كلمة التقوى المجلد 5

اشارة

سرشناسه : زین الدین، محمد امین، 1914 - 1998م.

عنوان و نام پديدآور : کلمه التقوی/ المولف فتاوی المرجع الدینی محمدامین زین الدین دام ظله.

مشخصات نشر : قم: موسسه اسماعیلیان، 14ق. = 13.

مشخصات ظاهری : ج.

شابک : 1500ریال (ج.3) ؛ 1500 ریال (ج. 5)

يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد سوم، 1413ق. = 1371.

يادداشت : کتاب حاضر در همین سال توسط چاپخانه مهر نیز منتشر شده است.

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1413ق. = 1371).

مندرجات : ج. 3. کتاب الحج. بخش دوم.- ج. 5. کتاب الشفعه

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

رده بندی کنگره : BP183/9/ز9ک 8 1371

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : م 71-5360

المعاملات

كتاب الشفعة

اشارة

فَأَنْزَلَ اللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوىٰ، وَ كٰانُوا أَحَقَّ بِهٰا وَ أَهْلَهٰا، وَ كٰانَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 3

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين الرّحمن الرّحيم، و أفضل صلواته و تسليماته و بركاته الدائمة و رحماته الشاملة المباركة على سيّد الأولين و الآخرين محمد و آله المطهّرين المعصومين المنتجين.

رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

و بعد فهذا هو الجزء الخامس من رسالة كلمة التقوى، و هو يحتوي على كتاب الشفعة، و كتاب الجعالة، و كتاب العارية، و كتاب الوديعة، و كتاب إحياء الموات، و ما يتبع ذلك من المشتركات العامة، و كتاب المزارعة و المساقاة و كتاب السّبق و الرماية، و كتاب الإقرار، من كتب المعاملات و من اللّه عزّ اسمه اسأل لي و لجميع إخواني في ديني و أوليائي فيه ان يتم علينا نعمه، و يتفضل علينا بالمزيد من فضله و طوله و هداه، و أن

يزكى أنفسنا و يثبت أقدامنا، و يبلّغنا ما نأمل من توفيقه و رعايته و كفايته في جميع أمورنا في دنيانا و أخرانا. انه أرحم الرّاحمين و خير الغافرين و أن يستجيب.

لعبده المفتقر اليه محمد أمين زين الدين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 4

كتاب الشفعة و هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة فصول:

الفصل الأول في موارد ثبوت الشفعة و شروطها

(المسألة الأولى):

إذا كانت العين المملوكة مشتركة بين شخصين على وجه الإشاعة بينهما، ثم باع أحد الشريكين حصته المشاعة من العين على شخص أخر غير شريكه، ثبت لشريكه الحق في أن يتملك الحصة المبيعة بالثمن الذي اشتراها به الأجنبي، و كان الشريك أحق بها من ذلك الأجنبي، و إن لم يرض المشتري بتملكه و شفعته، و هذا إذا اجتمعت الشروط الآتي بيانها و يسمى هذا الحق الذي يثبت له حق الشفعة و يسمى الشريك الذي ثبت له حق التملك شفيعا.

(المسألة الثانية):

يثبت حق الشفعة للشريك إذا كان المبيع من الأعيان غير المنقولة، كالبساتين و المساكن و العقارات و غيرها، سواء كان مما يقبل القسمة أم كان مما لا يقبلها عادة كالدور و العقارات الضيقة، و تثبت الشفعة أيضا على الأصح في الشجر و النخيل و الأبنية، و التمار على النخيل و الأشجار إذا باعها الشريك كذلك، و تثبت أيضا في الأعيان المنقولة كالثياب و المتاع و الآلات و الحيوان و المماليك من الإنسان و نحو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 5

ذلك، فإذا كانت العين المبيعة في جميع هذه الصور مشتركة بين شريكين على نحو الإشاعة، و باع أحدهما حصته على شخص غير شريكه استحق شريكه أن يشفع في الحصة المبيعة فيتملكها بالثمن الذي جرى عليه عقد البيع على ذلك المشتري و إن كانت العين من المنقولات أو كانت مما لا تقبل القسمة عادة.

(المسألة الثالثة):

لا تثبت الشفعة على الأحوط، ان لم يكن عدم ثبوتها هو الأقوى: في السفينة و لا في النهر و لا في الطريق و لا في الحمام و لا في الرحى، إذا كانت هذه الأشياء مشتركة بين مالكين و كانت غير قابلة للقسمة، فإذا باع أحد الشريكين فيها حصته من العين على شخص ثالث فلا شفعة للشريك الثاني في الحصة، فتستثنى هذه الأشياء الخمسة من المبيعات المشتركة التي تثبت فيها الشفعة.

(المسألة الرابعة):

يشترط في ثبوت حق الشفعة ان تكون العين المبيعة مشتركة و مشاعة غير مقسومة بالفعل كما تقدم بيان ذلك، فإذا قسمت العين المشتركة و تعين لكل من المالكين نصيبه الخاص منها ثم باع أحدهما حصته التي اختص بها بعد القسمة فلا شفعة لشريكه في المبيع، عدا الصورة التي سيأتي استثناؤها و لا شفعة بسبب الجوار، فإذا كانت لكل واحد من المتجاوزين دار يختص بملكها تقع في جنب دار صاحبه ثم باع أحدهما داره على شخص ثالث لم يثبت لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة المجاورة له، و كذلك إذا كان الشخصان شريكين في دار غير مقسومة بينهما و كانت لأحد الشريكين دار ثانية يختص بملكها تقع في جنب الدار المشتركة المذكورة فإذا باع تلك الدار التي يختص بها على احد لم يثبت لشريكه في الدار المشتركة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 6

حق الشفعة في بيع داره الخاصة. و يلاحظ الاستثناء الذي سنذكره في المسألة الآتية فإنه يعمّ الفروض الثلاثة التي ذكرناها في هذه المسألة.

(المسألة الخامسة):

إذا قسمت الدار المشتركة بين شخصين، و انفرد كل واحد من الشريكين بحصة خاصة منها و زالت الإشاعة بينهما، فلا شفعة إذا وقع بيع لإحدى الحصتين بعد القسمة و الافراز، و قد ذكرنا هذا في المسألة الماضية.

و يستثنى من هذا الحكم ما إذا كان الطريق الى الحصتين مشتركا بينهما لم يقسم، فإذا باع احد الشريكين حصته المعينة له من الدار المقسومة على شخص أخر و ضم البائع إليها في البيع حصته المشاعة من الطريق الذي لم يقسم، ثبت للشريك الثاني حق الشفعة في كل من الحصة المبيعة من الدار، و من الطريق غير المقسوم الذي جرى عليه البيع.

و مثله الحكم في

المالكين المتجاورين، فإذا كان بينهما طريق يشتركان في ملكه على وجه الإشاعة، و باع أحدهما داره الخاصة به، و باع معها حصته المشاعة من الطريق المشترك على شخص ثالث، ثبت لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة مع الحصة من الطريق فيجوز له ان يتملكها بالثمن الذي جرى عليه عقد البيع على ذلك المشتري و كذلك الحكم في الفرض الأخير من المسألة المتقدمة.

(المسألة السادسة):

إذا باع الشريك حصته التي عينت له من الدار بعد قسمتها مع شريكه فيها و لم يضم إليها في المبيع حصته من الطريق المشترك، فلا شفعة لشريكه في بيع الحصة من الدار كما قلنا و لا في الحصة من الطريق، و لا حق للمشتري في الحصة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 7

من الطريق أيضا و تبقى ملكا لصاحبها، فإذا باعها بعد ذلك وحدها كان لشريكه في الطريق حق الشفعة فيها إذا كان الطريق المشترك قابلا للقسمة، و كذلك الحكم إذا باع الجار داره المجاورة لصاحبه و لم يضم إليها في البيع حصته من الطريق المشترك بينهما، فلا شفعة لجاره في بيع الدار و لا في الحصة من الطريق، و ان كان شريكا له فيه، و إذا باع الحصة من الطريق منفردة كان لشريكه في الطريق حق في الشفعة في بيعها إذا كان الطريق قابلا للقسمة.

(المسألة السابعة):

يختص ثبوت الحق الذي ذكرناه في المسألة الخامسة بالدار المشتركة إذا قسمت ثم باع الشريك حصته منها بعد قسمتها و افرازها، و لا يجري في الاملاك الأخرى المشتركة كالبساتين و المحلات و الدكاكين و العقار، فإذا قسمت و باع الشريك حصته منها بعد القسمة و إفراز الحصة على أجنبي فلا شفعة للشريك في الحصة المبيعة و ان اشتركت معه في الطريق.

نعم، يجرى ذلك على الظاهر في الدار المشتركة إذا قسمت، ثم غيّر الشريك حصته بعد قسمة الدار و إفراز الحصة فبناها دكاكين أو محلات أو عقارا أخر أو جعلها أرضا فارغة لبعض الغايات المقصودة في ذلك أو صيرها بستانا، فإذا باعها بعد تغييرها و ضم إليها حصته من الطريق المشترك بينه و بين شريكه ثبت للشريك حق الشفعة في المبيع.

(المسألة الثامنة):

لا يلحق اشتراك الدارين بنهر أو ببئر أو بساقية باشتراكهما بالطريق في الحكم المتقدم كما يراه جماعة من العلماء فإذا قسمت الدار المشتركة إلى دارين أو الى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 8

حصتين و انفرد كل واحد من الشريكين بواحدة منهما، ثم باع احد الشريكين حصته التي عينت له من الدار على شخص ثالث و باع معها حصته المشاعة من النهر أو الساقية أو البئر المشترك بينها و بين الحصة الأخرى بثمن معلوم، لم يثبت للشريك الآخر حق الشفعة في الدار المبيعة، و كذلك في الدارين المتجاورين إذا باع احد الجارين داره المعلومة مع حصته المشاعة من النهر أو الساقية أو البئر المشترك فلا يثبت بذلك لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة.

نعم يثبت للشريك حق الشفعة إذا باع شريكه حصته من البئر المشترك و يثبت له حق الشفعة إذا باع شريكه حصته من النهر أو

من الساقية إذا كانا قابلين للقسمة، و لا شفعة له فيهما إذا كانا غير قابلين لها و قد ذكرنا هذا في المسألة الثالثة

(المسألة التاسعة):

يشترط في ثبوت حق الشفعة أن تكون العين مشتركة بين شخصين لا أكثر فإذا زاد عدد الشركاء في العين على اثنين و باع بعضهم حصته منها لم تثبت الشفعة في بيعها للشركاء الآخرين، و الظاهر عدم الفرق بين أن يكون الشريك الذي يبيع حصته واحدا منهم فيتعدد الشفعاء فيها، و أن يكون متعددا، فيتساوى عدد من يبيع من الشركاء و من يشفع أو يختلف، بل و ان باعوا جميعا الا واحدا منهم فيكون هو الشفيع وحده، فلا تثبت الشفعة حتى في هذه الصورة.

(المسألة العاشرة):

إذا كانت العين مشتركة بين مالكين لا أكثر، ثم باع أحد المالكين حصته المشاعة على شخصين أو على أكثر، ثبت لشريكه في العين حق الشفعة في حصته التي باعها، و ان أصبح الشركاء في العين متعددين بعد هذا البيع، و جاز للشريك أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 9

يشفع في جميع الحصة فتصبح العين بعد أخذه بالشفعة كلها ملكا له خاصة، و جاز له أن يبعض في أخذه بالشفعة، فيشفع في نصيب بعض المشترين بما ينوبه من الثمن، و لا يشفع في نصيب الباقي منهم.

(المسألة 11):

لا يشترط في ثبوت حق الشفعة أن يكون الشريكان متساويين في مقدار ما يملكانه من العين، فإذا ملك أحدهما ثلث العين أو ربعها أو أقلّ من ذلك أو أكثر و ملك الثاني الباقي منها، ثم باع أحدهما حصته منها على شخص ثالث غيرهما استحق الشريك الآخر الشفعة فيها سواء كان أقلّ من البائع حصة أم أكثر، و مثال ذلك أن يموت الأب و يخلّف بعد موته ولدا و بنتا، و يترك لهما دارا، فيرث الولد ثلثي الدار و ترث البنت ثلثها، فإذا باع الولد حصته و هي الثلثان جاز للبنت أن تشفع في بيع حصة أخيها و ان كانت هي أقل نصيبا منه، و إذا باعت البنت حصتها و هي الثلث جاز للولد أن يشفع في حصة أخته و ان كان أكثر نصيبا منها.

(المسألة 12):

إذا باع أحد الشريكين في العين بعضا من حصته التي يملكها فيها ثبت لشريكه حق الشفعة في ذلك البعض الذي باعه من الحصة، فإذا أخذ بالشفعة ملك ذلك البعض المبيع من الحصة بالثمن المعيّن الذي جرى به البيع و بقي البعض الذي لم يجر عليه البيع من الحصة في ملك البائع فلا يختص ثبوت حق الشفعة في أن يبيع الشريك جميع حصته من العين.

(المسألة 13):

لا يثبت حق الشفعة في غير البيع من المعاوضات، فإذا صالح الشريك أحدا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 10

على حصته المشاعة من العين المشتركة بينه و بين المالك الآخر بعوض معلوم، أو و هبها للغير هبة معوضة بعوض معيّن أو جعل حصته صداقا لامرأة في زواج، أو جعلتها المرأة فدية في خلع أو مبارأة، أو جعلت عوضا لشي ء في إحدى المعاملات الأخرى، لم يثبت للشريك الثاني حق الشفعة فيها في جميع هذه الفروض.

(المسألة 14):

إذا باع الرجل على أحد دارا أو متاعا أو شيئا أخر يختص به ملكه و لا يكون مشتركا بينه و بين مالك أخر، و ضم إليه في البيع حصة مشاعة من دار أو عين اخرى يشترك فيها مع غيره، فباعهما معا صفقة واحدة بثمن واحد معلوم، ثبت لشريكه حق الشفعة في الحصة المبيعة من العين المشتركة بما ينوب عن تلك الحصة من الثمن و لا شفعة له في الدّار أو الشي ء الذي يختص به البائع.

(المسألة 15):

لا يثبت حق الشفعة لمتولي الوقف، و لا للشخص الموقوف عليه و ان كان واحدا، إذا باع شريكه حصته المملوكة له من العين المشتركة بين الوقف و المالك المذكور، و مثال ذلك أن تكون دار أو عين أخرى مشتركة على وجه الإشاعة بين وقف و ملك مطلق، فحصه مشاعة من تلك الدار موقوفة على جهة خاصة، أو على شخص موقوف عليه، و حصة أخرى مشاعة من الدار مملوكة لمالك معيّن يتصرّف فيها كيف يشاء، فإذا باع الشريك حصته التي يملكها من الدار على أحد، فلا شفعة لمتولي الجهة الموقوف عليها أو الشخص الموقوف عليه في الحصة التي باعها الشريك من العين.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 11

و إذا طرأ للحصة الموقوفة- في المثال الذي ذكرناه- بعض الطواري المسوغة لبيع الوقف، فان كان الوقف على جهة خاصة، و باع متولي الوقف تلك الحصة الموقوفة جاز للشريك المالك للحصة الثانية أن يشفع في البيع، و ان كان الوقف على شخص موقوف عليه و باع الحصة الموقوفة عليه أشكل الحكم بثبوت الشفعة للشريك، و ان كان الشخص الموقوف عليه واحدا عند بيع الوقف، فان الموقوف عليه متعدد غير منحصر في أصل الوقف، بحسب العادة

المتعارفة في الوقف و إلا تكن من المنقطع الأخر و أشد من ذلك اشكالا ما إذا تعدّد الأشخاص الموقوف عليهم عند بيع الحصة الموقوفة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 12

الفصل الثاني في الشفيع

(المسألة 16):

لا يثبت حق الشفعة للكافر إذا كان المشتري الذي باع الشريك عليه حصته مسلما، و لا فرق في هذا الحكم بين أصناف الكفار و مللهم، و لذلك فيشترط في ثبوت الحق للشفيع أن يكون مسلما إذا كان الذي اشترى الحصة مسلما، سواء اشتراها من مسلم أم من كافر حربي أو ذمي أو مرتد، و يثبت حق الشفعة للشفيع المسلم على المشتري سواء كان مسلما أم كافرا حربيا أو ذميّا أو مرتدا، و تثبت الشفعة للكافر على المشتري إذا كان كافرا و ان خالفه في الصنف أو في الملة، نعم يشكل الحكم بثبوت الشفعة للكافر على المشتري إذا كان مرتدا.

(المسألة 17):

يشترط في ثبوت حق الشفعة للشفيع أن يكون قادرا على تأدية الثمن تاما عند أخذه بالشفعة و لو بالاقتراض أو بيع بعض ما يملك، فلا يثبت له حق الشفعة إذا كان عاجزا عن أداء جميع الثمن أو عاجزا عن أداء بعضه، و لا يكفي في تحقق هذا الشرط أن يضمن الثمن عنه ضامن، و ان كان موثوقا به أو يجعل عليه رهنا، و إذا رضي المشتري بتأجيل الثمن أو رضي بضمان الضامن أو بالرّهن صح و لم يسقط

كلمة التقوى، ج 5، ص: 13

حقه من الشفعة.

(المسألة 18):

إذا أخذ الشريك بالشفعة و خرج من المكان ليحضر الثمن و كان مع المشتري في بلد واحد، انتظر به ثلاثة أيام من الوقت الذي أخذ فيه بالشفعة، فإن هو أحضر المال في المدة نفذت شفعته و كانت الحصة المبيعة ملكا له، و إذا انقضت الأيّام الثلاثة و لم يحضر الثمن فيها، نفذ البيع للمشتري و سقطت شفعة الشفيع و يكفي في المدة أن تكون الأيّام الثلاثة ملفقة، فإذا أخذ الشريك بالشفعة في أول الساعة الرابعة من النهار كانت نهاية المدة في أول الساعة الرابعة من اليوم الرابع.

و إذا كان المال في بلد أخر انتظر بالشفيع مدة يمكنه فيها السفر بحسب العادة المتعارفة بين الناس الى البلد الذي فيه المال و الرجوع منه، و يزيد على ذلك بثلاثة أيّام بعد رجوعه فإن أحضر الثمن في تلك المدة صحت شفعته، و إذا انتهى الأجل و لم يحضر الثمن فلا شفعة له، و تكفي المدة الملفقة أيضا كما تقدم.

(المسألة 19):

إذا كان تأجيل دفع الثمن الى أن يسافر الشريك أو وكيله الى البلد الآخر الذي يدعي وجود المال فيه، ثم الرجوع منه مما يوجب الضرر على المشتري فالظاهر سقوط حق الشريك من الشفعة و نفوذ البيع في الحصة للمشتري.

(المسألة 20):

لا يشترط في ثبوت حق الشفعة للشفيع ان يكون حاضرا في المجلس الذي جرى فيه عقد البيع للحصة، أو يكون حاضرا في بلد البيع، فإذا وقع البيع على الحصة من العين المشتركة بينه و بين شريكه البائع، و كان الشفيع غائبا عن المجلس

كلمة التقوى، ج 5، ص: 14

أو غائبا عن البلد، ثم علم به بعد مدة كان له حق الشفعة في الحصة، و لم يسقط حقه بذلك، و ان كانت المدة طويلة، بل يكون له حق الشفعة و ان كان بلده غير بلد البيع فإذا علم به جاز له أن يأخذ بالشفعة.

و إذا كان للشفيع وكيل مفوض في التصرّف عنه، و ان كانت وكالته إيّاه على نحو العموم، أو كان له وكيل في الأخذ بالشفعة، جاز للوكيل العام أو الخاص أن يأخذ له بالشفعة إذا علم و ان لم يعلم الموكّل نفسه بالبيع.

(المسألة 21):

يثبت حق الشفعة للشريك و ان كان سفيها قد حجر عليه في التصرّف لسفهه و يأخذ له وليه الشرعي بالشفعة، و إذا علم الولي الشرعي بثبوت حق الشفعة للسفيه على الوجه الصحيح، و اذن الولي للسفيه في أن يأخذ لنفسه بالشفعة، جاز له أن يتولّى ذلك و يأخذ بالشفعة، و إذا سبق السفيه فأخذ لنفسه بالشفعة ثم أجاز الولي فعله بعد الأخذ صحت شفعته و نفذت.

و تثبت الشفعة للشريك المفلّس إذا لم يزاحم حقوق الغرماء في المال الموجود، و مثال ذلك أن يرضى الغرماء جميعا له بأن يدفع الثمن من المال الموجود، و من أمثلة ذلك أن يرضى المشتري بأن يبقى ثمن الحصة دينا في ذمته فلا يزاحم به حقوق الغرماء في المال الموجود، و من أمثلة ذلك ان يستدين المفلّس

من أحد دينا جديدا يفي به الثمن، فتصح شفعته في جميع ذلك.

(المسألة 22):

لا يشترط في ثبوت الحق للشفيع أن يكون بالغا، و لا يشترط فيه أن يكون عاقلا فيثبت له الحق إذا كان طفلا مميّزا أو غير مميّز، و باع شريكه حصته من العين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 15

المشتركة بينهما، و يتولّى وليه الشرعي الأخذ بالشفعة له، و يثبت له الحق كذلك إذا كان مجنونا و ان كان غير مميّز، و يتولّى وليه ذلك كما في الطفل، فإذا كان ولي الصبي أو المجنون هو الأب أو الجد للأب كفى في صحة تصرفه عنهما أن لا تكون في الأخذ بالشفعة لهما مفسدة تعود عليهما، و إذا كان وليهما غير الأب و الجد كالوصي من الأب أو الجد، و كالقيّم المنصوب من الحاكم الشرعي، لم ينفذ تصرفه إلّا مع وجود المصلحة لهما في التصرف، و قد بيّنا هذا في كتاب التجارة و في كتاب الحجر.

(المسألة 23):

إذا ثبت للصبي حق الشفعة في الحصة التي باعها شريكه، و كان الصبي مميّزا و يحسن الأخذ بالشفعة، و علم وليه الشرعي باجتماع الشرائط كلّها في المعاملة و في الصبي نفسه، جاز للولي أن يأذن للصبي بأن يأخذ لنفسه بالشفعة فإذا أخذ الصبي بها بعد الإذن من الولي نفذ تصرفه على الأقوى.

(المسألة 24):

الشفعة حق من الحقوق الشرعية التي تثبت للإنسان عند طروء أحد أسبابها و من أحكام الحق أنه يسقط إذا أسقطه صاحبه باختياره، أو أسقطه من يقوم مقامه و سيأتي لذلك مزيد إيضاح و بيان، و نتيجة لذلك فإذا ثبتت الشفعة للصبي أو للمجنون جاز للولي الشرعي عليهما أن يسقط هذا الحق، إذا دعت مصلحة الصبي أو المجنون صاحب الحق إلى إسقاطه، بل و جاز للأب و الجد أبى الأب ان يسقطا هذا الحق إذا لم تكن في إسقاطه مفسدة تعود على المولّى عليه، فإذا أسقطه الولي حسب ما بيّناه فليس للصبي إذا بلغ أن يطالب بالشفعة في الحصة المبيعة، و ليس

كلمة التقوى، ج 5، ص: 16

للمجنون أن يطالب بها إذا أفاق من جنونه و كذلك الحكم إذا ترك الولي المطالبة و لم يأخذ بالشفعة للصبي أو المجنون لوجود مفسدة غالبة في المطالبة، أو لعدم المصلحة لهما في الأخذ بها، فليس للصبي أو المجنون أن يطالبا بالشفعة بعد ارتفاع الحجر عنهما.

و إذا أسقط الولي حق الشفعة للصبي أو المجنون المولّى عليهما مع عدم تحقق الشرط الآنف ذكره لم يسقط حقهما بذلك، و كان لهما ان يطالبا بالحق و يأخذا بالشفعة بعد ارتفاع الحجر عنهما، و كذلك إذا تسامح الولي في الأمر فلم يأخذ لهما بحق الشفعة فيجوز للمولّى عليهما المطالبة به بعد البلوغ

و العقل.

(المسألة 25):

يجري في ولي السفيه نظير ما ذكرناه من الاحكام في ولي الطفل و المجنون فإذا أسقط ولي السفيه حق الشفعة الثابت للمولّى عليه مع وجود المصلحة له في إسقاطه، لم يجز للسفيه أن يطالب بالشفعة و الأخذ بها إذا رشد و ارتفع عنه الحجر و ان تجدّد وجود مصلحة له بعد الإسقاط، و إذا ترك الولي الأخذ بالشفعة للسفيه لوجود مفسدة غالبة تعود عليه إذا هو أخذ بها، أو لعدم مصلحة له في الأخذ، فلا شفعة للسفيه كذلك إذا اتفق له الرشد، و إذا أسقط الولي حق السفيه مع عدم وجود الشرط أو تساهل في الأمر فلم يأخذ له بحقّه، جازت للمولّى عليه المطالبة بالشفعة بعد الرشد.

(المسألة 26):

إذا كان الأب أو الجد أبو الأب شريكا للصبي أو المجنون في العين المملوكة لهما على وجه الإشاعة بينهما، جاز له أن يبيع حصة الصبي أو المجنون المولّى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 17

عليه على أجنبي مع وجود شرط صحة البيع لأنه ولي له فينفذ تصرفه عليه، فإذا باع حصته المولّى عليه من العين المشتركة كما ذكرنا ثبت للولي نفسه حق الشفعة في الحصة المبيعة لأنه شريك في العين، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة و يتملك الحصة بالثمن الذي وقع عليه البيع على الأجنبي.

و يصح للولي في المثال المذكور أن يبيع حصته التي يملكها من العين المشتركة على أحد، ثم يشفع في الحصة المبيعة للصبي أو المجنون بحسب ولايته عليهما، و لا مانع له من ذلك في كلا الفرضين، لوجود الولاية، و تحقق شروط الصحة في تصرفه كما هو المفروض، و إذا دل بعض القرائن الخاصة على وجود تهمة، أو على وجود مفسدة، فلا ولاية له و لا

يصح تصرفه.

و كذلك شأن الوصي القيم على اليتيم أو على المجنون إذا كان شريكا لهما في العين المملوكة لهما، فيجري فيه ما تقدم من الاحكام و يصح بيعه و أخذه بالشفعة لنفسه و للقاصر المولّى عليه، مع وجود الشرائط، الا أن تدل القرينة الخاصة على ما يخالف ذلك.

و يجري مثل ذلك في الوكيل المفوض في البيع، و في الأخذ بالشفعة إذا كان شريكا مع الموكل في العين على وجه الإشاعة بينهما، فيجوز له أن يبيع حصته من العين على شخص ثالث، ثم يأخذها بالشفعة لشريكه بالوكالة عنه بالثمن الذي باعها به على المشتري، و يجوز له أن يبيع حصّة موكله من العين المشتركة على أحد ثم يشفع فيها لنفسه بالثمن المعيّن، فيصح البيع و الأخذ بالشفعة مع وجود الشرائط في كلتا الصورتين.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 18

(المسألة 27):

إذا أخذ ولي الطفل أو المجنون لهما بالشفعة في حصّة باعها شريكهما في العين، ثم استبان بعد ذلك أن في أخذه بالشفعة لهما مفسدة غالبة تعود عليهما، أو نقصا يضرّ بحالهما بطلت شفعة الولي لهما و لم تنفذ، و ان كان الولي الذي تولى الشفعة لهما هو الأب أو الجد للأب، و كذلك إذا استبان عدم وجود مصلحة لهما في الشفعة، و كان الولي الذي أخذ لهما بالشفعة هو الوصي القيّم عليهما، فتبطل شفعته لعدم وجود الشرط، و مثله حكم الولي على السفيه فلا تنفذ شفعته إذا تبين بعد شفعته له انه لا مصلحة فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 19

الفصل الثالث في الأخذ بالشفعة

(المسألة 28):

إذا باع الشريك في العين حصته المشاعة منها على المشتري بثمن معلوم و حصل القبول من المشتري و تم العقد بينهما، ثبت لشريكه الثاني في العين حق الشفعة في المبيع، سواء وقعت معاملة البيع بينهما بعقد لفظي أم بمعاطاة، و لا يتوقف ثبوت حق الشفعة للشريك على انقضاء مدة الخيار و لا على أمر أخر.

(المسألة 29):

شفعة الشفيع حق يختص به وحده، و الأخذ بها أمر يتعلق به خاصة دون غيره، و قد دلت على ذلك ظواهر الأدلة، و لا تتوقف صحة الشفعة و الأخذ بها على قبول المشتري بالشفعة أو قبول الشريك الذي باع الحصة، فالأخذ بالشفعة من الإنشاءات و من الإيقاعات لا من العقود.

و يحصل الأخذ بالشفعة من الشفيع بأي لفظ يكون دالا في متفاهم أهل العرف و اللسان على أخذه الحصة المبيعة بالثمن الذي جرت به المعاملة بين الشريك بائع الحصة و مشتريها، و يحصل أيضا بأي فعل من الأفعال يكون له ظهور عرفي في ذلك.

فمن الألفاظ الدالة على ذلك أن يقول الشفيع: أخذت لنفسي الحصة التي باعها شريكي زيد، على المشتري عمرو بألف دينار، و تملكها بالشفعة بالثمن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 20

المعيّن بينهما، أو يقول تملكت الحصة المبيعة بالثمن المعلوم.

أو يقول: أخذت الحصة لنفسي شفعة بالثمن الذي اشتراها به فلان، و من الأفعال الدالة عليه ان يضع الشفيع يده على العين بقصد تملك الحصة المبيعة منها و يدفع الثمن للمشتري.

(المسألة 30):

لا يصح للشفيع أن يبعض في شفعته، فيتملك بعض الحصة التي باعها شريكه بالمقدار الذي ينوب ذلك البعض من الثمن و يدع البعض الآخر، فيقول مثلا: أخذت نصف الحصة المبيعة، و تملكته بنصف الثمن، و لا يذكر النصف الآخر، أو يقول مع ذلك: و تركت النصف الآخر من الحصة للمشتري، بل يلزمه اما أن يتملك جميع الحصة المبيعة بجميع ثمنها أو يدعها جميعا لمن اشتراها.

(المسألة 31):

الشفعة التي تثبت للشفيع شرعا هي أن يأخذ المبيع بالمقدار الذي جرت المعاملة عليه بين المتعاقدين من الثمن، فلا يدفع للمشتري أكثر من ذلك و لا أقل منه، و ان كانت القيمة المتعارفة في السوق للحصة المبيعة أكثر من ذلك أو أقل، و إذا تراضى الشفيع مع المشتري بينهما بأقل من الثمن أو بأكثر منه، فالأحوط أن يوقعا المعاملة بينهما بالمصالحة لا بعنوان الأخذ بالشفعة.

و لا يتعيّن على الشفيع أن يدفع للمشتري عين الثمن الذي وقعت عليه المعاملة و سلمه المشتري إلى بائع الحصة، و ان تمكن الشفيع من ذلك، فيكفيه في الأخذ بالشفعة أن يدفع الى المشتري مثل ذلك الثمن إذا كان مثليا.

و إذا كان الشريك صاحب الحصة قد باع حصته المشاعة من العين على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 21

المشتري بثمن من القيميات و دفعه المشتري إليه، فالظاهر سقوط الشفعة و عدم ثبوتها للشريك الثاني، و مثال ذلك أن يبيع الشريك حصته من الدار أو الأرض المشتركة على المشتري بجواهر معيّنة، أو بحيوان، أو بمتاع معلوم، أو بغير ذلك من القيميات، فلا شفعة للشريك الآخر في مثل هذه الفروض.

(المسألة 32):

لا يجب على الشفيع إذا أخذ لنفسه بالشفعة أن يدفع للمشتري ما دفعه من أجرة أو جعالة للدلّال أو الوكيل الذي توسّط له أو ناب عنه في شراء الحصة، أو زاده للبائع من إضافة فوق الثمن أو حباه به من هدية أو كسوة فلا يجب على الشفيع دفع ذلك، و لا يحق له أن يسقط من الثمن ما قد يحطّه البائع عن المشتري من مقدار الثمن عند التسليم بعد العقد، أو يحتسبه عليه حقا من الحقوق الشرعية و شبه ذلك فلا يحقّ له أن

ينقص ذلك من الثمن عند أخذه بالشفعة.

و لا يمنع من جميع ذلك إذا حصل التراضي عليه بين الشفيع و المشتري و أجرياه بقصد المصالحة بينهما لا بعنوان الأخذ بالشفعة، و يمكن له أن يأخذ بالشفعة بالثمن المعين دون زيادة و لا نقيصة، ثم ينقص منه بعد ذلك أو يزيد له ما يريد مع رضى الطرفين به.

(المسألة 33):

لا يصح للشريك أن يأخذ الحصة من المشتري بالشفعة فيها لا لنفسه، بل ليملّك الحصة غيره من أب له أو ولد أو غيرهما، و إذا فعل كذلك كانت شفعته باطلة، و إذا أراد ذلك أمكن له أن يأخذ بالشفعة لنفسه بالثمن المعيّن على الوجه الصحيح، فإذا ملّك الحصة بالشفعة جاز له ان يملكها بعد ذلك لمن يشاء بعوض أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 22

بغير عوض، و لم يدخل المعاملة الثانية بالمعاملة الأولى.

(المسألة 34):

لا يثمر الأخذ بالشفعة ثمرته، و لا يتملك به الشفيع الحصة المبيعة حتى يحضر الثمن للمشتري، فلا يكفي في حصول المقصود أن يقول الشفيع بقصد الإنشاء: أخذت بحقي من الشفعة و تملكت الحصة، أو يضع يده على العين المشتركة بينه و بين صاحبه بقصد تملك الحصة المبيعة منها، و لا يؤثر هذا الإنشاء اللفظي أو الفعلي تملكه للحصة شرعا حتى يحضر الثمن كما قلنا.

و في حكم إحضار الثمن للمشتري أن يرضى المشتري نفسه بتأخير الثمن فإذا أنشأ الشريك شفعته باللفظ أو بالفعل الدالين على المقصود، و رضي المشتري منه بتأخير الثمن تمت الشفعة، و ملك الحصة و بقي الثمن دينا.

و قد بيّنا في المسألة الثامنة عشرة أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة، و طلب فرصة يحضر فيها الثمن و هو في البلد نفسه أنظر ثلاثة أيام، فإذا أحضر المال فيها نفذت شفعته، و كان ذلك بمنزلة إحضار المال في وقت أخذه بالشفعة، و إذا كان ماله في بلد أخر غير بلد البيع انتظر به مدة يتمكن فيها عادة من السفر الى ذلك البلد و الرجوع منه و يزاد عليها ثلاثة أيام، فإذا أحضر المال في هذه المدة صحت شفعته كذلك، و يتفرع على

ما ذكرناه أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة و عجز عن إحضار المال للمشتري، أو هرب أو ماطل أو تأخر عن إحضاره من غير عذر كانت شفعته باطلة و لم يملك الحصة بمجرد إنشائه و بقيت ملكا للمشتري.

(المسألة 35):

إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في تملك الحصة التي باعها شريكه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 23

و أراد الأخذ بحقه، وجب عليه أن يبادر إلى الأخذ بشفعته.

و المبادرة اللازمة عليه في ذلك هي أن لا يتساهل أو يماطل أو يتأخر عن الطلب بحقه من غير سبب يدعوه إلى التأخر أو التسويف، أو عذر شرعي أو عقلي أو عادي يبعث عليه، فإذا هو ماطل أو تساهل أو تأخر عن الطلب بحقه من غير سبب يعذر فيه سقطت شفعته، و سنذكر بعض الأمثلة للأعذار المقبولة للتأخير.

(المسألة 36):

من الأعذار المقبولة التي قد تدعو الشريك إلى تأخير أخذه بالشفعة و لا يسقط معها حقه بسبب التأخير و عدم المبادرة، أن يجهل ان شريكه في العين المملوكة لها قد باع حصته من العين و لم يعلم ببيعه الا بعد مدة، أو يجهل أن بيع شريكه لحصته المشاعة من العين يوجب له حق الشفعة فيها، أو يجهل بأن الشفعة مما تجب المبادرة فيه و لا يجوز فيه التأخير، ثم علم بالحكم بعد مدة.

و من الأعذار: أن يتوهم الشفيع ان الثمن كان كثيرا يغبن في بذله ثم استبان له بعد فترة ان الثمن قليل لا يغبن فيه إذا دفعه للحصة المبيعة، أو يتوهم أنه يعجز عن دفع الثمن إلى المشتري لأنه من الذهب مثلا و هو لا يجده أو لأنه لا يتمكن من تحويل المبلغ من بلده الى المشتري ثم تبين له بعد فترة من الزمن خطأ توهمه و من الأعذار أن يظنّ الشفيع ان مشتري الحصة هو زيد و هو لا يقدر على أخذ الحصة منه، ثم علم أن المشتري هو عمرو، و منها: أن يبلغه أن شريكه قد

وهب الحصة لزيد هبة، أو صالحه عليها بعوض، و لذلك فلا يكون له حق الشفعة في الحصة، ثم علم أن الشريك قد باعها على زيد فيثبت له حق الشفعة فيها.

و من الأعذار أن يكون الشفيع محبوسا بغير حق أو محبوسا بحق يعجز عن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 24

أدائه، ثم يخرج من سجنه بعد مدة، و لا تنحصر الاعذار و الأسباب الموجبة للتأخير في ذلك.

(المسألة 37):

إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في الحصة التي باعها شريكه وجبت عليه المبادرة إلى الأخذ بحقه و لزمه الشروع في مقدمات ذلك، و المقدار اللازم عليه من المبادرة أن يجري في شروعه في المقدمات و في أخذه بالحق على الوجه المتعارف له و لأمثاله في ذلك، و لا تجب عليه المسارعة فيه بأكثر مما يعتاد له، فإذا علم ليلا بثبوت الحق له جاز له أن ينتظر مجي ء الصبح، و أن يتأخر عن أول الصبح الى الوقت الذي يخرج فيه أمثاله من الناس لهذه الغاية، و إذا علم بثبوت الحق له و هو في أثناء عبادة واجبة أو مندوبة من صلاة أو زيارة أو حج أو غيرها لم يجب عليه قطع عبادته و الخروج إلى الأخذ بحقه، و جاز له أن يتم عبادته على الوجه الذي جرت عليه عادته من إسراع و إبطاء، ثم يتوجه بعدها الى حيث يريد.

و إذا علم بالحق و هو في أول وقت الصلاة جاز له أن يأتي بطهارته و صلاته حتى يتمها، بل و يجوز له أن يأتي بنوافلها و مستحبّاتها إذا كان من عادته الإتيان بها، و يجوز له أن ينتظر الجماعة و يصلي معها إذا كان ذلك من عادته، و لا يجب

عليه الإسراع في المشي أكثر مما يتعارف له عند خروجه الى مقصده، و إذا كان بعيدا عن الموضع الذي يأخذ فيه بالشفعة و احتاج الى من يصحبه في الطريق جاز له انتظاره حتى يخرج معه، و إذا كان له ما يمنعه في الحال من حرّ أو برد أو مطر جاز له الصبر حتى يزول المانع، و إذا علم بثبوت الحق له و هو في أثناء عمل يلزمه بسبب إجارة أو نحوها، صبر حتى ينجز العمل و يتمه على الوجه المطلوب، و على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 25

وجه الاجمال يجوز له الإتيان بأي عمل يتعارف لمثله، إذا لم يكن الإتيان بذلك العمل مما يصدق معه المماطلة في نظر أهل العرف،

(المسألة 38):

إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في الحصة المبيعة و هو في غير البلد الذي يأخذ فيه بالشفعة، و كان في وسعه أن يبادر في الأمر، فيرسل من قبله وكيلا مفوضا يأخذ له بحقه و يدفع الثمن عنه، فلا يكون منه تأخر و لا مماطلة في أخذه بالشفعة، و لا في دفع الثمن للمشتري، أو أمكن له أن يتصل بالبلد و بالمشتري أو وكيله بمخاطبة هاتفية و نحوها فينشئ بمكالمته معه أخذه بالشفعة، و يحوّل الثمن اليه أو الى وكيله، فلا يكون منه تأخير و لا مماطلة لزمه ذلك، فإذا هو أهمل و لم يبادر مع تمكنه من ذلك و تيسّره له صدقت المماطلة عرفا، و بطلت بذلك شفعته.

و كذلك إذا بلغه الخبر ليلا، أو كان مريضا أو مسجونا لا يمكنه القيام بالأمر بنفسه، و أمكنه الأخذ بالحق في وقته، بالتوكيل، أو بالمكالمة الهاتفية و تحويل الثمن و نحو ذلك من وسائل الاتصال في

المخاطبات و اجراء المعاملات مما هو متمكن منه و ميسور له، فلا يجوز له التأخير و المماطلة، و إذا أهمل و ما طل بطلت شفعته.

(المسألة 39):

إذا كان الشفيع غائبا عن الموضع الذي يأخذ فيه بالشفعة في سفر أو غيره و لم يمكنه الحضور بنفسه و لا بالتوكيل و لا الأخذ بحقه بمخاطبة هاتفية و شبهها كان معذورا في تأخير الأخذ بالحق، و لم تسقط بذلك شفعته و ان طالت المدة الى أن يزول العذر.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 26

(المسألة 40):

الشفعة- كما قلنا أكثر من مرة- حق يثبت للشريك إذا تمت له القيود و الشروط التي تقدم بيانها، و إذا أسقطه صاحبه باختياره- بعد أن يثبت له شرعا- يسقط اعتباره، و لا يصح لصاحبه الأخذ به بعد ذلك، فإذا شفع و دفع الثمن للمشتري لم يملك الحصة المبيعة، إلا إذا ملكها له المشتري برضاه بتمليك جديد و يجوز التعويض عن حق الشفعة إذا ثبت لصاحبه شرعا، و يصح أن يكون التعويض عنه بالمال و بغير المال، و مثال ذلك أن يكون للشريك حق الشفعة في دار أو أرض، فيصالحه المشتري عن حقه هذا بحق تحجير قد ثبت للمشتري في أرض أخرى، فيسقط بهذه المصالحة حق الشريك من الشفعة في الدار، و ينقل اليه حق التحجير في الأرض التي حجرها المشتري عوضا عن شفعته.

و يجوز للمشتري أن يعوضه عن حقه هذا بمنفعة خاصة يملكها في دار أو دكان أو عين اخرى، و أن يعوضه عنه بدين له عليه أو على شخص غيره، أو بغير ذلك من الأموال.

(المسألة 41):

يصح للمشتري أن يصالح الشريك عن حق الشفعة الذي ثبت له في الحصة التي اشتراها من الشريك الآخر، و يدفع له مبلغا من المال عوضا عن حقه، و إذا تم الصلح بينهما كذلك سقط حق الشريك من الشفعة بنفسه، و ان لم ينشئ صاحبه إسقاطه بلفظ أو بغيره، و وجب على المشتري ان يدفع له المبلغ المعيّن من المال بدلا عن حقه، و يصح أن يوقع الصلح معه عن الحق الذي ثبت له في الحصة بالتراضي بينهما بغير عوض، و قد ذكرنا هذا الحكم في المسألة السادسة عشرة من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 27

كتاب الصلح.

(المسألة 42):

إذا كان للشريك حق الشفعة في الحصة التي باعها شريكه و صالحة المشتري بعوض من المال، على أن يسقط حقه الثابت له من الشفعة و قبل الشريك منه هذه المصالحة، وجب عليه ان يسقط شفعته و لا يأخذ بها، فان هو أسقط حقه، و وفى بعقد الصلح الجاري بينه و بين المشتري، استحق عليه العوض المعيّن، و ان لم يف بعقد الصلح فلم يسقط حقه من الشفعة أثم، لعدم و فأية بالعقد، و لم يستحق العوض المعيّن فيه، و لم يسقط حقه من الشفعة بمجرّد وقوع العقد بينهما، فإذا أخذ بالشفعة و دفع الثمن للمشتري صحت شفعته و ملك الحصة بذلك و ان كان اثما بعدم إسقاطه للحق كما قلنا.

(المسألة 43):

إذا ثبتت الشفعة للرجل فصالحه مشتري الحصة بعوض معلوم من المال على أن لا يأخذ بشفعته في الحصة، جرى في ذلك نظير ما بيّناه في المسألتين المتقدّمتين، فان كان المقصود من عدم أخذه بالشفعة الذي وقعت عليه المصالحة بينه و بين المشتري: أن يكون حق الشريك من الشفعة ساقطا و من أجل سقوط الحق فلا يحل للشريك أن يأخذ بالشفعة، سقط بهذه المصالحة حقه و ان لم ينشئ إسقاطه بلفظ أو بغيره، فإذا هو لم يف بالعقد، و أخذ بالشفعة لم تصح شفعته، فإنها قد سقطت بعقد الصلح، و لم يملك الحصة المبيعة، و استحق على المشتري العوض المعلوم من المال الذي وقع عليه عقد الصلح.

و ان كان المراد أن لا يأخذ الشريك بالشفعة و ان كانت ثابتة له و لم يسقط

كلمة التقوى، ج 5، ص: 28

استحقاقه لها، فالشفعة لا تزال باقية بحالها و لم تسقط، فإذا هو أخذ بالشفعة بعد وقوع الصلح نفذت

شفعته، و ملك الحصة المبيعة، و لزمه أداء الثمن المعين لها و ان كان آثما بما فعل لعدم وفائه بعقد الصلح، و لم يستحق العوض الذي جرى عليه عقد المصالحة.

(المسألة 44):

لا يسقط حق الشفعة إذا أسقطه الشريك قبل أن يثبت له شرعا، و قد ذكرنا- أكثر من مرة- أن حق الشفعة انما يثبت للشريك إذا باع شريكه الثاني حصته من العين المشتركة بينهما، و نتيجة لهذا الشرط فإذا أسقط الشريك حقه من الشفعة قبل إنشاء البيع، ثم وقع بيع الحصة بعد ذلك لم يسقط حق الشريك من الشفعة، و جاز له أن يأخذها و يتملك الحصة بثمنها على الأقوى.

و لا تسقط شفعة الشفيع إذا شهد بأن شريكه قد باع الحصة على زيد بحضوره، و انه أشهده على وقوع البيع، فيصح له أن يأخذ بالشفعة بعد شهادته هذه، و ان كانت الشهادة في مجلس الحاكم الشرعي، و لا يسقط حقة من الشفعة إذا وقع البيع و هو حاضر أو علم به بعد وقوعه فقال للمشتري بارك اللّه لك في ما اشتريت أو في صفقتك، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة بعد ذلك، إلا إذا دلت القرينة على ان مراده من شهادته بالبيع في المثال الأول و من دعائه للمشتري بالبركة في الفرض الثاني إسقاط حق شفعته بعد البيع فيسقط بذلك حقه.

(المسألة 45):

إذا عرض الشريك حصته من العين على شريكه فيها و هو يريد بيع الحصة فأبدى الشريك عدم رغبته في شرائها فباعها مالكها من غيره، أشكل الحكم بثبوت

كلمة التقوى، ج 5، ص: 29

حق الشفعة له فيها بعد ذلك، و الأحوط له ترك الشفعة، و خصوصا إذا أذن له في البيع إذنا مطلقا، و لم يذكر مقدارا معينا للثمن و لا مشتريا خاصا، و كذلك إذا عرض المشتري عليه الأمر قبل أن يشتري الحصة من شريكه، فأبدى عدم الرغبة في شرائها فلا يترك الاحتياط في عدم الشفعة،

و مثله ما إذا استأذنه شريكه صاحب الحصة في بيعها بثمن معيّن أو على مشتر معيّن فلم يرغب في شراء الحصة و أذن له في بيعها، فلا يترك الاحتياط في هذه الفروض بترك الشفعة بعد وقوع البيع.

و إذا استأذنه الشريك في بيع الحصة بثمن معيّن فلم يرغب، ثم باعها بأقل من ذلك الثمن أو استأذنه في البيع على مشتر معيّن، فلم يرغب ثم باع الحصة على مشتر أخر، فالظاهر ثبوت الشفعة له في كلتا الصورتين، و كذلك إذا عرض المشتري عليه الأمر و ذكر له ثمنا فأذن له في الشراء، ثم اشترى الحصة من صاحبها بأقل من ذلك الثمن فيجوز له أن يأخذ بالشفعة.

(المسألة 46):

لا يشترط في ثبوت حق الشفعة للشريك أن يكون عالما بمقدار ثمن الحصة حين أخذه بالشفعة، فإذا علم أن شريكه في العين قد باع حصته منها، فقال: أخذت بالشفعة فيها، سواء كان ثمنها قليلا أم كثيرا، أو قال: تملكت حصته التي باعها بثمنها الذي اشتراها به المشتري بالغا ما بلغ، صحت شفعته، و ان كان جاهلا بمقدار الثمن حين أخذه بالشفعة، فإذا علم بمقداره بعد ذلك أو دلت عليه الحجة الشرعية دفعه الى المشتري و لم يضرّ ذلك بشفعته.

(المسألة 47):

إذا باع الشريك حصته المشاعة من العين على غير شريكه، ثبت لشريكه حق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 30

الشفعة في الحصة، فإذا تقايل المتبايعان بعد أن وقع عقد البيع بينهما فردّ الشريك البائع الثمن على المشتري، و ردّ المشتري الحصة المبيعة على بائعها، لم يسقط بتقايلهما حق الشريك الشفيع من الشفعة التي ثبتت له في البيع، فإذا أخذ الشفيع بالشفعة بطلت اقالة المتبايعين من أصلها.

و يتفرع على بطلان الإقالة من أصلها: ان ترجع الحصة المبيعة إلى ملك المشتري، فإذا كانت الحصة قد تجدّد لها نماء بعد شراء المشتري لها و قبل أخذ الشفيع بالشفعة فالنماء المتجدّد لها كلّه للمشتري، و أن يرجع الثمن الى ملك البائع فإذا كان قد حصل له نماء في تلك الفترة فهو ملك للبائع، و تكون الحصة بعد الشفعة ملكا للشفيع، و يلزمه أن يدفع ثمنها إلى المشتري.

(المسألة 48):

إذا ثبت حق الشفعة للشريك، فباع حصته الأولى التي يملكها من العين قبل أن يأخذ بالشفعة في الحصة الأخرى التي باعها شريكه، زالت شركته في أصل العين و سقط بذلك حقه من الشفعة في الحصة الأخرى، فلا يجوز له الأخذ بها و خصوصا إذا كان بيعه لنصيبه الخاص من العين بعد أن علم بثبوت الشفعة له في نصيب صاحبه.

(المسألة 49):

الشفعة حق خاص يثبت للشريك إذا توفرت له القيود و الشروط التي تقدم منا تفصيلها، و هي حق لا يقبل النقل الاختياري من الشريك الشفيع الى غيره بصلح أو بمعاوضة أخرى، و قد سبق منا في المسألة الحادية و الأربعين: أن المشتري إذا صالح الشريك صاحب الحق عن شفعته أفاد هذا الصلح سقوط الحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 31

فلا يجوز لصاحبه ان يأخذ بالشفعة بعد الصلح، و ليس معنى ذلك ان هذا الحق قد انتقل من صاحبه إلى المشتري بالمصالحة، و سنذكر في بعض المسائل الآتية ان حق الشفعة ينتقل بعد موت الشريك صاحب الحق إلى وارثه، و هو غير النقل الاختياري بالمعاوضة عليه.

