك متعينا لتحقق ملاكه.

و منه مورد الذيل، و هو الدينار الموجود في الصندوق، لأنه إذا لم يكن أحد غيره يدخل يده في الصندوق يتعين كون الواضع للدينار صاحب الصندوق، فيكون الدينار بيده و تحت استيلائه، فالحكم بملكيته على طبق

قاعدة اليد.

فالمتعين في المقام التفصيل بين صورة إحراز الاستيلاء فيحكم بملكية ذي اليد- إذ لا يبعد بناء العقلاء على ذلك- و بين عدم إحرازه فلا يحكم بالملكية لعدم تحقق ملاكها.

و التفصيل في الرواية بين صورة دخول غيره الدار و عدمه و بين إدخال غيره يده في الصندوق و عدمه، إنما هو لأجل ما ذكرناه.

هذا، و لكن الإنصاف ان ذيل رواية جميل لا دلالة له على حجية اليد على ملكية ذي اليد نفسه، إذ هي ظاهرة في انحصار الاستيلاء بذي اليد بنحو يطمئن بكون المال له و عدم احتمال كونه لغيره احتمالا معتدا به، إذ المراد من وضع أحد شيئا

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)؛ ج 7، ص: 72

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 72

في الصندوق ليس وضعه من دون علمه و باستيلاء خاص به، بل وضعه فيه بواسطته و بطريقه بحيث يكون الواضع مباشرة هو صاحب الصندوق، و ذلك بقرينة تقابل وضع شي ء مع إدخال أحد يده في الصندوق. و حينئذ فإذا نفي إدخال أحد يده في الصندوق مع نفي وضع صاحب الصندوق مال الغير فيه، يتعين بحكم العادة كون المال لصاحب الصندوق و كون التردد في غير محله و أشبه بالوسوسة، فقوله (عليه السلام): «فهو له» ليس حكما تعبديا، بل هو اخبار عن نتيجة نفي الأمرين. فتدبر.

و أما رواية إسحاق بن عمار الموثقة: «عن رجل نزل في بعض بيوت مكة، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: فاسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها.

قلت: فان لم يعرفوها.

قال: يتصدق بها» «1». فقد قرب صاحب المستند دلالتها على ما ذهب إليه: بأنه لا شك ان الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل على ما عرفت، و لو انهم قالوا لا نعلم انها لنا أو لغيرنا فيصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم «2».

و المهم في رد الاستدلال بها أمران:

الأول: عدم وضوح تحقق الاستيلاء على المدفون.

و الثاني: ورودها في الكنز، و هو ذو أحكام خاصة لا ترتبط بالقواعد الكلية و الأصول العامة. فلا يتجه الاستدلال بها على الاختصاص.

و الحاصل: أن الظاهر تحقق بناء العقلاء على حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد نفسه مع إحراز استيلائه و يده، و إلا فلا ملاك للحكم بملكيته خارجا. فتدبر.

الجهة العاشرة: في حجية يد المسلم على التذكية.

و ثمرة الكلام انما تظهر في ما لم تكن على المشكوك تذكيته أمارة على التذكية

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17- 355 باب 5 من أبواب اللّقطة، الحديث: 3.

(2) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة 2- 578- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 73

من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو تصرف المسلم بل لم يكن إلاّ في يد المسلم من دون انضمام تصرفه المتوقف على التذكية إليها، أو سوق المسلمين أو غير ذلك من الأمارات الدالة على التذكية، كما لو وجد اللحم في يد المسلم و هو في الطريق و لم يعلم انه ذاهب به ليأكله أو ليلقيه و ينبذه.

فان قلنا: بأمارية يد المسلم بنفسها جاز ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم، و إلا فلا يجوز ترتيبها ما لم ينضم إليها التصرف المتوقف على التذكية.

و حيث تعين محل الكلام، فعدم أمارية اليد على التذكية- بحيث تكون أمارة في قبال أرض الإسلام و سوق المسلمين و تصرف

المسلم واضح، لعدم الدليل عليها أصلا، لأن الاخبار واردة في بيان أمارية سوق المسلمين و أرض الإسلام، و أما يد المسلم فلا دليل على أماريتها.

نعم، هناك خبر واحد وارد في يد المسلم و هو خبر إسماعيل بن عيسى الآتي- إلا أن الحكم بالحلية فيه مرتب على تحقق التصرف المتوقف على التذكية من المسلم دون مجرد كونه في يده، و كون التصرف موردا و لا يخصص الوارد، فلا يدل أمارية اليد بما هي يد.

و على هذا، فلا حاجة إلى صرف الكلام إلى مرحلة الثبوت و تحقيق وجود ملاك الأمارية في يد المسلم و غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن.

نعم، لا بأس في التعرض إلى أمرين:

الأمر الأول: ان حجية سوق المسلمين و أرض الإسلام و تصرف المسلم على التذكية، هل مرجعه إلى أصالة الصحة في فعل المسلم أو أنه جعل مستقل لأمارات مستقلة لا يرتبط بأصالة الصحة؟.

ذهب صاحب الجواهر (قدس سره) إلى ان مرجع الجميع إلى أصالة الصحة في فعل المسلم. و لأجل ذلك حكم بعدم أمارية اليد المجردة عن التصرف المتوقف

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 74

على التذكية «1».

و يورد عليه بما أفاده المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباحه من: أن أصالة الصحة في فعل الغير المسلم انما تثبت صحة العمل الصادر من المسلم المشكوك في صحته للشك في وجود بعض شرائطه- مثلا- و لا تثبت وجود المشكوك و تحققه خارجا، فهي في المقام تثبت صحة البيع أو صحة الصلاة بمشكوك التذكية، أما أنها تثبت التذكية المشكوكة كي تصح صلاة المشتري فيه فلا، فلا وجه لإرجاع أمارية هذه الأمور إلى أصالة الصحة.

و لا يخفى ان البحث المذكور بحث علمي صرف، و لا أثر له

في مقام العمل.

الأمر الثاني: ان اليد على تقدير ثبوت أماريتها على التذكية، فهل هي أمارة مستقلة منفصلة عن سوق المسلمين، أو ان سوق المسلمين أمارة على التذكية باعتبار أماريته على يد المسلم لا باعتباره نفسه، فهو أمارة على الأمارة؟.

و الأثر العملي في هذا الكلام ظاهر، فانه لو كان سوق المسلمين أمارة مستقلة على التذكية للحكم بما في يد الكافر الموجود في سوق المسلمين بالتذكية.

بخلاف ما لو لم يكن أمارة مستقلة، بل كان أمارة على الأمارة للعلم بعدم تحقق يد المسلم التي هي الأمارة في الفرض، فلا أثر لسوق المسلمين. نعم، في صورة الشك بتحقق يد المسلم بان شك في كون ذي اليد مسلما أو كافرا يحكم بمسلميته بمقتضى السوق، و هذا معنى أمارية سوق المسلمين.

و قد ذهب المحقق الهمداني (قدس سره) إلى الثاني مستظهرا ذلك من رواية إسماعيل بن عيسى (موسى خ): «عن الجلود الفراء يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل، أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟. قال (عليه السلام): عليكم أنتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشتركين يبيعون ذلك. و إذا رأيتم

______________________________

(1) النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام 8- 56- الطبعة الحديثة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 75

يصلون فيه فلا تسألوا عنه».

و وجه الاستظهار: انه عليه السلام في فرض الشراء من السوق فصل في مقام وجوب السؤال عن ذكاة الجلد بين كون البائع مشركا فيجب السؤال و كونه مسلما فلا يجب، مما يكشف عن ان السوق بنفسه لا عبرة فيه، بل انما يعتبر باعتبار كشفه عما هو أمارة و هو يد المسلم و لذلك لم يعتبر في صورة العلم بيد الكافر في مورد الرواية، إذ لا موضوع

لأمارية السوق حينئذ «1».

و فيه ما لا يخفى، فانه لا ظهور و لا قرينة في الرواية المذكورة على كون المورد من موارد سوق المسلمين، و كون الملحوظ فيها أماريته و عدمها، بل ذيل الرواية الّذي يقتضي إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية تصرف المسلم بالصلاة يدل على عدم لحاظ السوق أصلا، و إلا لكان المناسب إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية بيع المسلمين لإحراز يدهم و تصرفهم.

فالإنصاف ان هذه الرواية لا تدل على ما ذهب إليه الفقيه الهمداني (رحمه اللّه)، فتبقى عمومات اعتبار سوق المسلمين في الحكم بالتذكية سالمة عن المخصص.

و بذلك يكون السوق أمارة بنفسه على التذكية.

الجهة الحادية عشرة: في أمارية يد الكافر على عدم التذكية

. و يلحق بهذا البحث الكلام في أمارية أرض الكفر و سوق الكفار على عدم التذكية.

فهل أن يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية، أو انها ليست بأمارة، و الحكم بعدم التذكية في موردها لأصالة عدم التذكية؟ و مثلها أرض الكفر و سوق الكفار.

و الثمرة في هذا الكلام تظهر في موارد:

منها: ما لو تعارض سوق المسلمين و يد الكافر، بان كان اللحم بيد كافر بائع

______________________________

(1) الفقيه الهمداني الشيخ آغا رضا مصباح الفقيه- 141- كتاب الطهارة- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 76

في سوق المسلمين، فانه بناء على ان الحكم بعدم تذكية ما في يد الكافر لأجل أمارية يده على عدم التذكية، تتعارض الأمارتان- أعني سوق المسلمين و يد الكافر- و بناء على ان الحكم المذكور من جهة أصالة عدم التذكية يكون السوق مقدما على اليد، لأنه إمارة و هي واردة على الأصل كما لا يخفى.

و منها: ما لو اجتمعت يد الكافر و يد المسلم و يتصور ذلك فيما لو كانت يد الكافر على جزء

من الحيوان و يد المسلم على جزء آخر، لأن الحكم بالتذكية أو عدمها إنما يكون بالنسبة إلى مجموع الحيوان لا إلى خصوص الجزء الموجود في اليد إذ التذكية التي تكون اليد أمارة عليها أو على عدمها إنما هي تذكية الحيوان كله لا تذكية هذا الجزء خاصة الّذي تحت اليد. فتدبر- فانه على القول بأمارية يد الكافر تتعارضان. و على القول بعدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على أصالة عدم التذكية.

و منها: ما لو كانت الذبيحة فعلا بيد كافر و كانت قبلا بيد مسلم فانه بناء على أمارية يد الكافر تكون متعارضة مع يد المسلم لأنها حين حدوثها كانت أمارة على التذكية حدوثا و بقاء، فتتعارض الأمارتان. و بناء على عدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على الأصل.

و قد استدل لأمارية يد الكافر و أرض الكفر و سوق الكفار بأمور:

الدليل الأول: مصحح إسحاق بن عمار: «لا بأس في الصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام؟. قال (عليه السلام): إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «1».

و الاستدلال بها على المدعى من وجوه:

الوجه الأول: مفهوم الشرط، حيث انه عليه السلام علق عدم البأس على

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2- 1072 باب: 50 من أبواب النجاسات، الحديث: 5.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 77

كون الغالب على الأرض المسلمين، فيدل التعليق على ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين و بذلك يثبت المدعى.

و لكنه كما ترى، فان ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين بمقتضى التعليق أجنبي عن أمارية سوق الكفّار الّذي هو المدعى، فانه موضوع آخر و غاية ما يقتضيه التعليق هو ثبوت البأس في هذا المورد، أما ملاكه فلا

تتكفل بيانه الرواية، فقد يكون الملاك هو أصالة عدم التذكية لتحقق موضوعها و عدم الأمارة على خلافها، لكون المفروض عدم غلبة المسلمين، فلا سوق لهم كي يرد على الأصل المذكور. فترتيب البأس على ارتفاع الغلبة قد يكون لأجل ارتفاع الرافع لموضوع الأصل.

الوجه الثاني: مفهوم الوصف، حيث انه عليه السلام علق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة المسلمين، و مقتضاه ثبوت البأس عند الغلبة الموصوفة بغلبة غير المسلمين. فيكون المراد: إذا كان الغالب عليها غير المسلمين ففيه بأس.

و ظاهر ذلك استناد ثبوت البأس إلى غلبة غير المسلمين لا إلى أمر آخر، لأن موضوع ثبوت البأس و عدمه في الموردين هو الغلبة، و الاختلاف في الحكم انما كان من جهة الاختلاف في الوصف.

و هذا الوجه غير سديد، لما حقق في محله من عدم حجية مفهوم الوصف و عدم اعتباره شرعا.

الوجه الثالث: ان الظاهر كون الإمام عليه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين- أعني: التذكية و عدمها- لا أنه في مقام بيان حكم طرف دون آخر.

و حيث انه جعل المناط في الحكم بالتذكية هو غلبة المسلمين يكون ذلك قرينة منه على اعتبار الغلبة في الطرف الآخر، فان المناط ثبوتا في التذكية و عدمها هو الغلبة.

فاستفادة اعتبار غلبة الكفار في الحكم بعدم التذكية ليس من جهة المفهوم، كي يقال بان الوصف غير المعتمد على موصوف لا مفهوم له، بل من جهة قرينة المقام، و هي

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 78

كونه عليه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين لا إعطاؤه في طرف، و إيكال السائل إلى جهله في طرف آخر.

و هذا الوجه- كأخويه- لا يجدي لإثبات المدعى، لأن ما يرتكز عليه من كون الإمام

عليه السلام بصدد بيان الضابط للطرفين غير مسلم لأن المسئول عنه و الّذي كان الإمام بصدد بيان حكمه ليس الا ما كان مصنوعا في أرض الإسلام. أما ما كان في أرض الكفر أو سوق الكفار، فلا ظهور في الخبر على انه عليه السلام كان بصدد بيان حكمه. فجعل الضابط في طرف هو الغلبة لا يستفاد منه كونه هو الضابط في الطرف الآخر لقرينة المقام. فالتفت.

الدليل الثاني: رواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة.

و قرب المحقق الأصفهاني (قدس سره) دلالتها على أمارية يد الكافر: بأنها- بمقتضى الأمر بالسؤال- تدل على وجوب الاجتناب عما كان بيد الكافر، فيدور الأمر بين ان يكون منشأ ذلك أصالة عدم التذكية، أو عدم الأمارة الرافعة و هي يد المسلم أو يد الكافر. و حيث ان الظاهر كون المنشأ هو الثالث تحفظا على ظهور كون الإسناد إلى ما هو له، كان ذلك دليلا على أماريتها، لأنها لا تكون بنفسها حجة على عدم التذكية الا إذا كانت أمارة «1».

و لكن الإنصاف انها لا تدل على المدعى، لأن الظاهر ان وجوب السؤال هو الّذي تدل عليه الرواية و هو وجوب شرطي لا نفسي. فيرجع مفادها إلى انه إذا أريد ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم الّذي هو بيد المشرك فلا بد من الفحص، و لا يكفي في ترتيب الآثار كونه بيد المشرك. بخلاف ما إذا كان بيد المسلم فان ترتيب آثار التذكية جائز بمجرد كونه بيد المسلم بلا فحص و سؤال. فينتزع من هذا حجية يد المسلم و أماريته دون يد المشرك، و لا ينتزع منه أمارية يد المشرك على

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 344- الطبعة الثانية.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7،

ص: 79

العدم، لأن مرجع وجوب السؤال إلى عدم الاعتناء بيد المشرك و عدم ترتيب آثار التذكية عليها، و هذا لا يدل الا على عدم الأمارية لا على الأمارية على العدم.

و بالجملة: حيث كان الأمر في الرواية بالسؤال و ظهور ذلك في كون وجوبه شرطيا- بمعنى انه شرط لترتيب آثار التذكية- لا يكون في الرواية أي دلالة على أمارية يد الكافر، بل انما تدل على عدم أماريته.

نعم، لو كان الحكم في الرواية بوجوب الاجتناب، لأمكن ادعاء ظهور استناده إلى يد الكافر، فيدل على حجيته على العدم.

و لكن الأمر ليس كذلك، إذ الحكم بوجوب السؤال، و وجوب الاجتناب مستلزم له، و هو- أعني: وجوب السؤال- لا يدل الا على عدم الاعتناء بيد الكافر في مقام ترتيب آثار التذكية.

و هذا انما ينفي الأمارية على التذكية، لا انه يثبت الأمارية على عدمها.

كما يقرر مثل هذا الكلام في وجوب التبين عند اخبار الفاسق المستفاد من آية النبأ، فانه يقال: انه وجوب شرطي مرجعه إلى عدم جواز ترتيب آثار الواقع المخبر به عند اخبار الفاسق الا بعد السؤال و العلم بصحته و هذا انما يدل على عدم حجية خبر الفاسق لا على حجيته على عدم وقوع المخبر به.

الدليل الثالث: انه من المسلم عند الأصحاب انه إذا كانت الذبيحة بيد الكافر في سوق المسلمين أو أرضهم، فهي محكومة بعدم التذكية.

و هذا دليل على اعتبارهم يد الكافر أمارة بحيث تعارض أمارية السوق، فيتساقطان و يرجع إلى أصالة عدم التذكية. و الا فنفس أصالة عدم التذكية لا تجدي، لأنها محكومة للسوق لأنه أمارة بلا معارض.

و فيه: ان تسليمهم ليس بحجة بحيث يمكن التمسك به في قبال القواعد المقررة، لأنهم بين.

من لا يرى السوق

و الأرض أمارة مستقلة، بل هما أمارة على الأمارة- كما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 80

عرفت عن الفقيه الهمداني- ففي صورة العلم بيد الكافر تنتفي أمارية السوق أو الأرض.

و من يرى رجوع هذه الأمارات إلى أصالة الصحة في فعل المسلم كما عرفت عن صاحب الجواهر- و هي غير جارية في صورة العلم بكون اليد يد كافر.

و من يرى تخصص عموم أمارية السوق بيد الكافر، لرواية إسماعيل بن عيسى، فلا يكون تسليمهم بذلك حجة على من لا يرى رأيهم- بل ليس بناء منهم على أمارية يد الكافر- فيلتزم بعدم الاعتناء بيد الكافر في سوق المسلمين.

هذا، مضافا إلى ان تسليمهم لا يدل على بنائهم على أمارية يد الكافر، بل يمكن أن يكون لأجل انتفاء ملاك أمارية سوق المسلمين بالنسبة إلى يد الكافر و هو الغلبة- و ستأتي الإشارة إليها عن قريب. كما يلتزمون بسقوط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته للشهرة مع التزامهم بحجية الخبر و عدم حجية الشهرة.

بتوجيه: ان الشهرة توجب عدم الوثوق بصدق الخبر الّذي هو ملاك حجيته- و ان أورد عليهم بان الملاك خبر الثقة لا الخبر الموثوق به.

و بالجملة: فمن الممكن ثبوتا تصور التزام الأصحاب بتقدم اللاحجة على الحجة لبعض الوجوه.

و المتحصل: انه لا دليل على أمارية يد الكافر و أرض الكفار و سوقهم على عدم التذكية، و ليس الثابت إلا عدم حجيتها.

الجهة الثانية عشرة: في ان يد المسلم نفسها أو مع اقترانها بالتصرف

، هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستحل للميتة بالدباغ؟.

قد ذكر المحقق الأصفهاني «1»: ان الكلام يكون تارة في مقام الثبوت. و أخرى

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 347- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 81

في مقام الإثبات.

أما الكلام

في مقام الثبوت، فمحصله: ان الحكم بالتذكية إما أن يكون لأجل توقف حفظ النظام عليه و التسهيل على المؤمنين به. أو لأجل الغلبة- أعني: غلبة كون ما في أيدي المسلمين من ذبائحهم- و إما لأجل ظهور حال المسلم في إحراز التذكية عند تصرفه المتوقف على التذكية.

فعلى الأول: فهو متحقق بالنسبة إلى ذبيحة المستحل، لأن غالب المسلمين من أهل السنة، و هم يستحلون ذبيحة الكتابي، فالتحرز عن ذبائحهم يوجب العسر و الاختلال غالبا.

و على الثاني: فكذلك، لأن معنى الغلبة كون الغالب مما في أيدي المسلمين مذكى لا غيره، و هو متحقق بالنسبة إلى المستحلين، إذ الغالب مما في أيديهم كونه مذكى بالذبح لا بالدباغ.

و على الثالث: فالامر مشكل، لأن ظهور حال المسلم بالنسبة إلى المستحل غير جار، للعلم بأنه يحرز التذكية بالدباغ، فظهور حاله في إحراز التذكية لا يكشف عن التذكية بالذبح دون الدباغ.

و على كل، ففي الوجهين الأولين لإحراز ملاك الأمارية كفاية.

و أما مقام الإثبات: فالإطلاقات الدالة على أمارية اليد على التذكية مطلقا تامة، و لا يتوهم وجود مقيد لها الا خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«كان علي بن الحسين عليه السلام رجلا صردا فلا تدفيه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ. فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه. فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الّذي يليه، و كان يسأل عن ذلك فيقول: ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة و يزعمون ان: دباغه ذكاته» «1». و الاستدلال بها على

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3- 338 باب: 61 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 2.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 82

التقييد واضح.

و لكنه يشكل بضعف سندها، و عدم صراحتها في الإلزام-

إذ يمكن ان يكون فعله عليه السلام للتنزه اللائق منه بمثل الصلاة أو الاحتياط فانه حسن- بحيث يمكن معارضتها للإطلاقات الواردة في هذه الموارد و تقييدها لها.

و أما ما ذكر: من أنها كما يستدل بها على المنع كذلك يستدل بها على الجواز، للإجماع القائم على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا، و عدم التفكيك بين الاستعمال في الصلاة و غيرها، فلبس الإمام عليه السلام لفرو العراق في غير الصلاة مع استحلالهم الميتة بالدبغ دليل على الجواز، فلا بد ان يحمل نزعه في الصلاة على التنزه.

فغير سديد، إذ لم يعلم قيام الإجماع بنحو يصح الاعتماد عليه، كيف؟ و قد خالف في ذلك بعض مستدلا بهذه الرواية على حلية استعمال الميتة أو ما في حكمها في غير الصلاة.

مضافا إلى ما تشير إليه بعض الاخبار من الفرق بين الاستعمال في الصلاة و غيرها، حيث يسأل السائل عن الصلاة فيما اشتراه من السوق. مما يكشف عن ان جواز الشراء للمشكوك و ما يترتب عليه من استعمال مفروغ عنه لدى السائل، و انما الإشكال في جواز الصلاة فيه.

و على أي حال، فلا إشكال في عدم نهوض هذه الرواية للتقييد فتبقى الإطلاقات على حالها.

الجهة الثالثة عشرة: في أمارية اليد على غير الملكية من الاختصاصات كالزوجية و النسب.

فهل يثبت بالاستيلاء على المرأة زوجيتها له، و على صبي بنوته له أم لا؟.

و البحث في هذه الجهة ليس بمهم، إذ لا يتصور الاستيلاء على الزوجة و الابن خصوصا في زماننا هذا. مضافا إلى عدم الدليل على أمارية اليد في الموردين، الا ما يتوهم من شمول إطلاق قوله عليه السلام: «و من استولى على شي ء منه فهو له».

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 83

و لكن شمولها للمدعى- بعد تسليم دلالتها على أمارية اليد مطلقا بإلغاء خصوصية المورد-

يستلزم فروضا [1]، بعيدة عن الظاهر و الذوق السليم كما لا يخفى.

و عليه، فلا إشكال في عدم أمارية اليد بالنسبة إلى إثبات الزوجية و النسبية، و ان نسب إلى العلامة «1»، السيد الطباطبائي (قدس سرّهما) «2» ظهور أماريتها على البنوة من كلاميهما. فتدبر.

و قد يستدل لثبوت الزوجية بأصالة الصحة، بتقريب: ان المسلم حيث لا يجوز له النّظر و سائر العلاقات إلى الأجنبية، فظاهر حاله يقتضي زوجية المرأة التي ينظر إليها و يباشرها.

إلا انه يشكل: بأن الثابت بها ليس إلا حلية نظره و غيره و عدم حرمته، و أما نفس الزوجية المقصود ثبوتها لترتيب آثارها، فلا تثبت إلا بالملازمة، و ستعرف عدم تكفل أصالة الصحة لإثبات اللوازم.

الجهة الرابعة عشرة: «في قبول قول ذي اليد و إخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته و نحوهما مما يكون من شئون العين.

و قد حكي عن الحدائق ظهور الاتفاق عليه من الأصحاب، و ادعى عليه السيرة المستمرة «3».

______________________________

[1] منها: ان يفرض كون المراد من اللام في «له» أعم من الاختصاص بالملك و الاختصاص بالحق ليشمل مثل الزوجية. و منها: الالتزام بعموم: «شي ء» للإنسان فانه و ان صح إطلاقه عليه بحسب اللغة، إلا انه يندر عرفا ذلك في الاستعمالات فلا يستفاد من لفظ: «شي ء» ما يعم الإنسان.

______________________________

(1) العلامة الحلي. قواعد الأحكام- 230- كتاب القضاء- الطبعة القديمة.

(2) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى 3- 196- الطبعة الثانية.

(3) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة 5- 252- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 84

و قد استدل على ذلك بروايات عديدة:

منها: رواية محمد بن الحسين الأشعري- الواردة في التذكية- «كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: ما تقول في الفرو- يشتري من السوق؟. قال عليه السلام: إذا كان مضمونا فلا بأس» «1». فان الظاهر من الضمان هو اخبار البائع بالتذكية.

و يشكل

الاستدلال بها ..

أولا: بان الظاهر كون موردها سوق المسلم و يده، و كلاهما حجة على التذكية، فلا وجه لتوقف جواز الشراء على أخباره، فالرواية غير واضحة المفاد.

و ثانيا: بأنه لو حمل المورد على غير وجود الحجة، بان حمل على الشراء ممن يستحل الميتة بالدباغ- مثلا- فلا ظهور في إرادة اخبار البائع بالتذكية من الضمان، فيحتمل ان يراد منه توصيف البائع الرافع للغرر، لأن اختلاف الجلد بين المذكى و غيره يوجب تفاوته من حيث السعر و القيمة السوقية، فشراء الجلد مع الجهالة يكون شراء غرريا، بخلاف ما إذا وصفه البائع و كان الشراء للموصوف بالتذكية، فان الغرر يرتفع بذلك و هذا لا ينافي عدم حجية اخبار البائع. أو يراد من الضمان هو الالتزام بكونه مذكى و التعهد بذلك، و هو لا ينافي عموم حجية أخباره- كما أشار إليه المحقق الأصفهاني «2».

و منها: ما ورد في بيع الدهن المتنجس من لزوم إعلام المشتري «3». فانه لو لا حجية خبره و لزوم الأخذ به لما كان وجه لوجوب إعلامه.

و يشكل الاستدلال بها ..

أولا: بان الغالب حصول الاطمئنان بصحة المخبر بالنجاسة، لأنه اخبار عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3- 338 باب 61 من أبواب لباس المصلّي، الحديث: 3.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 349- الطبعة الأولى.

(3) وسائل الشيعة 12- 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 4.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 85

نقص في ماله المبيع، و هو سبب للاطمئنان بصحة الخبر.

و ثانيا: بان الاخبار في الشبهة المصداقية غير لازم، و انما يجب فيما إذا كان عدم الاعلام منشأ لتسبيب ارتكاب النجس- مثلا- كأكله- لما دل على حرمة التسبيب. و ما نحن

فيه من هذا القبيل، فانه بدون الاعلام يكون البائع مسببا إلى شرب النجس، فوجوب الاعلام انما هو لأجل دفع التسبيب، و هذا لا يرتبط بحجية قوله و اخباره- كما لا يخفى.

و منها: رواية ابن بكير الواردة فيمن أعار ثوبا لا يصلى. فيه حيث قال (عليه السلام): «لا يعلمه بذلك. قلت: فان أعلمه؟ قال عليه السلام: يعيد «1»، فان الأمر بالإعادة دليل على حجية خبره و إعلامه، و إلا فلا وجه للأمر بالإعادة.

و للمناقشة فيه مجال، لأن الطهارة شرط بوجودها العلمي لصحة الصلاة لا بوجودها الواقعي، فمع علمه بوقوع صلاته في النجس مع عدم سبق علمه بالنجاسة قبل الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة فضلا عن اخباره بذلك، فالأمر بالإعادة لا يكشف عن حجية إعلامه بالنجاسة، فلا بد من حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب و الاحتياط، و هو غير ملازم لحجية خبره، بل يكفي فيه الاحتمال.

و منها: ما ورد من أمر الإمام عليه السلام باشتراء الجبن من السوق و النهي عن السؤال من البائع «2». فانه يدل على حجية خبره، إذ لو لا حجيته لما اتجه النهي عن السؤال.

و الاستدلال بها غير وجيه لوجهين:

الأول: انه من المعلوم ان كون الجبن من الميتة أو فيه الميتة لا يضر بطهارته و جواز استعماله، للاتفاق على استثناء الإنفحة و اللبن في الضرع من ما لا يجوز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2- 1069 باب 47 من أبواب النجاسات، الحديث: 3.

(2) وسائل الشيعة 17- 91 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث: 4 و 8.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 86

استعماله من الميتة، فالنهي عن السؤال و لو كان خبر البائع حجة غير واضح الوجه كما لا يخفى.

الثاني: انه على

تقدير القول بحرمة استعمال الجبن الّذي فيه الميتة، فمن المحتمل ان يراد من السؤال المنهي عنه الفحص عن حاله، نظير السؤال المأمور به في قوله عليه السلام: «عليكم أنتم ان تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك» «1».

و منها: ما ورد في اخبار البائع بالكيل و الوزن الدال على تصديقه في ما يدعيه من الكيل «2».

و لكنه لم يظهر منه ان ذلك من باب تصديقه فيما يدعيه و حجية اخباره، إذ يمكن ان يكون من باب ارتفاع الجهل بتوصيفه، فيرتفع به الغرر، و هذا لا يلازم حجية خبره.

و من الأمور التي استدل بها على حجية قول ذي اليد: السيرة المستمرة القائمة على ان ذا اليد إذا أقر لأحد المتداعيين فيما في يده به كان المقر له بمنزلة ذي اليد منكرا و يكون الآخر مدعيا فيطالب بالبينة، و ليس هذا أثر الإقرار، لأن اثره خصوص نفيه عن نفسه، اما ثبوته لغيره المعين فليس من مقتضيات الإقرار، فلا بد أن يكون ذلك لحجية قول ذي اليد، فيكون المقر له منكرا لموافقة قوله الحجة.

و يشكل الاستدلال بها، لأنه لم يعلم كون الاتفاق المذكور انما حصل لأجل حجية قول ذي اليد، بل ظاهر المستند- بل صريحه- التمسك لهذه الفتوى بالمستفيضة الدالة على ان لو أقر ذو اليد بما في يده لغيره فهو له «3». و لصدق انه ذو يد عرفا بالإقرار له. و كلاهما أجنبي عن حجية قول ذي اليد كما لا يخفى.

و اما الاستدلال بالمستفيضة الدالة على ان من أقر لعين لأحد فهي له،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2- 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، الحديث: 7.

(2) وسائل الشيعة 12- 257 باب 5 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 6.

(3)

المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة 2- 580- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 87

بدعوى ان ذلك يرجع إلى حجية الاخبار، إذ أثر الإقرار انما هو نفي الملكية عن نفسه لا أكثر.

ففيه: انه يمكن ان الحكم المذكور الّذي تدل عليه المستفيضة من باب نفوذ الإقرار في حق الغير- بملاك: من ملك شيئا ملك الإقرار به- مضافا إلى كون موردها ما لم يكن المقر له طرفا للتداعي مع آخر، فاستفادة كون الحكم بالملكية بالإقرار لا لخصوصية الإقرار بل لحجية الاخبار. و إلغاء خصوصية موردها بحيث يستفاد حجية الاخبار مطلقا مشكل جدا. فتدبر.

فالمتعين هو الاستدلال بالسيرة المستمرة على الأخذ بقول ذي اليد و اعتباره مطلقا من دون اعتبار شروط حجية خبر الواحد فيه. و يسندها خبر معاوية بن عمار: «عن الرّجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج «1»، و يقول: قد طبخ على الثلث: و انا أعرفه انه يشربه على النصف فأشر به بقوله و هو يشربه على النصف؟.

فقال عليه السلام: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه انه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟. قال عليه السلام: نعم «2». فان ذيلهما بقرينة الصدر يدل على جواز الاعتماد على قول ذي اليد مع انتفاء ما يوجب اتهامه في خبره، فتدبر. و باللّٰه الاعتصام. هذا تمام الكلام في قاعدة اليد «3».

و الكلام بعدها في أصالة الصحة.

______________________________

(1) العصير المطبوخ.

(2) وسائل الشيعة 17- 234 باب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث: 4.

(3) تم الفراغ منها: في 22- 6- 1382 ه

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 89

أصالة الصّحّة

اشارة

القواعد

الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 91

أصالة الصحة [1] و الكلام فيها في جهات ثلاث:

الأولى: في موارد جريانها.

الثانية: في مقدار الآثار المترتبة عليها.

الثالثة: في نسبتها مع الأصول و الأمارات.

______________________________

[1] لا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني من تقريب وحدة قاعدة الفراغ و أصالة الصحة بإرجاعهما إلى أصالة الصحة في عمل نفسه و عمل غيره لا يخلو عن منع. و ذلك لاختلاف القاعدتين موضوعا، لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك الحادث بعد العمل، و اما موضوع قاعدة الصحة هو الشك في عمل الغير و لو في أثناء مباشرته للعمل مع اختلافهما موردا، لأن الغالب في موارد قاعدة الفراغ ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في الغفلة. و الغالب في موارد قاعدة الصحة ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في مبالاة العامل و تسامحه و بينهما فرق بعيد. فتدبر. و الأمر سهل لعدم الأثر العملي الواضح لهذه الجهة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 92

و يتضح الكلام فيها بعد معرفة دليل اعتبارها و حجيتها.

و لا بد قبل التعرض إلى ذكر الدليل من بيان أمرين:

الأمر الأول: ان لحمل الصحة مقامات ثلاثة:

المقام الأول: حسن الظن و الاعتقاد بان يكون الشخص حسن الظن بعمل غيره و يعتقد صحته بلا لحاظ الأثر الخارجي المترتب عليه أصلا.

و هو- أعني: الظن و الاعتقاد- و ان كان أمرا غير اختياري، الا ان مقدماته من تصفية النّفس و تمرينها اختيارية، فالتكليف به بلحاظ أسبابه. ان لم نقل بان الاعتقاد أمر اختياري، لأنه عبارة عن عقد القلب، فيصح تعلق التكليف به.

المقام الثاني: مقام المعاشرة، بمعنى ترتيب آثار الصحيح على عمل الغير و قوله في مقام المعاشرة. فيعاشره معاشرة القائل للصحيح

واقعا.

و هذان المقامان يرتبطان بعالم الأخلاق و تحسين الحالة الاجتماعية و حفظ التحابب بين الافراد.

المقام الثالث: مقام ترتيب الأثر الخارجي العملي، بمعنى ترتيب الآثار الخارجية العملية للعمل الصحيح على عمل الغير.

الأمر الثاني: ان هناك حسنا و قبيحا، و صحيحا و فاسدا. و هما يختلفان، بمعنى ان الفساد لا يساوق القبح، و الصحة لا تساوق الحسن- لا يخفى ان المراد من الحسن عدم القبح- فقد يكون العمل فاسدا و لكنه ليس بقبيح، لمعذورية العامل في عمله الفاسد. كما أنه قد ينعكس الفرض فيكون العمل قبيحا و ليس فاسدا، كما في المعاملات التي ينطبق عليها عنوان محرم.

و لا يخفى ان المقام الأول يرتبط بعالم الحسن و القبح لا الصحة و الفساد، كما لا يخفى عليك ان ما نحن بصدده هو المقام الثالث من مقامات الحمل على الصحة المرتبط بالصحّة و الفساد لا بالحسن و القبح.

إذا عرفت هذين الأمرين، فاعلم: انه قد استدل لاعتبار أصالة الصحة في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 93

الجملة

بالأدلة الأربعة:

اما الكتاب: فقد استدل منه بآيات:

الأولى:

قوله تعالى وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً «1». و وجه الاستدلال بها: انه قد جاء تفسيرها في الكافي: «لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا»، و المراد بالقول هو الظن و الاعتقاد، و بما انهما ليسا من الأمور الاختيارية كي يصحح التكليف بهما، فلا بد ان يراد ترتيب آثار الاعتقاد الصحيح، و معاملة الناس في أفعالهم معاملة الصحيح.

و يشكل الاستدلال بها ..

أولا: ان الظاهر انها في مقام النهي عن السب و اللعان و الأمر بالقول الطيب الحسن، كما فسرت في رواية أخرى بذلك [1].

و ثانيا: انه لو سلم إرادة الاعتقاد من القول، فقد عرفت إمكان تعلق التكليف به فلا حاجة إلى تقدير الآثار.

و ثالثا:

انه لو سلم دلالتها على الأمر بترتيب الآثار، فهي انما تدل على ترتيب آثار الحسن لا الصحيح، و قد عرفت الفرق بينهما.

الثانية:

قوله تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «2». حيث يراد من الظن الإثم هو ظن السوء قطعا لا ظن الخير، و حيث ان الظن غير قابل لتعلق التكليف به فلا بد ان يكون المتعلق ترتيب آثار الظن السوء، فهو منهي عنه، فلا بد من الحمل على الصحة.

______________________________

[1] عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً) قال (عليه السلام): قولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم فان اللّه يبغض اللّعان السباب الطعان على المؤمنين الفحاش المتفحش السائل الملحف و يحب الحليم العفيف المتعفف.

______________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 83.

(2) سورة الحجرات الآية: 12.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 94

و الإشكال في الاستدلال بها يعلم مما تقدم، فان الظن قابل لتعلق التكليف به باعتبار أسبابه الاختيارية. مضافا إلى انها لو دلت على حرمة ترتيب الآثار، فهي انما تدل على حرمة ترتيب الآثار، فهي انما تدل على حرمة ترتيب آثار العمل السيئ لا الفاسد.

الثالثة:
اشارة

قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1». حيث تدل على وجوب الوفاء بكل عقد واقع، و معناه ترتيب آثار العقد الصحيح عليه، و الخطاب للناس جميعا.

فهي تدل على وجوب ترتيب آثار الصحة من كل أحد على المعاملة الواقعة.

و يمنع الاستدلال بها لوجوه:

أحدها: ان الخطاب فيها لخصوص المتعاملين لا لجميع المكلفين.

ثانيها: ان المفروض كون مورد الحمل على الصحة مشتبه بالشبهة المصداقية، إذ لا يعلم ان الواقع هل هو العقد الصحيح أو العقد الفاسد الّذي خرج عن العموم بالتخصيص، و لا يصح التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ثالثها: انها أخص من المدعى، لأن المدعى جريان أصالة الصحة في جميع الأعمال لا في خصوص العقود كما تدل عليه الآية.

الأول: في اعتبار التجاوز عن المحل و تعيينه.

لا إشكال في اعتبار التجاوز عن المحل في جريان قاعدة التجاوز، فانه من مقومات موضوعها، لما عرفت من ان التجاوز عن نفس المشكوك مع فرض الشك غير متصور إنما الإشكال في تعيين المحل الّذي لا بد من تحقق التجاوز عنه، فهل هو خصوص المحل الشرعي الّذي قرره الشارع، أو هو أعم منه و من غيره من العقلي و العادي؟- فان المحل.

تارة: يكون مقررا من قبل الشارع، كمحل اجزاء الصلاة، فان الترتيب الخاصّ بينها من مقررات الشارع.

و أخرى: يكون مقررا من قبل العقل بمقتضى الوضع أو غيره و ليس مقررا من قبل الشارع، نظير تقدم: «اللّه» على «أكبر» في التكبيرة، أو تقدم حروف الكلمة بعضها على بعض، فان ذلك ليس من مجعولات الشارع بحيث يكون العكس إتيانا بالمأمور به من غير ترتيب، بل من مقررات العقل، فلو عكس لم يتحقق المأمور به بالمرة بنظر العقل.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 160

و ثالثة: يكون بمقتضى العادة و الالتزام العادة و الالتزام النوعيّ أو

الشخصي، كما لو كان من عادة شخص الصلاة في أول الوقت أو الموالاة في الغسل أو نظير ذلك.

أما التجاوز عن المحل الشرعي فمما لا كلام فيه أصلا.

و انما الكلام في التجاوز عن المحل العقلي أو العادي، فهل تجري قاعدة التجاوز مع حصوله أو لا.

أما التجاوز عن المحل العقلي، فالتحقيق كفايته في جريان القاعدة لإطلاق الأدلة، إذ لم يقيد التجاوز فيها بالمحل المقرر شرعا بل أخذ مطلقا، و يصدق على الدخول في الغير مطلقا تجاوز عن محل الشي ء، و لو كان الترتيب غير شرعي، فيكون مشمولا للأدلة.

هذا مع انه يمكن ان يقال: ان المحل العقلي معتبر شرعا، فيكون محلا شرعيا، و ذلك لأن الأمر يتعلق بالكلمة بكيفيتها الخاصة لا بذات الحروف كيف ما تحققت.

و بعبارة أخرى: ان الأمر متعلق بالكلمة الخاصة، و هي عبارة عن الحروف بالكيفية الخاصة، فالترتيب بين حروف الكلمة ملحوظ في متعلق الأمر، فيكون شرعيا.

هذا مع ما تقدم من عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الكلمة و التكبيرة مع الشك في جزئها مع قطع النّظر عن كون المحل عقليا أو شرعيا. و على هذا فالبحث المزبور يخلو عن الفائدة، فالتفت.