(المسألة 50):

إذا باع الشريك حصته على المشتري بثمن مؤجل، و ثبت لشريكه حق الشفعة فيها، جاز لشريكه أن يأخذ بالشفعة و يتملك الحصة المبيعة عاجلا و يؤخر دفع الثمن، الى ان يحضر الأجل المسمّى، و يجوز له أن يعجّل دفع الثمن أيضا، إذا رضي المشتري بتعجيله.

(المسألة 51):

الأجل المسمّى الذي يجوز للشفيع أن يؤخر دفع الثمن الى وقت حلوله هو ما ضرب بين الشريك البائع و المشتري من حين وقوع البيع بينهما الى وقت حلوله، لا مقداره من حين أخذ الشفيع بالشفعة على الأحوط، ان لم يكن هذا هو الأقوى، فإذا كان أجل دفع الثمن إلى مدة سنة كان أول السنة من حين وقوع البيع لا من حين أخذ الشفيع بالشفعة.

(المسألة 52):

إذا اشترى المشتري الحصة المشاعة من الشريك الذي باعه حصته من العين ملكها بالشراء، و صح له أن يتصرف فيها بما يريد و كيفما يريد، و لا يمنعه من التصرف أن الشريك الآخر المالك للحصة الثانية قد ثبت له حق الشفعة في الحصة المبيعة عليه، و لا يمنع تصرف المشتري الذي ذكرناه في الحصة التي اشتراها من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 32

شفعة الشفيع، و لا يوجب سقوط حقه الذي ثبت له في الحصة، فيجوز له الأخذ بالشفعة و تملك الحصة بالثمن.

(المسألة 53):

إذا باع المشتري الحصة التي اشتراها من الشريك على مشتر أخر قبل أن يأخذ الشفيع بشفعته، تخير الشفيع بين أن يشفع في البيع على المشتري الأول و أن يشفع في البيع على المشتري الثاني، فإذا هو شفع في البيع الثاني ملك الحصة بالشفعة بثمنها الثاني، و صح بذلك البيع الذي قبله على المشتري الأول بالثمن الذي اشترى به الحصة من بائعها، و إذا شفع الشفيع في البيع الأول ملك الحصة بثمنها الأول، و كان البيع الثاني فضوليا، فيجوز للشفيع بعد أن يملك الحصة أن يجيزه، فإذا أجازه بعد الشفعة كان البيع الثاني له لا للمشتري، و كان الثمن الثاني له و يجوز له أن يترك البيع الثاني و لا يجيزه فيكون باطلا كما هو الحكم في البيع الفضولي.

و مثال ذلك أن يبيع الشريك حصته المشاعة من العين على زيد بمائة دينار ثم يبيعها من اشتراها و هو زيد على عمرو بمائة و عشرة دنانير، فإذا شفع الشفيع في البيع الأول ملك الحصة من زيد بالشفعة و لزمه أن يدفع لزيد ثمنها الذي اشتراها به و هو مائة دينار، و كان البيع الثاني و

هو بيع الحصة على عمرو فضوليا، فان أجازه الشفيع بعد أن شفع و ملك الحصة صح بيعها على عمرو و ملك عمرو الحصة بمائة و عشرة دنانير و كان هذا الثمن للشفيع، و إذا ترك الشفيع البيع الثاني و لم يجزه كان باطلا و بقيت الحصة المبيعة في ملكه بثمنها الأول.

و إذا شفع الشفيع في البيع الثاني ملك الحصة من عمرو و وجب عليه أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 33

يدفع له ثمنها الذي اشتراها به، و هو مائة و عشرة دنانير و صح بذلك البيع الأول و هو بيع الشريك على زيد بمائة دينار.

(المسألة 54):

إذا زادت البيوع التي وقعت على الحصة المشاعة على بيعين قبل أن يشفع الشفيع في بيعها كما إذا تأخر عن الأخذ بالشفعة لبعض الأعذار المقبولة ثم شفع في الحصة بعد ذلك جرى في هذا الفرض نظير الحكم السابق الذي بيّناه في المسألة المتقدّمة.

فإذا شفع الشفيع في البيع الأول الذي وقع على الحصة من الشريك نفسه ملك الشفيع الحصة من المشتري الأول الذي اشتراها من الشريك بثمنها المعيّن في ذلك البيع، و كانت البيوع اللاحقة بعده كلّها فضولية، فإذا أجاز الشفيع بعد أن ملك الحصة واحدا معيّنا منها صح ذلك البيع الذي أجازه، و كان للشفيع بالثمن المعيّن في عقد ذلك البيع و بطل الباقي، و إذا لم يجز منها شيئا بطل الجميع، و بقيت الحصة ملكا له.

و إذا شفع الشفيع في البيع الأخير من تلك البيوع ملك الحصة من المشتري الأخير بالثمن المعيّن في ذلك البيع، و صح ما وقع على الحصة قبله من البيوع جميعا.

و إذا شفع في البيع المتوسط ملك الحصة بثمنها في ذلك العقد، و صح ما

وقع قبله من البيوع و بطل ما بعده، و إذا أجاز الشفيع بعد الشفعة بيعا معيّنا من البيوع اللاحقة للشفعة صح ذلك البيع بإجازته و كان البيع المجاز له بثمنه.

(المسألة 55):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 34

إذا وقف المشتري الحصة التي اشتراها من الشريك أو وهبها الى أحد هبة لازمة أو غير لازمة أو صالح أحدا عليها فملكه إياها بالصلح، أو نقلها الى غيره بناقل شرعي أخر غير البيع مما لا تثبت فيه شفعة، كما إذا جعل الحصة صداقا لزوجة أو عوضا لخلع أو مبارأة أو غير ذلك ثم علم الشفيع بثبوت حق الشفعة له في الحصة بالبيع الأول على المشتري الأول، جاز للشفيع أن يأخذ بشفعته فإذا ملك الحصة بالشفعة من المشتري بطلت التصرفات المذكورة التي أجراها المشتري على الحصة، و لزمه أن يدفع للمشتري الثمن الذي اشترى به الحصة.

و إذا هو أسقط حقه من الشفعة أو تركها و لم يأخذ بها نفذت تلك التصرفات التي أجراها المشتري على الحصة.

(المسألة 56):

إذا تلفت عين المبيع كلّها قبل أن يأخذ الشفيع فيها بشفعته و لم يبق من العين شي ء، سقطت شفعة الشفيع بتلفها، و لا ضمان على المشتري لحق الشفيع، سواء كان تلف العين بآفة سماوية، أم بفعل المشتري نفسه، أم بفعل غيره.

و إذا تلفت العين بعد أن أخذ الشفيع فيها بالشفعة و تملك الحصة، و كان تلفها بفعل المشتري كان المشتري ضامنا للحصة، و كذلك إذا كان التلف بغير فعل المشتري و لكنه قد تسامح و ما طل في دفع الحصة المبيعة للشفيع حتى تلفت فيكون لها ضامنا، و لا ضمان عليه إذا تلفت العين بغير فعله و لم يماطل في إقباضها للشفيع.

(المسألة 57):

إذا تلفت بعض العين المبيعة و بقي بعضها قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة فيها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 35

لم يسقط بذلك حقه من الشفعة، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة في الباقي من المبيع بجميع الثمن الذي جرى عليه البيع، و يجوز له تركها و عدم الأخذ بها.

و مثال ذلك، أن تنهدم الدار المبيعة و تبقى العرصة و بعض البناء و الأنقاض منها، أو يطرأ عليها بعض العيوب و الخلل في الأبنية و السقوف، فيتخير الشفيع بين أن يأخذ بحقه من الشفعة، فيتملك العرصة و البناء الباقي و الأنقاض الموجودة من الدار، و يدفع للمشتري جميع الثمن الذي جرى عليه عقد البيع، و ان يترك حقه فلا يشفع في المبيع و لا يدفع الثمن، و إذا هو اختار الشفعة و أخذ الباقي من الحصة المبيعة فلا ضمان على المشتري لما تلف من العين، و ان كان تلف التالف منها بفعل المشتري نفسه.

و إذا تلف بعض الحصة المبيعة بعد أن أخذ الشفيع بحقه من

الشفعة و ملك الحصة، و كان تلف التالف منها بفعل المشتري، أو كان قد تسامح و ما طل في تسليم الحصة للشفيع بعد أخذه بالشفعة حتى تلف بعضها، كان المشتري ضامنا لما تلف منها، و كذلك الحكم إذا حدث فيها عيب، فيجري فيها التفصيل الذي ذكرناه، فيكون المشتري ضامنا لأرش العيب الحادث فيها في الصورة الثانية و لا يضمن في الأولى.

(المسألة 58):

إذا ثبت حق الشفعة للشريك، ثم مات قبل أن يأخذ بالشفعة انتقل حق الشفعة من بعده الى وارثه على الأقوى، و يورث هذا الحق بعد موت صاحبه على نهج إرث المال، فيقسط على ورتثه حسب السّهام المقدرة لهم من التركة في الكتاب الكريم و السنة المطهرة، فإذا خلّف من بعده بنين و بنات فللذكر مثل حظ

كلمة التقوى، ج 5، ص: 36

الأنثيين من الحق، و إذا كان الميت صاحب الحق رجلا و خلّف من بعده ولدا و زوجة، ورثت الزوجة الثمن من الحق و أخذ الولد سبعة أثمانه، و إذا كانت امرأة و تركت بعدها زوجا و ولدا أو بنتا، ورث الزوج الربع من الحق، و كان للولد أو البنت ثلاثة أرباعه، و هكذا على حسب طبقاتهم و مراتبهم و درجاتهم و استحقاقهم من التركة كما فصّل في كتاب الميراث.

(المسألة 59):

إذا تعدد ورثة الميت صاحب الحق فليس لبعض الورثة أن يأخذ بالشفعة الموروثة لهم و ان كانوا كثيرين، إلا إذا وافقهم الباقي من الورثة على الأخذ بها و ان كان شخصا واحدا و قليل النصيب في الميراث.

و إذا عفا بعض الورثة عن نصيبه في الميراث من الحصة المبيعة التي تعلّقت بها الشفعة، و كان عفوه عن نصيبه قبل أن يأخذ الورثة بالشفعة، أو عفا بعضهم عن نصيبه من الشفعة نفسها، أو أسقط حقه باختياره، أشكل الحكم في الباقين.

و إذا أخذ جميع الورثة بحقهم فشفعوا في الحصة المبيعة، ثم عفا بعضهم عن نصيبه الذي يرثه من الحصة سقط نصيب ذلك البعض خاصة، و لم تسقط سهام الباقين من الحصة بعد أن تملكوها بالشفعة.

(المسألة 60):

يثبت حق الشفعة للشريك على الأقوى، و ان كان بيع الحصة على المشتري مما فيه خيار الفسخ، أو الردّ لبائع الحصة أو لمشتريها أو لكل منهما، و لا يمنع وجود الخيار في بيع الحصة من شفعة الشفيع فيها، و لا تمنع الشفعة من أن يأخذ صاحب الخيار بخياره إذا ثبت موجب الشفعة و موجب الخيار.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 37

فإذا كان الشريك بائع الحصة قد اشترط في بيعها على المشتري أن يكون له ردّ العين المبيعة إذا هو ردّ الثمن عليه في مدة معلومة، ثم ردّ الثمن في الوقت المعيّن، كان له أن يسترجع العين المبيعة نفسها، و إذا أخذ الشفيع بشفعته قبل ذلك أو بعده لزم الشفيع أن يدفع الثمن للمشتري، و استردّ منه مثل الحصة المبيعة إذا كانت مثلية و قيمتها إذا كانت قيمية بدلا عن العين نفسها.

و إذا أخذ صاحب الخيار في الخيارات الأخرى بحقه ففسخ البيع لخياره و أخذ

الشفيع بشفعته في الحصة المبيعة قدّم السّابق منهما في الأخذ فيأخذ العين نفسها، سواء كان السابق في الأخذ هو الشفيع أم صاحب الخيار، و يسترد الثاني المتأخّر منهما في أخذه بحقه مثل العين إذا كانت مثلية، و قيمتها إذا كانت قيمية بدلا عن العين ذاتها.

(المسألة 61):

إذا كانت عين مملوكة مشتركة على وجه الإشاعة بين شريكين أحدهما حاضر و الثاني غائب، و لنفرض العين المذكورة دارا أو بستانا أو شيئا أخر مما تقع فيه الشركة و تثبت فيه الشفعة، و كانت الحصة المشاعة التي يملكها الشريك الغائب من العين بيد شخص ثالث يتصرف فيها، و هو يدعي الوكالة عليها عن مالكها الغائب، و لا معارض له في دعواه الوكالة، فالظاهر نفوذ تصرّفه الذي يجريه على الحصة، فإذا باع هذا الوكيل الحصة على شخص، جاز لذلك الشخص أن يشتريها منه اعتمادا على يده، و أن يصدّقه في دعوى الوكالة عليها من مالكها، و إذا اشتراها المشتري من هذا الوكيل نفذت تصرّفات المشتري في الحصة المبيعة عليه كيف ما يريد، و لا ريب في شي ء من ذلك و لا خلاف، ما لم يعلم كذب مدّعي الوكالة، أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 38

تقوم على كذبه بيّنة أو حجة شرعية أخرى.

فإذا علم الشريك الحاضر ببيع حصة شريكه من العين على هذا الوجه الذي بيّناه، فهل يثبت له حق الشفعة في الحصة تعويلا على يد ذلك المدّعي للوكالة و اعتمادا على صحة بيعه و دعواه الوكالة بحسب الظاهر؟ الأقرب ثبوت حق الشفعة له ظاهرا.

فإذا أخذ بالشفعة و تملّك الحصة، ثم حضر الشريك الغائب و أقر بصدق وكالة المدعي و صحة بيعه نفذت شفعة الشفيع و ترتبت أثارها، و إذا كذّب

دعوى المدعي و أنكر وكالته إياه كان القول قوله مع يمينه، فإذا أحلف انتفى بيع الحصة و لم يثبت حق الشفعة للشريك، و استرجع منه الحصة و استرد معها جميع نمائها و منافعها في مدة استيلائه عليها، فإذا أخذها المالك من الشفيع، رجع الشفيع بها على مدّعي الوكالة، و كذلك الحكم في النماء و المنافع التي كانت للحصة عند المشتري قبل أن يأخذها الشفيع منه، فإذا استرجعها المالك من المشتري رجع المشتري بها على مدّعي الوكالة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 39

كتاب الجعالة

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 41

كتاب الجعالة و هو يشتمل على ثلاثة فصول:

الفصل الأول في الجعالة و شروط صحتها

(المسألة الأولى):

الجعالة في اللغة ما يعطيه الإنسان لغيره من مال و شبهه مكافأة له على أمر صدر عنه، و الغالب أن يكون الشي ء الذي فعله الشخص المدفوع اليه مما يحتاج اليه الدافع أو هو مما يرغب في فعله، فيعطيه المال جزاء له على فعله، و تقال كلمة الجعالة أيضا على ما يجعله الإنسان لغيره على الشي ء سواء دفعه اليه بعد الفعل، أم وعده بدفعه اليه ليكون حافزا له على العمل، فيدفعه اليه بعد أن يقوم به.

و الجعالة عند الفقهاء و المتشرعين هي أن يلتزم الإنسان لغيره بدفع عوض له على عمل محلّل يقوم به بصيغة تدلّ على هذا الالتزام منه، و عرّفت أيضا بغير ذلك، و الأمر في التعريف سهل بعد وضوح المقصود من المعاملة، و التعريفات التي ذكروها (قدس اللّه أنفسهم) ترجع الى معنى واحد.

(المسألة الثانية):

الجعالة هي الالتزام المذكور الذي ينشئه الجاعل بالصيغة، أو هي إنشاء ذلك الالتزام، و على أي حال فهي إيقاع من الإيقاعات، فيكفي فيها الإيجاب من الجاعل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 42

وحده، و ليست عقدا من العقود، فلا تفتقر مع الإيجاب إلى قبول من العامل المجعول له.

و يكفي في الإيجاب الذي تتحقق به، أي لفظ يكون دالا في متفاهم أهل اللسان على الالتزام للشخص المجعول له بالعوض إذا هو قام بالعمل سواء كانت دلالة اللفظ على ذلك بنفسه، أم بالقرينة الحافة بالكلام.

و يصح أن يكون اللفظ الذي ينشئ الإنسان به التزامه عاما يعم أي شخص يأتي بالعمل المقصود من الناس، فيقول الرجل مثلا: من أبلغني عن سلامة ولدي عبد اللّه في بلد كذا فله علىّ عشرون دينارا، أو من أوصل رسالتي إليه فله عليّ كذا دينارا، أو يقول: من دلني

على سيّارتي المسروقة، أو على قريبي فلان المفقود دفعت اليه خمسين دينارا، و يجوز أن يوجّه اللفظ خاصا الى شخص معيّن فيقول لكاتب: إن خططت لي هذا الكتاب دفعت لك مبلغ كذا من المال، أو يقول لخياط:

إن خطت لي ثوبا فلك عندي عشرة دنانير.

و يصح أن ينشئ جعالته بالكتابة، فيكتب و يعلن في أمكنة عامة أو في صحف مقروءة: من ردّ لفلان ناقته الضالة منه فله عند فلان كذا دينارا، أو من وجد ساعة مفقودة صفتها كذا، أو من وجد مستندا رسميا يحتوي على كذا و أوصله الى فلان فله على فلان كذا، فتصح منه الجعالة بهذا الإعلان و تترتب عليه أثارها و أحكامها.

(المسألة الثالثة):

يصح أن تقع الجعالة على أي عمل يكون محللا في شريعة الإسلام و مقصودا عند العقلاء من الناس، و لا يصح إيقاعها على عمل محرّم في الإسلام أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 43

يؤدي إلى غاية محرمة فيه، أو يستلزم أمرا محرما، و لا تصح الجعالة على أعمال يعد فعلها عبثا لا تتعلق بها أغراض العقلاء المتزنين في أعمالهم و تفكيرهم من الناس، أو التي يعدّون بذل المال فيها سفاهة يتنزهون عنها، كارتياد المواضع الخطرة، و تعمّد الوصول إلى الأماكن المخيفة، و التعرض للوحوش الكاسرة أو الحيوانات و الحشرات القاتلة أو السأمة، و كالتسلّق على الجبال و الأبنية المرتفعة الشاهقة، و النزول في المنحدرات و المهاوي السحيقة، و رفع الأحمال و الأشياء الثقيلة التي يعجز المتعارفون من أقوياء الناس عن رفعها، و أمثال هذه من المخاوف و المخاطر.

و إذا تعلقت بهذه الأمور أغراض عقلائية، أو أصبحت من الأمور المعتادة المكتسبة بالتمرن و الرياضة و المزاولة، بحيث خرجت بذلك عن كونها لغوا

و سفها و خطرا، جاز فعلها و صحّت الجعالة عليها.

(المسألة الرابعة):

يصح إيقاع الجعالة على الإتيان بالأعمال الواجبة في الإسلام غير العبادية كدفن الأموات، و معالجة الطبيب للمرضى، و يصح إيقاعها على الواجبات التي يتوقف عليها تنظيم المجتمع، كتعليم علم الطبّ و الصيدلة و الزراعة و تعلّمها و قد ذكرنا نظير هذا في المسألة المائتين و الثالثة عشرة من كتاب الإجارة.

و تصح الجعالة على الأعمال المستحبة غير العبادية، كوضع الجريدتين للميت و إلباسه الحبرة، و كتعليم العلوم الأدبية، و تعليم القران في غير المقدار الواجب منه، و تعليم علم التفسير، و علم الحديث و علم الرجال و شرح الحديث و الأحوط ترك الجعالة على المستحبات العبادية.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 44

(المسألة الخامسة):

تشترك الجعالة مع إجارة الأجير على العمل في عدة من شروطها، و تشبهها في بعض أحكامها، و كلتا المعاملتين تحتويان على جعل عوض للعامل على الإتيان بعمل معين، و تفترقان في عدة فوارق، فالإجارة عقد من العقود لا يتم إلا بإيجاب و قبول يقعان بين المستأجر و الأجير، و الجعالة كما ذكرنا أنفا إيقاع ينشئه الجاعل و لا يحتاج الى قبول من العامل.

و إذا تم عقد الإجارة بين المتعاقدين ملك المستأجر العمل المعيّن من الأجير فيجب على الأجير القيام به، و ملك الأجير العوض المعلوم من المستأجر، و قد ملكا ذلك بنفس العقد، على ما فصلناه في كتاب الإجارة، و تخالفها الجعالة في ذلك فإن الإيقاع فيها إذا تم لم يملك الجاعل من العامل عملا، و لم يملك العامل من الجاعل عوضا بالإيقاع و لا بعده، فإذا قام العامل بالعمل المقصود بعد إنشاء الجعالة استحق العوض المعيّن على الجاعل و لزم الجاعل دفعه اليه، و هذا هو أثرها.

و سنذكر في المسائل الآتية- ان شاء اللّه

تعالى- بعض المشابهات بينهما و بعض الفروق.

(المسألة السادسة):

يشترط في صحة الجعالة أن يكون الملتزم الجاعل بالغا عاقلا قادرا على الوفاء بما يلتزم به من العوض للمجعول له، و أن يكون مختارا في فعله، قاصدا لإنشاء المعنى الذي يلتزم به، رشيدا غير محجور عليه في تصرفه، و هذه الأمور بذاتها هي الشروط المعتبرة في المستأجر، و قد فصلنا القول فيها في كتاب الإجارة و في غيره من كتب المعاملات، فليرجع إليها من يطلب المزيد من التوضيح.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 45

و يشترط في العامل أن يكون ممن يمكن له أن يأتي بالعمل المقصود، فلا يكون عاجزا عن القيام بفعله، و لا يكون ممنوعا من الإتيان به شرعا، و لا يعتبر فيه غير ذلك من الشروط التي ذكرناها في الجاعل، و لذلك فيصح إيقاع الجعالة من الجاعل للمجعول له و ان كان صبيا أو مجنونا أو غيرهما ممن لم تتوفر فيه الشروط المتقدّم ذكرها، إذا كان ممن يستطيع أن يأتي بالعمل المقصود على الوجه المطلوب، و إذا هو أتى بالعمل على ما يرام استحق العوض المعين على الجاعل و هذا أحد الفوارق بين عامل الجعالة و العامل في الإجارة.

(المسألة السابعة):

إذا كان الجاعل قد اشترط في إيقاعه للجعالة أن يأتي العامل بالعمل المقصود بنفسه على وجه المباشرة، فلا بدّ و أن يكون العامل المجعول له قادرا على الفعل بنفسه و غير ممنوع من مباشرة ذلك الفعل في شريعة الإسلام و نتيجة لهذا الشرط، فإذا جعل الجاعل للعامل عوضا معلوما على كنس المسجد أو المشهد مثلا لم تصح الجعالة إذا كان العامل نفسه جنبا، أو غير مسلم، أو كانت امرأة حائضا، لأنه ممنوع من دخول المسجد و المشهد في هذه الحالات، فلا يكون قادرا على الإتيان

بالعمل المطلوب بنحو المباشرة كما اشترط الجاعل، و إذا هو خالف المنع فدخل المسجد أو المشهد و كنسه بنحو المباشرة، لم يستحق العوض المجعول.

و إذا لم يشترط الجاعل على العامل أن يتولى العمل بنحو المباشرة كفى في استحقاقه للعوض أن يستنيب غيره في الإتيان بالعمل، فإذا استناب العامل المجعول له أحدا و ردّ العبد الآبق أو الدابة الضالة بالنيابة عن العامل استحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 46

العوض المجعول، و إذا استناب العامل الجنب أو الحائض أحدا سواه فكنس المسجد أو المشهد بالنيابة عنه استحق العامل العوض على الفعل كذلك لأن الجاعل لم يشترط عليه المباشرة.

(المسألة الثامنة):

يعتبر في الجعالة أن يكون العمل الذي تكون عليه المعاملة و العوض المجعول فيها معلومين في الجملة، و لكن اعتبار العلم بهما في الجعالة ليس على الوجه المعتبر في العلم بالعوضين في البيع و الإجارة و نحوهما بحيث لا يدخلها غرر، أو تكون فيها جهالة- كما فصّلناه في مباحث تلك المعاملات.

و المعتبر في الجعالة من العلم بالعمل المقصود أن يعلم بمقدار يمكن للعامل أن يتوجه نحوه، و يتصدّى للإتيان به و لا يكون مسلوب القدرة عليه، و لا يضرّ في الجعالة الجهل به إذا لم يبلغ هذه الدرجة، فتصح الجعالة إذا قال الجاعل من وجد لي سيّارتي المسروقة مني دفعت له مائة دينار مثلا، و ان لم يدر العامل في أي بلد يجد السيارة، أو أي موضع، و كم يكون بينه و بينها من المسافة، و كم يحتاج من المدة في طلبها و ما يلاقي من المصاعب في البحث عنها و العثور عليها.

و كذلك إذا قال: من طلب قريبي زيدا المفقود مني دفعت له كذا دينارا، أو قال: من

طلب زيدا المفقود أو عبدي الآبق- على نحو الترديد بينهما- فله علي كذا من المال، فتصح الجعالة و يتوجه العامل في طلب الشخص المردّد بين الرّجلين، سواء كان مقدار العوض الذي جعله لذلك متحدا أم مختلفا.

و لا تصح الجعالة إذا كان العمل مجهولا مطلقا، كما إذا قال الجاعل: من وجد شيئا قد ضاع مني فله عندي كذا و لم يعين الشي ء الضائع منه ليمكن للعامل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 47

التوجه في طلبه، و كذا إذا قال: من ردّ لي حيوانا قد ضلّ مني و لم يبيّن أن الحيوان الذي يطلبه من الأنعام أو الدواب أو الوحوش أو غيرها.

(المسألة التاسعة):

يعتبر في الجعالة أن يكون العوض المجعول للعامل معلوما في الجملة ليكون حافزا للعامل على القيام بالعمل، و تحصيل الغرض المقصود للجاعل و لذلك فلا بدّ من تعيين جنس العوض و نوعه و وصفه إذا كان لا يعلم الا بالوصف و لا بدّ من تبيين مقدار كيله أو وزنه أو عدده إذا كان مما يكال أو مما يوزن أو يعدّ و لا تصح الجعالة إذا التزم الجاعل للعامل بعوض غير معلوم المقدار فقال: من ردّ ضالتي فله عندي شي ء أو دفعت له ما في يدي.

و لا يضرّ فيها الجهل بالعوض إذا كان الجهل لا يؤدي الى التنازع و الخصام فيقول مثلا: من ردّ لي البقرة أو الناقة المسروقة من داري فله نصفها، أو فله نصف قيمتها في السوق، أو قال: من ردّها لي دفعت له هذا الثوب أو هذه الصبرة من الطعام، و هذه الأحكام من الفروق بين الجعالة و اجارة الأجير.

(المسألة العاشرة):

إذا بطلت الجعالة لفقد بعض الشروط، و أتي العامل بالعمل المقصود لمن أمره بالعمل و التزم له بالعوض، استحق عليه أجرة المثل لعمله بدلا عن العوض المسمى له في الجعالة.

(المسألة 11):

إذا أتى العامل بالعمل المقصود قبل أن يوقع الجاعل صيغة الجعالة و يلزم نفسه بالعوض، لم يستحق العامل على فعله عوضا و لا أجرة مثل، و كذلك إذا أتى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 48

العامل بعمله بقصد التبرع به، فلا يستحق عليه عوضا و لا أجرة مثل، و ان كان الجاعل قد سبق فجعل على نفسه عوضا لمن أتى له بالعمل المقصود، فلا تعم جعالته ذلك العامل لأنه متبرع بعمله.

(المسألة 12):

إذا جعل الجاعل العوض لشخص معين إذا قام له بالعمل المقصود، فقال مثلا: إذا ردّ زيد علىّ عبدي الآبق، أو بقرتي المسروقة منيّ فله عندي عشرة دنانير فأتى بذلك العمل شخص أخر غير زيد المجعول له، لم يستحق هذا العامل العوض، لأنه لم يؤمر بالفعل، و لم يلتزم له بالعوض، و لا الشخص المجعول له، لأنه لم يفعل شيئا.

و تستثنى من ذلك صورة واحدة، و هي ما إذا كان الجاعل قد جعل العوض للشخص المعين و هو زيد في المثال الذي ذكرناه متى حصل منه العمل المقصود سواء قام بالعمل بنفسه أم أتى به غيره بالنيابة عنه في العمل، فإذا استناب زيد غيره فاتى بالعمل بالنيابة عنه، أو جاء بالعمل غيره بقصد التبرع عنه، استحق زيد العوض المسمى الذي جعله له الجاعل.

(المسألة 13):

يصح أن يوقع الجعالة شخص فيجعل العوض من ماله عن عمل يكون لغيره و مثال ذلك أن يقول الشخص: من طلب سيارة زيد المسروقة منه و ردّها اليه فله عندي عشرون دينارا، أو يقول لأحد معين: إذا طلبت سيارة زيد المسروقة و رددتها اليه دفعت لك من مالي كذا دينارا، فإذا طلب العامل السيارة المسروقة و ردّها الى زيد استحق العوض المعين على الجاعل الملتزم لا على زيد مالك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 49

السيّارة.

(المسألة 14):

يمكن أن ينشئ الجاعل جعالات متعددة بإيقاع واحد، كما إذا كان العمل المقصود للجاعل كليا يمكن صدور أفراد متعددة منه من اشخاص متعددين فيترتب على كل جعالة أثرها و يجرى عليها حكمها و من أمثلة ذلك أن تكون لزيد عدة بنات غير متزوجات، فيقول الجاعل: من تزوج احدى بنات زيد فله عندي نصف صداقها، أو يقول: من تزوج إحداهن دفعت اليه مبلغ كذا من المال فتصح الجعالات، فأي شخص يتزوج من البنات المذكورات يستحق العوض الذي التزم به القائل.

و من أمثلة ذلك أن يقول: إذا تزوج على بنت عمه جعفر و تزوج عبد اللّه بنت عمه إبراهيم فلكلّ متزوج منهما عندي مائة دينار، فإذا تزوج الشخصان كما قال استحق كل واحد منهما المبلغ المعين من القائل، و إذا تزوج أحدهما فقط استحق المتزوج دون الآخر.

و كذلك أن يقول: إذا تزاور زيد و عمرو فدخل كل منهما بيت الآخر دفعت للزائر منهما صاحبه عشرين دينارا، فإذا هما تبادلا الزيارة بينهما استحق كل واحد منهما العوض المسمّى، و إذا دخل أحدهما خاصة على صاحبه استحق الزائر منهما المبلغ دون الآخر.

(المسألة 15):

إذا قال الرجل: من كتاب لي هذا الكتاب دفعت اليه عشرين دينارا مثلا فاشترك كاتبان أو أكثر فكتبوا له نسخة واحدة من الكتاب استحقوا المبلغ الذي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 50

عينه، و اقتسموه بينهم، فأخذ كل واحد منهم من العوض بمقدار عمله، فإذا كانوا اثنين و قد عملا فيه بالسّواء أخذ كلّ واحد منهما نصف المبلغ، و إذا كانوا ثلاثة أخذ كل فرد منهم الثلث، و هكذا، و إذا تفاوتوا في العمل اقتسموا العوض المسمّى بالنسبة.

و إذا كتب كل كاتب منهم نسخة تامة من الكتاب استحق

كل واحد منهم عوضا تاما على الجاعل، و تراجع المسألة العشرون الآتية في حكم أحدهم إذا أتى بالعمل بعد انتهاء أمد الجعالة عرفا، و حصول الغرض المقصود منها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 51

الفصل الثاني في بعض أحكام الجعالة

(المسألة 16):

يجوز للجاعل أن يفسخ جعالته التي أنشأها و ألزم نفسه بدفع العوض للعامل فيها سواء بدأ العامل بالعمل المقصود، أم لم يتلبّس بشي ء منه و لم يشرع بشي ء من مقدماته، فإذا فسخ الجاعل جعالته قبل أن يبدأ العامل بالعمل و قبل أن يشرع في مقدّماته، لم يستحق العامل على الجاعل شيئا من العوض المسمّى في الجعالة و لا من أجرة المثل.

و إذا فسخ الجاعل جعالته بعد ما بدأ العامل بمقدمات العمل المقصود للجاعل، فشرع في طلب الشي ء المفقود، أو العبد الآبق أو الدابة الضالة ليردّها الى صاحبها و لم يجدها بعد، فإذا فسخ الجاعل و نقض التزامه في هذا الحال لم يستحق العامل عليه شيئا من العوض المسمّى لبطلان الجعالة بفسخها، و لكنه يستحق منه أجرة المثل لما قام به من الطلب و أتى به من المقدمات.

و إذا فسخ الجاعل جعالته بعد ما بدأ العامل في العمل نفسه، فأخذ في خياطة الثوب الذي جعل عليه العوض أو في نسخ الكساء أو في كتابة الكتاب، لم يستحق العامل على الجاعل شيئا من العوض المسمّى كما تقدم في نظيره و استحق عليه اجرة المثل للمقدار الذي أتى به و أنجزه من العمل.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 52

(المسألة 17):

يجوز للعامل في الجعالة أن يترك العمل فيها للجاعل قبل أن يبدأ به و بمقدماته، و بعد ما يتلبّس به و يشرع، فيرفع يده عما قام به من العمل و لا يتمه و إذا هو ترك العمل كذلك لم يستحق على الجاعل شيئا من العوض المسمّى في الجعالة و لا أجرة المثل، و ان كان الأحوط استحبابا للجاعل أن يصالحه بشي ء من المال إذا كان قد أو جد له بعض

العمل المقصود، و أحوط من ذلك أن يتراضى الطرفان و يتصالحا في جميع الفروض المذكورة في هذه المسألة و المسألة السابقة عليها.

(المسألة 18):

إذا أوقع الجاعل جعالته و ألزم نفسه بمقتضاها، بأن يؤدي للعامل العوض المسمّى الذي ذكره في الجعالة إذا هو أتى له بالعمل المقصود، ثم أتى العامل بذلك العمل وفقا لما طلب، استحق العامل عليه أن يدفع اليه العوض، سواء علم العامل بالجعالة أم لم يعلم بها و لم يطلع عليها.

فإذا قال الجاعل: من تزوج فاطمة بنت زيد دفعت له نصف صداقها، ثم تزوجها خالد، استحق خالد بزواجها العوض المعين من الجاعل، و ان كان لا يعلم بجعالته قبل التزوج بها، و إذا قال الجاعل: من كتب لي هذا الكتاب فله على مائة دينار، فكتب خالد له الكتاب استحق عليه الجعل، و ان لم يدر بإيقاع الجاعل قبل أن يتم الكتاب، و إذا قال: من ردّ لي ضالتي فله عندي عشرون دينارا فردّها عليه العامل استحق العوض و ان لم يبلغه نبأ الجعالة، و هكذا، نعم يشترط في استحقاقه للجعل أن لا يكون متبرعا بعمله، فإذا قصد التبرع به لم يستحق عليه شيئا.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 53

و قد اشترط بعض الأكابر من العلماء في استحقاق العامل للعوض المسمّى في الجعالة أن يكون إتيانه بالعمل لأجل تحصيل العوض، و من أجل اشتراطه لذلك اعتبر فيه أن يكون عالما بإيقاع الجعالة ليقصد تحصيل العوض بعمله و إطلاقات الأدلة و النصوص تدفع هذا القول و تنفي هذا الشرط، فإذا أتى العامل بالعمل و وافق غرض الجاعل استحق العوض المسمّى إذا لم يكن متبرعا بفعله.

(المسألة 19):

تختلف الجعالة باختلاف الملاحظات التي يلاحظها الجاعل للعمل المقصود الذي التزم بدفع العوض عنه، و هي تختلف كذلك باختلاف الأعمال التي يطلبها من العامل في وفائها بالغرض المطلوب، فبعض الأعمال يكون وفاؤها بالغرض بإتمام

العمل نفسه، فإذا قال الجاعل للرجل: إذا تزوجت بفاطمة دفعت إليك نصف صداقها، أو قال للطبيب: إذا عالجت زيدا فأبرأته من مرضه دفعت إليك مبلغ كذا، يكون المدار على إتمام العمل نفسه، فإذا أتمه العامل فتزوج بفاطمة في المثال الأول و ابرأ المريض من مرضه في المثال الثاني استحق العوض.

و إذا قال للكاتب: ان كتبت لي هذا الكتاب فلك عندي عشرون دينارا، أو قال للخياط: إذا خطت لي هذا الثوب فلك على عشرة دنانير، اتبع ظهور كلمة الجعالة فإن علم أو ظهر من الصيغة و لو بسبب القرينة الحافة بالقول ان الأمر المجعول عليه هو أن يتم العامل العمل و يسلّمه كان المدار عليه، فإذا أتم العمل و سلّمه لصاحبه استحق العوض، و ان لم يعلم و لم يظهر منها اعتبار التسليم كان المدار على إتمام العمل وحده، فإذا أتم العمل استحق العوض و ان لم يسلّمه، و لعل الظاهر ان العمل حين يكون متعلقا بعين مملوكة يكون دالا على اعتبار التسليم للعين بعد إتمام

كلمة التقوى، ج 5، ص: 54

العمل فيها، كالجعالة على خياطة الثوب، و على كتابة الكتاب، و نسج الكساء، فيكون المدار على تسليم العين بعد إتمام العمل.

و كذلك إذا قال: من ردّ على سيارتي المفقودة أو عبدي الآبق فله علي كذا من المال، فالمتّبع فيها ظهور كلمة الجاعل، فان علم أو ظهر من الصيغة أنه يريد من الردّ إيصال المفقود الى البلد، أو الى موضع معين اكتفى بذلك، فإذا أوصل العامل المفقود الى الموضع استحق العوض، و ان فقد أو سرق بعد ذلك، و ان دلت القرينة على اعتبار تسليمه الى صاحبه كان المدار عليه، و لعل الظاهر في الأمثلة التي

ذكرناها هو ذلك فلا بدّ فيها من التسليم.

و إذا قال من دلّني على المفقود أو المسروق أو الآبق، فالظاهر أن المراد مجرد الدلالة عليه و اخباره بموضعه، فيستحق العامل العوض بذلك.

(المسألة 20):

إذا أوقع الإنسان صيغة الجعالة، و قام العامل بالعمل المطلوب، و حصل به على الغرض المقصود للجاعل على الوجه الذي تقدم بيانه، استحق العامل العوض من الجاعل، و سقطت بذلك الجعالة فإذا قام عامل أخر بالعمل بعد ذلك لم يستحق على الجاعل عوضا لسقوط الجعالة.

و كذلك إذا عين الجاعل لجعالته وقتا محدودا، فإذا انتهى الوقت سقطت الجعالة، و لا يستحق العامل في عمله بعد ذلك عوضا.

و يستثنى من ذلك: ما إذ أنشأ الجاعل جعالات متعددة بإيقاع واحد، كما سبق بيانه في المسألة الرابعة عشرة، فإذا أتى بعض العمال بالعمل المقصود في بعض هذه الجعالات المتعددة، فسقط ذلك البعض لحصول الغرض المقصود فيه،

كلمة التقوى، ج 5، ص: 55

لم تسقط بذلك بقية الأفراد الأخرى من الجعالة، فيجوز لعامل أخر أن يعمل فيها إذا كان وقتها باقيا، فيحصّل الغرض و يستحق به العوض.

(المسألة 21):

إذا أوقع الرجل الجعالة لعامل خاص، فشاركه غيره في العمل حتى أتماه معا، استحق العامل الخاص الذي عيّنه الجاعل من العوض المسمّى بمقدار عمله و سقط منه ما يقابل عمل الآخر، فان كان الشخص الذي شاركه في العمل واحدا و كان عملهما متساويا، استحق العامل المعيّن نصف العوض، و ان كانا اثنين استحق هو الثلث، و هكذا و ان تفاوتوا في عملهم استحق العامل المعين من العوض بنسبة عمله و لم يستحق شركاؤه الآخرون على عملهم شيئا في جميع الصّور، لا من العوض المسمّى، و لا أجرة المثل، و هذا إذا كان الجاعل قد اشترط على العامل أن يتولى العمل بنفسه بنحو المباشرة.

و إذا كان قد اكتفى منه بأن يحصل العمل بواسطته- و لو بالتسبيب أو الاستنابة منه أو التبرع له- و كان العمّال الآخرون

قد شاركوه بقصد المعونة له أو النيابة عنه، استحق العامل جميع العوض المسمّى له في الجعالة.

(المسألة 22):

إذا أنشئت الجعالة على أن يقوم العامل بجميع العمل و يتمه إلى أخره، و كان في رفع العامل يده عن العمل قبل إكماله ضرر على الجاعل، لم يجز للعامل أن يترك العمل في أثنائه، و يجب عليه أن يتمه إذا كان قد شرع فيه، و يجوز له تركه قبل أن يبدأ به.

و من أمثلة ذلك: أن ينشئ الجاعل الجعالة للطبيب أو الجراح على أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 56

يجري له عملية جراحية في عينه، أو في بعض أجهزته الأخرى، أو في أحد أعضائه، فلا يجوز للطبيب أن يترك العمل بعد أن يبتدئ به، لما في ذلك من الضرر الكبير على المريض، و إذا هو ترك العمل بعد أن ابتدأ به لم يستحق عوضا و لا أجرة مثل لما أتى به من أبعاض العمل و مقدّماته، فإن الجعالة- كما فرضنا- انما وقعت على أن يتم العمل الى نهايته، و إذا كان رجوع العامل أو الطبيب أو الجراح في الأثناء سببا لتلف شي ء، أو حدوث عيب، أو نقص في عضو من أعضاء المريض أو خلل أو تعطيل في جهاز من أجهزته، كان العامل ضامنا له.

(المسألة 23):

إذا قال الجاعل: من ردّ على مالي المفقود دفعت اليه كذا من المال، فرد شخص اليه عين ماله، فإنما يستحق هذا الرّاد على الجاعل العوض، إذا كان في ردّ ذلك المال الى صاحبه كلفة و مؤنة يعد الردّ بسببهما عملا في نظر أهل العرف، كما في ردّ الدابة الضالّة و العبد الآبق و السيارة المفقودة و نحوها، و إذا كان ردّ ذلك المال الى صاحبه لا يحتوي على كلفة، و لا يفتقر إلى مؤنة و جهد، و لم يعدّ في نظر

أهل العرف عملا، فلا يستحق الرادّ عليه عوضا، كما إذا وجد في المكان أو في الطريق محفظة نقوده، فأخذها و ردّها الى صاحبها من غير طلب و لا تعب أو بذل جهد.

و إذا اتفق أن المال المذكور بيد غاصب و سمع بالجعالة على ردّه من مالك المال، فردّه الى الجاعل لم يستحق على ردّه اليه عوضا، و ان كان ردّه اليه يستوجب كلفة و مؤنة، و يعدّ من أجل ذلك عملا في نظر أهل العرف، لأن ردّ المال المغصوب الى مالكه واجب على الغاصب، و يجب عليه أن يتحمّل الكلفة و المؤنة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 57

في ردّه اليه، مهما بلغت.

(المسألة 24):

إذا قال الرجل: من دلني على مالي الذي أضعته فله عندي كذا، و كان المال الضائع بيد شخص، فدلّه ذلك الشخص على ماله استحق عليه العوض المسمّى إذا كانت الدلالة عليه تحتوي على كلفة أو تحتاج إلى مؤنة، كما قلنا في المسألة السابقة، فيستحق العوض على الجاعل إذا لم تكن يده على المال يد غاصبة، و ان كانت دلالة صاحب المال على ماله واجبة على من بيده المال، و ذلك لأنها من الواجبات التي لم يعتبر الشارع فيها أن تقع من المكلف بها بغير عوض من أحد كالعبادات، و كردّ الغاصب المال المغصوب الى صاحبه.

(المسألة 25):

إذا قال الرجل: من خاط لي هذا الثوب دفعت له دينارا، ثم قال بعد ذلك: من خاط لي هذا الثوب دفعت له دينارين، و هو يعنى الثوب الأول نفسه، فان دلت القرينة على أن جعالته الثانية عدول عن الجعالة الأولى و فسخ لها، كان العمل على الثانية سواء كان العوض المجعول فيها أكثر من العوض الذي ذكره في الأولى كما في المثال المتقدم أم أقل منه.

و إذا لم تدل القرينة على شي ء أشكل الحكم في الفرض، فلعلّ الجاعل عدل من الأولى الى الثانية كما تقدم، و لعله نسي جعالته الأولى فأوقع الثانية، و لعله أضاف إلى الجعل الأول جعلا ثانيا، و لا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة بين الجاعل و العامل، إذا أتى بالعمل بعد الجعالتين.

(المسألة 26):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 58

إذا جعل الرجل ثلاث جعالات لثلاثة اشخاص مختلفين على عمل معين واحد، فقال: ان أرجع لي ضالتي زيد دفعت له دينارا واحدا، و ان أرجعها لي عمرو دفعت له دينارين، و ان أرجعها لي خالد دفعت له ثلاثة دنانير، ثم ردّ الضالة عليه أحد هؤلاء الأشخاص، استحق عليه الجعل الخاص الذي عيّنه له، و إذا اشترك الثلاثة جميعا في العمل فردّوا عليه ضالته استحق الأول منهم- و هو زيد- ثلث العوض الذي جعله له و هو الدينار، و استحق الثاني- و هو عمرو- ثلث عوضه المجعول له و هو الديناران، و استحق الثالث- و هو خالد- ثلث عوضه المجعول له و هو الثلاثة دنانير، و هكذا إذا زادوا في العدد فكانوا أربعة فلكل واحد منهم الربع من العوض الخاص المعيّن له، أو كانوا خمسة فللواحد منهم خمس جعله، و هذا إذا كانوا متساوين في

عملهم.

و إذا تفاوتوا في العمل استحق كل واحد بنسبة عمله الى مجموع أعمالهم جميعا، و يأخذ تلك النسبة من جعله المعيّن له، و من أمثلة المسألة أن تحدث مخاصمة في أمر بين إخوة ثلاثة، و يريد الجاعل أن يوقع الصلح بينهم و رفع الشحناء فيقول: ان سبق زيد و هو الأخ الصغير منهم الى مصالحة أخويه فله علي خمسة دنانير، و ان سبق عبد اللّه- و هو الأوسط- فله على عشرة دنانير، و ان سبق أحمد- و هو الكبير- الى مصالحة أخويه فله على خمسة عشر دينارا، فيجري فيهم الحكم المتقدم، فأيهم سبق إلى المصالحة استحق العوض الخاص الذي قرره الجاعل له، و إذا سبقوا جميعا استحق كل واحد منهم ثلث الجعل المحدّد له من الجاعل.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 59

(المسألة 27):

إذا قال الرجل: من رد لي سيارتي المفقودة من كربلاء فله عندي مائة دينار و اتفق للعامل أن وجد السيارة في موضع دون تلك المسافة، فردّها من ذلك الموضع، فقد يعلم أو يظهر من القرائن الموجودة: أن مراد الجاعل أن تردّ السيارة المسروقة إليه من اي مكان اتفق وجودها فيه، و قد جعل العوض لمن ردّها اليه من أي مكان أو مسافة كانت، و انما ذكر كربلاء أو بغداد- مثلا- لأنه يعتقد أو يظن أن السيارة توجد في ذلك البلد، و لا ينبغي الريب أن العامل في هذه الصورة يستحق على الجاعل جميع العوض الذي سمّاه، و لا ينقص منه شي ء بسبب نقص المسافة.

و قد يعلم أو يظهر من القرائن: ان الجاعل قد جعل العوض المعيّن لمن ردّ السيارة من المسافة المذكورة في الجعالة، و ان لأجزاء المسافة قسطا من العوض و إذا قصرت

المسافة نقص العوض، فإذا ردّ العامل السيارة المسروقة من بعض المسافة فإنما يستحق من العوض المسمّى بمقدار عمله و سفره في الطلب و الردّ و لا يستحق الباقي، فإذا ردّها اليه من ربع المسافة دفع اليه ربع الجعل خاصة، و إذا ردّها من ثلث المسافة دفع اليه الثلث.

و قد يعلم أو يظهر من القرائن أن الجعالة مقيّدة لمن ردّ السيارة من كربلاء و لا تشمل من ردّها من غير البلد المذكور، فإذا ردّ العامل السيّارة من بعض المسافة لم يستحق من العوض المسمّى شيئا، و ثبتت له أجرة المثل لما أتى به من العمل و ان لم يعلم و لم يظهر من القرائن شي ء من ذلك، و دار الأمر في ان العامل استحق الأقل أو الأكثر دفع الجاعل إليه الأقل، و الأحوط الرجوع الى المصالحة بينهما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 60

(المسألة 28):

إذا أتى العامل بالعمل و طالب المالك بالعوض عن عمله، و قال له: انك جعلت لي عوضا إذا أنا أتيت لك بهذا الفعل، و أنكر المالك الجعالة، فالقول قول المالك مع يمينه لأنه منكر.

و كذلك إذا قال العامل له: إنك أمرتني بأن أعمل لك و قد فعلت كما أمرتني فانا استحق عليك أجرة المثل لفعلي، و أنكر المالك انه أمره بشي ء، فإذا حلف المالك على نفي ما يقوله العامل لم يستحق العامل عليه شيئا في الصورتين.

(المسألة 29):

إذا ضلت من الرجل دابتان، فردّ العامل عليه إحداهما، و طالبه بالعوض و قال له: انك جعلت لي جعلا إذا أنا رددت إليك هذه الدابة، و أنكر المالك قوله، و قال: اني لم أجعل عوضا على ردّ هذه الدابة، و انما جعلت عوضا على ردّ الدابة الأخرى فالقول قول المالك مع يمينه، فإذا حلف على نفي ما يدعيه العامل لم يستحق منه شيئا.

و كذلك إذا أنكر دعوى العامل و قال: اني لم اجعل عوضا على ردّ هذه الدابة وحدها، و قد جعلت عوضا لمن ردّ الدابتين الضالتين معا، فيقدم قول المالك مع يمينه، فإذا حلف لم يستحق العامل عليه العوض الذي يدعيه، و الأحوط للمالك في هذه الصورة- بعد يمينه و ردّ دعوى العامل- أن يصالحه بقسط من العوض فإنه قد ردّ احدى الدابتين، و هو بعض المجموع و قد اعترف بالجعالة عليه.

(المسألة 30):

إذا اتفق المالك الذي أنشأ الجعالة و العامل الذي أتى بالعمل على وقوع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 61

الجعالة على الإتيان بالعمل المعيّن، ثم اختلفا في مقدار العوض المجعول فيها فادعى أحدهما مقدارا معيّنا، و أنكر الآخر ذلك، فادعى أن المقدار الذي ذكره الأول يزيد على العوض المجعول، فالقول قول من ينكر الزيادة مع يمينه، و منكر الزيادة في الغالب هو المالك الجاعل، فإذا حلف المنكر على نفي الزيادة لم يستحقها العامل، و كان له المقدار الأقل لاتفاق الطرفين على صدور الجعالة، و على أن العامل قد استحق هذا المقدار بعمله.

و إذا وقع الاختلاف بينهما في مضمون أصل الجعالة فقال المالك: انها انما وقعت على المقدار الخاص الذي يدعيه هو، و لم تقع على المقدار الذي يدعيه العامل، و قال العامل: ان

الجعالة صدرت على ما يدعيه هو و لم تصدر بينهما جعالة على المقدار الذي يزعمه الجاعل، كان ذلك من التداعي، فكل واحد منهما مدّع و منكر، و الحكم في مثل ذلك هو التحالف من الجانبين، فإذا حلف كل واحد منهما على نفي ما يقوله الآخر سقطت الدعويان معا و استحق العامل على عمله الذي أتى به أجرة المثل.

و إذا اتفق ان ما يدعيه العامل في أصل دعواه أقل من أجرة المثل التي حكم بها شرعا، لم يجز له ان يأخذ الزيادة من أجرة المثل على ما يدعيه، فإنه يعترف بأنه لا يستحقها، و إذا اتفق أن ما يدعيه الجاعل في أصل دعواه أكثر من أجرة المثل وجب عليه ان يوصل هذه الزيادة إلى العامل، فإنه قد اعترف بأن هذه الزيادة للعامل و قد استحقها بعمله.

(المسألة 31):

إذا رجعت الدابة الضالة مثلا إلى حظيرة المالك الجاعل أو اصطبله، فقال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 62

العامل: اني قد طلبت الدابة و انا الذي رددتها إليك، فانا استحق الجعل المعيّن و أنكر المالك ذلك، و قال له: انك لم تسع، و لم تطلب الضالة، و قد رجعت الدابة بنفسها، أو قال له: ان الدابة قد وقعت في يدك من غير طلب و لا كلفة فلا تستحق على ردّها شيئا، فالقول قول المالك مع يمينه، فإذا حلف لم يستحق العامل شيئا.

(المسألة 32):

إذا أنشئت الجعالة على عوض معين و أتى العامل بالعمل، ثم اختلف المالك و العامل بينهما، فقال أحدهما: ان الجعالة قد وقعت فاسدة و ادّعى الآخر صحتها فالقول قول من يدّعي الصحة فيها، و مثال ذلك: أن يأتي العامل بالعمل، ثم يدّعي فساد الجعالة ليأخذ على عمله أجرة المثل، و هي أكثر من العوض المسمّى له في الجعالة، أو يدّعي المالك فساد الجعالة لتكون للعامل أجرة المثل على عمله و هي أقل من العوض المسمّى، فالقول قول من يدعي الصحة منهما.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 63

الفصل الثالث في التأمين

(المسألة 33):

التأمين اتفاق خاص يقع بين شخص أو أشخاص معيّنين من جهة، و شركة أو مؤسّسة معيّنة كذلك من جهة أخرى، تلتزم الشركة أو المؤسّسة المذكورة بموجب هذا الاتفاق، و تتعهد بأن تعوّض ذلك الشخص، أو الأشخاص المعيّنين عن خسارة يحتمل وقوعها لذلك الشخص أو الأشخاص، الذين اتفقت معهم من تلف أو عطب، أو حدوث نقص أو عيب، أو غير ذلك مما يعدّ خسارة في نفس ذلك الشخص أو الأشخاص أو أبدانهم أو في نفوس آخرين من متعلقيهم، أو في بعض ما يملكه الشخص أو الأشخاص من منزل أو عقار أو أثاث أو معامل أو وسائل نقل حسب ما يتفق عليه الجانبان، و حسب ما تحدده بوليصة التأمين، و تعيّنه الوثيقة من أنواع الخسارة و أسبابها.

فإذا حدثت للجانب المتفق معه تلك الخسارة المحدّدة، فالشركة أو المؤسّسة ملتزمة و متعهدة بدفع العوض عن الخسارة للجانب المتفق معه إذا كان موجودا، و لورثته إذا كان مفقودا.

و في مقابل التزام الشركة أو المؤسّسة له بذلك أن يلتزم الجانب الآخر للمؤسّسة أو الشركة بمبلغ معلوم من المال يدفعه إليها مرة واحدة، أو أقساطا على

مقادير و مواعيد يعينها الطرفان، و يوقعان عليها في الوثيقة التي تكتب بينهما.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 64

و قد كان هذا الاتفاق في بداءة أمره معاملة قانونية خاصة، ثم شاعت و اعتيدت و تعارفت بين الناس و أهل المعرفة منهم، حتى أصبحت معاملة عرفية متعارفة بين الناس خاصتهم و عامتهم، ثم كانت معاملة شرعية فإذا جرى الطرفان في اتفاقهما و التزامها و القيود في المعاملة بينهما، على الموازين الصحيحة في الشريعة، تناولتها الأدلة و العمومات، من الكتاب و السنة و صحت و نفذت، و قد ذكرنا التأمين و بعض أحكامه في مبحث التأمين من رسالتنا في المسائل المستحدثة، فلتراجع.

(المسألة 34):

إذا حدّد طالب التأمين و الشركة أو المؤسّسة المتعهدة به موضوع التأمين الذي يقصدان إيقاعه بينهما، و عينا الشروط و الأقساط و المواعيد لدفعها، أمكن لهما أن يجريا المعاملة بينهما بصورة هبة معوضة، فيقول طالب التأمين للوكيل المفوّض من الشركة المتعهدة: و هبت الشركة مبلغ كذا من مالي أدفعه لها أقساطا محدودة في المواعيد المعيّنة ما بيننا، و اشترطت على الشركة أن تقوم بدفع العوض عن الخسارة أو الخسارات التي قد تحدث لي، و التي قد عيناها ما بيننا في وثيقة الاتفاق، فيقول وكيل الشركة: قبلت الهبة منك بالوكالة عن الشركة على الشرط المذكور.

(المسألة 35):

يصح للمتعاملين في التأمين أن يجريا المعاملة بينهما بصورة المصالحة بعوض، فيقول طالب التأمين لوكيل الشركة أو المؤسّسة المفوض منها، بعد ضبط الشروط و القيود في المعاملة و تعيين الأقساط و المواعيد في دفع المال: صالحتك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 65

بحسب وكالتك عن الشركة بمبلغ كذا من مالي، أدفعه للشركة أقساطا في المواعيد التي اتفقنا عليها، على أن تعوّضني الشركة عن الخسارة التي قد تحدث لي حسب ما حدّدناه بيننا في الوثيقة، فيقول الوكيل: قبلت المصالحة عن الشركة على الشرط المذكور.

و يصح أن يبتدئ الوكيل في المعاملة فيقول لطالب التأمين: صالحتك بأن تتعهد لك الشركة بتعويضك عن الخسارة المعيّنة إذا حدثت لك، على أن تدفع أنت للشركة المبلغ المعلوم ما بيننا من مالك، في اقساطه و مواعيده المعيّنة في الوثيقة فيقول طالب التأمين: قبلت المصالحة منك على الشرط المذكور.

(المسألة 36):

يصح أن تجرى معاملة التأمين بين الجانبين بصورة عقد مستقلّ عن العقود و المعاملات الأخرى، و ليس تابعا لشي ء منها، و يشترط في صحة هذا العقد أن تجتمع فيه جميع الشروط العامة التي يشترطها الشارع في صحة العقود و المعاملات الشرعية الأخرى، فلا بدّ فيه من الإيجاب و القبول التأمين الدالّين على المعنى المراد، و يشترط فيه أن يكون كل من الموجب و القابل فيه بالغا عاقلا رشيدا، غير محجور عليه في تصرّفه لسفه أو غيره من موجبات الحجر، و أن يكون مختارا في فعله غير مكره عليه، و قاصدا لما يقوله و ينشئه، فلا يكون سكران، و لا هازلا، و لا غاضبا غضبا يخرجه عن القصد.

فيقول وكيل الشركة المفوض من قبلها في التصرف لطالب التأمين: أمنت نفسك مثلا أو أمنت دارك و تعهّدت لك

بالوكالة عن الشركة بأن تعوّضك عن الإضرار أو الخسارات المعيّنة في الوثيقة إذا حدثت لك، على أن تؤدي أنت

كلمة التقوى، ج 5، ص: 66

للشركة مبلغا من مالك قدره كذا، تدفعه على الاقساط المعيّنة في أوقاتها المعلومة، وفقا للشروط و التحديدات في وثيقة التأمين، فيقول طالب التأمين: قبلت التأمين لنفسي أو لداري- مثلا- على الشروط المقرّرة و الحدود المبينة.

و يجوز أن يكون الإيجاب من طالب التأمين فيقول للوكيل: أمّنت عند الشركة نفسي أو أمّنت عندها داري مثلا بأن تعوضني الشركة عن الخسارة، أو الضرر الذي قد يحدث لي في ذلك على أن أدفع للشركة المبلغ المعلوم ما بيننا في أقساطه و مواعيده، فيقول الوكيل: قبلت ذلك بوكالتي عن الشركة على النهج المعلوم.

(المسألة 37):

لا يتعين في عقد التأمين أن يقع الإيجاب و القبول فيه بلفظ معيّن، فيكفي في صحة العقد أن ينشأ الإيجاب و القبول فيه بأي لفظ يكون دالا على المعنى المذكور، و ان كان بغير اللغة العربية إذا أدّى اللفظ المعنى المراد في عرف أهل تلك اللغة، و كان الموجب و القابل عارفين بتلك اللغة.

و يكفي أن يقع الإيجاب و القبول بالكتابة، إذا قصد بها إنشاء المعنى و قصد بها إيقاع العقد من كلّ من الموجب و القابل، و يصح أن يكون الإيجاب بالكتابة و القبول بالتلفظ و بالعكس.

(المسألة 38):

إذا تم عقد التأمين على الوجه المطلوب بين الموجب و القابل وجب على كل واحد منهما الوفاء بما يقتضيه العقد من لوازم و واجبات و أثار، فهو من العقود

كلمة التقوى، ج 5، ص: 67

اللازمة و لا يجوز لأحد المتعاقدين فسخه و الرجوع عنه، الا إذا تقايل الطرفان و اتفقا باختيارهما معا على فسخه كما في جميع العقود، و الا إذا كان أحد الجانبين قد اشترط على صاحبه الخيار لنفسه و قبل صاحبه الشرط منه، فيصح الفسخ للمشترط، و لا يصح للآخر، أو كان أحدهما قد شرط على الآخر في ضمن العقد شرطا سائغا، و تخلّف ذلك الشرط فلم يف له الجانب الآخر بشرطه، فيثبت له خيار تخلف الشرط، و من ذلك ما إذا خالف أحد الطرفين ما التزم به لصاحبه في العقد فيثبت لصاحبه خيار تخلف الشرط الضمني، و هو ما جرى عليه العقد بينهما، فان الشرط الضمني كالشرط الصريح في ذلك.

و من موجبات الخيار في هذا العقد ما إذا كان احد المتعاقدين مغبونا في المعاملة غبنا لا يتسامح العقلاء بمثله فيثبت حق الفسخ للمغبون.

و كذلك

الحكم إذا أنشئت المعاملة بين المتعاقدين بصور الهبة المعوضة، أو بصورة الصلح بعوض، فيكون العقد لازما، و لا يجوز فسخه إلا في الصور المذكورة.

(المسألة 39):

يمكن أن تجري معاملة التأمين بين الطرفين بصورة الجعالة، إذا تحقّقت في المعاملة مقومات الجعالة، و منها: أن يقوم العامل للجاعل ببعض الأعمال التي تتعلق بالتأمين الواقع بينهما، ليكون العوض الذي يلتزم به الجاعل في مقابلة ذلك العمل الذي يأتي به العامل.

فإذا كان التأمين على الحياة أو على الصحة، اشترط الجاعل على الشركة المؤمنة أن تضع له مثلا منهاجا للأكل و الشرب، أو تصف له و صفات من العلاجات النافعة ضدّ الأمراض و العوارض التي يجدها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 68

و إذا كان التأمين على حفظ مال جعلت له حراسا و مراقبين ضدّ السرقة و الحوادث التي قد تعرض للمالك.

و إذا كان التأمين على أجهزة آلية أو معامل أو وسائل نقل عينت له عمّالا تكشف على الآلات المؤمنة في بعض الفترات من الزمان، و تصلح منها ما يحتاج إلى الإصلاح، و هكذا، فيكون قيام الشركة بمثل هذه الأعمال جزءا من منهاج التأمين، و يكون اشتراط ذلك بعضا مما تنشأ عليه المعاملة.

فإذا أراد الطرفان إجراء المعاملة على هذا الوجه قال طالب التأمين لوكيل الشركة: إذا تعهدت الشركة لي بالتعويض عما يصيبني من الإضرار و الخسارات في نفسي مثلا أو في صحتي أو في مالي و قامت بوضع المناهج و الأعمال التي اشترطتها عليها، فلها عندي كذا مبلغا من المال ادفعه لها أقساطا، في المواعيد الخاصة المقرّرة بيننا.

(المسألة 40):

إذا وقعت الجعالة بين طالب التأمين و الشركة المتعهدة له وفق ما أوضحناه من الشروط صحت الجعالة و ترتبت عليها أثارها و أحكامها، و قد سبق منّا أن الجعالة من الإيقاعات الجائزة، فيجوز لكل من الطرفين فسخها و ترك الالتزام بها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 69

كتاب العارية

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 71

كتاب العارية و البحث في هذا الكتاب يقع في ثلاثة فصول:

الفصل الأول في العارية و ما يشترط في صحتها

(المسألة الأولى):

العارية هي أن يسلط الإنسان أحدا غيره على عين يملكها، أو هو يملك منفعتها خاصة لينتفع ذلك الغير بتلك العين الذي سلطه عليها مجانا من غير عوض أو هي عقد بين الطرفين يثمر التسليط المذكور، و لا ريب في أن العارية من الأمور الواضحة في معناها عند أهل العرف المعلومة في مصاديقها، و وضوح أمرها في ذلك يغني الباحث عن اطالة القول فيها.

و على أى حال فليس من العارية أن يأذن الرجل لمن يدخل منزله مثلا من الضيوف و الأصدقاء و الأقارب، بان ينتفع هذا الداخل بالأعيان الموجودة في الدار فيجلس على الفرش أو على الأرائك و يستند الى الجدران أو المساند و ينام على الفرش أو يلتحف بالملاحف و نحو ذلك، بل و ليس من العارية عرفا أن يقدم صاحب الدار لبعض ضيوفة أو أصدقائه القادمين اليه بعض الفرش الخاصة و المتكئات و نحوها بقصد التكريم، أو لينام عليها في وقت حاجته الى النوم

كلمة التقوى، ج 5، ص: 72

و الراحة، و أكثر من ذلك وضوحا ما يقدمه الى الضيف أو الصديق أو القريب من المآكل و المشارب، فلا يعدّ ذلك من العارية للانتفاع به في أنظار أهل العرف. و انما هو اباحة له بغير عوض.

نعم، قد يحتاج الضيف أو الصديق في دار الرجل إلى ابدال بعض الملابس أو الأحذية و نحو ذلك، فإذا دفع صاحب الدار اليه ذلك لينتفع به كان من العارية عرفا و ان دفعه اليه بقصد التكريم.

(المسألة الثانية):

العارية عقد من العقود بين المعير صاحب المال و المستعير، فلا بدّ فيها من الإيجاب و القبول كسائر العقود، و يكفي في الإيجاب أن ينشأ بأي لفظ يدل على المعنى الذي بيّناه دلالة

ظاهرة يفهمها أهل اللّسان، و من أمثلة ذلك: أن يقول المالك لصاحبه: أعرتك داري هذه لتسكنها أيام إقامتك في البلد، أو يقول له:

أحمل إلى بيتك هذه المبرّدة أو هذه الثلاجة لتنتفع بها في أيام الصّيف من هذا العام أو يقول له: خذ هذا الكتاب لتقرأه أو هذا الثوب لتلبسه، أو يقول له: انتفع بهذه الأمة لتقوم بخدمتك أيام إقامتك هنا.

و يكفي في القبول كذلك اي لفظ يكون دالا على الرضا بأخذ العين المعارة و الانتفاع بمنافعها، فيقول المستعير للموجب بعد إيجابه: قبلت أو رضيت، أو يقول له: أشكر لك هذا التفضّل، و يكفي فيه أن بأخذ العين المعارة بقصد إنشاء الرضا بالعارية، و يصح إنشاء الإيجاب و القبول كليهما بالمعاطاة من الجانبين فيدفع المالك الى صاحبه الثوب أو الكتاب أو المتاع بقصد إنشاء العارية، و يأخذه القابل منه، و يستعمله في حوائجه بقصد القبول و إنشاء الرضا بها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 73

(المسألة الثالثة):

يشترط في صحة العارية أن يكون المعير بالغا، فلا تصح اعارة الصبي غير البالغ و ان كان مميّزا و اذن له وليه على الأحوط، و ان كان الأقرب صحة إعارته في هذا الفرض، فإذا اذن له وليه بأن يعير صاحبه أو قريبه بعض أمواله المعيّنة، مع وجود المصلحة له بذلك، صحت إعارته إذا كان مميّزا، و أولى من ذلك بالصحة ان ينشئ عقد العارية لمال غيره إذا كان مميّزا، و أذن له مالك المال بإعارة ماله، و اذن له وليه الشرعي بأن ينشئ له صيغة العارية.

و يشترط في صحتها أن يكون المعير عاقلا، فلا تصح اعارة المجنون لما له و لا لمال غيره و ان كان مميّزا، و يشترط في صحتها أن

يكون المعير مختارا، فلا تصح إعارته إذا كان مكرها، و أن يكون قاصدا، فلا تصح من الهازل و السكران و الغاضب إذا فقد القصد، و ان يكون غير محجور عليه، فلا تصح من السفيه و لا المفلّس، و تصح اعارة السفيه إذا أنشأها بإذن وليه، و اعارة المفلّس إذا أذن له الغرماء بإعارة بعض ما تتعلق به حقوقهم.

(المسألة الرابعة):

لا يشترط في صحة العارية أن يكون المعير مالكا للعين و المنفعة كليهما و يكفي في صحتها أن يكون مالكا للمنفعة وحدها، بحيث يكون نافذ التصرف فيها فيمكن له أن يتبرع بها لغيره، و أن يسلّط غيره على العين ليستوفي المنفعة، و مثال ذلك: أن يكون قد استأجر العين من مالكها ليستوفي منفعتها استيفاء مطلقا لنفسه أو لغيره إذا شاء و من أمثلة ذلك: أن يكون المالك قد أوصي له قبل موته بمنفعة العين، و أطلق له في الوصية أن يستوفي المنفعة الموصى بها كيفما يشاء و لو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 74

بالتبرع بها لغيره، فيصح له في أمثال هذه الفروض ان يعير العين لغيره ليستوفي منفعتها المملوكة له و ان لم يملك العين ذات المنفعة.

و لا تصح العارية إذا كان المعير غاصبا للعين، أو كان غاصبا للمنفعة، و ان كان مالكا شرعيا للعين نفسها، و مثال ذلك: أن يؤجر المالك داره من غيره، ثم يغصب المنفعة من المستأجر، و يستولي عليها ظالما.

و لا يصح للمستأجر أن يعير العين المستأجرة لغيره، إذا كان المالك المؤجر قد اشترط عليه في ضمن العقد أن يستوفي منفعة العين بنفسه و لا يتبرع بها لغيره، و مثله الحكم في المنفعة الموصى بها للرجل إذا كان المالك الميت قد اشترط في

الوصية على الموصى له بالمنفعة أن يستوفيها بنفسه و لا يتبرع بها لغيره فلا يجوز له أن يعيرها الى أحد سواه.

(المسألة الخامسة):

يصح لولي الصبي أن يستعير له عارية من أحد إذا كان الصبي قابلا للانتفاع بها، و قادرا على حفظ العين المعارة، و صونها من التلف و العيب، أو كان الولي نفسه أو وكيله هو الذي يقوم بذلك، فيستعير للصبي ثوبا ليلبسه و أدوات منزلية و أثاثا لينتفع به، و مبرّدة أو مدفّئة لتقية الحر أو البرد، بل و يستعير له كتابا للقراءة إذا كان ممن ينتفع بمثل ذلك.

و يجوز لولي المجنون أن يستعير له ما يمكنه الانتفاع به من الأشياء و المراد في الفرضين أن تكون العارية للصبي و للمجنون نفسهما لا للولي المستعير و يصرف المنفعة عليهما، و على أي حال فلا ينبغي الريب في صحة الجميع مع المحافظة على مال الغير.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 75

و لا يصح للصبي أن يستعير لنفسه إلا إذا كان مميّزا و أذن له وليه بذلك، مع وجود المصلحة له بها، و لا تصح استعارة المجنون لنفسه و ان أذن له وليه بالاستعارة، لانه مسلوب العبارة فلا يترب على قوله أثر.

(المسألة السادسة):

يشترط في صحة العارية أن يكون الشخص المستعير أهلا للتسلّط على العين المستعارة و الانتفاع بها في نظر أهل العرف، و في حكم الإسلام، فلا تصح العارية إذا كان آخذها ليس أهلا لذلك، كالعامي القليل المعرفة يستعير بعض الكتب الدقيقة في العلوم و الفلسفات، أو يستعير بعض الأجهزة العلمية التي لا يمكنه استعمالها و الإفادة منها.

و من أمثلة هذه المسألة أن يستعير الكافر مصحفا أو عبدا مملوكا مسلما فلا تصح هذه العارية لأن الكافر ليس أهلا للتسلط على المصحف، و لا على المملوك المسلم و الانتفاع بهما في حكم الإسلام، و من أمثلتها أن يستعير المحرم بالحج

أو بالعمرة صيدا بريا من أحد، فلا تصح استعارته فان المحرم لا يجوز له التصرف و لا الانتفاع بصيد البر في حكم الشريعة ما دام محرما، سواء كان من اعاره الصيد محرما أم محلا.

(المسألة السابعة):

يعتبر في صحة العارية أن يكون الشخص الذي يجري معه عقد العارية معيّنا، فلا تصح إذا أجريت لشخص مردّد بين اثنين أو أكثر، فيقول مالك العين لزيد و عمرو: أعرت داري لأحدكما، أو يقول: أعرت هذه العين لأحد هذين الشخصين، أو لأحد هؤلاء الرجال، فلا تصح عاريته، سواء قبلوا جميعا منه العقد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 76

أم قبله بعضهم أم لم يقبله أحد منهم، و إذا قبل العقد أحدهم فدفع المالك له العين بعد قبوله جاز له أن ينتفع بها، و كان ذلك من الإباحة له بغير عوض، و لم يكن من العارية المصطلحة، لبطلان العقد الذي أنشأه.

(المسألة الثامنة):

تصح اعارة عين واحدة لأكثر من مستعير واحد، و مثال ذلك: أن يقول مالك العين لزيد و عمرو: أعرتكما هذا الكتاب شهرا، أو يقول: أعرت داري المعلومة لزيد و اخوانه يسكنون فيها سنة تامة، أو يقول، أعرت هذه العين لهؤلاء الطلاب العشرة لينتفعوا بها.

فإذا كانت العين المعارة مما يمكن أن يشترك المستعيرون في الانتفاع بها كالدار إذا كانت صالحة لسكنى الجميع، و كالمبرّدة و المدفئة إذا أمكن لهم أن ينتفعوا بها جميعا في وقت واحد، اشتركوا فيها إذا شاؤوا، و إذا لم يمكن الاشتراك في الانتفاع بالعين تناوبوا في الانتفاع بها، أو اقترعوا عليه، أو تراضوا في ما بينهم على الانتفاع كما يشاؤون.

(المسألة التاسعة):

يشترط في صحة العارية أن تكون العين التي يراد إعارتها مما يمكن للمستعير أن ينتفع بها مع بقاء عينها، كالأراضي و المساكن و العقارات و الأثاث و الأمتعة و الآلات و الأواني و الأدوات و الثياب و الأجهزة و الكتب و الحلي و وسائل النقل و الحيوان، و أمثال ذلك مما يندرج في الكبرى التي ذكرناها، و أن يكون الانتفاع الذي يمكن حصوله منها و الذي تقع المعاملة بين الطرفين بقصده انتفاعا محللا في الإسلام.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 77

فلا تصح اعارة العين إذا كانت مما لا يمكن الانتفاع إلا بإتلاف عينها كالطعومات و المشروبات، و كالصّابون مثلا و كالحطب و النفط و الغاز مما لا ينتفع به الا بإشعاله و حرقه و وقده و لا تصح اعارة العين إذا كانت المنفعة التي يمكن استيفاؤها منها غير محللة في الإسلام، و من أمثلة ذلك: آلات اللهو و آلات الحرام و قد فصّلنا ذكر ذلك في المسألة الحادية عشرة من كتاب التجارة، و

من أمثلته أيضا:

أواني الذهب و الفضة على ما هو الأحوط من المنع لزوما عن الانتفاع بها مطلقا و قد ذكرنا هذا في المسألة الرابعة عشرة من الكتاب المذكور.

(المسألة العاشرة):

تجوز اعارة الفحول من الحيوان: الإبل و البقر و الغنم و غيرها من أنواع الحيوان و أصنافه للانتفاع بها في ضراب الإناث منه، و تجوز اعارة الكلاب للانتفاع بها في الصيد و الحراسة في المنزل أو في البستان أو مع الغنم، و تجوز إعارة الهرة لقتل الفار و نحوه.

و تجوز إعارة الشاة و المعزاة و البقرة و الناقة لينتفع المستعير بلبنها و صوفها و وبرها، و تجوز إعارة البئر للاستقاء من مائها، بل و تجوز إعارة النخلة و الشجرة للانتفاع بثمرها، و ان كانت هذه المنافع أعيانا، و كان الانتفاع بها بإذهاب عينها فان العين المستعارة باقية و ان ذهبت المنفعة.

(المسألة 11):

تصح اعارة العبد المملوك أو الجارية المملوكة لينتفع بها المستعير في خدمة و حراسة و نحوهما، و لا تصح إعارة الجارية للانتفاع بها في استمتاع فان الاستمتاع بالأمة لا يجوز للرجل في الإسلام إلا بالزواج بها أو بتملكها ملك يمين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 78

بأحد الأسباب الشرعية المملكة لها، أو بتحليل المالك إياها، و ليس منه أن يعيرها المالك له، أو يؤجرها لهذه الغاية، و لا فرق في الاستمتاع بالأمة بين الوطي و غيره في الحكم المذكور.

و إذا أعار الأمة مالكها للخدمة جاز للمستعير استخدامها كما قلنا، و لم يجز له أن ينظر الى المواضع المحرمة عليه من جسدها، و لا أن يلمسها أو تلمس شيئا من جسده.

و كذلك الحكم في الأعيان المملوكة الأخرى، فإذا كانت للعين منفعة أو منافع محللة في الإسلام، و منفعة أو منافع أخرى محرمة فيه، فيجوز للمالك اعارة العين لينتفع بها المستعير بالمنفعة المحللة و تنفذ هذه العارية و تترتب عليها أثارها، و لا يجوز له أن يعيرها

لأحد للانتفاعات المحرمة.

و إذا هو أعارها لينتفع بها المستعير بجميع منافعها، أو أعارها على نحو الإطلاق، صحت العارية للانتفاع بما يحل من المنافع، و بطلت في ما يحرم.

(المسألة 12):

لا يشترط في صحة العارية أن تكون العين معيّنة في وقت إنشاء صيغة العارية، فإذا طلب الرجل من المالك احدى دوابه ليسافر عليها الى مقصده، فقال له بقصد الإنشاء: أدخل الإصطبل و خذ منه أي دابة تختارها لسفرك، فأخذ واحدة منها بقصد الاستعارة، صحت العارية لتلك الدابة، و كذلك إذا قال المالك ابتداء للرجل: أعرتك إحدى السيارتين لتسافر فيها، فأخذ إحداهما بقصد القبول، أو قال له: أعرتك أحد هذه الثياب لتلبسه، أوخذ احد هذه الملاحف لتلتحف به في أيام

كلمة التقوى، ج 5، ص: 79

البرد، فقال المستعير: قبلت، صحت العارية، و يجوز للمالك أن يعين له بعد إنشاء الصيغة منها ما يشاء، بل يجوز للمستعير أن يختار منها ما يشاء إذا كان اذن المالك عاما لذلك.

(المسألة 13):

إذا كانت العين التي يريد مالكها ان يعيرها للرجل ذات منفعة واحدة بحسب العادة المتعارفة بين الناس، كالبساط و الطنفسة و السجادة، فإن منفعتها المتعارفة بين الناس واحدة و هي الافتراش لها، و كالثوب فان منفعته المعروفة هي اللبس وحده، و كالكساء و الملحف فمنفعتهما هي الالتحاف خاصة، فإذا كانت منفعة العين واحدة كذلك، كفى في صحة العارية أن يقول مالك العين للمستعير: أعرتك هذه العين لتنتفع بها، و لم يجب عليه أن يعيّن له جهة الانتفاع، فإن إطلاق العارية في هذه الموارد ينصرف الى تلك المنفعة الواحدة المتعارفة، و لذلك فيجب على المستعير أن يقتصر على تلك الجهة الواحدة المتعارفة و لا يتعدّاها، فلا يلتحف بالخيمة مثلا، أو يستظل بالبساط أو الطنفسة، أو يتقي بهما من المطر.

و إذا أراد استعارة العين لوجه من الانتفاع بها غير ما هو المتعارف بين الناس فلا بدّ من التعرض لذكر المنفعة التي

يريدها، و مثال ذلك أن يعير المالك البساط أو الطنفسة أو السجادة أو الكساء للرجل لينتفع بالعين، و المستعير يريد من الانتفاع أن يرهنها عند أحد على دين لذلك الشخص عليه، أو ليرسله نموذجا الى نساج لينسج له على طرازه، أو الى خياط ليخيط له على شكله، فعليه أن يذكر المنفعة الخاصة التي يقصدها، فان الانتفاعات المذكورة نادرة لا يحمل اللفظ عليها الا مع القرينة الدالة على الاذن فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 80

(المسألة 14):

إذا كانت العين التي تراد إعارتها ذات منافع عديدة، كالدار مثلا فإنه يمكن لمن يستعيرها أن ينتفع بها مسكنا له و لعياله، و يمكن له أن يتخذها مقرا خاصا لنزول ضيوفه الوافدين اليه، و ان يجعلها مخزنا لبضائعه أو معرضا لها، و أن يصيرها معملا أو موضعا لاستراحة عمّال، و كالأرض الفارغة، فإن المستعير يستطيع أن ينتفع بها مزرعة لخضروات أو حبوب، أو مغرسا لنخيل أو شجره أو ينتفع بها في بناء، و كالدابة يمكن له أن يستخدمها في ركوب و في حمل أمتعة و في حراسة أرض و في السقاية من بئر أو نهر، فإذا كانت العين متعددة المنافع، فقد يريد المعير و المستعير اعارة العين لاستيفاء منفعة مخصوصة منها، أو لمنافع معيّنة من جملة منافعها، و في هذه الصورة لا بدّ لهما من تعيين المنفعة أو المنافع المقصودة و ذكرها في عقد العارية، فيقول المالك للمستعير: أعرتك الدار لتسكنها مثلا، أو أعرتك الأرض لتزرعها، أو أعرتك الدابة لتركبها في تنقلاتك، أو لتسقي الزرع عليها، و إذا عيّنت للعين منفعة أو منافع خاصة لم يجز للمستعير ان يتعدّى ما عيّن له، و ينتفع بسواها.

و قد يقصد المالك أن ينتفع المستعير

بجميع الانتفاعات المتعارفة من العين، و في هذه الصورة يجوز للمالك أن يذكر الانتفاعات كلّها على وجه العموم و الشمول لها جميعا، فيقول للمستعير: أعرتك هذه العين لتنتفع بها بأي منفعة تحتاج إليها، أو تريدها من المنافع المحللة المتعارفة جميعا.

و يصح له أن ينشئ صيغة العارية مطلقة غير مقيدة: فيقول للمستعير

كلمة التقوى، ج 5، ص: 81

أعرتك هذه العين، أو يقول له: أعرتك العين لتنتفع بها، و في كلا الفرضين يباح للمستعير ان ينتفع بالعين في أي وجه يحصل له من وجوه المنافع المتعارفة لها.

(المسألة 15):

من المنافع التي قد تحصل من العين المستعارة ما يكون خفيا غير متعارف و لا معتاد بين الناس، و هو من أجل هذا الخفاء فيه لا يندرج في العموم الذي يذكره مالك العين عند اباحة جميع منافعها للمستعير، إلا إذا كان العام صريحا تام الصراحة في شموله لذلك الفرد، و لا يشمله إطلاق الصيغة حين يأتي بها مطلقة غير مقيدة، أو يشك في شمول العموم أو الإطلاق له من أجل خفائه، و لذلك فلا يجوز للمستعير أن ينتفع بمثل هذه المنفعة الخفية من العين، اعتمادا على العموم أو الإطلاق الذي يذكره مالك العين، و ان كانت من جملة منافع العين بلا ريب.

و من هذه المنافع الخفية: دفن الميت في الأرض المستعارة و مواراته فيها فإنه من بعض منافعها كالزرع فيها و الغرس و البناء، و لا يشمله الإطلاق و العموم كما ذكرناه و من المنافع الخفية: أن يرهن المستعير العين التي استعارها عند احد على دين له في ذمته، فإذا أراد المالك أن يبيح للمستعير مثل هذه الانتفاعات الخفية من العين فلا بدّ له من ذكره، و النص عليه بالخصوص،

و لا يكتفي بالعموم أو الإطلاق.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 82

الفصل الثاني في بعض أحكام العارية

(المسألة 16):

العارية عقد يتقوم بالاذن من مالك العين في أول حدوث العقد، و في استمراره و بقائه بين الطرفين، و لذلك فإذا زال اذن المالك للمستعير بالتصرف و الانتفاع بالعين زالت العارية و انفسخ عقدها، و ثمرة هذا العقد- كما ذكرنا في أول الكتاب- هي أن يتسلّط المستعير على العين المستعارة، و أن يباح له الانتفاع بمنافعها التي حدّدها له المالك.

و المعنى الواضح لذلك: أن العارية عقد جائز من جهة مالك العين، فيجوز له أن يرجع عن اذنه للمستعير في أي وقت يشاء، فيزول بذلك العقد ما بينهما، و أن العارية جائزة من جهة المستعير أيضا، فيباح له أن يدع العين المستعارة، و يترك الانتفاع بها في أي وقت يشاء فيرتفع العقد بذلك.

و هذا إذا لم يحدث في العين- و هي في يد المستعير- ما يمنع المالك من الرجوع عن اذنه، كما في بعض الفروض الآتي ذكرها، فإذا حدث مثل ذلك المانع لم يجز للمالك أن يرجع عن أذنه للمستعير، و يكون عقد العارية باقيا ما دام ذلك المانع موجودا، و ليس معنى ذلك ان العارية أصبحت لازمة بسبب عروض هذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 83

المانع بعد ان كانت جائزة قبل وجوده، بل هي لا تزال على حكمها من الجواز و عدم اللزوم، فإذا اتفق زوال المانع كان للمالك الرجوع فيها.

(المسألة 17):

يجوز لمالك الأرض أن يعير أرضه لأحد ليدفن فيها ميتا، و قد أشرنا الى هذا الفرض في المسألة الخامسة عشرة، فإذا هو أعار الأرض لهذه الغاية، و دفن المستعير فيها ميتا في الإسلام تعلق للميت حق شرعي بموضع دفنه من الأرض حرم نبشه و إخراجه من الأرض على الأحوط، ان لم يمكن تحريم ذلك

هو الأقوى و لذلك فيكون الأحوط لزوما لمالك الأرض إذا أعارها لهذه الغاية أن لا يرجع في اذنه و إعارته للأرض بعد مواراة الميت المسلم فيها، نعم، يجوز له الرجوع عن اذنه قبل ان يدفن الميت، و ان حفر القبر في الأرض، و يجوز له الرجوع كذلك إذا نبش أحد قبر الميت بعد دفنه في الأرض، و أخرجه منه، فلا يجوز دفنه فيها ثانيا إلا بإذن من المالك.

و إذا أعار المالك الأرض لهذه الغاية و حفر القبر فيها و وضع الميت في القبر، فهل يجوز للمالك ان يرجع عن اذنه و يفسح العارية و يمنع الدفن قبل ان يوارى الميت في القبر؟. فيه إشكال.

(المسألة 18):

يصح للمالك أن يعير أرضه الفارغة لأحد ليغرس المستعير لنفسه في الأرض شجرا أو نخيلا ينتفع بها، أو ليبني له بناء يسكنه، و لا ريب في جواز رجوع المالك في عاريته للأرض قبل أن يغرس المستعير فيها غرسا أو يبني فيها شيئا و إذا رجع المالك بها قبل الغرس أو البناء يجوز للمستعير أن ينتفع بها بعد رجوعه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 84

و الظاهر جواز رجوع المالك في العارية أيضا بعد أن يغرس المستعير في الأرض غرسه، أو يبني فيها بناءه، و إذا رجع المالك بعارية الأرض في هذه الصورة و فسخها، فهل يجوز له أن يلزم المستعير بأن يقلع ما غرسه في الأرض و يزيل ما بناه فيها، من غير أرش يلزم المالك لذلك؟ أو يحق له أن يلزم المستعير بإزالة غرسه و بنائه من الأرض، و عليه أن يدفع المستعير أرش ما يزيله من ذلك؟ أو لا يحقّ له أن يلزمه بشي ء من ذلك، و خصوصا إذا بذل المستعير

له أجرة المثل لأرضه، ليبقي الغرس و البناء فيها؟ يشكل الحكم بشي ء من ذلك، و لا يترك الاحتياط بالتراضي و المصالحة بينهما.

و كذلك الحال إذا أعار المالك أرضه للزراعة فزرع المستعير فيها، ثم رجع المالك بعاريته قبل أن يدرك الزرع و يبلغ أوانه، فيجري فيها الاشكال و الاحتياط الذي ذكرناه.

(المسألة 19):

إذا أعار مالك الأرض أرضه لينتفع بها المستعير بالغرس و البناء، فزرع فيها نخيلا أو شجرا أو بنى فيها بناء، فالشجر و النخيل و البناء الذي أحدثه في الأرض ملك له، فيجوز له أن يبيعه على صاحب الأرض فيكون الجميع ملكا له، و يجوز لمالك الأرض أن يبيع أرضه على المستعير، فيصبح الجميع ملكا له، و يجوز للمستعير أن يبيع ما غرسه و ما بناه في الأرض على شخص ثالث، إذا أذن له مالك الأرض بذلك، فإذا أذن له المالك فباع الغرس و البناء على غيره كان المشتري بمنزلة المستعير و قام مقامه، فإذا رجع المالك باذنه و فسخ العارية جرت الاحكام التي ذكرناها للمستعير على المشتري، و قد بيّناها في المسألة السابعة فلتلاحظ.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 85

(المسألة 20):

قد يستعير الرجل عينا أو أعيانا متعدّدة من مالكها ليجعلها المستعير رهنا عند أحد على دين لذلك الشخص في ذمته، و قد ذكرنا هذا في المسألة الثالثة عشرة و المسألة الخامسة عشرة، و لا ريب في صحة العارية لذلك، و في صحة الرهن بعد أن اذن له المالك بهذا الانتفاع.

و يجوز لمالك العين أن يطالب المستعير بأن يفك رهانة العين عند انتهاء مدة الدين الذي عليه و حلول وقت وفائه، و ذهب بعض الفقهاء الى جواز مطالبته بفكّ رهانة العين قبل حلول وقت الدين، و على أي حال فلا يبطل رهن العين المستعارة بانتهاء المدة، و لا بمطالبة مالك العين بفكّ رهانتها.

(المسألة 21):

إذا حلّ وقت دين الدائن الذي يملكه في ذمة المستعير، و لم يفكّ المستعير رهانة العين و لم يف بالدين، جاز بيع العين المرهونة و وفاء الدين بثمنها، و إذا بيعت العين كذلك كان المستعير ضامنا لمالك العين، فإذا اختلف ثمنها الذي بيعت به عن قيمة مثلها في السّوق كان المستعير ضامنا لمالك العين أكثر الأمرين منهما.

(المسألة 22):

يجوز لمالك العين المستعارة أن يوقع عاريته مطلقة غير محدودة الوقت فيقول للمستعير: أعرتك هذه الدار لتسكن فيها، أو أعترك هذا البستان لتأكل ثمره فإذا أنشأ الصيغة مطلقة كذلك جاز للمستعير أن ينتفع بالعين مطلقا، فيسكن الدار و يأكل ثمر البستان حتى يموت المالك أو يرجع عن اذنه في الانتفاع و يفسخ العارية، و يجوز للمالك أن يجعل عاريته مقيدة في مدة معيّنة، فيقول للمستعير

كلمة التقوى، ج 5، ص: 86

أعرتك هذه العين تنتفع بها شهرا أو سنة كاملة، و إذا قيد المالك عاريته كذلك فلا يباح للمستعير أن ينتفع بالعين بعد انقضاء المدة، لارتفاع الاذن و انفساخ العارية.

(المسألة 23):

العارية كما قلنا أكثر من مرة معاملة تتقوم في حدوثها و في بقائها بإذن المالك المستعير في التصرف في العين، و تسليطه عليها و على الانتفاع بمنفعتها و من النتائج الواضحة لذلك: أن تبطل العارية و ينفسخ عقدها بموت مالك العين فلا يحل للمستعير بعد موت المالك أن يتسلط على العين المستعارة و ينتفع بها و ان كان المالك قد أطلق العارية و لم يجعل لها أمدا و وقتا محددا أو جعل لها مدة طويلة بل و حتى إذا أجاز له بالقول الصريح في الصيغة أن ينتفع بالعين بعد موته فقال له: أعرتك هذه الدار لتسكن فيها حتى إذا متّ قلبك، الا ان يرجع ذلك الى الوصية له بسكنى الدار و الانتفاع بها بعد الموت، فإذا علم بذلك، أو دلّت القرائن الحافة على ارادته صحت الوصية و لزم العمل بها و كان ذلك من الوصية بالمنفعة له لا من العارية بعد الموت.

و تبطل العارية كذلك إذا زالت سلطنة المالك عن العين، و مثال ذلك: أن يبيع

المالك العين التي أعارها أو ينقلها الى ملك مالك أخر بهبة أو صلح أو غيرهما من العقود أو الإيقاعات المملكة، أو يزول سلطانه على العين بعروض جنون و نحوه، فتبطل العارية بذلك.

و تبطل العارية بموت الشخص المستعير، فلا تنتقل الى وارثه من بعده، و لا يجوز للوارث الانتفاع بها إلا إذا اذن له مالك العين.

(المسألة 24):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 87

إذا حدّد مالك العين للمستعير نوعا خاصا من أنواع المنفعة أو صنفا من أصنافها، أو وجها من وجوهها، أو قيد انتفاعه بقيد من الزمان أو المكان أو غيرهما وجب على المستعير أن يتقيّد بذلك الحدّ أو القيد و يلتزم به و لا يتعدّاه، فإذا قال له مثلا: أعرتك الدار لتسكن فيها أنت و زوجتك فاطمة، لم يجز له أن يسكن فيها زوجته الثانية، و إذا أعاره السيارة ليسافر بها الى كربلاء لم يجز له أن يسافر بها الى الحلة، أو الى بلد أخر، و ان كان ما انتفع به أدنى مسافة و أقل ضررا، و إذا أعاره السيارة ليسافر بها نهارا لم يجز له السفر بها ليلا، و بالعكس.

و يجب على المستعير أن يقتصر في انتفاعه بالعين المستعارة على ما جرت به العادة المتعارفة بين الناس لمثل تلك العين، فلا يحمل على الحيوان المستعار أكثر مما يعتاد حمله لمثله، و لا يحمل في السيارة غير ما يصلح لحمولته من الأشياء و لا أكثر منه، و لا يسكن في المنزل أكثر مما يعتاد للسكنى فيه و لا غير ما يصلح له.

(المسألة 25):

إذا تعدى المستعير ما حدّده له مالك العين من الانتفاع و ما ذكره في المعاملة من قيود كان غاصبا اثما في تصرفه، و ضامنا لما استوفى، فإذا هو استوفى منفعة أخرى غير ما عين له مالك العين ضمن له أجرة المثل للمنفعة التي استوفاها، و إذا زاد في الحمل أو في المسافة أو في كيفية الاستيفاء للمنفعة عن المقدار المتعارف منها وجب عليه أن يدفع لمالك العين أجرة المثل لتلك الزيادة التي زادها.

(المسألة 26):

إذا أعار المالك أحدا أرضه للغرس أو للبناء أو للزرع فيها، جاز للمستعير

كلمة التقوى، ج 5، ص: 88

أن يدخل الأرض ليتصرف و يعمل و ينتفع بالأرض حسب ما أباح له المالك، و جاز ان يدخل الأرض معه من يحتاج المستعير الى مساعدته في عمله من الحرّاث و العملة و أشباههم، فانّ اذن المالك يشمل هؤلاء عرفا و يشمل الأجراء الذين يحتاج إليهم عادة في جمع حاصل الزرع و الغرس و نقله و أمثال هؤلاء، الا أن يكون مالك الأرض قد اشترط عليه غير ذلك فيتبع شرطه.

(المسألة 27):

إذا قبض المستعير العين المستعارة بإذن مالكها لينتفع بها أصبحت أمانة من المالك بيده، فإذا اتفق أن تلفت العين أو سرقت أو نقصت أو حدث فيها عيب، من غير تعد من المستعير في الاستيلاء عليها و لا في الانتفاع بها، و لا تفريط في المحافظة عليها و رعايتها، فلا ضمان عليه لشي ء مما حدث، إلا إذا كان المالك قد شرط عليه في عقد العارية أن يكون ضامنا عند التلف أو النقص أو التعيب في العين، أو كان المستعير قد اشترط ذلك على نفسه، فإذا شرط ذلك أحدهما في ضمن العقد و جرى عليه الإيجاب و القبول كان المستعير ضامنا لما يحدث في العين، و ان لم يحصل منه تعد و لا تفريط.

(المسألة 28):

إذا كانت العين التي استعارها الرجل من مالكها ذهبا أو فضة ثم تلفت أو سرقت أو نقصت أو حدث فيها عيب، فالمستعير لها ضامن لما حدث فيها من ذلك، سواء شرط عليه الضمان في عقد العارية أم لم يشترط عليه ذلك.

و يستثنى من هذا الحكم ما إذا شرط في العقد أن لا يكون المستعير ضامنا لما يحدث من ذلك فيتبع الشرط، و لا فرق في الأحكام المذكورة في هذه المسألة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 89

بين أن تكون العين المستعارة من الذهب أو الفضة المسكوكين و غير المسكوكين.

(المسألة 29):

إذا أخذ المستعير العين من مالكها و انتفع بها حسب ما أباح له المالك، و كان استخدامه للعين و انتفاعه بها بالمقدار المتعارف المأذون فيه من غير تعد و لا تفريط، و اتفق أن حدث في العين نقص أو عيب بسبب هذا الانتفاع المأذون فيه، فلا ضمان على المستعير لما حدث في العين من النقص أو العيب، و مثال ذلك: أن يعير خالد عليا دابته أو سيارته ليحمل فيها بعض الأمتعة و الأثاث، فإذا حمل المستعير فيها ما يعتاد حمله و لم يزد على ذلك فأصاب الدابة أو السيارة بسبب ذلك نقص أو عيب فلا ضمان عليه بذلك، بل و لا ضمان عليه إذا تلفت بسبب ذلك من غير تعد منه و لا تفريط.

(المسألة 30):

إذا أصاب العين المستعارة نقص أو عيب غير مضمون على المستعير كما في الفرض المذكور في المسألة السابقة، ثم تلفت بعد ذلك في يد المستعير على وجه مضمون، كما إذا تعدّى المستعير على العين أو فرّط في حفظها بعد أن حدث فيها العيب في المثال المتقدم، و تلفت العين في يده بعد ذلك، كان ضامنا للمالك قيمة العين يوم تلفت و هي ناقصة أو معيبة، و لا يضمن التفاوت بين قيمتها تامة و ناقصة، أو التفاوت بين قيمتها صحيحة و معيبة.

(المسألة 31):

المستعير انما هو منتفع بالعين المستعارة و ليس مالكا لمنفعتها، و لذلك فلا يصح له أن يعير عين التي بيده لشخص أخر، أو يؤجرها عليه، الّا إذا اذن له مالك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 90

العين بأن يعيرها لأحد أو يؤجرها عليه، و إذا اذن له المالك بإعارة العين أو بإجارتها على غيره أصبح وكيلا عن المالك في إجراء العارية أو الإجارة مع الشخص الآخر فإذا هو أوقع العقد معه صحت عاريته أو إجارته للشخص بالوكالة عن مالك العين و كانت المعاملة للمالك لا للمستعير نفسه، و كانت هذه المعاملة الثانية التي أجراها بالوكالة فاسخة لعارية المستعير نفسه من المالك، فلا يجوز له الانتفاع بالعين بعدها، و يستثنى من ذلك ما إذا أوقع العارية الثانية على نحو التشريك في الانتفاع بالعين بينه و بين المستعير الثاني، و كان إيقاعه لهذه العارية الثانية بإذن المالك و بالوكالة عنه، فيجوز لكل منهما الانتفاع بها.

(المسألة 32):

إذا كانت العارية موقتة بمدة معينة، و انقضت المدة المحدودة لها أو فسخ المالك عقد العارية أو فسخه المستعير، لم يجز للمستعير أن يتسلط بعد ذلك على العين، و لم يحل له أن ينتفع بشي ء من منافعها، و وجب عليه ان يرد العين الى مالكها، أو الى وكيله المفوض في قبضها، أو الى ولي أمره إذا كان المالك قاصرا أو محجورا عليه، و لا يبرأ المستعير من عهدة العين بغير ذلك، فلا يكفيه لبراءة ذمته أن يفرغ الدار المستعارة، و يخرج منها ما لم يتسلمها المالك أو من ينوب عنه، و لا يكفيه أن يدخل السيارة التي استعارها الى الموضع الذي أخذها منه، و الذي أعده مالكها لحفظها، أو يرد الدابة إلى الإصطبل

و يربطها فيه، فإذا تلفت العين أو سرقت أو حدث فيها عيب أو نقص قبل أن يسلمها الى مالكها أو الى نائبه كان المستعير ضامنا لها و لما حدث فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 91

الفصل الثالث في أحكام أخرى للعارية

(المسألة 33):

يجوز للرجلين أن يعير كل واحد منهما صاحبه بعض الأعيان التي يملكها لينتفع صاحبه بالعين مطلقا أو في مدة معلومة على أن تكون كلّ واحدة من المعاملتين بينهما عارية مستقلة بنفسها فلا تكون احدى العينين عوضا عن الأخرى، و لا شرطا في إعارتها، و مثال ذلك أن يعير زيد عمرا داره التي يملكها في النجف ليسكنها عمرو ثم يعير عمرو زيدا داره في الكوفة ليسكنها زيد، و تكون كل واحدة من العاريتين كما قلنا معاملة بانفرادها، و لا معاوضة بينهما و لا مشارطة.