و أما التجاوز عن المحل العادي، فقد بنى الشيخ رحمه اللّه على التأمل في كفايته في جريان القاعدة، لإطلاق الأدلة و عموم التعليل في قوله: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»، فانه ظاهر في تقديم الظاهر على الأصل، فالمدار على الظهور النوعيّ و لو كان من العادة، و لأنه يلزم من جريانها تأسيس فقه جديد و مخالفة إطلاقات كثيرة «1».

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 411- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 161

و لكن الإنصاف ان ما ذكره من شمول

إطلاق الأدلة للفرض و عموم التعليل له غير ثابت، و ذلك لأن الظاهر من الأدلة ان الشي ء المتجاوز عنه مما له محل بالنظر إلى ذاته و بقول مطلق، بحيث لا يختلف فيه مكلّف عن آخر.

و هذا غير متحقق بالنسبة إلى ما له محل عادي، فان كون محل الشي ء هو هذا ليس بلحاظ ذاته بل بالإضافة إلى الشخص أو النوع، فمثل هذا لا يكون مشمولا للأدلة من رأس.

و نظير هذا ما يقال من عدم شمول ما دل على حرمة الصلاة في اجزاء محرم الأكل لما كان محرما بالعرض بالنسبة إلى مكلف خاص- كما لو كان لحم الغنم مضرا له فيحرم أكله عليه-، باعتبار ظهور الدليل في إرادة محرم الأكل بقول مطلق و بالنظر إلى ذاته.

و أما التعليل، فهو لا يقتضي التعميم، لأن ظاهره انه مقام تقديم خصوص ظهور حال المسلم في انه في مقام أداء الوظيفة الشرعية لا يترك ما هو جزء أو شرط على الأصل لا مطلق ظهور حاله، فلا يشمل تقديم ظهور حاله في عدم ترك ما اعتاده النوع أو بشخصه بلحاظ الاعتياد النوعيّ أو الشخصي كما ذكره (قدس سره)، لعدم دخله في مقام أداء الوظيفة الشرعية، لعدم ارتباطه بها، كما لا يخفى.

الثاني: في اعتبار الدخول في الغير و تعيينه.

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز، لأخذه في الرواية في موضوع القاعدة. و إنما الإشكال في أن الغير الّذي لا بد من الدخول فيه هل هو مطلق الغير و لو لم يكن مترتبا شرعا على المشكوك كما هو مقتضى إطلاق الغير في النصوص، كمقدمات الأفعال، نظير الهوي إلى السجود بالنسبة إلى الركوع؟

أو خصوص الغير المترتب شرعا، كالسجود بالنسبة إلى الركوع، فلا يدخل ما كان من قبيل

المقدمات؟. فان كان المراد هو مطلق الغير، كان قيد الدخول في الغير المأخوذ في الرواية قيدا توضيحيا للتجاوز و الخروج عن الشي ء، لأن التجاوز لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 162

يتحقق الا بالدخول في الغير، و لا يكون قيدا احترازيا.

و من هنا لا يتضح المراد من ما ذكره الشيخ في الموضع الثالث من أن الدخول في غير المشكوك تارة: يكون محققا للتجاوز. و أخرى: لا يكون، بل يكون التجاوز حاصلا بدونه، لأن التجاوز مطلقا لا يتحقق إلا بالدخول في الغير «1».

و قد ذهب المحقق العراقي (قدس سره) إلى: ان مقتضى الإطلاقات الدالة على اعتبار التجاوز عن المحل هو اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا، لعدم تحقق التجاوز عن المحل بدونه، و ان أخذه في لسان النصوص لأجل كونه محققا للتجاوز عن المحل لا لخصوصية فيه «2».

أقول: ان التجاوز عن المحل لا يتحقق إلا بالاشتغال بما يكون بينه و بين المتجاوز عنه طولية و ترتب، فالاشتغال بالذكر في أثناء القيام لا يعد تجاوزا عن محل القراءة لعدم الترتب و الطولية بينهما، بخلاف ما إذا دخل في الركوع.

و بما ان الركوع عن قيام لا يمكن بدون الهوي إليه عقلا فاعتبار القراءة عن قيام و اعتبار الركوع بعدها مستلزم لترتب الهوي إلى الركوع على القراءة، و تأخره عنها إما بحكم الشرع بدعوى ان اعتبار ذي المقدمة- و هو الركوع- مستلزم لاعتبار مقدمته. و اما بحكم العقل بلحاظ توقف الركوع على الهوي، فإذا فرض تأخر الركوع عن القراءة كان الهوي إليه متأخرا عنها أيضا. و عليه فالدخول في الهوي مستلزم للتجاوز عن محل القراءة و هو القيام غاية الأمر التجاوز عن محله العقلي لا الشرعي، لعدم أخذ

الهوي متعلقا للأمر.

و عليه، فلا بد من البحث في ان المحل الّذي يعتبر التجاوز عنه هو المحل الشرعي، كالدخول في الركوع بالنسبة إلى القراءة، أو ما يعم المحل العقلي كالدخول

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 411- الطبعة القديمة.

(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 54- طبعة المؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 163

في الهوي بالنسبة إليها.

و أما الالتزام باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لأجل تقوم التجاوز به فهو، مصادرة و أول الدعوى، إذ عرفت ان التجاوز عن المحل يتحقق بالدخول في مثل الهوي. نعم، التجاوز عن المحل الشرعي لا يكون الا بالدخول في الغير المترتب شرعا، فينبغي إيقاع الكلام في هذه الجهة كما عرفت.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من: ان عنوان التجاوز عن المحل لم يؤخذ في لسان النصوص، بل المأخوذ التجاوز عن الشي ء المشكوك، و المراد به التجاوز بالعناية و المسامحة، لأن التجاوز الحقيقي لا يصدق إلا إذا فرض وجود الشي ء. و من الواضح صدق التجاوز عن القراءة مسامحة إذا دخل في الهوي، و لا يعتبر فيه الدخول في المترتب شرعا.

إذن، فالمطلقات لا تقتضي اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا، بل يكفى مطلق المترتب، و يقع الكلام بعد ذلك في وجود ما يقيد هذه العمومات أو المطلقات ظاهره اعتبار الدخول في المترتب شرعا.

و قد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى ذلك و أفاده في بيانه: ان الظاهر من صحيحة إسماعيل بن جابر- المتقدمة- هو ذلك، و ذلك لظهور انه عليه السلام ذكر الأمثلة المذكورة في الصدر توطئة و تحديدا للقاعدة الكلية المذكورة في الذيل، فمقتضاه ان الغير الّذي لا بد من الدخول فيه في جريان

القاعدة ما كان من قبيل السجود بالنسبة إلى الركوع و القيام بالنسبة إلى السجود، و ان ما كان من قبيل الهوي و النهوض لا يعد غيرا، يكون الدخول فيه محققا لموضوع القاعدة، و الا لقبح ذكر السجود و القيام في مقام التحديد و التوطئة. «انتهى» «1».

و قد نفاه المحقق الأصفهاني (قدس سره): بان الظاهر ان الأمثلة المذكورة في

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 411- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 164

الصدر من باب التمثيل لا التحديد، و الا للزم الأخذ بجميع خصوصيات الصدر فيقتصر فيها على مورده و هو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود و الشك في السجود بعد الدخول في القيام.

و القول بالتفكيك بين موضوع الشك و الغير، بحمل ذكر الأول على التمثيل و ذكر الثاني على التحديد تحكم بحت. و عدم تعرض الإمام عليه السلام للانتصاب و الهوي ليس من جهة عدم اعتبار الدخول فيهما، بل لأجل ان الغفلة الموجبة للشك لا تحصل- عادة- في حالهما لقربهما من الفعل المشكوك «1».

و لكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به، لظهور ان ذكر الخصوصيات في رواية إسماعيل انما هو في مقام تحديد الغير.

و اما ما ذكره من استلزام ذلك للالتزام بجميع خصوصيات الصدر المستلزم للاقتصار على خصوص مورد الرواية.

فهو ممنوع، للعلم بأن خصوصية الركوع و السجود لم تؤخذ في موضوع الشك، و إلا لكان تعقيب الصدر بالقاعدة الكلية لغوا محضا- كما لا يخفى- فبالجملة: ان الصدر ظاهر في كونه في مقام التحديد و التوطئة للقاعدة الكلية، و هو يشتمل على جهتين:

موضوع الشك.

و الغير الّذي لا بد من الدخول فيه.

و مقتضى القواعد الأولية هو الأخذ بكلتا الجهتين بخصوصياتهما، الا انه

حيث كان هناك مانع من الأخذ بخصوصيات الجهة الأولى لاستلزامه لغوية ذكر القاعدة الكلية اقتصر على الأخذ بخصوصيات الجهة الثانية حيث لا مانع منه.

فالتفكيك في الصدر بالقول بأنه تحديد من جهة و تمثيل من جهة مما لا بد منه

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 309- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 165

فتدبر.

و أما السنة: فروايات:

منها: ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوء و أنت تجد لها في الخير سبيلا» «2».

و لا يتجه الاستدلال بها لجهتين:

الأولى: ان ظاهرها انها في مقام الأمر بحسن الظن و الاعتقاد، خصوصا بملاحظة ذيل الرواية حيث يقول فيها: «و لا تظنن بكلمة خرجت ..»

______________________________

(1) سورة المائدة، الآية: 1.

(2) الكافي: باب التهمة و سوء الظن، الحديث: 3. إلاّ انّ فيها كلمة محملا بدل سبيلا.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 95

الثانية: انه لو سلم دلالتها على وجوب ترتيب الآثار- و لا دلالة لصدرها على خصوص وجوب الظن الحسن-، فهي انما تدل على وجوب ترتيب آثار العمل الحسن لا الصحيح. فهي على كلتا الجهتين لا ترتبط بما نحن بصدده.

و منها: قول الصادق عليه السلام لمحمد بن الفضل: «يا محمد كذب سمعك و بصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال و قال لم أقل فصدقه و كذبهم» «1».

و لكنها انما تدل على وجوب حمل الأخ المؤمن على الصحة في مقام المعاشرة و ترتيب آثار الصدق على دعواه، فان موردها ذلك و موضوعها موردها.

و لا يخفى انها لا ترتبط بمقام القلب و حسن الظن، إذ يبعد ان يأمر

بالظن بصحة قول فرد مؤمن و تكذيب خمسين قسامة. فلا بد من حملها على التكذيب العملي و الأمر بعدم ترتيب ما يترتب على الكذب و شبهه.

و منها: ما ورد أن المؤمن لا يتهم أخاه المؤمن، و انه إذا اتهم أخاه انماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء «2». و تقريب الاستدلال بها: ان حمل المعاملة الصادرة من المؤمن على الفاسدة اتهام له بعدم المبالاة و المعرفة بشئون المعاملات الدينية، فهو منهي عنه، فلا بد من الحمل على الصحيح، و ترتيب آثار الصحيح عليها.

و لكنه محل تأمل و منع، فان الرواية تحتمل وجوها أربعة:

الأول: انها واردة في مقام عقد القلب على كون الواقع من المؤمن صحيحا، فلا ترتبط بمقام الخارج أصلا.

الثاني: انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح في مقام المعاشرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 8- باب: 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث: 4. و فيها عن محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى عليه السلام.

(2) الكافي، باب التهمة و سوء الظن، الحديث: 1.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 96

الثالث: انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح الخارجية.

الرابع: انها واردة في النهي عن اتهام المؤمن في أقواله بالكذب.

و إذا كانت تحتمل وجوها أربعة و لا معين لأحدها، فلا يتجه الاستدلال بها على المدعى، بل القرينة معينة لغير ما نحن بصدده.

و ذلك لأنه لو حملت على الاحتمال الثالث لشملت أقوال المؤمن، لأن لسانها آب عن التخصيص، و ذلك يقتضي ترتيب آثار الصدق على أقواله، و هو مما لا يمكن الالتزام به، لأنه يرجع إلى حجية قول المؤمن بحيث يترتب عليه ما يترتب على الواقع.

كما ان الظاهر ان الاتهام انما هو بحمل فعل المؤمن على السوء لا على

الفاسد.

هذا لو قلنا بان الاتهام من الأفعال الخارجية، اما مع القول بأنه من الأفعال القلبية، فنحن في غنى عما ذكر كما لا يخفى.

و أما الدليل العقلي:

فهو لزوم اختلال النظام من ترك الحمل على الصحة، و هو واضح بالوجدان- و عليه فيدل على اعتبارها فحوى التعليل الوارد في خبر حفص المتقدم- و تفيده بان تخلفها في موارد الحاجة لا يستدعى ذلك. فاسد، لأن أظهر مواردها العقود النكاحية، و الإيقاعات الطلاقية، فلو لا أصالة الصحة لاختل نظام الزواج بلا ارتياب.

و اما الإجماع:

فالقول منه لا وجود له، إذ تحرير المسألة كان متأخرا زمانا.

و أما العملي، المعبر عنه بالسيرة و بناء العقلاء، فلا إشكال في انعقاده- على ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من الغير- و لا ارتياب. و عدم الردع في صحة التمسك بها.

و دعوى: كون البناء قد يكون لوجود الأمارات أو الأصول الخاصة. واضحة البطلان، ضرورة ان البناء حاصل في صورة انتفاء الأمارة و الأصل.

إذا تبين ذلك

فمقامات البحث في هذه المسألة متعددة

اشارة

. و لكن يجمعها الجهات

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 97

الثلاث التي ذكرناها آنفا.

المقام الأول: في ان المحمول عليه الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟

. فإذا صدر من شخص عمل فهل يحمل على انه صحيح واقعا، فيترتب عليه آثار الواقع. أو يحمل على انه صحيح باعتقاد الفاعل و نظره، فيترتب عليه آثاره ان كانت له آثاره بالنسبة إلى الحامل؟

و تظهر ثمرة ذلك: انه لو بنينا على إجراء أصالة الصحة عند الفاعل، فلا تجدي في ترتيب الآثار على علمه إلا في موارد اتفاق الحامل مع الفاعل في الرّأي اجتهادا أو تقليدا. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق أحد نافذا واقعا في حق الآخرين، و محل ذلك مما لا نعهده. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق الشخص موجبا لصحة عمله واقعا لديه أيضا كمعتقد الجهر في مورد الإخفات، فان صلاته صحيحة واقعا في حقه للنصوص الخاصة أو لحديث لا تعاد. و اما في غير ذلك، فلا يمكن ترتيب آثار العمل الصحيح على ما أتى به. بخلاف ما إذا بنينا على إجراء أصالة الصحة الواقعية، فانه يترتب الأثر على عمله مطلقا. كما ان لازم الحمل على الصحيح عند الفاعل انه يختص بمن يعرف الصحيح و الفاسد، اما من لا يكون عالما بالصحيح و الفاسد فلا معنى للحمل على الصحيح عنده، إذ هو جاهل على الفرض، فلا صحيح عنده و في علمه. فانتبه.

و لا بد في تحقيق الكلام أن يقال: ان الحامل تارة: يعلم علم الفاعل بالصحيح و الفاسد. و أخرى: يعلم بجهله بهما. و ثالثة: يجهل حاله و لا يعلم بأنه عالم بالصحيح و الفاسد أم جاهل بهما.

و في صورة علمه بأنه يعلم الصحيح و الفاسد تارة: يعلم موافقته اجتهادا أو تقليدا.

و أخرى: يعلم مخالفته. و ثالثة: يجهل الحال من موافقته له و مخالفته. فالصور خمس.

أما صورة علمه بعلم الفاعل بالصحيح و الفاسد و موافقته له اجتهادا أو

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 98

تقليدا، فلا أثر في الخلاف في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل، إذ الأثر المرغوب يترتب على كلا الحالين.

و أما صورة مخالفته له في الصحيح و الفاسد، فالمخالفة تارة: تكون بالتباين، كما لو اعتقد أحدهما وجوب الجهر في ظهر يوم الجمعة و الآخر وجوب الإخفات.

و أخرى: تكون بالعموم المطلق، كما لو اعتقد أحدهما صحة العقد بالفارسي و الآخر فساده و اختصاص الصحيح بالعربي.

فعلى الأول: لا إشكال في الحمل على الصحة عند الفاعل، لأن الحمل على الصحة الواقعية في الفرض حمل للفاعل على خلاف ما يعتقده و يدين به، و لا إشكال في عدم صحة ذلك.

نعم، على الثاني للحمل على كلا المعنيين مجال، فمع حمله على الصحة الواقعية تترتب عليه آثار الواقع. و اما مع حمله على الصحة عند الفاعل فلا يمكن ترتيب آثار الواقع عليه، إذ يمكن ان يكون الصادر منه ما هو فاسد بنظر الحامل، فكيف يترتب عليه آثار الواقع؟

و هكذا الحال في صورة جهله بموافقته له و مخالفته كما لا يخفى.

و أما صورة العلم بجهله بالصحيح و الفاسد، فلا معنى لحمله على الصحيح عند الفاعل، إذ المفروض كونه جاهلا لا اعتقاد له. فلو فرض جريان أصالة الصحة في المورد، فلا إشكال في كونها الصحة الواقعية.

و مثل هذه الصورة في الحكم صورة الجهل بحاله، و انه هل يعلم الصحيح و الفاسد أو يجهلهما؟

هذه هي شقوق المسألة المحررة.

و تعيين الحكم بالنسبة إلى الموارد مشكل جدا بعد أن لم يكن

دليل الأصل المزبور لفظيا، كي يتمسك بإطلاقه، بل كان دليلا لبيا. و لذلك اختلفت فيه كلمات

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 99

الاعلام. و الّذي يظهر من المحققين العراقي في تقريرات بحثه «1»، و الأصفهاني في رسالته «2»، العموم ما عدا صورة اختلافهما بنحو التباين. و المنسوب إلى الفقيه الهمداني العموم حتى لهذه الصورة.

و الكلام يقع في مرحلتين:

الأولى: في ان المحمول عليه الفعل ما هو- و هو عنوان البحث-؟

و التحقيق ان يقال: انه ان استند في أصالة الصحة إلى ظاهر حال المسلم و انه لا يأتي إلا بما يوافق الموازين، فهو لا يقتضي أكثر من الصحة عنده، لأن هذا هو ما يقتضيه ظاهر حاله. و ان استند فيها إلى السيرة، فهي تقتضي الحمل على الصحة الواقعية لقيامها على ذلك.

الثانية: في عموم جريان الأصل للموارد المذكورة و عدمه.

و الأقرب هو العموم، لقيام السيرة على جريان الأصل بلا توقف و تردد في جميع الموارد. نعم، لا يمكن الجزم بقيام السيرة على جريان أصالة الصحة في مورد العلم بجهل العامل بالصحيح و الفاسد، بحيث تكون مطابقة عمله للصحيح الواقعي من باب الصدقة و الاتفاق، و لذلك يكون الحكم بجريانها في هذا المورد محل إشكال و توقف و ان كان ليس ببعيد، فان كثيرا من العوام يجهلون الصحيح و الفاسد، مع ان السيرة على حمل عملهم على الصحيح.

المقام الثاني: في أصالة الصحة في العقود.

و محل الكلام- كما أشار إليه الشيخ «3»- هو جريان أصالة الصحة عند الشك في صحة العقد و فساده قبل استكمال أركانه و انعقاده- بأن كان منشأ الشك الشك في تحقق أحد الأركان-، و عدم جريانه قبل الاستكمال.

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4- 80- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(2)

الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 312- الطبعة الأولى.

(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 418- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 100

و الّذي نقله الشيخ عن المحقق الثاني (قدس سره) هو القول الثاني مستدلا على ذلك بوجهين:

الأول: ان نسبة الأصل إلى العقد نسبة الحكم إلى موضوعه، لأن مؤداه صحة العقد و موضوعه الشك في الصحة و الفساد، و ذلك في مرتبة متأخرة عن تحقق العقد كي يتصف بالصحّة و البطلان. و مع الشك في تحقق بعض أركان العقد يكون الشك في وجود العقد لا في صحته، فلا مجال لجريان أصالة الصحة.

الثاني: ما ذكره بعنوان التفريع على دعواه، و لكن الظاهر من تفصي الشيخ عنه انه وجه مستقل، و هو: الفتوى بتقديم قول من يدعي وقوع المعاملة على الحر فيما لو ادعى أحد المتعاقدين بيع العبد و ادعى الآخر بيع الحر. و لو كانت أصالة الصحة جارية في المقام لما توجهت هذه الفتوى.

و أجاب الشيخ عن الأول: بأنه ان كان المراد من وجود العقد وجوده الشرعي، فهو عين الصحة، إذ العقد غير المؤثر ليس عقدا شرعا. و ان كان المراد منه وجوده العرفي، فهو متحقق مع الشك، بل مع القطع بالعدم، إذ العقد الواقع على الحر عقد عرفا و ان كان فاسدا، فالحال لا يختلف بالنسبة إلى جميع الشروط غير العرفية على كلا التقديرين.

و أما الثاني: فالجواب عنه بما قرره الفقيه الهمداني (قدس سره) في حاشيته على الرسائل، و بيانه: ان عدم جريان أصالة الصحة في المورد المذكور ليس من أجل عدم تحقق موضوعها و هو العقد، و الا للزم ان لا تجري في صورة كون موضوع الدعوى هو الثمن، بأن

ادعى البائع البيع بعبد و المشتري بحر، لأن نسبة الثمن و المثمن إلى وجود العقد متساوية، مع انه قد أفتى جملة من الفقهاء بان القول قول مدعي الصحة للأصل. فلا بد ان يرجع تقديم قول مدعي الفساد و عدم إجراء أصالة الصحة في مورد كون الموضوع للدعوى هو المثمن إلى وجه آخر غير ما تخيله المحقق الكركي و استدل به على دعواه.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 101

و لعل الوجه هو: انه لما كان موضوع الأثر في هذه الصورة هو وقوع العقد الصادر على العبد، إذ لا أثر لوقوعه على الحر أصلا، لأنه يكون حينئذ بمنزلة العدم، فجريان أصالة الصحة في العقد الواقع لا يثبت كون المبيع هو العبد فلا أثر لجريانها، فلا تجري، فتكون أصالة عدم السبب الناقل بلا حاكم.

و هذا بخلاف صورة ما إذا كان موضوع الدعوى هو الثمن، و انه حر أو عبد، لأن مورد الأثر صحة العقد الواقع على المثمن المعين و تحقق النقل و الانتقال به، فجريان أصالة الصحة يجدي في ترتب الأثر و يلزمه ثبوت الثمن في ذمة المشتري و ان لم يكن معينا- لأن الأصل المزبور لا يعينه.

و ان كان قد يرد على هذا التوجيه: بأنه في الصورة الأولى يمكن جريان أصالة الصحة باعتبار طرف الثمن فانه يشك في ثبوت الثمن في ذمة القابل بواسطة العقد الواقع فتجري أصالة الصحة فيه، فتأمل. و لكنه ليس بمهم إذا المهم هو إثبات ان عدم إجراء أصالة الصحة في المثال لم يكن لما ادعاه المحقق (قدس سره) من عدم تمامية الأركان لإجرائها فيما لو كان الخلاف في الثمن. أما توجيه الفرق بما ذكر فليس إثبات صحته بمهم.

و عبارة الشيخ (قدس

سره)- في بعض النسخ- في مقام الجواب لا تخلو عن إبهام.

و الّذي يظهر منها التفريق بين صورة التمليك المجاني و العوضي.

أما الأول: فحيث ان المالك بدعواه تمليك الحر لا يدعي على الآخر شيئا و لا يطالبه بشي ء، و انما الأثر على ثبوت دعوى تمليك العبد، كان موضوع الدعوى و أحكامها هو دعوى ثبوت تمليك العبد- أما دعوى تمليك الحر، فهي ساقطة عن الاعتبار لعدم الأثر- فيكون القول قول منكر التمليك المذكور فعليه اليمين إن لم تقم البينة على خلافه. و لا مجال لأصالة الصحة للشك في تحقق موضوعها لعدم العلم بتحقق التمليك كي تجري فيه أصالة الصحة. أما التمليك الواقع فجريان أصالة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 102

الصحة فيه لا يثبت وقوعه على العبد كما لا يخفى.

و أما الثاني: فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام الأصحاب. و قد أجرى بعضهم أصالة الصحة. و لا يفرق فيه- كما يظهر من تعبيره بالعوضين- بين أن يكون الاختلاف في الثمن أو المثمن، و إن كان ظاهر عنوان المسألة كون الاختلاف في الثمن. لكن الملاك في كلتا الصورتين واحد. فالتفت و تدبر. فعبارته و مقابلته لا تخلو من غموض، و أكثر نسخ الكتاب قد حذف فيها الشق الأول من الترديد.

و على كل فليس الأمر بهذه المثابة من الأهمية.

و أعلم ان الأعلام المتأخرين (قدس سرهم) عدلوا عن تحرير محل النزاع بنحو ما ذكره الشيخ رحمه اللّه إلى نحو آخر و هو: ان أصالة الصحة هل يختص جريانها في ما إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في شرائط العقد بما هو عقد، كالماضوية و العربية و غيرهما. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن

الشك في شرط شرعي يعتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين مع إحراز شرائطه العرفية.

أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي أو عرفي مع إحراز إنشاء البيع؟ وجوه و أقوال ..

و قد ذهب المحقق النائيني إلى الأول، و استدل عليه: بان معقد الإجماع القولي على أصالة الصحة هو أصالة الصحة في العقود، و ظاهره تعلق الصحة و الفساد بالعقد بما هو عقد، و ذلك انما يتحقق فيما إذا كان الشك في أحد شرائط العقد بما هو عقد. أما إذا كان الشك في أحد شرائط المتعاقدين أو العوضين، فالشك في الصحة و الفساد لا يتعلق بالعقد ابتداء، بل هو يتعلق بأمر آخر، و لازمه تعلق الشك بالعقد، فاتصاف العقد بالصحّة حينئذ من باب الوصف بحال متعلق الموصوف، و الا فالعقد بما هو لا قصور فيه و انما القصور من جهة المتعلق أو العاقد «1».

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2- 245- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 103

و قد دفعه المحقق الأصفهاني (قدس سره) بوجوه ثلاثة:

الأول: بان قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية على إمضاء المعاملات المشكوكة و لو كان منشأ الشك هو الشك في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني: ان الصحة و الفساد في أي حال تضافان إلى العقد دون غيره. و هذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره، فكون الشرط لغيره لا يضر في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. و معقد الإجماع هو البناء على صحة العقد عند الشك لا البناء على وجود شرط العقد، كي لا يكون شاملا لمورد يكون الشك فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.

الثالث: ان

الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قولين أحدهما في باب العبادات و الآخر في باب العقود و الإيقاعات بعنوانها.

و أما مع انعقاد الإجماع على البناء على صحة كل عمل له أثر- سواء كان عباديا أم معامليا- فلا وجه للدعوى المذكورة، لأن الصحة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد، بل إلى العمل العبادي أو المعاملي، و ظاهر أن جميع الشرائط دخيلة في ترتب الأثر على المعاملة بما هي معاملة «1».

و لا يخفى أنه يمكن توجيه ما أفاده المحقق النائيني بنحو لا يرد عليه الوجهان الأخيران، ببيان: ان المتداول في تعبيرات الفقهاء هو إطلاق الصحة على العقد بمجرد تمامية شرائطه الراجعة إليه، مع عدم إطلاقهم الصحة على مثل العوضين و المتعاقدين، بل يطلقون القابلية على العوضين و الأهلية على المتعاقدين فيقولون عقد صحيح وقع من أهله و في مورد قابل. الا ان الّذي يهون الخطب اننا لا نعترف بحجية مثل هذا الإجماع كما عرفت، و الدليل الّذي لدينا على أصالة الصحة هو

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 313- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 104

السيرة خاصة، فلا بد من ملاحظة موردها، و على هذا فالأمر في صحة ما ذكره النائيني و عدمه سهل.

و قد ذهب المحقق العراقي إلى ما نتيجته توافق ما ذهب إليه الشيخ- و هو جريان الأصل عند الشك في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفية للعقد الّذي هو الوجه الثاني- فانه بعد أن ذكر أمرين:

أحدهما: ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد و تأثيره الفعلي لترتب الأثر ليست على نمط واحد.

فمنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب، و هو العقد، كالموالاة بين الإيجاب و

القبول، و الماضوية و غيرهما.

و منها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابلية المسبب للتحقق، و هذه الطائفة بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ و العقل و غيرهما. و بينما يكون محله العوضين كالمعلومية و المالية. و بين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية و الغررية في البيع.

و ثانيهما: ان صحة كل شي ء بحسبه، لكونها بمعنى التمامية، و تمامية كل شي ء انما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه في قبال فاسدة الّذي لا يكون كذلك فصحة الإيجاب بمعنى أنه لو تعقبه قبول صحيح لحصل أثر العقد.

و صحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه، بحيث لو ورد على محل قابل لأثر فيه النقل و الانتقال و ترتب عليه الأثر المرغوب. فهي- أعني: الصحة- في العقد عبارة عن مفاد قضية تعليقية لا تنجيزية، و هو كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا تصف بالمؤثرية الفعلية.

بعد أن ذكر هذين الأمرين. أفاد: ان الشك في الصحة و الفساد.

ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط العرفية للسبب أو المسبب، كالشك في التوالي بين الإيجاب و القبول المعتبر عرفا، و مطلق المالية في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 105

العوضين، فلا تجري أصالة الصحة لا في السبب و لا في المسبب، لرجوع هذا الشك إلى الشك في مجرى أصالة الصحة، مع انه لا بد من إحراز عنوان موضوعه عرفا.

و ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط الشرعية مع إحراز الشرائط العرفية، فان كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد جرت أصالة الصحة في العقد، لأنه عقد عرفي مشكوك الصحة و الفساد شرعا. و ان كان من شرائط المسبب كالبيع، فلا تجري أصالة الصحة في

العقد لإحراز صحته، لأنها مفاد قضية تعليقية و هي محرزة و لو مع القطع بانتفاء شرط المسبب، و انما تجري في نفس المسبب و هو البيع مثلا، لأنه بيع عرفي مشكوك الصحة و الفساد شرعا. و ان كان من شرائط السبب و المسبب، بان كان الشك من الجهتين، جرت أصالة الصحة في السبب و المسبب «1».

هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره)، و هو نتيجة يوافق الشيخ و ان كان يختلف عنه بحسب المقدمات.

و قد استدل على ذلك بالسيرة و لزوم اختلاف النظام، و انهما يقتضيان التعميم لجميع صور الشك مع إحراز عنوان موضوع الصحة عرفا، و لا بد حينئذ من التفصيل بين موارد الأصل من كونه السبب أو المسبب.

و لكن السيد الخوئي- كما في بعض تقريرات بحثه- لم يرتض هذا الاستدلال، و لذلك التزم بما التزم به المحقق الثاني و العلامة و أستاذه النائيني من اختصاص جريان أصالة الصحة في مورد الشك في شروط العقد دون غيره، إذ اعتبر في جريانها إحراز القابلية الشرعية و العرفية في الفاعل و المورد.

فانه بعد ما حرر موضوع المسألة، و بيّن صور الشك، و ذكر ان المحقق الثاني و العلامة (قدس سرهما) ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في قابلية

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 82- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 106

الفاعل أو المورد العرفية و الشرعية. حكم بصحة ما ذهب إليه متمسكا لذلك بعدم وجود دليل لفظي لأصالة الصحة كي يتمسك بعمومه و إطلاقه، بل دليلها ليس سوى السيرة و لم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشك في القابلية- و هو كاف في الحكم

بعدم جريان أصالة الصحة- بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار، و ضرب لذلك مثالين:

أحدهما: ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو، و شك في كونه وكيلا عن عمرو أو لا.

و الثاني: ما لو طلق زيد زوجة عمرو و شك في كونه وكيلا عنه.

فان العقلاء لا يرتبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد، و هذا لا يرجع إلا لعدم ترتيب آثار الصحة عند الشك في القابلية. ثم أشار إلى ما ذكره الشيخ من قيام السيرة على ترتيب آثار الصحة على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل. و ذكر ان ترتيب الآثار ليس من جهة أصالة الصحة بل من جهة قاعدة اليد و إحراز القابلية باليد، و لذلك لا تجري أصالة الصحة فيما تقدم من المثالين لعدم كونه موردا لقاعدة اليد «1».

و للمناقشة فيما ذكره مجال، فان السيرة قائمة على إجراء أصالة الصحة في الموارد التي لا يكون هناك أصل أو أمارة يستند إليها، كالشك في البلوغ، أو الرشد، أو في مجهولية العوضين، أو زيادة أحدهما على الآخر في المعاملة الربوية، أو وقوع الطلاق في أيام الطهر، أو حضور عدلين عند إنشائه، و غير ذلك مما لا طريق إلى إثباته من يد أو غيرها. و اليد انما تثبت المالكية، أما بلوغ البائع أو رشده فلا تقتضي شيئا منهما، فلا وجه لما ذكره من أن قابلية الفاعل تحرز بقاعدة اليد. مع أن الشك لا ينحصر في قابلية الفاعل، إذ قد يكون في قابلية المورد.

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 327- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 107

و أما ما

ذكره من النقض، فهو لا يدل على المدعى من جهتين:

الأولى: ان استناد العقد أو الإيقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع أصالة الصحة، لأن مفاد أصالة الصحة مفاد: (أوفوا) في قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و ظاهر أنه قد أخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما أخذ في موضوعه العقد، لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ بيع غير المالك مخصصا لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و عليه، فعدم جريان أصالة الصحة انما هو لأجل عدم إحراز موضوعها و هو العقد المستند إلى المالك، لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في القابلية.

الثانية: أن حصول الأثر و ترتبه في المثالين يتوقف على إحراز المالك أو الزوج استناد المعاملة إليه، لا من جهة كون الاستناد مأخوذا في موضوع النفوذ، بل من جهة أن المالك انما يجب عليه تسليم الدار للمشتري إذا صدر منه العقد، و هكذا الزوج. و أصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك كي يجب على المالك ترتيب الآثار، بل هي أجنبية عن المالك.

و بالجملة: عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية، بل هو من جهة خصوصية في المقام، فلا يرد النقض بهما.

و على هذا، فالالتزام بجريان الأصل المزبور عند الشك في مطلق الشرائط الشرعية المعتبرة في العقد أو في غيره مع إحراز الشرائط العرفية للعقد مما لا إشكال فيه، لتمامية الدليل، و هو السيرة و اختلال النظام، سواء قلنا بان صحة العقد مفاد قضية تعليقية- كما هو شأن المقتضيات أجمع- و ان الأصل يجري في المسبب- كما ذهب إليه

المحقق العراقي على ما عرفت. أو قلنا بان للعقد صحة أخرى هي التي تكون مجرى الأصل لا تلك، و هي صحة فعلية منتزعة عن تأثيره و ترتب الأثر

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 108

عليه- فانه و إن كان مقتضيا للأثر لا علة تامة، و الشرائط متممات التأثير و شرائط تأثيره، لكنه هو المباشر للتأثير، فانه هو المؤثر و الأثر يترتب عليه، كمباشرة النار للإحراق مع كونها مقتضية له لا علة تامة، فصحته يراد بها هذا المعنى و هي فعلية- فالأصل دائما يجري في العقد و لو كان الشك في شرائط غيره، لأنه سبب للشك في صحته- كما سيتضح لك ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى- و لا يجري في المسبب اما لعدم الحاجة إلى ذلك، أو لعدم قابليته للاتصاف بالصحّة و الفساد، كما يذكر ذلك في مبحث الصحيح و الأعم، و تحقيقه ليس هذا موضعه.

كما انه لا يمكن الالتزام بما التزم به المحقق الأصفهاني (قدس سره) من جريان أصالة الصحة مع الشك في الشرائط العرفية، لما سنذكره في بعض التنبيهات إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

ثم ان السيد الخوئي (حفظه اللّه) بعد كلامه المزبور نسب إلى الشيخ (قدس سره) جريان أصالة الصحة- مع التنزل و الالتزام بعدم جريان الأصل مع الشك في القابلية- فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد المتعاقدين مع إحراز قابلية الآخر. بتقريب: انه مع إحراز قابلية الموجب- مثلا- و كان الشك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل تجري أصالة الصحة في الإيجاب، فيحكم بتأثير الإيجاب و هو معنى صحة العقد. و أورد عليه بان صحة كل شي ء بحسبه، فصحة الجزء معناها

قابليته للجزئية و لا يثبت بها وجود الجزء الآخر و لا صحته، فجريان أصالة الصحة في الإيجاب لا يثبت وجود القبول و لا صحته فلا وجه لما ذكره.

و لكن ما نسبه إلى الشيخ و أورد عليه بما عرفت أجنبي عن ظاهر كلام الشيخ. فانه في مقام الإيراد على المحقق الثاني الّذي ادعى ان ظاهر حال المسلم لا يصح ان يتمسك به المضمون له- فيما إذا اختلف مع الضامن في وقت الضمان- و انه كان قبل بلوغ الضمان أو بعده- لأنه لا يتم إلا مع استكمال العقد للأركان التي

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 109

منها شروط المتعاقدين. و ان كلامه على إطلاقه ممنوع لإمكان التمسك به في صورة و تعدد طرفي العقد و إحراز قابلية أحد الطرفين لأن الظاهر انه لا يتصرف فاسدا.

و أين هذا من جريان أصالة الصحة في الإيجاب و ترتب الأثر عليه؟ بل هو أجنبي عن أصالة الصحة بالمرة. فالتفت و لا تغفل.

المقام الثالث: في اختلاف الصحة بحسب مواردها

. و بيان ذلك: ان الصحة على نحوين تأهلية، و فعلية.

فالأولى عبارة عن قابلية الشي ء لترتب الأثر عليه لو انضم إليه غيره مما له الدخل في ترتب الأثر.

و الثانية: تنتزع عن ترتب الأثر الخارجي فعلا على الشي ء و الصحة التأهلية انما يتصف بها أجزاء المؤثر و لا تتصف بغيرها لأن الأثر لا يترتب فعلا على كل جزء بل على المجموع، فالصحة في الجزء عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه سائر الاجزاء و الشرائط لترتب الأثر، فالصحيح ما كان بهذه الحيثية، كالإيجاب بالعربي فانه جزء العقد المؤثر، و الفاسد ما لم يكن بهذه الحيثية، كالإيجاب بالفارسي على القول باعتبار العربية فيه.

و عليه، فجريان أصالة الصحة في الجزء لا

يثبت الجزء الآخر، لعدم توقف صحته عليه، و لا يقتضي ترتب الأثر المتوقف على المركب عليه.

و الصحة الفعلية انما يتصف بها المجموع المركب المؤثر. و هو لا يتصف بغيرها كما لا يخفى.

و من هنا تبين أن صحة كل شي ء بحسبه، إذ الأشياء ليست على حد سواء في الصحة، فالجزء لا يتصف الا بالصحّة التأهلية، و الكل بالنسبة إلى اثره على العكس لا يتصف إلا بالصحّة الفعلية.

و به يندفع ما قد يتوهم من: ان جريان أصالة الصحة في الإيجاب- مثلا- تكفي في ترتيب آثار الصحة و لو لم يحرز القبول، إذ لا وجه لتخصيص دليل أصالة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 110

الصحة بغير المورد، و مع جريانها يترتب الأثر، لأنه معنى: الصحة الفعلية. و وجه الاندفاع واضح، فان جريان أصالة الصحة في الإيجاب لا تجدي في المطلوب، لأن صحته تأهلية و الأصل يجري بمقدارها، فلا تخصيص لدليل الأصل، كما انه لا يترتب الأثر على جريانها فيه، فالتفت.

و هذا الأمر هو الّذي عقد له الشيخ فصلا مستقلا، و هو واضح لا غبار عليه و لا إشكال فيه.

و إنما الإشكال فيما فرعه الشيخ عليه من الموارد التي ذكر أن جريان أصالة الصحة فيها لا تثبت المشكوك المتوقف ترتب الأثر عليه و ان جريان أصالة الصحة في العقد في عدم ثبوت المشكوك بها نظير جريانها في عدم ثبوت القبول بها، و هي ما لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقق الإيجاب و القبول، أو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي، أو كان العقد في نفسه مبنيا على الفساد كبيع الوقف بحيث يكون المصحح من الطوارئ، أو شك في وقت

بيع الراهن الرهن مع إذن المرتهن و رجوعه و انه كان قبل الرجوع أو بعده، فانه أفاد: ان جريان أصالة الصحة في الهبة أو الصرف أو السلم لا تثبت تحقق القبض، كما أن جريانها في بيع الفضولي لا يثبت إجازة المالك، و الأولى بعدم الجريان مورد بيع الوقف مع الشك في وجود المسوغ له، و ان جريانها في الاذن لا يثبت وقوع البيع صحيحا و جريانها في الرجوع لا يقتضي فساد البيع، لأن صحة كل منهما تعليقية تأهلية، فهي في الاذن كونه بحيث لو وقع البيع بعده و قبل الرجوع كان صحيحا، و في الرجوع كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسدا، و هي محرزة وجدانا. كما ان جريانها في نفس البيع لا يجدي، لأنه لا يثبت بها رضا المالك المرتهن، لأنه بظاهره يوهم المنافاة، لما ذكره في الفصل السابق من الالتزام بجريان أصالة الصحة عند الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين، إذ الموارد المذكورة كلها من هذا القبيل.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 111

فالمهم: بيان مراد الشيخ و نظره و التوفيق بين ما ذكره أولا و أخيرا، بنحو يرتفع توهم التنافي و يتضح الحال للمستشكل.