و إذا أراد المالكان أن تكون احدى العينين عوضا عن العين الأخرى أو تكون احدى العاريتين شرطا في عارية الثانية، فلا يترك الاحتياط في أن تجرى المعاملة ما بينهما بصورة الصلح بعوض، فيصالح زيد عمرا عن سكنى داره في الكوفة بسكنى دار زيد في النجف، أو تكون المعاوضة و الاشتراط بين المصالحتين، لا أن يكون التعويض في العارية أو بين العاريتين، فان في صحة ذلك اشكالا، بل منعا على القول المشهور.

(المسألة 34):

إذا كانت في يد الرّجل عين قد غصبها من مالكها، فأعارها أحدا لينتفع بها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 92

و كان المستعير يعلم بأنها مغصوبة و ليست مملوكة للمعير لم يجز له أخذ العين و لا الانتفاع بشي ء من منافعها، فإذا هو تسلط على العين، و وضع يده عليها كان غاصبا اثما و ضامنا للعين و لمنافعها.

و يجوز للمالك الحقيقي للعين أن يستردها إذا كانت موجودة، و أن يأخذ بدلها إذا كانت تالفة، فيأخذ مثلها إذا كانت مثلية، و قيمتها إذا كانت قيمية، و يتخير شرعا بين أن يرجع في ذلك على الغاصب الأول و هو المعير فيأخذه منه، و ان يرجع

فيه على الغاصب الثاني و هو المستعير، و يجوز له أيضا ان يأخذ قيمة جميع المنافع التي استوفيت من العين في أيام غصبها منه، و جميع منافعها التي فاتت عليه، و ان لم يستوفها أحد، و يتخير في أن يغرم ذلك اي الغاصبين شاء.

فإذا أخذ المالك الشرعي هذه الغرامات من الغاصب الثاني المستعير، و كان تلف العين و هي في يده، لم يرجع المستعير على الغاصب الأول الذي أعاره بقيمة العين التالفة و لا بأجرة المنافع التي استوفاها المستعير بسبب العارية، و لا بأجرة المنافع التي فاتت على المالك في حال تسلّط المستعير على العين، و ان لم يستوف هذه المنافع.

نعم، يحق للمستعير أن يرجع الغاصب الذي اعاره بما غرمه المستعير للمالك من اجرة المنافع التي استوفاها الغاصب المعير من العين قبل العارية، و أجرة.

المنافع الأخرى التي فاتت على مالك العين في ذلك الوقت و ان لم يستوفها أحد فإذا كان المالك قد رجع بهذه الغرامات على المستعير و أخذها منه جاز للمستعير أن يأخذها من الغاصب المعير.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 93

و إذا رجع المالك الشرعي بالغرامات كلها على الغاصب الأول المعير، جاز لهذا أن يرجع على المستعير بما غرمه للمالك من قيمة العين إذا كان تلفها في يد المستعير، و ان يرجع عليه أيضا بأجرة المنافع التي استوفاها المستعير من العين في أيام استعارته لها، بل و أجرة المنافع التي فاتت و لم يستوفها أحد في تلك الأيام، فإن هذه المنافع قد تلفت في يده فيكون ضمانها عليه.

و لا يرجع الغاصب المعير على المستعير بقيمة العين إذا كان تلفها في يد الغاصب المعير نفسه و لا بقيمة المنافع التي استوفاها هو قبل العارية

أو بعدها، و لا بقيمة المنافع التي فاتت و لم يستوفها أحد في تلك الأيام.

(المسألة 35):

إذا أعار الغاصب العين المغصوبة أحدا، و كان المستعير لا يعلم بأن العين مغصوبة من مالكها الشرعي لم يأثم المستعير بتسلطه على العين و انتفاعه بمنافعها، و جاز لمالك العين ان يرجع بقيمة عينه المغصوبة إذا تلفت، و بمنافعها المستوفاة و الفائتة منه غير المستوفاة كما فصلناه في المسألة المتقدمة و في كتاب الغصب، و يتخير في ما يستحقه من ذلك، بين أن يرجع فيه على الغاصب الذي أعار العين، و ان يرجع فيه على المستعير، و ان لم يكن غاصبا بوضع يده على العين و لا اثما لجهله، فإذا أخذ ذلك من الغاصب المعير، لم يرجع الغاصب على المستعير بشي ء مما غرمه للمالك، و ان كان تلف العين في يده، و إذا رجع به على المستعير و أخذه منه، جاز له أن يرجع بما غرمه على الغاصب الذي إعارة العين، و يأخذه منه لأنه قد غره.

(المسألة 36):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 94

إذا علم المستعير بأن العين التي أعارها له المعير مغصوبة من مالكها الحقيقي وجب عليه أن يرد العين الى مالكها المغصوبة منه، إذا كانت العين لا تزال باقية في يده، و ان كان جاهلا بالغصب في وقت العارية، و لم يعلم به الا بعد انقضاء المدة، و لا يجوز له ان يردها الى الغاصب الذي اعاره إياها، و لا تبرأ ذمته من عهدة العين إذا دفعها إليه.

(المسألة 37):

إذا أنشئت العارية بين مالك العين و المستعير على الوجه المطلوب، و قبض المستعير العين كانت العين أمانة بيده، و قد ذكرنا هذا من قبل، فإذا طلب المالك من المستعير أن يرد اليه عينه المستعارة فأنكرها المستعير، أو أنكر العارية كان خائنا و بطلت أمانته، فإذا تلفت العين بعد ذلك في يده، أو سرقت، أو طرأ عليها نقص أو عيب كان ضامنا لما حدث، و لم يترتب عليه حكم الأمين.

(المسألة 38):

إذا استعار الرجل دابة أو سيارة ليسافر بها الى موضع معين، فتجاوز ذلك الموضع في سفره بها كان متعديا، فيلزمه ضمان العين المستعارة إذا تلفت أو عابت بذلك و يلزمه دفع اجرة المثل لمالكها لما زاد من المسافة على الموضع المعين، و لا يزول عنه هذا الضمان إذا رجع بالدابة أو السيارة إلى الموضع المعين المأذون فيه و لا تلزمه أجرة المثل للسفر بها الى الموضع المعين المأذون فيه قبل التعدي.

(المسألة 39):

إذا طلب مالك العين من المستعير أن يرد اليه العين، فادعى المستعير أن العين قد تلفت أو سرقت صدّق قوله مع يمينه، و لم يثبت عليه ضمان، لأنه أمين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 95

ما لم تثبت خيانته أو تعديه أو تفريطه في الأمانة ببينة شرعية، كذلك إذا تلفت العين في يده فادعى مالك العين أنه قد فرّط في حفظ أمانته، أو أنه تعدّى ما حدّد له في عقد العارية، و انه ضامن لتلف العين بسبب تعدّيه أو تفريطه و أنكر المستعير ما ادعاه المالك، فالقول قول المستعير مع اليمين.

(المسألة 40):

إذا انقضت مدة العارية أو فسخ مالك العين عقدها أو فسخها المستعير فطلب المالك منه أن يرد اليه العين، و ادعى المستعير انّه قد ردّها اليه، و أنكر المالك الرّد قدّم قول المالك مع يمينه لأنه منكر، فإذا حلف ألزم الحاكم المستعير بردها الى مالكها، فإذا تعذر وجودها ألزمه برد مثلها إذا كانت مثلية، و قيمتها إذا كانت قيمية.

(المسألة 41):

إذا شرط مالك العين على المستعير في ضمن العقد أن يكون ضامنا للعين، أو شرط المستعير ذلك على نفسه صحّ الشرط، قد ذكرنا هذا في المسألة السابعة و العشرين، و اتبع في الضمان عموم الشرط و خصوصه.

فقد يشترط عليه أن يكون ضامنا للعين متى تلفت أو سرقت أو حدث فيها نقص أو عيب، فيحكم بضمان المستعير إذا حدث على العين شي ء من ذلك و ان لم يتعد و لم يفرّط في الامانة. و قد يشترط عليه الضمان إذا تلفت العين كلّها، و لا يشترط الضمان عليه إذا نقصت أو حدث فيها عيب، فيثبت الضمان عليه عند تلف الجميع خاصة، حسب ما اشترط، و لا يضمن إذا طرأ عليها نقص أو عيب، و قد أشرنا الى هذا في بعض المسائل المتقدمة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 97

كتاب الوديعة

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 98

كتاب الوديعة و تفصيل القول في هذا الكتاب يكون في أربعة فصول:

________________________________________

بصرى بحرانى، زين الدين، محمد امين، كلمة التقوى، 7 جلد، سيد جواد وداعى، قم - ايران، سوم، 1413 ه ق

كلمة التقوى؛ ج 5، ص: 98

الفصل الأول في الوديعة و ما يعتبر فيها

(المسألة الأولى):

الوديعة هي أن يأتمن الإنسان أحدا على شي ء ليحفظه له، و الغالب المعروف بين الناس في استعمال هذه الكلمة: أن يراد بها عند إطلاقها الائتمان على الأموال لحفظها، و قد تستعمل في الائتمان على أمور أخرى تكون عزيزة على الإنسان ليطمئن على حفظها و سلامتها، فيستودع الرجل من يثق به و بقدرته و كفاءته عرضه و أولاده الصغار الذين يخشى عليهم عادية الدهر، و يستودعه كتبه و نفائسه و الأمور الأخرى التي تعز عليه، و يحذر من طروء الحوادث عليها و يأتمن ذلك الثقة عليها ليتولى له حفظها.

و كثيرا ما تطلق كلمة الوديعة على المال أو الشي ء المستودع عند الأمين فيقول له هذا المال وديعتي عندك، أو يقول له: طفلي أو كتابي هذا وديعة بيدك تحفظه لي حتى ارجع من غيبتي، و هذا كلّه في المجال اللغوي للكلمة.

و تختص الوديعة المبحوث عنها في هذا الكتاب عند الفقهاء بوديعة المال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 99

و حتى إذا عمّ البحث في الكتاب لبعض الأشياء الخاصة، كما إذا ائتمن الرجل غيره على أثر يختص به من مؤلّف له أو مخترع يعتز به اعتزازا معنويا، أو على عقد نفيس له ميزة معنوية عند بعض الخاصة أو ما يشبه هذه الأمور، فالمقصود في البحث عنه عند الفقهاء هو الجهة المالية التي تكون للشي ء الذي استودعه إياه، من حيث وجوب الحفظ، و وجوب أدائه عند الطلب، و من حيث

الضمان عند حدوث ما يوجب الضمان، و تكون المميزات المعنوية التي يتصف بها ذلك الأثر المستودع موجبة لزيادة قيمته المالية عند الراغبين فيه.

(المسألة الثانية):

الوديعة كما قلنا: هي أن يأتمن الإنسان شخصا غيره على مال ليحفظه له، أو هي عقد يقع بين صاحب المال و الأمين تكون فائدته الائتمان المذكور على المال و لذلك فلا بدّ فيه من الإيجاب و القبول، و يكفي في إيجاب عقد الوديعة كل لفظ يكون دالا على الائتمان أو الاستيداع، فيقول صاحب المال للشخص الذي يأتمنه:

أودعتك هذا المال أو هذا الشي ء لتحفظه عندك، أو يقول له: ائتمنتك عليه لتحفظه لي أو يقول: استودعتك المال أو استودعته عندك، أو استودعته لديك، أو يقول له:

هذا المال وديعة عندك أو: وديعة لديك أو يقول: احفظ لي هذا الشي ء، أو ما أدى هذا المعنى من الألفاظ، و كان ظاهر الدلالة عليه، و لو بمعونة القرينة الموجودة من حال أو مقال، و يكفي في القبول أيضا أي قول يدل على الرضا بالائتمان، فيقول المؤتمن: قبلت الوديعة أو الأمانة منك، أو رضيت بها.

و يصح أن يقع عقد الوديعة بغير اللغة العربية من اللغات الأخرى للعارفين بها، و يصح أن ينشأ عقدها بالأفعال الدالة على المقصود، فيدفع المالك ماله الى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 100

الشخص بقصد إنشاء الوديعة عنده، و يتسلم المؤتمن المال المدفوع اليه بقصد إنشاء الرضا بها، و يجوز أن ينشأ الإيجاب بالقول و يقع القبول بالفعل، فيقول صاحب المال في إيجابه: أو دعتك هذا الشي ء لتحفظه، و يأخذ المؤتمن الشي ء منه و يضعه في صندوقه بقصد القبول، و يصح أن يقدم القبول على الإيجاب فيقول الأمين لصاحب المال: ادفع لي هذا المال احفظه لك

و يقول المالك بعده: أودعتك المال.

و يكفي أيضا في صحة الوديعة و ترتب أحكامها أن يحصل الإيجاب و القبول في عقدها بالكتابة الدالة عليهما، و بالإشارة المفهمة للمعنى المراد عند أهل العرف.

(المسألة الثالثة):

الوديعة عقد من العقود كما قلنا فلا بد فيها من القبول من الشخص المؤتمن أو من وكيله، و لا تتحقق الوديعة بدونه، فإذا وضع المالك ماله قريبا من الرجل، أو على طاولته أو على بساطه مثلا بقصد استيداع المال عنده، أو قال له: هذا وديعة عندك، و لم يقبل الرجل منه الإيجاب، لم يتم عقد الوديعة فلا تلزم الرجل أحكامها، فلا يجب عليه حفظ المال، و لا ضمان عليه إذا تلف ما لم يضع يده عليه سواء مكث في مكانه عند المال، أم ذهب عنه و تركه في موضعه، و لم يقبل العقد و لم يقبض المال، و سواء بقي مالك المال في الموضع بعد أن وضع المال أم تركه و انصرف لحاله، و أولى من هذا الفرض بعدم تحقق الوديعة ما إذا ترك المالك ماله قريبا من الرجل أو على طاولته و لم يقصد بذلك استيداع المال عند الشخص.

و لا يكفى سكوت الشخص في تحقق قبول الوديعة من المالك، فإذا قال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 101

المالك للرجل: أودعتك هذا المال، أو دفع اليه بقصد استيداعه عنده فسكت الرجل و لم يقل شيئا، و لم يصدر منه قبض أو فعل يدل على القبول، فلا يكون سكوته قبولا للعقد، الا أن يقترن ذلك بقرينة تدل على الرضا بالوديعة.

(المسألة الرابعة):

إذا كان الرجل عاجزا عن حفظ الوديعة و غير قادر على القيام بأمرها فالأحوط لزوما له أن لا يقبل الوديعة من صاحبها، و ان كان واثقا من نفسه بأنه لا يتعدّى على الامانة و لا يرتكب خيانة، و إذا كان مالك الوديعة يعلم بحال الرجل من الضعف و العجز عن حفظها و أصرّ مع علمه بذلك على

إيداع الوديعة عنده، و أن يحفظها له بمقدار ما يمكنه من الحفظ، جاز له أن يقبلها منه على هذا الشرط فيجب عليه القيام بحفظ الوديعة و رعايتها بمقدار ما يستطيعه من ذلك.

(المسألة الخامسة):

يشترط في صحة الوديعة أن يكون صاحب المال المودع له بالغا، فلا تصح وديعة الطفل لماله عند غيره، و ان كان الطفل مميزا، و هذا إذا تولى إيداع ماله بنفسه بغير اذن وليه، فلا يجوز لذلك الغير أن يقبض منه وديعته، و إذا هو قبضها و وضع يده عليها كان ضامنا لها و لما يحدث فيها من نقص أو عيب أو تلف، و لا تبرأ ذمته من ذلك إذا هو ردّ الوديعة إلى الطفل نفسه، فيلزمه أن يردّها الى وليه الشرعي.

و لا يبعد القول بصحة الوديعة من الصبي إذا كان مميزا عارفا بكيفية إنشاء المعاملة و المعنى المراد من الصيغة، و تولّى إيداع بعض أمواله عند أحد و كان فعله لذلك باذن وليه الشرعي المطّلع على ذلك كلّه، فأنشأ الوديعة و دفع المال للشخص الذي ائتمنه على وفق ما يرام، فيصح لهذا المستودع قبض الوديعة منه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 102

و لا يكون بقبضه لها ضامنا، و تترتب عليه أحكام الودعي شرعا، و يصح منه إذا كان مميزا عارفا، على الوصف الذي ذكرناه أن يتولى إنشاء الوديعة لمال غيره أيضا، إذا اذن له مالك المال و وكله في ذلك، و أذن له وليه الشرعي بإجراء المعاملة على النهج الصحيح، فيصح للمؤتمن أن يقبض الوديعة، و ان كان الصبي هو الذي دفعها إليه بالوكالة أيضا، و تجرى عليها أحكام الوديعة.

(المسألة السادسة):

يشترط في صحة الوديعة أن يكون الشخص الذي يستأمن على الوديعة بالغا، فلا يصح الاستيداع عند طفل لم يبلغ الحلم، و لا يثبت على الطفل ضمان بقبضه مال الوديعة إذا كان غير مميز، و لا بإتلافه إذا أتلفه، فإن صاحب المال هو الذي عرض ماله

لذلك باختياره، و لا ضمان على الصبي بقبض المال إذا كان مميزا و كان قبضه للوديعة بإذن وليه، فإنه في هذه الصورة و دعي أمين، فإذا تلف المال في يده من غير تعد و لا تفريط منه في الأمانة، فلا ضمان عليه، و سيأتي في بعض المسائل المقبلة ان شاء اللّه تعالى ان هذا هو الحكم الثابت في كلّ مستودع أمين.

و يشكل الحكم عليه بالضمان أو بعدمه في هذه الصورة إذا تعدّى أو فرّط في الوديعة، أو أهملها و تلفت المال في يده بعد التعدّي أو التفريط، و يشكل الحكم عليه أيضا بالضمان أو بعدمه إذا كان مميزا و قبض مال الوديعة بغير اذن من وليه ثم تلف المال في يده.

و إذا قبض الصبي مال الوديعة و كان مميزا فأتلف المال بفعله عامدا، فلا ينبغي الريب في الحكم عليه بضمان المال، سواء كان قبضه لمال الوديعة بإذن من وليه الشرعي أم كان بغير اذن منه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 103

(المسألة السابعة):

يشترط في صحة الوديعة أن يكون المودع و المستودع عاقلين، فلا تصح إذا كان أحد الطرفين مجنونا، أو كان معا مجنونين غير عاقلين، و يجرى فيهما من حيث الضمان و عدمه نظير ما قدمنا بيانه في الصبي المميّز و غير المميّز في المسألتين المتقدمتين.

(المسألة الثامنة):

لا تصح وديعة الطفل و لا المجنون، و لا يجوز للشخص الذي يودع أحدهما عنده المال أن يأخذه منه، و إذا أخذ المال من يد الطفل أو المجنون كان له ضامنا و قد ذكرنا هذا الحكم قريبا.

و تستثنى من ذلك صورة واحدة، و هي أن يخاف هذا الشخص على مال الطفل أو المجنون إذا بقي في يده و لم يأخذه منه، ان يتلف فيجوز له أن يأخذ المال من يده و يحفظه له و يكون أخذه له من باب الحسبة لا من باب الوديعة.

و كذلك الحكم إذا وجد الإنسان مالا للطفل أو للمجنون في يده أو في غير يده و خاف على المال ان هو تركه و لم يأخذه أن يتلف أو يسرق، فيجوز له أن يأخذ المال و يحفظه له من باب الحسبة و يكون المال أمانة شرعية بيده، و يجب عليه أن يبادر بما يستطيع فيوصل المال إلى الولي الشرعي للطفل أو المجنون صاحب المال، فان لم يمكنه إيصال المال أعلم الولي بأن المال عنده، فإذا فعل ذلك فلا ضمان عليه إذا تلف المال في يده، و إذا فرّط أو تعدّى أو أهمل كان ضامنا.

(المسألة التاسعة):

يمكن لصاحب المال أن يبعث مبلغا من ماله أو شيئا أخر من مملوكاته بيد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 104

صبي غير بالغ، أو بيد مجنون إلى ثقة يستأمنه ليبقى المبلغ أو الشي ء الأخر وديعة عنده يحفظه له، و هذا إذا كان المالك يثق بأن الصبي و المجنون اللذين أرسلهما يوصلان المال و يبلغان القول، فإذا أخذ المؤتمن منهما المال و اطمأن بصدقهما في الرسالة صحت الوديعة بين المودع و المستودع، و لم يضرّ بصحتها أن الرسول الواسطة طفل

أو مجنون.

(المسألة العاشرة):

يشترط في صحة عقد الوديعة أن يكون المودع الموجب و المستودع القابل قاصدين لإنشاء العقد بينهما، فلا يصح إذا كان المودع هازلا أو هازئا في إيجابه للعقد أو سكرانا أو غاضبا يخرج به عن قصد المعنى، أو كان المستودع غير قاصد للقبول كذلك.

و يشترط في صحته أن يكونا مختارين في فعلهما، فلا تصح وديعة المودع إذا كان مكرها في إيجابه للعقد غير مختار فيه، أو كان المستودع غير مختار في قبوله، فإذا قبض الوديعة مكرها على قبولها لم يضمنها، و لم تترتب على الوديعة أثارها.

(المسألة 11):

إذا أكره المستودع فقبل الوديعة و قبضها مكرها على قبولها و قبضها، ثم زال الإكراه عنه، و أجاز الوديعة الأولى باختياره بعد زوال الإكراه، صحت الوديعة بإجازته و ترتب عليها أثرها و لم يفتقر الى تجديدها.

و إذا جدّد المودع صيغة الوديعة بعد أن أرتفع الإكراه عن المستودع فقبل الوديعة الثانية مختارا، صحت الثانية بتمامية العقد، و لم يقدح بصحتها كون

كلمة التقوى، ج 5، ص: 105

المؤتمن مكرها غير مختار في أول الأمر.

(المسألة 12):

الوديعة أحد العقود التي تتقوم بالإذن في حدوثها و في بقائها و استمرارها و من أجل ذلك فهي من العقود الجائزة غير اللازمة، فيصح لمالك المال أن يسترد وديعته من الودعي الذي استأمنه في أي وقت يشاء و يفسخ عقد الوديعة بذلك و يجوز للمستودع المؤتمن أن يرد الوديعة إلى صاحبها متى أراد كذلك و يفسخ العقد، و إذا استرجع صاحب المال وديعته فليس للمستودع أن يمتنع من ردّها اليه و إذا ردّ المستودع الوديعة فليس للمودع صاحب المال أن يمتنع من قبولها.

و إذا فسخ المستودع المؤتمن عقد الوديعة انفسخت بينهما و ان كان صاحب المال لا يعلم بفسخ المؤتمن لها، و تزول بذلك الأمانة المالكية التي كانت للمستودع على المال بسبب العقد، و يبقى المال أمانة شرعية في يده.

و يجب على المستودع بعد أن يفسخ العقد كما ذكرنا أن يردّ المال الى مالكه، أو الى وكيله المفوض في القبض عنه، فان هو لم يقدر على الردّ وجب عليه أن يعلم المالك أو وكيله بأنه قد فسخ العقد، و أن المال باق عنده، فان هو لم يفعل ذلك من غير عذر مقبول كان مفرّطا في أمانته الشرعية و ضامنا لها إذا تلفت في

يده أو سرقت أو حدث فيها عيب أو نقص.

(المسألة 13):

إذا قبل المستودع الوديعة من مالكها أو من وكيله المفوض، و قبضها منه وجب عليه أن يقوم بحفظها بما جرت به العادة المتعارفة بين الناس في حفظ مثل تلك الوديعة، فإذا كانت من النقود المسكوكة أو العملة الورقية أو من الحلي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 106

و نحوها، خزنها في ما تحفظ فيه النقود و الحلي عادة من خزانة أو صندوق مضمون أو شبه ذلك، و إذا كانت من الثياب و شبهها حفظها في الصندوق أو المخزن الذي يعدّ بين الناس لحفظ مثلها، و إذا كانت من الدواب أو الحيوان جعلها في الموضع الذي يعدّ لأمثالها من إصطبل أو حظيرة أو مراح مأمون، و هكذا فيحفظ كل نوع أو صنف من الودائع في الموضع الحصين الذي يناسبه، و لا ريب في أن ذلك يختلف باختلاف الأقطار و البلاد و الأزمنة و المواضع، بل و باختلاف منازل الرجال المستودعين في مجتمعاتهم، و في الجهات الطارئة أو الثابتة التي تتصف بها الأماكن و البلاد من حيث الأمن و الخوف و غير ذلك.

و على وجه الإجمال فيجب على المستودع حفظ الوديعة في موضع يكون به حافظا لأمانته و غير مضيّع لها أو متسامح فيها.

(المسألة 14):

إذا عين المالك الوديعة للمستودع موضعا خاصا و اشترط عليه في العقد أن يحفظ فيه وديعته، فقال له مثلا: أو دعتك هذا المال على أن تحفظه لي في حجرة زوجتك عالية و في خزانتها الخاصة، أو على أن تجعله في الصندوق الحديدي في منزلك، تعين على المستودع إذا قبل بالشرط أن يقتصر في حفظ الوديعة على ذلك الموضع و لا يتعدّاه الى غيره، و ان كان الموضع الأخر الذي ينقله إليه أشدّ حرزا منه،

و إذا نقل وديعته الى غيره كان متعديا و ضامنا لها.

و إذا علم من قول المالك أو من القرائن الموجودة أو ظهر منها ان مالك الوديعة انما يريد حفظ ماله و انما ذكر الموضع المعيّن من باب المثال و لا يريد التقييد و الخصوصية في ذلك الموضع جاز له أن ينقل الوديعة إلى مكان أخر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 107

يساوي الموضع الذي ذكره أو يكون أشدّ منه حرزا.

(المسألة 15):

إذا عين صاحب المال موضعا خاصا لحفظ وديعته فيه كما فرضنا في المسألة المتقدمة و خاف المستودع على الوديعة أن تتلف أو تسرق أو تحرق أو تعيب إن هي بقيت في الموضع الذي عينه مالك الوديعة، لبعض الجهات التي تخفى على المالك أو التي تجددت بعد الاستيداع جاز له نقل الوديعة من الموضع المعيّن، و لا يكون بنقلها ضامنا لها، بل الظاهر جواز نقلها من ذلك الموضع في هذه الصورة و ان نهاه المالك عن نقلها منه، فقال له: لا تنقل الوديعة من هذا الموضع و ان تلفت.

(المسألة 16):

يجب على المستودع أن يتعاهد الوديعة ما دامت عنده بما يصونها عن التلف و العيب، أو تتوقف عليه صيانتها و سلامتها من ذلك، فإذا كانت الوديعة ثوبا أو شبهه من الصوف أو من الإبريسم فعليه أن ينشره كما هو معروف عند أهل الخبرة في بعض أيام الصيف في الشمس و الهواء الطلق ليسلم من التاكل أو من تولّد بعض الدود فيه، و عليه أن يقي الدابة من الحر و البرد الشديدين و من المطر و الثلج و نحو ذلك، و أن يتعاهد الدابة و الحيوان بمقدار ما يحتاج اليه من العلف و السقي، و أن يصون الكتاب من الرطوبة المفسدة و من الحشرات المتلفة كالأرضة و شبهها، و أن يحفظ الحبوب الكتاب عن الرطوبات و المياه التي توجب تعفّنها و فسادها و هكذا، فإذا هو ترك الملاحظة و الرعاية بمثل هذا الأشياء فتلفت الوديعة أو عابت كان ضامنا لما حدث فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 108

(المسألة 17):

لا يجوز للمستودع أن يتصرف في الوديعة تصرفا لم يأذن له فيه مالك الوديعة، و لا يتوقف عليه حفظها، فيكون بتصرفه فيها خائنا و متعديا، و مثال ذلك:

أن يأكل بعض الوديعة أو يلبس الثوب أو يسافر في السيارة أو يركب على الدابة أو يفترش الفراش أو يشترى بالنقود، أو يقترضها و ان كان عازما على أن يدفع العوض للمالك، فلا يحل له شي ء من ذلك إذا لم يأذن له به صاحب المال أو يتوقف عليه حفظه، و إذا فعله كان خائنا لأمانته و إثما في تصرفه و ضامنا للوديعة، و سيأتي لذلك مزيد بيان و إيضاح في الفصل الثاني ان شاء اللّه تعالى.

(المسألة 18):

من التصرف المحرّم على المستودع الموجب للحكم عليه بالضمان أن يدفع المالك إليه الوديعة و هي في كيس مختوم، فيفتح المستودع الكيس من دون ضرورة تدعوه إلى فتحه، و من التصرف المحرم كذلك ان يدفع المالك اليه المبلغ عملة و رقية ذات خمسة دنانير مثلا فيبدلها بعملة ذات عشرة دنانير أو خمسة و عشرين دينارا أو بالعكس، إلّا إذا اذن له المالك بذلك، أو كان المستودع لا يتمكن من حفظ المال الا بذلك، و تلاحظ المسألة الرابعة و السبعون، و من التصرف المحرم أن يدفع المستودع المبلغ الذي أودعه صاحبه عنده الى المصرف، و يأخذ بدله حوالة من المصرف بالمبلغ باسم المستودع، أو باسم مالك المال نفسه يدفعها له المصرف عند المطالبة، أو يفتح له حسابا خاصا يسدّده له مرة واحدة أو اقساطا كما يريد، فلا يحل للمستودع هذا التصرف، و يكون به متعديا و ضامنا، إلا إذا أجاز المالك له ذلك، أو استدعته ضرورة لا بدّ منها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 109

(المسألة 19):

الوديعة أمانة من مالك المال بيد المستودع، و لذلك فلا يثبت عليه حكم شرعي بالضمان إذا تلفت الوديعة عنده أو سرقت أو حدث فيها عيب أو نقص، إذا هو لم يتعد و لم يفرط في الوديعة و في حفظها، و قام بأمرها و برعايتها على الوجه المطلوب منه شرعا، و يأتي تفصيل هذا المجمل في الفصل الثاني ان شاء اللّه تعالى.

(المسألة 20):

لا يثبت على المستودع ضمان إذا قهره ظالم فأخذ الوديعة من يده مقسورا بغير اختيار منه، أو توعده الظالم بضرر يخشى من وقوعه عليه إذا امتنع، فدفعها اليه مكرها، و يثبت ضمان العين و ضمان منافعها في كلتا الصورتين على الظالم الذي قهره أو أكرهه.

و إذا كان المستودع هو السبب في تسلط الظالم على الوديعة، و وضع يده عليها فالضمان على المستودع، و مثال ذلك: أن ينبّئ المستودع الظالم بأمر الوديعة، و يصفها له و يحرضه على قبضها، بل و كذلك إذا عرّف الظالم بخبرها و بأن مالكها قد استودعها عنده ليحفظها له، فكان بذلك موجها، لنظر الغاصب إليها، و من أمثلة ذلك: أن يكون المستودع قد جعل الوديعة في موضع يلفت نظر الغاصب إليها، أو هو مظنّة لذلك، فالتفت إليها و غصبها، فيكون الضمان في هذه الفروض على المستودع نفسه، لأنه سبب الإتلاف.

و إذا اتفق في الصورة الأخيرة أن الظالم لم يلتفت الى الوديعة و لم يغصبها و لكنها تلفت بسبب أخر فالضمان على المستودع أيضا، لأنه قد فرّط في أمانته فوضعها في ذلك الموضع غير المأمون.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 110

(المسألة 21):

إذا علم الظالم بوجود الوديعة و عزم على غصبها، و استطاع المستودع أن يدفعه عنها ببعض الوسائل المباحة المقدورة له، كالاستعانة على ذلك ببعض الوجهاء و ذوي السلطة وجب عليه الدفع عنها مهما أمكن.

و إذا سأله الظالم عن وجودها عنده جاز له إنكارها، و ان كان كاذبا في إنكاره، و جاز له أن يحلف على ما يقول إذا توقف الدفع عنها على الإنكار و الحلف، بل يكون واجبا عليه.

و إذا كان المستودع ممن يعرف التورية و يمكنه استعمالها وجب عليه استعمال التورية

للتخلص من الكذب و القسم عليه على الأحوط لزوما.

و إذا اعترف المستودع للظالم بوجود الوديعة عنده فغصبها منه، كان المستودع ضامنا لها لأنه سبب إتلافها، و إذا اتفق أن الظالم لم يغصبها كان المستودع مفرّطا خائنا لأمانته بسبب إقراره بها للظالم، فيكون ضامنا لها إذا تلفت عنده بسبب أخر، و كذلك الحكم إذا أمكن له الدفع عنها بالإنكار و الحلف عليه فلم ينكر أو أنكر و لم يحلف، فإذا غصبها الظالم فهو السبب في الغصب، و إذا لم يغصبها فهو مفرط فيها لعدم دفعه عنها، و يكون ضامنا لها إذا تلفت في كلتا الحالتين.

(المسألة 22):

ليس من الوسائل الصحيحة التي يمكن أن تتخذ في هذا السبيل أن يخلص المستودع هذه الوديعة من يد الظالم بدلالته على مال لمؤمن أخر، أو بالسعاية عليه في ما يضرّه، و ان كان ذلك الرجل الذي سعى به أو دل الظالم على ماله عدوا مباينا للمستودع.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 111

و ليس من الوسائل الصحيحة أن يجامل الظالم فيدفع اليه بعض الهدايا المحرمة في الإسلام، أو يعينه في بعض المحرمات التي تنكرها شريعة الإسلام أو يسايره و يمالئه في ارتكاب بعض المناهي و المنكرات فيها، و يتخذ ذلك ذريعة لتخليص ودائع بعض المؤمنين، أو المدافعة عن بعض حقوقهم، و تحريم جميع ذلك من الأمور بيّنة الوضوح، و انما تذكر للتحذير و التّنبيه، و تراجع المسألة الثالثة و الأربعون من كتاب التجارة من هذه الرسالة.

(المسألة 23):

إذا لم يمكن للمستودع أن يدفع الغاصب عن الوديعة الموجودة لديه الا بنزاع و خصام و ضرب، و استلزم ذلك أن يضرب المستودع أو يجرحه أو يناله بسبب ذلك هتك أو شتم أو كلام بذي، لا يناسب شرفه و مقامه و منزلته الاجتماعية بين الناس، لم يجب عليه أن يتحمل ذلك في سبيل دفاعه عن الوديعة.

و على وجه الاجمال لا يجب عليه الدفاع عنها، إذا استلزم ذلك وقوع ضرر عليه لا يتحمّل عادة لمثله، أو خسارة مالية تضرّ بحاله، أو استلزم له الوقوع في عسر أو حرج.

(المسألة 24):

إذا توقف دفع الظالم عن غصب الوديعة على أن يتبرع المستودع فيدفع له مبلغا من ماله لم يجب ذلك على المستودع، فإذا هو لم يدفع للظالم شيئا من ماله و غصب الظالم الوديعة فلا ضمان على المستودع بسبب ذلك.

و إذا أمكن له أن يخبر مالك الوديعة فيأخذ منه المبلغ لمصانعة الظالم و دفعه عن الوديعة، أو يستأذنه أو يستأذن وكيله المفوض في أن يدفع المبلغ من ماله

كلمة التقوى، ج 5، ص: 112

للظالم بالنيابة عن المالك، ثم يرجع عليه بما دفع، وجب عليه أن يفعل ذلك، و إذا لم يتمكن من استئذان المالك أو وكيله استأذن من الحاكم الشرعي، و إذا فرّط في الأمر مع إمكانه و لم يفعل شيئا من ذلك كان ضامنا.

و إذا لم تتيسّر له مراجعة المالك و لا وكيله و لا الحاكم الشرعي في أن يفعل ذلك باذن من أحدهم دفع المستودع المبلغ من ماله عن مالك الوديعة من باب الحسبة، و إذا دفع المبلغ من ماله كما بيّنا و قصد الرجوع به على المالك، و لم يقصد التبرع بالمال، جاز له الرجوع عليه،

و إذا لم يفعل ما فصّلنا ذكره كان ضامنا للوديعة.

(المسألة 25):

إذا استطاع المستودع أن يفتدي الوديعة من الظالم ببعضها فيدفع له نصفها مثلا أو ثلثها أو ربعها، و يصرف بذلك نظره عن البقية منها فلا يغصبها وجب عليه أن يفعل ذلك فيحفظ الباقي منها، و كذلك إذا أمكن له أن يدفع بعض الوديعة لغير الظالم، فيصرف هذا الرجل الذي صانعه نظر الظالم عن غصبها، فيجب عليه أن يدفع البعض الى ذلك الشخص، فإذا فرّط المستودع في الأمر و لم يدفع شيئا منها ضمن الباقي إذا غصبه الظالم في الصورتين، لأنه هو السبب في غصبه و إتلافه و يضمنه كذلك إذا اتفق ان الظالم لم يغصب الباقي ثم تلف في يد المستودع لأنه قد فرّط في حفظه، فكان بتفريطه خائنا يلزمه الضمان.

و نظير هذا الفرض في الحكم أن تكون عند الرجل وديعتان لمالك واحد و أراد الظالم غصب الوديعتين كلتيهما، و أمكن للمستودع أن يدفع له احدى الوديعتين فلا يغصب الثانية، فإذا فرط المستودع و لم يدفعها اليه كان ضامنا على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 113

النحو الذي تقدم بيانه.

(المسألة 26):

إذا استودع المالك عند الرجل دابة أو حيوانا وجب على المستودع أن يتعاهد الدابة أو الحيوان بالماء و العلف عند حاجتهما الى القوت و الشرب، و لا يلزمه أن يتولى ذلك بنفسه، فيكفيه أن يعهد بذلك الى بعض أولاده أو عياله أو غلمانه، إذا كان هذا البعض الذي يعهد اليه بذلك مأمونا على الحيوان، لا يفرّط و لا يتعدّى في حفظه، فلا يركب الدابة أو يعنتها أو يحملها، أو كان لا يسقيها أو لا يعلفها ما يكفي، و يجوز له أن يخرجها من الإصطبل و المراح المعدّ لها للسقي و العلف في خارجه، إذا كان من

المعتاد ذلك، و كان الطريق مأمونا و لا يخرج به عن المعتاد.

(المسألة 27):

إذا أنفق المستودع على الحيوان حسب ما يتعارف له في قوته من العلف و الماء أو في غير ذلك مما قد يحتاج إليه عادة، جاز له أن يرجع على مالك الحيوان بما أنفقه عليه إذا هو لم يقصد التبرع به، و عليه أن يستأذن في الإنفاق عليه من مالك الحيوان، أو من وكيله المفوض أو من ولي أمره إذا كان قاصرا أو محجورا عليه، فإذا تعذر عليه الاستئذان كذلك أنفق هو على الحيوان من ماله من باب الحسبة و رجع بالنفقة على المالك إذا لم يقصد التبرع، و قد ذكرنا هذا في أول المسألة.

(المسألة 28):

الوديعة عقد يتقوم بالإذن في ابتداء حدوثه و في بقائه، و نتيجة لتقومه بالاذن فيبطل العقد إذا مات المالك المودع أو مات الأمين المستودع، و إذا جنّ أحدهما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 114

فخرج بذلك عن ان يكون أهلا للإذن و القصد، فإذا مات المالك المودع بطلت الوديعة كما قلنا و أصبح المال أمانة شرعية بيد المستودع، بعد ان كان عنده أمانة مالكية، و سيأتي بيان الفرق بينهما في الفصل الأخير من هذا الكتاب، فيجب على المستودع أن يبادر برد المال الى وارث المالك الذي أودع المال، أو الى وكيل الوارث و الى وليه إذا كان قاصرا، و إذا لم يقدر على ردّ المال اليه بالفعل لبعض الجهات المانعة من الردّ، وجب عليه ان يعلمه بأن الوديعة موجودة عنده، و انه مستعدّ لردّها متى أمكن له الردّ، و ان هو لم يفعل كذلك مع تمكنه من فعله و عدم العذر كان مفرطا ضامنا.

و إذا لم يعلم المستودع بعد موت مالك الوديعة بوجود وارث له، أو كان الوارث غير منحصر في علمه

بشخص معين أو أشخاص معيّنين، جاز له التأخير حتى يفحص عن ذلك و يعلم به، و يجب عليه أن لا يتسامح في أمر الأمانة فيتأخر من غير فحص أو يطيل المدة من غير ضرورة تقتضي ذلك.

و إذا جن مالك الوديعة و علم المستودع بجنونه، وجب عليه أن يبادر في ردّ الأمانة الشرعية إلى وليه الشرعي، فإذا لم يستطع الردّ اليه أن يعلم الولي بالوديعة و أنه مستعد لردّها، و ان هو لم يعلم بالولي الشرعي له على التعيين جاز له أن يتأخر بمقدار ما يفحص عنه، و يعلم به كما سبق في نظيره.

(المسألة 29):

إذا مات المستودع و بطلت الوديعة بموته كما سبق ذكره أصبحت الوديعة أمانة شرعية بيد الوصي من بعده، إذا كان قد أوصى الى أحد بالوديعة قبل موته و كانت أمانة شرعية بيد وارث المستودع إذا لم يكن قد أوصى بها، و إذا لم يكن قد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 115

أوصى و كان وارثه قاصرا كانت الوديعة أمانة شرعية بيد الولي الشرعي على الوارث القاصر.

و يجب على من يصبح أمينا على الوديعة من أحد هؤلاء بعد موت المستودع أن يردّ الأمانة إلى مالكها الذي أودعها، أو الى وكيله المفوّض منه، و ان لم يتمكن من المبادرة إلى الردّ وجب عليه أن يعلم المالك أو وكيله بأن الوديعة قد انتقلت أمانة في يده، و انه يقوم بردها اليه متى أمكنه الردّ.

و إذا جنّ المستودع وجب على وليه الشرعي أن يقوم بالفعل، فيرد الأمانة إلى صاحبها أو يعلمه بها على الوجه الذي سبق ذكره.

(المسألة 30):

إذا مات مالك الوديعة و خلّف بعد موته ورثة متعددين، فان كان الميت المودع قد أوصى الى أحد قبل موته و عهد اليه أن يقبض الوديعة و يصرفها حسب وصية معينة له فيها، أو يقسّمها على الورثة بحسب ما يستحقونه من السهام في الميراث، تعين على المستودع أن يدفع الوديعة إلى الوصي ليعمل بها كما أوصى مالكها، و ان لم يوص الميت بأمرها الى أحد، وجب على المستودع ان يسلّم الوديعة إلى ورثة الميت جميعا أو الى أحد يتولى القبض عنهم جميعا من وكيل مفوض منهم إذا كانوا راشدين، أو ولي شرعي إذا كانوا قاصرين، أو الى فرد من الورثة أو من غيرهم يرتضون على اختياره فيفوضون إليه الأمر في قبض الوديعة و

تقسيمها بينهم على المنهاج الشرعي في المواريث.

و يجوز للمستودع أن يوكل أحدا يعتمد عليه في دفع المال إليهم على الوجه المطلوب، و لا يجوز له أن يسلّم الوديعة الى بعض ورثة مالكها بغير اذن من الباقين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 116

و إذا دفعها الى بعضهم كما ذكرناه كان ضامنا لحصص من لم يدفع اليه سهامه منهم.

(المسألة 31):

إذا طلب صاحب المال وديعته من المستودع وجب على المستودع أن يبادر الى ردّها إليه في أول وقت يمكن له فيه الردّ، و المراد أن يبادر الى ردّها مبادرة عرفية، فلا يجب عليه أن يقطع الصلاة الواجبة و لا المستحبة ليردّ الوديعة إذا كان قد شرع في الصلاة، و لا يجب عليه الإسراع في المشي أكثر مما يتعارف لمثله.

و لا ينافي المبادرة العرفية أن يتم أكله للطعام إذا طلب المالك منه وديعته و هو على المائدة مثلا، و لا ينافي المبادرة أن يقدّم الصلاة إذا طلبها منه و هو في أول وقتها، أو يبدأ بأكل الطعام إذا كان في وقت حضوره، و لا ينافيها كذلك ان يؤخر دفع الوديعة إليه حتى يشهد على الدفع و القبض، أو حتى يكتب له ورقة يعترف المالك فيها بقبض المال، أو حتى يسجل القبض في سجلّه الخاص، إذا لم يستلزم ذلك التأخير الكثير، و خصوصا إذا كان المالك المودع قد أشهد عليه في وقت الإيداع، أو كتب عليه ورقة اعترف فيها بالوديعة و وقع عليها، أو سجلها في سجلّ يثبتها، و خصوصا إذا كان في الأمر مظنة للنزاع و الإنكار و لو من الورثة بعد الموت، فلا يجوز للمستودع تأخير الرد أكثر من ذلك، و لا يجب عليه الإسراع أزيد منه.

(المسألة 32):

يتحقق رد الوديعة إلى صاحبها بأن يرفع المستودع يده عن الوديعة و يخلّي ما بين المالك و بينها و يرفع جميع الموانع من قبله عن استيلاء المالك عليها، و لا يجب على المستودع نقل الوديعة إلى المالك، فإذا كانت محفوظة في محل، أو مخزونة في حرز و رفع المستودع الحواجز و الموانع عنها و عن استلام المالك

كلمة

التقوى، ج 5، ص: 117

إياها، و قال له مثلا: استلم وديعتك، فقد ردّ الأمانة إلى أهلها، و برئت ذمته من التكليف الشرعي بوجوب ردّها، و لا شي ء عليه بعد ذلك إذا أهمل المالك، أو تأخر في قبضها و وضع يده عليها.

(المسألة 33):

يجب على المستودع رد الوديعة إلى مالكها إذا طلبها منه، أو انفسخ عقد الوديعة بينهما بسبب أخر، سواء كان مالك الوديعة مسلما أم كافرا محترم المال و برا أم فاجرا، و لا فرق في المالك المسلم بين أن يكون من الشيعة و غيرهم من أي فرق المسلمين كان، و لا فرق في الكافر بين أصناف الكفار، إذا كان ممن يحترم ماله في الإسلام.

و الأحوط لزوما رد الوديعة إلى صاحبها، و ان كان كافرا غير محترم المال فإذا أودع عند المؤمن وديعة وجب عليه حفظها و ردّها إليه إذا طلبها منه، و في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) قال: أدوا الأمانة و لو الى قاتل ولد الأنبياء)، و عن الإمام أبي عبد اللّه (ع): (أدوا الأمانة إلى أهلها و ان كانوا مجوسا)، و عنه (ع) انه قال: (أدوا الأمانة الى من ائتمنك و أراد منك النصيحة و لو الى قاتل الحسين (ع) و عن الامام زين العابدين (ع): (عليكم بأداء الأمانة، فو الذي بعث محمدا بالحق نبيا لو ان قاتل أبي الحسين بن على (ع) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه).

(المسألة 34):

إذا استودع الغاصب أو السارق المال الذي غصبه أو سرقة من صاحبه عند أحد، و علم الودعي بأن الوديعة مغصوبة من مالكها الشرعي أو مسروقة منه، لم يجز له بردّها الى الغاصب أو السّارق مع التمكن من الامتناع عليه، و كان المال بيده

كلمة التقوى، ج 5، ص: 118

أمانة شرعية يجب عليه حفظها لمالكها الحقيقي، فإن هو عرفه ردّ المال اليه و إذا لم يتمكن من المبادرة إلى ردّ المال الى مالكة أعلمه بأن المال قد وقع في يده و انه سيرده اليه

متى قدر على ردّه، و ان لم يعرف مالك المال وجب عليه التعريف به الى سنة، فإذا انقضت المدة و لم يعرف مالك المال تصدّق بالمال عنه و إذا وجد المالك بعد الصدقة بالمال أخبره بأنه أخذ المال و عرّف به سنة ثم تصدّق به كما أمره اللّه، و خيّره بين أن يقبل الصدقة لنفسه، فيكون له أجرها عند اللّه، و ان لا يقبل الصدقة فيغرم له المال و يكون أجر الصدقة للودعي المتصدق، و قد ذكرنا هذا الحكم في المسألة التاسعة و الأربعين من كتاب اللقطة.

(المسألة 35):

إذا جرى عقد الوديعة بين مالك المال و صاحبه، و استلم المستودع المال منه، ثم خاف المستودع على الوديعة أن تتلف بيده أو تسرق أو تعطب، بحيث كان الخوف عليها موجبا للشك منه في قدرته على حفظ الوديعة، أو للاعتقاد بعدم قدرته على ذلك، فالأحوط له لزوما وجوب ردّ الوديعة إلى المالك أو الى وكيله، فإذا تعذر عليه الرّد عليهما دفعها الى الحاكم الشرعي، و عرّفه بالأمر، و إذا لم يقدر على إيصالها اليه أو كان الحاكم الشرعي غير قادر على حفظها بنفسه أو بالتوكيل، دفعها المستودع إلى ثقة مأمون يقدر على حفظها و إيصالها إلى مالكها.

(المسألة 36):

إذا كانت للوديعة مدة محددة بين مالك الوديعة و المستودع، و انقضت مدة الاستيداع وجب على المستودع ان يرد الوديعة إلى مالكها، أو الى وكيله المفوض عنه في قبضها أو الى وليه إذا كان قاصرا أو محجورا عليه، فإذا تعذر عليه إيصالها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 119

وجب عليه أن يعلمه بها، و بانتهاء المدة المعينة في العقد، و انه مستعد لردها متى أمكن له الرّد، و ان لم يقدر على شي ء من ذلك أوصل الوديعة إلى الحاكم الشرعي و عرّفه بأمرها، فإذا امتنع عليه ذلك، وضعها أمانة شرعية عند ثقة أمين ليحفظها لصاحبها من باب الحسبة، و إذا وجدت الثقة و الأمانة في المستودع نفسه بقيت في يده من باب الحسبة كذلك حتى يؤدّيها إلى أهلها.

(المسألة 37):

إذا خاف المستودع على نفسه من الموت لظهور اماراته عليه، من كبر سنّ أو ترادف أمراض و ما أشبه ذلك، و خشي على الوديعة التي أودعها صاحبه عنده أن تتلف بعد موته، أو تؤكل، أو تغصب من وارث أو من غيرة، و لم يأمن عليها إذا بقيت، وجب عليه ان يؤدّها في حياته الى مالكها، و ان يبادر الى ردّها على النهج الذي ذكرناه في ما تقدم.

و إذا كان الوارث أو القيّم على شؤون المستودع من بعده إذا مات يعلم بالوديعة و بصاحبها، و بموضعها، و كان ثقة أمينا يعتمد عليه و لا تضيع عنده الوديعة، لم يجب على المستودع ردّ الوديعة في حياته على صاحبها اعتمادا على ذلك، و إذا هو احتاط للوديعة فذكرها في وصيته و أشهد عليها فهو اولى و أفضل.

و إذا كان الوارث الذي يتركه من بعده لا يعلم بالوديعة، أو لا يعرف صاحبها

أو كانت بيد المستودع عدة من الودائع فيلتبس على الوارث من بعده أمرها، وجب على المستودع أن يذكرها مفصلة في وصيته و ان يظهر له أمر كلّ وديعة من الودائع الموجودة عنده، و يذكر له وصفها، و العلامات المميزة لها، و اسم صاحبها و أوصافه المشخصة له و موضع حفظ الوديعة و إذا علم المستودع بأن الوصية

كلمة التقوى، ج 5، ص: 120

بها لا تتم إلا بالإشهاد عليها، و لو للحذر من وقوع تنازع و تخاصم الورثة من بين من يثبت منهم، و من ينفي وجب عليه الاشهاد و الاحتياط.