و الّذي ينبغي أن يقال: أما في مسألة الهبة و الصرف و السلم و توقفهما على القبض، فالوجه في عدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون هو: ان الشك في الصحة الفعلية للعقد في مرحلة البقاء لا في مرحلة الحدوث لأن العقد حين تحققه كان متصفا بالصحّة التأهلية، و يشك بقاء في صحته الفعلية و عدمها، و أصالة الصحة لا تجري فيما إذا كان الشك بين الصحة و البطلان بقاء، بل يختص جريانها فيما إذا كان

الشك من حين حدوث العقد- لأنه هو المناسب لدليل أصالة الصحة ثبوتا- و هو في المقام غير متحقق إذ لا شك حين حدوثه في صحته، كما لا يخفى.

و أما مسألة بيع الفضولي، أو الراهن بلا إجازة المرتهن، فالسبب في عدم جريان أصالة الصحة فيه يمكن أن يكون أحد وجوه ثلاثة:

الأول: ما ذكر في مسألة الهبة و أخويها، لأن الشك في الصحة و البطلان بقاء لا حدوثا، لأن صحة العقد التأهلية محرزة حين حدوثه.

الثاني: أنه على تقدير جريان أصالة الصحة في مرحلة البقاء، فهي انما تجري لو كان الشك بين الصحة و الفساد رأسا- إذ هو ظاهر أدلتها- أما مع كون الشك في الصحة التأهلية و الصحة الفعلية، فلا دليل على جريانها و تعيينها المعنى الثاني و المقام من هذا القبيل، لأن الشك في إجازة المالك يوجب الشك في بقاء العقد على صحته التأهلية، أو صيرورته صحيحا فعليا بالإجازة.

الثالث: ما أشرنا إليه سابقا من أن موضوع الصحة هو العقد المضاف إلى المالك، و أصالة الصحة انما تجري مع إحراز موضوع الصحة، و هو غير محرز في الفرض للشك في إجازة المالك، فلا مجال لجريانها. بل تكون صحة العقد تأهلية لأنه جزء المؤثر.

و أما مسألة بيع الوقف، فلا يعرف لها وجه خصوصا مع كون الشك في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 112

الصحة الفعلية و الفساد رأسا.

الا أن يكون نظر الشيخ إلى انه بعد ان كان العقد الواقع على الوقف بنفسه فاسدا، و كان طرو المسوغ مصححا له كان طرو المسوغ جزء الموضوع للأثر بحيث يكون موضوع الصحة هو العقد و المسوغ، فالعقد جزء المؤثر، فصحته تأهلية، فلا تجدي في إثبات الجزء الآخر و هو المسوغ،

فتأمل.

و أما مسألة بيع الراهن الرهن و الاختلاف بينه و بين المرتهن في وقت البيع، فعدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون الوجه فيه هو دوران صحة العقد حين صدوره بين التأهلية و الفعلية- لأنه ان كان قبل الرجوع، فصحته فعلية. و ان كان بعده، فصحته تأهلية، لأنه يكون كبيع الفضولي- و قد عرفت أنه غير مورد أصالة الصحة.

و لكن ظاهر الرسائل كون الوجه فيه: كون العقد بدون إجازة من له الحق- و هو المرتهن- جزء الموضوع، فصحته تأهلية لا فعلية نظير العقد بالنسبة إلى إجازة المالك في بيع الفضولي، فالتفت.

نعم، قد يستشكل في هذا الفرع: بأنه لم لا يجري الأصل في نفس المسبب- و هو البيع- مع ان المفروض كون الشك في صحته الفعلية و فساده، و يمكن الجواب عنه: بان الأمر في المسبب أيضا دائر بين الصحة الفعلية و الصحة التأهلية، كما في نفس العقد حرفا بحرف، فلا تجري أصالة الصحة فيه. فتدبر جيدا.

المقام الرابع: في وجوب إحراز عنوان موضوع الأثر.

و بيان ذلك: انه لا بد في ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من إحراز عنوانه الّذي به يكون موضوعا للأثر، فمع عدم إحراز عنوانه لا تجري أصالة الصحة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 113

و قد عقد الشيخ رحمه اللّه لذلك فصلا مستقلا «1». و لكنه ذكره فقط بلا ان يبين الوجه فيه و الدليل عليه، و لعله [1] لوضوحه، لأن العمل إذا لم يكن بنفسه

______________________________

[1] تحقيق الكلام في هذه الجهة بإجمال: انه لا إشكال في انه يعتبر في جريان أصالة الصحة من كون الفاعل في مقام الإتيان بالعمل الّذي هو موضوع الأثر، فما لم يكن الشخص في مقام التطهير لا يحمل عمله على الصحة، و كذا

إذا لم يكن في مقام البيع و النكاح و غيرهما من المعاملات، لا يحمل ما يصدر منه على الصحة. إنما الإشكال في انه إذا أحرز انه في مقام الإتيان بالعمل ذي الأثر الخاصّ، و لكن شك في تحقق ما هو مقوم عقلا لتحقق موضوع الأثر كالقصد في العقود الإنشائية و كإزالة النجاسة في غسل الثوب أو العصر بناء على تقدم الغسل به، فهل تجري أصالة الصحة أو لا؟ قد يقال: ان أصالة الصحة تتكفل ترتب الأثر على العمل، و لا تتكفل تحقق نفس العمل، فمع الشك في نفس العمل لا مجال لأصالة الصحة.

و يمكن الإشكال في ذلك: بان الأثر يترتب على إجراء الماء- مثلا- و لكن بواسطة تعنونه بعنوان الغسل أو ترتب الغسل عليه بنحو المسببية التوليدية، و كذا يترتب على الإيجاب و القبول بواسطة القصد.

و عليه، فينبغي ان يبحث في أن أصالة الصحة هل تتكفل ترتب الأثر المترتب على الفعل بلا واسطة، أو الأعم منه و من المترتب بواسطة؟ و لا بد في ذلك من ملاحظة ما عليه السيرة و بناء العقلاء، لا سلوك طريقة الاستدلال العقلي- كما أشير إليه- ثم ان بعض من ذهب إلى إجراء أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم، كمثال التطهير، التزم في إجراء أصالة الصحة في عمل الغائب مع عدم إحراز قصد النيابة في عمله.

فقد يورد عليه: ان ذلك ينافي مبناه من جريان أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم.

و يمكن ان يدفع الإيراد: بان أصالة الصحة إنما تلغي احتمال الفساد في العمل الصادر، و هذا يختص بما إذا كان الشك راجعا إلى جهة دخيلة في الصحة. و ليس قصد النيابة دخيلا في صحة العمل، إذ العمل صحيح

حتى إذا لم يقصد النيابة، نعم، لا يقع عن المنوب عنه، و هذا أجنبي عن الصحة.

و بعبارة أخرى: ان العمل إذا فرض انه صحيح قصد فيه النيابة أم لم يقصد، لم تكن أصالة

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 419- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 114

و بذاته موضوع الأثر بل بما هو معنون بالعنوان الكذائي، فلا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز موضوع الصحة و هو العمل المعنون بعنوان كذا لا مجرد نفس العمل، إذ الأثر غير مترتب عليه بنفسه، فمع عدم إحرازه لا يحرز موضوع الصحة، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصالة الصحة.

و بعبارة أخرى: ان الوجه فيه هو وجوب إحراز موضوع الصحة عرفا في ترتيب آثار الصحيح، إذ مع عدم إحرازه لا يعقل ترتبها، فإذا كان الموضوع هو العمل المعنون، فلا بد من إحراز العنوان الّذي به يكون العمل موضوعا، كعنوان الصلاة في الأفعال الخاصة، أو التعظيم في القيام، أو الخضوع في السجود، أو غير ذلك.

و عليه، فبلا إحراز موضوع الصحة عرفا، لا مجال لجريان أصالة الصحة.

و قد يستشكل: بان ما ذكر يتم بالنسبة إلى ترتيب آثار الصحة الشرعية عند الشك في الشرائط الشرعية، فانه مع إحراز الشرائط العرفية يحرز الموضوع العرفي «الصحة الشرعية خ ل» لأصالة الصحة. أما بالنسبة إلى الشرائط العرفية عند الشك فيها فلا يتم، إذ لا يحرز موضوع الصحة عرفا عند الشك فيها، فيلزم ان لا تجري أصالة الصحة عند الشك في الشرائط العرفية، مع انه لا إشكال في جريانها، كيف؟! و السيرة العرفية و بناء العقلاء قامت على جريانها- غير السيرة المتشرعة- و معناه إجراء العرف الأصل عند الشك في بعض شرائط العمل عندهم،

و هو لا يتفق مع ما ذكر في توجيه لزوم إحراز العنوان العرفي في جريان الأصل.

______________________________

- الصحة متكفلة لإثبات النيابة مع الشك، نظير ما إذا دار أمر الصلاة بين كونها نافلة الصبح أو فريضة، فأصالة الصحة لا تثبت قصد الفريضة بها.

ثم انه يقع الكلام في جهة أخرى، و هي انه إذا أحرز قصد النيابة، و لكن احتمل فساد العمل من جهات أخرى، فهل ينفع إجراء أصالة الصحة في العمل لإثبات براءة ذمة المنوب عنه أم لا؟

و هذا ما يأتي تحقيقه، فلاحظ.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 115

و الجواب عن الإشكال المذكور: ان المراد من الموضوع الواجب إحرازه هو ما كانت نسبة الأثر إليه نسبة العرض إلى معروضه، و المسبب إلى سببه، و المقتضي إلى مقتضية، و الأثر إلى ذي الأثر إذ لا يخفى انه ليس كل ما له دخل في ترتب الأثر يكون دخيلا في التأثير و سببا للأثر، و يتضح ذلك في العلل و المقتضيات التكوينية، فان مجرد النار ليست علة تامة للإحراق، بل يبوسة المحل و الملاقاة شرط في ترتب الأثر- أعني الإحراق-، و لكن الإحراق انما يستند إلى النار و نسبته إليها نسبة العرض إلى معروضه، فانها هي المؤثرة فيه، و الشرائط من الملاقاة و يبوسة المحل دخيلة في تأثير النار لا أنها بنفسها مؤثرة. فالشرط العرفي ان كانت نسبته إلى الأثر نسبة المعروض إلى العروض و المقتضي إلى المقتضى بحيث يكون جزء المؤثر، وجب إحرازه عند إجراء أصالة الصحة شرعا و عرفا. و ان لم تكن نسبته كذلك بل كانت من قبيل الشرط و عدم المانع لم يلزم إحرازه في إجراء أصالة الصحة شرعا و عرفا، لعدم دخالته في موضوع

الأثر و هو مورد جريان أصالة الصحة التي قامت عليها السيرة العرفية كما في الإشكال.

فجملة القول: انه لا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز الموضوع للصحة، و هو ما كان مباشرا للتأثير، و لا يلزم إحراز جميع الشرائط العرفية و لو لم تكن دخيلة في الموضوعية.

و عليه، فلا يرد الإشكال المذكور. إلا ان يدعى قيام السيرة على جريان أصالة الصحة بمجرد إحراز صورة العنوان و لو لم يحرز العنوان أو غيره من اجزاء الموضوع، كجريانها بالنسبة إلى الغسل مع الشك في وصول الماء إلى بعض الاجزاء، مع انه مقوم للموضوع عقلا، كما ذهب إلى هذا المحققان الخراسانيّ «1»

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول- 245- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 116

و الأصفهاني «1». (قدس سرهما).

و لكن ثبوت ذلك محل نظر و شك، و هو كاف في منع هذه الدعوى.

و قد مثل الشيخ رحمه اللّه لصغرى المقام- أعني: ما يشترط فيه إحراز العنوان- بالغسل، و انه لا تجري فيه أصالة الصحة ما لم يحرز كون الفاعل بعنوان التطهير، لأن الغسل بظاهره ليس فيه صحيح و لا فاسد.

و هذا بظاهره قد يستغرب وقوعه من الشيخ، لأن الطهارة انما هي من آثار نفس الغسل، إذ لا يشترط في حصولها كونه بعنوان التطهير كما لا يخفى.

و لم أجد من المحققين من تعرض لتوجيه كلام الشيخ.

و غاية ما يمكن ان يقال في هذا المجال: ان اتصاف الشي ء بالصحّة و الفساد لا يدور مدار ترتب الأثر و عدم ترتبه فقط، فلا يقال للغسل الحاصل بواسطة قوة الريح و إلقائها الثوب في الماء انه صحيح لو طهر الثوب أو فاسد لو لم يطهر.

و انما يدور مدار

ترتبه و عدم ترتبه مع كون الفعل صادرا بداعي ترتب الأثر، فالغسل إذا كان صادرا بعنوان التطهير يتصف بالصحّة و الفساد، أما إذا لم يكن متحققا بهذا الداعي فلا يتصف بهما، فمع عدم إحراز العنوان لا تحرز قابلية الفعل للاتصاف بالصحّة و الفساد.

ثم ان الشيخ بعد ان تعرض إلى هذه الجهة ذكر أمرا آخر، و هو: بيان الفرق بين مثل الصلاة على الميت، و الصلاة عنه تبرعا أو استئجارا، أو الحج عن العاجز، حيث حكم الأصحاب بإجراء أصالة الصحة في الأول و رتبوا عليها سقوط الوجوب عن الغير، و عدم إجرائها في الثاني حيث اشترطوا الثقة و العدالة في النائب و المستأجر مما يكشف عن عدم اعتبارهم أصالة الصحة فيه.

و قد ذكر (قدس سره) لتوجيه التفريق وجهين:

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 318- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 117

الأول: انه في صلاة النائب لا يعلم كونه في مقام إبراء ذمة الميت في صلاته أو لا يعلم كونه في مقام الصلاة، و إلا فمع العلم بحاله و انه في مقام الإتيان بالصلاة إبراء لذمة الميت يلتزم بالحمل على الصحة و جريان الأصل في العمل عند الشك، و الطريق إلى الوصول إلى ذلك هو العدالة بحيث يوثق بقوله و دعواه انه في مقام الإبراء.

الثاني: ان لفعل النائب الصادر بعنوان النيابة حيثيتين: إحداهما: حيثية كونه فعلا للنائب. و الأخرى: حيثية كونه منتسبا إلى المنوب عنه بلحاظ جهة التسبيب، و يترتب على الفعل باعتبار كل من الحيثيتين ما لا يترتب عليه باعتبار الأخرى.

و الصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية التي هي موضوع الأثر و هو فراغ الذّمّة و عدم

وجوب الإعادة.

و هذا بخلاف مثل الصلاة على الميت مما يكتفي في إسقاط الذّمّة تحقق الفعل من الغير.

و قد صار هذا الكلام محلا للنقض و الإبرام بين المحققين الأعلام.

و التحقيق: انه لا محيص عن الالتزام به. و ذلك لأن هاتين الحيثيتين عرضيتان، فالفعل- بمعناه الاسم المصدري- بذاته ينتسب إلى النائب باعتباره المباشر له، و ينتسب إلى المنوب عنه بلحاظ التسبيب بالاستئجار، فإذا شك المنوب عنه في صحة هذا الفعل المتحقق في الخارج باعتبار انتسابه إليه، فلا مجال له لإجراء أصالة الصحة فيه كي يترتب عليه آثار الفعل الصحيح المنتسب إليه من فراغ الذّمّة، لأنه بهذا اللحاظ فعل نفسه، و أصالة الصحة موضوعها فعل الغير لا فعل الشخص نفسه.

نعم، لو شك المنوب عنه في صحة الفعل باعتبار انتسابه إلى النائب بلحاظ ترتيب آثاره من استحقاق الأجرة و غيره، أمكنه إجراء أصالة الصحة فيه، لأنه بهذا الاعتبار فعل الغير، و لكن الصحة من هذه الحيثية لا تثبت الصحة من

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 118

الحيثية الأخرى. إلا بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: ان يكون مفاد أصالة الصحة ثبوت المشكوك تكوينا و خارجا حقيقة، فمع جريانها بالاعتبار الأول يثبت المشكوك تكوينا فيرتفع شك المنوب عنه حقيقة و يحصل له العلم الوجداني باجتماع الاجزاء و الشرائط.

الثاني: ان يكون أثر الصحة بالاعتبار الثاني في طول أثر الصحة بالاعتبار الأول، بان يكون هذا موضوعا لذاك شرعا، فإذا ثبت بأصالة الصحة أثر الصحة بالاعتبار الأول يترتب جزما أثر الصحة بالاعتبار الثاني.

الثالث: ان تكون الإضافة الثانية في طول الإضافة الأولى- فالطولية بين الإضافتين لا بين الأثرين- بان يكون الفعل الصادر من النائب هو موضوع الإضافة إلى المنوب عنه لا نفس الفعل بذاته، و يكون

موضوع الأثر هو فعل النائب الصحيح. و عليه فبجريان أصالة الصحة في فعل النائب يترتب الأثر المرغوب.

و جميع هذه الوجوه منتفية:

أما الأول: فواضح، لأن مفاد أصالة الصحة هو التعبد بصحة العمل الصادر لا إثبات تحقق المشكوك تعبدا فضلا عن إثباته تكوينا و حقيقة.

و أما الثاني: فلأن دعوى كون فراغ الذّمّة- أعني: ذمة المنوب عنه الّذي هو أثر الصحة بالاعتبار الثاني- حكما من أحكام استحقاق الأجرة الّذي هو من آثار الصحة بالاعتبار الأول، واضحة المنع.

و أما الثالث: فلأن موضوع الإضافة هو نفس العمل الخارجي، فهو بنفسه مضاف إلى النائب، كما انه بنفسه مضاف إلى المنوب عنه، فالإضافتان غير طوليتين بل عرضيتين.

فإذا ثبت التعبد بصحة العمل باعتبار إضافته إلى النائب التي مرجعها إلى ثبوت آثار عمل النائب الصحيح لا غير، لا تترتب آثار عمل المنوب عنه الصحيح، كما لا يخفى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 119

و لكن هذا انما يتم في صورة حياة المستنيب كالنيابة في الحج عن العاجز.

أما في صورة استئجار الولي أو الوصي، فلا مانع من جريان أصالة الصحة في العمل بلحاظ إضافته إلى المنوب عنه، لأن الاستئجار يكون من الولي أو الوصي، و عمل المنوب عنه بالنسبة إليهما فعل الغير، فيكون موردا لأصالة الصحة و تترتب آثار الصحيح بالنسبة إليهما.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تفسير النيابة، بأنها تنزيل الفاعل نفسه منزلة المنوب عنه في فعله، بحيث يكون الفاعل وجودا تنزيليا للمنوب عنه فيكون للفعل انتسابان عرضيان.

أما لو قيل: بان النيابة ليست سوى فعل الشخص عملا لنفسه، غاية الأمر ان نتيجة هذا العمل ترجع إلى الغير، فيكون منوبا عنه، فلا إشكال في كون جريان أصالة الصحة في فعل النائب بما هو

فعل للنائب كافيا في فراغ ذمة المنوب عنه، لأن فراغ ذمته أثر للعمل الصحيح الصادر من الغير، فالتفت.

المقام الخامس: فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار.

و التحقيق: ان الثابت بها ليس الا آثار العمل الصحيح الشرعية، دون لوازمه و ملزوماته العقلية و العادية، كما لا يثبت بها الجزء المشكوك كي تترتب عليه آثاره.

و لا يفترق الحال في هذا بين أن نقول بأن قاعدة الصحة إمارة أو أصل- كما هو الأقرب، لاعتبارها في مورد ينتفي فيه ملاك الأمارية، و هو مورد جهل الفاعل بالصحيح و الفاسد- لما ذكرناه آنفا من أن الأمارة بنفسها ليست حجة في لوازم مفادها و ملزوماته- نعم، قد يكون قيام الأمارة على الملزوم أو اللازم منشئا لقيام إمارة من فصيلتها على اللازم أو الملزوم، كما في الخبر، لأن الاخبار بالملزوم اخبار باللازم و بالعكس، فيثبتان بالأمارة الثانية، و لكن هذا ليس من حجية الأمارة في اللوازم و الملزومات- كما لا يخفى- و هذا مما لا إشكال فيه.

و انما الإشكال فيما فرّعه الشيخ رحمه اللّه على هذا من: أنه إذا شك في ان

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 120

الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر و الخنزير أو بعين من أعيان ما له، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته، بل يحكم بصحة الشراء و عدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع، لأن كون الثمن خلا أو شاة- مثلا- ليس مفاد أصالة الصحة، كما انه ليس من آثار الصحة شرعا، بل هو من اللوازم العقلية، لأن صحة البيع متوقفة عقلا على ان يكون الثمن هو هذا، فلا يثبت بأصالة الصحة.

و قد ذكر في مقام الإشكال على هذا التفريع و جهان:

الأول: انه ان جرت أصالة الصحة في

العقد الواقع بلا ان يترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري، كان جريانها بلا أثر- إذ أثرها هو حصول النقل و الانتقال و هو غير متحقق كما هو الفرض- فلا معنى لجريانها. و ان ترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري بلا انتقال العين من تركته إلى البائع، كان البيع بلا عوض و هو خلاف مفهوم البيع.

الثاني: العلم الإجمالي بكون أحد العينين ليس ملكا له، لأنه ان وقع البيع بالخل- مثلا- فقد خرج عن ملكه. و ان وقع بالخمر فالمبيع ليس ملكه. فإجراء الأصلين- أعني: أصالة الصحة، و أصالة بقاء العين على ملكيتها للمشتري- يستلزم مخالفة قطعية للعلم الإجمالي، و هي غير جائزة.

و لكن هذين الوجهين لا ينهضان لمنع جريان أصالة الصحة في المورد المزبور.

أما الأول: فيدفع بان الحكم بعدم انتقال الخل لا يستلزم الحكم بوقوع البيع بلا عوض، بل يقتضي عدم ثبوت العين الخاصة ثمنا، أما عدم ثبوت الثمن بالمرة فهذا أجنبي عن ذلك، بل ثمن المثل ثابت في الذّمّة.

و أما الثاني: فهو أجنبي عن عدم قابلية الأصل للجريان، إذ عدم جريان الأصل في الفرض يكون لأجل وجود المانع، لا لأنه في نفسه غير قابل- الّذي هو محل الإشكال- و لذلك فلا مانع من جريانه فيما لو لم يكن العلم الإجمالي منجزا، كما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 121

لو كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء، فالتفت و تأمل جيدا و اللّه سبحانه ولي التوفيق.

المقام السادس: في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول.

و الكلام.

تارة: يكون في حكم الأصل بالنسبة إلى الأصل الحكمي الجاري في نفسه في جميع مواردها، و هو أصالة عدم ترتيب الأثر و تحقق النقل و الانتقال في العقود.

و أخرى: يكون في حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي الجاري في

نفسه في بعض الموارد، كأصالة عدم البلوغ عند الشك في صحة العقد و فساده من جهة الشك في البلوغ، فان البلوغ أمر حادث فالأصل عدمه.

ثم انه حيث لم يثبت أمارية القاعدة أو أصليتها- و ان لم يكن فرق بينهما من حيث عدم ثبوت اللازم و الملزوم بها كما أشرنا إليه- لا بد من الكلام من الجهتين، فيتكلم في حكمها بناء على الأمارية، كما يتكلم في حكمها بناء على الأصلية.

أما نسبتها مع الأصل الحكمي، فهما في رتبة واحدة لاتحاد موردهما، فأصالة الصحة معناها ترتب الأثر، كما ان أصالة الفساد معناها عدم ترتب الأثر.

فان قلنا بأنها أمارة، سواء أثبتت اللازم أو لم تثبته، تكون مقدمة على الأصل الحكمي بالورود- كما حققناه- و الا فبالتخصيص لا بالحكومة، و ان كانت قول المشهور. و على كل فهي مقدمة عليه لا محالة، لأنها رافعة لموضوعه اما تكوينا- كما هو مبنى الورود- أو تنزيلا- كما هو مبنى الحكومة.

و ان قلنا بأنها أصل، فمقتضى القاعدة التي تقتضيها الصناعة هو تعارضهما و تساقطهما، لكن الاتفاق تم على تقدم أصالة الصحة، إما للزوم اللغوية- لأن أكثر مواردها بل كلها يوجد فيها أصل حكمي، فيلزم من سقوطها تخصيص الأكثر و هو قبيح- أو للزوم اختلال النظام، أو لقيام سيرة المتشرعة على جريانها في مثل هذه الموارد.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 122

و أما حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي.

فان قلنا بأنها إمارة و هي تثبت اللازم و الملزوم، كانت حاكمة على الأصل أو واردة عليه- على الخلاف الّذي عرفته- لأن قيامها على الصحة يثبت تحقق الموضوع المشكوك، فلا يبقى مجال للأصل النافي لقيام الأمارة في مورده.

و ان قلنا بأنها أمارة، و لكن لا تثبت اللوازم

و الملزومات.

فقد يتوهم: تقدم الأصل عليها، حيث أنه أصل موضوعي و هي أمارة حكمية، و ما هو في رتبة الموضوع- و لو كان أصلا- مقدم على ما هو في رتبة الحكم- و لو كان أمارة.

و لكنه توهم فاسد، لأنه انما يتم إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع- أعني: ثبوت الحكم للموضوع بنحو القضية الحقيقية- فان الأصل الجاري في رتبة الموضوع ينقح الموضوع فيتقدم عليها.

أما إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم في مورد الشك في الموضوع- كما فيما نحن فيه- لم يكن الأصل الجاري في الموضوع مقدما عليها، لأنه و ان رفع الشك تعبدا، و لكنه- أعني: الشك- لم يؤخذ في موضوع الأمارة كي ينتفي موضوعها بجريانه، بل هو مأخوذ بنحو الموردية.

و عليه، فالأمارة في نفسها لا مانع من جريانها. كما ان الأصل الموضوعي يترتب عليه نفي ترتب الأثر، فيتعارضان و النتيجة هي التساقط.

و ان قلنا بأنها أصل لم يكن شك- بمقتضى القواعد الصناعية- في تقدم الأصل الموضوعي عليها لرفعه لموضوعها كما لا يخفى.

و لكن الصناعة و ان كانت على هذين القولين تقتضي عدم جريان أصالة الصحة فعلا. و لكن الالتزام بها في هذه الموارد قول الأصحاب، و عللوه: بلزوم اللغوية و السيرة العقلائية. و كلا التعليلين غير صالحين لإسناد القول المذكور.

أما لزوم اللغوية فلأن دليل أصالة الصحة ليس لفظيا كي يقال بأنه يلزم من

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 123

نفي أصالة الصحة في هذه الموارد استعمال المطلق في الفرد النادر.

و أما السيرة العقلائية، فلأنها انما تكون حجة لو لم يردع عنها. و يمكن ان يكون الشارع قد اكتفي في مقام الردع بهذه الأصول النافية للترتب الأثر، فلا دليل على

حجيتها. نعم، الّذي يمكن التمسك به في إثبات القول المذكور هو قيام سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على التمسك بأصالة الصحة في هذه الموارد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى أصل المطلب. يبقى الكلام في كلام الشيخ بالنسبة إلى الأصل الموضوعي، فقد اضطربت نسخ الرسائل في نقل كلام الشيخ و وقع الخلط فيها بين كلامه و كلام السيد الشيرازي (قدس سرهما). و الّذي نقله المحقق الأصفهاني عن الشيخ يخالف ما في النسخ بالمرة، فقد نقل كلاما له و السيد الشيرازي و ذكر ان الشيخ صحح كلام السيد الشيرازي كما رآه بخطه الشريف.

أما ما نقله عن الشيخ، فمحصله: ان أصالة الصحة تقتضي صحة العقد، بمعنى جامعيته للشرائط التي منها البلوغ- مثلا- فيترتب عليها النقل و الانتقال.

و الاستصحاب يقتضي- بضميمة الجزء الآخر المحرز بالوجدان و هو العقد- عدم ترتب الأثر لتمامية موضوع الفساد، و هو العقد الصادر من غير البالغ. فيتعارض الأصلان.

ثم اعترض على هذه المعارضة: بأن الأثر يترتب على العقد الصادر من البالغ، فنفي هذا الأثر بإثبات ضد السبب يكون بالملازمة، لأن عدم الأثر بعدم السبب لا بوجود ضد السبب، فيبقى الاستصحاب بلا أثر فلا يجري فتبقى أصالة الصحة بلا معارض.

ثم عدل عن هذا الأصل- أعني: أصالة عدم البلوغ- إلى أصل آخر و هو أصالة عدم السبب الناقل، أو أصالة عدم صدور العقد من البالغ الّذي هو موضوع عدم الأثر- كما مر- فتتحقق المعارضة بين الأصلين، لأن أحدهما ينفي الأثر و الآخر يثبته.

و لكنه (قدس سره) أجاب عن هذه المعارضة: بان أصالة عدم السبب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 124

بالنسبة إلى نفي الأثر من باب اللااقتضاء، لأن عدم السبب انما لا يقتضي وجود المسبب لا انه يقتضي

عدمه. و أصالة الصحة بالنسبة إلى إثبات الأثر من باب الاقتضاء، لأنها تثبت مقتضى الأثر، و لا مزاحمة بين ما له الاقتضاء و ما لا اقتضاء له. و عليه فتجري أصالة الصحة بلا مزاحم و لا معارض و تتقدم على الأصل الموضوعي.

هذا ما نقله عن الشيخ (قدس سره) «1».

و الإشكال على ما ذكره أخيرا واضح، لأن ما يتكفل لبيان شي ء بنحو اللااقتضاء و ما يتكفل لبيان ضده بنحو الاقتضاء لم يثبت كون تنافيهما من باب التزاحم، كي يقال بعدم المزاحمة، بل سيأتي انه من باب التعارض. و على تقدير كونه من باب التزاحم فهما انما لا يتزاحمان فيما لو لم يكن في الدليل الدال على الأمر اللااقتضائي اقتضاء للااقتضاء. أما مع وجود المقتضى للاقتضاء يحصل التزاحم طبعا. و ما نحن فيه كذلك، لأن التعبد بالأصل انما يكون بلحاظ وجود المصلحة في المتعبد به و المقتضي لثبوته، فالامر اللااقتضائي الثابت بالاستصحاب له مقتضي قهرا فيحصل التزاحم.

و اما ما ذكره عن السيد الشيرازي «2»، فحاصله: ان المراد بالصحّة في أصالة الصحة إن كان نفس ترتب الأثر، فلا إشكال في تقدم أصالة عدم البلوغ عليها، لأن الشك في ترتب الأثر يكون ناشئا عن الشك في بلوغ العاقد، و الأصل المذكور يرفعه تعبدا كما هو شأن كل أصل سببي مع الأصل المسببي. و ان كان بمعنى استجماع الشرائط التي منها البلوغ، يحصل التعارض بين الأصلين بلا حكومة لأحدهما على الآخر، لأن أصالة الصحة مقتضاها صدور العقد من البالغ، و مقتضى الاستصحاب- بضميمة الجزء الآخر- صدوره من غير البالغ.

و بعد ان ذكر هذا اعترض على هذه المعارضة: بان مفاد أصالة الصحة هو

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية

3- 323- الطبعة الأولى.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 323- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 125

التعبد بوجود العقد الصحيح، و مفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود، و لا تقابل الا بين وجود العقد الصحيح و عدمه، أو بين سببية العقد الموجود و عدمها.

و هذا الاعتراض مجمل المفاد و يحتمل فيه وجوه ثلاثة:

الأول: ما ذكره الشيخ من كون الاستصحاب من الأصول المثبتة، لأن نفى الأثر المترتب على الضد بإثبات الضد الآخر يكون بالملازمة.

الثاني: ان الأثر انما يترتب على وجود العقد الصحيح، فنفي صحة العقد الواقع لا تستلزم نفي ترتب الأثر، بل الّذي يستلزم هو نفي العقد الصحيح، و هو غير مفاد الاستصحاب.

الثالث: اختلاف مورد الأصلين، فان المعارضة بين الأصلين انما تكون إذا كان موردهما واحدا، و أما مع تعدد موردهما، فلا يحصل بينهما التعارض. و مورد الاستصحاب هو عدم سببية العقد الموجود، و مورد أصالة الصحة هو وجود العقد الصحيح، فمورد كل منهما يختلف عن الآخر، فلا تعارض بينهما.

و هذا الوجه هو الّذي حمل عليه المحقق الأصفهاني عبارة السيد، مستشهدا على ذلك بما ذكره السيد في مقام دفع هذا الاعتراض، بان مفاد أصالة الصحة ليس هو التعبد بوجود العقد الصحيح، بل هو التعبد بصحة العقد الواقع، فيتحد مورد النفي و الإثبات، فيحصل التعارض.

و عليه، فالسيد التزم بالمعارضة بين أصالة الصحة و الاستصحاب الموضوعي الجاري في المقام.

و عليه، فمقتضى الصناعة تساقط الأصلين، و لكن سيرة المتشرعة قائمة على العمل بأصالة الصحة في هذه الموارد كما ذكرنا. فتدبر جيدا و اللّه ولي التوفيق. انتهى الكلام في أصالة الصحة «1» و الكلام بعده في:

______________________________

(1) و ذلك في يوم الأربعاء 19- 8- 82.

القواعد

الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 127

قاعدة الفراغ و التّجاوز

اشارة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 129

قاعدة الفراغ و التجاوز

و الكلام فيها في جهات:

الجهة الأولى: في أنها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية.

لا إشكال في كونها قاعدة فقهية، لأن جميع التعاريف للمسألة الأصولية بشتى أنواعها تشترك في كون مورد المسألة الأصولية هو الشبهة الحكمية، و مورد القاعدة التي نحن بصددها انما هو الشبهة الموضوعية كما لا يخفى، فلو انطبقت جميع خصوصيات المسألة الأصولية على القاعدة لما استلزم كونها مسألة أصولية لكون موردها هو الشبهة الموضوعية.

هذا و لكن تقدم تعريف المسألة الأصولية بما لا يختص إجراؤه بالمجتهد، بل بما يعم حكمه الشبهة الموضوعية، فراجع.

الا ان يراد من بيان ضابط المسألة الأصولية بيان الضابط لمسائل معينة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 130

حررت لغرض الاستنباط، فلا تشمل مسائل الشبهة الموضوعية و الأمر سهل.

الجهة الثانية:

ان الشك تارة: يكون متعلقا بوجود الشي ء، و أخرى: يتعلق بصحة العمل الموجود و الأول مورد قاعدة التجاوز و الثاني مورد قاعدة الفراغ فما يتكفل الإلغاء حكم هذين الشكين هل هو قاعدة واحدة أو قاعدتان؟. وقع الكلام، في ذلك، و هو يقع في مرحلتين: مرحلة الثبوت، و مرحلة الإثبات.

أما مرحلة الثبوت فالكلام فيها يقع في إمكان كون ما يتكفل إلغاء الشكين قاعدة واحدة.

و قد بين في وجه عدم إمكان كونه قاعدة واحدة تقريبات متعددة:

أحدها: ان متعلق الشك الأول وجود الشي ء، و هو مفاد كان التامة، و متعلق الشك الثاني صحة الموجود، و هو مفاد كان الناقصة. و هما- أعني: نسبة كان التامة و نسبة كان الناقصة- نسبتان متغايرتان لا جامع بينهما، كي يمكن بيان حكمهما بدليل واحد.

و لكن نسب إلى الشيخ (قدس سره) المناقشة في هذا التقريب ببيان: انه يمكن إرجاع الشك في صحة العمل الموجود إلى الشك فيها بمفاد كان التامة، و ذلك بان يكون الشك في وجود العمل الصحيح، و هو مفاد كان

التامة، فكلا المتعلقين بهذه النسبة، فيمكن بيان حكم الشكين بدليل واحد، لإمكان الجامع «1».

و لكن المحقق العراقي رحمه اللّه [1]، أورد على الشيخ: بان مورد الأثر

______________________________

[1] التحقيق ان ما أفاده قابل للمناقشة، فان الأثر العملي يترتب على مجرد وجود العمل الصحيح، سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات.

اما العبادات، فلأنه يكفي في فراغ الذّمّة و حكم العقل بالبراءة إحراز تحقق العمل الصحيح، و لو لم يعلم صحة هذا المأتي به، لأن الامتثال يتحقق بإتيان المأمور به.

و أما في المعاملات:

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 414- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 131

يختلف، فتارة: يكون موضوعه وجود الشي ء بمفاد كان التامة. و أخرى: يكون اتصاف شي ء بشي ء بنحو مفاد كان الناقصة. فإرجاع الشك في الصحة إلى الشك بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في ترتب الأثر المرغوب، حيث أخذ مورد الأثر الشك في اتصاف العمل بالصحّة، و هو مفاد كان الناقصة «1».

كما أورد عليه المحقق الأصفهانيّ (قدس سره): بان العمل الصحيح المأخوذ وجوده في موضوع الشك إما ان يكون بالإضافة إلى الصحة مطلقا، بمعنى انه لا يلحظ فيه كونه صحيحا، بل يلحظ الشك في وجوده فيرجع إلى القسم الأول من الشك. و اما ان يكون بالإضافة إليها مقيدا، بان يلحظ العمل المتصف بالصحّة

______________________________

- فقد يشكل بان إحراز وقوع العقد الصحيح لا ينفع في ترتب الأثر، بل لا بد من إحراز ان هذا العقد صحيح.

و فيه: انه يكفي في ترتب الأثر إحراز وقوع البيع الصحيح على العين الكذائية بين الشخصين، لأن مقتضاه انتقال كل من العينين إلى مالك الأخرى. و لا حاجة إلى إحراز صحة العقد الواقع.

و اما ما ذكره (قدس

سره) من مثال قضاء السجدة المنسية و بيان ترتب الأثر فيه على إحراز صحة العمل الواقع، و لا يكفي مجرد وقوع العمل الصحيح.

ففيه: ان دليل لزوم قضاء السجدة لم يقيد بما إذا كانت الصلاة صحيحة، بل هو مطلق من هذه الناحية، و انما اعتبر صحة العمل في لزوم القضاء من جهة استظهار ورود الأمر بالقضاء لتصحيح العمل، فلا يثبت الأمر به مع فساد العمل للغويته.

و لا يخفى ان اللغوية ترتفع في ما إذا ترتب على القضاء فراغ الذّمّة و القطع بالامتثال و لو لم يحرز ان هذا العمل صحيح، و ما نحن فيه كذلك، فانه إذا ثبت بالقاعدة المبحوث عنها وجود الصلاة الصحيحة و جاء المكلف بالسجدة بعد العمل الّذي في يده، يحرز فراغ ذمته. بخلاف ما إذا ترك القضاء، فانه لا يقطع بفراغ الذّمّة، فالأثر لا ينحصر بصورة إحراز صحة العمل الموجود بمفاد كان الناقصة، بل يترتب على إحراز وجود الصحيح بمفاد كان التامة.

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 38- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 132

فيكون بنحو مفاد كان الناقصة. كما انه لا يمكن ان يكون مهملا، لامتناع الإهمال في مقام الثبوت.

و لكنه (قدس سره) أفاد في مقام التفصي عن هذا الإشكال- أعني: إشكال اختلاف النسبتين- مع التزامه بان مورد الأثر الشك في الصحة: ان الصحة المشكوكة تارة تلحظ بمفاد كان التامة. و أخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة. فان لو حظ في مورد الشك وجود الصحة بلا لحاظ اتصاف عمل خاص بها، كان ذلك بمفاد كان التامة. و ان لو حظ وجود اتصاف عمل بها، بان لو حظت وصفا لعمل خاص كانت بمفاد كان الناقصة. و عليه

فلا ملزم للالتزام بان الملحوظ في هذا القسم هو اتصاف العمل بالصحّة، بل ليس هو الا صحة العمل فانه مورد الأثر، فيمكن لحاظه بمفاد كان التامة.

و عليه، فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما، لاتحادهما ذاتا «1».

ثانيها: ما ذكره المحقق الأصفهاني بعد تفصيه عن إشكال تباين النسبتين بما عرفت و هو: انه لا جامع بين الشك في وجود الشي ء و الشك في صحة الشي ء كي يتكفل بيان حكمهما دليل واحد «2».

و ربما يقال: انه يمكن تصوير الجامع بان يكون عنوان المشكوك، فيتكفل الدليل إلغاء الشك، و البناء على تحقق المشكوك و ثبوته أعم من نفس العلم و صحته.

و يشكل على هذا: بان موضوع الكلام تصوير الجامع في مرحلة متقدمة على الشك، فالمطلوب تصوير الجامع في متعلق الشك، بحيث يكون الدليل متكفلا لبيان إلغاء الشك فيه فيعم القسمين، و هو لا يتصور بين الصحة و الوجود.

و للمحقق الأصفهاني بيان لإمكان تصوير الجامع و عدم مانعية ما ذكره من

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية 3- 296- الطبعة الأولى.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية 3- 296- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 133

اختلاف متعلق الشك و عدم الجامع له، محصله: ان الصحة التي تكون متعلقا للشك و يكون الشك فيها موردا للقاعدة، تارة: تكون بمعنى ترتب الأثر. و أخرى: تكون بمعنى استجماع العمل للاجزاء و الشرائط و ثالثة: تكون عنوانا انتزاعيا للاستجماع.

فإن كان المراد بها الأول و الثالث، كان ما ذكر من عدم تصور الجامع بين المتعلقين مسلما كما لا يخفى. و لكن الأمر ليس كذلك، إذ ليس مفاد القاعدة المتكفلة لإلغاء الشك ترتب الأثر و لا العنوان الانتزاعي،

إذ ليس هو موضوعا للأثر، بل مفادها استجماع العمل للشرائط و الاجزاء الّذي هو موضوع الآثار الشرعية و العقلية، فيرجع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الكل، فيكون متعلق الشك بقسميه هو الوجود- و ان اختلف موضوعه، حيث انه تارة يكون الكل و أخرى يكون الجزء- و ذلك كاف في تحقق الجامع «1».

و لكن ما أفاده (قدس سره) لا يجدي شيئا، لما أشار إليه المحقق العراقي «2» من: ان موضوع الأثر قد يكون صحة العمل الخارجي لا وجود العمل التام و تحققه في الخارج، فرجوع متعلق الشك إلى وجود الكل، بحيث يكون مفاد القاعدة وجود الكل لا كلية الموجود. لا يتلاءم مع ما ذكرناه من كون موضوع الأثر في بعض الموارد تمامية الموجود لا وجود التام.

هذا، و لكن بعد ان أرجعت الصحة إلى مفاد كان التامة، بحيث اتحد المتعلقان نسبة، فما ذكر من عدم تصور الجامع بالتقريب الثاني لا مجال له، إذ يمكن تصور جامع عنواني يشار به إلى كلتا الصورتين- لأنه لا يلزم كونه جامعا حقيقيا ذاتيا- كلفظ الموصول، أو لفظ: «شي ء»، فيقال مثلا: «إذا شككت في وجود شي ء فابن على وجوده» أو: «كل ما شككت في وجوده فابن عليه»، فانه يعم الشك في وجود

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية 3- 296 الطبعة الأولى.

(2) البروجردي الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار 4- 38- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 134

ذات العمل و وجود صحة العمل فانها شي ء من الأشياء.

ثالثها: ان متعلق أحد الشكين أصل وجود الشي ء و متعلق الآخر صحة الشي ء مع الفراغ عن أصل وجوده. فالشي ء في أحدهما مفروض الوجود و في الآخر ليس بمفروضه، و

لا جامع بين ما هو مفروض الوجود و ما هو ليس بمفروضه.

و لكن هذا التقريب غير تام كأخويه السابقين، لأنه بعد ان عرفت ان إمكان أخذ متعلق كلا الشكين بمفاد كان التامة، فلا ملزم حينئذ لأخذ فرض الوجود في أحدهما بل هو غير ملحوظ أصلا، لأنه فرع كون المأخوذ مفاد كان الناقصة، بحيث يكون أصل الوجود مفروغا عنه و الشك فيما يتعلق به من الصحة. أما مع أخذ المتعلق هو الصحة بمفاد كان التامة، فلا تصل النوبة إلى أخذ فرض الوجود في المتعلق، إذ لا معنى له.

نعم، العمل في المورد مفروض الوجود، و لكن ذلك أجنبي عن متعلق الشك.

رابعها و خامسها: ان الجزء لما كان في مرحلة جزئيته مندكا في الكل فلا يلاحظ مع لحاظ الكل الا بنحو الاندكاك و باللحاظ الآلي، و انما يلاحظ بالاستقلال في مرحلة سابقة عن لحاظ الكل، فلحاظه الاستقلالي سابق رتبة على لحاظه الآلي.

فإذا أريد بيان حكم الشك في الكل و الجزء بدليل واحد، فلا بد من لحاظهما معا بنحو الاستقلال، فيلزم حينئذ اجتماع لحاظين للجزء أحدهما آلي و الآخر استقلالي، كما و يلزم تأخر المتقدم رتبة و هو اللحاظ الاستقلالي كما لا يخفى. و كلا هذين الأمرين ممتنعان.

و قد تفصى المحقق النائيني (قدس سره) عن ذلك بما محصله: ان الشك في الاجزاء لم يلحظ في جعل القاعدة الواحدة كما لو حظ نفس المركب، و انما المجعول ابتداء هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن العمل، ثم قامت الأدلة الخاصة على اعتبار القاعدة في موارد الشك في الاجزاء، فهي حاكمة على الأدلة الأولية.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 135

فلو لا قيام الأدلة الخاصة لاختص مورد القاعدة بالشك بعد الفراغ،

و لذلك يقتصر في التعدي إلى الاجزاء بمقدار ما قام الدليل بالنسبة إليه.

و من هنا يظهر الوجه في خروج اجزاء الطهارات الثلاث عن موضوع القاعدة، لاختصاص الأدلة باجزاء الصلاة، فلا يتعدى منها إلى غيرها لعدم الدليل على إلحاقها بها، كما انها ليست بداخلة «تحت خ ل» في ضمن الدليل الأولي.

و لا حاجة بعد هذا إلى تعليل خروجها بورود تخصيصها بالأخبار أو الإجماع.

هذا ملخص ما أفاده المحقق المذكور (قدس سره). و وجه التفصي به واضح بين، إذ الملحوظ ابتداء ليس الا الكل فلا يجتمع لحاظان كما لا يلزم تأخر المتقدم «1».

و لكنه غير تام، لأن الدليل الحاكم المتكفل لبيان اعتبار القاعدة في الاجزاء.

ان كان لسانه و مفاده هو الكشف عن أن المراد بموضوع الحكم في الدليل الأولي أعم من الجزء و الكل، فيكون مفاده إخباريا، و يثبت للجزء نفس الحكم الثابت للكل بدليله، عاد المحذور بالنسبة إلى الدليل الأولي- كما لا يخفى- و ان كان مفاده تنزيل الجزء منزلة الكل في الحكم بجعل حكم مماثل له، كان ذلك التزاما بتعدد القاعدة، و هذا يعني الالتزام بالمحذور.

و بالجملة: فما ذكره (قدس سره) إما لا يجدي في دفع المحذور، أو يرجع إلى الالتزام بالمحذور.

فالأولى في التفصي عنه أن يقال: ان المحذور انما يرد لو كان الملحوظ عند جعل القاعدة نفس الجزء و الكل، و لكن لحاظ المصاديق بخصوصياتها في جعل الحكم عليها غير لازم- كما هو الحال في القضايا الحقيقية- بل هو غير ممكن

______________________________

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2- 232- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 136

بالنسبة إلى بعض الموارد لعدم تناهي المصاديق أو تميزها فيها، بل يكفي في جعل الحكم على المصاديق

من لحاظها بعنوانها المنطبق عليها- كما يقرر ذلك في بيان الوضع العام و الموضوع له الخاصّ- و الحكم عليها بواسطة العنوان، فيكون موضوع الحكم هو العنوان و هو الملحوظ دون المصاديق.

و على هذا فلا ملزم للحاظ الجزء و الكل بأنفسهما عند جعل القاعدة، بل مع لحاظ جامعهما العنواني و هو لفظ: «الشي ء» مثلا و جعله موضوع الحكم فيها.

و عليه، فلا يبقى لما ذكر مجال، لوحدة اللحاظ و عدم تعدده، كي يلزم ما ذكر من اجتماع اللحاظين و تأخر السابق لعدم لحاظ الجزء و لا الكل بأنفسهما.

سادسها: ما ذكره الشيخ في التنبيه الرابع لا بعنوان المحذور «1»، و لكن المحقق النائيني ذكره محذورا يتحقق من وحدة القاعدة، و هو محذور التدافع.

و محصل ما ذكره (قدس سره): انه إذا شك في الإتيان بالجزء في أثناء العمل بعد التجاوز عن محله، فباعتبار لحاظ الجزء بنفسه يصدق انه تجاوز عن محله فلا يعتنى بالشك و باعتبار لحاظ المركب بما هو يصدق انه لم يتجاوزه فيجب عليه التدارك. فيلزم التدافع في مفاد القاعدة بلحاظ الاعتبارين.

و بعد ان ذكر هذا، أورد على نفسه: بان التدافع حاصل على القول بتعدد القاعدة، فانه بمقتضى قاعدة التجاوز لا يعتني بالشك لحصول التجاوز عن محل المشكوك، و بمقتضى قاعدة الفراغ يعتني بالشك لعدم حصول التجاوز عن المركب.

و أجاب عنه: بأنه مع تعدد الجعل تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ، لأن الشك في صحة العمل و فساده مسبب عن الشك في الإتيان بالجزء، و المفروض ان الشك السببي يلغى بقاعدة التجاوز فينتفي موضوع قاعدة الفراغ تعبدا، و هو الشك في الصحة و الفساد.

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 412- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)،

ج 7، ص: 137

ثم أورد على نفسه: بأنه لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخر بين ان يكونا مجعولين بجعلين- كما هو الحال في الاستصحاب و البراءة- أو بجعل واحد- كحكومة أحد الاستصحابين على الآخر. فمع شمول القاعدة لمورد قاعدة التجاوز- و هو الشك في الجزء بعد التجاوز عنه- تتحقق الحكومة بلا فرق بين الجعل الواحد و الجعلين.

و أجاب عنه: بان حكومة أحد الأصلين على الآخر- المجعولين بجعل واحد- تتوقف على تحقق موردهما في حد أنفسهما، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لأن جريان قاعدة الفراغ يتوقف على الانتهاء من العمل، و هو غير متحقق لفرض الشك في الأثناء، فلا موضوع لقاعدة الفراغ كي يقال بحكومة قاعدة التجاوز عليها، بل المتحقق فيه عكسها. فالمورد باعتبار يدخل في القاعدة، و باعتبار آخر يدخل في عكسها، و لا وجه لدعوى الحكومة في مثل هذا.

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)؛ ج 7، ص: 137

هذا ملخص ما أفاده في تقريب المحذور «1».

و لكنه لا يرجع إلى محصل، لأن التدافع المدعى.

ان كان بين قاعدة التجاوز و قاعدة الفراغ، فالمفروض انه لا موضوع لقاعدة الفراغ، لكون الشك في أثناء العمل- و بذلك قرر عدم الحكومة- فليس في البين الا قاعدة التجاوز.

و ان كان التدافع بين منطوق القاعدة و مفهومها بلحاظ الاعتبارين، فإذا كان المورد- بلحاظ الجزء- مشمولا للقاعدة الواحدة المجعولة- لأنه مورد قاعدة التجاوز المفروض شمول القاعدة لمواردها لأنها قاعدة جامعة- يندفع التدافع بالحكومة، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في وجود الجزء كما عرفت، فجريان القاعدة بلحاظ الجزء يوجب

انتفاء الشك بلحاظ الكل تعبدا.

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 465- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 138

هذا، مع انه يمكن ان يقال: بعدم وصول النوبة إلى الحكومة، و ذلك لأنه سيأتي في دفع المحذور السابع: انه قد أخذ التجاوز في مورد القاعدة- بناء على وحدتهما- بالمعنى الأعم من الحقيقي- المتحقق في الشك في الصحة- و الادعائي المسامحي- المتحقق في الشك في الوجود على ما سيظهر- فمورد الحكم بالتعبد هو التجاوز بالمعنى الأعم، و مقتضى ذلك انه إذا تحقق التجاوز بأي معنى كان يتحقق موضوع التعبد و الحكم بإلغاء الشك، و المفروض ان التجاوز بأحد معنييه- و هو المسامحي- متحقق في الفرض فيتحقق موضوع القاعدة، و تجري بلا إشكال و لا تدافع. فالتفت.

سابعها: ان اسناد التجاوز إلى الشي ء في مورد قاعدة التجاوز اسناد مجازي مسامحي، لأن الشي ء لا يعلم تحققه كي يتجاوز عنه، و انما يسند حقيقة في هذا المورد إلى المحل. و اسناده إلى الشي ء في مورد قاعدة الفراغ اسناد حقيقي لتحقق العمل خارجا فيصدق التجاوز عنه حقيقة، فنسبة التجاوز إلى الشي ء في أحد الموردين مجازية و في الآخر حقيقية، و حيث لا جامع بين النسبتين- لأن النسبة من المعاني الحرفية- امتنع تكفل دليل واحد لبيان حكم الموردين بالنسبة إلى المتجاوز عنه.

و يمكن التخلص من محذور هذا التقريب بان اختلاف النسبتين انما يتحقق في صورة ما إذا أريد من التجاوز في كلا الموردين معناه الحقيقي الموضوع له، فان اسناده إلى الشي ء يختلف حقيقة و مجازا باختلاف الموردين.

اما إذا أرجعنا المسامحة في الإسناد المتحققة في مورد قاعدة التجاوز إلى المسامحة في الكلمة، بان التزمنا في التجاوز بمعنى أعم، بحيث يكون

اسناده إلى الشي ء في هذا المورد بهذا المعنى حقيقيا. لم تختلف النسبتان حينئذ.

و بالجملة: التخلص عن المحذور يكون بالالتزام بمعنى للتجاوز أعم من معناه الحقيقي، بحيث يكون اسناده إلى الشي ء في كلا الموردين بهذا المعنى حقيقيا، فيرجع

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 139

المجاز إلى الكلمة لا الإسناد، فانه بذلك لا اختلاف بين النسبتين، فيمكن تكفل دليل واحد لحكمهما معا.

و بهذا جميعه تبين انه لا مانع ثبوتا من الجمع بين القاعدتين و وحدتهما، إذ لم يتم شي ء من هذه المحذورات المذكورة كما عرفت.

و في قبال القول بعدم إمكان وحدتهما ثبوتا القول بلا بدية وحدتهما ثبوتا، و رجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز. بتقريب: ان الشك في صحة العمل ينشأ دائما عن الشك في وجود جزء أو شرط في ذلك العمل باعتبار ان الصحة عبارة عن الوصف الانتزاعي المنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به. و قاعدة التجاوز تتكفل إلغاء الشك في وجود الشي ء بعد تجاوز محله، فيرتفع الشك في الصحة تعبدا، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا يكون لغوا «1».

و لكنه محل نظر، لأن قاعدة الفراغ تجري في موارد لا تجري فيها قاعدة التجاوز، كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية، فان مثل هذا الموالاة لا تعد عرفا وجودا مستقلا يتعلق به الشك و يكون الشك فيه موضوعا للتعبد بإلغائه، كي يكون الشك فيها من موارد قاعدة التجاوز، بل الشك فيها يرجع في نظر العرف إلى الشك في صحة الكلمة أو الآية- لأنها بنظره من شئونهما و أطوارهما-، ففي مثل هذا المورد لا يكون الشك في صحة الصلاة مسببا عن الشك في وجود شي ء كي يكون

محكوما بقاعدة التجاوز و مرتفعا بها تعبدا.

و أيضا: يعتبر في قاعدة التجاوز- كما سيتضح- الدخول في الغير المترتب على المشكوك، و هذا لا يعتبر في قاعدة الفراغ، بل المعتبر فيها هو البناء النفسيّ على الانتهاء من العمل، سواء دخل في الغير أم لم يدخل. و بذلك يتعدد موردهما أيضا

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 271- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 140

و لا يتحد كي ترجع الثانية إلى الأولى للحكومة و لزوم اللغوية، و ذلك كما يظهر في مثل ما لو شك بعد الفراغ من العمل في الجزء الأخير منه و لم يكن قد دخل في عمل آخر مترتب عليه، فانه لا مجال في مثل هذا لجريان قاعدة التجاوز لعدم توفر شرطها مع انه مورد لقاعدة الفراغ.

و المتحصل: ان ما ذكر انما يتم لو كانت موارد قاعدة الفراغ كلها أو الأغلب منها قابلة لجريان قاعدة التجاوز، و لكن الأمر ليس كذلك، فان هناك موارد جمة تكون مجرى لقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا لا يكون لغوا.

هذا، مع أن الحكومة انما تثبت في موارد السببية و المسببية الشرعية و ليس ما نحن فيه كذلك، لأن الصحة ليست من الآثار الشرعية لوجود الجزء بل هي معنى انتزاعي يحكم به العقل، و ليس مجعولا شرعيا فالأصل الجاري في إثبات الجزء لا يكون حاكما على الأصل الجاري في إثبات الصحة، فلاحظ و لا تغفل.

هذا كله في مقام الثبوت، الّذي بقين منه: انه يمكن ثبوتا أن يكون كل من القاعدتين قاعدة مستقلة بنفسها، كما يمكن كونهما قاعدة واحدة، كما يمكن رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ- كما عليه المحقق النائيني- و

هناك احتمال آخر و هو عدم وجود قاعدة التجاوز بالمرة و انه ليس إلا قاعدة الفراغ، فالاحتمالات أربعة.

و أما الكلام في مقام الإثبات، فهو حول ما يتكفله الدليل من تعيين أحد هذه الاحتمالات الأربعة، فنقول- و باللّٰه الاعتصام.

أما الاحتمال الثاني- و هو كونهما قاعدة واحدة- فلا يساعد عليه الدليل، لأنه مبني- كما عرفت- على الالتزام بالتوسع في معنى التجاوز و كونه أعم من المعنى

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 141

الحقيقي، و هذا لا مجال له بالنسبة إلى بعض النصوص «1»، مما يمكن ان تكون نسبة التجاوز و المضي فيها إلى الشي ء بمعناه الحقيقي نسبة حقيقية، فانه مع إمكان حمل اللفظ على ظاهره اللغوي لا وجه للتصرف فيه و حمله على غير معناه الموضوع له.

و أما الاحتمال الثالث- و هو رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ بالتقريب السابق الّذي ذكرناه في دفع المحذور الرابع من كون المجعول أولا هو قاعدة الفراغ ثم نزل الشك في وجود الجزء منزلة الشك في الكل في خصوص باب الصلاة- فهو ممتنع من جهتين.

الأولى: عدم اختصاص قاعدة التجاوز موردا بالصلاة، بل تجري في غيرها كما ستعرف.

الثانية: انه مع تسليم الاختصاص بالصلاة، فلا دليل على ان ذلك- أعني عدم الاعتناء بالشك في الجزء فيها- كان من باب التنزيل أو الحكومة، كما قرره (قدس سره)، كي يرجع الجعل إلى قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ، إذ لا ظهور من لفظ النصوص في ذلك.

هذا، و يمكن ان يقرب ما أفاده (قدس سره): ان الروايات الواردة في إلغاء الشك في اجزاء الصلاة مذيلة بحكم عام، كقوله عليه السلام في رواية زرارة الآتية: «إذا خرجت من شي ء و دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء» «2»،

و قوله في رواية إسماعيل الآتية: «كل شي ء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه» «3». و هذا الحكم العام ظاهر في كون موضوعه الشك في الصحة لا الوجود، كما هو مقتضى لفظ التجاوز و المضي على المشكوك و الخروج منه فان جميع ذلك ظاهر في كون الشي ء مفروغا عن وجوده، و إنما الشك في شأن من شئونه و هو

______________________________

(1) كقوله عليه السلام: كل شي ء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.

(2) وسائل الشيعة 5- 336 باب: 23 من أبواب الخلل، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة 4- 971 باب: 15 من أبواب السّجود، الحديث 4.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 142

الصحة.

و إذا تم هذا، يظهر ان تطبيق هذا الحكم على المصاديق المذكورة في الصدر لا يكون إلا من باب تنزيل الشك فيها منزلة الشك في الصحة، و هو مما يقتصر فيه على مورده المتيقن و هو خصوص اجزاء الصلاة.

هذا غاية ما يمكن ان يوجّه به ما أفاده (قدس سره)، لكن يرد عليه: ان الذيل إذا كان ظاهرا في كون الموضوع هو الشك في الصحة فالتحفظ عليه يستلزم التصرف في ظهور الصدر و حمل المصاديق المذكورة فيه على بيان مصاديق الشك في الصحة لا الوجود، إذ ليست دلالتها على إرادة الشك في الوجود بنحو النص الّذي لا يمكن التصرف فيه.

فتكون الروايات ظاهرة صدرا و ذيلا في بيان قاعدة الفراغ كما سنقرّبه.

و لو لم يمكن الجمع بذلك، فما أفاده من الجمع بحمل الرواية على التنزيل ليس جمعا عرفيا و نتيجة ذلك إجمال النصوص و عدم استفادة شي ء منها. فلاحظ.

و أما الاحتمال الأخير (الرابع)- و هو عدم الأساس لقاعدة التجاوز، و ان

المجعول ليس الا قاعدة الفراغ، فلا يلغي الشك في الوجود شرعا- فهو و ان كان احتمالا في قبال الفتاوى و الإجماع، لكنه مما يمكن الجزم به عند لحاظ روايات الباب المستدل بها على ثبوت القاعدة، فان عمدتها روايتا زرارة «1»، قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة؟ قال عليه السلام:

يمضي. قلت: رجل شك في الأذان و الإقامة و قد كبر؟. قال عليه السلام: يمضي.

قلت: رجل شك في التكبير و قد قرأ؟. قال عليه السلام: يمضي. قلت: شك في القراءة و قد ركع؟. قال عليه السلام: يمضي، قلت: شك في الركوع و قد سجد؟. قال عليه السلام: يمضي على صلاته. ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثم دخلت

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5- 326 باب: 23 من أبواب الخلل الحديث: 1.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 143

في غيره فشكك ليس بشي ء- و إسماعيل بن جابر «1»- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث قال: ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، و ان شك في السجود بعد ما قام فليمض، كل شي ء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه.

و قبل الكلام فيهما لا بد من بيان شي ء، و هو: ان الشك في الشي ء قد يطلق و يراد به الشك في أصل وجود الشي ء. و قد يطلق و يراد به الشك في شأن من شئون الشي ء مما يرجع إلى صحته مع تسليم وجوده، فهو قابل لكلا الإطلاقين، الا انه مع عدم القرينة ظاهر عرفا في الأول- أعني الشك في وجود الشي ء- إذا عرفت هذا فنقول:

أما رواية زرارة، فصدرها و ان كان

يشتمل على التعبير بالشك في الشي ء الظاهر عرفا في الشك في وجوده، الا ان ذيلها الوارد بنحو تطبيق كبرى كلية على الموارد الجزئية المذكورة في الصدر ظاهر في كون الشك في صحة الشي ء، لقوله فيه:

«يا زرارة إذا خرجت من شي ء و دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء»، فان الخروج من الشي ء ظاهر عرفا في كون أصل الشي ء موجودا، لأنه مع عدم وجوده لا يتحقق الخروج عنه.

فلو لم نقل بان ظهور الذيل في الشك في الصحة مع الفراغ عن أصل الوجود موجب لتغيير ظهور الصدر في الشك في الوجود، بأن يكون المراد من الشك في صحة الشي ء، فان التعبير قابل لذلك، لأنه وارد مورد التطبيق، و أقوائية ظهوره في مؤداه من ظهور الصدر. فلا أقل من تصادم الظهورين، فتكون الرواية مجملة لا يعتمد عليها في شي ء من القاعدتين.

و أما رواية إسماعيل، فالكلام فيها كالكلام في سابقتها، فان قوله: «شك فيه»

______________________________

(1) وسائل الشيعة 4- 971 باب: 15 من أبواب السجود، الحديث: 4.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 144

ظاهر- كما عرفت- في الشك في الوجود، و لكن قوله: «جاوزه» ظاهر في التجاوز عن نفس الشي ء، و هو يقتضي تحقق وجود الشي ء، فيتصادم الظهوران، لدوران الأمر بين حمل: «جاوزه» على خلاف ظاهره و التصرف فيه بإسناده إلى المحل، أو حمل: «شك فيه» على الشك في صحته. و لا مرجح لأحدهما على الآخر، بل إبقاء ظهور لفظ التجاوز على اسناده الحقيقي أولى، لظهور قوله: «فليمض عليه» في ان تحقق أصل الشي ء مفروغ عنه و الا فلا يتحقق المضي عليه، كما لا يخفى.

فالمتحصل: عدم إمكان الاعتماد على هاتين الروايتين في إثبات قاعدة التجاوز، فلا يثبت لها أساس في النصوص،

فلا يبقى الا قاعدة الفراغ.

و على هذا فلو شك في الصلاة في جزء سابق و قد دخل في غيره، ينبغي له العود للإتيان به، الا إذا كان قد دخل في ركن لفوات محل التدارك حينئذ، حتى مع العلم بترك الجزء. و عليه فان كان الجزء المشكوك من غير الأركان، كالقراءة أو التشهد فلا يبطل عمله بمقتضى حديث: «لا تعاد». و ان كان من الأركان، كالركوع بعد دخوله في السجدة الثانية حكم ببطلان عمله و لزوم الإعادة.

و لو انتفى هذا الاحتمال أو لم يمكن الالتزام به، فلا محيص عن الالتزام بتعدد القاعدتين، و ان أحدهما- و هي قاعدة التجاوز- موضوعها الشك في وجود الشي ء بعد التجاوز عن محله. و الأخرى- و هي قاعدة الفراغ- موضوعها الشك في صحة الشي ء بعد فرض وجوده، و على هذا البناء يقع الكلام في الجهات الأخرى للبحث.

الجهة الثالثة: في عموم قاعدة التجاوز لجميع صور الشك في الوجود

، أو اختصاصها بالصلاة، كما ذهب إليه المحقق النائيني على ما عرفت.

و قد استدل للعموم بإطلاق لفظ: «شي ء» في رواية زرارة، و عموم لفظ: «كل شي ء» في رواية إسماعيل. فانهما غير ظاهرين في خصوص شي ء دون آخر، فلا محيص عن الالتزام بالعموم، لدلالتهما على ذلك.

و لكن من خص جريانها باجزاء الصلاة قرب عدم دلالة الروايتين على

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 145

العموم، بان: «شي ء» في رواية زرارة لفظ مطلق و دلالة المطلق على الإطلاق انما هو بتمامية مقدمات الحكمة، و إحداها عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، و هي منتفية في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب و هو اجزاء الصلاة- باعتبار كونها مورد الرواية- فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ: «شي ء» لعدم انعقاده. و اما لفظ: «كل شي ء»، فهو كسابقه،

لأن، «كل» لا تدل على العموم بنفسها و انما بلحاظ دلالة مدخولها، و بعبارة أخرى: ان: «كل» تدل على عموم ما يراد من مدخولها، و الا فهي بنفسها غير دالة على الاستغراق و العموم، فتتوقف دلالتهما على العموم على انعقاد مقدمات الحكمة في لفظ: «شي ء» الّذي هو مدخولها، و إحداها- و هي عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب- منتفية، لوجوده و هو مورد السؤال.

و لكن هذا التقريب انما يتجه صدوره ممن يقول باعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة- كالمحقق الخراسانيّ- اما من لا يقول بتوقف انعقاد الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن- كالمحقق النائيني-، فصدور هذا التقريب منه غير واضح الوجه.

مع ان نفس المبنى مناقش فيه، إذ لا يلتزم أحد بحمل المطلقات على خصوص مواردها- حتى المحقق الخراسانيّ- فلا وجه لاعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب في التمسك بالمطلقات.

و لو تنزل على ذلك، فما ذكر في الرواية الثانية من ان لفظ: «كل» لا تدل على العموم بالوضع، بل بمقتضى دلالة مدخولها، فالمتبع هو عموم المدخول، و هو يكون بتمامية مقدمات الحكمة، و هي غير تامة كما عرفت.

غير وجيه، لما حقق في محله من ان: «كل» من ألفاظ العموم بحيث تدل عليها بالوضع، فلا يحتاج في دلالتها عليه إلى تمامية مقدمات الحكمة. و كلام المحقق الخراسانيّ مختلف من هذه الناحية.

و بالجملة: فما ذكر في التخصيص باجزاء الصلاة انما يتم بتمامية أمرين

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 146

أحدهما: اعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.

و الاخر: عدم دلالة: «كل» على العموم بالوضع، بل باعتبار ما يراد من مدخولها.

أما قاعدة الفراغ، فهي عامة لجميع الأعمال، لأنه و ان

كانت بعض رواياتها واردة في الطهور و الصلاة، الا ان هناك روايتين يتمسك بهما للعموم:

إحداهما: رواية: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» فان: «كل» دالة على العموم و لا ظهور لها في فرد دون آخر.

و الأخرى: رواية باعتبار ما ذكر فيها من قوله عليه السلام: «فانه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»، فانه و ان لم يكن تعليلا- كما قيل- لكنه أشبه به، و لسانه لا يختص بالوضوء- و ان كان موضوعه- بل هو ظاهر في ان الشخص حين يتوجه للعمل أو حين يشتغل فيه يكون أكثر التفاتا إلى خصوصيات العمل و جزئياته المعتبرة فيه من وقت شكه، و هذا لا يختص بعمل دون آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه: ان كلتا القاعدتين تجريان في جميع الموارد التي تنطبقان عليها.

الجهة الرابعة: في عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء

، كما لو شك في الآية السابقة و هو في اللاحقة، أو في الكلمة السابقة في الآية و هو في اللاحقة، أو في الحرف السابق من الكلمة و هو في اللاحق.

و قد قرب عدم عمومها و اختصاصها بجزء العمل بوجوه ثلاثة:

الأول: ما قرره المحقق النائيني من: انه لا وجود لقاعدة التجاوز كي يتمسك بعموم دليلها أو إطلاقه، و انما هي من باب تنزيل الجزء منزلة الكل، و إلحاقه حكما بالكل، فلا بد من الاقتصار على المقدار المنزل منزلة الكل، و ليس في أدلة التنزيل ما يتكفل تنزيل جزء الجزء منزلة الكل، بل هي مقتصرة في التنزيل على خصوص الاجزاء كما لا يخفى على من لاحظ الروايات.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 147

و هذا الوجه قد عرفت ما فيه من عدم الدليل إثباتا على تكفل الدليل تنزيل الجزء منزلة الكل، بل ظاهره- لو تم-

بيان قاعدة كلية عامة.

الثاني: ان المعتبر في قاعدة التجاوز، التجاوز عن محل المشكوك، فلا بد من فرض محل له قد جعله الشارع و قرره، بحيث يكون فرض المحل امرا زائدا على المأمور به لا أمرا يتقوم به المأمور به، فمع عدم وجود محل مقرر له شرعا لا يتحقق موضوع قاعدة التجاوز، فلا وجه لجريانها، و جزء الجزء لا محل له كي يقال تجاوز عنه، فمثلا: امر الشارع بتكبيرة الإحرام في الصلاة و هي: «اللّه أكبر»، فسبق كلمة:

«اللّه» على كلمة: «أكبر» ليس امرا ملحوظا لدى الشارع و مأمورا به، بل ليس المأمور به الا التكبيرة لا إجزاءها، و السبق المذكور من مقوماتها، فلا يقال لمن عكس و قال: «أكبر اللّه» انه جاء بالمأمور به (التكبيرة خ ل) من غير ترتيب، بل يقال انه لم يجئ بالمأمور به، فالترتيب المذكور من مقومات المأمور به لا أمر زائد عليه تعلق به الأمر الشرعي.

و هذا الوجه غير تام، لأنه لا دليل على ما ذكره فيه من فرض كون المحل امرا زائدا على المأمور به مقررا من قبل الشارع، بحيث يلحظ الترتب الشرعي، بل الأدلة بالنسبة إلى المحل عامة فهي تدل على انه لو تجاوز عن محل الشي ء المقرر له مطلقا سواء كان التقرير شرعيا- كأجزاء الصلاة- أو غيره- كما في آيات السورة و كلمات الآية و أحرف الكلمة- فانه يصدق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى كل هذه الأمور.

الثالث: دعوى الانصراف ببيان: ان لفظ: «الشي ء» في الروايات منصرف إلى الأجزاء بخصوصها دون أجزائها، فعليها يحمل اللفظ، فتختص القاعدة بها. و هذا كانصراف لفظ: «الحيوان» في أدلة عدم جواز الصلاة في اجزاء غير المأكول منه عن الإنسان إلى غيره.

و قد ذهب

المحقق الأصفهاني إلى تمامية هذه الدعوى بالنسبة إلى أحرف

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 148

الكلمة، لأنها و ان كانت شيئا بالدقة، لكن لفظ: «الشي ء» في الرواية لا يشملها عرفا و ينصرف عنها.

و هذه الدعوى لا تبتني على برهان كي يناقش فيه، بل هي دعوى وجدانية يسهل لكل أحد المناقشة فيها بدعوى عدم الانصراف.

و التحقيق: ان المعتبر في جريان قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتب، بحيث تكون ذات الغير المأمور بها محرزة، و ان لم يحرز بكونها امتثالا لفرض الشك في الجزء السابق.

و عليه، نقول: ان المركب المؤلف من اجزاء.

تارة: يكون الإخلال بأحد اجزائه لا يوجب سلب وصف الجزئية عن سائر الاجزاء بحيث يكون ذات الجزء متحققة، كما لو لم يجئ بالركوع و أتى بالسجود، فانه يصدق على السجود انه ذات الجزء المترتب عليه، فمع الشك في الركوع و هو في السجود يكون الشك بعد الدخول في غير المترتب.

و أخرى: لا يكون كذلك، بل يكون الموجود من الاجزاء في ظرف فقدان البعض الاخر مباينا عرفا للموجود مع وجود البعض الآخر، و في مثله لو شك في بعض الاجزاء و قد دخل في غيرها لا يصدق انه دخل في الغير المترتب على المشكوك لاحتمال فقدان المشكوك، فيكون هذا الجزء مباينا للمأخوذ في العمل بذاته، فلا يكون قد دخل في الغير المترتب- و لو كان ترتبه عقليا- و هذا نظير اجزاء الكلمة الواحدة فان الراء من: «أكبر» لا تتصف بأنها جزء: «أكبر» الا إذا جي ء بالكلمة بتمامها، فالانضمام كما هو شرط للامتثال يكون مقوما لصدق عنوان المأمور به و صيرورة كل حرف جزء لذات المأمور به.

و عليه، فمع الشك في التلفظ بالكاف و قد دخل

في الراء لا يصح إجراء قاعدة التجاوز، لعدم إحراز الدخول في الغير. و مثله التكبير المتقوم بكلمة: «اللّه أكبر».

بالنحو الخاصّ، فان انضمام الكلمتين مقوم لصدق عنوان التكبير على اجزائه، و كل

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 149

كلمة بمفردها لا تكون جزء للتكبير، فمع الشك في قول: «اللّه» و هو في: «أكبر» لا مجال لإجراء قاعدة التجاوز. و لعل مثله اجزاء الآية، و كل عنوان واقعي يتقوم بالمجموع كالحمد و الشهادة و نحو ذلك.

و الضابط: هو ما عرفت من عدم تحقق ذات الجزء مع الإخلال بالجزء الآخر، بحيث يعد المتحقق مباينا بذاته لجزء المأمور به المنضم إلى غيره و قد يقع الإشكال في تشخيص بعض المصاديق.

فالتفصيل في جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء بالنحو الّذي عرفت هو المتعين.

ثم إن ثمرة هذا المبحث تكون كثيرة لو لم نقل بجريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه، فانه مع البناء على جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى جزء الجزء لو شك بعد الفراغ من الجزء في جزء الجزء لا تجب الإعادة، و مع البناء على عدم جريانها تجب.

أما مع القول بجريان قاعدة الفراغ في الجزء بعد الفراغ منه، فلا يختلف الحال عملا في مورد الشك بعد الفراغ عن الجزء في جزئه باختلاف البناءين، لجريان قاعدة الفراغ في الجزء نفسه، لأن الشك المذكور يرجع إلى الشك في صحته بعد الفراغ منه، و هو مورد القاعدة. فظهور الثمرة العملية ينحصر- على هذا القول- في مورد الشك في أثناء العمل.

الجهة الخامسة: في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في أثناء المشروط.

و قد ذكر الأصفهاني لمنع العموم وجوها و أجاب عنها.

الأول: ان نسبة الشرط إلى جميع الاجزاء نسبة واحدة، فمع الشك في تحققه في الجزء السابق يشك

قهرا بتحققه في الجزء اللاحق الفعلي، فإحرازه بالقاعدة بالنسبة إلى الجزء السابق لا يجدي شيئا، لعدم إمكان إحرازه بها بالنسبة إلى الجزء

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 150

الفعلي، لعدم تحقق التجاوز عنه، فيكون اعتبار قاعدة التجاوز في الفرض لغوا، للتلازم بين الشك في شرط الجزء السابق و شرط الجزء الفعلي اللاحق.

و الجواب: ان هذا الوجه انما يتم بالنسبة إلى ما لا يمكن تبدله (حدوثه خ ل) في الأثناء كالطهارة، أما ما يمكن تبدله كالستر، فلا يتم هذا الوجه فيه، و مثاله: لو لبس في أثناء الصلاة ما يستره قطعا و شك بعد ذلك في ان ما كان لابسه سابقا كان ساترا أو لم يكن، فانه لا ملازمة في مثل الفرض كما لا يخفى، فاعتبار قاعدة التجاوز لا يكون لغوا لجريانها في هذه الموارد، و هو كاف في رفع اللغوية، فإطلاق المنع لا يخلو عن الخدش.

الثاني: انه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون الشي ء ذا محل، و الشروط لا محل لها كي يتحقق التجاوز عنه.

و الجواب: انه ..

ان أريد بعدم المحل ان المشروط ليس ظرفا و محلا للشرط، كما ان الكل ليس محلا للجزء، فهذا لا يختص بالشرط المقارن بل يعمه و يعم السابق و اللاحق، فكما تجري القاعدة بالنسبة إلى الشرط السابق- كالوضوء على القول بشرطية نفسه- باعتبار كون محله هو الزمان السابق، فكذلك فلتجر بالنسبة إلى المقارن باعتبار كون محله الزمان المقارن و قد تجاوز عنه الفاعل.

و ان أريد بان الشرط انما هو شرط للمجموع لا لكل جزء جزء، فلا محل له، و انما المجموع محله. ففيه: انه قد حقق في محله ان الشرط انما هو للمركب، و ثبت بان المركب هو

عين الاجزاء بالأسر، فهو شرط للاجزاء بأسرها فيكون شرطا لكل جزء جزء.

و استشهد على ذلك: بأنه لو انتفى الشرط في بعض الاجزاء دون بعض و أمضى العمل، لا يقال بتبدل الشرط و انه شرط جديد باعتبار ان الشرط الواقعي للمجموع و هذا للبعض، بل يقال بانتفائه في بعض دون آخر. فالتفت.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 151

الثالث: ان الشروط من الكيفيات و الحالات للمشروط، فلا يتحقق التجاوز عنها لا بالحقيقة و لا بالمسامحة، بل التجاوز بكلا معنييه يتحقق بالنسبة إلى المتكيف بها دونها، فلا مجال حينئذ لجريان قاعدة التجاوز فيها، لعدم صدق موضوعها.

و الجواب: ان الشروط على قسمين: قسم له وجود مستقل، كالستر و الاستقبال و الطهارة، و قسم لا يكون كذلك، بل يكون كيفا للغير، كالترتيب و الموالاة. فالقسم الأول يتحقق بالنسبة إليه التجاوز، فلا يكون مشمولا لهذا التقريب. نعم يبقى القسم الثاني، فان الكلام فيه تام، لأنه من كيفيات المشروط فلا وجود له إلا بتبع مشروطه.

إلى هنا يظهر ان المحقق الأصفهاني يلتزم بالتفصيل بين ما له وجود مستقل من الشروط و بين ما لا وجود له كذلك، فتجري القاعدة في الأول دون الثاني.

و قد سبقه إلى ذلك الشيخ و تقريبه واضح، لأخذ الشي ء موضوعا للشك الّذي هو مورد القاعدة، و واضح عدم صدقه عرفا على ما لا وجود له بنفسه.

إلا أنه (قدس سره) ذكر بيانا آخر يحقق فيه عدم جريان القاعدة في مطلق الشروط، و محصله: ان التجاوز قد فسر في بعض النصوص بالخروج عن الشي ء و الدخول في غيره، و هذا يستدعي المغايرة بين المتجاوز عنه و المتجاوز إليه، و لا إشكال في عدم صدق هذا المعنى عرفا في الشروط. فان

الاستقبال- مثلا- واحد مستمر، لأنه متعدد بحيث يصدق على الاستقبال في الركعة الثانية انه غير الاستقبال في الأولى، و مع عدم المغايرة لا يتحقق الخروج و الدخول في الغير كما لا يخفى، فلا موضوع لقاعدة التجاوز في الشروط، فلا مجال لجريانها «1».

و هذا التقريب و ان كان بحسب النّظر الأولى وجيها، الا انه يمكن المناقشة فيه بما ذكر في باب استصحاب الأمور التدريجية، من: ان الأمر التدريجي و ان كان

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 302- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 152

مستمرا و متصلا و واحدا دقة الا انه قد يعد عرفا متعددا بلحاظ طرو بعض الحالات عليه، كما بالنسبة إلى الليل و النهار، فانهما يعدان عرفا أمرين، مع ان الزمان مستمر لا انقطاع فيه.

و عليه، فالاستقبال- مثلا- و ان كان مستمرا غير منقطع، الا انه بلحاظ اعتبار الشروط للمركب- و هو الاجزاء بالأسر- يعد شرطا لكل جزء، فيرى متعددا بنظر العرف بهذه الجهة و ان كان واحدا بالنظر الدقي، فتتحقق المغايرة عرفا بين الاستقبال في جزء و الاستقبال في جزء آخر، فيصدق الخروج عن الشي ء و الدخول في غيره.

هذا كله بالنسبة إلى الشروط التي تكون بنفسها متمحضة في الشرطية و ليس فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية.

و بعده يقع الكلام في الشروط التي تكون فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية، بأن تكون بنفسها متعلقا للأمر و موضوعا لأثر ما، نظير صلاة الظهر، فانها شرط في صحة صلاة العصر مع انها بنفسها متعلق للأمر و موضوعا للأثر، فهل مثل هذه الشروط يكون الشك فيها مجرى قاعدة التجاوز بعد الفراغ و البناء على جريانها في الشروط الأخرى.

و وجه تخصيصها

بالكلام جهتان:

الأولى: احتمال اختصاص أدلة القاعدة بموارد الشك في القسم الأول من الشروط مضافا إلى الاجزاء.