(المسألة 38):

لا يمنع المستودع من أن يخرج في سفر مباح غير واجب و غير ضروري له و يترك الوديعة في بلده إذا كانت محفوظة في حرزها الذي وضعها فيه، أو في متجره أو في موضع أخر عند أهله أو غيرهم، و هو يعلم أو يطمئن بأنها ستبقى محفوظة مأمونة في موضعها، دون تعدّ او تفريط فيها من أحد، و اولى من ذلك بالجواز و عدم المنع إذا كان السفر الذي يعزم عليه واجبا شرعيا، كالسفر للحج أو للعمرة الواجبين عليه، أو كان ضروريا لا بدله منه كالسفر لعلاج نفسه، أو من يضطر الى علاجه، أو لبعض الضرورات الأخرى، و كانت الوديعة على حالها من الحفظ و الا من في موقعها.

(المسألة 39):

إذا أراد المستودع سفرا، و كان لا يقدر على حفظ الوديعة الموجودة عنده إذا هو غاب في سفر عنها و تركها في بلده، أو كان لا يطمئن على ان الوديعة ستبقى في حال غيبته عنها محفوظة في موضعها، وجب عليه ان يرد الوديعة إلى مالكها، أو الى وكيله أو الى ولي أمره إذا كان المالك قاصرا أو محجورا عليه، و لا يجوز له أن يصحبها معه في سفره، و ان علم بأنه قادر على حفظها في أثناء سفره بها إلّا إذا أذن له المالك بأن يصحبها معه إذا سافر، و ليس له أن يودعها في حال غيبته عند مستودع أخر، إلا إذا أذن له المالك بايداعها، و سنتعرض لذكر هذا في الفصل الثاني ان شاء اللّه تعالى، و إذا هو لم يقدر على رد الوديعة إلى مالكها أو الى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 121

من يقوم مقامه، و توقف حفظها على حضوره في البلد تعين عليه

البقاء و ترك السفر مع الإمكان.

(المسألة 40):

إذا وجب على المستودع أن يسافر لحج أو عمرة أو غيرهما، أو اضطر الى السفر لعلاج نفسه أو غيره من بعض الأمراض أو لضرورة أخرى لا بدله منها، و لم يقدر على حفظ الوديعة في حال غيبته في السفر عنها، و تعذر عليه أن يردها قبل سفره الى مالكها، أو الى من يقوم مقامه في قبضها، فإن أمكن له أن يوصل الوديعة إلى الحاكم الشرعي ليحفظها لصاحبها وجب عليه إيصالها اليه، و ان تعذر عليه ذلك وجب عليه أن يودعها عند أمين عادل، و يعرفه أمرها و يعرفه باسم مالكها و نسبه، و يذكر له أوصافه و مشخصاته ليردها اليه متى وجده، و إذا لم يجد عادلا يودعها عنده في بلده أودعها عند عادل في بلد أخر.

(المسألة 41):

إذا أراد المستودع السفر و ترك الوديعة في البلد و في موضعها عند أهله، كما فرضنا في المسألة الثامنة و الثلاثين، و كان سفره الذي عزم عليه من الأسفار الكثيرة الخطر، وجب عليه ان يجرى أحكام من ظهرت له أمارات الموت، و قد ذكرنا هذه الأحكام في المسألة السابعة و الثلاثين، فعليه أن يلاحظ هذه المسألة لتطبيق أحكامها.

(المسألة 42):

إذا وجب السفر شرعا على المستودع، أو قضت به ضرورة لا بدّ له منها و وجد نفسه غير قادر على حفظ الوديعة في موضعها في حال غيبته في السفر عنها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 122

و لم يقدر على ردّ الوديعة إلى مالكها أو الى من ينوب عنه في قبضها، و لم يتمكن من إيصالها إلى حاكم شرعي و لا إيداعها عند أحد العدول من المؤمنين في البلد أو في غيره، جاز له أن يصحبها معه في سفره، و وجب عليه أن يحافظ عليها مهما أمكنته المحافظة.

و كذلك الحكم إذا اضطرته الحوادث الى السفر من أجل الوديعة نفسها و مثال هذا أن تحدث في بلد المستودع عاديات من السلب و النهب أو الحريق أو غير ذلك، و يصبح البلد غير أمن، و لا مستقر الأوضاع، فلا يستطيع إبقاء الوديعة فيه، و لم يقدر على ردّها إلى أهلها، و لا إيصالها إلى مأمن مما ذكرناه في ما تقدم فيجوز له في هذا الحال ان يسافر بها و يصحبها معه، و يجب عليه الحفاظ عليها ما أمكن.

(المسألة 43):

إذا سافر المستودع و أخرج الوديعة معه مضطرا في الصورتين اللتين تقدم ذكرهما فاتفق له في السفر عروض أمر غير محتسب، فتلفت الوديعة بسبب ذلك الأمر أو سرقت أو حدث فيها نقص فلا ضمان عليه بذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 123

الفصل الثاني في ما يوجب ضمان الوديعة

(المسألة 44):

الوديعة كما قلنا في المسألة التاسعة عشرة أمانة من المالك في يد المستودع، و من أجل أمانته عليها فلا يكون ضامنا إذا تلفت في يده أو سرقت أو غصبت بالقهر عليه أو عطب شي ء منها، إذا كان قائما بما تقتضيه واجبات الامانة و لم يتعد و لم يفرط فيها، و ان هو تعدّى بعض الحدود على ما سيأتي بيانه من معنى التعدّي أو فرّط كذلك حكم عليه بالضمان، و ينحصر السبب الموجب لضمان المستودع للوديعة بالتعدّي و التفريط.

(المسألة 45):

إذا تعدّى المستودع الحدود التي تلزم مراعاتها للوديعة، و التي يعدّ خائنا لها في أنظار أهل العرف إذا تعداها، و خالف الأحكام الشرعية المبينة للوديعة، أو فرط في حفظها كما أمر اللّه بالحفظ، خرج بذلك عن كونه أمينا، و أصبحت يده عليها يدا خائنة، و لذلك فيصبح محكوما عليه بضمان أي تلف أو عطب أو سرقة أو نقص أو عيب يحدث على الوديعة، سواء كان حدوث ذلك الأمر عليها بسبب تعدّيه أو تفريطه أم بسبب أخر حصل بعدهما.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 124

و لا تبرأ ذمته من هذا الحكم الا برد الوديعة إذا كانت موجودة، أورد مثلها أو قيمتها إذا كانت تالفة، أو دفع أرش النقصان و العيب إذا كانت ناقصة أو معيبة لا تبرأ ذمته الا برد ذلك الى مالك الوديعة، أو الى من يقوم مقامه، أو بإبراء المالك ذمته من الضمان بعد ان تشتغل ذمته بالمال، و هذا هو المراد من قولنا في المسألة السابقة:

إذا تعدّى المستودع أو فرّط ضمن.

(المسألة 46):

يتعدّد الحكم إذا تعدد الأمر الحادث الذي يتعلق به الضمان، و مثال ذلك أن يحدث في الوديعة عيب بعد أن يفرّط المستودع في أمرها أو يتعدّى، فيلزمه أن يدفع لمالك الوديعة أرش ذلك العيب الذي حدث فيها، ثم يحدث فيها بعد ذلك عيب أخر فيلزمه أن يدفع للمالك أرش العيب الجديد مضافا الى أرش العيب الأول و إذا تلفت الوديعة كلّها بعد ذلك لزم المستودع ان يدفع للمالك قيمة الوديعة و هي معيبة بالعيب الأول و الثاني، و لا يسقط أحد الأحكام بالآخر، و لا يتداخل بعضها في بعض.

(المسألة 47):

التفريط في الوديعة هو أن يهمل المستودع المحافظة عليها و لو من بعض الجهات اللازمة عليه للحفظ، أو يفعل ما يعد إضاعة لها، أو استهلاكا في نظر أهل العرف، و مثال ذلك: أن يجعل الوديعة في موضع بارز دون حرز يقيها و لا مراقبة و لا حفيظ، أو يحافظ عليها بأقلّ مما جرت به العادة المتعارفة بين العقلاء في حفظ تلك الوديعة، و وقايتها من التلف أو السرقة أو العيب.

و قد ذكرنا في مسألة سابقه وجوب سقي الدابة أو الحيوان المستودع و علفه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 125

بمقدار ما تحتمه حاجة الحيوان الى ذلك في سلامته و بقائه صحيحا دون مرض فإذا ترك الودعي ذلك أو قصّر فيه من غير عذر أو سبب موجب فقد فرّط و ضيع و ذكرنا في ما تقدم أيضا وجوب إخفاء الوديعة عن الظالم الذي يخشى منه غصب الوديعة و نهبها أو سرقتها، فلا يجوز للمستودع أن يعرف الظالم بأمر الوديعة، أو يلفت نظره إليها، أو يجعلها في موضع يجلب نظره إليها أو نظر بعض السعاة الذين يتزلفون الى الظالمين،

و تكون في ذلك الموضع مظنة للغصب أو السرقة، فإذا فعل كذلك فقد فرط و ضيع، و تراجع المسألة العشرون و ما بعدها.

(المسألة 48):

من التفريط بالوديعة إذا كانت من الثياب أو إلا قمشة أو المنسوجات الأخرى أو الحبوب أو الفرش أو الكتب و نحوها أن يجعلها في موضع تسري إليها فيه الرّطوبات من الأرض، أو من المطر، أو من بعض المجاري أو من الندا فتعفّنها أو تتلفها أو تعيبها أو تلونها أو تصل إليها الحشرات أو الدّواب المبيدة أو الآكلة أو المفسدة فتأكلها أو تفسدها، و إذا فعل كذلك فقد فرط و ضمن، و قد ذكرنا في المسائل السابقة أحكام السفر عن الوديعة و أحكام السفر بها، و بيّنا فيها ما يجوز منه و ما لا يجوز، و ما يعد تفريطا في الوديعة و ما لا يعد، فليلاحظ ذلك فذكره هنالك يغني عن الإعادة هنا.

(المسألة 49):

التعدّي على الوديعة هو أن يتصرّف الودعي فيها تصرفا لم يأذن به مالكها و لم يبحه له الشارع. مثال ذلك ان يلبس الثوب الذي استودعه المالك إيّاه، أو يفترش الفراش، أو يركب السيارة أو الدابة، أو يستعمل جهاز التبريد أو التدفئة من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 126

غير اذن من المالك و لا اباحة من الشارع.

(المسألة 50):

قد تدل القرينة على اذن المالك ببعض التصرفات في الوديعة، فلا يكون مثل هذا التصرف تعديا من الودعي عليها، و مثال ذلك أن يأتي المالك بمبلغ من المال فيودعه عند الرجل، فإذا أخذ الرجل المبلغ من يده و عدّه ليضبط حسابه، ثم وضعه في كيس خاص. و أدخله في الخزانة أو نقله الى الموضع الذي أعده لحفظه في البيت أو في المتجر لم يكن هذا التصرف منه تعديا، و إذا أتاه بالسيارة و أودعه إياها فركب الودعي فيها و أدخلها المكان الذي هيّأه لحفظها لم يكن من التعدي و هكذا.

و قد يتوقف حفظ الثوب المستودع عند الإنسان من تأكله أو من تولد بعض الحشرات فيه على لبسه في بعض الأيام أو على إخراجه و نشره في الشمس أو الهواء الطلق، و يتوقف حفظ الفراش على استعماله كذلك فيجب على الودعي أن يفعل ذلك لحفظ الوديعة و لا يكون هذا الاستعمال و التصرف من التعدي على الوديعة.

(المسألة 51):

من التعدّي على الوديعة الموجب لضمانها أن يخلط المستودع مال الوديعة بماله، بحيث لا يتميز أحد المالين عن الآخر سواء خلطها بما هو أجود منها أم بمساو لها في الجودة و الرداءة أم بما هو أردأ، و كذلك إذا خلطها بجنس أخر من ماله، كما إذا خلط الحنطة بالشعير أو الأرز أو خلط الماش بالعدس أو بغيره من الحبوب، فإنه قد تصرف في الوديعة تصرفا لا اذن فيه فيكون اثما، و ضامنا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 127

و هذا إذا لم يقصد بالخلط تملّك الوديعة و إنكارها، و انما قصد خلط ماله بها و هي في ملك صاحبها، و أوضح من ذلك في صدق التعدي المحرم ان يقصد بالمزج

غصب الوديعة و الاستيلاء عليها، و كذلك إذا خلطها بمال لشخص أخر فيضمن المالين معا لمالكيهما إذا كانا وديعتين عنده.

(المسألة 52):

إذا استودع صاحب المال عند الرجل مبلغين من المال، و علم أو دلت القرينة على انهما وديعتان تستقل إحداهما عن الأخرى، فلا يجوز للمستودع أن يخلط احدى الوديعتين بالثانية و إذا خلطهما بغير اذن مالكهما كان متعديا و ضامنا لكلتا الوديعتين، بل و كذلك إذا احتمل انهما وديعتان مستقلتان، احتمالا يعتد به ما بين العقلاء، فيكون متعديا و ضامنا إذا خلطهما.

و إذا علم أو دلت القرينة على ان المالين الذين دفعهما له المالك وديعة واحدة، و خلطهما المستودع ليحفظهما أمانة واحدة في موضع، أو لأنه أيسر له في الحفظ و أمكن، فلا ضمان عليه بما فعل.

و إذا كان المبلغان في كيسين مختومين أو معقودين، ففك الختم أو العقدة بغير اذن المالك و خلط المالين معا كان متعديا و لزمه ضمانهما و ان قصد بذلك حفظهما، و أولى من ذلك بالحكم عليه بالضمان ما إذا خلط الوديعة بمال أخر للمودع ليس بوديعة.

(المسألة 53):

من التفريط بالوديعة أن يوكل المستودع أمر حفظ الوديعة و القيام عليها الى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 128

غيره، أو يستودعها عند شخص أخر و ان كان الشخص ثقة مأمونا إلا إذا أذن المالك له بايداعها عند غيره، أو دعت الى ذلك ضرورة تحتمه عليه، و قد سبق في المسألة الأربعين وجوب إيداع الوديعة عند بعض العدول من باب الحسبة في الفرض المذكور في تلك المسألة و يراجع ما بيّناه في المسألة السادسة و الثلاثين.

و إذا أذن له المالك بإيداع الوديعة و عين له شخصا خاصا لم يجز له إيداعها عند غيره الّا إذا اتفق له مثل الضرورة المتقدم ذكرها.

(المسألة 54):

إذا أنكر الودعي أن المالك قد استودعه المال، فان كان إنكاره للوديعة بقصد غصبها و الاستيلاء، عليها كان خائنا فإذا أثبتها المالك عليه بالبيّنة الشرعية أو اعترف هو بها بعد إنكاره لها، ثم اتفق أن عطبت الوديعة في يده أو سرقت أو عابت كان ضامنا لما حدث فيها، و ان كان إنكاره لها لنسيان و شبه من الاعذار لم تزل الوديعة أمانة بيده، فإذا تذكرها بعد نسيانه لها و اعتراف بها، ثم تلفت أو عابت و هي في يده فلا ضمان عليه.

و كذلك إذا كان جحوده لها لإخفاء أمرها و الحفاظ عليها من أن يغصبها غاصب أو يسرقها سارق فلا يكون جحودها تعديا أو تفريطا، و لا يثبت عليه بسبب ذلك ضمان بتلف أو غيره، و قد ذكرنا هذا في بعض المسائل السابقة.

(المسألة 55):

إذا جحد المستودع الوديعة من غير عذر مقبول، أو طلبها منه مالكها أو وكيله فامتنع عن ردّها اليه مع التمكن من الردّ كان خائنا و ضامنا، و لا يرتفع الضمان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 129

عنه بالإقرار بها بعد جحوده لها، أو امتناعه من ردّها، و لا بالتوبة عن ذلك و الاستغفار إذا تاب عن خيانته و استغفر، فإذا تلف المال أو سرق أو غصب أو حدث فيه عيب أو نقص كان عليه ضمان بدل ما تلف أو أخذ و أرش ما طرأ

(المسألة 56):

من التعدي الصريح أن يستودع المالك عند الرجل طعاما فيأكل بعضه أو يطعمه غيره، و أن يستودعه مالا فيستقرض شيئا منه أو يقرضه أحدا غيره، أو يبيعه على احد، أو يهبه إياه أو يدخله في مضاربة و نحوها من المعاملات، سواء قصد المعاملة بالمال لنفسه أم لمالك المال.

و من التعدي أن يستودعه حبوبا و شبهها فيطبخها أو يطبخ بعضها، و ان لم يأكل المطبوخ و لم يطعمه غيره، و من التعدي أن يؤجر العين التي أودعها المالك عنده أو يعيرها لأحد لينتفع بها، أو ينتفع المستودع بها بما يعدّ تصرفا في مال الغير بغير إذنه.

(المسألة 57):

إذا دفع المالك الى الرجل مالا ليكون عنده وديعة، فأخذ الرجل المال منه بقصد التغلّب و الاستيلاء عليه كان بذلك غاصبا عاديا على مال الغير، و حكم عليه بالإثم و الضمان بمجرّد قصده و نيّته لذلك و لم يتوقف على ان يتصرف في الوديعة تصرفا عدوانيا، و ليس الحكم في ذلك كالتصرفات الأخرى و كذلك إذا قبض المال من مالكه بنية الوديعة في أول الأمر، ثم تحولت نيته بعد القبض فقصد الغصب و التغلب عليها فيكون غاصبا بمجرد نيته، و لا يتوقف تحققه على ان يتصرف في المال تصرفا عدوانيا، و لا يرتفع الحكم بالضمان عنه إذا رجع عن قصده و تاب منه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 130

و استغفر.

(المسألة 58):

إذا قصد المستودع في نفسه أن يتصرف في الوديعة التي دفعها له مالكها فيركب السيارة مثلا في سفرة معينة، أو يسكن الدار أو يقترض المال، ثم عدل عن نيّته الاولى و لم يتصرف في الوديعة، لم يخرج بمجرد نيّته الاولى عن الامانة و لم تثبت له الخيانة يكون ضامنا للوديعة إذا حدث فيها أمر، و ليس الحكم في هذه التصرفات كنية الغصب، و قد ذكرنا هذا في المسألة السابقة.

(المسألة 59):

إذا وضع المالك ماله في محفظة مختومة أو صندوق مغلق أو نحوهما من الغلافات التي تدل عادة على وحدة المال، و سلمه كذلك الى المستودع وديعة عنده، فلا ريب في دلالة ذلك على كون المال وديعة واحدة، فإذا فتح المستودع الغلاف أو الصندوق من غير ضرورة و لا اذن من المالك في فتحه كان ضامنا لجميع ما في الغلاف أو الصندوق بسبب تعديه أو تفريطه، سواء أخذ بعض المال أم لم يأخذ منه شيئا.

و إذا دفع له مبلغين من المال على انهما وديعتان مستقلتان، فهما وديعتان كذلك، فإذا فرّط المستودع في إحداهما أو تعدّى عليها كان ضامنا لها بالخصوص و لم يضمن الأخرى التي لم يتعد عليها و لم يفرط، سواء جعل المالك كل واحدة من وديعتيه في حرز مستقل أم لا.

و إذا دفع له كيسين مختومين أو محفظتين مختومتين على انهما وديعة واحدة، ففرّط المستودع في أحدهما أو تعدّى عليه، فأخذ بعضه مثلا فلا ريب في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 131

ضمان جميع ما في ذلك الكيس أو المحفظة التي فرّط فيها، و هل يكون ضامنا لما في الكيس الأخر أو المحفظة الثانية من حيث ان المالك قد جعلهما عنده وديعة واحدة، أو لا يضمنه

كما يرى ذلك جماعة من الأصحاب؟ و الأحوط لهما الرجوع الى المصالحة.

و كذلك إذا دفع المالك للرجل مبلغا من المال على انه وديعة، واحدة و لم يجعله في كيس أو حرز، فإذا تصرف المستودع في بعض ذلك المال نصفه أو ربعه مثلا، فهل يختص الضمان بالبعض الخاص الذي تصرف فيه أو يعم الجميع؟

فيجري فيه القولان المذكوران و الاحتياط بالمصالحة بين الطرفين كما في الفرض السابق.

(المسألة 60):

يجوز للمستودع ان يعتمد على بعض أهله أو على خادمه أو عامله في إدخال الوديعة إلى الموضع الذي يعيّنه هو لحفظها و وقايتها، إذا كان ذلك بنظره و ملاحظته و كان الاعتماد على مثلهم في هذه الأمور من العادات المتعارفة بين الناس في البلد، و بين الامناء الذين لا يتسامحون في شئون ودائعهم و الحفاظ عليها.

(المسألة 61):

إذا فرط المستودع في الوديعة أو تعدّى الحد المأذون به من المالك أو من الشارع في تصرفه بها على ما فصلناه في المسائل المتقدمة خرجت يده بذلك عن كونها يد أمانة و حكم عليه بالضمان، و قد تكرّر منا ذكر هذا، و يسقط الحكم بالضمان عنه بامتثال الحكم فيردّ الوديعة نفسها إلى أهلها إذا كانت موجودة، و يرد مثلها أو قيمتها إذا كانت تالفة، و يردها و يرد معها أرش النقصان أو العيب إذا كان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 132

ناقصة أو معيبة، و يسقط الحكم عنه أيضا إذا اشتغلت ذمته ببدل الوديعة و هو المثل أو القيمة، أو بالأرش و هو التفاوت ما بين قيمتها صحيحة و معيبة، ثم أبرأ المالك ذمته من ذلك بعد اشتغالها بالمال.

(المسألة 62):

إذا فرّط المستودع في الوديعة أو تعدّى الحد المأذون فيه من التصرف فيها حكم عليه بالضمان إذا هي تلفت أو عابت في يده كما تكرر ذكره، فإذا فسخ مالك المال عقد الوديعة بينه و بين المستودع قبل أن تتلف الوديعة أو تعيب، بطلت الوديعة و زال الحكم المذكور بزوالها، فإذا اتفقا على الاستئمان مرة ثانية و دفع المالك الى المستودع تلك الوديعة، و جدد معه العقد صحت الوديعة، و ترتبت أحكامها، فلا يكون المستودع ضامنا الا بتعدّ أو تفريط جديد.

(المسألة 63):

يشكل القول بسقوط الحكم بالضمان عن المستودع إذا أبرأ المالك ذمته من الضمان بعد أن فرط أو تعدى على الوديعة، و قبل أن تتلف الوديعة بيده أو تعيب و تشتغل ذمته فعلا بالبدل أو بالأرش.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 133

الفصل الثالث في بعض أحكام الوديعة

(المسألة 64):

إذا ادعى المالك على الرجل انه قد استودعه وديعة من ماله، و أنكر الرجل ان المالك استودعه شيئا، فالقول قول منكر الوديعة مع يمينه، الا أن يقيم المالك بينة لإثبات ما يدعيه.

و إذا اعترف المستودع بأن صاحب المال قد دفع إليه وديعة، و ادعى أن الوديعة قد تلفت في يده بعد ان قبضها منه، صدق في قوله لأنه أمين و عليه اليمين للمالك الا أن يقيم المالك بيّنة على وجود الوديعة و عدم تلفها، و إذا اعترف بالوديعة من صاحب المال كما في الفرض السابق، و ادعى انه قد ردّ الوديعة إليه صدّق في قوله أيضا مع اليمين.

و كذلك الحكم إذا اتفق المالك و المستودع على أن المالك قد أودعه المال و اتفقا أيضا على ان الوديعة قد تلفت عند المستودع، ثم ادعى المالك أن المستودع قد تعدّى أو قد فرّط، و تلفت الوديعة بعد تعديه أو تفريطه فيكون ضامنا لها، و أنكر المستودع ما يدعيه المالك عليه، فالقول قول المستودع مع يمينه، الا أن يقيم المالك بيّنة شرعية مطلقة تثبت صحة ما يدعيه من ان التلف بعد التفريط.

(المسألة 65):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 134

إذا انقضت المدة المعينة للوديعة، أو فسخ عقد الوديعة من المالك أو المستودع، فدفع المستودع الوديعة إلى شخص ثالث، و ادعى ان مالك الوديعة قد اذن له في دفعها الى ذلك الشخص، و أنكر المالك انه أذن له في الدفع اليه، قدم قول المالك المنكر، و عليه اليمين للمستودع على عدم الاذن له، الا ان يقيم المستودع بيّنه على حصول الاذن من المالك.

و إذا اعترف المالك للمستودع بأنه أذن له في الوديعة الى ذلك الرجل و أنكر أن المستودع سلّم الوديعة

الى ذلك الوكيل الذي أذن بالدفع اليه، فالقول قول المستودع في الردّ اليه مع اليمين، و قد ذكرنا هذا الحكم في المسألة المتقدمة، إذ لا فرق بين الردّ الى المالك و الردّ الى وكيله.

(المسألة 66):

إذا اختلف مالك المال و المستودع أولا في أصل الوديعة، فادعى المالك انه قد استودعه المال، و أنكر المستودع وقوع وديعة بينهما، و أقام المالك بيّنة تثبت ما يدعيه على المستودع و أنه قد دفع إليه الوديعة، و بعد أن أقام المالك البيّنة المذكورة صدّقها المستودع في أن المالك قد استودعه المال، و ادعى أن الوديعة التي دفعها المالك اليه قد تلفت قبل الدعوى بينهما و قبل إنكاره إياها، فلا تسمع منه دعواه في هذا الفرض للتناقض بين قوله السابق و قوله الأخير، و إذا هو اقام بيّنة على تلف الوديعة، لم تقبل بيّنته لانه قد كذّبها بإنكاره السابق، و لذلك فيلزمه الحاكم الشرعي برد الوديعة نفسها الى مالكها.

و إذا هو صدّق بيّنة المالك في وقوع الوديعة بينهما و ادّعى ان الوديعة المدفوعة إليه قد تلفت بعد اقامة الدّعوى و إنكاره الأول سمعت منه دعوى التلف

كلمة التقوى، ج 5، ص: 135

إذا أقام عليها بيّنة تثبت التلف، فلا يلزمه الحاكم الشرعي برد الوديعة نفسها، و عليه أن يدفع للمالك مثل الوديعة إذا كانت مثلية، و قيمتها إذا كانت قيمية، و يثبت عليه هذا الضمان لانه قد فرّط في الوديعة بإنكاره للسابق، و لا يسقط عنه الضمان باعترافه أخيرا.

و إذا لم تكن له بيّنة على تلف الوديعة لم يسمع الحاكم منه دعوى التلف و ألزمه برد الوديعة نفسها.

و إذا أبدى له عذرا عن إنكاره الأول للوديعة و كان عذره عن ذلك مما

يقبله العقلاء سمعت دعواه في كلا الفرضين المذكورين.

(المسألة 67):

إذا فرّط المستودع في الوديعة أو تعدّى عليها ثم تلفت في يده فكان بذلك ضامنا لمثلها أو لقيمتها، ثم اختلف المالك و المستودع في مقدار المثل الواجب عليه أو مقدار القيمة، قدّم قول من ينكر الزيادة منهما و هو المستودع في الحالات المتعارفة بين غالب الناس و عليه اليمين لنفي الزيادة التي يدعيها الآخر.

(المسألة 68):

إذا حلف المستودع في الصورة المتقدمة وادي اليمين الشرعية لنفي الزيادة في المثل أو القيمة التي يدعيها المالك، حكم ظاهرا بنفي الزيادة، و لم يجز للمالك أن يأخذها منه بعد اليمين، و إذا علم المستودع أن قيمة الوديعة أو مثلها بمقدار ما يدعيه المالك و ليست أقل من ذلك، لم تبرأ ذمته من الزائد و لم يسقط عنه وجوب أدائه للمالك باليمين الذي أداه أمام الحاكم، فيجب عليه أن يوصله اليه مهما أمكن.

(المسألة 69):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 136

يجوز للأب و الجدّ أبى الأب أن يستودعا مال الصبي أو الصبية عند ثقة أمين ليحفظه له إذا لم تكن في إيداع ماله مفسدة تعود على الطفل أو على ماله، و يجوز لولي اليتيم غير الأب و الجد للأب ان يستودع ماله كذلك إذا كانت في إيداع المال مصلحة تعود لليتيم أو لماله، و كذلك الحكم في الولي على المجنون و السفيه.

(المسألة 70):

إذا أذن مالك الوديعة للمستودع بأن يودعها عند ثقة أمين متى شاء، أو أذن له بذلك عند طروء بعض الحالات من سفر و نحوه، جاز له ان يستودعها حسب ما أذن له صاحب المال، و لا يجوز له ان يتجاوز ما عيّن له من الحالات، و إذا عيّن له أشخاصا فلا يحق له أن يتعدى عنهم الى غيرهم، و ان كانوا أوثق في نفسه و أمن.

و نتيجة لما ذكرناه، فيجوز ان تترامى الوديعة بين عدة أشخاص من الامناء مع اذن المالك لهم على الوجه الذي ذكرناه، و لا يجوز الإيداع إذا لم يأذن به مالك المال.

(المسألة 71):

تصح الوديعة و تجرى عليها أحكامها في الأعيان غير المنقولة كالدور و العقارات و الا راضي، كما تصح في الأعيان المنقولة، و لا ريب في ان حفظ كل شي ء بحسبه و بما جرت به العادة المتعارفة في الحفاظ عليه و وقايته و الإبقاء عليه صحيحا سليما من العيوب، و بعيدا عن المتلفات و المهلكات، و عن استيلاء الظالمين و اعتداء المعتدين، فإذا أودعه المالك دارا أو عقارا، فلا بد للمستودع من المرور به و الدخول اليه و تفقد شؤونه و عمارته للمحافظة عليه، و على بقائه من الطواري و العوارض التي قد تجدّ لأمثاله، و هكذا، فإذا تركه و لم يتعهده بما تجري

كلمة التقوى، ج 5، ص: 137

به العادة من الرعاية و المراقبة كان مفرطا ضامنا، و إذا استأمن المالك الرجل على الدار أو العقار أو الأرض أو البستان، و خوّله أن يوجر الدار أو العقار، و أن يستثمر البستان و يقبض المنافع و الثمار و يحفظها له، كانت المعاملة وكالة في الإيجار و الاستثمار، و كان إبقاء

المال الحاصل من ذلك عنده وديعة، و إذا استأمنه عليها و أباح له أن ينتفع بمنافعها جميعا أو ببعضها، و يحفظ له الباقي كانت المعاملة عارية و الباقي من المال في يده وديعة، فلا بدّ من الفحص و التأكد من المقصد عند اجراء المعاملة لكي لا تشتبه الأمور و تلتبس الأحكام بين أقسام الاستئمان.

(المسألة 72):

إذا نمت الوديعة نماء أو أنتجت نتاجا و هي عند المستودع فالنماء و النّتاج الحاصل منها مملوك لمالك الوديعة، و مثال ذلك، أن تلد الدابة و أنثى الحيوان المودعة عند الرجل أو تثمر الشجرة أو تنتج لبنا أو سمنا أو بيضا، فإن أمكن رد النماء و النتاج الحاصل من الوديعة إلى المالك أو الى وكيله وجب على المستودع ذلك، و ان لم يمكن بقي النماء و النتاج أمانة شرعية في يده ليوصله الى المالك أو الى من يقوم مقامه، و إذا كان المالك قد أذن له في ان يبقى النتاج و النماء وديعة عنده أبقاه كذالك، و سيأتي بيان الفرق بين الأمانة المالكية و الأمانة الشرعية في الفصل الرابع إن شاء اللّه تعالى.

(المسألة 73):

إذا أباح المالك للمستودع أن يتصرف في لبن الحيوان المستودع عنده و في السمن الناتج منه جاز له ذلك و لم يجب عليه إبقاؤه امانة في يده، و كذلك إذا أباح له أخذ الصوف و الوبر من الحيوان، فيجوز له أن يجزّه و يأخذه، و لا يكون ذلك بعد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 138

الاذن فيه من التعدي على الوديعة.

فيجوز للمالك و المستودع أن يصطلحا بينهما فيجعل النماء الحاصل من الحيوان عوضا عما ينفقه المستودع على الحيوان من علف و سقي و نفقة غيرهما.

(المسألة 74):

الغالب المتعارف عليه بين الناس في عامة الودائع من الأموال، كالأثاث و المتاع و الثياب و الفرش و الأدوات و الكتب و الحيوان، أن يكون الملحوظ لمالك الوديعة هو حفظ هذه الودائع بذواتها و أعيانها، بل و كذلك في الأموال الأخرى كالحبوب و الغلات و المخضرات و سائر الأموال غير النقود و العملات و لذلك فلا يجوز للمستودع أن يتصرف في عين الوديعة أو يبدلها بغيرها بوجه من الوجوه و ان حفظ ماليتها، حتى في المنتوجات التي تخرجها المعامل و الشركات الحديثة متشابهة في جميع الصفات و المقادير و الخصائص و الإحجام، فلا يجوز للمستودع أن يتصرف في الوديعة منها و يبدلها بفرد أخر يماثلها تمام المماثلة و إذا تصرف في العين كذلك من غير اذن من المالك كان متعديا ضامنا و قد ذكرنا لذلك أمثلة موضحة في التعدي و التفريط.

و كذلك الحكم في الوديعة من العملات و النقود على الظاهر، فلا يجوز للمستودع أن يتصرف في الوديعة منها و يبدلها بغيرها و ان حافظ على ماليتها بنقد أخر يعادلها من الأوراق أو المسكوكات، الا أن يعلم أو تدل القرائن على

ان المقصود للمالك من استيداعها هو حفظ ماليتها و أن تغيرت أعيانها، و هذا هو المعلوم من الودائع الدارجة في المصارف و البنوك، فان القرينة العامة دالة على أن المراد فيها ذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 139

و لهذا فيجوز للمستودع عنده مع وجود هذه القرينة أن يتصرف في العين المودعة و يحتفظ للمالك بما يعادلها في المالية من العملة نفسها عند الحاجة و الطلب.

(المسألة 75):

إذا دفع صاحب المال الى المصرف أو الى البنك أو الى أي مؤسّسة صحيحة أخرى: مبلغا من ماله ليبقى المبلغ المذكور وديعة له عند المؤسّسة تحفظ له ماليتها، كما قلنا في المسألة المتقدّمة، و تدفعها له عند الطلب، أو بعد مضي مدّة معينة، حسب الشرط المتفق عليه بين المالك و المؤسّسة، جاز للمؤسّسة أن تتصرف في عين الوديعة كيف ما شاءت، على أن تفي له بدفع مقدار ذلك المبلغ المودع عندها من ماله في الوقت المتفق عليه بينهما.

(المسألة 76):

إذا دفع المصرف أو البنك أو المؤسّسة لصاحب الوديعة فائدة معيّنة شهرية أو سنوية للمبلغ الذي أو دعه عندها جاز للمالك أن يأخذ تلك الفائدة من المؤسّسة، و لا يكون ذلك من الربا المحرّم أخذه في الإسلام، فإن المفروض ان المالك انما دفع المبلغ وديعة تحفظ له المؤسّسة ماليتها و لم يدفعه قرضا للمؤسّسة فتكون الفائدة من ربا القرض و ليست هي من الربا في المعاملة فلا يحرم على صاحب الوديعة أخذها، نعم إذا دفع صاحب المال المبلغ للمؤسّسة على أن يكون قرضا لها لم يجز له أن يأخذ الفائدة عليه لأنه من ربا القرض و لا ريب في أن العقود تتبع القصود.

(المسألة 77):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 140

إذا أتلف المستودع عين الوديعة بفعله، أو تعدّى أو فرّط فيها ثم تلفت بعد ذلك في يده و ان لم يكن التلف بفعله وجب عليه أن يدفع للمالك مثلها إذا كانت مثلية و قيمتها إذا كانت قيمية بدلا عنها.

و إذا كانت الوديعة القيمية التالفة مما توجد له أمثال تتّحد معه في المقدار و الصّفات و المالية و النفع كالمنتوجات التي تخرجها المعامل و الشركات الحديثة، فالظاهر وجوب دفع هذا المثل للمالك بدلا عن العين التّالفة، على ان يكون البدل و الوديعة من إنتاج شركة واحدة و معمل واحد.

و إذا اختلف المثل الموجود عن الوديعة التالفة في القيمة من حيث الجدّة و القدم و الاستعمال و عدمه، و لم يوجد ما يماثلها في هذه الجهة لم يجب على المستودع دفع ذلك المثل إذا كان أكثر قيمة منها، و لم يكفه إذا كان أقل قيمة منها و دفع القيمة بدلا عن العين التالفة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 141

الفصل الرابع في الأمانة الشرعية

(المسألة 78):

إذا وضع الإنسان يده على مال لغيره و هو يعلم أن ذلك المال لغيره فقد يكون وضع يده عليه باذن من صاحب المال، فيسمّى ذلك في عرف المتشرعة و الفقهاء أمانة مالكية، و قد يكون وضع يده على المال باذن من الشارع، و حكمه فيه بجواز ذلك أو بوجوبه عليه، و يسمّى ذلك عندهم أمانة شرعية، و قد يضع يده على المال بغير اذن من المالك و لا من الشارع فتكون يده على المال يدا عادية غير أمينة، و قد فصلنا أحكام اليد العادية في كتاب الغصب من الجزء السادس من هذه الرسالة و قد يضع الإنسان يده على مال غيره و هو يجهل

أن المال مملوك لغيره، أو هو يعتقد مخطئا أنه المالك الشرعي لذلك المال، و من أمثلة هذا الفرض: الشي ء المبيع الذي يقبضه من بائعه عليه بالبيع الفاسد، و العين التي يقبضها من صاحبها بإجارة فاسدة، و نحو ذلك من الأشياء التي يأخذها من مالكها بإحدى المعاملات ثم يظهر له ان المعاملة التي جرت بينهما معاملة فاسدة.

و لكلا الفرضين المذكورين أنحاء متعددة تختلف أحكامها، و لا ريب في أنها جميعا ليست من أقسام الأمانة، و قد يلحق بعضها بالغصب في الأحكام، و ان لم

كلمة التقوى، ج 5، ص: 142

يكن الإنسان واضع اليد فيه غاصبا و لا اثما بسبب جهله، و قد ذكرنا أحكام المال المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب الغصب فلتلاحظ.

(المسألة 79):

الأمانة المالكية هي ما يكون الاستئمان على المال و الاذن بوضع اليد عليه من المالك نفسه، أو من وكيله المفوض، أو من ولي أمره إذا كان قاصرا أو محجورا عليه بسبب يوجب الحجر، فإذا أذن للإنسان في قبض المال و وضع المؤتمن يده على المال باذنه أصبح المال أمانة من المالك بيده، و هو على أقسام كثيرة يشترك جميعها في ترتب أحكام الامانة عليه، ما لم يفرط الأمين في أمانته، أو يتعدّ في تصرفه بها كما سبق تفصيله.

فالوديعة المقبوضة من المالك أو من يقوم مقامه أمانة مالكية بيد المستودع و المال الذي يدفعه المالك الى الوكيل ليبيعه له أو يؤجره أو يجري إحدى المعاملات فيه، أو ليتصرف فيه تصرفا خارجيا من تعمير و ترميم و شبه ذلك أمانة مالكية بيد الوكيل، لأن المالك قد أذن له في ذلك، و العين التي أعارها الشخص لغيره لينتفع بها، أمانة مالكية بيد المستعير لأن المالك أذن له

في القبض و استأمنه على العين و العين التي سلمها مالكها للمستأجر منه ليستوفي منها منفعتها في مدة الإجارة أمانة مالكية بيد المستأجر لأنه قبضها باذن المالك، و استأمنه عليها في المدة المذكورة، و العين التي دفعها صاحبها للأجير ليؤدي فيها العمل الذي أجر نفسه للقيام به لمستأجره، و المال الذي دفعه المالك لعامل المضاربة ليتجر به، و الأشياء التي يشتريها عامل المضاربة للمالك و يقبضها بالنيابة به للاتجار، و العين التي يدفعها الراهن للمرتهن لتكون وثيقة له على دينه حتى يؤديه، و هكذا في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 143

الموارد الكثيرة من المعاملات المختلفة و التي يستأمن مالك العين فيها عامله أو شريكه أو وكيله على المال، فالمال في جميع هذه الموارد أمانة مالكية، و لا خلاف في جميع ذلك.

(المسألة 80):

الأمانة الشرعية كما قلنا في أول هذا الفصل هي ما يقع من أموال الناس الآخرين في يد الإنسان، و هو يعلم أنها من أموال الآخرين، و يكون وقوعها في يده بسبب غير عدواني، و يكون من غير اذن من مالك المال، و لا من يقوم مقامه في صحة التصرف في ماله. و الأمانة الشرعية تكون على عدة أنحاء.

فقد يكون السبب في وقوع المال في يد الإنسان رخصة شرعية له في أن يستولي على العين، و قد يحدث ذلك بسبب قهري لا خيرة لأحد من الناس فيه و قد يحدث بسبب مالك المال نفسه، أو وكيله من غير علم لهما و لا اختيار و قد يكون بسبب فاعل مختار لا يعلم به على وجه التحديد، و هكذا.

فاللقطة التي يجدها الإنسان في موضع يصح الالتقاط فيه، أمانة شرعية في يد الملتقط، لأن الشارع أباح له أن

يأخذ اللقطة في مثل هذا الموضع ليعرّف بها و يجري أحكامها، و الحيوان الضال الذي يراه الرجل أمانة شرعية في يد من وجده، للرخصة الشرعية له في وضع اليد عليه و تطبيق أحكامه، و مال الغير الذي يأخذه الشخص من غاصبه أو سارقه أمانة شرعية في يد ذلك الشخص الآخذ، لان الشارع قد أوجب عليه مع القدرة أن يأخذه من الظالم و يحفظه لصاحبه من باب الحسبة الشرعية، و المال الذي يأخذه الرجل من الصبي أو المجنون إذا خاف على مالهما التلف إذا بقي في يدهما أمانة شرعية في يد ذلك الرجل، لان الشارع قد أذن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 144

له ان يأخذ المال منهما من باب الحسبة و يحفظه لمالكه أو يرده للولي الشرعي و المال أو الحيوان الذي يعرف الإنسان مالكه و يجده في معرض الهلاك و التلف يجب عليه أخذه مع القدرة من باب الحسبة ليقيه من التلف فيكون امانة في يده حتى يرده الى الى مالكه، و المال الذي يلقيه الطير في ملكه أو يأتي به ماء المدّ أو السيل اليه، أو يلقيه الريح العاصف في منزله أو في أرضه فيكون تحت يده و سلطنته و هو لا يعلم يكون أمانة شرعية بيده، لأن الشارع قد أذن له في قبض ذلك المال ليردّه الى مالكه، و المال الذي قبضه من البائع أو من المشتري أو من المستأجر غلطا منه زائدا على حقه، أمانة شرعية في يده كذلك ليرده الى صاحبه، و المال الذي يجده في الثوب الذي اشتراه أو في الصندوق الذي ابتاعه و المالك الذي باعه لا يعلم بوجود المال فيه، أمانة شرعية في يده حتى يردها الى المالك.

و هكذا في الموارد الكثيرة المختلفة التي تشبه ما تقدم ذكره و تشاركه في الحكم.

(المسألة 81):

الحسبيات هي أمور الخير و الإحسان التي تكثرت الأدلة الشرعية من الكتاب الكريم و السنة المطهرة في الحث عليها و الترغيب فيها و تضافرت على الأمر بها و الاستباق لها و المسارعة إلى فعلها، كحفظ مال اليتيم، و اغاثة الملهوف و اعانة الضعيف، و نصر المظلوم، و دفع الظلم عنه، و كشف كربة المضطر، و حفظ مال الغائب، و سائر موارد الإحسان إلى الناس الذين يستحقون الإحسان، و الى المؤمنين منهم على الخصوص و تسديد خلتهم، مما يكون امتثالا لقوله سبحانه:

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرٰاتِ، و لقوله تعالى سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ، و قول الرسول (ص) (اللّه في عون العبد ما كان العبد في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 145

عون أخيه)، و لا ريب في ان موارد التي تقدم ذكرها في المسألة السابقة تنطبق عليها و تكون امتثالا لها.

(المسألة 82):

الظاهر ان التصدّي لما تقدّم بيانه من الأمور الحسبية لا يختص بالحاكم الشرعي، و لا يتوقف على اذنه، فيجوز للعدل من المؤمنين أن يتصدّى له إذا كان عارفا في تطبيقه على موارده تطبيقا صحيحا، و لا يجوز له ان يتصدى له إذا كان جاهلا بذلك، أو كان شاكا في معرفته، و لا بدّ له من الرجوع الى فتوى من يقلّده من الفقهاء.

نعم، لا بدّ من مراجعة الفقيه العادل في الولاية على اليتيم و نحوه، و في أشباه ذلك من الولايات و من الأمور التي تتوقف على المعرفة التامة بالأحكام و النظر الصحيح فيها على الأحوط ان لم يكن ذلك هو الأقوى فيها.

(المسألة 83):

إذا كانت العين أمانة من المالك بيد الشخص، و قد قبضها بأذنه و كانت أمانته منه مؤقتة بمدّة معيّنة، ثم انقضت المدة المحدودة لها، أو كانت الأمانة قد وقعت في ضمن عقد من العقود كالإجارة و الصلح و الوكالة و الرهن و العارية و نحوها، ثم فسخ العقد أو بطل بعروض أحد المبطلات، و لم ترد الأمانة إلى أهلها لعذر من الأعذار الصحيحة، بقيت العين أمانة بيد الأمين.

فالوديعة بعد أن تنقضي مدتها أو ينفسخ عقدها أو يبطل بأحد المبطلات إذا لم ترد الى مالكها لعذر مقبول، تبقى أمانة بيد المستودع حتى يردّها إلى أهلها و العين المستأجرة إذا انقضت مدة الإجارة أو بطلت بسبب من الأسباب، تبقى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 146

أمانة بيد المستأجر حتى يردّها الى صاحبها، و العين المرهونة بعد أن تفك رهانتها تبقى أمانة بيد المرتهن كذلك، و المال الذي بيد الوكيل بعد أن تنقضي مدة الوكالة أو يبطل عقدها أو يعزل الوكيل، يبقى أمانة بيد الوكيل حتى يردّه،

و مال المضاربة بعد أن ينفسخ عقدها أو تنقضي مدتها أمانة بيد العامل حتى يرده الى المالك و هكذا. فان كان بقاء المال في يد الأمين في الفروض التي ذكرناها برضا المالك و اذنه، أو كان فسخ العقد أو بطلانه في أثناء المدة، فالامانة مالكية، و ان كان بقاء المال عند الأمين لعجزه عن إيصال المال الى مالكه أو الى من يقوم مقامه أو ينوب عنه فالامانة شرعية.

(المسألة 84):

الأمانة الشرعية كالأمانة المالكية في الآثار و الأحكام، فيجب على الأمين حفظها و صيانتها بما جرت به العادة في حفظ الامانة بين الناس، و يجب عليه ردّها الى مالكها أو الى من يقوم مقامه في أول وقت يقدر على ردّها فيه.

و يتحقق ردّ الأمانة بأن يرفع الأمين يده عنها، و يخلّي بين مالكها و بينها و يرفع الموانع له عن قبضها إذا شاء و متى شاء، كما فصلناه في ردّ الوديعة في المسألة الثانية و الثلاثين.

و لا ضمان على الأمين إذا تلفت الأمانة الشرعية في يده أو سرقت أو عابت إلا إذا تعدّى عليها أو فرّط في حفظها كما في الأمانة المالكية سواء بسواء.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 147

كتاب احياء الموات و ما يتبع ذلك من المشتركات العامة

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 149

كتاب احياء الموات و ما يتبعه و تفصيل القول في هذا الكتاب يقع في تسعة فصول:

الفصل الأول في الأرضين الميتة و أحكامها

(المسألة الأولى):

الموات من الأرض هي ما قابل الأرض المحياة، و يراد بها الأرض البائرة التي لا تنتج بالفعل منفعة يقصدها الناس العقلاء من أمثالها، كالمفاوز المقفرة من السكّان الذين يتولّون عمارتها و إحياءها، و كالبراري التي انقطع عنها الماء أو رسب في أغوارها، فلا تنبت شيئا، أو هي تنبت الأشواك و الحشائش التي لا تنفع الإنسان لحياته الخاصة، و ان كانت قد تنفع دوابّه و مواشيه، و كالجزر و المستنقعات التي استولى عليها الماء الملح أو الماء العذب فأصبحت بسبب غلبته عليها غير صالحة للتعمير، و كالأراضي التي غلبت عليها الرمال أو الاملاح و الاسباخ أو الحجارة الخشنة فتركت و أهملت، و كالاهوار التي أصبحت آجاما و منبتا للقصب و البردي و النبات غير المجدي، و كالغابات التي التفت بها الأشجار و الادواح الضخمة و عادت مأوى للحيوانات المتوحشة و السباع و الضاريات، و كالجبال التي لم يملك الإنسان عمارتها لارتفاعها، و الأودية التي لم يستطع إحياءها لأنها بطون و مجاري للسيول، و كالأراضي التي ترك الإنسان عمارتها لصعوبة العيش فيها أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 150

لبعدها عن مواضع ألفه أو موارد رزقه، و هكذا مما يعسر عدّه من موانع التعمير و الاحياء.

(المسألة الثانية):

تنقسم الأرض الموات الى قسمين، فهي إمّا ميته بالأصل و إمّا ميته بالعارض و يراد بالميتة بالأصل الأراضي التي لم تجر عليها يد انسان من قبل، و لم تنلها بالتملك و العمارة من قديم العصور و الأزمان، و تلحق بها في الحكم الأراضي التي لم يعلم حالها في ما سبق: هل أحياها الإنسان في تاريخه الماضي أو لم يحيها؟

و يدخل في هذا القسم أكثر الأراضي الخربة الموجودة على سطح هذه الكرة من

مفاوز و صحارى و بوادي و وديان و جبال و جزر و شواطى خالية من التعمير.

و يراد بالأراضي الميتة بالعارض: ما علم بأنها كانت عامرة و قد أحياها الإنسان في بعض عصوره، ثم أهملها فآلت الى الاندثار و الخراب بعد الحياة و العمران، و تدخل في هذا القسم: الأراضي الدارسة و القرى الطامسة التي بقيت منها الآثار و الرسوم و الاطلال، أو التي لم يبق منها رسم و لا طلل، و تنقسم الأرض الميتة بالعارض إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أراضي تركها أهلها الذين عمروها ثم بادوا و انقرضوا، و بقي ذكرهم للعبرة و التاريخ أو لم يبق منهم حتى الذكر.

القسم الثاني: أراضي تركها أهلها و ملّاكها و لم يبيدوا و لم ينقرضوا و لكن جهل أمرهم و لم تعرف أشخاصهم و لا أسماؤهم، فهي مجهولة المالكين.