و يدفعه: ان الأدلة عامة لجميع موارد الشك في الوجود مما كان المشكوك، له محل مقرر و لو كان مركبا تاما، فيتمسك بعمومها، و لا وجه لاحتمال اختصاص الأدلة بموارد دون أخرى.

و يؤيده ورود إلغاء الشك في النص بالنسبة إلى الأذان و الإقامة، مع انها ليست جزءا للصلاة، و هي مأمور بها بالاستقلال، لكن لها جهة ارتباط بالصلاة،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 153

و مثلها الأذان.

الثانية: ان مفاد قاعدة التجاوز ليس هو ترتيب الأثر على وجود المشكوك، بل هو البناء على تحقق المشكوك و وجوده، بحيث لا يلزم الإتيان به بعد هذا.

و عليه، فجريان القاعدة في صلاة الظهر في أثناء العصر أو بعدها يقتضي عدم لزوم الإتيان بالظهر بعد تمام العصر، لأن مفادها هو البناء على تحقق المتجاوز عنه، فمقتضاها تحقق الإتيان بالظهر، فلا وجه حينئذ لوجوب الإتيان بها بعد العصر، مع انه لا يلتزم به أحد. فالالتزام بجريان قاعدة التجاوز يلزم منه ما ذكر، كما ان عدم الالتزام به يستلزم تخصيص دليلها بلا وجه.

و التحقيق في رفع هذه الشبهة، و التوفيق بين عدم الالتزام بعدم لزوم الإتيان بالظهر و جريان القاعدة فيها: ان قاعدة التجاوز و ان كان مفادها هو البناء على وجود المشكوك و تحققه، الا انها انما تقتضي التعبد بالمشكوك بمقداره.

و المشكوك الّذي يكون موردا للقاعدة هاهنا ليس هو صلاة الظهر بقول مطلق، لأنها بنفسها و بلحاظها ذاتها، لم يتجاوز عن محلها، و انما يكون التجاوز عن محلها بلحاظ جهة شرطيتها لصلاة العصر. فالمشكوك الّذي يكون مورد القاعدة في الفرض انما هو صلاة الظهر بهذا الاعتبار-

أعني باعتبار شرطيتها للعصر و دخالتها في صحة العصر- لا بلحاظها نفسها و ذاتها، فجريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لا ينافي الالتزام بوجوب الإتيان بها بعد العصر.

ثم إن الشيخ رحمه اللّه فصّل- احتمالا لا اختيارا- بين الشروط التي يكون محل إحرازها قبل العمل- كالوضوء- و الشروط التي يكون محل إحرازها أثناء العمل- كالاستقبال- فأجرى قاعدة التجاوز في الأول مع الشك في أثناء العمل دون الثاني، لأنه لا بيد من إحرازه للاجزاء المستقبلة.

فلا بد من الكلام في هذه الجهة، كما لا بد من دفع توهم سراية ما ذكر بالنسبة إلى صلاة الظهر بالإضافة إلى اجزاء العمل، لأن فيها جهة الشرطية للاجزاء

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 154

اللاحقة- لارتباطيتها- فإحراز الإتيان بالجزء يجدي لما سبق من الاجزاء دون ما لحق لعدم التجاوز عن محله.

و توضيح الكلام على وجه يتضح به الحال يتوقف على بيان أقسام الشروط- بلحاظ جهة ارتباطها بالعمل التي هي شرط له- و أحكامها.

فنقول: الشروط على أقسام أربعة:

الأول: ان يكون فيه جهة زائدة على جهة الشرطية، كأن يكون موضوعا لحكم بنفسه مضافا إلى جهة شرطيته، كأجزاء الصلاة، فان كلا منها مأمور به بنفسه، كما انه شرط لغيره.

الثاني: ان يكون متمحضا في جهة الشرطية، و كان بوجوده الواحد المستمر أو بوجوده المجموعي شرطا لكل جزء من أجزاء العمل، كما لعله يظهر من أدلة اعتبار الاستقبال انه كذلك و أنه أمر واحد معتبر في جميع أجزاء الصلاة.

الثالث: ما كان كذلك و كان شرطا لكل جزء في ظرفه، كالتستر.

الرابع: ما كان كذلك، و لكنه كان مما لا بد من إحرازه قبل العمل، كالوضوء- على قول- أما النحو الأول، فلا إشكال في ان جريان قاعدة التجاوز

فيه في الأثناء مجد، لأنه بذاته له محل مقرر شرعا قد تجاوز عنه، فإذا جرت قاعدة التجاوز فيه بلحاظ جهة جزئيته تحقق هذا الجزء تعبدا، فيتحقق شرط الاجزاء اللاحقة تعبدا.

فلا وجه حينئذ لأن يقال بعدم إجرائه لعدم تحقق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما لحق من الاجزاء، لأن إجراءها فيه لا يكون بلحاظ جهة شرطيته كي يتأتى ما ذكر، بل لحاظه نفسه و جهة جزئيته.

و أما النحو الثاني، فلا مجال لقاعدة التجاوز فيه في الأثناء مع فرض إحرازه بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لوجهين.

الأول: إن الشرط انما هو الشرط المستمر لا كل جزء منه، فجريان قاعدة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 155

التجاوز فيه بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت الشرط الا بالملازمة- كما لا يخفى- و هو بنفسه لا أثر له شرعا، لأن الأثر يترتب على وجوده المستمر.

و قد يقال: بأنه يمكن إجراء قاعدة التجاوز فيه و يضم إليها الاستصحاب، بان يستصحب فيثبت استمراره بالاستصحاب، لأنه موضوعه، فيترتب الأثر لأن الشرط هو موضوع الاستصحاب، و لا مانع من استصحاب الشرط كيف ما كان.

لكنه يشكل: بان الاستصحاب يتوقف على ثبوت اليقين السابق بالمستصحب إما الوجداني، أو التعبدي، و كلاهما منتف.

أما الأول: فواضح، لأنه الفرض.

و أما الثاني: فلأنه انما يثبت بقاعدة التجاوز، و جريانها يتوقف على كون موضوعها مما يترتب عليه الأثر بنفسه، و قد عرفت ان لا أثر له مطلقا، فلا تجري بنفسها فيه.

الثاني: انه يعتبر في جريانها تحقق التجاوز عن محل المشكوك، و إذا كان الشرط هو المجموع أو المستمر لا يتحقق التجاوز عنه ما دام في الأثناء، كما لا يخفى.

و أما النحو الثالث، فلا يرى هناك مانع لجريانها بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، لأن

المفروض كونه شرطا لكل جزء في ظرفه، فقد تحقق التجاوز عنه بالتجاوز عن نفس الجزء.

و أما النحو الرابع، و هو موضوع الكلام الشيخ، فالحق فيه عدم جريانها فيه في الأثناء، لعدم إجرائها. و ذلك لأن ذات الشرط لا يكون مأمورا به بنفسه، و الا لكان دخيلا في المركب فيكون جزءا، و هو خلاف الفرض، و انما أخذ التقيد به دخيلا، و جزءا في الصلاة، فالشرطية تنتزع عن أخذ التقيد بالعمل. و معنى التقيد في هذا النحو من الشروط، هو كون العمل المركب مسبوقا بالعمل و هو الوضوء، فحيث ان العمل المركب عبارة عن اجزائه، فكل جزء أخذ فيه مسبوقيته بالوضوء، فإحراز المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة، لأنها

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 156

لم يتجاوز عن محلها، فلا يتحقق موضوع القاعدة بالنسبة إليها.

و هذا الكلام بعينه جار في مورد الشك في صلاة الظهر في أثناء العصر، لأن الصورتين بملاك و نحو واحد.

هذا تمام الكلام في جريان قاعدة التجاوز في الشروط، فتدبر جيدا.

الجهة السادسة: في عموم قاعدة الفراغ للإجزاء

، بمعنى انه إذا شك في صحة الجزء بعد الفراغ عنه، فهل تجري قاعدة الفراغ فيه فيبني على صحته، أو لا بل تختص بمورد الشك في صحة الكل؟. الّذي يقتضيه عموم رواية زرارة: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» هو جريانها في مورد الشك في صحة الجزء، إذ لا وجه لاختصاصها بالكل. و ان كانت الرواية الثانية موضوعها الصلاة و الطهور. و التمسك بالعموم على التعميم كاف في المطلوب، فلا حاجة حينئذ إلى الاستدلال بفحوى قاعدة التجاوز، من انه إذا كان الشك في وجود الجزء ملغى في نظر الشارع فإلغاء الشك في

صحته أولى.

مضافا إلى انه لم يعلم كون هذه الأولوية من أي نوع هي، هل هي من الأولوية القطعية أو الظنية التي ترجع إلى القياس؟

نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كانت جهة الشك مقومة لتحقق الجزء كالموالاة في حروف الكلمة، أو الترتيب بين حروفها، فانه مع الشك فيها لا يمكن إجراء القاعدة لإثبات صحة الكلمة لعدم إحراز الكلمة كي يتعبد بصحتها، فتدبر.

الجهة السابعة: في ان قاعدة الفراغ هل تعم ما إذا كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في الشرط أو لا؟

و الحق العموم، لمقتضى عموم رواية زرارة السابقة، إذ لا ظهور فيها في كون المنشأ هو الشك بالإخلال بجزء دون شرط.

ثم ان للشيخ رحمه اللّه كلاما في الموضع السادس يرتبط بهذه الجهة من الكلام، و هذا نصه: «ان الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان، بل هو هو، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشي ء الصحيح، و محل الكلام ما لا يرجع

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 157

فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكن الإنصاف ان الإلحاق لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر من اخبار الشك في الشي ء انه مختص بغير هذه الصورة ..».

و هذه العبارة لا تخلو عن غموض، و هي مع قطع النّظر عن التعليل المذكور يمكن حملها على أن قاعدة الفراغ محكومة لقاعدة التجاوز، لأن نسبتها إليها نسبة الأصل المسببي إلى الأصل السببي، لأن الشك في الصحة ينشأ من الشك في وجود جزء أو شرط، و يمكن إحرازه بقاعدة التجاوز، فلا يبقى لقاعدة الفراغ موضوع تعبدا. و بذلك يكون حكم الشك في الصحة حكم الشك في الإتيان.

و هذا انما يتحقق فيما إذا كان منشأ الشك مما له وجود

مستقل بحيث يصدق التجاوز عنه و يكون قابلا للتعبد بنفسه، أما ما لا يكون كذلك، كالموالاة بين حروف الكلمة و الترتيب بين الكلمات، فلا يتم ما ذكر، لعدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها في الوجود فلا يتحقق التجاوز عنها فهذه الفروض تكون محل إشكال.

و لكن هذا التفسير لا يتلاءم مع التعليل المذكور لأن ظاهره رجوع مورد قاعدة الفراغ إلى مورد قاعدة التجاوز لا انتفاء موضوعها تعبدا بجريان قاعدة التجاوز الظاهر في تعدد المورد نوعا.

و على هذا تكون العبارة غير واضحة المراد، لأن ما ذكره بعد التعليل من كون محل الكلام ما لم يرجع الشك فيه إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة كالموالاة. غير تام- بحسب النّظر البدوي- لأن المنشأ إذا كان هو الشك في مثل الموالاة يرجع الشك إلى الشك في وجود العمل الصحيح أيضا.

فالجمع بين التعليل و ما ذكره بعده مشكل [1].

______________________________

[1] يمكن ان يكون نظره (قدس سره) إلى التفصيل بين الشرائط المعتبرة شرعا في الصحة مما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 158

و يمكن ان يقال في مقام التوفيق: ان ما يعتبر في الصحة عنوانا تارة: يكون في نفسه خارجا عن حقيقة الشي ء، كالطهارة و الاستقبال، فانهما من شروط الصلاة و لكنهما خارجان عن حقيقتهما، إذ صدق الصلاة لا يتقوم بهما. و أخرى: يكون مقوما، كالموالاة بين الحروف و الكلمات، فانها مقومة عقلا لصدق الكلمة و الآية و بدونها لا تصدقان، و لذلك كانت من الشروط العقلية، فإذا وجد الشك في الموالاة حصل الشك في وجود نفس الكلمة أو الآية.

و من هنا يتضح المراد من كون محل الكلام ما لم يكن من هذا القبيل- أعني:

من قبيل

الشك في الموالاة-، فان ما كان من هذا القبيل تجري فيه قاعدة التجاوز رأسا، فلا إشكال فيه.

فالمراد: ان محل الكلام في السراية- أعني: سراية أدلة قاعدة التجاوز إليه باعتبار رجوع الشك فيه إلى الشك في الوجود- هو النحو الأول. أما النحو الثاني فلا إشكال فيه لأن الشك فيه شك في الوجود، فلا يتكلم في السراية بالنسبة إليه لشموليته لقاعدة التجاوز بلا كلام.

______________________________

- لا يتقوم بها العمل المشروط كالطهارة و الاستقبال بالنسبة إلى اجزاء الصلاة، و بين الشرائط المقومة عقلا للعمل و ليست معتبرة شرعا في صحته، و لا وجود لها مستقل عن وجود المشروط كالموالاة في الكلمة، فان فقدانها يستلزم عدم صدق الكلمة على الحروف الملفوظة. ففي الأول تجري القاعدة مع الشك في الشروط لأنها ذات وجود مستقل و متعلقة للأمر الشرعي.

و اما في الثاني فيشكل جريانها في نفس الشرط لعدم تعلق الأمر به و لا في المشروط لظهور الأدلة في كون موضوع القاعدة هو الشك في أصل الوجود لا ما إذا علم وجود شي ء و شك في انه هو الجزء أو غيره. فمراده ان محل الكلام في إلحاقه بالشك في الوجود هو القسم الثاني لا الأول لأن الأول، مجرى القاعدة بنفسه بلا حاجة إلى الإلحاق. كما انه يشكل الإلحاق في القسم الثاني للاستظهار المتقدم، فلا بد من التماس دليل آخر على إثبات صحة العمل مع الشك فيه. فتدبر.

و قد تحمل بعض الاعلام في توجيه كلام الشيخ رحمه اللّه و اللّه سبحانه العالم.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 159

و بهذا لا يكون هناك تناف بين التعليل و ما ذكره بعده، إذ ليس المفاد ما قد يستظهر من ان ما كان من قبيل الموالاة محل

إشكال في إرجاعه إلى مورد قاعدة التجاوز كي تشمله أدلتها، بل المفاد انه من مواردها فلا كلام فيه، و انما الكلام في غيره.

و عليه، فلا وجه لما ذكره المحقق الأصفهاني من: انه ان أراد عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض فهو وجيه، لأن موردها الشك في صحة الموجود لا في الموجود. و ان أراد عدم جريان قاعدة التجاوز في نفس الموالاة فهو وجيه أيضا، لعدم استقلالها في الوجود، الا انه يمكن جريان القاعدة في نفس الجزء للشك في وجوده (انتهى). فانه لا مجال حينئذ إلى مثل هذا كما لا يخفى.

الجهة الثامنة: فيما يعتبر في قاعدة التجاوز

و الكلام في موضعين:
إلحاق:

أفتى صاحب المدارك (قدس سره) بعدم الاعتناء بالشك في الركوع لو كان في حال الهوي إلى السجود، و بالاعتناء بالشك في السجود في حال نهوضه إلى القيام «1».

و قد أشكل عليه صاحب الحدائق رحمه اللّه، بان هذه الفتوى أشبه بالفتوى بالمتناقضين «2».

و قد أورد على صاحب الحدائق: بان هذا الكلام مما لا يصلح صدوره من الفقيه، لأن قاعدة التجاوز ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص و التقييد، بل هي من القواعد التعبدية التي يقتصر فيها على مورد الدليل، فكما لا تجري القاعدة بالنسبة إلى اجزاء الوضوء لورود النص، فكذلك يمكن ان لا تجري في مورد الشك في السجود في حال النهوض لورود النص أيضا «3».

و لكنه يمكن الاعتذار عنه، بان نظره إلى ان قاعدة التجاوز من القواعد العامة، فاما أن يكون دليلها شاملا لمورد الشك في الشي ء بعد الدخول في مقدمة الفعل الآخر فيكون عاما لجميع الموارد. و اما ان لا يكون شاملا فيكون عالما لجميع الموارد أيضا. فالتفكيك بين الموارد غير ظاهر.

و على كل، فالظاهر استناد صاحب المدارك في فتواه إلى روايتي

عبد الرحمن الواردتين في كلا الموردين المتضمنتين لمضمون الفتوى.

أما الأولى فهي: «قلت لأبي عبد اللّه: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أ ركع أم لم يركع؟. قال عليه السلام: قد ركع» «4».

______________________________

(1) العاملي الفقيه السيد محمد. مدارك الأحكام 4- 249- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

(2) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة 9- 177- الطبعة القديمة.

(3) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 302- الطبعة الأولى.

(4) وسائل الشيعة 4- 937 باب: 13 من أبواب الركوع، الحديث: 6.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 166

و أما الثانية، فهي: «قلت لأبي عبد اللّه رجل رفع رأسه عن السجود فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أ سجد أم لم يسجد؟. قال عليه السلام: يسجد قال: فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أ سجد أم لم يسجد؟. قال عليه السلام: يسجد» «1».

و هاتان الروايتان غير متباينتين منطوقا لاختلاف موردهما.

و انما الكلام في نسبتهما مع رواية إسماعيل بن جابر. فمن يذهب إلى اعتبار الدخول في مطلق الغير بمقتضى الإطلاق- كالمحقق الأصفهاني- كان في سعة، لأن غاية ما يترتب على قوله هو خروج الدخول في النهوض عن الاعتبار بمقتضى الرواية الثانية بالتقييد، لأن المستفاد من رواية إسماعيل قاعدة كلية يقيد إطلاقها في هذا المورد.

و لا محذور فيه و لا التواء. هذا مع ان التأمل في الرواية الثانية يقرب حملها على قاعدة الفراغ، و ذلك لأنه في سؤاله الأول فرض رفع رأسه عن السجود ثم تحقق الشك، و هو ظاهر في وقوع السجود منه، فشكه في السجود و عدمه لا بد ان يرجع إلى الشك في انه سجد واحدة أو اثنتين، و لكنه لا يتلاءم مع

تقييد الشك بما قبل الاستواء جالسا، إذ لا يختلف الحال في ذلك بين كونه قبل الجلوس أو بعده. مع ان ظاهر النص كون المشكوك فيه نفس ما رفع رأسه عنه.

و عليه، فاما ان تحمل الرواية على إرادة رفع رأسه عن السجود متخيلا ذلك ثم شك فيه، أو تحمل على إرادة الشك في صحة سجوده الواقع، و يمكن ان ينفى السجود بانتفاء بعض خصوصياته المعتبرة فيه- فالشك فيها يصحح قوله: «أ سجد أم لم يسجد»- كما ورد في بعض النصوص انه لا سجود لمن لم يصب أنفه بما يصيب جبينه، و هو مستعمل عرفا و ليس ببعيد، و في مثله يحتمل الفرق بين الجلوس و ما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 4- 972 باب: 15 من أبواب السجود، الحديث: 6.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 167

قبله باعتبار ان الجلوس حالة أخرى و السائل يشك في ان النهوض للجلوس هل هو حالة أخرى أو لا؟. و قد ورد في بعض روايات قاعدة الفراغ اعتبار الدخول في حالة أخرى و حمل النص على هذا الاحتمال اقرب عرفا [1]، فيكون أجنبيا عن قاعدة التجاوز فتدبر. و مثله سؤاله الآخر، لوحدة السياق و اتحاد التعبير في السؤالين.

و أما من يرى دلالة الرواية على اعتبار الدخول في خصوص الغير المترتب شرعا، فالتنافي بين هذه الرواية- أعني: رواية إسماعيل- و الرواية الأولى عنده حاصل، لأن رواية إسماعيل بصدرها تقتضي- بمقتضى ورودها للتحديد- إلغاء الدخول في الهوي عن الاعتبار، و هذه الرواية- أعني: رواية عبد الرحمن- تدل على اعتباره، فالتنافي ظاهرا حاصل بينهما. أما الرواية الثانية فهي واردة على مقتضى القاعدة المستفادة من رواية إسماعيل. فلا بد من علاج هذا التنافي و حلّه.

و قد

قرب المحقق النائيني عدم التنافي و العلاج بما بيانه: ان السجود تارة: نقول بأنه من الأفعال. و أخرى: نقول بأنه من الهيئات.

فعلى الأول: لا بد من القول باعتبار آخر مرتبة الهوي المتصل بالهيئة الساجدية أو تمام الهوي بعد الركوع في حقيقة السجود، فإذا تحقق أول جزء منه فقد تحقق السجود.

و على هذا لا تكون هناك منافاة بين الروايتين، لأنه على الاعتبار الثاني- أعني: اعتبار تمام الهوي في حقيقة السجود- تكون رواية عبد الرحمن موضوعها الشك في الركوع بعد السجود، لأن المفروض انه دخل في السجود بمجرد تحقق الهوي منه، و هذا الموضوع هو بنفسه موضوع رواية إسماعيل.

______________________________

[1] لم يظهر وجه الأقربية، بل الأقرب هو الأول، فيكون المورد من موارد قاعدة التجاوز قبل الدخول في الغير المترتب و هو الجلوس بعد السجود. فلاحظ (منه عفي عنه).

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 168

و على الاعتبار الأول- أعني: اعتبار آخر مراتب الهوي في حقيقة السجود- تحمل رواية عبد الرحمن على هذه المرتبة بقرينة رواية إسماعيل الواردة في مقام التحديد، فيتحد موردهما، فلا منافاة بينهما بل بينهما تمام الوفاق.

و على الثاني: فيخرج الهوي عن حقيقة السجود، فيحصل التعارض بين الروايتين، الا انه يمكن علاجه بالالتزام بتقييد رواية إسماعيل لرواية عبد الرحمن، و ذلك لأن دلالة رواية عبد الرحمن على كفاية مطلق الدخول في الهوي انما كانت بالإطلاق، فيمكن تقييده و حمله على خصوص الهوي المنتهي إلى السجود بواسطة رواية إسماعيل الدالة على اعتبار الدخول في السجود «1».

و لكن [1] ما أفاده في بيان تقييد رواية عبد الرحمن عجيب منه، و ذلك لما تقرر من ان التقييد إنما يقتضي تخصيص موضوع الحكم بالطبيعة الملازمة للقيد.

و بعبارة أوضح انه عبارة

عن تقييد موضوع الحكم في الدليل المطلق، و هو الطبيعة السارية بحصة خاصة منه مع المحافظة على موضوعية الطبيعة للحكم، فأحد الدليلين انما يكون مقيدا للآخر فيما كان مفاده أن موضوع الحكم ليس هو الطبيعة على الإطلاق بل الطبيعة المتقررة في الفرد الخاصّ منها.

أما إذا كان مفاد أحد الدليلين أن موضوع الحكم هو الحصة الخاصة لا الطبيعة المتحصصة، فلا يكون هذا مقيدا للدليل الآخر الدال على ان موضوع الحكم

______________________________

[1] يمكن ان يناقش أيضا: ان دلالة رواية إسماعيل على الاعتناء بالشك قبل السجود إنما هي بالمفهوم- على ما يأتي- و من الواضح ان المفهوم بالنسبة إلى رواية عبد الرحمن مطلق لشموله لحالتي القيام و الهوي، و اختصاص رواية عبد الرحمن بحالة الهوي و مقتضى القواعد الصناعية تقييد المفهوم برواية عبد الرحمن و الالتزام بتعدد الشرط في إلغاء الشك في الركوع.

و يحتمل ان إلغاء الشك حال الهوي يستلزم إلغاء خصوصية الشك حال السجود، لأنه متأخر عن الهوي، فيتحقق التعارض بين النصين، فلاحظ. (منه عفي عنه).

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 474- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 169

هو الطبيعة السارية، بل يكون متعارضا معه و منافيا له.

فحمل المطلق على المقيد انما يصلح لو كان لسان المقيد بالنحو الأول لا الثاني. فمثلا لو ورد: «أكرم العالم» ثم ورد: «أكرم العادل»، فتارة: يستفاد من الدليل الثاني تقييد موضوع الحكم و هو العالم بالعادل. و أخرى: يستفاد منه ان موضوع الحكم هو العادل بلا دخل للعلم فيه.

فعلى الأول: يحمل المطلق عليه. و على الثاني: لا يحمل لتنافيهما في مقام الدلالة- كما لا يخفى- و ما نحن فيه من قبيل الثاني، و ذلك لأن مفاد

رواية عبد الرحمن على ما ذكره الاعتبار بالشك الحادث حال الهوي مطلقا سواء تعقبه السجود أو لم يتعقبه.

و مفاد رواية إسماعيل الاعتبار بالشك الحادث في خصوص السجود، فقد أخذ حدوثه في حال السجود موضوعا للحكم فيها. و أما بقاؤه إلى حال السجود مع كون حدوثه حال الهوي فهو غير معتبر في هذه الرواية.

و بالجملة: ليس مفاد رواية إسماعيل على اعتبار الشك الحاصل في السجود و لو بقاء كي يقيد به إطلاق رواية عبد الرحمن لعدم المنافاة بينهما حينئذ، بل مفادها ان موضوع الاعتبار هو الشك الحادث في السجود دون الحادث في حال الهوي، فهما متنافيان مفادا، و لا وجه لحمل إحداهما على الأخرى، إذ مقتضى كونها مقيدا للإطلاق كون مفادها هو عدم الاعتناء بالشك الحاصل حال الهوي المتعقب بالسجود، و هو أجنبي عن مفادها بالمرة كما هو واضح جدا.

كما أن أعجب منه إيراد السيد الخوئي عليه: بان التنافي بين المنطوقين غير حاصل، و إنما هو بين مفهوم رواية إسماعيل و منطوق رواية عبد الرحمن، و لا مفهوم لرواية إسماعيل الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لأخذ الشك في مدخول الشرط،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 170

فلا تصلح للتقييد حينئذ «1».

و وجه العجب: ان الاستدلال برواية إسماعيل على نفي اعتبار الدخول في الهوي لم يكن باعتبار مفهوم الشرط كي يقال بأنه هنا سالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم آية النبأ. بل كان باعتبار مفهوم التحديد الّذي قيل عنه بأنه أقوى المفاهيم و ان لم يذكر في كتب الأصول، و هو تام هاهنا كما لا يخفى. فالإيراد بما ذكر خروج عن الفرض.

مع انه يمكن الالتزام بمفهوم الشرط هاهنا و عدم كون الشرط لبيان تحقق الموضوع، كي يكون المفهوم بنحو

السالبة بانتفاء الموضوع. بتقريب ان موضوع الكلام في الحديث هو الشاك و المقام مقام بيان حكمه، فقوله عليه السلام: «ان شك في الركوع بعد ما سجد» تفصيل في الشاك، فالموضوع المقسم هو الشاك في الركوع، فيكون المفهوم انه ان شك قبل ما سجد يعتني بشكه، و ليس الموضوع هو الشاك في الركوع بعد السجود، فانتبه.

هذا، مع ان الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع إذا كان مقيدا بما لا يكون دخيلا في الموضوع عقلا- كما فيما نحن فيه و آية النبأ- قد يلتزم بثبوت المفهوم فيه إذا انتفى ذلك القيد، و ان ناقشناه في محله، فراجع مبحث الاستدلال على حجية خبر الواحد بمفهوم آية النبأ، و قد تقدم ان من جملة القائلين بالمفهوم السيد الخوئي.

ثم أنه (حفظه اللّه) أجاب عن الصحيحة بقصورها عن إثبات المدعى بنفسها.

بتقريب: انه قد عبر فيها بلفظ: «أهوى» بصورة الماضي، و هو يدل على تحقق الهوي و مضيه، فيكون موردها هو الشك بعد الوصول إلى السجود، و لا دلالة فيها على عدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي.

نعم، لو عبر بلفظ المضارع لدلت على المدعى، و استشهد لما ذكر بمراجعة

______________________________

(1) الواعظ الحسيني. محمد سرور. مصباح الأصول 3- 303- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 171

الاستعمالات العرفية و ان قولنا: «زيد يصلي» يختلف مفادا عن: «زيد صلى»، فالأوّل يدل على اشتغاله في الصلاة و الثاني يدل على انتهائه منها و تحققها منه.

و هذا التقريب منه غير تام، فان لفظ: «أهوى» و ان دل على تحقق الهوي و مضيه، إلا انه لا ينافي إرادة الشك حال الهوي، نظير قوله عليه السلام في بعض النصوص: «بعد ما سجد» و شبهه، فانه لا إشكال

في إرادة الشك حال السجود منه مع دلالة اللفظ على تحققه بعد تحقق السجود.

نعم، ما ذكره في مثل: «صلى» و «يصلي» تام، و نكتة الفرق: ان اللفظ تارة يكون موضوعا لمجموع اجزاء العمل بحيث لا يصدق على كل جزء بخصوصه.

و أخرى يكون موضوعا للمجموع و لكن يصدق على كل جزء من أجزائه. فالأوّل نظير لفظ: «الصلاة»، فانها موضوعة لمجموع الاجزاء و لا يصدق على كل جزء لفظ: «الصلاة»، و لا تصدق الصلاة قبل الإتيان بالمجموع. و الثاني نظير لفظ السجود، فانه يصدق على كل جزء من هذه الهيئة الخاصة سجود، و يصدق السجود بتحقق أول جزء منه.

فما كان من قبيل الأول لا يصح التعبير به بلفظ الماضي بعد تحقق مجموع الاجزاء، و لذلك كان التعبير بلفظ: «صلى»، دالا على تحقق الصلاة منه و مضيها، و التعبير بلفظ: «يصلي» دالا على الاشتغال بها.

أما ما كان من قبيل الثاني، فيصح التعبير به بلفظ الماضي بعد الإتيان بأول جزء منه و لو لم ينته منه، فيقال: «زيد سجد» إذا تحقق منه السجود و لو كان حين الاخبار عنه مشغولا بعد بالسجود. و من قبيل: «السجود» لفظ: «الهوي» فانه لم يوضع لمجموع اجزاء العمل الخاصّ بل يصدق على كل جزء منه لفظ الهوي، فلا مانع من التعبير بلفظ: «أهوى» الدال على تحقق الهوي و مضيه مع إرادة حال الهوي، و لا منافاة بين الأمرين و يشهد له التعبيرات الكثيرة الواردة في لسان

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 172

النصوص، فراجع.

و عليه، فلا ظهور في الرواية في كون موردها هو الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود.

فالأولى في الجمع بين الروايتين أن يقال: أن رواية عبد الرحمن تدل على

إلغاء الشك الحاصل بعد تحقق الهوي، و هذا مطلق يحتمل فردين:

الأول: الشك حال الهوي.

الثاني: الشك بعد الانتهاء منه و الوصول إلى السجود.

فان كلا منهما يصدق عليه شك بعد الهوي. و رواية إسماعيل تدل على إلغاء خصوص الفرد الثاني من الشك دون الأول، فيقيد بها إطلاق رواية عبد الرحمن. و لا يرد على هذا الحمل الإشكال المزبور الّذي ذكرنا وروده على ما ذكره المحقق النائيني، لأن المطلق لم يؤخذ هاهنا هو الشك حال الهوي، كي يقال بان رواية إسماعيل منافية مفادا لتلك الرواية، لأن مفادها كون موضوع الحكم هو الشك الحادث حال السجود فقط، فالطبيعة السارية غير مأخوذة في موضوع الدليل المقيد، بل أخذ هاهنا الشك بعد الهوي، و هو مأخوذ في موضوع رواية إسماعيل، لأن موضوعها هو الشك الحادث حال السجود، و هو شك بعد الهوي كما لا يخفى.

هذا، مع ان التحقيق عدم تصور تحقق التجاوز عن الركوع بالهوي إلى السجود، لأن الهوي إذا لم يكن قد وصل إلى حد الركوع و شك في الركوع لم يكن متجاوزا عن محل الركوع لتمكنه من الركوع فعلا بلا أي شي ء، بل هذا الهوي من مقدمات الركوع. و ان كان الهوي متجاوزا حد الركوع، فهو ليس بنفسه مما يترتب على الركوع بل المترتب هو مجموع الهوي بين القيام و السجود. إذن فلا يتصور تحقق التجاوز عن الركوع بتحقق الهوي، لأنه بكلا حدّيه غير محقق للتجاوز، لأنه ليس من الدخول في الغير المترتب و لو بالترتب غير الشرعي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 173

و عليه، فاما ان تحمل الرواية على بيان حكم تعبدي بإلغاء الشك في الركوع إذا وجد الإنسان نفسه مشغولا بالهوي إلى السجود و لو لم

يكن من مصاديق قاعدة التجاوز. و اما ان تحمل على تحقق الشك بعد السجود لا قبله و يكون المراد بقوله:

«أهوى إلى السجود» هو الكناية عن سجوده. و الاحتمال الأول بعيد جدا بل يقطع بخلافه فيتعين الثاني [1].

______________________________

[1] ثم انه يقع الكلام في موردين:

المورد الأول: في جريان قاعدة التجاوز مع الدخول في جزء مستحب كالشك في القراءة بعد الدخول في القنوت.

و تحقيق الكلام: انه إما ان نلتزم بان القنوت جزء مستحب بالتصوير المتقدم في أواخر مبحث الصحيح و الأعم، و اما ان لا نلتزم بذلك، و نقول باستحالته كما ذهب إليه بعض و نلتزم بأنه مستحب في واجب.

فعلى الأول: تجري قاعدة التجاوز في القراءة.

و على الثاني لا تجري. و ذلك لأن التجاوز عن المحل المعتبر في قاعدة التجاوز لا يتحقق إلا إذا فرض أخذ المشكوك سابقا على المدخول فيه بان اعتبر سابقيته عليه كما اعتبر تأخر المدخول فيه عنه.

و إلا فمجرد الدخول في الغير المترتب المعتبر تأخره عن المشكوك لا يوجب صدق التجاوز عن محل المشكوك، لعدم أخذ المشكوك سابقا عليه، فلم يفت محله، و لا يصدق التجاوز عنه.

و لذا بيّنا ان قاعدة التجاوز لا تجري في صلاة الظهر مع الشك فيها بعد الدخول في صلاة العصر، لعدم اعتبار سابقيتها على صلاة العصر فيها و ان اعتبر ذلك في صلاة العصر، نعم، بمقدار شرطيتها لصلاة العصر تجري فيها قاعدة التجاوز.

و على هذا فإذا كان القنوت جزء للواجب بحيث يشمله الأمر المؤكد على ما قربناه، كان يعتبر في القراءة المتعلقة لهذا الأمر ان تكون سابقة على القنوت، فإذا دخل في القنوت تحقق التجاوز عن القراءة فمع الشك فيها تجري القاعدة.

و أما إذا لم يكن القنوت جزء، بل

كان مستحبا ظرفه الصلاة. فهو و ان اعتبر فيه ان يكون

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 174

______________________________

- مسبوقا بالقراءة. لكن لم يؤخذ في القراءة ان تكون سابقة على القنوت و لذا لو تركه لا يلزم إخلال في القراءة. و مقتضاه ان الدخول في القنوت لا يحقق التجاوز عن القراءة لعدم فوات محلها، فلا تجري قاعدة التجاوز فيها مع الشك إلا بمقدار تصحيح القنوت بها، لأنها بهذا المقدار مما تحقق التجاوز عنه، كما في مثل صلاة الظهر و صلاة العصر. فتدبر.

المورد الثاني: في جريان قاعدة التجاوز في مثل السجدة إذا شك فيها و هو في القيام للثالثة مع علمه بنسيان التشهد.

و الحق عدم الجريان و وجهه: ان المعتبر في التجاوز الدخول في ذات الغير المترتب- كما عرفت. و من الواضح ان القيام المترتب على السجود هو القيام المسبوق بالتشهد لا مطلق القيام. فمع العلم بعدم تحقق التشهد يعلم بان هذا القيام ليس هو القيام المترتب بذاته على السجود، فلا يتحقق به التجاوز عن محل السجدة.

و هذا الوجه هو العمدة. لا ما ورد في بعض الكلمات من لغوية القيام شرعا في تنزيله منزلة العدم، أو انه بالعود إلى التشهد يكون الشك شكا في المحل. فتدبر. هذا حكم ما لو علم بترك التشهد.

أما لو شك فيه أيضا بان شك في الإتيان بالسجدة و التشهد فله صورتان:

إحداهما: ان يشك فيهما بنحو التلازم و بشك واحد، بان كان يدور أمره بين الإتيان بهما معا و تركهما معا.

و الأخرى: ان يشك في كل منهما بشك مستقل بلا تلازم بينهما.

أما الصورة الأولى: فالحكم فيها انه لا تجري فيها قاعدة التجاوز لا في السجدة و لا في التشهد.

أما في السجدة، فلأنه مع

الشك في تحقق التشهد لا يعلم ان القيام الّذي هو فيه المترتب على السجود أو غيره، كما أشرنا إليه، فلا يجوز تحقق التجاوز، فيكون من موارد الشبهة المصداقية لعموم القاعدة.

و أما في التشهد، فلعدم إحراز تجاوز المحل بالنسبة إليه و ذلك لأن المعتبر في التشهد ان يكون بعد السجود و قبل القيام، فمحله ما بين السجدة و القيام، فمع الشك في تحقق السجدة لا يحرز تجاوز محل التشهد عند الدخول في القيام، لأن تجاوز محله يتوقف على تحقق السجدة، و المفروض

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 175

تذنيب: [1] في الشك في الجزء الأخير من العمل

، و هو يتصور على وجوه:

______________________________

- تحقق الشك فيها.

و من هنا يظهر الحال في الصورة الثانية و انه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في السجدة و لا في التشهد.

[1] تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الجزء الأخير: ان الاحتمالات أو الأقوال فيها أربعة:

عدم الجريان مطلقا سواء دخل في امر مرتب شرعا كالتعقيب، أو دخل في المنافي السهوي و العمدي كالاستدبار.

و الجريان مطلقا.

و التفصيل بالجريان في الأول دون الثاني.

و التفصيل بالعكس.

و هذا هو الأقوى. و بيانه: ان التجاوز عن المحل يعتبر فيه أخذ المتجاوز عنه سابقا على المدخول فيه و لا يكفي فيه مجرد أخذ المدخول فيه متأخرا عن المشكوك كما عرفت في القنوت و القراءة و صلاة الظهر و صلاة العصر. و بعبارة أخرى، يكون السبق مأخوذا في صحة السابق، و لا يكفي أخذه في صحة اللاحق.

و عليه، فمثل التعقيب و ان أخذ متأخرا عن التسليم، إلا أنه لم يؤخذ في التسليم ان يكون قبل التعقيب، بل يصح و لو لم يتعقبه تعقيب. فلو قدم التعقيب لم يبطل التسليم، بل يبطل التعقيب لفقدان شرطه.

و عليه فلا يتحقق التجاوز عن التسليم بالدخول في التعقيب- كما ادعي لأجل انه دخول في الغير المترتب شرعا-، نظير الوضوء لو أخذ بنفسه شرطا للصلاة فانه قد عرفت ان قاعدة التجاوز انما تجري فيه بمقدار ما يصحح به الصلاة لا بإتيانه بقول مطلق و هكذا في مثل صلاة الظهر لو شك فيما بعد الدخول في العصر.

و من الغريب ان من يذهب في تلك الموارد إلى عدم إجراء قاعدة التجاوز الا بمقدار تصحيح المشروط بالمشكوك، يذهب في ما نحن فيه إلى جريان القاعدة لإثبات التسليم، مع انهما من واد واحد. فتدبر. فظهر بهذا البيان وجه عدم جريان القاعدة عند الشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 176

______________________________

- و أما جريانها عند الشك فيه بعد الدخول في المنافي السهوي و العمدي، فقد ينفي بان المنافي ليس أمرا مترتبا على التسليم كي يكون الدخول فيه محققا للتجاوز.

و لكن التحقيق: ان التسليم و ان لم يؤخذ سابقا على المنافي في لسان الأدلة. إلا انه من ملاحظة دليل مانعية المنافي إذا وقع أثناء الصلاة يستفاد اعتبار تعقب التسليم للتشهد بلا فصل بالمنافي، فيعتبر في التسليم ان يقع عقيب التشهد بلا ان يفصل المنافي بينهما. فمحل التسليم بعد التشهد بلا فصل، فإذا فرض تحقق المنافي في الأثناء لزم من ذلك فوات محل التسليم و تجاوزه، فالشك فيه و الحال هذه يكون من الشك بعد التجاوز، فيكون من موارد القاعدة.

هذا تحقيق الحال في هذه المسألة و قد ظهر مما ذكرناه وجوه الأقوال الأخرى و مناقشتها. هذا بالنسبة إلى قاعدة التجاوز.

و أما جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير فتحقيق الكلام فيه بإجمال: ان الشك

في الجزء الأخير تارة: يكون مع عدم الدخول في الغير أصلا، بل هو بعد على هيئة المصلى و لكن يشك انه جاء بالجزء الأخير أو لم يجئ. و في مثله لا تجري قاعدة الفراغ لعدم العلم بتحقق المضي و الفراغ من العمل لاحتماله ان يكون سكوته من الآنات المتخللة بين أفعال الصلاة، لا الآن المتعقب للتسليم، فلا يحرز موضوع القاعدة. و أخرى: يكون مع الدخول في المنافي السهوي كالاستدبار. و محل الكلام ما إذا وجد نفسه في حالة غير صلاتية، بمعنى انه لم يكن ناويا للصلاة و شك في أن ذلك كان منه قبل التسليم سهوا أو انه كان منه بعده، و مثّل له بما إذا أفاق فرأى نفسه في السجود و شك في انه سجود الشكر بعد الصلاة أو انه سجود الركعة الأخيرة، فان حالته الفعلية حالة غير صلاتية، و قد اعتبر المحقق النائيني في جريان القاعدة بتحقق معظم الاجزاء.