القسم الثالث: أراضي تركها مالكها فخربت و اندرست آثار الحياة فيها بعد أن تركها المالك أو قبل أن يتركها، و مالكها أو وارثه معلوم غير مجهول.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 151

(المسألة الثالثة):

لا ريب في أن الأرض الموات بالأصل من الأنفال، و حكم الأنفال أنها تختصّ بالرسول (ص) في حياته، و تختص بالأئمة المعصومين (ع) أولياء الأمور من بعده، اماما بعد امام، و قد اذن المعصومون (ع) للشيعة بإحيائها و تملكها في زمان غيبة الإمام المهدي خاتمهم (ع) و قد ذكرنا هذا في مبحث الأنفال من كتاب الخمس في هذه الرسالة.

بل الظاهر حصول الاذن العام من ولي الأمر (ع) للناس جميعهم بإحياء الأرض الموات و تملكها كما ورد في النصوص الدالة على جواز شراء الأرض من اليهود و النصارى، و ان الرسول (ص) لمّا فتح خيبر خارج أهلها و أبقى الأرض

في أيديهم يحيونها و يعمرونها و يؤدون إليه خراجها، و ان كل من أحياء أرضا مواتا ملكها، و هي شاملة للمسلم و الكافر.

و يلحق بالأرض الموات بالأصل في هذا الحكم: القسم الأول من الأرض الميتة بالعارض، و هي الأراضي و القرى التي اندرست و باد أهلها و ملّاكها القدامى، و لم يبق لهم الا الذكر، أو لم يبق منهم حتى الذكر، فيجوز للناس إحياؤها و من أحيا شيئا منها ملكه بالاحياء، و لا يتوقف جواز ذلك الى الاذن من الحاكم الشرعي.

(المسألة الرابعة):

إذا كانت الأرض من القسم الثاني من الأراضي الميتة بالعارض، فماتت بعد أن كانت عامرة محياة، و بعد أن تركها أصحابها و هي عامرة، أو هم تركوها بعد أن خربت و اندرست و لم يبدأ أهلها و لم ينقرضوا، بل جهل أمرهم فلم يعرفوا على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 152

التعيين.

فان علم انهم قد أعرضوا عن أرضهم اعراضا تاما جاز للناس الآخرين إحياؤها و تملكها، و ان لم يعلم بإعراضهم عن الأرض أشكل الحكم فيها و الأحوط لمن يريد إحياء شي ء من هذه الأرض أن يفحص عن وجود مالكها، فإذا حصل له اليأس من معرفته رجع في أمر الأرض إلى الحاكم الشرعي ليجري معه في التصرف فيها معاملة مجهول المالك:

فيجوز للحاكم الشرعي بولايته عن المالك المجهول أن يبيع الأرض على الشخص المذكور بثمن معيّن، فإذا قبض الحاكم منه الثمن قسّمه هو أو وكيله على الفقراء، و يجوز له أن يؤجره الأرض مدة معلومة بأجرة معينة، أو يقدّر للأرض أجرة مثلها في المدة المعلومة بدلا عن انتفاع الرجل بالأرض، و يصرف الأجرة على الفقراء.

(المسألة الخامسة):

إذا كانت الأرض من القسم الثالث من الأراضي الميتة بالعارض، و هي التي أحييت أولا ثم ماتت بعد الحياة و العمران، و أهملها صاحبها قبل موتها أو بعده و كان مالك الأرض معلوما غير مجهول، فان علم بأن مالك الأرض قد أعرض عنها اعراضا تاما، جاز لغيره من الناس أن يتصرف في الأرض فيحييها بعد الموت و يتملكها، و ان لم يعرض المالك عن تملك أرضه و ان كانت ميتة، فهو يريدها مرعى أو مراحا لماشيته مثلا، أو يبتغى الانتفاع بما فيها من كلاء أو بردي أو قصب أو أسل أو شجر

أو نخيل يابس، أو يطلب إجارتها أرضا فارغة لبعض الراغبين فيها، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيها أو يحييها، و كذلك إذا كان المالك يريد التفرّغ

كلمة التقوى، ج 5، ص: 153

من أعماله و مشاغله ليعمرها و يحييها أو هو ينتظر الفرصة المواتية لذلك، بل و كذلك الحكم مع الشك في ما يقصده المالك من إبقائها ميتة لا منفعة لها، فلا يجوز لأحد إحياؤها و التصرف فيها.

(المسألة السادسة):

إذا ماتت الأرض و خربت و هي في يد مالكها و كانت حية عامرة في يده كما فرضنا في المسألة المتقدمة، و أهملها صاحبها و علم عدم انتفاعه بها و انه لا يريد تعميرها، فان كانت من قبل وضع يده عليها أرضا ميتة و قد ملكها هو بالاحياء، عادت بعد موتها من الأنفال كما كانت من قبل، و جاز لغيره من الناس أن يحييها و يتملكها، و إذا أحياها غيره و ملكها فليس للمالك الأول أن يطالب المحيي بشي ء، و ان كان المالك الأول قد ملكها بالإرث أو الابتياع من أحد أو بمعاملة مملكة أخرى لم يجز لأحد من الناس أن يحييها أو يتصرف فيها إلا باذنه و قد ذكر هذا في مبحث الأنفال من كتاب الخمس في هذه الرسالة.

(المسألة السابعة):

يجوز للرجل أن يحيي موضعا واحدا أو أكثر من القرية أو البلدة الخربة التي درست عمارتها و انقرض سكانها الذين عمروها، و أصبحت من الأنفال، فيجوز له أن يعمر منها منزلا دارسا فيجده بناءه، و يتخذه دارا يسكنها أو عقارا ينتفع به، أو يجري له الماء فيجعله بستانا أو مزرعة، أو ما شاء من أقسام الأرضين المعمورة و يملكه بالاحياء.

و يجوز له أن يحوز ما في المنزل و ما في القرية من مواد و أنقاض للأبنية القديمة فيها كالحجارة و المدر و الآجر و الأخشاب و الحديد و غيرها، و إذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 154

حازها بقصد التملك ملكها و صح له التصرف فيها كما يشاء.

(المسألة الثامنة):

إذا ماتت أرض موقوفة و اندرست آثار العمارة و الحياة فيها، و علم من القرائن أو من الشياع و الاستفاضة بين أهل البلد ان الأرض موقوفة على قوم سابقين من الأجيال و قد بادوا و درس ذكرهم، أو أنها وقف على قبيلة من الماضين أو على جماعة لا يعرف منها في الوقت الحاضر سوى الاسم على ألسن بعض الناس أو في بعض السجلات القديمة و لا وجود لهم في الخارج، أصبحت الأرض المذكورة من الأنفال، فيجوز للناس إحياؤها و تملكها.

و كذلك حكم الأرض التي يعلم على وجه الإجمال أنها موقوفة و لم يعرف انها وقف عام أو خاص، و انها وقف على جهة أو على عنوان أو على أشخاص و على أي الجهات أو العناوين أو الأشخاص، فإذا ماتت الأرض المذكورة و خربت فهي من الأنفال و جاز للناس إحياؤها و تملكها.

(المسألة التاسعة):

إذا ماتت الأرض الموقوفة كما قلنا في الفرض المتقدم، و علم أن الأرض قد وقفت على بعض الجهات و لم تعرف الجهة الموقوف عليها على نحو التعيين، فهل وقفت الأرض على مسجد أو على مشهد أو على مدرسة أو على غير ذلك من جهات الخير، أشكل الحكم في أن يحيي هذه الأرض أحد من الناس و يتملكها و قد نقل جماعة من العلماء أن القول بجواز إحيائها هو المشهور بين الفقهاء.

و الأحوط لمن يريد أحياء هذه الأرض أن يستأذن من الحاكم الشرعي في إحيائها، و إذا عرف المتولي على الوقف استأذن الحاكم و المتولي معا، فإذا هو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 155

أحيى الأرض المذكورة بإذنهما صرف جميع ما حصل من منافعها في وجوه البرّ و لم يتملك منه شيئا، و استأذن الحاكم

الشرعي، و المتولي في الصرف كما استأذنهما في الإحياء.

و يجري نظير القول الذي ذكرناه أيضا في الأرض الميتة إذا علم بان واقف الأرض قد وقفها على أشخاص و لم تعرف أعيانهم و مشخصاتهم، و علم أنهم موجودون بالفعل غير معدومين، فمن أراد إحياء هذه الأرض فالأحوط له أن يستأذن الحاكم الشرعي بإحيائها و من المتولي على الأرض إذا كان موجودا أو معروفا فإذا أحياها صرف جميع منافعها التي تحصل منها بعد الأحياء في وجوه البر و لا يتملك الأرض بهذا الاحياء و لا من المنافع شيئا، و عليه أن يكون الصرف في وجوه البر باذن الحاكم و المتولي أيضا.

(المسألة العاشرة):

يجوز لمن يريد إحياء الأرض في كلتا الصورتين اللتين ذكرنا هما ان يراجع الحاكم الشرعي و يراجع متولي الوقف معه إذا كان موجودا، فيستأجر منهما الأرض مدة معيّنة بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، ثم يحيي الأرض لنفسه إذا شاء، و لا يملك الأرض نفسها بهذا الأحياء، بل يأكل منافعها و نماءها في مدة الإجارة، و تصرف أجرة المثل التي تلزمه في وجوه البرّ، و عليه أن يستأذن من الحاكم الشرعي و من المتولي إذا كان موجودا في صرفها، بل و لا يترك الاحتياط في أن يكون صرف الأجرة في وجوه البر من المتولي نفسه.

(المسألة 11):

إذا شمل الأرض المذكورة في كلتا الصورتين اللتين ذكرناهما بعد موت

كلمة التقوى، ج 5، ص: 156

الأرض و خرابها أحد الموارد التي يصح فيها بيع الوقف، أمكن للشخص أن يشتري الأرض من الحاكم الشرعي ثم يحييها بعد الشراء لنفسه و يملكها بهذا الاحياء، و إذا قبض الحاكم الشرعي من المشتري ثمن الأرض اشترى به أرضا و جعلها وقفا عوضا عن الوقف المبيع، و صرف منافع الوقف الجديد في وجوه البرّ، و إذا لم يمكن ذلك صرف الثمن نفسه في وجوه البرّ، و قد عدّدنا المواضع التي يجوز فيها بيع الوقف في المسألة المائة و الثلاثين و ما بعدها من كتاب التجارة، و في المسألة المائة و الثلاثة و الثلاثين و ما بعدها من كتاب الوقف في هذه الرسالة.

(المسألة 12):

إذا اندثرت عمارة الأرض و خربت بعد عمارتها و كانت وقفا على جهة معلومة أو كانت وقفا على جماعة معيّنين معروفين، جاز لمن يريد إحياء الأرض أن يستأجرها مدة معلومة بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، ثم يتولى إحياءها و تعميرها في مدة الإجارة، و يأكل منافعها و ما يحصل منها في المدة، و تصرف أجرة المثل التي دفعها بدلا عن استئجاره للأرض في الجهة الموقوف عليها أو الجماعة الموقوف عليهم، فإذا كان الوقف على جهة معيّنة وجب أن تكون إجارة الأرض و التصرف فيها من المتولي على الوقف إذا كان موجودا، و لزم أن يتولى بنفسه صرف أجرة المثل على الجهة الموقوف عليها، أو يكون الصرف فيها باذنه و إذا لم يكن للوقف متولّ يقوم بالأمر وجب أن يكون كلّ من إجارة الأرض و صرف أجرة المثل في الجهة الموقوف عليها باذن الحاكم الشرعي.

و إذا كان

وقف الأرض على أشخاص معلومين و كان الوقف خاصا، وجب أن تكون إجارة الأرض و التصرف فيها و صرف أجرة المثل على الأشخاص

كلمة التقوى، ج 5، ص: 157

الموقوف عليهم بمراجعة متولي الوقف إذا كان موجودا، و بمراجعة كلّ من الحاكم الشرعي و الأشخاص الموقوف عليهم على الأحوط إذا كان متولي الوقف مفقودا.

و إذا كان وقف الأرض المذكورة على الأشخاص عاما، وجب أن تكون إجارة الأرض و التصرف فيها و صرف أجرة المثل على الموقوف عليهم بتولي الحاكم الشرعي أو وكيله.

و إذا انطبق على الأرض المذكورة بعد خرابها بعض ما يسوغ مع بيع الوقف أمكن للرجل أن يرجع الى الحاكم الشرعي فيشتريها منه ثم يحييها لنفسه بعد شرائها، و الأحوط أن يكون البيع من الحاكم الشرعي و المتولي للوقف إذا كان موجودا، و يتوليان معا على الأحوط كذلك شراء أرض أخرى بثمن الوقف المبيع، و وقفها عوضا عن المبيع، و إذا لم يمكن ذلك صرفا ثمن الوقف على الجهة أو الأشخاص الموقوف عليهم.

(المسألة 13):

لا فرق في الأحكام التي بيّناها أو التي يأتي بيانها للأرض الموات و أقسامها بين أن تكون الأرض في بلاد الإسلام أو في بلاد الكفر، فإذا كانت مواتا بالأصل فهي من الأنفال، و تختص بإمام المسلمين (ع) و ان كانت في بلاد المشركين أو الكفار غير المشركين، و تحت نفوذهم و في سيطرتهم، فإذا أحياها مسلم أو كافر ملكها بإحيائه إياها، و إذا كانت مواتا بالعارض جرت أقسامها و أحكامها أيضا حسب ما فصّلناه، و حتى إذا فتح المسلمون بلاد الكفر بالقتال فالأرض الموات منها في حال الفتح من الأنفال، فتجري فيها أحكام الأنفال، سواء كانت ميتة بالأصل أم ميتة بالعارض.

كلمة التقوى،

ج 5، ص: 158

و أما الأرض العامرة من بلاد الكفر في حال فتح المسلمين لها فهي ملك للمسلمين عامة، و لا تختص بأحد منهم و لا من غيرهم، و إذا ماتت بالعارض بعد الفتح لم يتغير حكمها، و لم تصبح بموتها من الأنفال، فلا يملكها من يحييها و هي لا تزال ملكا لعموم المسلمين.

(المسألة 14):

يشترط في صحة إحياء موات الأرض و في تملكها بالإحياء أن لا تكون حريما لملك أحد مسلم أو غير مسلم إذا كان ممن تحترم حقوقه و ملكيته في الإسلام، فلا يصح لأحد إحياء الأرض الميتة إذا كانت مرفقا أو حريما لملك مالك محترم، و لا يحلّ لغير ذلك الشخص الذي استحق الأرض بتبع ملكه العامر، و إذا أحياها غيره لم يملكها، و إذا وضع يده عليها بغير اذن صاحب الحق كان غاصبا لحق غيره اثما بفعله، و سنوضح ان شاء اللّه تعالى معنى الحريم و حدود مقاديره في الفصل الثاني.

و الظاهر أن المراد بالمرفق هنا ما يتوقف عليه بعض الانتفاعات بالملك من الأرض الموات المتصلة به فهو بعض أفراد حريم الملك.

(المسألة 15):

يشترط في صحة إحياء الأرض الموات أن لا تكون محجرة لغير الإنسان الذي يريد إحياءها، إذا كان المحجر مسلما أو ممن يحترم الإسلام حقوقه من غير المسلمين، كالذمي و المعاهد، و التحجير كما سيأتي إيضاحه في الفصل الثالث لا يكون سببا لملك الأرض المحجرة، و لكنه يوجب ثبوت حقّ فيها لمن حجرها، و يكون اولي بها من الناس الآخرين، فإذا وضع غير المحجّر يده على الأرض بعد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 159

تحجيرها من غير اذن المحجر كان غاصبا اثما، و إذا أحياها كذلك لم يصح إحياؤه، و لم تثبت ملكيته لها على الأحوط، بل لا يخلو ذلك من قوة، و إذا أراد إحياءها جاز لمن حجرها أن يمنعه.

(المسألة 16):

اشتهر بين جماعة من الفقهاء (قدس اللّه أنفسهم) انه يشترط في صحة إحياء الأرض الميتة ان لا تكون الأرض المقصودة من الأراضي التي جعلت في دين الإسلام مشعرا من مشاعر العبادة للمسلمين مثل أرض عرفات و المزدلفة و منى فلا يصح إحياء الأرض من هذه الأودية إذا كانت ميتة.

هكذا أفادوا، و في صحة هذا الاشتراط اشكال، بل الظاهر منع ذلك، فانّ عظمة شأن هذه المواقع في دين الإسلام و جعلها فيه حقا مقدسا للّه سبحانه و حقا ثابتا معظما لعموم المسلمين، لأداء مناسكهم في ممرّ الازمان و العصور قد أبعد هذه الأمكنة أشدّ البعد و أعلى مقامها أعظم العلو و الارتفاع عن اعتبارها أرضا مواتا أو مباحة كسائر الأرضين فتحجر أو تحاز و يملكها الأفراد أو تجري عليها الاعتبارات المتعارفة في المعاملات بين الناس!!

(المسألة 17):

يشترط في صحة إحياء الأرض الميتة ان لا يكون امام المسلمين (ع) قد أقطع تلك الأرض من قبل لأحد من الناس، فإن الإمام إذا أقطع الأرض لأحد اختصت به و ان لم يحجرها و لم يحييها، و لا يحق لأحد من الناس غيره أن يحيي تلك الأرض أو يضع يده عليها، و لا ينبغي الريب في صحة هذا الشرط إذا تحقق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 160

الإقطاع منه (ع)، و قد ذكرت في التاريخ و في كتب السيرة النبوية قطائع من الرسول (ص) لبعض الصحابة، و لكن هذا الشرط لا أثر له في عصر غيبة المعصوم (ع) لعدم وجود القطائع فيه.

(المسألة 18):

إذا أحيى الإنسان أرضا ميتة على الوجه التام من الأحياء، ملك الأرض بإحيائه إياها، و لا يشترط في حصول الملك له ان يكون المحيي قاصدا لتملك الأرض على الأقوى، و يكفي في حصوله أن يقصد إحياء الأرض للانتفاع بها.

فإذا مرّ الإنسان في الفلاة مثلا بأرض كثيرة الماء نقية الهواء، و رغب في البقاء في تلك الأرض شهرا أو أكثر، فأحيى بقعة من تلك الأرض لينتفع بها في مدة بقائه و زرع في البقعة بعض ما يعجل نموه و نتاجه من المخضرات و النبات، و غرس بعض الشجر و الأزهار، ملك البقعة التي أحياها، فإذا انقضت أيام اقامته في المكان و أعرض عن المزرعة و تركها و سافر عنها زال ملكه بالاعراض، و جاز للناس الآخرين حيازتها و تملكها من بعده، و كذلك إذا بنى له في الأرض منزلا ليسكنه مدة بقائه فيها، فإنه يملك المنزل بإحيائه، و إذا أعرض عنه و تركه و سافر زال ملكه، و مثله ما إذا حفر بئرا أو أجرى

نهرا لينتفع به، فيملك ما أحياه، و إذا تركه و سافر و أعرض عنه أعراضا تاما أصبح مباحا.

و لا يبعد القول بعدم حصول الملك لما أحياه إذا قصد بإحيائه عدم التملك له، و مثال ذلك: أن يحيي المنزل في الموضع المذكور و يحفر البئر و هو يقصد عدم تملكها لنفسه، بل لينتفع بها العابرون و المسافرون من الحجاج و الزوار.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 161

(المسألة 19):

إذا سبق أحد المسلمين إلى أرض موات مباحة فوضع يده و استولى عليها لينتفع بما فيها من كلاء و نبات أو ماء أو حطب أو قصب أو ما يشبه ذلك كان ذلك المسلم أولى بتلك الأرض من غيره ما دامت يده على الأرض و ان لم يحجرها، فلا يجوز لأحد أن يحييها و يتملكها، ما دامت في يد المسلم السابق إليها، و إذا أحياها الثاني بالقهر على صاحب اليد كان غاصبا لحقّه، و لم يملك الأرض بإحيائه لها و لذلك فيشترط في صحة إحياء الأرض الميتة و في حصول الملك بإحيائها: أن لا يكون احياء المحيي لها مسبوقا بيد المسلم قد استولى قبله على الأرض، أو مسبوقا بيد ذمي أو معاهد للمسلمين ممن تحترم يده و تصرّفه في الإسلام.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 162

الفصل الثاني في حريم الأملاك المحياة

(المسألة 20):

إذا أحيى الإنسان أرضا مواتا فجعل الأرض بإحيائه لها دارا يملكها أو عقارا أو مزرعة أو بستانا أو شيئا أخر مما يتملك و ينتفع به، تبع ذلك الملك مقدار من الأرض الموات مما يتوقف عليه حصول الانتفاع التام للمالك بالملك الذي أحياه من الأرض، و يسمّى هذا المقدار التابع للملك من الأرض الموات حريما له.

و الحريم الذي ذكرناه لا يكون بتبعيته له ملكا لمالك الأرض المحياة، و لكنه حق شرعي يثبت له في الأرض ليحصل به الانتفاع بما يملكه، و هو يختلف في مقداره باختلاف الملك المتبوع، حسب ما يحصل به الانتفاع بالملك في نظر أهل العرف، و ما أمضاه الشارع من ذلك، و سنذكره ان شاء اللّه تعالى في ما يأتي من الفروض.

(المسألة 21):

إذا بنى الرجل له دارا في الأرض الموات فأحيى موضع الدار منها و ملكها بالاحياء، تبع الدار من الأرض الموات المتصلة بها مقدار ما يسلك به في الدخول الى الدار و الخروج منها للرجل المالك و لعياله و أولاده الساكنين معه فيها و لدوابه و انعامه و زوّاره المترددين اليه و أضيافه، و لأحماله و أثقاله، و لسيارته و أموره المتعارفة له، و يكون المسلك المذكور في الجانب الذي يشرع منه باب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 163

الدار، و يكون بمقدار يفي بحاجة كل أولئك في المرور دون عسر أو ضيق.

و إذا كان للدار بابان أحدهما لعياله و نسائه، و الثاني لضيوفه و زواره من الرجال، تبع الدار مسلكان يفيان بالحاجة، و لا يلزم أن يكون طريقه الى الدار مستقيما، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك أو العادة المتعارفة في البلد فيتبع ما تقتضي.

و يتبع الدار بعد إحيائها و تملكها موضع من

الأرض الميتة تلقى فيه قمامتها و اوساخها و ترابها، و موضع أو أكثر يجري فيه ماؤها من المطر و غيره، و تلقى فيه ثلوجها إذا اقتضت ذلك عادة البلاد.

و هذه المواضع التي تتبع الدار بعد إحيائها من الأرض الميتة المتصلة بها هي حريمها الذي يتوقف على وجوده انتفاع المالك بداره، فتكون من مرافق الدار عرفا، و من حقوق مالك الدار شرعا، فلا يصح لأحد من الناس احياء هذا الحريم بدون اذن مالك الدار، و إذا استولى عليه بغير اذنه كان غاصبا، و لم يملك ما أحياه منه.

(المسألة 22):

إذا بنى الرجل في الأرض الموات حائطا ليجعله سورا لبستانه مثلا، أو لحظيرة مواشيه، أو لغرض أخر، تبع الحائط على الأحوط من الأرض مقدار ما يرمى فيه ترابه و مدرة و حجارته و طينه و حصة و أدواته، إذا استهدم أو نقضه مالكه و أراد ترميمه و اعادة بنائه، فلا يحيي غيره هذا المقدار من الأرض الا بإذن مالك الحائط على الأحوط كما قلنا.

(المسألة 23):

إذا حفر نهر في الأرض الموات ليسقي مزرعة أو نخيلا أو قرية أو غير ذلك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 164

فحريم النهر من الأرض مقدار ما يلقى فيه طينه و ترابه على الحافتين إذا احتاج الى التنقية، و طريقان على حافتي النهر يسلكهما من يريد إصلاحه إذا احتاج الى الإصلاح، سواء كان النهر عاما أم خاصا، بمالك واحد أم بجماعة، و لا ريب في ان مقدار حريم النهر يختلف باختلاف النهر نفسه في كبره و صغره، و في سعة الأرض و الدور و النخيل و المزارع التي تستقي منه و قلتها، و في قلة العاملين فيه لا صلاحه و كثرتهم.

(المسألة 24):

إذا شق انسان له نهرا في الأرض الميتة ليسقي منه مزرعته أو أرضه أو داره أو حفرة جماعة مخصوصون لينتفعوا به في سقي مزارعهم و دورهم و ملكوه بالاحياء، فحريم النهر من الأرض الموات حق للرجل الذي حفر النهر و ملكه أو الجماعة الذين أخرجوه و ملكوه، فلا يجوز لأحد سواهم احياء حريم النهر إلا بإذنهم.

و إذا كان النهر عاما ينتفع به جماعة غير محصورين في العدد، و كان النهر غير مملوك لأحد منهم بعينه، أو لجماعة معيّنين، فالحريم حق عام للجماعة الذين ينتفعون به جميعا نظير ما يأتي بيانه في حريم القرية، إلا إذا كان الذي حفر النهر واحدا بعينه أو جماعة معينون، و بعد أن شقوا النهر لأنفسهم و ملكوه أباحوا الانتفاع و التصرف فيه للجميع، فيكون حريم النهر من الأرض الميتة حقا لمن استخرج النهر خاصة، دون غيره، الا إذا أسقط حقه من الحريم، أو جعل النهر نفسه مباحا للجميع.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 165

(المسألة 25):

إذا استخرج الإنسان له بئرا في الأرض الميتة يستقي من مائها لمزرعته أو لماشيته أو لغيرهما، و ملك البئر بالاحياء، تبع البئر مما حولها من الأرض الميتة مقدار ما يقف فيه النازح لاستقاء الماء منها، واحدا أو أكثر، و ما يضع فيه عدته و حباله قبل الاستقاء و بعده، و الموضع الذي يصب النازح فيه الماء إذا أخرجه من البئر، و الموضع الذي يجتمع فيه الماء لتشرب منه الماشية أو ليجري منه الى المزرعة و الموضع الذي يلقي فيه طين البئر و رملها و حجارتها إذا احتاجت إلى التنقية أو الإصلاح.

و لا يبعد أن يتبع البئر أيضا الموضع الذي تكون فيه الماشية حول الحوض حين الشرب و

قبله لانتظار النوبة إذا كانت الماشية كثيرة، و إذا كان الاستقاء من البئر بالدولاب تبع البئر موضع نصب الدولاب في البئر، و موضعه قبل ذلك و بعده، حين ما يحضر لينصب في موضعه أو حين ما يخرج منه للإصلاح أو الابدال، و موضع دور البهيمة حول الدولاب لتديره بحركتها، و موضع تردد البهيمة في ذهابها و رجوعها إذا كان الاستقاء بها لا بالدولاب، و موضع المكائن و الأجهزة التي تخرج الماء من البئر و تجريه في مجاريه إذا كان الاستقاء بها، و إذا حجر الإنسان هذه المواضع من الأرض الميتة و استعملها بقصد الاحياء ملكها مع البئر.

(المسألة 26):

للبئر السابقة في وجودها حريم أخر بالإضافة إلى البئر التي تحفر بعدها إذا كانتا متقاربتين في المكان، و حريم البئر الأولى أن تبعد البئر الثانية المتأخرة عنها في الوجود بمقدار لا تؤثر في ماء الأولى ضعفا في قوة الدفع أو قلة في كمية الماء

كلمة التقوى، ج 5، ص: 166

و قد حدّد ذلك في الحكم الشرعي بأن تبعد الثانية في مكانها الذي تحفر فيه عن الأولى أربعين ذراعا، إذا كانت الأولى بئر عطن و ان تبعد عنها ستين ذراعا إذا كانت بئر ناضح، و بئر العطن هي ما يستقي منها للإبل و الغنم، و بئر الناضح ما يستقى منها لمزرعة أو بستان أو نحوهما.

فيجب على صاحب البئر اللاحقة أن يبعدها عن مكان الأولى بالمقدار المذكور، و الظاهر ان التحديد بالمقدار المعيّن انما هو بحسب ما يقتضيه الغالب في مياه الآبار المتعارفة، و ان المدار فيه على التأثير و عدمه، فإذا علم أن البئر الثانية لا تؤثر على ماء الأولى قلة و لا ضعفا و ان استخرجت الثانية بالقرب

من الأولى جاز الحفر بقربها و لم يجب ابعادها، و إذا علم بأن المقدار المذكور من البعد لا يكفي في إزالة الأثر وجب أن تبعد الثانية عن الأولى بأكثر من ذلك حتى لا تؤثر في مائها شيئا.

(المسألة 27):

لا يختص الحكم بوجوب بعد البئر اللاحقة عن البئر السابقة عليها في الوجود بالآبار التي يحييها الإنسان في الأرض الموات، بل يجرى حتى في الآبار التي يحدثها أصحابها في أراضيهم المملوكة لهم، فإذا كانت لأحد الرجلين بئر في أرضه المملوكة أو في داره، و أراد الرجل الآخر أن يحفر له بئرا في أرض يملكها بجوار الأول، أو في أرض موات تقع بجواره، لزمه أن يبعدها عن بئر الأول إذا كانت تضرّ بمائها، و كذلك البئر الموقوفة أو المسبلة في وجه من وجوه الخير، فإذا أراد شخص أخر أن يحدث له بئرا في ملكه أو في أرض موات و هي في جوار البئر الموقوفة أو المسبلة، فعلى الثاني أن يبعد بئره عنها إذا كانت توجب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 167

تأثيرا على مائها.

(المسألة 28):

إذا فجّر انسان لنفسه عينا نابعة بالماء في الأرض الموات ملك العين بتفجيرها و إحيائها، و تبع العين من الأرض الموات من حولها مقدار ما يتوقف عليه حصول الانتفاع بالعين المحياة، فيكون ذلك المقدار حريما للعين، و حقا يختص به مالك العين على نهج ما سيق ذكره في نظائره، فإذا احتاج في انتفاعه بحسب العادة المتبعة عند أهل العرف الى حوض يجتمع فيه الماء و الى مجرى يجرى فيه كان موضع الحوض و موضع المجرى حريما للعين و تبعها أيضا موضع تلقي فيه رواسب العين و طينها و رملها إذا احتاجت إلى الإصلاح أو التنقية، و لا يجوز لغير مالك العين احياء هذه المواضع من الأرض الميتة بدون اذن مالك العين لأنها حق يختص به، و إذا أحياها صاحب العين ملكها.

و للعين المحياة أيضا حريم أخر كالحريم الثاني للبئر، فإذا أراد رجل أخر

أن يستنبط له عينا في الأرض الموات بعد ذلك وجب عليه أن يبعدها عن العين السابقة خمسمائة ذراع إذا كانت الأرض صلبة و أن يبعدها عنها ألف ذراع إذا كانت الأرض رخوة.

و الظاهر هنا أيضا أن التحديد بالمقدار غالبي كما قلنا في حريم البئر و ان المدار على تأثير العين اللاحقة في العين السابقة و عدم تأثيرها، فإذا علم أن العين الثانية لن تؤثر على جريان ماء الأولى و لن تقلّله و ان قربت منها لم يجب ابعادها و إذا علم انها تحتاج الى بعد أكثر مما ذكر وجب ابعادها أكثر منه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 168

(المسألة 29):

إذا شق الإنسان له قناة في أرض موات و أجرى فيها الماء من عين، أو من آبار موجودة في الأرض، أو كان هو قد استنبطها و أحياها و أجرى الماء في القناة الى مزرعته أو الى ضيعته، تبع القناة من الأرض الموات في جانبيها نظير ما سبق تحديده في حريم النهر، و كان هذا المقدار حريما للقناة، فلا يجوز لغير مالك القناة إحياؤه إلا برضاه.

و للقناة أيضا حريم أخر من كلا جانبيها و هو كحريم العين الذي سبق ذكره في المسألة الماضية، فإذا أراد أحد أن يحفر له قناة في إحدى الناحيتين وجب عليه أن يبعد قناته عن قناة الأول خمسمائة ذراع إذا كانت الأرض صلبة، و ألف ذراع إذا كانت الأرض رخوة، و التحديد بذلك غالبي كما قلنا في حريم العين و حريم البئر فالواجب أن تبعد القناة الثانية عن الأولى بمقدار لا تضر معه فيها و لا تقلّل ماءها.

و كذلك الحكم في النهر، فإذا شق الإنسان نهرا و اجرى فيه الماء و أراد إنسان أخر يشق

له نهرا في إحدى ناحيتي نهر الأول فعليه أن يبتعد عنه بمقدار لا يكون معه مضرا بالأول.

(المسألة 30):

لا يختص الحريم الذي بيّناه للعين أو القناة أو النهر بما يخرجه الإنسان منها في الأرض الموات، فيجري أيضا في ما يخرجه في ملكه، فإذا استنبط الرجل له عينا، أو شق له قناة، أو نهرا في أرض يملكها، و أراد غيره ان يخرج لنفسه مثل ذلك في ملكه، أو في أرض موات، وجب على الثاني أن يبتعد عن الأول بمقدار لا يضر معه به و بمائه، و كذلك في الموقوف و المسبل، و قد تقدم ذكر مثل ذلك في البئر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 169

و تراجع المسألة السابعة و العشرون.

(المسألة 31):

الحريم الثاني الذي ذكرناه للبئر أو للعين أو للقناة أو للنهر انما هو حق شرعي، أثره أن تبتعد البئر أو العين أو النهر أو القناة اللاحقة عن نظائرها إذا سبقتها في الوجود، و كان وجود اللاحقة في ما دون المقدار المذكور يضر بالسابقة، فيقلل الماء فيها أو يضعف قوة دفعه و لا يمنع هذا الحريم غير المالك من أحياء الأرض الموات في هذه السافة المقدرة، فيجوز لغيره احياء الموات منها فيجعله مزرعة أو بستانا أو دارا أو عقارا له، بعد أن يترك للنهر أو للعين أو للبئر أو للقناة حريمها الأول التابع لها فقد ذكرنا أنه حق لمالكها.

(المسألة 32):

إذا أحيى الرجل له مزرعة في أرض موات على الوجه الذي يأتي بيانه في إحياء المزرعة من الفصل الرابع، ملك الموضع الذي أحياه، و تبع المزرعة من الأرض الموات التي تتصل بها مقدار ما يتوقف عليه حصول الانتفاع التام للمالك بمزرعته، فان المزرعة حسب ما يعتاد بين الناس و الزراع منهم تحتاج الى موضع من الأرض تجمع فيه الأسمدة إذا كان الزرع مما يحتاج الى التسميد و الى موضع يجعله الزارع بيدرا يداس فيه الزرع بعد حصاده و تصفي فيه الحبوب، و الى موضع يجمع فيه الخضر و الحاصلات و الثمار من الزراعة حتى توضع في صناديقها أو في أكياسها أو تشدّ حزما و باقات و تصنف أنواعها و أصنافها و تعدّ للحمل و النقل، و الى موضع يكون حظيرة للحيوان و الدواب التي يحتاج إليها في المزرعة، و الى طريق للدخول إلى المزرعة و الخروج منها و التردّد في أطرافها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 170

و الوصول الى مرافقها للزارع و لمساعديه و عملائه الذين يصلون

الى مزرعته إذا كانت واسعة، و قد يحتاج بحسب العادة المتعارفة الى أكثر من مسلك واحد فيكون جميع ذلك و ما أشبهه حريما للمزرعة يتبعها من الأرض الموات و يصبح حقا خاصا لمالكها، فلا يجوز لغيره وضع اليد عليها أو على شي ء منها الا باذنه و إذا أحياها مالك المزرعة ملكها.

و قد يتخذ الإنسان في المزرعة أو في البستان الذي يحييه بركة من الماء لتربية الأسماك فيها، أو موضعا لإنتاج الدواجن و تربيتها فيملكه بالاحياء، و تتبعه من الأرض الموات المتصلة به مواضع يتوقف عليها الانتفاع بالملك فتكون حريما له على نهج ما سبق في نظائره.

و قد يتوسع أمرها فيحتاج الى طريق لدخول سيارته و أدوات نقله إلى المزرعة و خروجها منها، و دخول سيارات آخرين يتعاملون معه و خروجها و ترددها، فيكون ذلك حقا من حقوقه الخاصة به و إذا أحياه ملكه، و يجرى نظير ما ذكر في البستان و الضيعة إذا أحياهما من الأرض الموات فيتبعهما من الحريم ما يتوقف عليه حصول الانتفاع التام بهما.

(المسألة 33):

إذا أحييت قرية في أرض موات ملك كل واحد من أهل القرية منزله الذي أحياه منها، و تبع المنزل حريمه الخاص به، و الذي لا يتم الانتفاع بالمنزل الا به و قد ذكرنا حريم الدار في المسألة الحادية و العشرين، و يتبع القرية من الأرض الموات المتصلة بها طرق القرية للدخول إليها و الخروج منها، و الوصول الى منازلها و الى مرافقها العامة، و يتبعها كذلك موارد أهل القرية من الماء و مشارعهم

كلمة التقوى، ج 5، ص: 171

إذا كانت منفصلة عن البيوت، و مسيل مياه القرية من المطر و غيره إذا لم تكفها المجاري الخاصة بالبيوت، و

الموضع الذي يجتمع فيه أهل القرية متى احتاجوا الى الاجتماع و لم تكف لذلك مجالسهم الخاصة.

و يتبع القرية موضع لدفن الموتى منهم إذا لم توجد مقبرة مسبلة أو موقوفة تكفي لأهل القرية، و موضع تجمع فيه كناسة القرية و قماماتها و تلقي فيه فضلاتها و أسمدتها، و مراع للماشية و أمكنة للاحتطاب، إذا احتاج سكان القرية إلى مواضع خاصة لذلك و لم تكفهم الحيازة من المباح، و ما شاكل ذلك مما يحتاج اليه سكان القرى و تتوقف عليهم مصالحهم.

و المدار في ذلك أن يحتاجوا إليه حاجة ماسة بحيث يقعون في عسر و ضيق إذا منعهم منه أحد أو زاحمهم فيه مزاحم، فيكون ذلك حريما للقرية و حقا عاما لأهلها و لا يختص بواحد منهم، و لا يجوز لغيرهم إحياؤه أو الاستيلاء عليه، بل و لا يجوز لبعض أهل القرية إحياء شي ء منه إلا برضى الجميع.

و لا ريب في أن حريم القرية و مرافقها تختلف باختلاف القرية في كبرها و صغرها و في كثرة سكانها و قلتهم، و في سعة اتصالاتهم بالقرى و البلاد الأخرى و ضيقها، و كثرة الواردين و المترددين إليها من أهل المصالح فيها و غيرهم، و كثرة المواشي و الأنعام و الدواب و قلتها.

(المسألة 34):

قد يتداخل حريم الدار الخاص مع حريم القرية، فيكون مسلك الدّخول الى الدار و الخروج منها هو بذاته طريقا من الطرق العامة في القرية، أو يكون موضع إلقاء القمامة و الأوساخ من الدار هو موضع إلقائها في القرية، و يكون الموضع الذي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 172

تجري فيه مياه المطر و نحوه من الدار في طريق من طرق القرية و هكذا، فيدخل حريم الدار في حريم القرية

و يكون حقا عاما لسكان القرية جميعا، و لا يختص به صاحب الدار، و انما يختص به إذا كان منفردا عن حريم القرية و ان كانت الدار متصلة بالقرية.

(المسألة 35):

لا ريب في ان حاجة الناس الى الطريق و الشارع قد اختلفت مع اختلاف الزمان و مع تنوع وسائل النقل و الحمل فيه، و اضطرار سكّان القرى و البلاد و سكّان الأرياف الى اتخاذ هذه الوسائل المتنوعة لحاجاتهم و تنقلهم و حمل أثقالهم في الذهاب و الرجوع، و لذلك فيكون من الحقوق اللازمة في القرية و البلد بل و في المزرعة و الضيعة أن يتسع الطريق و الشارع بمقدار ما يفي بالحاجة العامة و يرفع العسر و الضيق في المرور، و عن المارين و العابرين من الأفراد و الجماعات الراكبين و الراجلين و يكون ذلك حريما للقرية و حدا للطريق و حقا عاما للسكان.

(المسألة 36):

إذا غرس الرجل نخلة أو نخلتين مثلا في أرض ميتة ملك ما غرسه و ملك موضع غرسه من الأرض، و تبع النخلة من الأرض الميتة مدى جرائد النخلة من جميع جوانبها و يكون هذا المقدار حريما للنخلة المغروسة و حقا خاصا لمالكها فلا يجوز لغيره من الناس أن يحيي هذا الحريم أو يتصرف فيه إلا برضى صاحبه و إذا أحياه صاحب الحق ملكه، و كذلك الحكم إذا غرس شجرة في الأرض الميتة فيملك الشجرة، و يملك موضع غرسها من الأرض و يتبع الشجرة من الأرض مقدار ما تمتدّ إليه أغصانها، و يكون ذلك حقا له خاصة و إذا أحياه ملكه بالإحياء.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 173

(المسألة 37):

إذا أحيى الإنسان أرضا ميتة فجعلها دارا أو بستانا أو مزرعة أو غير ذلك ملك ما أحياه من الأرض و تبعه من الحريم ما فصّلنا ذكره في المسائل المتقدمة فيكون ذلك حريما لملكه و حقا من حقوقه، و بقي ما زاد على ذلك من الأرض الميتة مباحا للجميع، و ليس لمالك الأرض المحياة حق اختصاص به سبب جواره و إحيائه لبعض الأرض، و لا يحق له أن يمنع أحدا عن إحيائه أو تحجيره، و كذلك الحكم في الأرض الميتة التي تكون في جوار قرية أو طائفة من الناس، فلا يكون لأهل القرية أو لتلك الطائفة حق في الأرض المذكورة بسبب مجاورتها لهم، و ليس لهم أن يمنعوا من سواهم عن السبق إلى إحيائها إلا إذا سبقوا إلى الأرض فحجروها أو كانت حريما خاصا لاملاكهم أو ثبت لهم غير ذلك من موجبات الاختصاص شرعا.

(المسألة 38):

الحريم الذي يتبع الملك الذي يحييه الإنسان من الأرض الموات كما قلنا أكثر من مرة انما هو حق شرعي يثبت لذلك الإنسان و ليس ملكا له، فحريم الدار و حريم الحائط و حريم المزرعة و الضيعة و القرية و النخلة المغروسة، و الحريم الأول للبئر و للعين و القناة و النهر، حقوق شرعية تثبت لصاحب الحق تتعلق بالمقدار المعيّن من الأرض الميتة فلا يجوز للناس الآخرين غصبها منه و وضع اليد عليها بإحياء أو تصرف أخر، و يجوز لصاحب الحق منعهم منه، من غير فرق بين الأفراد المذكورة من الحريم على الأظهر و الأحوط.

و لا يثبت هذا الحكم في الحريم الثاني للبئر و العين و القناة و النهر فان هذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 174

الحريم انما هو حدّ شرعي لابعاد البئر

اللاحقة عن البئر السابقة عليها في الحفر إذا كانت تضرّ بمائها، و كذلك الحريم الثاني للعين و القناة و النهر، و قد سبق منا بيان هذا، فيجوز للآخرين احياء هذا الحريم و تحجيرة و التصرف فيه، و لا يجوز لمالك البئر و العين و القناة و النهر منعهم منه.

(المسألة 39):

لا يثبت الحريم بين الاملاك المتجاورة، فإذا بنى الرجل له دارا في أرضه المملوكة له، فليس له حق الاستطراق الى داره في الدخول و الخروج منها في أرض جاره، و لا حق له في إجراء مياه داره أو إلقاء كناستها و قمامتها في ملك جاره، أو أن يجعل في ملك جاره شيئا من مرافق داره، إلا إذا اذن له الجار بما يريد، و إذا اذن له بشي ء منه فإنما هي رخصته يجوز له الرجوع بها متى أراد، و كذلك إذا بنى الرجل حائطا أو شق له نهرا أو حفر بئرا في حدود أرضه المملوكة له، فلا يثبت لها حريم في ملك صاحبه كالحريم الذي يكون لها إذا أنشئت في الأرض الموات.

نعم، إذا سبق أحد المتجاورين فحفر له بئرا في أرضه أو استنبط عينا نابعة أو شق قناة أو نهرا، ثم أراد جاره أن يخرج مثل ذلك في ملكه و كانت بئره أو عينه أو قناته أو نهره الذي يريد إخراجه يضرّ بما فعله الأول وجب على الثاني ان يبتعد عنه بمقدار يرتفع به الضرر و ليس ذلك حريما أو حقا للجار في ملك الجار، بل لعدم جواز الإضرار به و قد ذكرنا هذا في المسألة السابعة و العشرين و المسألة الثلاثين.

(المسألة 40):

يجوز لكل واحد من الشخصين المتجاورين في الملك ان يتصرف في ملكه الخاص به كيف ما يريد، و لا يحقّ لأحد من الناس أن يمنعه من التصرف في ملكه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 175

إلا إذا كان الشخص محجورا عن التصرف في ماله فيجوز للولي الشرعي عليه منعه بل و يجوز لغير الولي منعه أيضا من باب الحسبة مع وجود الشرائط.

و لا يجوز للمالك

أن يتصرف في ملكه تصرفا يوجب الضرر على جاره و مثال ذلك: أن يقطع الرجل نخلة من بستانه و هو يعلم أن النخلة إذا قطعها فستقع على حائط جاره فتهدمه أو على بعض مملوكاته فتحطمها، و أن يفعل في بيته فعلا يسبّب تصدع منزل جاره و خلل بنائه، أو يبنى كنيفا بالقرب من بئر جاره يوجب تعفّن ماء البئر و فساده، أو يحتفر بالوعة تسري الرطوبة منها الى جدران جاره فتتلفها.

و من ذلك: أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فتسحب ماءها أو تنقصه، أو يستخرج عينا تضعف جريان عينه، أو يشق قناة تضرّ بماء قناته و قد ذكرنا هذا في مسائل تقدمت.

و الظاهر انه ليس من الضرر المانع من التصرف أن يرفع الرجل بناء بيته على بيت جاره فيمنعه بسبب ذلك من تسلّط الشمس و الهواء على منزله و الاستفادة الصحيحة من ذلك، و لا يبعدان يكون من الإضرار المانع إذا كان الجار قد أعد الموضع من ملكه لجمع التمر فيه و تشميسه فأعلى الجار الآخر بناءه على الموضع و منع تسلط الشمس عليه و أوجب ذلك تلف التمر و الضرر بالمال و خصوصا إذا كان الجار صاحب البناء يعلم بوقوع هذا الضرر من قبل ذلك.

(المسألة 41):

لا يجوز لكل واحد من المتجاورين في الملك أن يتصرف في ملكه تصرفا يوجب وقوع الضرر على جاره، و يراد به الضرر الذي يعتد به العقلاء، و الذي لا يتعارف حدوث مثله بين الجيران، فلا يمنع منه إذا كان مما يتعارف حصول مثله

كلمة التقوى، ج 5، ص: 176

بينهم، و مثال ذلك: أن يتخذ الجار في بيته مخبزا و ان استوجب أذية الجار بالدخان، أو يتخذ في ملكه

محلا لدباغة الجلود و ان استلزم أذاه بالروائح، و نحو ذلك، و يأثم إذا هو فعل شيئا من ذلك بقصد إيذاء الجار.

(المسألة 42):

إذا تصرف المالك في ملكه تصرفا يستلزم ضرر جاره ضررا يمنع منه العقلاء و يحرمه الشارع، وجب عليه ان يترك ذلك التصرف و يرفع استمرار الضرر عن جاره، فإذا أوجب تصرفه في بيته تصدع حائط جاره أو خلل بنائه، ضمن له ذلك فيجب عليه أن يتدارك الخلل و التصدع بالإصلاح و إذا حفر بئرا بالقرب من بئر جاره فانقطع بذلك ماءها أو نقص لزمه ان يطم البئر التي حفرها و هكذا.

(المسألة 43):

إذا تردد أمر المالك بين أن يتصرف في ملكه فيقع الضرر على جاره بسبب هذا التصرف، و أن يترك التصرف فيقع الضرر على المالك نفسه بالترك، أشكل الحكم، و لا يترك الاحتياط اما بأن يتحمل المالك الضرر و يترك التصرف أو يرجع الطرفان الى المصالحة بينهما.

(المسألة 44):

إذا سبق أحد المالكين المتجاورين فحفر له بالوعة في ملكه أو بنى كنيفا، ثم حفر الثاني من بعده، بئرا في ملكه بالقرب من بالوعة جاره أو كنيفه فأوجب ذلك فساد ماء بئر الثاني و تغيره فلا اثم و لا ضمان على مالك البالوعة أو الكنيف، و لا يجب عليه رفعهما ليزيل الضرر عن صاحب البئر.

و كذلك إذا سبق أحدهما فاحتفر في أرضه بئرا ثم حفر الثاني في أرضه بئرا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 177

من بعده فلم يخرج الماء في البئر الثانية بسبب قرب البئر السابقة منها أو خرج الماء فيها ضعيفا فلا شي ء على السابق و لا يجب عليه طم بئره ليزيل الضرر عن صاحبه فان الضرر على اللاحق قد حصل بسبب تصرفه بنفسه في ملكه لا بسبب تصرف الأول في كلتا الصورتين.

(المسألة 45):

تكاثرت الأحاديث الواردة عن الرسول (ص) و عن خلفائه الأئمة المعصومين (ع) الدالة على حرمة إيذاء الجار، و على وجوب كف الأذى عنه و تنوعت في الدلالة على ذلك، ففي بعضها (ان الرسول اللّه (ص) أمر عليا و سلمان و أبا ذر، يقول راوي الحديث و نسيت آخر و أظنه المقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم: انه لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بذلك ثلاثا)، و عن أبي حمزة قال: (سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: (المؤمن من أمن جاره بوائقه، قلت ما بوائقه قال (ع) ظلمه و غشمه)، و في حديث المناهي عن الرسول (ص): (من أذى جاره حرم اللّه عليه الجنة و مأواه جهنم و بئس المصير، و من ضيّع حق جاره فليس منا، و ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، و في

الخبر عن الامام جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام)، قال: (قرأت في كتاب على (ع): ان رسول اللّه (ص) كتب بين المهاجرين و الأنصار و من لحق بهم من أهل يثرب ان الجار كالنفس غير مضار و لا اثم، و حرمة الجار على الجار كحرمة أمه)! و لهذه النصوص و غيرها فيحرم على الجار إيذاء جاره، و يجب عليه كف أذاه عنه، سواء حصل الأذى بتصرف الإنسان في ملكه تصرفا يضرّ بجاره و يؤذيه أم بسبب أخر، فيكون بايذائه إياه عاصيا اثما.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 178

(المسألة 46):

و قد استفاضت الأخبار عنهم (صلوات اللّه عليهم) في الحث على حسن الجوار و التأكيد على حفظ حقوق الجيران، فعن الرسول (ص) انه قال (حسن الجوار يعمر الديار و ينسئ في الأعمار)، و عن الإمام أبي عبد اللّه (ع): (حسن الجوار يزيد في الرزق)، و في خبر أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع): (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم و يأخذ بقولي السلام، و أوصيكم بتقوى اللّه (عز و جل) و الورع في دينكم و الاجتهاد للّه و صدق الحديث و أداء الأمانة و طول السجود و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، و عنه (ع) في حديث أخر: (أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه و لا يعرف حق جاره)، و عن العبد الصالح (ع): (ليس حسن الجوار كفّ الأذى، و لكن حسن الجوار صبرك على الأذى)، و قد تكرر في أحاديثهم (ع): (ان الصبر على أذى الجار و على أذى المؤذين من الناس مما يوجب الأجر الكريم عند اللّه، و انه سبحانه يمتحن العبد المؤمن بالجار المؤذي أو

بالقرين المؤذي من أهل بيته أو أرحامه أو بالرفيق المؤذي في سفره أو حضره ليؤجره بذلك إذا صبر) و ورد عنهم (ع): (من كف أذاه عن جاره أقاله اللّه عثرته يوم القيامة).