و نوقش بان تحقق المعظم يلحظ في تحقق عنوان الصلاة في قبال عدمه لا في كون الشك بعد الفراغ في قبال كونه في الأثناء الّذي هو المقصود فيما نحن فيه.

و التحقيق: ان المراد من لفظ الفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل فان مفهومه يساوق ذلك فانه بمعنى الخلو، و من الواضح ان تحقق المنافي السهوي بالنحو الّذي فرضناه يحقق عدم الاشتغال بالعمل و الخلوّ عنه لعدم كونه ناويا للصلاة فعلا، فيصدق به الفراغ فيكون من موارد القاعدة.

و ليس المراد بالفراغ هو الإتمام و الانتهاء من العمل في قبال كونه في الأثناء، بل صدق الفراغ على

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 177

______________________________

- الإتمام من باب استلزامه للخلو و عدم الشغل.

و لو سلم كون المراد منه هو

إتمام العمل و الانتهاء منه، فلا يخفى ان المراد بالعمل ما يعم الصحيح و الناقص لا خصوص الصحيح التام، لأنه ينافي فرض الشك في الصحة. و من الواضح انه يصدق بتحقق المعظم، فإذا تحقق المعظم صدق الفراغ عن العمل و الانتهاء منه بعد الدخول في القاطع، فان الدخول في القاطع دخول في حالة مباينة للصلاة، و المفروض تحقق الصلاة بتحقق المعظم، فقد صدق الانتهاء من الصلاة- بالمعنى الأعم- و لعل هذه النكتة هي السبب في اعتبار المحقق النائيني تحقق المعظم في جريان القاعدة، فلا يتوجه عليه النقاش المزبور.

هذا مع انه ليس في روايات الباب ما ورد فيه التعبير بالفراغ الا رواية زرارة الواردة في الوضوء المتكفلة للتفصيل بين الشك في أثناء الوضوء و الشك بعده و هي واضحة الدلالة بملاحظة صدرها على كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل و عدم الخلو منه. فلا فلاحظها.

هذا كله بالنسبة إلى عنوان الفراغ.

و أما لفظ المضي، فقد ذهب السيد الخوئي إلى انه بمعنى الفوات و عدم إمكان التدارك و لذا لم يلتزم بجريان القاعدة إذا كان الشك بعد الدخول في المنافي العمدي خاصة كالتكلم لاحتمال كونه سهويا فيمكن التدارك.

و لكن فيه: انه لا قرينة على هذا الظهور بل الظاهر انه بمعنى التحقق في الزمان الماضي و السابق، و عليه، فلا يختلف الحال فيه بين الدخول في المنافي السهوي أو العمدي، بعد تحقق معظم الاجزاء لصدق مضي الصلاة إذا وجد نفسه فعلا في حالة غير صلاتية. كما هو محل الكلام.

ثم لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه من كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل، لا يتحقق الفراغ إلا بالبناء على تمامية العمل، فيكون الفراغ المقصود هو الفراغ البنائي،

لكن لا من باب استعمال لفظ الفراغ في الفراغ البنائي دون الحقيقي كي يقال انه لا دليل عليه بعد كونه خلاف الظاهر، بل الفراغ مستعمل في الفراغ الحقيقي، لكن الفراغ الحقيقي بالمعنى الّذي عرفته لا يتحقق إلا بعدم نية العمل و بنائه على تماميته، إذ ما دام ناويا للعمل يكون مشتغلا به.

نعم، الفراغ بمعنى الإتمام و الانتهاء في مقابل الأثناء يتحقق حقيقة و لو بدون بناء إذ العمل يتم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 178

الأول: أن يكون الشك فيه مع عدم الاشتغال بشي ء أصلا و عدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك، و لا إشكال في عدم كون مثل هذا الشك موردا لقاعدة التجاوز، لعدم تحقق التجاوز عن المحل و الدخول في الغير المعتبر في جريان القاعدة.

الثاني: ان يكون الشك بعد الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير و لكنه كان منافيا له بوجوده العمدي، كما لو شك في التسليم و هو مشغول في الكلام.

و قد بنى السيد الخوئي (حفظه اللّه)- في مصباح الأصول- على عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذا الفرض، لعدم التجاوز في مثل هذا الفرض، لعدم التجاوز عن المحل و إمكان التدارك لكون المفروض انه ليس منافيا للجزء الأخير بوجوده المطلق بل بوجوده العمدي، فيمكن التدارك لاحتمال كون الكلام صدر عن سهو «1».

و فيه:

أولا: ان فوات محل التدارك ليس مقوما لتحقق التجاوز عن المحل و إلا للزم أن يخص جريانها في موارد الشك في الشي ء مع الدخول في الغير الركن، فلا تشمل مورد الشك في التكبيرة و هو في القراءة و الشك في السجود و هو في التشهد أو في القيام، و لا ملتزم بذلك، كيف؟ و هذه الموارد

مورد النصوص.

و ثانيا: انه لم يؤخذ في لسان الرواية التجاوز عن المحل من مقومات قاعدة التجاوز كي يقال بأنه في مثل هذا الفرض لا تجري القاعدة لعدم التجاوز عن المحل، بل المقوم لجريان القاعدة هو صدق التجاوز عن الشي ء بالعناية، سواء تجاوز عن المحل أم لم يتجاوز، لأنه هو المأخوذ في لسان الرواية موضوعا للقاعدة.

______________________________

- و لو فرض انه بعد بانيا على عدم التمامية اشتباها و سهوا. و اما الاشتغال فلا حقيقة له الا نية العمل لأن الصلاة معنى قصدي يتقوم بالقصد فما دام ناويا للصلاة فهو بعد مشتغلا بها و لو كان اشتغاله سهويا، فلاحظ تعرف.

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 293- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 179

و في مثل الفرض يصدق التجاوز بالعناية باعتبار أن الملتفت إلى العمل لا يترك الجزء الأخير و يأتي بالمنافي، فمع إتيانه بالمنافي يصدق لا محالة التجاوز عن التسليم بالعناية، فيتحقق موضوع القاعدة.

و هذا الوجه مأخوذ مما أفاده المحقق الأصفهاني في مقام تحقيق معنى الغير الّذي لا بد من الدخول فيه، و به جزم بان المراد به مطلق الغير مما لا يجتمع مع ترك المشكوك حال الالتفات «1».

و مما ينبغي ان يعلم ان هذا الكلام في هذا الفرض مبني على اعتبار الدخول في مطلق الغير، و إلا فمع اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بالخصوص لا إشكال في عدم جريان القاعدة حينئذ.

الثالث: ان يكون الشك فيه بعد الاشتغال بأمر مرتب عليه شرعا، و لكنه غير مانع من تداركه، كالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

و قد بنى المحقق النائيني (قدس سره) في هذا المثال بالخصوص على جريان قاعدة التجاوز لصدق الدخول في الغير،

و استشهد على ذلك بإلغاء الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة الوارد في رواية زرارة السابقة. بتقريب: ان الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب، لاتحادهما في الخروج عن حقيقة الصلاة «2».

و أورد عليه السيد الخوئي (حفظه اللّه) بإيرادين:

الأول: انه لا ملازمة بين الموردين في جريان قاعدة التجاوز، لأنه منوط بالتجاوز عن المحل، و هو لا يصدق الا فيما كان محل المشكوك سابقا بحسب الجعل

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 309- الطبعة الأولى.

(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2- 234- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 180

الشرعي على الغير الّذي صار الشك بعد الدخول فيه، و كان محل الغير مؤخرا عن المشكوك فيه.

و هذا المعنى موجود في الأذان و الإقامة دون التسليم و التعقيب فان الأذان قد أخذ محله شرعا سابقا على الإقامة أخذ محلها متأخرا عن الأذان و لو بلحاظ أفضل افرادها.

و التعقيب و ان أخذ مؤخرا عن التسليم، لكن التسليم لم يؤخذ شرعا سابقا على التعقيب، إذ لا يشترط في التسليم وقوعه قبل التعقيب كما لا يخفى، فالتجاوز عن المحل صادق عند الشك في الأذان حال الاشتغال بالإقامة، و غير صادق عند الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب، فجريان قاعدة التجاوز هناك لا يستلزم جريانها هنا.

الثاني: بالنقض بما لو شك في إتيان الصلاة حال الاشتغال بالتعقيب، فانه مع الالتزام بجريان القاعدة في الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا، لا بد من الالتزام بجريانها في الشك في الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار، لأن

التعقيب مترتب شرعا على الصلاة. مع انه لا ملتزم بذلك من الفقهاء بل المتفقهين «1».

و هذان الإيرادان وجيهان في الجملة، و لكنه يمكن مناقشتهما في أنفسهما.

أما الأول: فهو تام لو لم يلتزم بما أفاده المحقق الأصفهاني الّذي ذكرناه في الوجه الثاني، لتقوم صدق التجاوز عن المحل باعتبار السابقية على الغير شرعا.

أما مع الالتزام بما أفاده (قدس سره) من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل في جريان القاعدة، بل المعتبر هو صدق التجاوز بالعناية، فلا يبقى فرق فارق بين الصورتين- أعني: صورة الشك في الأذان و صورة الشك في التسليم- لتحققه في

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 294- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 181

صورة الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار السابق، و هو ان الملتفت لا يترك التسليم و يأتي بالتعقيب، فمع إتيانه بالتعقيب يصدق التجاوز عن التسليم بالعناية.

فالفرق الّذي ذكره مع الالتزام بهذا القول لا يكون فارقا.

و أما الثاني: و هو النقض، فحله بناء على الالتزام بهذا الرّأي بان صدق التجاوز المسامحي عن الشي ء غير المترتب شرعا انما يتحقق بملاك ان الملتفت لا يجمع بين الأمر الداخل فيه و ترك المشكوك عمدا. و هذا الملاك انما يوجب الصدق المسامحي فيما لو كان عدم ترك المشكوك لأجل امتثال الأمر المتعلق به، أما لو كان عدم تركه ليس لأجل امتثال الأمر المتعلق به، بل لأجل امتثال الأمر المتعلق بالغير الداخل فيه، فلا يكون هذا الملاك موجبا لصدق التجاوز المسامحي عن المشكوك، فلا يكون المورد مجرى لقاعدة التجاوز.

بيان ذلك فيما نحن فيه: ان عدم ترك التسليم و الدخول في التعقيب عمدا من الملتفت انما يكون لأجل امتثال الأمر المتعلق بالتسليم،

و لأن تركه يوجب بطلان الصلاة و ليس هو لأجل تحقق مشروعية التعقيب- لأنه غير مشروع قبل انتهاء الصلاة- و ان كان بعدم الترك يصير مشروعا. أما عدم ترك الصلاة عمدا من الملتفت و الدخول في التعقيب، فهو ليس إلا لأجل تحقق مشروعية التعقيب و حتى لا يكون الإتيان به بدون الصلاة لغوا، و ليس لأجل امتثال الأمر المتعلق بالصلاة، إذ بالترك لا يتحقق شي ء و لا يفوت محلها.

و لأجل ذلك لا يصدق التجاوز عن الصلاة فلا تكون موردا لقاعدة التجاوز، بخلاف التسليم فانه يصدق التجاوز عنه فتجري فيه قاعدة التجاوز. فالفرق بين الصورتين بجريان قاعدة التجاوز في الأولى دون الثانية هو هذه الجهة، فالتفت و لا تغفل.

ثم انه قد يشكل على جريان القاعدة في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 182

بان رواية إسماعيل لما كانت واردة في مقام التحديد، فهي كما تدل على تحديد الغير بالغير المترتب شرعا كذلك تدل على تحديد موضوع الشك و الغير بالجزء الشرعي، بحيث يكون كل من المشكوك المتعبد به و الغير الداخل فيه جزء للعمل، فلا تشمل القاعدة ما كان الشك في جزء مع الدخول في غير الجزء المترتب كالتسليم و التعقيب. و لو تنزل عن ظهورها في ذلك، فلا أقل من احتماله و مع احتمال ذلك يلزم إجمال العموم المذكور في الذيل من هذه الجهة، لاحتفافها بما يصلح للقرينية، فلا يصح التمسك به على التعميم، بل يقتصر فيه على القدر المتيقن، و هو ما ذكرناه من كون المشكوك و المدخول فيه جزءين لعمل واحد.

و الجواب: منع ظهورها في ذلك، فانه لا دلالة في الكلام على ذلك كي يؤخذ به بمقتضى مفهوم التحديد.

و أما احتماله فهو و ان كان موجبا لإجمال العام المذكور في الذيل، الا ان ذلك لا يضر بالتعميم لعموم رواية زرارة، و إجمال رواية إسماعيل لا يضير بظهور عموم رواية زرارة في التعميم.

الرابع: ان يكون الشك فيه بعد الدخول في المنافي المطلق- أعني: العمدي و السهوي- كالاستدبار و الحدث.

و لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز لو التزم باعتبار الدخول في الغير المترتب، لأن المنافي غير مترتب كما لا يخفى.

و أما مع الالتزام بكفاية الدخول في مطلق الغير، فلا مانع من جريان القاعدة فيه لصدق التجاوز المسامحي بالملاك السابق الذّكر.

و قد بنى السيد الخوئي على عدم جريانها، لعدم صدق التجاوز عن المحل لأن التسليم غير مأخوذ سابقا على المنافي «1».

و لكنه يرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل، بل ليس

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 293- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 183

المعتبر إلا صدق التجاوز العنائي. و قد عرفت صدقه.

و قد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في المقام: بان مختاره في الدورة السابقة كان جريان القاعدة حيث يصدق الدخول في الغير المترتب شرعا، لأن المنافي مباح بعد الصلاة لقوله: «تحليلها التسليم» فيكون مترتبا على الصلاة، لأن التسليم محلل للمنافيات. إلا انه عدل عنه في هذه الدورة باعتبار اختصاص أدلة القاعدة بما كان الغير المدخول فيه من اجزاء المركب أو من ملحقاته لا مطلق الغير و لو كان أجنبيا، فلا تكون الصورة مجرى للقاعدة، لأن الغير المدخول فيه أجنبي عن المركب «1».

و لكن ما ذكره أخيرا يندفع بإطلاق النصوص و عدم ظهورها في الاختصاص بمورد خاص.

و أما ما ذكره أولا- و الظاهر ارتضاؤه له بنفسه

و عدم عدوله عنه بذاته، بل انما عدل عن نتيجته- من ترتب المنافي على التسليم باعتبار كون التسليم محللا، فلا نعرف له وجها ظاهرا، لأن المنافي كالاستدبار لا معنى لترتبه بلحاظ ذاته على التسليم، و انما يتصور ترتبه باعتبار حكمه، و هو ذو أحكام أربعة: الحرمة التكليفية، و الحرمة الوضعيّة- و هي القاطعية و المنافاة- و الجواز التكليفي و الجواز الوضعي.

و الأولان يترتبان عليه إذا حصل في الأثناء، و الأخير- ان يترتبان عليه إذا حصل بعد الفراغ. فإذا كان المنافي محكوما بهذه الأحكام بالاعتبارين، فلا يتصور ترتبه بنفسه على الصلاة كي يكون الدخول فيه محققا للدخول في الغير المترتب، و انما هو بأحد صوره مترتب و هو الفرد المحلل، و لكن الواقع حيث لا يعلم حاله فلا يمكن الجزم بأنه الفرد المترتب أو غيره فلا يعلم بتحقق الدخول في الغير المترتب. نعم، لو كان بجميع أحكامه ملحوظا بعد الفراغ كان مترتبا شرعا و لكنه ليس كذلك، فتصور ترتب مثل الاستدبار على التسليم غير واضح. فتدبر.

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 472- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 184

تنبيه:

قد يقال: بان اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يستلزم عدم جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء، لما عرفت من ان الترتيب بين أجزاء الجزء ليس بشرعي، بل هو مقوم للمأمور به بحيث يكون الإخلال به إخلالا بنفس الجزء المأمور به لا إتيانا به بغير ترتيب، كما تقدم تقريبه في تكبيرة الإحرام. و عليه فمع الشك في جزء الجزء مع الدخول في الجزء الآخر للجزء، كالشك في كلمة: «اللّه» مع الدخول في كلمة: «أكبر» لا يتحقق الشك بعد الدخول في الغير المترتب

شرعا لعدم ترتب كلمة: «أكبر» على كلمة: «اللّه» شرعا، بل الترتيب بينهما عقلي، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

و لكنه يمكن التفصي عن هذا الإشكال بأحد وجهين:

الأول: أن الترتيب و ان كان مقوما للمأمور به عقلا إلا ان هذا لا ينافي تعلق الأمر به، و ذلك لأن المأمور به إذا كان متقوما بالترتيب كان مركبا من مادة و صورة، فالمادة هي نفس الألفاظ الخاصة كلفظ: «اللّه» و: «أكبر» في التكبير، و الصورة هي الهيئة الخاصة التي يؤتى بالألفاظ عليها. و حينئذ فالأمر بهذا المركب أمر بمادته و صورته، لأن معناه الإتيان بهذه الألفاظ بالنحو الخاصّ من التقديم و التأخير، فالصورة التي هي عبارة أخرى عن الترتيب مأمور بها كما أن المادة مأمور بها، و ذلك لا يتنافى مع تقوم المأمور به بالترتيب. فمثلا بيت الشعر عبارة عن الألفاظ الخاصة على الهيئة المخصوصة بحيث إذا كان الإتيان بالألفاظ لا على الهيئة المخصوصة لا يعد ذلك شعرا، فالوزن مقوم لصدق الشعر، فالأمر بالشعر لما كان معناه الأمر بالألفاظ الموزونة يكون في الواقع أمرا بالوزن كما هو أمر بنفس الألفاظ.

و عليه، فإذا كان الترتيب مأمورا به شرعا كان الدخول في الجزء الآخر للجزء دخولا في الغير المترتب شرعا.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 185

الثاني: انه لو تنزل عن هذا و قيل بعدم تعلق الأمر بالترتيب، فرواية إسماعيل لا دلالة لها على عدم إلغاء الشك في جزء الجزء بعد الدخول في غيره غير المترتب شرعا، و ذلك لأن غاية ما تدل عليه بمقتضى مفهوم التحديد هو عدم اعتبار الدخول في المقدمات عند الشك في الجزء، أما عدم اعتبار كون المشكوك جزءا مستقلا للعمل فهو و ان كان محتملا إلا

انه لا دلالة لها بوجه على ذلك، كما لا دلالة لها على اعتبار كون المشكوك و ظرف الشك جزءين لعمل واحد على ما عرفت.

و عليه، فيمكن التمسك على تعميم القاعدة لجزء الجزء برواية زرارة فالتفت.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في جريان قاعدة التجاوز.

الجهة التاسعة: في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ.

و الكلام في هذه الجهة في مقامين:
المقام الأول:

فيما إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في غير الجزء الأخير، بحيث يتحقق الفراغ بمجرد الإتيان بالجزء الأخير.

فهل يعتبر الدخول في الغير مطلقا، أو لا يعتبر مطلقا بل يكتفي بمجرد الفراغ، أو يفصل بين الوضوء و غيره فيعتبر في الأول دون الثاني؟ وجوه و أقوال.

و مقتضى إطلاق الأدلة الدالة على اعتبار القاعدة عدم اعتبار الدخول في الغير، إذ لم يؤخذ في موضوعها سوى تحقق المضي عن العمل، و هو يتحقق بمجرد الفراغ و لو لم يدخل بعد في غير العمل.

و قد قيل بتقييد هذه المطلقات برواية زرارة الواردة في باب الوضوء عن أبي جعفر عليه السلام: قال عليه السلام: «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما و على جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى اللّه ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى اللّه مما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 186

أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لا شي ء عليك فيه.» «1».

بتقريب: انه أخذ في إلغاء الشك بعد الفراغ الصيرورة في حال أخرى و لم يكتف بمجرد الفراغ. و هي و ان كان موضوعها الشك في الوضوء الا انه بضميمة عدم القول بالفصل بين الوضوء و غيره من

الأعمال تدل بالالتزام على اعتبار الدخول في الغير عند الشك في غير الوضوء بعد الفراغ عنه، فيبنى حينئذ على تقييد المطلقات بهذه الرواية كما هو شأن كل مطلق و مقيد.

الا ان هذا القول غير وجيه، إذ لم يثبت عدم الفصل بين الوضوء و غيره، فيحتمل ان يكون الوضوء له خصوصية تقتضي اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه، و هي لا توجد في غيره من الأعمال، بل ثبت بعدم قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء و جريانها في غير اجزائه، وجود الفرق بين الوضوء و غيره، فلا يبعد ان يعتبر الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه دون غيره.

ثم انه قد استشكل في دلالة الرواية على أصل المدعى- أعني: اعتبار الدخول في الغير- من وجوه:

الأول: أن موضوع الشك بعد الفراغ لم يبين في الرواية، فيمكن ان يحمل على الجزء الأخير فيكون الدخول في الغير من محققات الفراغ عن الوضوء لا أمرا زائدا عليه.

و وجه الحمل: هو ظهور المطلقات في كفاية مطلق الفراغ، فوجه الجمع بينهما حمل الرواية على كون موضوع الشك هو الجزء الأخير، فلا يكون هناك تغاير و تناف بينهما حتى بالإطلاق و التقييد، بل تكون الرواية واردة في بيان إحدى صغريات الكبرى الدالة عليها المطلقات، لما عرفت ان المضي عن العمل لا يتحقق مع الشك في الجزء الأخير الا بالدخول في الغير.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1- 330، باب 42 من أبواب الوضوء، الحديث: 1.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 187

و فيه ما لا يخفى: فان هذا انما يتجه ان يقال لو لم يذكر في الصدر مورد الشك، فيقال الرواية مجملة من هذه الجهة فتحمل على إرادة الشك في الجزء الأخير جمعا

بينها، و بين المطلقات. أما بعد ان ذكر صريحا في الصدر بكون موضوع الشك هو جميع اجزاء الوضوء من غسل و مسح، فلا وجه لهذا القول حينئذ، و ذلك لأن الظاهر من الرواية هو المقابلة بين حال القعود على الوضوء و حال القيام عنه في الحكم المترتب على الشك في الاجزاء، و هي تقتضي ان يكون موضوع الشك الّذي أخذ في حال القعود عينه موضوعا للشك الحاصل في حال القيام، و إلا لانتفت المقابلة، لأن المقابلة انما تتحقق بين الحكمين، إذا كانا واردين على موضوع واحد، أما إذا تعدد موضوعهما و اختلف فلا مقابلة بينهما كما لا يخفى.

و بالجملة: فموضوع الشك بعد القيام هو عين موضوع الشك حال القعود و هو جميع الأجزاء.

الثاني: أن ظاهر الرواية كون الذيل بيانا لمفهوم الصدر، و هو: «إذا كنت قاعدا ..»

لا لخصوصية فيه بنفسه، فالظاهر حينئذ كون المدار هو الشك في الأثناء كما هو مقتضى المنطوق، و الشك بعد الفراغ كما هو مقتضى المفهوم، سواء دخل في الغير أو لم يدخل.

و عليه، فلا منافاة بين هذه الرواية و بين المطلقات، بل هما بمفاد واحد.

و الجواب: ان الذيل ليس كذلك، لأن المذكور فيه موضوع وجودي، فلا معنى لكونه مفهوما للصدر، لأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الأمر المترتب عليه فلا بد ان يؤخذ فيه موضوع عدمي يترتب عليه عدم الحكم، كما ان مفهوم الشرط فيما نحن فيه: «إذا لم يكن قاعدا» بنحو السالبة بانتفاء الموضوع و ليس هو «إذا كنت قائما» عن الوضوء أو نحوه من التعبيرات.

و بالجملة: ترتيب الحكم على موضوع وجودي أجنبي عن بيان المفهوم، و كون الحكم المترتب عليه باعتبار كونه محققا لمفهوم الشرط،

فالتفت.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 188

الثالث: ان الفراغ عن العمل ملازم مع الكون على حال أخرى و لو كانت هي السكون، و إلا لما صدق الفراغ. و ليس المذكور في الرواية الا الصيرورة في حال أخرى و هو ليس بأمر زائد عما يقتضيه صدق الفراغ و المضي، فليس في الرواية قيد زائد على نفس الموضوع و هو الفراغ و المضي. فلا دلالة لها على التقييد.

و هذا الوجه انما يتجه لو لم تفسير الحال الأخرى في الرواية و ذكرت مطلقة، إذا يمكن حملها على ما لا يزيد على تحقق الفراغ، إلا انها فسرت في الرواية بالدخول في ما يغاير العمل الّذي كان فيه، كما يدل عليه قوله: «و صرت إلى حال أخرى في الصلاة و غيرها»، فلا يتجه هذا القول حينئذ، فالتفت.

فالمحصل: ان هذه الوجوه غير ناهضة لنفي دلالة الرواية على التقييد مطلقا.

فلا بد من الالتزام بدلالتها على التقييد بالدخول في الغير لكن لا مطلقا بل في خصوص الوضوء.

و قد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى اعتبار الدخول في الغير مطلقا سواء في ذلك الوضوء و غيره.

ببيان: ان الأدلة الدالة على حجية القاعدة منها ما يدل على التقييد بالدخول في الغير كرواية زرارة، و منها ما لم يعتبر في أكثر من المضي و التجاوز كموثقتي ابن بكير و ابن أبي يعفور. فيدور الأمر بين حمل المطلق على الفرد الغالب، فان الغالب من موارد الشك موارد الدخول في الغير. و بين حمل القيد على الغالب، فلا يظهر في كونه قيدا احترازيا. و الأول هو المتعين، لا من جهة اقتضاء الدليل المقيد للمفهوم و لا لحمل المطلق عليه، و انما هو لأجل انصراف المطلق في نفسه

إلى الفرد الغالب باعتبار كون الماهية تشكيكية بحيث يكون شمولها للفرد النادر خفيا بنظر العرف، فان ذلك يوجب انصراف المطلق عنه إلى الفرد الغالب لا باعتبار نفس الغلبة فانها لا توجب الانصراف. و لو تنزل عن ذلك فلا أقل من كونه قدرا متيقنا في مقام

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 189

التخاطب، فالمطلق في نفسه قاصر عن شمول مورد عدم الدخول في الغير «1».

و هذا الّذي ذكره لا تمكن الموافقة عليه بجميعه، لوجوه:

الأول: انه عدّ رواية زرارة من أدلة قاعدة الفراغ، مع انك عرفت انها تعد من أدلة قاعدة التجاوز- و ان ناقشنا في دلالتها على ذلك- الثاني: أنه جعل وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق، مع انه: (قدس سره) لا يرى ذلك في مبحث المطلق و المقيد، و يورد على المحقق الخراسانيّ في اختياره ذلك «2».

الثالث: ان ما ذكره من إيجاب التشكيك للانصراف مناقش فيه كبرويا و صغرويا.

أما كبرويا، فلأنه قد حقق في محله بان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم و تشخيصها من حيث السعة و الضيق، أما نظره في تشخيص المصداق فهو مردود لا يعتمد عليه، فعدم صدق المطلق على الفرد النادر بنظر العرف لخفائه غير قادح في التمسك بإطلاقه و لا يوجب صرفه عنه بعد ان كان يصدق عليه حقيقة.

و أما صغرويا، فلان التشكيك انما يوجب الانصراف- لو سلم كبرويا- فيما كان التفاوت بين الافراد من حيث الظهور و الخفاء. أما فيما كان التفاوت بينها من حيث الأظهرية و الظهور، بمعنى ان صدق الطبيعة على هذا الفرد كان أظهر من صدقها على ذلك فلا يتحقق الانصراف. و ما نحن فيه كذلك، فان صدق الطبيعة (الفراغ)

على مورد الدخول في الغير أظهر من صدقه على مورد عدم الدخول في الغير كما لا يخفى، لا ان صدقه على مورد عدم الدخول في الغير خفي و صدقه على مورد الدخول ظاهر. فتدبر.

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 471- الطبعة الأولى.

(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1- 530- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 190

و إذا لم يثبت القول بالتقييد مطلقا و لم يثبت القول بعدم التقييد مطلقا، فالالتزام بالتفصيل بين باب الوضوء و بين غيره باعتبار الدخول في الغير فيه دون غيره هو المتعين.

و المقام الثاني:

فيما كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في الجزء الأخير.

و لا بد من تحقق الدخول في الغير- في الجملة- في جريان القاعدة لتوقف صدق الفراغ عن العمل و المضي عنه بالدخول في الغير، لأنه مع عدم الدخول في الغير و بقاء محل التدارك لا يتحقق مضي العمل، إذ يمكن ان لا يكون قد أتى بالجزء الأخير المحقق للمضي و الفراغ.

و قد ذكر بعضهم ان الشك في الجزء الأخير تارة: يكون بعد الدخول في الغير.

و أخرى: يكون قبل الدخول في الغير الا انه كان قد حصل اليقين آنا ما بتحقق الفراغ عن العمل. و ثالثة: يكون قبل الدخول في الغير و عدم حصول اليقين بتحقق الفراغ. فالقاعدة في الصورتين الأولتين تجري دون الصورة الثالثة «1».

و أورد الشيخ (قدس سره) عليه في ذهابه إلى جريان القاعدة في الصورة الثانية: بأن الفراغ لا يصدق باليقين به آنا ما، و نفس اليقين الآني السابق المتبدل إلى الشك لا موضوعية له، بل هو طريق إلى الواقع، فلا دليل على حجيته بعد تبدله بالشك إلا أحد

أمرين .. قاعدة اليقين، و هي غير ثابتة. و ظهور حال اليقين في كونه مطابقا للواقع، و هذا الأمر لا دليل عليه و غير ثابت.

و أما جريان القاعدة في الصورة الأولى و عدم جريانها في الثلاثة، فملاكه واضح لا يحتاج إلى بيان و لا إشكال فيه «2».

______________________________

(1) النجفي الفقيه الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام 2- 361- الطبعة الحديثة.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة- 162- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 191

و لكن ما ذكره الشيخ رحمه اللّه يمكن الخدشة فيه بتقريب: ان صدق الفراغ و المضي عن العمل المركب يكون بأحد امرين .. الإتيان بالجزء الأخير منه. و قطعه و الاقتصار على بعض أجزائه بعد مضي قسم منه يصدق عليه لفظ المركب في نفسه، فانه بالإتيان بهذا المقدار لا يصدق الفراغ عرفا ما دام مشغولا بباقي الاجزاء، و لكنه مع قطعه و عدم المضي في باقي الاجزاء يصدق تحقق العمل و الفراغ منه. و هذا واضح و لا إشكال فيه.

و لما كانت وحدة المركبات الاعتبارية- و منها الصلاة- انما هي بالقصد و النية- إذ لا وحدة لها حقيقية لاختلاف اجزائها ماهية و مقولة- كان اليقين بالفراغ و لو آنا ما سببا لتحقق الفراغ، لأنه موجب لتبدل القصد و النية فيتحقق الانقطاع، و بذلك يصدق العمل و الفراغ عنه.

فجريان القاعدة في هذه الصورة ليس من جهة موضوعية اليقين في نفسه، بل لأجل تحقق الانقطاع بحصوله الموجب لصدق موضوع القاعدة، و هو الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه.

و بذلك يظهر انه لا محيص عن الالتزام بما ذكره صاحب الجواهر من جريان القاعدة في الصورتين الأولتين، و انه لا وجه لما ذكره الشيخ في

مقام الإشكال عليه.

و لبعض الفقهاء تقريب لتصحيح كلام الجواهر و الخدشة في كلام الشيخ بيانه:

انه مع اعتبار تحقق الفراغ في جريان القاعدة يدور الأمر بين إرادة الفراغ الحقيقي، و إرادة الفراغ الادعائي، و إرادة الفراغ البنائي- يعنى البناء على تحقق الفراغ عن العمل- لا يمكن الالتزام بإرادة المعنى الحقيقي و المعنى الادعائي للفراغ.

أما الأول، فلأنه انما يصدق عند الإتيان بالعمل بجميع أجزائه و شرائطه، فاعتباره يلزم تعطيل قاعدة الفراغ، لأن موردها الشك في صحة العمل لفقد جزء أو شرط، و الفراغ الحقيقي غير صادق مع هذا الشك.

و أما الثاني، فلأنه يصدق بالإتيان بمعظم الاجزاء، فاعتباره يستلزم صحة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 192

جريان القاعدة مع الشك في الصحة بعد الإتيان بالمعظم و قبل الانتهاء من العمل، مع انه لا إشكال في عدم صحة ذلك، لعدم صحة جريان القاعدة في أثناء العمل.

و إذا لم يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي و لا الفراغ الادعائي تعين الالتزام بإرادة الفراغ البنائي، و هو يحصل باليقين بالتمام. فجريان القاعدة مع تحقق اليقين الآني بالفراغ ليس لأجل حجية اليقين بعد زواله أو لأجل ظهور الحال كي ينفى بعدم الدليل عليه بل لأجل صدق الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، و هو الفراغ البنائي «1».

و لكن ما ذكره لا تمكن الموافقة عليه لوجهين:

الأول: انه يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي بلا استلزام للمحذور المذكور- أعني: محذور التعطيل- و ذلك بالالتزام بكون متعلق الفراغ العمل الجامع بين الصحيح و الفاسد- لا خصوص العمل الصحيح كي يلزم ما ذكر- و بذلك يتحقق الفراغ الحقيقي بلا عناية و لا تكلف مع الشك في فقد جزء أو شرط كما لا يخفى.

و توهم: أن الأمر يدور حينئذ

بين التصرف في لفظ الفراغ و التصرف في متعلقه بحمله على الأعم فما هو المرجح؟ كي يلتزم بالأخير.

فاسد، فان التصرف في المتعلق بحمله على الأعم مما لا بد منه على القولين، بل هو صريح الروايات، لأن فيها اسناد الفراغ إلى العمل مع الشك فيه مما يكشف عن إرادة الأعم، فالالتزام بإرادة المعنى الحقيقي للفراغ لا يستدعي مئونة زائدة بخلاف العكس.

الثاني: ان اعتبار تحقق الفراغ البنائي في جريان قاعدة الفراغ مطلقا يستلزم عدم جريان القاعدة مع الإتيان بالجزء الأخير و الشك في الإتيان بما قبله بلا فصل، كالإتيان بالتسليم مع الشك في التشهد، فانه في حال الشك لا يقين له بالفراغ، إذ

______________________________

(1) الحكيم الفقيه السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى 2- 518- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 193

يحتمل ان يكون إتيانه بالتسليم عن غفلة لا أنه عن التفات و بعد الإتيان بالتشهد، و في تلك الحال كان غافلا، فلم يتحقق منه الفراغ البنائي أصلا. مع أنه لا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة.

فالمحصل: ان ما ذكره هذا القائل لا يعرف له وجه ظاهر، فالمتعين هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في جريان قاعدة الفراغ في الصور الأربع التي ذكرناها للشك في الجزء الأخير عند الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه.

فالتحقيق: ان جريان القاعدة في الصورتين الأوليتين- و هما: صورة تحقق الشك مع عدم الاشتغال بشي ء مناف أصلا و عدم تحقق السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة. و صورة تحقق الشك مع الإتيان بالمنافي العمدي كالكلام بالنسبة إلى الصلاة- انما يصح لو تحقق في الحالين اليقين بالفراغ و لو آنا ما. أما مع عدم تحققه فنفس الحالين لا يحققان المضي و الفراغ كما لا يخفى.

و أما

الصورتان الأخيرتان- و هما: صورة تحقق الشك مع الاشتغال بأمر مرتب على العمل، كالتعقيب بالنسبة إلى الصلاة. و صورة تحقق الشك مع الاشتغال بالمنافي العمدي و السهوي- فالقاعدة جارية فيهما.

أما جريانها في الأخيرة فواضح، لانقطاع العمل بالاشتغال بالمنافي و تحقق الفراغ عنه و صدق مضيه كما لا يخفى.

و أما جريانها في الثلاثة، فلأن الاشتغال في الأمر المترتب بعنوانه الخاصّ- كالاشتغال في التعقيب بما انه تعقيب لا بما انه دعاء أو ذكر مثلا- لا يكون إلا بعد البناء على الفراغ و اليقين بالانتهاء من العمل، و ذلك موجب لصدق المضي، لانقطاعه بتبدل القصد. هذا تمام الكلام في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الصحة للشك في الجزء.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 194

الجهة العاشرة [1]: في تحقق جريان قاعدة الفراغ

لو كان منشأ الشك هو

______________________________

[1] تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ عند الشك في الشرط، ان يقال: ان الشرط على أقسام:

ما يكون شرطا مقوما للمأمور به عقلا بحيث يتقوم به صدق عنوان المأمور به كقصد الصلاتية في تحقق عنوان الصلاة، و قصد الظهرية في تحقق عنوان الظهر.

و ما يكون شرطا مقوما للجزء، كقصد الركوع في تحقق الركوع، إذ ليس كل انحناء ركوع بل الانحناء الركوعي هو المأتي بعنوان الركوع. و كالموالاة بين الحروف في تحقق الكلمة.

و ما يكون شرطا شرعيا للكل، كالاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

و ما يكون شرطا شرعيا للجزء، كالجهر بالنسبة إلى القراءة.

أما الشرط المقوم عقلا للمأمور به كالنية، فقد التزم البعض بجريان قاعدة التجاوز فيه إذا تحققت شرائطها. و ذهب البعض إلى عدم جريانها فيه، كما يظهر من مراجعة الفرع الأول من فروع العلم الإجمالي من العروة و ما كتب حوله.

و التحقيق: ان متعلق الأمر هو عنوان

الصلاة أو الظهر، و قصد الصلاتية أو الظهرية محقق لعنوان المأمور به. من دون ان يلحظ في متعلق الأمر جزء أو شرطا و انما هو شرط تكويني.

و على هذا فلا معنى لإجراء القاعدة فيه، إذ لا يقع مثله مورد التعبد الشرعي لعدم دخله شرعا في المأمور به، فالتعبدية لا يجدي شيئا و لا يترتب عليه أثر شرعي مترقب، و ترتب عنوان المأمور به عليه ترتب عقلي لا ينفع فيه التعبد.

و بهذا يظهر انه لا وجه يقتضي جعله موردا للكلام كما ارتكبه الاعلام.

و لعله إلى ذلك ينظر المحقق العراقي في منعه جريان القاعدة فيه معللا بان المعتبر في العمل نشوؤه عنه لا نفسه، فانه يمكن ان يكون نظره إلى ما ذكرناه من عدم اعتباره في العمل و انما المعتبر هو عنوان الصلاتية أو الظهرية.

و لو تنزلنا عن هذه الجهة فنقول: ان القصد المعتبر إما يكون قصدا واحدا مستمرا و عليه يبتني مبطلية نية القطع أو القاطع، كما التزم به بعضهم، و اما يكون متعددا بتعدد الاجزاء فهو معتبر في كل جزء و لذا لا تبطل الصلاة بنية القطع.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 195

______________________________

- و لا يخفى ان قاعدة التجاوز انما تجري في القصد إذا كان اعتباره بالنحو الثاني لصدق التجاوز عنه بتجاوز الجزء.

أما إذا كان اعتباره بالنحو الأول، فلا مجال لجريان القاعدة فيه لأن المفروض انه امر واحد مستمر و محله جميع العمل، فلا يتحقق التجاوز عنه في الأثناء.

هذا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في النية. و أما بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في نفس العنوان المأمور به، فتحقيق الحال فيه: انه يتصور على أنحاء.

فتارة يقال: انه أمر واحد مستمر يعنون به مجموع العمل.

و أخرى

يقال: انه متعدد بتعدد الاجزاء، و هو تارة: يكون متقوما بمجموع الاجزاء بحيث لا ينطبق إلا على المجموع، نظير الحمى القائمة باجزاء البدن فان كل جزء لا يقال انه محموم، بل مجموع البدن محموم. و أخرى: يكون متقوما بكل جزء فكل جزء ينطبق عليه انه صلاة أو ظهر.

و لا يخفى انه لا مجال لتوهم جريان قاعدة التجاوز في العنوان بناء على الاحتمالين الأولين، لعدم تحقق التجاوز عنه بعد تقومه بالكل.

نعم، لتوهم جريان القاعدة فيه مجال على الاحتمال الثالث لتجاوز محله بتجاوز الجزء، و ان وقع محل الإشكال من جهات أخرى.

و أما الشرط المقوم للجزء عقلا، كقصد الركوعية في الركوع، فقد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في شرط الكل، إذ عرفت انه لا مجال لتوهم جريان القاعدة في الشرط العقلي التكويني لعدم ترتب أثر شرعي عليه.

و أما إجراء القاعدة في وصف الركوعية، فللمنع عنه مجال، لأن الانحناء الركوعي مباين عرفا للانحناء غير الركوع و الذاتان متباينان، و المطلوب هو الذات المعنونة بعنوان الركوع. و من الواضح ان إثبات تحقق الركوعية لا يثبت تحقق الذات المعنونة و هي الركوع إلا بالملازمة.

و أما إجراء القاعدة في نفس الركوع فقد تقدم الاستشكال فيه بدعوى انصراف اخبار القاعدة إلى الشك في أصل الوجود لا في اتصاف الموجود بعنوان الجزء.

نعم، يمكن إجراء قاعدة الفراغ في الانحناء و إثبات صحته بناء على عدم اعتبار إحراز العنوان في جريانها. و سيجي ء البحث فيه.

و أما الشرائط الشرعية المعتبرة في الكل، فالحق فيها هو التفصيل بين ما هو معتبر حال

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 196

______________________________

- العمل كالاستقبال و الستر و نحوهما، و ما هو معتبر سابقا على العمل كالوضوء على قول، فتجري القاعدة

في الثاني دون الأول.

و الوجه في ذلك- على سبيل الإجمال- أن التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما هو معتبر في حال العمل لا يصدق و لو مع دخول المكلف في الجزء اللاحق، إذ غاية ما يمكن تصوير تحقق التجاوز عن محل الشرط مع الدخول في الجزء اللاحق هو ما يقال: من ان المعتبر في كل جزء تقيده بالشرط المفروض، فمع التجاوز عن الجزء يتحقق التجاوز عن التقييد المأخوذ فيه فتجري القاعدة في تقيده بالشرط، و يترتب الأثر مع إحراز التقيد بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة.

و لكن هذا المطلب لا يمكن الالتزام به، فان التقيد من شأن المفاهيم و العوارض و لا يتصور في المعاني المتباينة مثل الطهارة و الركوع، فان كلا منهما يباين الآخر فلا معنى لأن يكون أحدهما مقيدا بالآخر إذ الطهارة من عوارض المكلف لا الركوع.

نعم، يتصور أخذ التقييد بنحو آخر، و هو ان يكون الواجب هو الركوع المقارن للطهارة، فيؤخذ القيد وصف المقارنة للطهارة.

و لكن هذا مما لا يلتزم به، و إلا لأشكل الأمر في استصحاب الطهارة، فانه لا يثبت الوصف الملحوظ المأخوذ في الواجب و هو وصف المقارنة.

و عليه، فالذي يلتزم به في باب الشروط هو أخذ الشرط بنحو المعية في الوجود مع الجزء، نظير نفس الاجزاء فيما بينها إلا ان الفرق تعلق الأمر بالجزء دون الشرط.

و من الواضح ان أخذ الشرط بهذا النحو لا يستلزم كون الجزء محلا له و ظرفا بحيث يكون التجاوز عنه تجاوزا عن الشرط، بل بالإتيان بالجزء دون الشرط لم يفت محل الشرط و يمكن الإتيان به مع الجزء في كل وقت و لو بإعادة الجزء.

و قد يلتزم في باب الشروط بوجه آخر و هو اعتبار الإضافة

إلى الشرط بمعنى ان الواجب هو إيقاع الجزء في ظرف الشرط، فيلحظ الجزء مضافا إلى الزمان الخاصّ و هو زمان الشرط.

و لكن لو تم هذا لم ينفع في المطلوب، لأن طرف الإضافة هو نفس الزمان دون الخصوصية، فالشك في الخصوصية- أعني الشرط- لا يستلزم الشك في طرف الإضافة بل في خصوصيته.

و الوجه فيه:

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 197

______________________________

- ان طرف الإضافة لو كان هو الزمان الخاصّ لا شكل الأمر في مثل استصحاب الشرط كالطهارة، لعدم إثباته إضافة الجزء للطهارة حتى يتحقق طرف الإضافة، فكيف يجدي في الامتثال؟ فمقام الثبوت و الإثبات يساعدان على كون طرف الإضافة نفس الزمان و الخصوصية للزمان نفسه لا مأخوذة في الإضافة، فيعتبر ان تكون الصلاة في زمان فيه طهارة، فيصح إجراء استصحاب الطهارة لإثبات خصوصية الزمان، نظير استصحاب الخمرية لإثبات حرمة شرب المائع المشكوك، فانه لا يثبت كون شرب هذا المائع شرب خمر، و لكن يثبت به انه شرب مائع هو خمر، و ليس الملحوظ في الحكم أزيد من ذلك، فليس المحرم الشرب المضاف إلى الخمر بل الشرط المضاف إلى مائع هو خمر.

و عليه، فإذا ثبت ان طرف الإضافة هو الزمان، و الشرط لوحظ كخصوصية للزمان لا طرفا للإضافة، فالمشكوك لا يكون طرف الإضافة بل خصوصية الطرف، و هي مما لم يفرض لها محل.

هذا مع أخذ الشرط طرفا للإضافة لا يظهر منه سوى كون الشرط ظرفا للجزء لا العكس، فاعتبار كون الركوع في حال الطهارة ظاهر بحسب لسان الدليل في كون الطهارة ظرفا للركوع لا كون الركوع ظرفا للطهارة فانتبه.

فتبين من جميع ذلك انه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في الشرط المقارن.

و أما الشرط السابق على العمل، فالقاعدة

تجري فيه إذا شك فيه بعد الدخول في العمل لتجاوز محله بعد الدخول، لأن ظرفه هو الزمان السابق على العمل. و هذا مما لا إشكال فيه. إنما الإشكال في انه هل يعتبر إحرازه للاجزاء اللاحقة أو لا؟ ذهب المحقق العراقي إلى لزوم ذلك، و ان القاعدة لا تنفع إلا في ما مضى من الاجزاء، إذ ما يأتي من الاجزاء لم يتجاوز عنه، و دليل القاعدة انما يتعبد بها بمقدار ما تحقق التجاوز عنه، و هذا منه مبني على اعتبار التجاوز عن نفس المشروط لا خصوص المشكوك، و هو مما لا دليل عليه، إذ غاية ما يدل عليه الدليل اعتبار التجاوز عن المشكوك، و هو فيما نحن فيه حاصل، إذ الشرط إذا كان مأخوذا سابقا على العمل فمع الدخول في العمل يتحقق التجاوز عن محله حتى بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لأن شرطها هو الفعل السابق عن العمل.

نعم، بالنسبة إلى الأعمال المستقلة الأخرى كصلاة ثانية لا تنفع، لأن قاعدة التجاوز

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 198

الشك في الشرط، و ذلك يتوقف على بيان أقسام الشروط.

و قد ذكر المحقق العراقي (قدس سره) أقساما عديدة للشروط و ذكر حكمها مما يرتبط بما نحن بصدده من جريان قاعدة الفراغ، مع ذكره حكمها بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز.

و محصل ما أفاده: ان الشروط.

منها: ما يكون شرطا عقليا في تحقق عنوان المأمور به من الصلاتية و الظهرية و نحوهما، كالنية، فان هذه العناوين لما كانت أمورا قصدية فلا تتحقق إلا بالقصد و النية.

و منها: ما يكون شرطا شرعيا لصحة المأمور به بعد الفراغ عن تحقق عنوانه، كالطهور و الستر و الاستقبال و نحوها.

و منها: ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء، بمعنى

كونه مما يتوقف عليه وجود الجزء عقلا، كالموالاة بين حروف الكلمة.

و منها: ما يكون شرطا شرعيا للجزء، كالجهر و الإخفات بناء على القول بكونهما شرطا للقراءة، لا للصلاة في حال القراءة.

ثم ما كان شرطا شرعيا إما أن يكون مما له محل مقرر شرعا، بان يكون قبل

______________________________

- انما تتعبد بالمشكوك بمقدار التجاوز عنه، و الوضوء للصلاة الأخرى لم يتجاوز عن محله بالدخول في هذه الصلاة.

نعم، هو تجاوز عن محل الوضوء لهذه الصلاة، فلا تثبت القاعدة إلا وضوء هذه الصلاة لا غير، فيلزمه الوضوء للصلوات الأخرى. و من هنا ظهر الحال ما إذا شك في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر، فان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر انما تثبت تحقق صلاة الظهر بمقدار تأثيرها في صحة العصر، و اما صلاة الظهر بما هي واجبة مستقلا فلم يتجاوز عن محلها، إذ لا يعتبر فيها ان تكون قبل العصر بل المعتبر ان تكون العصر بعدها فيلزمه على هذا الإتيان بالظهر بعد العصر. هذا تمام الكلام في الشروط

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 199

الدخول في المشروط كصلاة الظهر بالنسبة إلى العصر، و كالطهارة على قول. أو لا يكون له محل مقرر، كالستر و الاستقبال.

فالأقسام خمسة.

أما ما كان شرطا عقليا لعنوان المأمور به، بمعنى أنه مقوم لتحققه عقلا كالنية، فلا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه مع الشك، و ذلك لأنه مضافا إلى عدم وجود محل له مقرر شرعا مع اختصاص القاعدة بذلك، لا تكون القاعدة تجدي في إحراز عنوان المشروط، فان جهة نشوء الأفعال عن قصد الصلاتية و نحوها من اللوازم العقلية للقصد و النية، فالتعبد بوجود القصد لا يجدي في إثبات هذه الجهة. و كذلك

لا تجري قاعدة الفراغ في المشروط مع الشك، لاختصاصها بما إذا كان العمل محرزا بعنوانه و كون الشك في صحته و فساده، نظير قاعدة الصحة في عمل الغير- فانهما من سنخ واحد- و مع فرض الشك في القصد يشك في تعنون العمل بعنوانه المطلوب، فلا مجال لقاعدة الفراغ.

هذا بالنسبة إلى النية المقومة لعنوان المأمور به.

أما بالنسبة إلى النية بمعنى قصد القربة، فمع الشك فيها في الأثناء لا تجري قاعدة التجاوز- و ان قلنا بكونها مأخوذة في المأمور به شرعا لا عقلا- لعدم كونها ذات محل مقرر شرعا كي يصدق عليها عنوان التجاوز من المحل.

و أما قاعدة الفراغ فهي تجري بناء على كونها شرطا شرعيا و لو بنحو التقييد. و أما بناء على القول بكونها شرطا عقليا فلا تجري، لعدم الشك في صحة المأتي به الشرعية، بمعنى استجماع المأتي به للاجزاء و الشرائط الشرعية، فانه محرز مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة فضلا عن الشك.

و أما ما كان شرطا شرعيا للصلاة مع عدم وجود محل له شرعي كالستر، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في المشروط.

و أما قاعدة الفراغ: فتجري في المشروط للشك في صحته بالشك في الشرط.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 200

هذا بعد الفراغ منه. أما إذا كان الشك في الأثناء، فقاعدة الفراغ انما تجري إذا كانت الاجزاء الماضية بنحو يكون لها بنظر العرف عنوان مستقل كالركعة، دون غيره مما لا يعد كذلك كالآية. إلا ان قاعدة الفراغ انما ينفع جريانها في الأثناء لو كان الشرط محرزا حال الشك بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة، أما مع الشك فيه حتى بالإضافة إلى الاجزاء اللاحقة و الحالية، فلا ينفع جريانها فيما

مضى من الاجزاء، فلا مجال على هذا لجريانها.

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)؛ ج 7، ص: 200

و أما الشرط الشرعي ذو المحل، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر و نحوها، فما ذكره (قدس سره) مما يرتبط بالمقام من جريان قاعدة التجاوز و قاعدة الفراغ لا يزيد عما ذكرناه سابقا نتيجة فراجع.

و أما ما يكون شرطا عقليا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة، فلما كان الشك فيه يرجع إلى الشك في وجود الكلمة، تجري فيها- أي: في الكلمة- قاعدة التجاوز.

و أما ما يكون شرطا شرعيا للجزء، كالجهر و الإخفات- لو قيل بكونهما شرطا للقراءة- فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشي ء على مثله، فالأدلة منصرفة عنه.

و أما المشروط، فهو و ان صدق عليه الشي ء إلا ان الشك ليس في وجوده بل في صحته، فهو مورد لقاعدة الفراغ. إلا ان البحث عنه قليل الجدوى لورود النص على عدم الإعادة مع نسيان الجهر و الإخفات فضلا عن صورة الشك، و لم نعثر على مثال للفرض غير هذا.

هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) «1»، و لكن في كلامه مواقع للنظر.

الأول: ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز مع الشك في تحقق القصد

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 63- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 201

بتقريب: أن موضوع الأثر ليس هو القصد، بل ما يلازم القصد عقلا من تعنون العمل بعنوان المأمور به أو جهة نشوء الأفعال عن قصد العنوان المأمور به- كما قد يظهر من كلامه- أعني: الترديد في موضوع الأثر فإثبات تحقق القصد بالقاعدة

لا يقتضي ثبوت الجهة المرغوبة.

و وجه النّظر فيه: أن الشك في تحقق القصد ملازم للشك في تعنون العمل بعنوان المأمور به أو نشوء الأفعال عن قصد العنوان، فلا ملزم حينئذ لإجراء قاعدة التجاوز في نفس القصد كي يتأتى ما ذكره، بل يمكن حينئذ إجراء القاعدة في نفس موضوع الأثر- و هو أحد الأمرين- لتحقق الشك فيه بالشك في تحقق القصد، فلا يرد ما أفاده كما لا يخفى.

الثاني: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض نفسه لعدم إحراز عنوان العمل مع اعتباره في جريانها قياسا على أصالة الصحة في عمل الغير، لأنهما من سنخ واحد و الاختلاف في مورد جريانهما.

و وجه النّظر فيه: ان هذا- على تقدير تسليمه- انما يتأتى في صورة الشك في تحقق أصل قصد العنوان كالشك في تحقق قصد الصلاتية، لعدم إحراز العنوان. أما مع العلم بقصد الصلاتية و الشك في خصوصية القصد من الظهرية و العصرية و نحوهما، فلا مجال لما ذكره من منع جريان قاعدة الفراغ، لإحراز عنوان العمل من كونه صلاة و الشك في صحته و فساده.

مع ان ما ذكره من لا بدية إحراز عنوان العمل في جريان قاعدة الفراغ، كاعتباره في قاعدة الصحة غير مسلم لأن اعتباره في أصالة الصحة لم يكن لقيام دليل عليه، بل لعدم الدليل على عدم اعتباره، حيث ان دليل أصالة الصحة- كما عرفت- دليل لبي لا لفظي، و هو السيرة العقلائية، و معه يقتصر على القدر المتيقن بمجرد الشك، فمع الشك في اعتبار إحراز عنوان العمل و عدمه، يبنى على الاعتبار من باب عدم الدليل على عدمه و الأخذ بالقدر المتيقن من دليل الأصل، و هو غير

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7،

ص: 202

صورة عدم الإحراز.

و ما نحن فيه ليس كذلك، لأن دليل قاعدة الفراغ ليس دليلا لبيا بل هو دليل لفظي، يمكن التمسك بعمومه مع الشك و لم يقم دليل آخر على اعتبار إحراز العنوان، فلا وجه لتخصيص القاعدة بصورة إحرازه، بل الوجه تعميمها لصورة عدم الإحراز تمسكا بالعموم.

و عليه، فيصح جريانها فيما نحن فيه للشك في أن هذا العمل المأتي به مطابق للمأمور به أو غير مطابق، فتجري فيه قاعدة الفراغ و تثبت صحته و لو لم يحرز العنوان، فتدبر.

و بالجملة: لا دليل صناعيا على ما أفاده، فلا وجه لرفع اليد عن العموم لأن الشك في الصحة يجامع الشك في العنوان فيشمله الدليل. إلا ان يدعى انصراف لفظ الشي ء في قوله: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» «1»، إلى كونه مشيرا إلى الأفعال بعناوينها المأخوذة في ترتب الأثر لا إلى ذات العمل، و هي غير سهلة الإثبات.

الثالث: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في تحقق قصد القربة، بتقريب: انه لا شك في صحة المأتي به بمعنى مطابقته للاجزاء و الشرائط المأمور بها شرعا، للعلم بالمطابقة مع اليقين بعدم تحقق قصد القربة فضلا عن صورة الشك فيه.

و وجه النّظر فيه: انه بعد عدم معقولية أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بالعمل أو في متعلق أمر آخر، و حكم العقل بوجوب الإتيان بالعمل مقارنا لقصد القربة، لتوقف تحقق الغرض عليه و تحصيله واجب في مقام الامتثال، لا يمتنع على الشارع الاكتفاء في مقام الامتثال بالإتيان بما يحتمل معه تحقق الغرض، إذ لا مانع من ذلك عقلا، إذ أي محذور في ان يقول الآمر بأني اكتفي في مقام الامتثال باحتمال

تحقق الغرض دون الجزم به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5- 336 باب 23 من أبواب الخلل، الحديث: 3.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 203

و إذا ثبت ذلك في نفسه، فيمكن أن يثبت فيما نحن فيه، بان يكتفي الشارع بالإتيان بما يحتمل تحقق الغرض به في الامتثال، فيكتفي بما يحتمل مقارنته لقصد القربة.

و يكون الدليل المتكفل لذلك هو عموم دليل قاعدة الفراغ، فانه يدل على عدم الاعتناء بالشك و الاكتفاء بالمأتي في مقام الامتثال، و منه ما نحن فيه، فيكون من الاكتفاء بما يحتمل تحقق الغرض به، و قد عرفت انه لا مانع منه، و انه من صلاحيات الشارع. فالتفت.

الرابع: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الأثناء مع الشك في الشرط الشرعي للعمل، إلا إذا كان ما مضى من الاجزاء بنحو يعد عملا من الأعمال.

فانه غير وجيه، لأنه إن كان لأجل استفادته من بعض النصوص كقوله عليه السلام: «كل ما مضى من صلاتك و طهورك ..»- فانه يستفاد منه كون مجرى القاعدة أمرا ذا عنوان مستقل كعنوان الصلاة و الطهور- فذلك يدفعه إطلاق قوله عليه السلام: «كل ما شككت فيه مما مضى فشكك ليس بشي ء»، فانه بإطلاقه يشمل الكل و الجزء و ذا العنوان و غيره.

مضافا إلى ان ما ذكره هاهنا ينافي ما ذكره في آخر كلامه من كون الجزء المشكوك في شرطه موردا لقاعدة الفراغ في نفسه، إلا انها لا تجري لانتفاء الأثر.

و أما ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز عن ما لا محل له من الشروط الشرعية كالستر و الاستقبال و قصد القربة- على أحد القولين- فيعرف صحته بإطلاقه و عدم صحته مما نقحناه سابقا. فراجع.

الجهة الحادية عشرة: في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث.

و التحقيق: انه لا إشكال في

عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في فعل من افعال الوضوء بعد الدخول في غيره و قبل الفراغ من الوضوء فقد انعقد الإجماع على ذلك، و ادعى الشيخ ورود الاخبار الكثيرة في ذلك «1».

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 412- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 204

و قد ألحق الأصحاب الغسل و التيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز، فأدلة قاعدة التجاوز مخصصة بالأخبار و الإجماع.

هذا كله مما لا كلام فيه، و انما الكلام في موثقة ابن أبي يعفور: «إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكّك بشي ء. انما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» «1»، حيث ان ظاهرها إلغاء الشك في أحد الاجزاء الوضوء مع الدخول في الجزء الآخر، و هو يقتضي جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء.

و ذلك ينافي معقد الإجماع و دلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة.

و قد تخلص الشيخ من هذه المنافاة بإرجاع الضمير في: «غيره» إلى الوضوء، فيكون مفاد الصدر إلغاء الشك في جزء الوضوء مع الدخول في غير الوضوء لا غير الجزء من الاجزاء الأخرى. و هذا لا يتنافى مع معقد الإجماع و الأخبار، لأن مفادهما عدم إلغاء الشك ما دام في الأثناء.

ثم أنه (قدس سره) أفاد: ان الظاهر من الموثقة كون هذا الحكم- و هو عدم إلغاء الشك في أثناء الوضوء- ليس حكما تعبديا صرفا خارجا عن مقتضى القاعدة و ثبت بالتخصيص، و انما هو حكم على طبق القاعدة، بمعنى انه حكم جزئي لقاعدة كلية تنطبق موردا على الوضوء، كما هو مقتضى ذيلها، فان ظاهره انه حكم كلي طبق على المورد، فالمستفاد من الرواية قاعدة كلية

مقتضاها عدم إلغاء الشك في جزء العمل، ما دام في أثناء العمل و اختصاص الإلغاء بما إذا دخل في غير العمل «2».

و من هنا يتوجه عليه إشكالان:

أحدهما: ان هذا يستلزم إلغاء الشك في جزء من اجزاء الوضوء باعتبار

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1- 330، باب: 42 من أبواب الوضوء، الحديث: 2.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 412- الطبعة القديمة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 205

الشك في جزئه بعد الدخول في غيره، كالشك في غسل بعض اليد بعد الفراغ منها و الدخول في غيرها من إعمال الوضوء، لأنه يصدق عليه انه شك في جزء العمل بعد الفراغ عن العمل و الدخول في غيره، مع ان إلغاء هذا الشك خلاف الإجماع لانعقاده على الاعتناء بمطلق الشك في الأثناء.

و الآخر: هو حصول التعارض بين هذا الخبر و بين الأخبار الدالة على إلغاء الشك في الشي ء بعد التجاوز عنه، فيما إذا شك في جزء من أجزاء الوضوء بعد الدخول في غيره من الاجزاء و قبل الفراغ من الوضوء، إذ باعتبار انه شك بعد تجاوز المحل يكون مشمولا لاخبار قاعدة التجاوز. و باعتبار انه شك في جزء العمل قبل الفراغ عن العمل يكون موردا لهذا الخبر.

و قد يستشكل: بان التعارض المذكور حاصل دائما بين منطوق دليل قاعدة التجاوز و مفهوم قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء بعد تجاوزه و قبل الفراغ عن العمل، إذ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك و مفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء به لأنه في الأثناء.

و لكنه فاسد جدا، لما عرفت ان هذا التعارض البدوي ينحل بحكومة دليل قاعدة التجاوز على دليل قاعدة الفراغ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في الجزء، فيرتفع بجريان قاعدة

التجاوز فيه.

و هذا غير ما نحن فيه، لأن المورد واحد لكلتا القاعدتين، و موضوع إحداهما عين موضوع الأخرى، إذ لا شك الا شك واحد تنطبق عليه كلتا القاعدتين.

و قد تفصى الشيخ رحمه اللّه عن هذين الإشكالين: بان الوضوء بأجزائه كلها فعل واحد بنظر الشارع، بمعنى: ان هذا الأمر المركب في الحقيقة اعتبره الشارع أمرا واحدا، فلم يلحظ كل جزء منه فعلا مستقلا بل لو حظ المجموع فعلا واحدا.

و المصحح لهذا الاعتبار هو وحدة المسبب و هو الطهارة، فانها أمر بسيط غير مركب يترتب على الوضوء، و هذا أمر ليس بالغريب المستبعد لارتكاب المشهور مثله

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 206

بالنسبة إلى افعال الصلاة، فانهم لم يجروا قاعدة التجاوز في كل جزء من اجزاء الفاتحة أو الآية أو الكلمة، بل الظاهر كون الفاتحة- بل القراءة- بنظرهم فعلا واحدا، بل القرينة على هذا الاعتبار و الشاهد له هو إلحاق المشهور الغسل و التيمم بالوضوء في هذا الحكم، إذ لا وجه له بحسب الظاهر إلا ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا باعتبار وحدة مسببه، فيطرد في الغسل و التيمم. و إذا ثبت هذا الأمر و تقرر، فلا وجه حينئذ لكلا الإشكالين، لأن اجزاء الوضوء لم تلحظ بنظر الشارع أفعالا مستقلة كي يتحقق التجاوز عنها و الدخول في غيرها- فتكون موردا للتعارض- أو يتحقق الشك في اجزائها بعد الفراغ عنها- فيشملها الذيل فيلزم مخالفة الإجماع-، بل لوحظ مجموعها فعلا واحدا، فالتجاوز عنها لا يتحقق الا بعد الفراغ من الوضوء، فالاعتناء بالشك في الأثناء انما كان لعدم صدق التجاوز بنظر الشارع.

و من الغريب ما جاء في تقريرات السيد الخوئي (دام ظله) من حمل كلام الشيخ في نفي جريان قاعدة

التجاوز في الوضوء على: ان المطلوب في باب الوضوء هو الطهارة، و هي أمر بسيط لا اجزاء له، و أما الوضوء فهو مقدمة للمأمور به و ليس متعلقا للأمر الشرعي، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز. ثم أورد عليه بإيرادين «1». و وجه الغرابة: ان كلام الشيخ في المقام لا غموض فيه، بل هو صريح فيما بيناه و لا إشارة فيه إلى ما جاء في التقريرات. فلاحظه تعرف.

و قد أورد المحقق العراقي (قدس سره) على الشيخ في تقريبه المزبور بوجهين:

الأول: ان وحدة الوضوء الاعتبارية (لا تجتمع مع) تنافي التصريح في صدر الرواية بالشك في شي ء من الوضوء الّذي يفيد كون الوضوء عملا ذا أجزاء.

الثاني: انه لو كان الملاك و العلة في هذا الاعتبار وحدة الأثر المترتب على العمل، لاطرد ذلك في سائر العبادات من الصلاة و غيره، فان الصلاة مما يترتب

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول- 3- 314- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 207

عليها أثر واحد بسيط و هو النهي عن الفحشاء و نحوه، مع انه لا إشكال في عدم اطراده لعدم الاعتناء بالشك في جزء الصلاة بعد التجاوز عنه و قبل الفراغ من الصلاة، بلا ريب و لا إشكال. و ذلك دليل عدم اعتبار الوحدة، و الا لما جرت قاعدة التجاوز في الأثناء «1».

و كلا الوجهين مخدوش فيهما:

أما الأول: فلأن الواحد بالاعتبار لا بد و ان يكون مركبا في نفسه و واقعه، و إلا لما احتيج إلى اعتبار وحدته.

و عليه، فهو ذو مرتبتين: مرتبة الاعتبار، و هو فيها أمر واحد بسيط. و المرتبة السابقة على الاعتبار، و هو فيها أمر مركب ذو أجزاء. و لا إشكال في صحة إطلاق المركب

عليه باعتبار المرتبة السابقة على الاعتبار، بل لا إشكال في صحته مع التصريح باعتبار الوحدة، بان يقول المعتبر: «هذا الأمر ذو الاجزاء قد اعتبرته واحدا»، فمع قيام الدليل و ثبوت اعتبار الوحدة يحمل التعبير الدال على التركيب على لحاظ المرحلة السابقة على الاعتبار، و منه ما نحن فيه، فالتعبير في الصدر بالشك في شي ء من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت و تم الدليل عليه.

و أما الثاني: فلأن الأثر الّذي يترتب على العمل تارة: يكون تكوينيا.

و أخرى: يكون جعليا. و الأثر الشرعي تارة: تكون نسبته إلى ذي الأثر نسبة الحكم إلى الموضوع. و أخرى: تكون نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب- و الفرق بين السبب و الموضوع ليس محل بيانه هنا بل يذكر في مبحث النهي عن المعاملة- و الأثر المترتب على الوضوء و أخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب. فملاكية وحدة المسبب لاعتبار وحدة الوضوء انما تقتضي اطراد ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب دون كل أمر

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 49- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 208

يترتب عليه أثر مّا.

و هذا انما يكون في العقود، لأنها سبب في ترتب آثار عليها. أما الصلاة و نحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية، فلا تصلح مادة للنقض على الاطراد، لعدم اعتبار الوحدة فيها، بل النقض انما يتوجه بباب العقود.

و لكن لم يثبت الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في اجزائها قبل تمامها كي يكون ذلك دليلا على عدم اعتبار الوحدة مع وحدة المسبب. كما ان عدم الالتزام بها في هذا الباب لا يستلزم أي محذور.

ثم

أنه (قدس سره) ذكر تقريبا للتخلص عن منافاة الموثقة للأدلة الخاصة، و محصله: انه يلتزم برجوع الضمير في: «غيره» إلى الوضوء بقرينة الإجماع و النص و قرب المرجع، و ذلك يرجع إلى الالتزام بتقييد التجاوز عن المشكوك فيه في خصوص اجزاء الوضوء بالتجاوز الخاصّ المساوق للتجاوز عن الوضوء مع إبقاء التجاوز في الذيل على إطلاقه و ظهوره في مطلق التجاوز عن الشي ء، و مرجع الالتزام بتقييد التجاوز في باب الوضوء إلى التوسعة في محل الجزء و انه لا يتحقق التجاوز عن محله الا بعد الفراغ من الوضوء.

و بالجملة: الموثقة صدرا و ذيلا ظاهرة في اعتبار القاعدة، إلا أن موضوعها- و هو التجاوز- مقيد بنحو خاص في خصوص مورد الرواية و هو الوضوء. و لا محذور في تقييد المورد، بل هو واقع، مثل تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر، مع إبقاء الكبرى على شمولها لقبول خبر العادل بلا ضميمة خبر عدل آخر إليه في غير المورد.

و بهذا البيان يندفع ما ذكر من الإشكال على الموثقة.

و قد ذكر الإشكالات و بيان اندفاعها بهذا التقريب. و لا حاجة لنا ببيانه.

و ما ذكره (قدس سره) من توجيه الرواية و ان كان أمرا دقيقا وجيها في نفسه، الا ان إرادته من مثل هذا التعبير لا يساعد عليه الذوق العرفي لأساليب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 209

الكلام، و ذلك لأن لفظ الوضوء و ان كان اقرب إلى الضمير من لفظ: «شي ء»، لكن المسوق له الكلام هو: «شي ء»، و الوضوء ملحوظ من متعلقات ما هو المسوق له الكلام، و ذلك يقتضي كون مرجع الضمير هو: «شي ء»، لا الوضوء. مضافا إلى ان

تقييد مورد العام، أو المطلق بقيد و إثبات حكم العام له بلسان ثبوت الحكم لسائر افراد العام- كما لو قال: «أكرم زيدا العالم إذا كان عادلا» لوجوب إكرام العالم- مستهجن عرفا و ان رجع إلى أخذ الموضوع في المورد بنحو خاص، كما لا يخفى على من له مرانة في كلام العرب.

و أما ما ذكره بالنسبة إلى آية النبأ ففيه: ان مورد الآية لم يطرأ عليه تقييد، إذ ليس المورد هو الموضوع الخارجي، بل موردها خبر الفاسق في الموضوع الخارجي. و المفروض ان الآية نفت حجيته بلا تقييد.

و المتحصل: ان ما أفاده الشيخ (قدس سره) في مدلول الرواية و توجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكالات و ان كان في نفسه متينا و لكنه احتمال لا دليل عليه. كما ان ما ذكره المحقق العراقي وجيه لو لا بعده عن الذوق العرفي.

فالأولى في حل إشكال معارضة الإجماع و النص أن يقال: [1] ان الضمير في

______________________________

[1] ان ضمير «غيره» يرجع إلى الجزء المشكوك فيه، و لكن المراد بالشك فيه ليس الشك في وجوده- كما هو ظاهره الأولى مثل الشك في صحته-، فتكون الرواية ناظرة إلى إهمال الشك في صحة الجزء بعد الدخول في غيره، فلا تنافي بما دل على الاعتناء بالشك في وجود الجزء إذا كان في أثناء الوضوء، كرواية زرارة المتقدمة، و القرينة على حمل الشك في الشي ء في رواية ابن أبي يعفور على الشك في الصحة هي الذيل الوارد مورد التطبيق، و ذلك لأن تجاوز الشي ء لا يصدق إذا لم يكن نفس الشي ء موجودا. فقوله و «انما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه» ظاهر في المفروغية عن تحقق الشي ء، فيكون قرينة على كون المراد بالشك

فيه هو الشك في صحته لا في وجوده، و قد تقدم صحة إرادة الشك في الصحة من الشك في الشي ء، و ان كان خلاف الظهور الأول لكن يحمل الكلام عليه مع القرينة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 210

«غيره» و ان كان بالظهور البدوي راجعا إلى الشي ء المشكوك فيه، الا ان إرجاعه إلى الوضوء بقرينة الإجماع و النص على عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء، و قرب المرجع لا يكون فيه مخالفة صريحة للظاهر، فإذا أرجع الضمير في:

«غيره» إلى الوضوء، كان الصدر ظاهرا في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء، و ان عدم الاعتناء بالشك انما يكون بعد الفراغ من الوضوء، و حينئذ يرتفع التنافي بين الصدر و بين الإجماع و النص كما لا يخفى.

يبقى تطبيق الحصر في الذيل على الصدر، و الأفضل ان يقال فيه: ما أشرنا إليه سابقا في روايات الباب، و هو: ان الذيل ليس ظاهرا في ضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة التجاوز- كما أفاده العراقي- بل يمكن ان يكون لضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة الفراغ، و ذلك بقرينة اسناد التجاوز إلى نفس الشي ء الظاهر في كون أصل الشي ء مفروغا عن وجوده و الشك في صحته، و ان كان الشك في الشي ء ظاهرا بدوا

______________________________

- و يمكن ان يحل الإشكال في الرواية بوجه آخر و هو أن يقال: بان المراد من ضمير: «غيره» هو الوضوء و الملحوظ في الرواية نفي الشك في الصحة لا في الوجود، بأن يكون المراد بالشك في الشي ء ليس مدلوله المطابقي بل المدلول الالتزامي بنحو الكناية و هو الشك في الصحة، لأن الشك في وجود بعض الأجزاء يلازم الشك في صحة الوضوء، فتكون رواية ناظرة بصدرها

و ذيلها إلى بيان جريان قاعدة الفراغ في الوضوء إذا كان الشك بعد الانتهاء عنه، و عدم جريانها إذا كان الشك في الأثناء.

و بهذا البيان نتخلص عن إشكال تقييد المورد الّذي تقع فيه إذا كان المنظور في الصدر جريان قاعدة التجاوز. و لكن هذا الوجه انما نلتزم به و نرفع اليد عن الوجه الأول الّذي هو أقرب للظاهر إذا فرض ان رواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء تشمل مطلق الشك الأعم من الشك في صحة الجزء أو وجوده، فتكون قرينة على التصرف في هذه الرواية و حمل صدرها على إرادة الدخول في غير الوضوء و اما لو فرض استظهار كون موردها خصوص الشك في وجود الجزء- كما هو القريب- فلا وجه لرفع اليد عن التوجيه الأول و حمل الرواية على بيان جريان قاعدة الفراغ في أثناء الوضوء مع الشك في صحة الجزء، فتدبر.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 211

في الشك في أصل وجود الشي ء، الا انه يحمل على الشك في الصحة بقرينة اسناد التجاوز، و كونه تطبيقا على الصدر الّذي عرفت انه من موارد قاعدة الفراغ.

و حمل الذيل على ما أفاده الشيخ خلاف الظاهر، لأنه يستلزم ان يكون متعلق الشك غير متعلق التجاوز، و هو خلاف ظاهر الكلام، كما انه يلزم منه التأويل المذكور للتخلص عما يرد عليه من الإشكال و هو مئونة زائدة غير ظاهرة من الكلام.

فالحاصل: ان الرواية أجنبية بالمرة عن جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء، بل هي متكفلة صدرا و ذيلا لبيان جريان قاعدة الفراغ فيه، فلا منافاة بينها و بين الإجماع و النص فالتفت.

ثم انه لا وجه لإلحاق الغسل و التيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة

التجاوز بعد اختصاص الإجماع و النص بالوضوء، لشمول مطلقات القاعدة لهما بلا مخصص و مقيد. فتدبر [1].

______________________________

[1] قد عرفت عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء. فهل تجري قاعدة الفراغ فيها مع الشك في صحتها أو لا؟. فمثلا إذا دخل في غسل اليد اليسرى و شك في صحة غسل اليمنى أو الوجه لفقد بعض شرائطه، فهل تجري قاعدة الفراغ لإثبات صحة الغسل أو لا؟.

و لا يخفى ان البحث في ذلك بعد الفراغ عن جريان القاعدة في الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه بقول مطلق و في سائر المركبات.

و التحقيق: ان مقتضى العموم كقوله عليه السلام: «كل شي ء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» هو جريان القاعدة في الوضوء. و انما الشبهة من جهة رواية زرارة الآنفة الذّكر الدالة على الاعتناء بالشك في الأثناء. لكن عرفت انها ظاهرة في كون موضوعها خصوص الشك في وجود الجزء فلا تشمل الشك في صحة الجزء المشكوك.

هذا و قد استثنى السيد الخوئي- كما في مصباح الأصول- من ذلك ما إذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه في كتابه كما لو شك في الغسل بالماء المطلق أو المضاف، فانه لا تجري قاعدة الفراغ في الجزء المشكوك لكون الشك فيما سماه اللّه كما يظهر من قوله: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..» بضميمة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 212

الجهة الثانية عشرة:

هل يختص جريان قاعدة الفراغ بصورة الشك في الغفلة و الذّكر حال العمل أو يعم صورة ما إذا علم بالغفلة و لكنه احتمل الإتيان بالمشكوك من باب الاتفاق؟.

التزم المحقق النائيني «1»، بالتعميم لعموم الأدلة. و خالفه السيد الخوئي «2»،

______________________________

- «فان لم تجدوا ماء»، و إذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه كان

مشمولا لرواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك فيه.

و ما ذكره حفظه اللّه تعالى لا يخلو عن كلام و ذلك: لأن المستفاد من رواية زرارة إن كان الاعتناء بالشك في خصوص وجود الاجزاء غسلا أو مسحا بحيث كان قوله عليه السلام فيها:

«مما سماه اللّه ..» قيدا توضيحيا، لأن جميع الغسلات و المسحات مما ذكرت في الكتاب الكريم، فلا نظر للرواية حينئذ إلى الشك في مثل الغسل بالماء أو من الأعلى أو غير ذلك مما يرتبط بصحة الجزء.

و إن كان المستفاد منها هو الاعتناء بالشك في كل ما يرتبط بالوضوء من اجزاء و شرائط بقول مطلق، فيكون قوله عليه السلام «مما سماه اللّه» قيدا احترازيا.

و من الواضح ان مقتضاها حينئذ تخصيص قاعدة الفراغ أيضا فلا تشمل مورد الشك في أثناء الوضوء، لكن لا يخفى ان التقييد بما سماه اللّه كما يستلزم طرح قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء في خصوص ما إذا رجع الشك فيه إلى الشك فيما سماه اللّه كذلك يستلزم تقييد إلغاء قاعدة التجاوز في خصوص ذلك المورد، فالالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء و شرائطه بقول مطلق، و تخصيص عدم جريان قاعدة الفراغ بخصوص ما إذا رجع الشك إلى الشك فيما سماه اللّه ليس بصحيح. فما أفاده لا يخلو عن إشكال، و بعبارة أوضح نقول: ان القدر المتيقن من الرواية هو نظرها إلى إلغاء قاعدة التجاوز في الوضوء بلا إشكال لدى الكل، و عليه فيكون التقييد المزبور راجعا إلى تقييد إلغاء قاعدة التجاوز لا خصوص قاعدة الفراغ. فانتبه.

ثم أنك قد عرفت ان الرواية تختص بالشك في خصوص وجود الغسلات و المسحات و لا نظر لها إلى غير ذلك. و عليه فلا مانع من

جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بقول مطلق. فتدبر.

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 481- الطبعة الأولى.

(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 306- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 213

فالتزام بالتخصيص، بمقتضى التعليل المذكور في الرواية، و لكون مرجع القاعدة إلى أصالة عدم الغفلة، و هي انما تجري مع الشك في الغفلة، اما مع العلم بها فلا وجه لجريانها.

و التحقيق ان يقال: ان القاعدة إن كانت من الأصول التعبدية، فمقتضى عموم دليلها هو تعميم جريانها للصورتين لتحقق موضوعها و هو الشك في الصحة.

و ان [1] كانت من الأمارات، فالأمر يختلف باختلاف ملاك الأمارية، فقد ذكر لها ملاكات ثلاثة:

الأول: ما ذكره المحقق النائيني، و هو الملازمة النوعية بين الإرادة المتعلقة بالمركب و الإتيان بالجزء، فان إرادة المركب هي المحركة لكل واحد من الاجزاء في محله و ان كان الجزء حال الإتيان به مغفولا عنه الا ان الإتيان به ناش عن الإرادة الإجمالية الارتكازية و لا يحتاج إلى تعلق الإرادة التفصيلية به «1».

الثاني: ان العاقل إذا أراد الإتيان بعمل ما فمقتضى القاعدة عدم غفلته عن الإتيان بخصوصياته و اجزائه، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى أصالة عدم الغفلة.

الثالث: ان العاقل إذا اعتاد على عمل مّا، و أراد الإتيان به فهو بمقتضى طبعه و عادته لا يترك اجزاء العمل و خصوصياته.

______________________________

[1] تحقيق الحال في ذلك بإجمال: ان ما ذكر لكون قاعدة الفراغ أمارة وجوه استحسانية لا دليل عليها، مع ان الأول يرتبط بقاعدة التجاوز و لا يشمل قاعدة الفراغ، لأن من مواردها المتيقنة مورد احتمال الغفلة من حين العمل، و لا يتأتى فيه الملاك المزبور.

و اما استفادة الأمارية من التعليل المذكور

في رواية الوضوء، و هو قوله عليه السلام: «هو حين يتوضأ اذكر من حين يشك» فسيأتي الكلام فيه و بيان اختصاصه بصورة خاصة، فلا يصلح لتقييد المطلقات.

اذن، فالعمل على طبق مطلقات الباب الشاملة لصورة العلم بالغفلة متعين.

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 463- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 214

فعلى الملاك الأول، يختص جريان القاعدة بصورة العلم بتحقق الالتفات أول العمل المركب و ان احتمل تبدله إلى الغفلة في الأثناء، إذ مع عدم العلم بالالتفات لا يحرز تحقق ملاك جريان القاعدة، و هو الملازمة بين إرادة المركب و الإتيان بالجزء، إذ لا يعلم بتحقق الإرادة للمركب.

و على الملاك الثاني: تشمل القاعدة صورة الشك في الغفلة و الذّكر من أول العمل لأصالة عدم الغفلة من العاقل عن خصوصيات العمل الّذي يشرع فيه.

و لكنها لا تشمل صورة العلم بالغفلة و ان احتمل تبدلها إلى الذّكر في الأثناء لمزاحمة استصحاب الغفلة لهذا الأصل العقلائي في أماريته و كشفه.