و لعل المراد بذلك أن يكظم الرجل غيظه مع إيذاء جاره له، و يصبر نفسه على تحمل الأذى منه، و يكف نفسه عن مجازاته بالأذى مع قدرته على ذلك ابتغاء لمرضاة اللّه سبحانه فيستحق بذلك أن يقيله اللّه عثرته في يوم الجزاء.

و قد ذكرنا في أخر كتاب الصلح في الجزء الرابع من هذه الرسالة مسائل تتعلّق بأملاك المتجاورين فليرجع إليها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 179

الفصل الثالث في تحجير الأرض الميتة و الحمى منها

(المسألة 47):

إذا سبق إنسان إلى قطعة من أرض ميتة و لا يد لأحد من الناس فحجر تلك القطعة كما يأتي بيانه كان أولى من غيره في إحيائها و التصرف بها، فلا يحق لغيره أن يضع يده عليها أو يحييها إلا بإذن من حجرها، و إذا أحياها الغير بدون رضاه لم يملكها، و لذلك فقد اشترطنا في صحة إحياء الأرض الموات و في حصول الملك به: ان لا تكون الأرض قد حجرها أحد ممن تحترم حقوقه في الإسلام، إلا إذا كان المحجر قد أسقط حقه من الأولوية بالأرض، و أباحها لذلك المحيي أو أباحها لكل من يرغب في إحيائها، أو عرض له ما يوجب سقوط حقه.

(المسألة 48):

تحجير الأرض هو أن يحدث الشخص فيها ما يدل على اختصاصه بها و منع الآخرين منها لغرض يقصده العقلاء، و سيأتي توضيح المقصود من هذا القيد في بعض المسائل الآتية.

و من أمثلة التحجير: أن يبني الرجل حول الأرض المقصودة له سورا كبيرا أو صغيرا يحيط بها، أو يسدّ حولها سدا من الطين أو غيره، أو يحيطها بحجارة أو يبني من حولها مروزا، أو يحفر أساسا أو يغرز خشبا أو جريدا أو قصبا، أو يحيطها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 180

بسرك أو قضبان من الحديد و نحو ذلك. و لا يكفى أن يخط من حول الأرض خطة.

و الظاهر انه يكفي في تحقق التحجير أن يبسط المحجر جميع الأرض و يقتلع الإشراك و الطفيليات منها، و إذا فجّر في الأرض عينا نابعة ملك العين، و اختص بحريمها من الأرض من جميع جوانب العين، و إذا شق للعين قناة أو أجرى منها نهرا ملك القناة و النهر، و استحق ما يتبعهما من الحريم، و

كذلك إذا استخرج فيها بئرا فيملك البئر و يستحق حريمها من الأرض و قد سبق ذكر جميع هذا مفصلا.

و هل يعدّ إخراج العين أو البئر أو شق القناة أو النهر في الأرض تحجيرا لها و ان لم يسقها بعد بالماء كما يراه بعض الأعلام فيه اشكال، و إذا هو بسط الأرض من حول ما أخرجه فيها و سقاها من الماء كان ذلك تحجيرا للأرض و شروعا في إحيائها بلا ريب.

(المسألة 49):

إذا عمد الرجل إلى أرض قد غمرها الماء و أصبحت من الأهوار منبتا للبردي و القصب أو أجمة تلتف فيها الأشجار غير المثمرة، فجفف الماء و أظهر الأرض كان ذلك تحجيرا لها و كان ذلك الرجل أولى بها من سواه، و كذلك إذا قلع ما فيها من نبات و طفيليات كان ذلك تحجيرا و ان لم يجف الماء بعد، و إذا اقتلع الشجر و النبات من جذوره و جفف الماء فقد حجر الأرض و بدأ في عمارتها و إحيائها.

(المسألة 50):

لا يتقيد تحجير الأرض على الأقرب بأن يكون التحجير لإرادة إحياء الأرض و تعميرها كما يظهر من بعض الأكابر، فإن التحجير قد يحصل لغرض أخر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 181

من الأغراض المطلوبة عند العقلاء المتعارفة في ما بينهم، كما أشرنا الى هذا في المسألة الثامنة و الأربعين، فقد يحجر الإنسان أرضا ميتة فيسورها لتكون مقبرة مسبلة لأهل البلد، و قد يحجرها ليبقيها أرضا خالية و يتخذها مراحا لماشيته و أنعامه، و قد يحجرها ليبقيها كذلك و يتخذها موضعا يجمع فيه حاصلاته من التمور أو الحبوب أو غيرها، و يعدها فيه للحمل و النقل، و قد يحجرها فيجعلها موضعا بارزا يجتمع فيه أهل بلده أو طائفته في مناسباتهم الدينية فيكون مصلى لهم في العيد مثلا، أو عند الاستسقاء، أو في مناسباتهم العرفية أو الوطنية التي لا بد لهم منها، أو لغير ذلك من الغايات و الأغراض المهمة، و لا مانع من ذلك على الظاهر خصوصا مع توفر الأراضي الموات لكل من يريد إحياء أرض و تملكها بحيث لا يزاحم حقوق الآخرين في ذلك.

و قد يريد الفقهاء القائلون بتقييد التحجير بإرادة إحياء الأرض ما يشمل مثل ذلك

مما يحتاج اليه الناس عادة، و ان كانت الأرض لا تزال فارغة من غير التحجير.

(المسألة 51):

يعتبر في التحجير أن تكون العلامات التي يجعلها الرجل في الأرض دالة على اختصاصه بالأرض، و دالة على تحديد القطعة التي يريدها من جميع جهاتها فعليه أن يحجرها من جوانبها الأربعة إذا كانت القطعة في وسط الأرض الموات و يكفيه تحديدها من ثلاث جهات إذا كانت في الجهة الرابعة تنتهي إلى موضع مملوك أو محجر لأحد من الناس، أو تنتهي إلى شط أو بحر مثلا، و يكفيه التحديد من جهتين إذا كانت من الجهتين الباقيتين تنتهي الى بعض المذكورات فإذا أراد الرجل تحجير بعض الشاطئ و كان البعض الذي يريد تحجيره ينتهى من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 182

جهة اليابسة إلى أرض مملوكة أو محجرة لأحد كفاه أن يحجره من جهتين، و اما من ناحية الشط أو البحر فإنما يفتقر الى تحجيره إذا أبقى من الشاطى فضلة لا يريد الاختصاص بها، أو افتقر الى السد ليمنع الماء عن أرضه و يبدأ بإحيائها أو الانتفاع بها.

(المسألة 52):

تحجير الإنسان للأرض الميتة يوجب كونه أحقّ بالقطعة المحجرة من غيره، و لا يكون مالكا لها إلا بالاحياء، و لذلك فلا يصح له بيع الأرض التي حجرها و لا وقفها الا بعد إحيائها و تملكها.

و الحق الذي يثبت للرجل بتحجير الأرض قابل للانتقال منه الى غيره، فإذا مات قبل أن يحيي الأرض انتقل حقه فيها الى وارثه من بعده، و هو أيضا قابل لأن ينقله المحجر في حياته باختياره الى الغير فيصح له أن ينقله إليه بالمصالحة بعوض و بغير عوض، و يصح له ان يجعل حق التحجير بعد أن يثبت له شرعا في الأرض ثمنا لشي ء يشتريه فيملك الشي ء الذي اشتراه و ينتقل حق التحجير إلى البائع و يصح

أن يجعله عوضا في مصالحة تقع بينه و بين غيره، و أن يجعله عوضا عن شي ء يستأجره من مالكه، و أن يكون مهرا في عقد النكاح، و عوضا في الخلع و المبارأة، و يجوز له أن ينقله الى غيره بالهبة، و قد ذكرنا هذا في كتاب الهبة و ان كان ذلك خلاف القول المشهور، فإذا نقل الرجل حق التحجير الذي ثبت له في الأرض إلى غيره بأحد الأسباب التي ذكرناه أصبح الحق لذلك الغير، فيكون أولى بالأرض المحجرة من غيره، و لا يملك الأرض الا بإحيائها و تسقط بالنقل أولوية المحجر الأول.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 183

(المسألة 53):

لا يشترط في صحة تحجير الأرض الميتة أن يتولى الشخص المحجر تحجير الأرض بنفسه فيصح له أن يوكّل فيه إنسانا غيره و أن يستأجره ليحجر له الأرض على الوجه الذي يحدده في عقد الوكالة أو الإجارة بينهما، فإذا حجرها الوكيل أو الأجير وفقا لما يريده الأصل صح عملهما و ثبت الحق للأصيل المنوب عنه فكان أولى بالأرض من غيره، و لا حق فيها للوكيل و الأجير.

(المسألة 54):

إذا تبرع أحد عن زيد مثلا فحجّر له أرضا مواتا متبرعا له بعلمه من غير استنابة و لا توكيل من زيد نفسه، و قبل زيد منه تبرعه على أشكل الحكم بصحة التحجير لزيد، و كذلك إذا حجر الأرض بالنيابة عنه على نحو الفضولية في النيابة و أجاز الأصيل نيابة و تحجيره ففي صحة ذلك اشكال، و لا يترك الاحتياط بالمصافحة و المراضاة بينهما في كلتا الصورتين.

(المسألة 55):

إذا حجر الإنسان أرضا مواتا بقصد أن يحييها و يتملكها بعد التحجير، ثم بدا له بعد ما حجرها بهذا القصد أن يستعمل الأرض في وجهة أخرى من الغايات المتعارفة، فيتخذها مراحا لما لماشيته أو يسبلها مقبرة لدفن الموتى من أهل قريته أو يجعلها لغير ذلك من وجوه الانتفاع بها جاز له ذلك، و نظيره في الحكم ما إذا حجر الأرض لبعض الغايات و الوجوه المذكورة ثم بدا له أن يعمر الأرض و يحييها فيجوز له ذلك و لا يتعين عليه أن ينتفع بالأرض في الجهة الأولى التي قصدها عند

كلمة التقوى، ج 5، ص: 184

التحجير، و لا يسقط حقه من الأولوية بالأرض بسبب عدوله عن الغاية الأولى الى الغاية الثانية.

(المسألة 56):

انما يثبت للإنسان حق الأولوية بالأرض الموات بتحجيرها، و يكون له منع غيره عن التسلط عليها إذا كان قادرا على اعمار الأرض، و توجيهها في الوجهة المقصودة له، المتعارفة بين العقلاء من تحجير الأرض فإذا حجر الأرض و هو عاجز عن إحيائها أصلا، فلا يستطيع أن يقوم بعمارتها بنفسه و لا بالتوكيل أو الاستئجار لغيره، و لا يجد الأسباب التي تمكنه من الإحياء، و لا يقدر أن يوجه الأرض وجهة أخرى من الغايات الصحيحة، فلا اثر لتحجيره، و لا تكون له أولوية على غيره في الأرض المحجرة.

و كذلك إذا حجّر أرضا مواتا تزيد على مقدار ما يمكنه تعميره و إحياؤه منها و ما يمكنه استعماله و الانتفاع به من الوجوه الصحيحة غير الاحياء، فيثبت له حق التحجير في المقدار الذي يستطيع استعماله منها، و ينتفي حقه في الزائد الذي يعجز عنه.

و يتفرع على ذلك انه لا يصح للرجل أن يحجر أرضا يعجز عن استعمالها كما

ذكرنا، ثم ينقل حقه من الأرض إلى غيره بمصالحة أو هبة أو بإحدى المعاملات التي يصح نقل حق التحجير بها، فان حق التحجير لا يثبت له في الفرض المذكور حتى يصح له نقله الى غيره بعوض أو بغير عوض.

(المسألة 57):

يجوز لمن حجر أرضا مواتا و ثبت له حق التحجير فيها على الوجه الصحيح

كلمة التقوى، ج 5، ص: 185

أن يسقط حقه من الأرض باختياره، و يجوز له أن يعرض عنه كما يعرض عن سائر مملوكاته و أمواله، فإذا هو أسقط الحق باختياره أو أعرض عنه زال حقه بذلك و عادت الأرض مباحة لأي أحد يريد إحيائها من الناس، و ان كانت آثار التحجير لا تزال موجودة في الأرض، و كذلك إذا زالت آثار التحجير منها، و دل ذهابها على أن محجرها قد أعرض عن حقه فيها، و مثال ذلك: أن تنمحي آثار التحجير، و تبقى الأرض مهملة غير محجرة مدة من الزمان و صاحب الحق يراها و لا يلتفت إليها و هو قادر على إحيائها أو اعادة تحجيرها على أدنى التقادير.

(المسألة 58):

إذا تعمد أحد من الناس فأزال آثار التحجير من الأرض لم يزل حق التحجير ثابتا لصاحبه و هو المحجر الأول، و كذلك إذا زالت الآثار بعاصف من الريح أو مطر شديد أو شبه ذلك فلا يزول بذلك حق صاحب الحق و خصوصا مع قصر المدة، و إذا انمحت آثار التحجير من الأرض لطول المدة أشكل الحكم بزوال حق التحجير بذلك.

(المسألة 59):

إذا حجر الإنسان لنفسه أرضا ليحييها و يتملكها، لزمه بعد التحجير أن يشرع بعمارة الأرض أو يبدأ بمقدمات ذلك إذا كان تعميرها يتوقف على مقدمات و لا يجوز له أن يهمل الأرض و يترك إحيائها، و إذا أهمل المحجر الأرض التي حجرها و مضت على ذلك مدة فالأحوط لغيره إذا أراد وضع اليد عليها و إحياءها أن يرفع الأمر إلى الحاكم الشرعي إذا كان موجودا و مبسوط اليد، فيلزم من حجر الأرض اما أن يختار تعمير الأرض و إحياءها فلا تبقى معطلة، و اما ان يرفع يده عن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 186

الأرض لمن شاء من الناس.

و إذا أظهر المحجر لنفسه عذرا مقبولا، فادعى أنه يريد التفرغ لتعمير الأرض من بعض أعماله و مشاغله مثلا، أو أنه ينتظر قدوم عمال يعتمد عليهم، أو يطلب الحصول على آلات صالحة يعمر بها الأرض، أمهله الحاكم مدة يزول فيها عذره، فإذا انقضت المدة و لم يبدأ بتعمير الأرض بطل حقه من تحجير الأرض جاز لغيره ان يقوم بعمارتها.

(المسألة 60):

إذا طالت مدة إهمال المحجر للأرض بعد تحجيرها فلم يعمرها و لم يوجد الحاكم الشرعي ليخيّره بين تعمير الأرض و رفع اليد عنها أو كان الحاكم غير قادر على ذلك، فالأحوط أن يراعي للمحجر حق تحجيره للأرض إلى مدة ثلاث سنين فإذا انقضت المدة سقط حقه و جاز لغيره إحياء الأرض، و كذلك الحكم إذا حجر الأرض لبعض الغايات الأخرى التي يصح التحجير لها، فإذا هو أهمل و لم يستعملها في الوجهة المقصودة جرت فيها الفروض التي ذكرناها في هذه المسألة و سابقتها و انطبقت عليها الاحكام التي بيناها.

(المسألة 61):

الحمى من الأرض حق مخصوص يتولى جعله و تعيينه ولي الأمر في الإسلام، و هو الرسول (ص) و الإمام المعصوم من أوصيائه (ع) لأنهما أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حمى موضعا معينا من الأرض أو قطعة أو أكثر منها فجعلها لجهة من مصالح المسلمين العامة أو الخاصة أو لما شاء من الأمور كما تقتضيه ولايته التامة العامة، لم يجز لأحد من الناس ان يتسلط على ذلك الحمى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 187

و يتصرف فيه بتحجير أو أحياء أو انتفاع في غير الجهة التي عينها ولي الأمر (ع).

و قد ذكر في كتب التاريخ و في كتب السيرة النبوية ان الرسول (ص) قد حمى النقيع، و هو موضع في المدينة، فجعله مرعى لإبل الصدقة و الجزية، و لخيل المجاهدين، لم بذكر انه (ص) حمى لنفسه موضعا أو قطعة من الأرض، و لم يذكر كذلك أن الوصي المعصوم (ع) قد حمى من بعده أرضا لمثل ذلك، و قد تقدم ذكر اقطاع الرسول و الإمام عليهما السلام لبعض المسلمين و الإقطاع غير الحمى.

(المسألة 62):

لا يجوز لغير الرسول و الامام المعصوم (عليهما السلام) أن يحمي موضعا أو قطعة من الأرض، و إذا حماه غيرهما لم تترتب عليه أحكامه.

و إذا أحيى الرجل ضيعة فملكها بالإحياء أو ملكها بغير الاحياء من الأسباب الشرعية للتملك، و أراد أن يعين موضعا من ملكه فيجعله مرعى خاصا لماشيته و أنعامه، أو لمواشي أرحامه أو أهل قريته، جاز له ذلك، و اختص الموضع بالجهة الخاصة التي عيّنها مالك الأرض، و هو أمر أخر غير الحمى من الأرض الموات الذي يختص بجعله ولي المسلمين (ع).

كلمة التقوى، ج 5، ص: 188

الفصل الرابع في ما يحصل به إحياء الأرض الميتة

(المسألة 63):

تختلف كيفية إحياء الأرض الموات باختلاف الوجهة التي يبتغيها الإنسان من إحيائها و الغرض الذي يطلبه من عمارتها، فإن الإنسان قد يعمر الأرض ليجعلها دارا يسكنها أو يؤجرها، و قد يعمرها لتكون ضيعة له أو بستانا أو مزرعة ينتفع من ثمرها و حاصلها، و قد يحييها فيفجر فيها عينا جارية، أو يحفر فيها بئرا نابعة، أو يشق في الأرض قناة أو نهرا، و يجرى فيهما الماء من العين أو البئر و يسقى مزرعته أو ضيعته أو قريته، و لا ريب في ان عمارة كل واحد من هذه الأشياء و إحياءه يختلف عن غيره و المرجع في جميع ذلك الى العرف الموجود بين الناس في صدق تعمير الجهة التي يريدها الإنسان و إحيائها.

(المسألة 64):

يتوقف إحياء الأرض قبل الشروع فيه على رفع الموانع التي تكون في الأرض عن قبول الاحياء و التعمير، فقد تكون الأرض منبتا للأشواك و الحسك و السلم و ما يشبه ذلك من النباتات الخشنة، فلا يمكن إحياء الأرض حتى يزال منها جميع ذلك، و تصبح نقية منها و من جذورها و قد يكون وجه الأرض قد استولى عليه السبخ أو الرمل الناعم أو الحصى الخشق فلا تكون قابلة للتعمير الا بعد تنقيتها من ذلك، و قد تكون مما كثرت فيها التلول و الهضاب و الأودية، فلا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 189

تمكن عمارتها الا بعد تسوية الأرض و بسطها و إزاحة ما فيها من العقبات المانعة و قد تكون الأرض قد استأجمت لغلبة الماء و الأشجار و النباتات الغريبة عليها و لا بدّ قبل الشروع في الاحياء من تجفيف الماء عنها، و قلع ما فيها من النبات و الشجر الذي يمنع من ذلك

و تسوية الأرض، و طم الحفر و ازالة الجذور.

(المسألة 65):

إذا عمر الإنسان حجرة في الأرض الميتة فبنى جدرانها الأربعة و وضع عليها سقفها على الأحوط فيه و أصبحت بذلك صالحة للسكنى، فقد احيي موضع الحجرة من الأرض و ملكه بالاحياء و ان لم ينصب لها بابا، و كذلك إذا بنى في الأرض بيتا من قصب أو من خشب أو حديد أو غيره و سقف البيت، و أصبح البيت قابلا للسكنى فيه فقد أحيى الموضع و ملكه، و إذا أدار حول الحجرة التي بناها و الساحة حائطا يسورهما من جوانبهما فقد عمر الدار و عمر ساحتها و أحياها و ملك الأرض و الدار بذلك و ان لم ينصب للحجرة أو للدار بابا.

________________________________________

بصرى بحرانى، زين الدين، محمد امين، كلمة التقوى، 7 جلد، سيد جواد وداعى، قم - ايران، سوم، 1413 ه ق

كلمة التقوى؛ ج 5، ص: 189

و إذا بنى جدارا حول القطعة التي يختارها من الأرض فسؤّر القطعة بالجدار من جميع جهاتها ثم بنى فيها قواطع تامة لحجرة واحدة أو أكثر و أتم ذلك بحيث عدت حجرا في نظر أهل العرف، فقد عمر بذلك الدار و ساحتها و ملك الجميع و ان لم يسقّف الحجر و لم ينصب أبوابها.

و مثل ذلك: ما إذا بنى الحائط و البيوت من القصب أو من الخشب شبهها فيتم بذلك تعمير المنزل و إحياؤه و يتملكه المحيي و ان لم تسقف البيوت و لم تنصب الأبواب.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 190

(المسألة 66):

لا يكفي في تعمير الدار و إحيائها ان يبني الجدران المحيطة بها ما لم يبن معها القواطع التي تكون فيها و لو لحجرة واحدة كما ذكرنا في المسألة المتقدمة فلا تحيي الدار الا بذلك كله و لا تملك، و يكفى

بناء الجدران المحيطة بالأرض إذا أراد تعمير حظيرة للحيوان، فيتم له بذلك إحياؤها و يتحقق له ملكها، و إذا هو أحياها بذلك حظيرة و ملكها، ثم بدا له أن يجعلها دارا أو مزرعة أو شيئا أخر، جاز له ان يفعل فيها ما يشاء، و لا يزول ملكه للأرض بعد الاحياء و التملك و ان تغير قصده الأول إلى القصد الثاني.

(المسألة 67):

الظاهر انه يكفي في تعمير القطعة من الأرض الميتة ليجعلها الرجل موضعا لجمع التمر و تشميسه و تنقيته و كبسه، أو موضعا لجمع الحبوب أو الثمار و المخضرات و اعدادها فيه للحمل و النقل، أن تزال الموانع التي تكون في الأرض من حشائش و اشواك و حجارة و تطم الحفر، و تبسط الأرض و يتم اعدادها و تهيئتها للمقصد الذي يريده المحيي، و لا يتوقف على بناء أو سقف إلّا إذا احتاج الى ذلك ليحفظ الثمار من مطر و شبهه أو يحفظها من سرّاق و غيرهم.

و إذا عمر الأرض كذلك بهذا القصد فقد أحياها و ملكها، و إذا بدا له بعد التملك أن يجعل الأرض دارا أو عقارا أو مزرعة جاز له ان يفعل فيها ما يشاء و لم يزل ملكه عنها بتغير قصده السابق كما قلنا في نظيره المتقدم.

(المسألة 68):

يكفي في تعمير القطعة من الأرض الموات لتكون إصطبلا للخيل و الدواب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 191

أن يبني الرجل فيها جدارا يحيط بثلاث جهات منها، و يبني فيها بعض المعالف و الأحوط أن يسقف و لو بعضه، فإذا فعل ذلك فقد عمر ما في هذه الحدود من الأرض في نظر أهل العرف و إذا بنى الجدار في الجهة الرابعة فقد أحيى جميع ما بين الجدران من الأرض و ملكه من غير اشكال، و الظاهر عدم الحاجة الى السقف في تحقق الاحياء في هذه الصورة.

(المسألة 69):

إذا أراد الإنسان أن يحيي الأرض الموات و يتخذها دكاكين ينتفع بالتكسب و الاتجار فيها، أو بإجارتها على الناس، كفاه أن يبني في الأرض جدارا مستطيلا بقد حاجته منها و يبني على الجدار قواطع تامة للدكاكين تحدد مقاديرها و مواضع الأبواب منها، فإذا فعل ذلك فقد عمر الأرض و الدكاكين و أحياها و ملكها بذلك، و ان لم يضع على الدكاكين سقفا و لم ينصب لها أبوابا.

و تتبع الدكاكين من الأرض الموات مما يلي مواضع الأبواب مقدار الطريق الى الدكاكين في السلوك و الدخول و الخروج، و مرور الأثقال و البضائع و أدوات النقل و الحمل، و مرور العابرين و المترددين إليها بما يفي بالحاجة المتعارفة في البلد، فيكون ذلك حريما للدكاكين و الأرض المملوكة و حقا لمالكها، و لا يجوز لغيره من الناس أن يتسلط أو يتصرف في هذا الحق، و إذا عمره مالك الدكاكين طريقا إليها كان ملكا له.

(المسألة 70):

إذا احيي الرجل له دارا أو دكاكين من الأرض الميتة على الوجه الذي أوضحناه استحق من الأرض المميتة طريقا يسلكه الى داره أو دكاكينه مما يلي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 192

الأبواب، و إذا عمر غيره من هذه الأرض الميتة دارا أو دكاكين تقابل عمارة الأول في البناء و الأبواب اشتركا في الطريق بينهما، و لا يجوز للثاني أن يزاحم الأول في مقدار حريم ملكه، فيبني فيه و قد تقدم ذكر هذا.

و إذا أسس الرجل عمارة داره أو دكاكينه متصلة في أرض مملوكة لغيره لم يجز له ان يتخذ له طريقا في ملك جاره إلا باذنه، و قد تقدم تفصيل هذا في الفصل الثاني.

(المسألة 71):

قد يحتاج الإنسان بحسب العادة الجارية و المتعارفة في العصور الحديثة الى حديقة خاصة تلحق بداره و لا يتم الانتفاع بالدار في هذه الأزمان إلا بها، فيكون مقدار الحديقة من الأرض الميتة المتصلة بالدار حريما يتبع الدار بعد تعميرها و تملكها، و يكون حقا من حقوق مالك الدار، و المرجع في تحديد مقدار ذلك الى العرف الموجود بين أهل البلد، و لا يجوز لأحد مزاحمته فيه، كما هو الحكم الثابت في نظائره، و إذا سوره مالك الدار كما تسور الحدائق الخاصة و وصله بعمارة داره فقد أحياه و ملكه و ان لم يغرس أو يزرع فيه شيئا.

(المسألة 72):

تتوقف عمارة الأرض الموات ليجعلها الإنسان مزرعة، على أن ينقى الأرض من الموانع و الطفيليات التي تميت الزرع، أو تضعف نموّه، أو تقلل نتاجه و تتوقف أيضا على تسوية الأرض و بسطها ليستقيم زرعها و يعمّ، و يسهل سقيها عند الحاجة، و هذا مما تشترك فيه أنواع المزارع و أصنافها.

و تستثنى من ذلك السهول و التلال القابلة بنفسها للزرع و التي تكتفي في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 193

سقيها بماء المطر و الطل، فلا تحتاج إلى تسوية و بسط.

و الظاهر أن تعمير الأرض الميتة لتكون مزرعة من أي أنواع المزارع و أصنافها يحصل بأعداد الأرض أعدادا كاملا و تمهيدها للزراعة التي يقصدها ذلك الشخص، و تهيئة وسائل سقيها من تفجير عين أو حفر بئر أو شق نهر و مجاري و سواقي، و اعداد دلاء أو ناعور أو مكينة، بحيث يصدق على الأرض في نظر أهل العرف انها مزرعة.

و لا يعتبر في تعمير الأرض لذلك أن تحرث بالفعل أو تزرع أو تسقى بالماء، فان جميع ذلك مما يتوقف عليه

حصول الانتفاع بالمزرعة بعد إحيائها و بعد صدق اسم المزرعة، فإذا أعد الإنسان الأرض كما ذكرنا و حفر لها سواقيها و هيأ الوسائل لسقيها فقد عمر المزرعة و أحياها و ملكها و ان لم ينتفع بها الا بعد الحرث و الزرع و السقي و النّمو بل و الاثمار و الإنتاج.

(المسألة 73):

إذا كانت الأرض الميتة بذاتها صالحة للزراعة بالفعل بحيث لا تحتاج الى عمل و اعداد و تهيئة لذلك، و كانت تكتفي في سقيها بماء السماء بحيث لا تحتاج الى شق سواقي و إحضار وسائل، احتاجت الى تحجير يفصل القطعة التي يريدها الرجل و يرغب في إحيائها عن بقية الأرض من جميع جوانبها بسور صغير أو كبير يفصل ما بينهما، أو بنصب مروز، أو جمع تراب في حدود القطعة المطلوبة، فتعيّن مزرعته عن سائر الأرض، لئلا تشتبه الحدود و تلتبس الحقوق، و يحصل التعمير بحرث الأرض و زرعها بالفعل، و يكثر وجود هذا الفرض في الأراضي المهيأة بنفسها لزراعة الحنطة و الشعير، و التي تكتفي في السقي و الارتواء بماء المطر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 194

و نحوه أو بامتصاص المزروعات فيها من مياه الأرض لقرب منابع العيون و توفر الماء.

(المسألة 74):

تختص مزارع الأرز في بلاد العراق و ما أشبهها بأن المزرعة تكون قريبة من الأنهار الكبيرة التي تزيد في مواسم الزيادة و يختلط ماؤها برواسب الطين مثل دجلة و الفرات و روافدهما و فروعهما، و تكون أرض المزرعة منخفضة في العادة عن مستوي الماء في النهر أو أن الزارع نفسه يعد الأرض كذلك، و يفتح لها ساقية من النهر حتى يمتلئ قاع المزرعة بالماء المختلط بالطين، فإذا رسب الطين في أرض المزرعة و صفا فوقه الماء فتح له منافذ على مجاري قد أعدها لينحدر إليها الماء الصافي الفاضل عن الحاجة و تكون الزراعة في الطين الراسب في قاع المزرعة و الماء المختلط بالطين فوقه، و هذه أمور يعرفها الزارع من أهل هذا الصنف، و يد أبون في العمل عليها.

و تعمير مثل هذه المزرعة ان يعدها

الزارع بعمله فيها لتكون صالحة لما يريد و مهيأة للانتفاع بها حين الزراعة و بذلك يكون قد أحياها و ملكها.

(المسألة 75):

إذا أراد الإنسان ان يعمر الأرض الميتة ليجعلها ضيعة له أو بستانا لزمه أن يعد الأرض لذلك و يمهدها و يهيئ، وسائل السقي على النحو الذي ذكرناه في المسألة الثانية و السبعين، و أن يغرسها بعد الاعداد و التمهيد نخيلا أو شجرا أو كليهما، و لا يتوقف صدق تعمير الضيعة أو البستان في نظر أهل العرف على أن يسوّر الأرض بجدار و شبهه، و لا على سقى الغرس إذا كان له من رطوبة الأرض أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 195

من ماء السماء ما يكفيه لاستعداده للنّمو.

(المسألة 76):

يتحقق اعمار العين في الأرض بأن يحفر الأرض حتى ينبع ماء العين سواء نبع قليلا أم كثيرا، و كذلك تعمير البئر، و إذا حفر الأرض و لم ينبع الماء في العين أو البئر لم يتحقق إحياؤهما و لم يملكهما، و يكون الحفر تحجيرا للأرض التي حفرها فيثبت للحافر حق الأولوية بها من غيره.

و يتحقق تعمير القناة بشقها في الأرض و إخراج العين أو البئر التي يجري ماء القناة منها، و كذلك الحكم إذا كانت القناة قديمة دارسة، فلا تعمر الا بإصلاح شق القناة و إخراج العين أو البئر حتى يجري الماء في القناة منهما، و يتحقق اعمار النهر بحفره في الأرض الى أن يصل الى الشط أو النهر الكبير الذي يجري فيه الماء المباح و تستقي منه الأنهر المتفرعة، و لا يعتبر في حصول تعميره أن يجري الماء فيه بالفعل، فإذا حفر الإنسان النهر الى ما يقرب من الشط و أبقى بينهما فاصلا صغيرا يزيله من احتاج الى إجراء الماء في النهر فقد احيى النهر و ملكه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 196

الفصل الخامس في المشتركات بين الناس

اشارة

و يراد بالمشتركات الطرق العامة و المساجد و المدارس و الرباطات و المياه و المعادن، و لا تنحصر المشتركات بين الناس في حكم الشريعة بالأشياء المذكورة، و لكن هذه المعدودات أمور اعتاد الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم) أن يبحثوا عنها في هذا الكتاب تبعا لإحياء الموات.

(المسألة 77):

الطريق النافذ من طرق البلد أو القرية حق عام يشترك فيه الناس كافة، و لا يختص به أصحاب الدور و المنازل التي تشرع أبوابها في ذلك الطريق دون غيرهم.

و الطريق النافذ هو الذي يتصل من أخره بطريق عام من طرق البلد أو بأكثر أو يتصل بساحة من ساحاته العامة، و لذلك فيكون من الممكن لعامة الناس أن يستطرقوا فيه، و يعبروا لحاجاتهم و مقاصدهم في الذهاب و الإياب، و في المرور من موضع الى موضع، و يسمى كذلك بالشارع العام و الطريق العام، و يقابله الطريق غير النافذ، و هو الذي تقطعه من أخره دار مملوكة أو ما يشبهها، و لذلك فلا يمكن العبور منه و النفوذ الى غيره من الطرق أو الساحات في البلد، و يسمى أيضا الطريق الخاص، و الدريبة، و السكة المقطوعة، و سنتعرض لبيان بعض أحكامها في ما يأتي من المسائل ان شاء اللّه تعالى.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 197

(المسألة 78):

الشارع العام في البلد أو في القرية حق شرعي عام يشترك في إباحة الانتفاع به الناس كافة، و لا يختص جواز الانتفاع بالمرور و الاستطراق فيه، و ان كان هذا هو الفائدة المهمة الملحوظة عند جعل الطريق للناس، بل يجوز الانتفاع به في الجهات الكثيرة الأخرى التي تتعلق بالمرور، فيجوز للمارّ فيه ان يقف في الطريق و أن يجلس مع أصحابه و غيرهم للاستراحة أو للمكالمة في بعض الأمور، و يصح له الوقوف أو الجلوس فيه لانتظار أحد، أو لانتظار وسيلة نقل، و يجوز له وضع بعض الأمتعة أو بعض الأثقال و الأحمال في الطريق لينقلها الى داره، أو الى موضع أخر، و أمثال ذلك من الانتفاعات المتعارفة بالطريق، و ان

زاحم بعض المارة فيها.

بل، و يجوز للرجل أن ينتفع بالطريق العام في جهات لا تتعلق بالاستطراق و المرور إذا هو لم يزاحم المارين و لم يضرّ بالمرور، فيجوز له أن يتخذ من بعض جوانبه مجلسا يجتمع فيه مع أصدقائه، و يجوز له النوم فيه و إحضار الطعام لبعض أصحابه، و أداء الصلاة، و ما يشبه ذلك من الانتفاعات، و يجوز له أن يجلس في الشارع أو يقف للبيع و الشراء و المعاملة، و ان يضع فيه بعض الأمتعة و الأثاث أو الفاكهة أو المأكولات الأخرى و المشروبات لبيعها، و يتخذه موضعا لكسبه و حرفته في التعيش، إذا هو لم يضايق المارة و لم يضر بالمرور، و لا يحق لغيره أن يمنعه أو يزعجه عن الموضع إذا سبق إليه.

(المسألة 79):

إذا جلس الرجل في الطريق العام للاستراحة فيه، أو للتنزه أو للتحدث مع بعض أصحابه أو للانتظار، ثم قام من موضعه بعد انتهاء غرضه من الجلوس، فلا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 198

حق له في الموضع، فإذا جلس غيره في المكان لم يجز للأول منعه أو إزعاجه من الموضع.

و إذا جلس أو وقف في موضع من الشارع العام و وضع فيه متاعه و رحله للبيع و الشراء و التكسب، ثم قام من موضع و رفع منه رحله و متاعه زال بذلك حقه من المكان، فإذا جلس في المكان غيره لم يجز للأول أن يمنعه أو يزعجه عن الانتفاع بالمكان.

و إذا ترك الأول مكانه من الشارع و أبقى فيه بساطا أو فراشا أو نحو ذلك ليعود الى المكان بعد قيامه منه، أشكل الحكم بزوال حقه من الموضع و عدم زواله و الأحوط الرجوع الى المصالحة، و أشدّ من

ذلك اشكالا ما إذا قام الرجل الأول من المكان و أبقى المتاع في موضعه ليعود الى بيعه، بل الحكم ببقاء حقه في المكان في هذه الصورة لا يخلو من وجه، و الاحتياط سبيل السلامة.

و إذا ذهب من موضعه في الشارع و أبقى متاعه في مكانه كما قلنا و استناب أحدا ليتولى البيع و الشراء في المتاع و المكان بالنيابة عنه ما دام غائبا عن متاعه لم يزل حقه، فلا تجوز لغيره من الناس مزاحمته أو مزاحمة نائبه أو ازعاجهما عن المكان، و ليس من الاستنابة التي ذكرنا حكمها أن يخلف الرجل الأول بعد قيامه من الموضع رجلا غيره ليبيع و يشتري لنفسه أو في غير متاع الأول، فلا يحق له ذلك.

(المسألة 80):

إذا جلس الرجل في الطريق العام للبيع و الشراء و المعاملة كان موضع جلوسه أو وقوفه حقا له، و يتبعه من المكان الموضع الذي يجعل فيه رحله و يضع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 199

فيه متاعه، و الموضع الذي يقف أو يجلس فيه الأشخاص المتعاملون معه، بل و المقدار الذي يتمكن الآخرون من رؤية متاعه و الوصول اليه، فلا تجوز للغير مزاحمته في هذه المواضع أو منعه منها، و لا تثبت له هذه الحقوق، و لا تصح هذه الاحكام إذا زاحمت المارة أو أضرت بالمرور.

(المسألة 81):

يجوز لمن يجلس في الشارع ليبيع و يشتري أو ليعامل أن ينصب على موضعه ظلا يقيه و يقي متاعه من الشمس و البرد و المطر و نحوها إذا كان ذلك لا يضرّ بالمارة و لا يزاحم المرور.

(المسألة 82):

إذا جلس الشخص في الشارع فباع و اشترى و عامل في موضع معين منه لم يثبت له الحق في ذلك الموضع في الأيام الأخرى، إذا هو لم يسبق اليه، فإذا سبقه غيره الى ذلك الموضع في اليوم الثاني مثلا لم يجز للأول منعه و إزعاجه منه و كذلك إذا تكرر منه الجلوس في الموضع و البيع و الشراء فيه، فلا يثبت له الحق بسبب تكرره أو ملازمته له، و انما يثبت الحق لمن سبق الى المكان.

(المسألة 83):

الشارع حق تشترك في الانتفاع به عامة الناس، و لذلك فلا يجوز لأحد أن يختص به بتحجير و نحوه أو يتملكه بالإحياء، أو يبني فيه دكانا أو مخزنا لحوائجه أو حائطا لبعض أغراضه أو يستخرج فيه عينا أو بئرا، و لا يجوز له أن يبني فيه دكة يعرض عليها متاعه للبيع.

و لا يمنع من أن يزرع في الشارع شجرا و نحوه لينتفع الناس بالاستظلال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 200

بفيئة، إذا كان الشارع متسعا و كان الغرس لا يمنع الاستطراق و لا يضر بالمارة، كما في الشوارع الحديثة، و يجوز كذلك ان يحفر الرجل في أرض الشارع بالوعة تجتمع فيها مياه الأمطار و شبهها إذا هو أحكم أسس البالوعة و بناءها و سقفها، و لم تضر بالاستطراق، بل ينبغي فعل ذلك و ما أشبهه فإنه من المصالح التي تقتضيها نزاهة الطريق و صيانته عن الأقذار و الأوساخ، و يجوز حفر مجرى في أرض الشارع لتجري فيه فضلات المياه و تخرج الى موضع أخر لصيانة الطريق كذلك.

(المسألة 84):

الظاهر أنه يجوز للرجل أن يحفر في أرض الشارع بالوعة خاصة لمنزله أو سردابا ينتفع به في أيام الحر في داره الى جنب الشارع، و هذا إذا هو احكم أسس البالوعة و السرداب و بناءهما و سقفهما فلم يضر وجودهما بالشارع و بمنافعه العامة.

و يجوز له أن يخرج لمنزله روشنا أو جناحا على الشارع العام، و أن يفتح لداره بابا فيه، و ينصب له ميزابا، أو يفتح له مجرى تجري منه مياه المطر و الغسالات فيه، إذا لم يضر ذلك بالمارّة و لا بالمرور.

(المسألة 85):

من الأسباب المعروفة التي بها يكون الموضع من الأرض شارعا عاما للناس، و تجرى عليه الاحكام المتقدم ذكرها: أن يكثر استطراق الناس في موضع من الأرض الميتة حتى يصبح الموضع جادة معروفة المعالم، مسلوكة للأفراد و الجماعات و القوافل، يترددون فيها من موضع الى موضع و من بلد الى بلد، و من هذا القسم الطرق و الجواد التي يسلكها الناس و قطارات الإبل و الدواب في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 201

البراري و المفازات إلى الأماكن القريبة و البعيدة، ثم يتطور أمرها مع مرور الزمان و تتسع الجواد و تسهل و تعبد.

و من الأسباب التي يكون بها الموضع شارعا ان يملك الإنسان أرضا مستطيلة بالإحياء أو بغيره، فيجعلها وقفا على أن تكون شارعا مسبلا تسلكه عامة الناس، فإذا وقفه على ذلك و سلكه بعض الناس أصبح شارعا عاما موقوفا، و لم يجز لواقفه الرجوع فيه كسائر الأوقاف الثابتة شرعا إلا إذا طرأ ما يزيل الوقف أو يسوغ البيع و ليس لورثته تغيير ذلك بعد موته.

و من الأسباب لجعل الشارع العام أن يتفق جماعة من الناس فيعمروا أرضا مواتا، و يجعلوها قرية

أو بلدا ليسكنوها أو يؤجروها مثلا، و يحيوا فيها طريقا عاما تشرع اليه أبواب المنازل من الجانبين أو يحيوا فيها أكثر من شارع واحد إذا كانت القرية واسعة كبيرة، فإذا سكن الناس القرية أو البلد أصبحت الطرق و الشوارع المذكورة حقا عاما لهم و جرت عليها الأحكام المتقدمة، و لذلك إذا قام رجل واحد مقتدر بمثل ذلك فأحيى القرية و عمر الطرق فيها، و أباح للناس القرية أو أجر عليهم منازلها فسكنها الناس و سلكوا الشوارع.

(المسألة 86):

إذا قسمت الدولة أرضا ميتة قطعا لتكون دورا و منازل يسكنها المواطنون و عينت موضعا أو أكثر من الأرض لتكون شوارع في المحلة، فإذا سلك الناس في الموضع المعين و كثر التردد و الاستطراق فيه أصبح الموضع شارعا عاما، و ترتبت عليه أحكامه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 202

(المسألة 87):

الحد الشرعي للطريق العام إذا اتفق وجوده في الأرض الموات أن لا ينقص عرضه عن خمسة أذرع بذراع اليد المتعارفة، و هي المتوسطة في طولها من أذرع الناس، فإذا كانت الجادة العامة في الأرض الميتة فلا يجوز للناس إحياء الأرض من جانبي الجادة حتى يصبح عرضها أقلّ من خمسة أذرع متعارفة، و إذا سبق أحد فأحيى الأرض إلى حدّ الجادة، هي أقل من المقدار المذكور، وجب على من يريد إحياء الأرض من الجانب الثاني ان يترك للطريق منها ما يبلغ به الحد الشرعي، و لا يتعدى ذلك فيضيق الطريق عن الحدّ.

و إذا كان مقدار خمسة أذرع لا يكفي لحاجة الناس العابرين و المترددين في الطريق لاستطراقهم و مرورهم، وجب أن يكون عرض الطريق سبعة أذرع متعارفة و إذا لم يكف ذلك لسدّ الحاجة وجب أن تكون سعة الطريق بمقدار يفي بها، و لا ينقص عن ذلك، و لا ريب في أن الحاجة في الطريق تختلف باختلاف الأزمنة و بكثرة الوسائل و تنوعها، و بكثرة الناس و تزاحمهم على استعمالها، و قد ذكرنا هذا في بعض المسائل السابقة.

(المسألة 88):

حريم الطريق العام هو ما ذكرناه في المسألة الماضية، و هو أن يكون عرضه خمسة أذرع من اليد المتعارفة المتوسطة في طولها، أو ما يفي بحاجة الناس في استطراقهم، و مرورهم إذا كان المقدار المذكور لا يفي بذلك، و ما يرتفع به التزاحم بين الناس و التصادم في وسائل المرور و الحمل و النقل عند الحاجة الى ذلك.

و انما يثبت للطريق العام هذا الحريم إذا كان ما يجاوره من الجانبين أو من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 203

أحدهما أرضا ميتة و لا حريم له إذا وقع ما بين

أراض مملوكة، الا إذا رضي المالك المجاور أو أعرض عن ملكه بأحد أسباب الإعراض.

فإذا وجدت قطعة أرض ميتة مستطيلة ما بين الأراضي المملوكة و كان عرض القطعة الميتة لا يزيد على ثلاثة أذرع أو أربعة ثم استطرق الناس تلك الأرض و كثر ترددهم فيها، و أصبحت جادة مسلوكة، فلا يجب على أصحاب الاملاك المجاورة لها أن يتمموا عرض الجادة من أملاكهم، و ان كانت ضيقة لا تكفي للمرور، و كذلك إذا سبّل الرجل جادة في ملكه فسلكها الناس و استطرقوها و كانت ضيقة في عرضها لا تكفي للمرور، فلا يجب على المالك توسعة الجادة من بقية ملكه و إذا كانت الجادة المسبّلة في جوار مالك أخر لم يجب عليه توسعتها من ملكه. إلا إذا رضي أحدهما فوسّع الجادة باختياره أو أعرض عن ملكه لبعض الموجبات.

(المسألة 89):

إذا غلب الماء على الشارع العام الذي يستطرقه الناس، فأصبحت أرضه بسبب غلبة المياه عليها أجمة ينبت فيها القصب و الأشجار الشائكة، و لم يمكن للناس بعد ذلك سلوك الشارع و المرور فيه، زال موضوعه بذلك و ارتفعت أحكامه و أصبح أرضا ميتة، فيجوز للناس إحياؤه و تملكه كسائر الأرض الموات.

و كذلك إذا انقطعت المارة و المترددون عن الطريق لانتقال الناس الى قرى تبعد عنه، أو لوجود طريق أخر أقرب منه و أيسر لهم، أو لوجود ما يمنع الناس من سلوكه و المرور فيه فأصبح بسبب ذلك مهجورا لا يسلكه أحد، فإنه يكون بذلك أرضا مواتا، فيجوز لكل أحد من الناس إحياؤه و تملكه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 204

(المسألة 90):

إذا كان عرض الطريق العام أكثر من المقدار الذي تلزم به الضرورة و الحاجة المتعارفة في البلد للمرور و كثرة المارة في ذلك الطريق، و كان الطريق موقوفا مسبلا لمرور الناس فيه، فلا يجوز لأحد أن يتصرف في المقدار الزائد منه عن الحاجة، و كذلك إذا لم يكن موقوفا مسبلا و كان عرضه بمقدار تستلزمه الضرورة التي لا بد منها في البلد فلا يجوز لأحد إحياء شي ء منه و لا التصرف فيه و ان كان عرضه الموجود يزيد عن خمسة أذرع أو سبعة أذرع و هما الحدّ الشرعي للطريق كما تقدم.

(المسألة 91):

إذا كان الطريق العام في أصله أرضا ميتة و قد سلكه الناس و استطرقوه حتى أصبح شارعا عاما لهم، و كان واسعا يزيد عرضه عن الحد الشرعي الذي ذكرناه و يزيد أيضا عن مقدار الحاجة التي لا بد منها في القرية أو في البلد عرفا، فالظاهر أنه يجوز للناس التصرف في المقدار الزائد عن الحاجة المذكورة فيصح إحياؤه و تملكه لمن سبق إليه.

(المسألة 92):

إذا كان الشارع في ء أصله مملوكا لمالك معين و قد أباحه المالك للناس اباحة عامة على أن يكون شارعا عاما يسلكونه لحاجاتهم و ضروراتهم، و لم يوقفه و لم يسبله، فإذا زاد عرض ذلك الشارع عن المقدار اللازم عرفا، أشكل الحكم بجواز التصرف في الزائد و الأحوط المنع في هذه الصورة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 205

(المسألة 93):

القسم الثاني من الطريق الذي يوجد في القرية أو في البلد: الطريق غير النافذ، و هو الذي ينقطع من أخره بدار مملوكة لأحد من الناس أو موقوفة أو ما يشبه ذلك، فالدور أو العقارات أو الاملاك الخاصة و ما يشبهها تكون محيطة بالطريق من كلا جانبيه و من آخره، و من أجل هذه الإحاطة به فلا يمكن للناس الاستطراق و المرور به الى طرق البلد أو ساحاتها، و يسمّى أيضا الطريق الخاص، و الدريبة و السكة المرفوعة، و السكة المقطوعة، و قد ذكرنا هذا في المسألة السابعة و السبعين.

و قد ذهب جماعة من أجلّة الفقهاء، (قدس اللّه أنفسهم) الى أن الطريق غير النافذ يكون مملوكا لأصحاب الدور الذين تكون لدورهم أبواب مفتوحة في ذلك الطريق، و أنهم يشتركون جميعا في تملكه من أوله إلى أخره، و تجرى عليه أحكام الأموال المشتركة بينهم، و لذلك فلا يجوز لأحد أصحاب الدور المذكورة أن يتصرف في هذا الطريق المشترك فيحفر في أرضه بالوعة أو سردابا، أو يخرج لداره في الطريق جناحا أو روشنا أو يبني فيه ساباطا إلا بإذن الآخرين من أصحاب الدور كلّهم، قالوا: و لا يشترك في ملكية هذا الطريق من يكون حائط داره الى الطريق و ليس له باب مفتوح فيه، و لم أقف لهذا القول على دليل

يمكن الاعتماد عليه، الا إذا كان أصحاب الدور قد ملكوا الدريبة بإحياء أو شراء أو بسبب أخر من الأسباب الشرعية المملكة.

و الظاهر ان الدريبة انما هي حق يختص به أصحاب الدور المذكورة و ليست مملوكة لهم كما يرى أولئك الفقهاء، و لا حقّ في الدريبة للرجل الذي يملك دارا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 206

يكون حائطها الى الدريبة و ليس له فيها باب مفتوح.

(المسألة 94):

الدريبة حق يختص به أرباب الدور المملوكة لهم و التي تكون لهم أبواب مفتوحة في الدريبة، و اشتراكهم فيها على النحو الآتي.