و على الملاك الثالث: فالقاعدة تشمل جميع الصور حتى صورة العلم بالغفلة و استمرارها إلى ما بعد محل المشكوك فيه، لثبوت الملاك في هذه الصورة- و هو اقتضاء الطبع و العادة للإتيان بالجزء و ان كان مغفولا عنه بالمرة- نعم، يستثنى منها صورة ما إذا كانت الغفلة عن الجزء أو الشرط ناشئة عن الجهل بحكمه فان العادة لا تقضي بالإتيان به لعدم تحققها بالنسبة إليه، كما لو لم يكن يعلم بوجوب السورة و لم يكن يخطر على باله وجوبها و شك بعد الإتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة أو بدونها.

فالمتحصل ان الصور أربع:

الأولى: العلم بتحقق الالتفات حال العمل و الشك في تبدله في الأثناء

إلى الغفلة.

الثانية: الشك في تحقق الغفلة أو الذّكر حال العمل.

الثالثة: العلم بالغفلة حال العمل و الشك في تبدله إلى الالتفات في الأثناء.

الرابعة: العلم بالغفلة و استمرارها.

فالقاعدة بالملاك الأول تجري في خصوص الصورة الأولى.

و بالملاك الثاني تجري في الصورتين الأولتين.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 215

و بالملاك الثالث تجري في جميع الصور إلا ما عرفت استثناءه من الصورة الأخيرة.

و قد يستدل على جريان قاعدة الفراغ في صورة العلم بالغفلة عن المشكوك فيه برواية الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: حوّله من مكانه. و قال: في الوضوء تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة» «1»، فانها تدل على عدم الاعتناء بالشك في وصول الماء إلى البشرة بعد الفراغ مع العلم بالغفلة عن ذلك و عدم الالتفات إليه لنسيان تحريك أو تحويل الخاتم.

و قد نوقش الاستدلال بها: بان الظاهر من الخبر ان التحويل و الإدارة مطلوبان في أنفسهما لا باعتبار وصول الماء إلى البشرة المخفية بالخاتم، إذ لا وجه لذكر التحويل في الغسل و الإدارة في الوضوء لو كانا مطلوبين لا لإيصال الماء لكفاية العكس في ذلك، بل كل منهما كاف في ذلك في الوضوء و الغسل. فهذا التفريق بينهما شاهد في مطلوبيتهما في أنفسهما، غاية الأمر علم من الخارج عدم وجوبهما، بل نفس الخبر يدل على ذلك لقوله: «فان نسيت فلا آمرك ان تعيد الصلاة»، فانه يدل على انهما ليسا شرطين لصحة الغسل و الوضوء، بل هما امران راجحان فيهما. و على كل فالخبر أجنبي عن المدعى.

و لكن هذه المناقشة لا تخلو من إشكال، فانه مما لا يخفى على من له أدنى

ذوق ان سؤال السائل عن الخاتم في الغسل ليس الا لما يترتب عليه من منع لوصول الماء أو شك في ذلك، أما السؤال عن الخاتم لاحتمال خصوصية فيه فهذا بعيد عن ظاهر السؤال. فتوجيه الجواب بما ذكر بعيد عن ظاهر السؤال.

فالتحقيق في الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية، أن يقال: ان طريق العلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1- 329، باب 41 من أبواب الوضوء، الحديث: 2.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 216

بوصول الماء إلى البشرة تحت الخاتم و عدمه موجود غالبا، و ذلك بملاحظة الخاتم من ناحية الضيق و السعة، و لو وصل إليه الماء فهو بغير الشرط الشرعي من الترتيب، فلا بد من حمل الرواية على صورة العلم بعدم وصول الماء- لا الشك فيه لعدم تحققه غالبا- فيكون غرض الإمام عليه السلام هو الأمر بإيصال الماء و لزوم غسل ما تحت الخاتم، و الإدارة و النزع طريقان إليه و الاختلاف بينهما تفنن في التعبير لا لخصوصية فيهما و الإشارة إلى كفايتهما معا. ثم ما ذكره من عدم الأمر بالإعادة عند النسيان يحمل على العفو عن عدم وصول الماء إلى بعض البشرة في صحة الصلاة بعد فراغها و يكون مقيدا لحديث: «لا تعاد» ان التزمنا بشموله لصورة الإخلال بغسل بعض البشرة، و لم نقل بظهوره في الاختصاص بصورة ترك أصل الطهارة و لا يشمل صورة الإخلال بها.

الجهة الثالثة عشرة: في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

و توضيح الحال: ان الشك في الصحة تارة: يكون ناشئا عن الشك في أمر اختياري للمكلف، كالإتيان بالجزء أو الشرط. و أخرى: يكون ناشئا عن الشك في أمر غير اختياري له، كما لو صلى إلى جهة معينة، ثم يشك في ان هذه الجهة هي القبلة أو لا؟ فان كون

هذه الجهة هي القبلة ليس بأمر اختياري للمكلف. و يعبر عن هذه الصورة بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

فالقسم الأول، هو القدر المتيقن من موارد قاعدة الفراغ.

و أما القسم الثاني، فهو محل الكلام.

و قد اختار المحقق النائيني عدم جريان القاعدة فيه، لأن الأدلة انما تشمل صورة الشك في انطباق المأتي به على المأمور به. أما صورة الشك في انطباق المأمور

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 217

به على المأتي به- كما فيما نحن فيه- فلا تشمله الأدلة «1».

و لم يذكر وجه عدم شمول الأدلة له.

و لا يخلو الحال في الوجه فيه عن أحد أمور ثلاثة:

اما إجمال الأدلة فيقتصر فيها على القدر المتيقن، و هو غير هذه الصورة.

و اما انصرافها إلى غير هذه الصورة.

و اما دعوى: ان سياق الكلام يدل على ان مورد القاعدة ما إذا كان الشك راجعا إلى العمل بحيث يكون محله العمل لا ان يكون المشكوك فيه أمرا خارجا عنه و ان ارتبط به.

و الأول: لا يعترف به (قدس سره)، إذ لا يقول بإجمال الأدلة.

و الثاني: ممنوع في نفسه، مضافا إلى أنه لا يقول بالانصراف الا في موارد خاصة- و هي موارد التشكيك في الصدق- ليس ما نحن فيه منها.

و الثالث: لا يخلو عن المغالطة، لأن الشك و ان تعلق أولا، و بالذات بالأمر الخارج عن العمل، لكنه يسبب الشك في صحة العمل باعتبار تحقق الشرط بالموجود، فيكون موردا للقاعدة.

و بهذا البيان يندفع ما يظهر منه (قدس سره) من: ان الشك هاهنا راجع إلى وجود الأمر، و مجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الامتثال، و وجه اندفاعه: ان أصل وجود الأمر لا شك فيه، إذ لا شك في شرطية الاستقبال،

و انما يشك في موافقة ما أتي به لما هو المأمور به، و هو مجرى القاعدة.

فالتحقيق ان يقال: ان بني على أصلية القاعدة، فالقول بجريانها في هذه الصورة متعين، لإطلاق الأدلة، و لا دليل يعتد به على التخصيص، الا ان يدعى انصرافها إلى ما إذا كان الشك في الموافقة و عدمها إلى ما يرجع إلى اختياره بحيث

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 482- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 218

يكون عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ناشئة عن تركه الاختياري، لا عن امر آخر، فتأمل.

و أن بني على الأمارية بمقتضى التعليل بالأذكرية، أو بغيره من الملاكات، فلا وجه لجريانها، لأن الأذكرية انما هي بالنسبة إلى ما يمكن صدوره منه و تحققه باختياره، أما بالنسبة إلى ما هو خارج عن اختياره فلا يتحقق ملاك الأذكرية، إذ الشك في الصورة لا يرجع إلى الغفلة و عدم الالتفات و لا يرتبط بها أصلا، إذ هو حاصل حتى مع العلم بالاتجاه إلى هذه الجهة و الالتفات إليه. فتدبر.

الجهة الرابعة عشرة: فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية

، كما لو صلى و شك في ان صلاته كانت مع السورة أو بدونها مع الجهل بوجوب السورة.

و قد ذكر المحقق النائيني (قدس سره): ان الشك تارة: يكون في مطابقة عمله لفتوى مجتهده الّذي تحقق منه تقليده. و أخرى: يكون في مطابقة عمله للمأمور به الواقعي مع عدم تحقق تقليد منه.

ففي الشق الأول تجري القاعدة، لكون الشك في مطابقة المأتي به للمأمور به المعين، فيكون كالشبهة الموضوعية.

و أما الشق الثاني، فلا تجري فيه القاعدة، لأن التكاليف الواقعية تكون منجزة بواسطة العلم الإجمالي، فيجب الخروج عن عهدته اما بإحراز إتيانه أو بإتيان بدله الظاهري، كما في

صورة الانحلال بالتقليد. و قاعدة الفراغ لا تثبت انطباق الأمر الواقعي المجهول على المأتي به «1».

و ما أفاده في كلا الشقين ممنوع.

أما الشق الأول، فلا بد من التفصيل بين الأمارية و الأصلية، فتجري على

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 481- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 219

الثاني دون الأول، لعدم تحقق ملاكها مع الجهل بالحكم حال العمل كما تقدم.

مع ان ما ذكره من كونه من الشبهة الحكمية عجيب، لأنه بعد تقليده تعين لديه المأمور به و انه مع السورة- مثلا- فالشك يرجع حينئذ إلى انه جاء بالمأمور به أو لا، و هذا شك في الموضوع كما لا يخفى. نعم، قبل التقليد كان جاهلا حكما، إلا أنه في حال إجراء القاعدة بعد التقليد يرتفع جهله الحكمي، فالشق المذكور من صور الشبهة الموضوعية.

و أما الشق الثاني، فما ذكره من عدم انحلال العلم الإجمالي و تنجزه، ان كان تمهيدا لبيان عدم جريان القاعدة، فلا كلام فيه، و اما ان كان تتمة للاستدلال على عدم جريانها، فلا يعرف له وجه، لأن قاعدة الفراغ مؤمنة في صورة العلم التفصيليّ بالتكليف، فضلا عن صورة العلم الإجمالي، فلا فرق في الانحلال بين التقليد و عدمه.

الجهة الخامسة عشرة: هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا

، فتجري و لو كان الشك قد حدث في الأثناء؟

التحقيق: هو الأول.

أما على القول بان القاعدة أمارة، فواضح: لأنه إذا فرض ان الشك كان في أثناء العمل فلا تتحقق أذكريته، بل لا معنى لها، إذ حاله قبل الفراغ كحاله بعد الفراغ لأنه شاك في الحالين.

و أما على القول بأنها أصل، فلظهور الروايات في كون موضوع الإلغاء هو الشك المتعلق حدوثا بالعمل الماضي المفروغ عنه لا الشك الحادث قبل الفراغ المستمر إلى

ما بعد الفراغ كما لا يخفى [1].

______________________________

[1] و قد تعرض بعض الاعلام في هذا المبحث إلى فرع تقدم تحقيق الكلام فيه في أوائل الاستصحاب و هو ما إذا شك الإنسان قبل صلاته في الطهارة و الحدث و كانت حالته السابقة هي الحدث فاستصحبه ثم غفل و صلى، و بعد صلاته تنبه، و حصل له الشك في صحة صلاته لاحتمال الطهارة واقعا.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 220

______________________________

- و لهذا الفرع صورتان: إحداهما: ان يعلم بأنه لم يتوضأ بعد الاستصحاب و انما يتمحض احتمال الصحة باحتمال الطهارة الواقعية، و الأخرى: ان يحتمل أنه توضأ بعد الاستصحاب كما يحتمل ان يكون غفل و صلى بدون وضوء رافع للحدث الثابت بالاستصحاب.

و قد التزم المحقق النائيني بجريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية دون الأولى، و وجّه جريانها بان حكم استصحاب الحدث لا يزيد على حكم اليقين الوجداني به و لا شك انه مع اليقين بالحدث قبل الصلاة ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ ثم صلى أو غفل و صلى تجري في حقه قاعدة الفراغ، فكذلك ما إذا كان مستصحب الحدث.

و أما عدم جريانها في الصورة الأولى، فلأجل الاستصحاب الجاري قبل العمل و عدم احتمال انتقاضه، و قاعدة الفراغ ناظرة إلى الاستصحاب الجاري بعد العمل بلحاظ الشك الحاصل بعد العمل، و لا نظر لها إلى الاستصحاب الجاري قبل العمل بلحاظ الشك الحاصل قبل العمل.

و قد ناقشه المحقق العراقي: بأنه لا وجه للتفكيك بين الصورتين، فإن القاعدة لا تجري في كلتا الصورتين، و ذلك لأن المعتبر في القاعدة ان لا يكون الشك في الصحة مسبوقا بشك آخر قبل العمل من سنخه أو غير سنخه. و بما ان الشك في

كلتا الصورتين مسبوق بشك آخر قبل العمل لم يكن من موارد القاعدة.

كما انه ناقش ما أفاده في الصورة الأولى من عدم حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري قبل العمل، بان الاستصحاب بما أنه حكم مجعول بلحاظ التنجيز و التعذير فلا يجري إلا مع الالتفات، اما مع الغفلة كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا مجال لتأثيره لامتناع التنجيز في حق الغافل، إذن فلا استصحاب أثناء العمل كي يكون مقدما على قاعدة الفراغ.

أقول: قد تقدم منا تقريب جريان استصحاب الحدث مع الغفلة ببيان: ان الاستصحاب إنما يتكفل التنجيز في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة كالحدث و الطهارة و الملكية و الزوجية و نحو ذلك، فلا مانع من جريانه مع الغفلة، فكما أن وجودها الواقعي لا يرتفع بالغفلة كذلك وجودها الظاهري، و لذا تترتب آثار الملكية و نحوها من الأحكام الوضعيّة مع الغفلة عنها.

و أما ما أفاده في مناقشة جريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية، من عدم جريان قاعدة الفراغ في الشك المسبوق بشك آخر من سنخه أو من غير سنخه.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 221

______________________________

- فيمكن التأمل فيه بأن أصل الكبرى التي فرضنا و ان كانت لا تخلو عن قرب بعد حملها على ان يكون المراد من إرادة الشك غير المسانخ ما لو نحو ارتباط بالشك في الصحة لا مطلق الشك غير المسانخ و لو كان أجنبيا بالمرة عن الشك في الصحة إذ لا وجه له محصل.

و وجه قرب ذلك: ان الشك في الصحة و ان كان حادثا بعد العمل إلا ان المرفوع بقاعدة الفراغ هو الشك في أداء الوظيفة و الخروج عن العهدة، و مع وجود الشك السابق، لا يرجع الشك في الصحة إلى

الشك في أداء الوظيفة لأن الشك السابق معين لوظيفة خاصة على المكلف و المعلوم عدم أدائها.

لكن الإشكال في تطبيقها على ما نحن فيه، فانها تختص بما إذا كان الشك السابق حادثا حين العمل لا ما إذا كان قبل العمل بمدة و احتمل الالتفات حال العمل، و العمل بما هو مقتضى وظيفة الشاك من الوضوء و رفع الحدث الاستصحابي، فان أداء الوظيفة مشكوك في هذا الحال لا معلوم العدم. فلا مانع من جريان القاعدة.

و على هذا فالتفصيل بين الصورتين كما أفاده المحقق النائيني وجيه. فتدبر.

ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى البحث في جهتين آخرتين:

الجهة الأولى: في ان المضي على المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز رخصة أو عزيمة، و قد ذهب (قدس سره) إلى انه عزيمة، فلا يجوز الإتيان بالمشكوك و لو برجاء الواقع و يكون الإتيان به من الزيادة العمدية بالنسبة إلى المشكوك و الغير الّذي دخل فيه و ذلك يوجب البطلان، و استند في ذلك إلى ظهور الأمر بالمضي في اخبار الباب و قوله عليه السلام: «بل قد ركعت» في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه و تحققه في محله، فلا يشرع الاحتياط لعدم الموضوع له بعد حكم الشارع بوجود المشكوك. هذا ما أفاده (قدس سره).

و يمكن المناقشة في استدلاله و ما رتبه من الأثر على مدعاه.

أما استدلاله، فلأنه من الواضح ان قوله عليه السلام: «بلى قد ركعت» لا يراد به الاخبار عن تحقق الركوع واقعا، و انما هو تعبد ظاهري بتحقق الركوع و من البين ان الحكم الظاهري لا يمنع من الاحتياط فيما نحن فيه، لأنه مسوق مساق التأمين و التعذير فهو رخصة لا عزيمة.

و أما الأمر بالمضي، فهو أمر واقع مورد توهم

الحظر يعني: حظر المضي و لزوم العود و إتيان

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 222

______________________________

- المشكوك، فلا يفيد سوى عدم الحظر و عدم لزوم العود لا لزوم المضي و حرمة العود، فالتفت.

و أما ما رتبه من الثمرة، و هو ان الإتيان بالمشكوك يكون من الزيادة العمدية، فيرد عليه: انه لا يتم في الاجزاء التي يتقوم صدق زيادتها بإتيانها بقصد الجزئية كالقراءة و التشهد و نحو ذلك، إذ بالإتيان بها رجاء لا تصدق الزيادة لعدم قصد الجزئية.

نعم، في مثل السجود و الركوع بناء على القول بتحقق زيادتهما بمجرد الإتيان بهما بذاتهما و لو لم يقصد بهما الجزئية يتأتى ما ذكره. مع إمكان الرجوع إلى أصالة عدم زيادة الركوع في نفى عروض المبطل على الصلاة الواقعية. فتأمل.

الجهة الثانية: في انه إذا دار امر الجزء الفائت بين ما يستلزم فواته البطلان كالركن و ما لا يستلزم فواته البطلان كغير الركن، فهل تجري قاعدة التجاوز في كلا الجزءين و تسقط بالمعارضة أو لا؟ كما لو علم إجمالا بفوات الركوع منه أو التشهد فانه قد يقال ان كلا من الركوع و التشهد مجرى القاعدة و مقتضى ذلك التساقط. لكنه «قدس سره» ذهب إلى عدم جريان القاعدة في مثل التشهد، و ذلك لأنه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون المشكوك على تقدير وجوده واقعا مما يجزم بأنه مأتي به على طبق أمره، فلو لم يكن المشكوك كذلك لم تجر القاعدة لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بالمضي عليه، و ما نحن فيه كذلك، لأن وجود التشهد ملازم لفوات الركوع و هو مستلزم لبطلان صلاته، فلا يترتب على وجوده أثر عملي حتى يثبت بالقاعدة.

و ببيان آخر يقال: انه في الفرض يعلم

تفصيلا بعدم الإتيان بالتشهد موافقا لأمره، إما لعدم الإتيان به رأسا و اما للإتيان به في صلاة باطلة. و مع العلم التفصيليّ المزبور لا مجال لجريان القاعدة فيه. فتكون قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض.

و قد تلقي ما أفاده بالقبول و طبق في فروع متعددة من فروع العلم الإجمالي في العروة الوثقى.

و هو بيان علمي رصين، لكنه لا يخلو عن مناقشة و ذلك: لأن قاعدة التجاوز إما ان يكون مفادها الصحة الفعلية للصلاة بحيث يكون مقتضى جريانها إثبات الأمر بغير المشكوك فيكون العمل المأتي به موافقا للأمر، و اما ان يكون مفادها الصحة من جهة المشكوك خاصة فهي تتكفل التأمين من ناحية المشكوك من دون إثبات أمر ظاهري آخر غير الأمر بالمقام.

فعلى الأول: لا يمكن إجراء القاعدة مع تعدد الجزء المشكوك ركنا كان أم غير ركن، لأن

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 223

الجهة السادسة عشرة:

في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى، كما لو صلى ثم شك في دخول وقتها حين الإتيان بها و عدمه، فان الشك في الصحة هاهنا ناشئ عن الشك في تعلق الأمر بالصلاة. و كما لو اغتسل للجنابة ثم شك في انه كان جنبا فيصح غسله أو لا؟.

و قد ذكر السيد الخوئي- كما في مصباح الأصول- انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ، لأن قاعدة الفراغ أمارة على وقوع الفعل من المكلف باجزائه و شرائطه، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى ما هو من فعل المولى و صدور الأمر منه.

و يدل عليه ما ورد من التعليل بالأذكرية، فانه من المعلوم ان كونه أذكر حال العمل

______________________________

- إجراءها في كل واحد منهما يقتضي إفادة الصحة

الفعلية و إثبات أمر ظاهري بغير المشكوك و هذا يمتنع مع فرض الشك في إتيان الجزء الآخر المستلزم للشك في الصحة، و ليس لدينا قاعدة واحدة تجري في كلا الجزءين المشكوكين معا، لأن كل جزء مشكوك موضوع مستقل لعموم دليل القاعدة.

و على الثاني: فلا مانع من جريان القاعدة في التشهد في نفسه لعدم العلم بتركه و المفروض انهما تتكفل التأمين من ناحية عدم الإتيان به خاصة و هو غير معلوم، فلا يتجه ما ذكره من العلم بعدم امتثال أمره إما لتركه أو لترك الركن الموجب للبطلان، فانه يتم لو فرض تكفل القاعدة للتأمين الفعلي لا التأمين من جهة كما هو الفرض.

نعم، يبقى إشكال اللغوية و ان التأمين من ناحية التشهد لا أثر له مع عدم صحة العمل.

و يندفع: بان قاعدة التجاوز الجارية في الركوع تثبت الصحة و تنفي البطلان. فلا يكون جريانها في التشهد بلا أثر و لغوا.

نعم، لمكان العلم الإجمالي تتحقق المعارضة بين القاعدتين، و بعبارة أخرى: يكفي في رفع اللغوية ترتب المعارضة على جريانها لأن اللغوية ترتفع بأدنى أثر. و لا وجه لطرح قاعدة التجاوز في التشهد خاصة. فتدبر و اللّه سبحانه العالم.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 224

بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأعمال دون ما هو من أفعال المولى «1».

و لكن التحقيق أن هذا التقريب لعدم الجريان غير واف فيه، فان الشك في كلا المثالين يرجع إلى ما هو من أفعال المكلف، فالتعليل بالأذكرية يشمله بلا توقف.

أما مثال الصلاة، فلأن صحة الصلاة لا تدور مدار تعلق الأمر بها فعلا، كما يدل على ذلك صحة صلاة الصبي بعد دخول الوقت و قبل بلوغه لو بلغ في أثناء الوقت، مع انه لم

يكن مأمورا بها فريضة. بتقريب: ظهور دليل وجوب الصلاة كون المقصود تحققها بشرائطها المعتبرة فيها، فلا يشمل الدليل من تحققت منه الطبيعة التي تكون متعلقا للأمر و لو كان ذلك بلا أمر، بل المدار هو تحقق ما هو قابل في نفسه لتعلق الأمر به- و بعبارة أخرى: تحقق فرد الطبيعة التي تعلق بها الأمر و ان لم يشمل الأمر هذا الفرد- و هو الصلاة بشرائطها و منها الوقت. فالشك يرجع إلى الشك في كون الصلاة في الوقت أو لا، و هذا من أفعال المكلف، و ان لازم الشك في صدور الأمر من المولى. فالمورد مشمول للتعليل كما هو ظاهر.

نعم، هاهنا شي ء و هو ان الظاهر من لسان أدلة قاعدة الفراغ و إلغاء الشك في العمل بعد مضيه، ان الإلغاء يكون في مقام لولاه لوقع المكلف في كلفة الإعادة، فهي بلسان رفع الكلفة. أما في غير هذه الصورة فلا تجري القاعدة و لا يتحقق الإلغاء.

و على هذا فلا بد اتباع السيد الطباطبائي «قدس سره» «2» في التفصيل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الشاك في صحة الصلاة للشك في دخول الوقت جازما بدخول الوقت حال الشك فتجري القاعدة. و ما إذا لم يكن جازما بدخول الوقت حال الشك، بل كان شاكا أيضا، فلا تجري القاعدة. اما جريانها في الأول، فلأنه مع

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 308- الطبعة الأولى.

(2) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى- المسألة الخامسة في أحكام الأوقات.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 225

عدم الحكم بإلغاء الشك يكون المكلف مأمورا بالصلاة حال الشك لدخول الوقت، فيقع في كلفة الإعادة، و هذا مما تنفيه أدلة القاعدة.

و أما عدم جريانها

في الثاني، فلأنه لو لم يحكم بصحة الصلاة لا يقع المكلف في الكلفة لفرض الشك فعلا بدخول الوقت الملازم للشك في صدور الأمر، و بمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت يثبت عدم الأمر تعبدا، فيكون هذا المورد خارجا عن الأدلة في نفسه.

و أما مثال الغسل، فلأن الشك فيه شك فيما يرجع إلى المكلف، و هو الكون جنبا، فهو مشمول للتعليل بالأذكرية، فيكون من موارد القاعدة في نفسه. لكن المشهور و المسلم عدم جريانها فيه.

و لعل السر فيه ما يقال من: أن عدم وجوب الوضوء للصلاة لا يترتب على صحة الغسل، بمعنى ان صحة الغسل موضوع لعدم وجوب الوضوء، حتى يكون إجراء قاعدة الفراغ في الغسل ذا أثر شرعي و هو رفع وجوب الوضوء و جواز الدخول في الصلاة بدونه، لأن وجوبه يترتب على أمرين- بنحو الجمع- و هما:

تحقق الحدث الأصغر، و عدم الكون جنبا، فمع تحققهما يجب الوضوء.

و لا يخفى انه بجريان القاعدة في الغسل مع الشك في أصل الجنابة لا يثبت تحقق الجنابة كي ينتفي موضوع وجوب الوضوء، فانه أجنبي عن مفاد القاعدة، فباستصحاب عدم الجنابة يثبت موضوع وجوب الوضوء، فلا يجدي إثبات صحة الغسل في رفع كلفة الوضوء، فتبقى القاعدة بلا أثر، فلا يتجه جريانها من جهة عدم الأثر.

الجهة السابعة عشرة: في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات.

و قد ذكرنا انه قد ذكر للأمارية ملاكات ثلاثة:

أحدها: ما ذكره المحقق النائيني من الملازمة النوعية بين إرادة المركب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 226

و الإتيان بالجزء في محله و لو مع الغفلة حال الجزء «1».

و الثاني: ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من كون الإتيان بالاجزاء و الشرائط أمرا بمقتضى العادة و الطبع المستند إليها «2».

و الثالث: ما قرره السيد الخوئي، من الأصل

في العاقل القاصد للإتيان بالمركب عدم الغفلة عن الإتيان بأجزائه و شرائطه «3».

و كل من هذه الملاكات غير صالح لاعتبار قاعدة الفراغ من باب الأمارية و الكشف.

أما الأول: فلعدم ثبوت الملازمة النوعية بين إرادة المركب و الإتيان بالجزء في ظرفه و لو مع الغفلة- بلا استناد إلى العادة- إلا في صورة كون الاجزاء من سنخ واحد كالمشي و القراءة المتكررة و نحوهما. أما ما كانت الاجزاء فيها ليست من سنخ واحد بل متغايرة، فالملازمة مع الغفلة لا تثبت إلا مع الاعتياد، بحيث يكون الإتيان به مستندا إلى العادة لا إلى الملازمة.

و أما الثاني: فهو مختص بصورة الاعتياد على العمل، فلا ينبغي- مع اعتبار القاعدة بلحاظه- أن تجري في صورة عدم الاعتياد، ككثير من المعاملات و بعض العبادات كالحج لغير المعتاد و كالصلاة في أول الإسلام أو التكليف إذا لم يسبق منه الاعتياد على الصلاة.

و أما الثالث: فهو يقتضي إلغاء قاعدة الفراغ بالمرة، لأن أصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية المسلمة فاعتبار القاعدة بلحاظه لا يكون إلا إمضاء للعمل به لا تأسيسا لقاعدة مستقلة.

مضافا إلى أنه لم يعلم من حال العقلاء العمل بهذا الأصل في عمل الشخص

______________________________

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2- 463- الطبعة الأولى.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3- 305- الطبعة الأولى.

(3) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3- 262- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 227

نفسه بل المتيقن هو العمل به في عمل الغير، فلا يصلح للملاكية لظهور كون موارد القاعدة عمل الشخص نفسه. فتدبر جيدا.

فالمتحصل: ان شيئا من هذه الملاكات لا يصلح ملاكا لأمارية قاعدة الفراغ.

يبقى الكلام في التعليل بالأذكرية الوارد في بعض الروايات

و هو قوله «عليه السلام»: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك».

و هو يحتمل معان ثلاثة:

الأول: التعبد بالواقع من باب غلبة الذّكر نوعا.

الثاني: التعبد بالذكر الشخصي من باب غلبة الذّكر النوعيّ، فيثبت الواقع بالملازمة.

الثالث: التعبد بالذكر الشخصي رأسا بلا لحاظ شي ء فيه، فيثبت الواقع بذلك.

فمع حمل التعليل على الوجه الأول يكون شاملا لصورة العلم بالغفلة الشخصية. بخلاف ما إذا حمل على الوجهين الأخيرين، فانه لا يكون شاملا لهذه الصورة، إذ يمتنع التعبد بالذكر الشخصي مع العلم بالغفلة.

و الظاهر منه هو الوجه الأخير، فانه عليه السلام يسند الأذكرية إلى نفس الشاك بلا تعليل بشي ء من غلبة الذّكر نوعا و نحوه.

ثم انه لا يخفى ان الالتفات و الذّكر غير قابل للتفضيل مع اتحاد موضوعه، فان الشخص إما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت، فالتفاضل في الالتفات و الذّكر لا يكون إلا بنحو المسامحة.

و عليه، فلا بد من أن يكون التفضيل المسند إلى الذّكر بلحاظ موجباته، فيكون المراد أن موجبات الذّكر في حال العمل أكثر منها في حال الشك، و إنما جعل التفضيل في نفس الذّكر تسامحا و تجوزا.

ثم أن المشهور في معنى التعليل: ان المكلف في حال العمل أذكر منه في حال

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 228

الشك، فهو يأتي بالعمل في محله و ظرفه لالتفاته إليه.

و لكن الوجه المذكور أجنبي عن مدلول الكلام، لأن الشاك ملتفت إلى نفس الجزء في حال شكه، فليس هو في حال العمل أكثر التفاتا منه في حال الشك.

كما أنه ليس الملحوظ في حال الشك هو الإتيان فعلا بالجزء، كي يقال بأنه في حال العمل أذكر منه فيأتي به دون حال الشك لعدم التفاته، بل متعلق الشك انما هو تحقق

إيقاع العمل المشكوك في محله، و انه هل جاء به أو لا؟ فمورد التفضيل انما هو هذا الأمر.

فيكون مفاد الرواية [1]: ان المكلف في حال العمل تكون موجبات الالتفات إلى تحقق جزء العمل منه بالنسبة إليه أكثر منها في حال الشك، لقربه من محل الجزء حال العمل و بعده منه حال الشك، و لوجود بعض القرائن من حس أو حال قد يغفل عنها بعد عمله، فاستمراره في العمل و بناؤه على الإتيان بالجزء، يكون كاشفا

______________________________

[1] التحقيق في مفاد الرواية: انها ناظرة سؤالا و جوابا إلى صورة خاصة، فلا تصلح للتقييد، لأن المسئول عنه صورة خاصة لا مطلق الشك بعد الفراغ كي يكون التعليل مقيدا.

و توضيح ذلك: ان المراد بالأذكرية هاهنا هو توفر موجبات الذّكر و الالتفات لا التفاضل في نفس الذّكر، فانه لا يقبل التفاضل- كما أشير إليه في المتن.

و عليه، فالمراد ان الإنسان حين وضوءه تكون موجبات ذكره أزيد مما إذا كان في حالة أخرى، و ذلك لأنه يستطيع أن يرى ما غسل و ما لم يغسل من أعضائه، بخلاف حالة شكه، فان الأعضاء تيبس فلا يستطيع التمييز، و هذا أمر يقال في حق الوسواسي الّذي يكثر من التأمل و الغسل ثم يحصل له الوسوسة بعد الشك فلا يستطيع ان يتميز ما غسله عما لم يغسله، فيقال له:

انك حين العمل تستطيع المعرفة أكثر من حال الشك، فالرواية واردة في مثل هذا الشخص، و القرينة على ذلك نفس السؤال بلفظ المضارع: «رجل يشك بعد ما يتوضأ»، فانه ظاهر في كونه أمرا استمراريا لا من باب الصدفة، و هذا إنما يكون عند الوسواسي.

و إذا كان المسئول عنه صورة خاصة، كان الجواب مختصا بها، و لا

نظر له إلى مطلق الشك بعد الفراغ فتدبر.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 229

عن تحقق الجزء منه، فيلغى الشك فيه و لا يعتنى به، لأن بناءه على الإتيان به في حال كثرة موجبات الالتفات يكون مقدما على الشك فيه في حال قلتها.

و لا يخفى ان هذا يختص بصورة تحقق الالتفات منه حال العمل و البناء على تحقق المشكوك، ثم حدث عنده الشك بعد العمل.

أما صورة العلم بالغفلة أو التردد فيها، فلا يشملها التعليل، لعدم تحقق الظاهر المقدم على الشك لديه- و هو البناء على تحقق المشكوك في حال كثرة موجبات الالتفات- أو عدم إحرازه.

و من هنا يمتنع القول بكون هذا الكلام واردا للتعليل بحيث يدور الحكم مداره وجودا و عدما و ضابطا و ملاكا للأمارية، ضرورة أن صورة الشك في الغفلة و عدمها من الموارد المتيقنة لجريان قاعدة الفراغ، مع أنها تخرج بمقتضى هذا الكلام.

مضافا إلى عدم ظهور ذلك من نفس اللفظ- كما لا يخفى- فلا محيص عن الالتزام بكونه من قبل الحكمة لا العلة، و بهذا يثبت عدم الدليل على لحاظ جهة الطريقية و الكشف في جعل قاعدة الفراغ، بل لو ثبت ذلك لم يكن دليلا على كونها من الأمارات، بل تكون من الأصول المحرزة التي تتفق مع الأمارة بلحاظ جهة الطريقية فيها، و تختلف عنها بكون الشك مأخوذا في موضوعها- كما هو الحال في قاعدة الفراغ- دون الأمارة.

فالحاصل: انه لا دليل على أمارية القاعدة و لو ثبت لحاظ جهة الطريقية في اعتبارها، فيتعين كونها من الأصول.

الجهة الثامنة عشرة: في شمول القاعدة لصورة احتمال الإخلال العمدي.

و المقصود بالكلام ليس هو احتمال الإخلال العمدي في الأثناء، إذ العاقل لا يستمر بالعمل عادة إذا أخلّ به عمدا، و انما الفرض هو ما إذا

رأى نفسه خارجا عن العمل و احتمل ان يكون لانتهائه عن العمل، أو لرفعه اليد عنه عمدا لغاية من الغايات. و على هذا، فالتعليل الوارد في رواية الوضوء لا يشمل المورد بالتقريب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 230

الّذي أفاده الشيخ و تبعه عليه العراقي، و هو ان مفاد التعليل ان احتمال الترك السهوي خلاف فرض الذّكر، و احتمال الترك العمدي خلاف إرادة الإبراء، لأنه يحتمل انه عدل عن قصد الإبراء. نعم، المطلقات تشمل المورد.

و قد تقدم المراد من التعليل و انه بنحو لا يصلح لتقييد المطلقات. فلاحظ.

الجهة التاسعة عشرة: في نسبتها مع الاستصحاب.

و لا إشكال في تقدمها عليه.

أما مع فرض الأمارية أو كونها من الأصول المحرزة دون الاستصحاب، فواضح.

و أما مع فرض تساويهما في الأصلية، فتقدمها عليه بالتخصيص، إذ ما من مورد قاعدة الفراغ إلا و الاستصحاب جار فيه موضوعا، فيلزم من تقدم الاستصحاب عليها إلغاؤها بالمرة، فتدبر جيدا و تأمل.

و قد تقدم- بحمد اللّه- الكلام في قاعدتي الفراغ و التجاوز في يوم الأحد الموافق 1- 2- 1383.

و الكلام بعده في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 231

القرعة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 233

القرعة و قد وردت فيها روايات مختلفة المؤدى- كما قيل- فمورد: «القرعة لكل أمر مجهول» «1»، و: «القرعة لكل أمر مشتبه» «2»، و: «القرعة لكل أمر مشكل» «3».

و قد أفاد المحقق العراقي: بان دليل القرعة.

ان كان هو الأخير، لم يكن هناك علاقة للقرعة بأي أصل من الأصول، لظهور المشكل فيما لا تعين له في الواقع، كما لو أعتق أحد عبيده، و ما لا تعين له في الواقع- و بعبارة أخرى الأمر المردد- لا يكون موردا لأصل من الأصول.

و أما لو كان دليلها الروايتين الأوليين، فتكون موردا للتعارض مع الأصول، و لكنه في خصوص موارد الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي دون الشبهة الحكمية مطلقا و الشبهة الموضوعية البدوية، لظهور المشتبه و المجهول في كونه وصفا لذات الشّي ء المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء، لا وصفا لحكمه و لا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18- 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 11.

(2) وسائل الشيعة 18- 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 11.

(3) عوالي اللئالي 2- 112- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 7، ص: 234

عنوانه، فلا يشمل موارد الشبهات

الحكمية لأن الاشتباه فيها في حكم الشي ء لا في ذاته، و لا الشبهات الموضوعية لأن الاشتباه في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم على الموجود الخارجي لا فيما قد انطبق عليه العنوان بعد الفراغ عن تحقق الانطباق خارجا، بل يختص في المشتبه موضوعا المردد.

ثم أنه في هذا الحال.

تارة: يكون المشتبه متعلقا لحكم اللّه، فلا تجري القرعة لوجود المانع، و هو العلم الإجمالي المنجز غير المنحل بالقرعة. ثم استقرب انحلاله بها، لكونها من باب جعل البدل، فالعمدة في المنع هو الإجماع على عدم جريانها في المورد.

و أخرى: يكون متعلقا لحق الناس، فلا بد فيه من الاحتياط التام أو الناقص- ان لم يمكن التام- للعلم الإجمالي، و مع عدم إمكان كلا النحوين من الاحتياط كالولد المردد كان المورد من موارد القرعة، و ان احتمل العمل بقاعدة العدل و الإنصاف في بعض هذه الموارد. ثم يتعرض بعد ذلك إلى نسبتها مع الاستصحاب «1».

هذا فهرست ما أفاده (قدس سره)، و لكنه لا يخلو من نظر في أغلب مقطوعاته.

فما ذكره من تفسير المشكل، و تفسير المشتبه بنحو يختص بالشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي، و من عدم انحلال العلم الإجمالي بها. كل ذلك موضوع المناقشة، و ليس المورد محل الكلام فيها، لأنه لا أثر يترتب عليه.

و انما الّذي لا بد ان يقال: هو أن القرعة بمقتضى رواياتها عامة لجميع موارد الاشتباه البدوية و المقرونة بالعلم الإجمالي الحكمية و الموضوعية.

و لكن الاستصحاب التزموا بها في موارد خاصة و لم يلتزم بها أحد في جميع الموارد.

فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الأدلة، لأن إبقاءها يستلزم تخصيص الأكثر

______________________________

(1) البروجردي. الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4- 104- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى

الأصول)، ج 7، ص: 235

المستهجن.

و بهذا يظهر انه لا يتجه البحث عن نسبتها مع الاستصحاب، لأنه إذا قام الدليل من إجماع أو رواية على العمل بها في خصوص مورد، فلا يتوهم حينئذ تقدم الاستصحاب أو غيره من الأصول أو الأمارات عليها، بل يكون الدليل مخصصا لعموم أدلة الأصول و الأمارات.

و مع عدم قيامه على العمل بها في خصوص مورد لم يكن مجال لأن يعمل بها فيه كي تلاحظ نسبتها مع الأصول الجارية في ذلك المورد. فتدبر و التفت و اللّه الموفق [1].

و قد تم البحث فيها في يوم الثلاثاء 3- 2- 1383.

______________________________

[1] الكلام في القرعة من ناحيتين:

الناحية الأولى: في تحقيق مواردها، و الضابط العام لمجراها، و هي ناحية فقهية ليس المقام محل ذلك الناحية الثانية: في نسبتها مع الاستصحاب و سائر الأصول، و هي محل الكلام فيما نحن فيه.

و قد يتوهم معارضتها للأصول باعتبار ورود قوله عليه السلام: «كل مجهول ففيه القرعة» الظاهر في جريان القرعة هي جميع موارد الجهل. و لكن التحقيق انه توهم فاسد، لأن أدلة الأصول أخص منها، لأن كل أصل يشبه دليله في مورد خاص من موارد الجهل.

حتى الاحتياط، فانه و ان كان عقليا، لكن ورد في موارده تقرير الشارع له و عدم إيجاب القرعة.

فالالتزام بالقرعة يوجب طرح جميع الأصول و هو مما لا معنى له، فلا بد من حمل القول المزبور على تقدير صحة سند الرواية، اما على إرادة المجهول المطلق، من حيث الواقع و الظاهر المساوق للمشكل، فتكون موارد الأصول خارجة موضوعا، أو على بيان أصل تشريع القرعة في المجهول و عدم تشريعها في غير موارد الجهل، ردا على احتمال جريانها مطلقا. الّذي يمكن ان يكون جاء في ذهن

السائل و السؤال مجمل من هذه الناحية، فيكون الجواب مما لا إطلاق له، فلاحظ. و الحمد للّه رب العالمين.

انتهى مبحث القرعة في هذه الدورة الثلاثاء 25- 11- 1394 ه.

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.