فيشترك جميع أصحاب الدور المذكورة في الحق من أول الدريبة إلى أول باب مفتوح فيها و أخر حائط الدار ذات ذلك الباب، و بذلك ينتهي حق صاحب تلك الدار، فلا حق له في باقي الدريبة، ثم يشترك أصحاب الدور الباقية الى باب الدار الثانية و أخر حائطها، و ينتهي بذلك حق صاحب هذه الدار و يكون الباقي من الدريبة للباقي من أصحاب الدور، و هكذا في الثالث و ما بعده على النهج المذكور و يختص صاحب الباب الأخير ببقية الدريبة الى أخرها.

و التفصيل الذي ذكرناه انما هو من حيث التصرف في الدريبة و في أرضها فإذا أراد صاحب الدار الأولى ان يحفر بالوعة أو سردابا في أرض الدريبة، أو يضع ميزابا أو يفتح بابا جديدا لداره: أو يخرج لها جناحا في الدريبة فلا بد له من أن يستأذن جميع أصحاب الدور، و إذا أراد ذلك صاحب الدار الثانية لم يستأذن الأول و عليه أن يستأذن الباقي، و هكذا.

(المسألة 95):

يجوز لكل واحد من أصحاب الدور ذوات الأبواب في الدريبة أن يستطرق فيها الى داره هو و كلّ فرد من عياله و أولاده و خدمه و ضيوفه و أصحابه و من يريد زيارته من الناس سواء قلّوا أم كثروا، و ان يجلسوا في الدريبة، و ان يضع فيها الأحمال و الأثقال و الحيوان التي يحتاج لإدخالها إلى الدار و إخراجها منها عادة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 207

و لا يفتقر في شي ء من ذلك الى الاستئذان من شركائه في الدريبة، و ان كان فيهم الغائبون و

اليتامى و القاصرون، و لا تجب المساواة بينهم في هذه الأمور.

و يجوز لصاحب الدار في الدريبة أن يوصد بابه الأول و يفتح بابا غيره، و إذا سدّ بعض أصحاب الدور بابه في الدريبة و لم يفتح له بابا أخر فيها سقط حقه الثابت له في الطريق، و لم يحتج الى ناقل شرعي كما يلزم القائلين بالملكية.

(المسألة 96):

إذا كان بعض الدّور له حائط إلى الدريبة و ليس له باب مفتوح فيها فلا حقّ لمالك تلك الدار في الدريبة كما ذكرنا في ما تقدم، و لا يجوز له أن يفتح لداره بابا فيها إلّا بإذن أصحاب الحق فيها، و لا يكفي الاستئذان من بعضهم، و يجوز له ان يفتح لداره شباكا أو روشنا للتهوية أو الاستضاءة و لا يثبت له بذلك حق في الدريبة و إذا استأذن من أرباب الدور ففتح له بابا في الدريبة بإذنهم كان شريكا لهم في الحق و خصوصا مع طول الدريبة و كثرة الدور فيها.

(المسألة 97):

يصح لأصحاب الحق في الدريبة أن يتسالموا عليها في ما بينهم فيحيي كل فرد منهم حصته من الدريبة و يتملكها و يلحقها بداره و يفتحوا لهم أبوابا من جهات اخرى و يقتسموا الدريبة بينهم أملاكا و يجوز لبعضهم أن يسقط حقه للآخر، و أن يصالحه عنه بعوض أو بغير عوض فيتملك حصته.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 208

الفصل السادس في المساجد و المشاهد

(المسألة 98):

المسجد هو الموضع الذي يقفه مالكه ليكون مسجدا، و قد فصلنا في مبحث مكان المصلي من كتاب الصلاة و في كتاب الوقف من هذه الرسالة كثيرا من احكامه، و بوقف الموضع كذلك تثبت مسجديته في الإسلام، و يكون موضعا عاما معدا لصلاة المصلين و عبادة المتعبدين من دعاء و تلاوة قرآن، و تدريس علوم دينية، و وعظ و إرشاد و إفتاء، و المسلمون في الانتفاع بمساجدهم في ذلك مشتركون متساوون في الحق، و قد جرت سيرتهم على هذا منذ عصر النبوة و عصور الأئمة الطاهرين (ع) و لا ريب لأحد، في شي ء من ذلك.

(المسألة 99):

إذا سبق أحد إلى مكان من المسجد ليتعبد فيه بقراءة دعاء أو بتلاوة قرآن، أو لدرس أو لتدريس، أو لوعظ أو لاستماع موعظة أو نحو ذلك فهو أحق بالمكان الذي سبق اليه من غيره، فلا يجوز لأحد ان يمنعه من الجلوس فيه أو يزعجه من البقاء فيه، سواء اتحد غرض الرجلين من الجلوس في المكان أم اختلف، كما إذا سبق الأول إلى الموضع ليقرأ الدعاء و أراد الثاني الجلوس فيه ليتلو القرآن، أو للموعظة أو للتدريس، و سواء شرع السابق في عمله الذي قصده فأخذ في القراءة أو التدريس

كلمة التقوى، ج 5، ص: 209

أم كان قريبا من الشروع فيه، لأنه ينتظر المدرس أو الواعظ مثلا، فلا يجوز للآخر منعه أو إزعاجه من مقامه إلا إذا كان وقت الانتظار طويلا بحيث يعدّ إضاعة لحقوق الآخرين عرفا فلا يجوز ذلك.

(المسألة 100):

الظاهر ان الصلاة في المسجد أولى من التعبدات الأخرى فيه، فإذا سبق أحد إلى الموضع في المسجد ليقرأ الدعاء أو ليتلو القران أو ليعظ أو ليدرس، و حضر من يريد الصلاة في المكان فهو اولى من الأول السابق، سواء أراد الصلاة فرادى أم جماعة، بل و ان أراد الصلاة نافلة، فعلى السابق أن يدع المكان له عند الانحصار به و إذا طلبه منه.

و لا أولوية لمن يريد الصلاة جماعة في المسجد ممن يريد الصلاة فيه منفردا، فإذا سبق الرجل الى المكان من المسجد ليصلي فيه منفردا ثم حضر من يريد الصلاة جماعة لم يجز للثاني منع الأول أو اقامته من موضعه، و لم يجب على الأول أن يترك المكان لصاحبه إذا طلب المكان منه، نعم ينبغي له ان لا يكون مانعا للخير عن أخيه المؤمن إذا

كان لا يدرك صلاة الجماعة إلا في ذلك المكان، و أمكن له نفسه أن يؤدي صلاته منفردا في غير ذلك الموضع من المسجد.

(المسألة 101):

لا يبعد وجود الفرق في من يجلس للدعاء في المسجد بين من يكون جلوسه للتعقيب بعد أداء الصلاة في المسجد، و من يجلس فيه لمطلق التعبد بالدعاء، فإذا حضر من يريد الصلاة في المكان فلا يجب على الجالس و هو يعقب بالدعاء بعد الصلاة ان يترك له مكانه، و لا يكون مريد الصلاة أولى منه بالمكان، فإنه قد سبق إلى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 210

الصلاة و الدعاء، و إذا كان الجالس قد سبق الى المسجد للدعاء فيه و لم يؤد الصلاة فيه قبل الدعاء وجب عليه أن يترك المكان لمن يريد الصلاة.

(المسألة 102):

إذا سبق الرجل الى الموضع من المسجد لبعض التعبدات فيه، ثم فارق الموضع و أعرض عنه سقط حقه من الأولوية بالمكان، فإذا سبق اليه غيره بعد قيامه منه كان الثاني أولى به من الأول فليس له ان يمنعه من الجلوس فيه أو إزعاجه من المكان، و ان كان الأول لا يزال في المسجد، و لم يخرج منه، كما إذا انتقل من موضع صلاته في المسجد الى موضع أخر فيه ليستمع دعاء أو موعظة أو درسا فيسقط حقه من المكان الأول و ان أبقى فيه بساطا أو سجادة و في عزمه ان يعود إليها بعد مدة.

(المسألة 103):

إذا قام الرجل من موضعه في المسجد و هو يريد العودة إليه عن قريب و أبقى في مكانه سجادة أو بساطا أو علامة أخرى، فالظاهر بقاء حقه في المكان و عدم سقوط حقه من الأولوية به بمجرد قيامه، و إذا قام من الموضع و هو يريد العودة إليه كذلك و لم يبق فيه شيئا يدل على ذلك أشكل الحكم بسقوط حقه أو عدم سقوطه و الأحوط للآخرين مراعاة حقه، و خصوصا إذا كان قيامه من موضعه لبعض الأمور اللازمة من تجديد وضوء أو قضاء حاجة أو إحضار كتاب و نحوها.

(المسألة 104):

إذا وضع الإنسان له رحلا في مكان من المسجد قبل أن يجلس فيه فبسط له بساطا أو فرش فيه سجادة، فالظاهر ثبوت حق الأولوية له في المكان بمجرد ذلك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 211

و ان لم يجلس فيه بعد، فلا يجوز لأحد أن يرفع رحله من المكان أو يجلس في موضعه، و يشكل الحكم بثبوت الحق له بوضع الرحل إذا طالت المدة الفاصلة بين وضع الرحل في المكان و جلوس صاحب الرحل فيه بحيث يعدّ تضييعا لحقوق الآخرين، فالحكم بجواز رفع غيره للرحل من المكان مشكل، و الحكم بعدم ضمان الرحل إذا تلف أو عاب بعد رفعه أشد إشكالا.

و إذا دلت القرائن على ان المراد من وضع الرحل في الموضع من المسجد أن صاحب الرحل يجلس في الموضع في وقت معين، فالظاهر ثبوت الحق و عدم بطلانه قبل حلول الوقت، و مثال ذلك أن يضع الرجل رحله صباحا أو ضحى فيبسط بساطه أو سجادته في المسجد ليصلي في الموضع صلاة الظهر جماعة في أول وقتها أو ليدرك صلاة الجمعة مع الإمام فلا تفوته، فلا

يسقط حقه بطول المدة الفاصلة إذا هو حضر في الوقت المعين.

(المسألة 105):

لا ينبغي الريب في ان اقامة المآتم و مجالس الذكرى لمصائب المعصومين من أهل بيت النبوة (ع)، و قراءة سيرتهم و تعداد فضائلهم و التعريف بمقاماتهم و علو منازلهم من العبادات الجليلة التي يتقرب الى اللّه سبحانه بها، و بالاجتماع فيها، و الاستماع الى ما يلقى فيها من الحقائق و المعارف، فإذا أقيمت هذه المحافل و الذكريات في المساجد كان الحضور فيها و الجلوس في محافلها و الاستماع الى الذاكرين فيها من أبر العبادات و أجلها، و إذا سبق السابق الى المسجد و الجلوس فيه لهذه الغاية ثبتت له الأولوية بالمجلس و الموضع الذي جلس فيه على غيره من الواردين من بعده، و جرت له الأحكام التي ذكرناها في المسائل المتقدمة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 212

(المسألة 106):

إذا أقيمت محافل ذكريات المعصومين (ع) في الحسينيات العامة الموقوفة المتعارفة عند الشيعة كان لها مثل هذا الحكم، فهي مشتركة بين الحاضرين على السواء و إذا سبق أحد منهم الى مكان في الحسينية أو المأتم فجلس فيه كان اولى بالمكان من غيره، فلا يجوز لأحد أن يمنعه من الجلوس أو يزعجه و يقيمه من مكانه حتى ينتهي غرضه أو يقوم من موضعه باختياره و يسقط حقه منه.

(المسألة 107):

المشاهد المشرفة كالمساجد في جميع الأحكام التي ذكرناها فالمشهد حق عام كالمسجد، يشترك فيه جميع المسلمين على السواء، سواء كانوا من أهل البلد المجاورين للمشهد أم كانوا من الزوار الوافدين اليه من بلاد أخرى قريبة أو بعيدة فلا يكون الزائر الوافد أولى بالمشهد لزيارته و وفادته و غربته، و لا يكون القريب المجاور له في البلد أولى به لقربه و جواره، بل هما في الحق على حدّ سواء.

و إذا سبق احد من الناس الوافدين أو المجاورين الى موضع معين من المشهد فجلس فيه للتعبد و الصلاة أو الزيارة أو الدعاء أو قراءة القران أو لغيرها من العبادات و القربات كان أولى بالمكان من غيره، فلا يجوز ان يمنع أو يزعج حتى يستتم غايته من التعبد، أو يترك مكانه باختياره أو يسقط حقه، و إذا منعه أحدا أو أخذ موضعه بغير رضاه كان غاصبا اثما.

(المسألة 108):

لا يثبت للشخص حق الأولوية بالمكان في المسجد أو المشهد إذا سبق اليه و جلس فيه للتنزه أو للاستراحة أو لغاية أخرى غير العبادات و القربات كالاطلاع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 213

على بعض النفائس و الآثار الموجودة في المشهد أو المسجد، أو للتحدث مع بعض الناس، أو لرؤية بعض الناس و بعض المظاهر.

(المسألة 109):

إذا جلس الرجل في المسجد أو المشهد لبعض العبادات فأعيا و استمر في جلوسه في موضعه ليستريح برهة ثم يعود للتعبد مرة أخرى، لم يسقط حقه الذي ثبت له أولا من الأولوية، فلا يجوز لغيره منعه و إزعاجه ما دام جالسا لهذه الغاية و كذلك إذا صرفه بعض الناس عن عمله بحديث طويل و هو يرتقب انتهاء صاحبه من حديثه ليعود الى عمله أو الى غيره فلا يسقط حقه بذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 214

الفصل السابع في المدارس و الرّبط

(المسألة 110):

المدارس دور أو عمارات خاصة تعدّ ليسكن فيها طلاب العلم، حسب ما يطلقه واقف المدرسة، أو يعينه من صنف أو يذكر للساكنين فيها من قيود و شروط و الربط منازل مخصوصة كذلك يقفها الواقف ليسكنها الفقراء، أو لينزل فيها المسافرون و الغرباء، من حجاج و زوار و معتمرين و غيرهم، و هي كالمدارس تتبع وقف الواقف و ما يذكره في صيغته من عموم و خصوص و إطلاق و تقييد، و كلاهما من المشتركات العامة بين أفراد العنوان أو الصنف الموقوف عليه من الناس.

(المسألة 111):

إذا وقف الواقف مدرسته على أن يسكنها طلاب العلوم الدينية، و لم يقيدها بقيد و لم يشترط فيها شرطا كانت المدرسة عامة يشترك في استحقاق السكنى فيها جميع طلاب العلوم المذكورة، و لم يختص الحق فيها بعرب أو فرس أو هنود أو غيرهم من الأصناف التي تشتغل بطلب تلك العلوم، و لم تختص بطلب علم معين منها، و لم تختص بطبقة معينة من طلبة العلوم، أو من محصليهم أو أرباب الفضيلة منهم، فيجوز لكل فرد ممن يصدق عليه العنوان العام الموقوف عليه أن يسكن في المدرسة، و لا يجوز للأفراد الآخرين منعه من السكنى و لا إخراجه من المدرسة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 215

إذا هو سكنها و ان طالت مدة بقائه فيها، حتى يعرض هو عن السكنى فيها و يخرج منها باختياره، و إذا وقف الواقف المدرسة على أن يسكنها طلاب علوم الدين من العرب خاصة مثلا، أو من العجم خاصة، أو من أهل بلد معين أو أهل قطر خاص منهم أو وقفها على ان يسكنها طلاب علم الفقه خاصة أو طلاب علم الحديث أو علم التفسير، اختص حق السكنى فيها

بأهل ذلك الصنف الموقوف عليه، و اشترك بين أفراده، و لم يجز لغيرهم سكنى المدرسة ممن لا يشمله الصنف الذي عينه الواقف أو الطائفة التي ذكرها.

(المسألة 112):

إذا وقف الواقف مدرسة ليسكن فيها طلاب العلم مطلقا أو من طائفة خاصة أو من صنف معين، فالمراد السكنى المتعارفة بين الناس، فتكون الحجرة من المدرسة موضع اقامته و بقائه عرفا، و لا ينافي ذلك أن يخرج من المدرسة في بعض الأوقات لقضاء بعض الحاجات، أو لشراء بعض الضرورات، أو للدراسة أو التدريس في أمكنة أخرى، أو للقاء بعض الاخوان، و لا يضرّ بسكناه في المدرسة أن يبيت بعض الليالي في غيرها، إلّا إذا اشترط الواقف على الطالب أن يكون مبيته في المدرسة، كل ليلة أو في ليالي التحصيل، فيجيب عليه ان يتبع الشرط.

و لا يضرّ بالسكنى أن يسافر في بعض الأيام لزيارة أو حج أو عمرة، أو لغير ذلك، و ان طال سفره مدة لا تنافي سكناه في المدرسة، و إذا طالت مدة سفره حتى خرج عن كونه ساكنا في المدرسة في نظر أهل العرف بطل حقه، و إذا شرط الواقف على الطالب أن لا يتجاوز سفره مدة معينة وجب عليه أن يتبع الشرط.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 216

(المسألة 113):

قد يشترط الواقف أن يكون الطالب الساكن في المدرسة غير متزوج، أو غير معيل، فإذا سكن الطالب فيها مدة و هو غير متزوج أو غير معيل وفقا للشرط، ثم تزوج أو أصبح معيلا وجب عليه أن يخرج من المدرسة، و كذلك إذا شرط الواقف أن يكون الساكن فيها مشغولا بالفعل بالدراسة أو بالتدريس، فإذا سكن فيها مدة مع وجود الشرط ثم عرض له مرض أو ضعف أو كبر سن يمنعه من الاشتغال بالفعل وجب عليه ان يترك السكنى في المدرسة لفقد الشرط، و هكذا الحكم في كل وصف أو فعل يشترط الواقف أن يكون الطالب

الساكن في المدرسة متصفا به كصفة العدالة مثلا، أو الالتزام بأداء الصلاة في أول وقتها أو بصلاة الجماعة أو بصلاة الليل فلا يجوز للطالب أن يسكن المدرسة إذا كان فاقدا لذلك الشرط، و إذا كان متصفا بالشرط فسكن المدرسة ثم فقد الشرط لبعض الطواري المانعة، وجب عليه أن يترك السكنى فيها لزوال الشرط.

(المسألة 114):

إذا سبق أحد طلبة العلم إلى غرفة في المدرسة الموقوفة فسكنها، فليس له أن يمنع غيره من أن يشترك معه في سكنى الغرفة إذا كانت الغرفة تتسع لسكنى أكثر من طالب واحد فيها، إلا إذا كان الواقف قد اشترط ان لا يسكن الغرفة الواحدة في المدرسة أكثر من طالب واحد فيتبع الشرط.

(المسألة 115):

إذا سكن طالب العلم في إحدى غرف المدرسة الموقوفة ثبت له حق الأولوية في الغرفة التي سكنها، فلا يجوز لأحد منعه من البقاء فيها و لا يجوز

كلمة التقوى، ج 5، ص: 217

إخراجه منها ما دام مستحقا للسكنى، و ان طالت مدة إقامته فيها، و إذا كان الواقف قد اشترط أن لا تزيد اقامة الطالب فيها على مدة معينة وجب اتباع الشرط، فلا يجوز للطالب البقاء أكثر من المدة المشروطة في صيغة الوقف، و يبطل حقه من السكنى في المدرسة إذا ترك السكنى فيها و طالت مدة تركه للسكنى أكثر ممّا يتعارف مع وجود من يحتاج الى السكنى فيها من الطلاب الموقوف عليهم.

(المسألة 116):

الربط و هي جمع رباط، و يراد به المسكن أو الخان الذي يقفه مالكه لتسكن فيه الفقراء المحتاجون، أو يقفه ليكون منزلا للمسافرين من زوّار أو حجّاج أو غيرهم من عابري السبيل و حكم الرباط هو حكم المدرسة الموقوفة في كل ما بيّناه لها من اللوازم و الآثار، فيتبع فيه ما أطلقه الواقف في صيغة وقفه إذا كان مطلقا، و ما ذكره فيها من قيد أو شرط إذا كان مقيدا أو مشروطا، فإذا قال المالك وقفت هذا المنزل أو هذا الخان ليسكنه الفقراء من الناس، و لم يقيد وقفه بطائفة خاصة منهم و لا بصنف معين من أصنافهم، كان المنزل أو الخان الموقوف رباطا عاما يشترك في استحقاق السكنى فيه جميع الفقراء الموقوف عليهم، فإذا تقدّم أحد منهم الى السكنى في موضع منه أو غرفة من غرفة كان هذا السابق أولى بالموضع أو الغرفة من غيره، و لم يجز منعه أو إخراجه منه، و إذا اشترط الواقف أن تكون لكل فقير غرفة

يستقل بسكناها و لا يشاركه فيها غيره، لزم ذلك، و إذا وقف المنزل أو الخان ليسكنه الفقراء من أهل البلد أو من الغرباء أو من طائفة خاصة وجب أن يتبع ما ذكره في قوله من إطلاق أو تقييد، و يشترك في استحقاق السكنى في المنزل جميع أفراد الطائفة التي ذكرها، أو الصنف الذي عيّنه، دون غيرهم من الطوائف أو الأصناف، على نهج

كلمة التقوى، ج 5، ص: 218

ما ذكرناه في وقف المدرسة، و يجب اتباع كل شرط يشترطه الواقف.

و كذلك الحكم في الربط التي يقفها صاحبها لنزول المسافرين، فتجري فيها التفاصيل و الأحكام المذكورة.

(المسألة 117):

انما يستحق المسافر النزول في الرباط الموقوف على المسافرين و البقاء فيه ما دام مسافرا، فإذا طال مكثه في البلد أو في المنزل حتى خرج بسبب طول مدته عن كونه مسافرا في نظر أهل العرف وجب عليه الخروج من المنزل الموقوف، و لم تجز له مزاحمة المسافرين الآخرين، و لا يسقط حقه من السكنى و النزول في المنزل بالإقامة الشرعية التي توجب عليه إتمام الصلاة، أو الزيادة عليها، إذا لم يخرج بها عن كونه مسافرا.

(المسألة 118):

لا يستحق النزول في المنزل الموقوف على المسافرين أو الغرباء من كان بلده قريبا لا يصدق عليه اسم المسافر، أو اسم الغريب، لقرب بلده من ذلك المكان، و ليس المدار في هذا الحكم على وجود المسافة الشرعية التي توجب توجب القصر في الصلاة و الإفطار للصائم، بل المدار على صدق اسم السفر عرفا إلّا إذا كان وقف الواقف عاما يشمل ذلك فيكون هو المتبع.

(المسألة 119):

إذا وقف الواقف الرباط ليسكن فيه الفقراء مطلقا، أو الفقراء من طائفة خاصة أو من صنف معين و لم يقيده بقيد أخر، و لم يشترط فيه شرطا، جاز للفقير الذي يستحق السكنى أن يسكن في الحجرة، و يسكن معه عائلته و أولاده، و جاز له أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 219

يسكن معهم في أكثر من حجرة مع حاجته الى ذلك، و لا يجوز لأحد منعه أو مزاحمته في ذلك إذا سبق اليه، و يتبع ذلك من ساحة الرباط و مرافقه ما يتوقف عليه انتفاع الفقير بحقه، كموضع الطبخ، و موضع غسل الثياب و الأواني، و موضع النوم في ليالي الصيف و ما يشبه ذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 220

الفصل الثامن في المياه و الكلاء

(المسألة 120):

يراد بالمياه هنا المياه التي حكم الشارع فيها بالإباحة الأصلية، كمياه البحار و مياه الشطوط العامة و الأنهار الكبيرة، كشط العرب و دجلة و الفرات و النيل و روافدها و فروعها، و مياه العيون التي تتفجر بأنفسها في الجبال و في الأرض الموات، و مياه السيول التي تنحدر من ذوبان الثلوج، أو تجتمع في الأودية و الوهاد من نزول الأمطار و نحو ذلك، فالناس في هذه المياه شركاء متساوون في الحقوق و إذا حاز أحد الناس منها شيئا ملكه بالحيازة، سواء حازه بآنية أم بدالية أم بناعور أم بنهر أو قناة شقهما أم بحوض أم بمكينة أم بوسيلة غيرهما من وسائل الري الحديثة.

و من المياه المباحة أيضا: الأنهار الصغيرة التي تتكون بأنفسها في الأرض الموات من سرعة جريان الماء المباح المندفع بقوة من الأنهار الكبيرة، أو العيون الجارية أو المياه المنحدرة من أعالي الجبال فتشق لها مجاري في الأرض، و لم يحيها احد و لم

يتملكها مالك، فيكون ماؤها من المشتركات العامة بين الناس.

(المسألة 121):

إذا حفر رجل له عينا في أرض ميتة أو في جبل فأحيى العين و أجرى ماءها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 221

كانت العين و الماء الجاري منها ملكا خاصا له، و لم يجز لغيره أن يتصرف في العين أو في الماء الّا بإذن من المالك، و كذلك إذا حفر في الأرض الميتة بئرا فأحياها و أجرى ماءها، و إذا شق في الأرض الميتة قناة أو حفر نهرا فأحياهما و اجرى الماء فيهما من العين أو البئر اللتين احياهما فالعين و البئر و القناة و النهر جميعا أملاك خاصة له بالاحياء، و الماء ملك له بالحيازة، و لا حق لغيره، و قد سبق ذكر جميع هذا مفصلا.

(المسألة 122):

إذا حفر الإنسان نهرا أو شق له قناة في أرض مملوكة له بالشراء أو بغيره، أو أحيى النهر أو القناة في أرض موات كما تقدم ذكره، ثم أجري في نهره أو قناته الماء من بعض الشطوط العامة التي مر ذكرها أو من بعض العيون أو الآبار النابعة المباحة لجميع الناس، ملك ما يدخل في النهر أو القناة من الماء بالحيازة و كان الجميع ملكا له، و ان كان الماء صباحا للجميع في أصله، فلا يجوز لأحد التصرف فيه الا بإذنه.

(المسألة 123):

إذا كان نهر مملوكا لشخصين، أو لأشخاص متعددين، على نحو الاشتراك فيه في ما بينهم، و مثال ذلك أن يتفقوا فيشقوا النهر في أرض يملكونها جميعا على نحو الاشتراك، أو يشتركوا في إحياء النهر في أرض ميتة، فيكون النهر في الصورتين مملوكا لهم جميعا، على السواء أو على تفاوت ما بينهم في الحصص منه، و سيأتي بيان الميزان في ذلك.

فإذا ملكوا النهر كذلك ثم أجروا فيه الماء من الشطوط العامة المباحة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 222

للجميع، أو من العيون أو الآبار المباحة كان الماء الجاري في النهر مملوكا للشركاء فيه جميعا، و ملك كلّ فرد منهم من الماء الجاري فيه بمقدار حصته التي يملكها من النهر نفسه، فإذا كان النهر مملوكا لشخصين بالمناصفة ما بينهما فالماء الجاري في النهر مملوك بينهما بالمناصفة أيضا، و إذا كان الشركاء في النهر ثلاثة و النهر بينهم بالمساواة فالماء بينهم مملوك بالمثالثة، و هكذا.

و إذا تفاوتوا في مقادير الحصص فكان أحدهم يملك نصف النهر مثلا فله نصف ما يجري فيه من الماء، و كان الثاني يملك ثلث النهر فله ثلث الماء، و يكون للشريك الثالث سدس النهر و

يملك سدس الماء فقط.

و إذا اختلف الشركاء في مقادير حصصهم كما ذكرنا في الصورة الأخيرة، فلا يجوز لأحدهم أن يتصرف في أكثر من حصته من الماء، فإذا احتاج في سقي مزرعته أو بستانه أو ضيعته الى أكثر من حصته من الماء وجب عليه أن يستأذن شريكيه في أخذ الزائد، أو يدفع إليهما عوض ما يأخذه من نصيبهما في سقاية ضيعته و مزرعته من الماء.

(المسألة 124):

إذا كان الشركاء في النهر قد ملكوه بإحيائه من الأرض الموات، فإنما يحصل التفاوت بينهم في مقادير الحصص منه إذا هم اختلفوا في العمل فيه، فكان مقدار عمل أحدهم في تعميره و إحيائه أكثر من صاحبه أو أقل منه، فإذا هم تساووا في العمل تساووا في الحصص التي يملكونها من النهر، و إذا كان عمل أحدهم في إحيائه ضعف الثاني كان للاول ضعف حصة الثاني من النهر نفسه، و هكذا، و كذلك إذا هم اقتسموه بحسب النفقة، فإذا تساووا في مقدار ما أنفقوا في تعمير النهر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 223

تساوت حصصهم منه، و إذا أنفق أحدهم نصف نفقة الثاني أو ثلثها أو ربعها ملك من الحصة في النهر بتلك النسبة، و مثله ما إذا عمل بعضهم و أنفق بعضهم، و يرجع في تعيين المقادير من العمل أو من النفقة أو من النفقة و العمل الى أهل الخبرة.

(المسألة 125):

إذا كان الماء الجاري في النهر مشتركا بين مالكين أو أكثر كما ذكرنا في المسائل السابقة جرى فيه حكم الأموال المملوكة المشتركة، فلا يجوز لأحد الشركاء أن يتصرف في الماء و لا في بعضه إلا بإذن جميع شركائه فيه، و لا يكفى أن يستأذن من بعضهم، فإذا أباح كل شريك منهم لكل واحد من شركائه أن يتصرف في الماء المملوك لهم بما يريد فلا ريب في الجواز، و قد يتسالمون جميعا فيقتسمون الماء بينهم بالتناوب، فيخصصون لكل واحد منهم يوما معينا أو أياما معينة، أو ساعة من النهار أو ساعات منه معلومة، يتصرف فيها ذلك الشريك بجميع الماء كيف ما يشاء، و بأي مقدار يريد، ثم تكون النوبة بعده للشريك الآخر حتى يتم الدور عليهم جميعا،

و لا ضير عليهم في ذلك.

(المسألة 126):

إذا وقع النزاع و التشاجر بين الشركاء في النهر و الماء و لم يصطلحوا و لم يرضوا بالمناوبة، فلا بد من تقسيم الماء بينهم بالاجزاء، فيسدّ النهر من أخره بصخر أو حديد أو غيرهما، فلا يخرج الماء المملوك من النهر، و توضع للماء في السّد أنابيب متساوية في الحجم و السعة ليخرج الماء منها بمقدار واحد، و تعين بذلك الحصص المملوكة منه و تشخص مقاديرها في القسمة.

فإذا كان النهر و الماء مشتركين بين مالكين بالمناصفة بينهما، وضعا في السد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 224

أنبوبين متساويين في الحجم، و كان لكل واحد من الشريكين أنبوب منهما فيجري ماء انبوبه في ساقية يختص بها، و يتصرف بمائها حيث ما يشاء، و إذا كان الماء مشتركا بين ثلاثة أشخاص بالتساوي جعلوا في السدة ثلاثة أنابيب متساوية في السعة، و اختص كل شريك بواحد من الأنابيب و صنعوا كما تقدم، و هكذا إذا كان الشركاء أكثر من ثلاثة و كانوا متساوين في الحصص، فيجعل في السّد بعدد الشركاء أنابيب متساوية و يكون لكل واحد منهم أنبوب يختص بمائه.

و إذا كان الشركاء مختلفين في مقادير حصصهم التي يملكونها من الماء بسبب اختلاف مقادير حصصهم من النهر المملوك وضعوا في السدة أنابيب متساوية الحجم بمقدار أقلهم حصة و بعدد مجموع حصصهم فإذا كان الشركاء ثلاثة كما ذكرنا في المثال المتقدم و كان أحدهم يملك النصف من الماء، و الثاني يملك الثلث منه، و الثالث يملك الباقي و هو السدس، جعلوا في سدة النهر ستة أنابيب متساوية السعة و الحجم، فكان لمالك النصف ثلاثة أنابيب منها، يتصرف بالماء الذي تخرجه هذه الأنابيب من النهر كيف

ما يشاء، و كان لمالك الثلث أنبوبان يفعل بمائهما بما يريد، و لصاحب السدس أنبوب واحد يصرف ماءه في ساقية خاصة إذا شاء فيسقي به مزرعته أو أرضه أو يتصرف فيه بوجه أخر.

(المسألة 127):

و يتطور الزمان و تتطور الوسائل الحديثة معه لتقسيم الماء بالوزن و الكيل و تجعل له الموازين الدقيقة لضبط المقادير و الأعداد و تحديد ما يراد منه من الحصة أو الحصص، فيكون الرجوع إليها أيسر و أسهل، و الاعتماد عليها في التقسيم و تعيين مقادير الحقوق أكثر ضبطا و أوفر دقة، و أحرى في براءة الذمم بين الشركاء.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 225

(المسألة 128):

يجوز للشركاء في ماء النهر أن يقتسموا الماء بينهم بالمهاياة و المناوبة كما ذكرنا في المسألة المائة و الخامسة و العشرين، فإذا كانت حصصهم في الماء متساوية قسموه بينهم بالساعات إذا شاؤوا أو بالأيام المتساوية، فيكون جميع ماء النهر لأحدهم خمسة أيام مثلا يتصرف فيه كما يريد، ثم تنتقل النوبة بعده الى الشريك الثاني فيتصرف في جميع ماء النهر خمسة أيام أيضا كما يريد، ثم تكون للثالث، و هكذا حتى يتم الدور بينهم جميعا على السواء، ثم يستأنف عليهم من جديد.

و إذا كانت حصص الشركاء في ماء النهر مختلفة في مقاديرها كما في المثال الذي تقدم ذكره قسموا الماء بينهم بالمناوبة كذلك حسب ما يقتضيه اختلاف حصصهم، فيكون جميع ماء النهر لشريك الأول الذي يملك النصف ثلاثة أيام يتصرف فيه، ثم يكون بعده للشريك الثاني الذي يملك الثلث فيتصرف في جميع ماء النهر مدة يومين، ثم تنتقل النوبة للثالث و هو الذي يملك السدس فيتصرف في جميع ماء النهر يوما واحدا.

(المسألة 129):

القسمة بالمناوبة و المهاباة بين الشركاء متقومة بالتراضي و المسالمة ما بينهم، و لذلك فلا تكون قسمة إجبار و لا تكون لازمة، و معنى ذلك ان الشريك لا يجبر عليها إذا امتنع عن قبولها من شريكه، و يجوز للشركاء فسخ هذه القسمة بعد النوبة الأولى أو الثانية، و متى ما أرادوا. و يجوز للشركاء ان يقتسموا الماء بينهم بالاجزاء على النهج الذي أوضحناه في المسألة المائة و السادسة و العشرين و ما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 226

بعدها، و القسمة بالاجزاء كذلك قسمة إجبار، فإذا طلبها بعض الشركاء وجبت على شركائه الآخرين اجابته، و إذا امتنع بعضهم عن قبولها أجبر الممتنع، و إذا وقعت

القسمة بينهم على الوجه المذكور كانت لازمة لا يجوز لأحد منهم فسخها.

(المسألة 130):

إذا اقتسم الشركاء الماء المشترك بينهم بالمهاياة جاز لكل واحد من الشركاء ان يفسخ القسمة متى أراد، فإذا أراد أحد الشركاء فسخ القسمة، بعد ان استوفى نوبته من القسمة و قبل أن يستوفي شركاؤه الآخرون نصيبهم منها جاز له ذلك، و إذا فسخ القسمة ضمن لشركائه حصصهم من الماء الذي استوفاه في نوبته، فإن أمكن العلم بمقدار ما يستحقونه من الحصص في نوبته ضمنه، و وجب أن يدفع لكل واحد منهم مثل حصته التي استوفاها، و إذا تعذر العلم بذلك ضمنه لهم بالقيمة، و يرجع الى الصلح في ذلك.

(المسألة 131):

المياه المباحة الأصلية كما قلنا في أول هذا الفصل مشتركة بين جميع الناس على السواء، و لا فرق بين المسلمين و غيرهم في ذلك، فإذا اتفق وجود جماعة من أصحاب الاملاك و المزارع على بعض هذه الموارد المباحة ليسقوا أملاكهم و مزارعهم منه كان لهم الحق في ذلك، فإذا كان المورد الذي اجتمعوا حوله وافيا بحاجة الجميع في أي وقت أرادوا، و مثال ذلك: أن تكون أملاكهم و مزارعهم حول نهر من الأنهار الكبيرة التي تكفيهم لذلك متى شاؤوا، فالنتيجة واضحة لا ريب فيها، فيصح لكل فرد منهم أن يستوفي حقه من الماء تاما متى أراد، فإن المفروض انه باستيفاء حقه لا يمنع و لا يزاحم حقوق الآخرين و لا يضعف

كلمة التقوى، ج 5، ص: 227

حصصهم من الماء.

(المسألة 132):

لا يحق لأحد من الناس في الصورة المتقدمة أن يشق له نهرا كبيرا في أرض يملكها أو في أرض ميتة فيتملك به ذلك الماء المباح كله، أو يستولي به على أكثره بحيث لا يكون الباقي من الماء وافيا بحاجة الآخرين. و لا يمنع الرجل من ان يشق لنفسه نهرا يملك فيه بعض الماء إذا كان لا يمنع حقوق الباقين و لا حق بعضهم و لا يوجب له قلة في الماء.

(المسألة 133):

إذا كان الماء المباح الذي اجتمع عليه أصحاب الأملاك و المزارع لا يكفى لسقاية أملاكهم و مزارعهم دفعة واحدة، و مثال ذلك: أن تكون الأملاك و المزارع المذكورة حول غدير في البادية يجتمع فيه ماء المطر: أو واد من أوديتها ينحدر اليه ماء السيل، أو حول عين نابعة في الأرض الميتة، فإذا قسم أصحاب الأملاك الماء الموجود عليهم، لم يف بحاجتهم مجتمعين، و وقع النزاع و التخاصم بينهم في من يتقدم أو يتأخر منهم في السقاية.

فإن علم من هو الأسبق في إحياء ملكه أو مزرعته قبل الآخرين من أصحابه قدم الأسبق، فيسقى من ذلك الماء قبل غيره، ثم يقدم السابق في الاحياء من بعد الأول، و هكذا حتى تتم سقايتهم أو ينتهي الماء الموجود.

و إذا لم يعلم السابق من اللاحق في إحياء لملكه، قدم الأعلى في السقاية من الماء، و المراد بالأعلى من يكون ملكه أو مزرعته أقرب الى أول الماء المباح الموجود، فيسقى ملكه أولا فإن كان نخلا حبس له الماء في أرضه الى أن يبلغ في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 228

ارتفاعه الى الكعب، و الكعب هو المفصل ما بين الساق و القدم، و ان كان شجرا حبس له الماء حتى يبلغ الى

القدم، و ان كان زرعا حبس الماء لسقايته حتى يبلغ الى الشراك، فإذا استوفى من هو أقرب الى أول الماء حقه من السقاية بذلك، أرسل الماء من بعده الى من يليه فسقي كما تقدم، ثم أرسل الماء الى من بعده، و هكذا حتى تتم السقاية للجميع أو ينتهي الماء الموجود كله.

(المسألة 134):

إذا وجد جماعة من الناس على ماء مباح، فشق كل واحد منهم له نهرا في ملكه الخاص به، أو في أرض ميتة، أمكن لهم أن يجروا الماء في أنهارهم التي شقوها من ذلك الماء المباح الذي اجتمعوا عليه، و يملك كل واحد منهم الماء الذي أجراه في نهره و قد تقدم بيان هذا.

فان كان الماء المباح الموجود لديهم يكفي لحاجتهم جميعا لكثرته فيما لا الأنهار كلها في زمان واحد، و لا يمنع بعضهم بعضا و لا ينقص حقه، اشتركوا في الحق على السواء و فعلوا بالماء ما أرادوا.

و ان كان الماء المباح الموجود لديهم لا يفي بحاجتهم جميعا في وقت واحد، و وقع التخاصم بينهم في من يتقدم أو يتأخر في الاستحقاق، جرى فيه نظير الحكم الذي ذكرناه في سقاية الأملاك، فيقدم منهم من علم أنه أسبق في إحياء نهره من غيره فيجري الماء في نهره قبل الآخرين، ثم يكون الحق للسابق في الاحياء من بعد الأول: و هكذا.

و ان لم يعلم السابق منهم قدّم في الحق من يكون نهره الذي أحياه أقرب الى أول الماء المباح، فيجري الماء في نهره، ثم يكون الحق من بعده لمن يليه، و هكذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 229

على الترتيب كما تقدم.

(المسألة 135):

إذا كان النهر المملوك مشتركا بين جماعة متعددين، و احتاج الى تنقيه من رواسب الرمل و الطين المجتمعة فيه، أو من النباتات التي تخرج في قاعه، و تعيق جريان الماء فيه، أو احتاج الى مزيد من الحفر أو التوسعة، أو الى إصلاح بعض الخروق و الخلل فيه أو في جوانبه، فللمسألة صور لا بدّ من ملاحظتها لتطبيق أحكامها.

(الصورة الأولى): أن يكون الشركاء في النهر كلهم كاملين

رشيدين و يتفقوا في ما بينهم على أن يقوموا بما يحتاج اليه النهر من إصلاح و تنقية، فإذا أرادوا القيام بالأمر في هذه الصورة فعليهم أن يقتسموا العمل في النهر أو يقتسموا النفقة عليه بنسبة ما يملكه كل فرد منهم من الحصة في النهر، فعلى مالك نصف النهر أن يقوم بنصف العمل فيه، أو يقوم بدفع نصف نفقاته، فيستأجر بها من يقوم بالعمل، و على مالك ثلث النهر أو ربعه أو ثمنه أو عشرة مثلا أن يقوم بنسبة حصته المذكورة من النهر فيتولى مقدارها من العمل، أو يدفع مقدارها من النفقة.

و كذلك الحكم إذا الزمتهم الدولة بأن يقوموا بتنقية النهر و إصلاحه، فعليهم أن يتولوا القيام بالأمر بنسبة ما يملكه الفرد منهم من الحصة في النهر، فيعمل في إصلاحه بنفسه أو يدفع من النفقة بذلك المقدار و هذه هي الصورة الثانية. بل و كذلك إذا ألزم الحاكم الشرعي بذلك، كما إذا كان النهر مشتركا بين ملاك قاصرين و كانت مصلحتهم تحتم تعمير النهر و إصلاحه، فيجب على الأولياء الشرعيين للقاصرين أن يقوموا بما تقتضيه المصلحة، فيدفعوا نفقة العمل و الإصلاح من أموال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 230

القاصرين أنفسهم، فإذا لم يفعل الأولياء ذلك ألزمهم الحاكم الشرعي به، و اقتسموه بحسب الحصص كما تقدم، و هذه هي الصورة الثالثة.

(المسألة 136):

الصورة الرابعة أن يختلف الشركاء في النهر في ما بينهم، و هم جميعا كاملون رشيدون، فيعزم بعضهم على أن يقوم بإصلاح النهر المشترك و تنقيته، و يترك بعضهم فلا يقوم بشي ء، و لا يجبر الممتنعون من الشركاء على الاشتراك في العمل أو في النفقة، و إذا قامت الجماعة الأولى بإصلاح النهر أو بالإنفاق عليه أو بشي ء

منهما، فلا يحق لهؤلاء أن يطالبوا شركاءهم الممتنعين بمقدار نصيبهم من المئونة إلا إذا كان الممتنعون قد طلبوا من شركائهم العمل في النهر و تعهّدوا لهم ببذل ما ينوبهم من النفقة، فيجوز لهم المطالبة بها بعد هذا الطلب و هذا التعهد.

(المسألة 137):

(الصورة الخامسة) أن يكون النهر مشتركا بين فريقين من الملاك، فبعض الشركاء فيه قاصرون غير رشيدين، و لذلك فلا يصح التصرف في حصصهم الا من أوليائهم الشرعين، و بعض الشركاء في النهر كاملون يصح لهم التصرف، و لكنهم يعجزون عن القيام بإصلاح النهر إلا بمعونة شركائهم القاصرين لضعفهم في المال أو لسبب أخر.

فإذا كانت للشركاء القاصرين مصلحة تقتضي إصلاح النهر المشترك وجب على أوليائهم الشرعيين ان يبذلوا حصص القاصرين من مئونة إصلاح النهر ليتمكن شركاؤهم من القيام بالعمل و يتم الإصلاح المطلوب، و الحصص التي يبذلها الأولياء من أموال القاصرين أنفسهم، و إذا لم تكن للقاصرين مصلحة في إصلاح

كلمة التقوى، ج 5، ص: 231

النهر لم يجب على الأولياء البذل.

(المسألة 138):

إذا أذن مالك النهر لغيره أن يغرس لنفسه على حافة النهر نخيلا أو شجرا فغرس الشخص المأذون له ذلك، فلا يجوز لمالك النهر بعد ثبات الغرس ان يحول النهر الى موضع لا يصل منه الماء الى النخيل أو الشجر المغروس باذنه، و كذلك الحكم إذا أذن له فنصب رحى في مجرى النهر لطحن الحبوب، فليس لمالك النهر أن يحوله فلا ينتفع المأذون له برحاه، و يجوز له تحويل النهر إذا أذن له صاحب الغرس و صاحب الرحى بتحويله.

(المسألة 139):

النبات يتبع الأرض التي تنبته في الحكم، فإذا كانت الأرض مملوكة لأحد من الناس كان النبات الذي تخرجه مملوكا لصاحب الأرض، سواء كان مما تخرجه الأرض بنفسها أم خرج فيها بزرع زارع أو غرس غارس، و سواء كان مما يأكله الناس أو الأنعام أم كان مما لا يؤكل، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه الا بإذن مالك الأرض، و إذا وضع يده عليه أو تصرّف فيه بغير رضا مالكه كان غاصبا اثما في فعله.

و إذا كانت الأرض مواتا غير مملوكة لمالك كان النبات الذي تخرجه بحكمها، فهو من المباحات الأصلية فتشترك فيه الناس عامة، و إذا سبق إليه أحد من الناس فحازه لنفسه ملكه بالحيازة، و كان مختصا به، الا أن يحدث ما يوجب الاشتراك في الملكية، و لا تختص هذه الاحكام بالكلاء و ما تأكله الأنعام و الدواب و الحيوان بل تشمل العقاقير و الأدوية و الزهور و ما يأكله الإنسان من النباتات، و ما ينتفع به في مأكولاته و مشروباته من التوابل و الأبزرة و المطيّبات و المشهيات، و ما ينتفع به

كلمة التقوى، ج 5، ص: 232

في غير ذلك كالحطب و الخشب و القصب

و البردي و غيرها.

(المسألة 140):

ذكرنا في المسألة التاسعة عشرة ان المسلم إذا سبق الى قطعة من الأرض الميتة فوضع يده و استولى عليها لينتفع بما فيها من كلاء و نبات أو ماء عذب أو حطب أو قصب أو نحو ذلك من المباحات العامة الموجودة في الأرض كان هذا السابق أولى بتلك القطعة التي استولى عليها و بمنافعها ما دامت يده مستولية عليها، و ان لم يحي الأرض و لم يحجرها، فلا يجوز لأحد غيره من الناس أن يضع يده على تلك الأرض، و لا على كلائها و نباتها و منافعها إلا باذنه، و كذلك إذا سبق إلى الأرض الميتة كافر ذمي أو معاهد ممن تكون يده محترمة في شريعة الإسلام لذمته أو معاهدته.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 233

الفصل التاسع في المعادن

(المسألة 141):

المعادن بقاع مخصوصة من الأرض تكون أجزاء الأرض فيها ذات خصوصيات مرغوبة عند أفراد الإنسان، و هو يطلبها لتلك الخصوصيات و لكثرة افادته منها، و قد يكون بعض تلك البقاع للخصوصيات الموجودة فيها سببا لتحويل المياه و الأبخرة و شبهها إذا اجتمعت فيها الى مواد ذات قيمة، بل و الى ذات ثروة كبيرة يتنافس عليها الناس، كالنفط و الكبريت، و القار و الملح و الزيبق و الزرنيخ. و كالذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الرصاص، و كالزمرد و الزبرجد و الفيروزج و العقيق و الياقوت، و أمثال ذلك من المعادن النفيسة و غير النفيسة، و المألوفة و غير مألوفة بين الناس، و قد تعرضنا لذكر المعادن و الأحجار الكريمة في كتاب الخمس من هذه الرسالة و في مبحث ما لا يصح السّجود عليه من كتاب الصلاة.

(المسألة 142):

يقول جماعة من الفقهاء (قدس اللّه أرواحهم): تنقسم المعادن الى نوعين النوع الأول المعادن الظاهرة على وجه الأرض، كالملح و الكحل و القار و الموميا و هذا النوع كسائر المباحات الأصلية يملك بالأخذ و الحيازة، فإذا أخذ الإنسان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 234

منه شيئا ملك ما أخذه و بقي الباقي الذي لم يأخذه من المعدن مشتركا بين عموم الناس، و النوع الثاني المعادن الباطنة في الأرض، و هذا النوع انما يملك بالتعمير و الاحياء.

و الظاهر أن هؤلاء الأجلة (تغمدهم اللّه برضوانه) يريدون من النوع الأول:

المعادن التي تكون جاهزة بنفسها، فيمكن للرجل ان ينتفع بها بالفعل، سواء كانت ظاهرة على وجه الأرض أم كانت بحكم الظاهرة، و هي التي يستولي عليها الإنسان بعد حفر يسير في الأرض، كمعادن الجص و النورة و الموميا و الكبريت و الفيروزج

و المرمر التي تستخرج و يستولي عليها بعد ازالة الرمل و التراب من وجه الأرض.

و الحكم في هذه المعادن الجاهزة بنفسها كما أفاده هؤلاء الأجلة (رضي اللّه عنهم) فهي مما يملكه الإنسان بالحيازة، فإذا أخذ منهما شيئا كثيرا أو قليلا ملكه سواء أخذه من ظاهر الأرض أم استولى عليه بعد الحفر كما قلنا و لا ينافي ذلك أن بعض هذا النوع يحتاج إلى الإحراق كالجص و النورة، و بعضه يحتاج الى نشره بالمناشير و الى تسوية وجوهه بالآلات كالمرمر، فان هذا المقدار من العمل لا يخرجها عن حكم المباحات العامة، و لا تكون بسببه من النوع الثاني الذي لا يملك إلا بالاحياء، و يبقى الباقي الذي لم يأخذه الرجل من المعدن مباحا لغيره من الناس، بل و له متى شاء.

(المسألة 143):

النوع الثاني: المعادن التي لا تكون جاهزة بالفعل ليستفيد الإنسان منها فوائدها المطلوبة متى أخذها، بل تفتقر حتى تبلغ هذه الغاية إلى إجراء أعمال و تعمير و احياء كمعدن العقيق و الياقوت و الزبرجد و نحوها من الأحجار الكريمة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 235

فهي تتوقف على حك و تصفية حتى تصبح جواهر نافعة، و كمعدن الزيت و النفط فإنه يحتاج الى حفر آبار و استخراج و تصفية بآلات و أجهزة معقدة متنوعة حتى تنتج أنواع الزيت المطلوبة، و كمعادن الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الرصاص فإنها تفتقر إلى إعمال كثير من الوسائل في العمارة و الاحياء. و الحكم في هذا النوع من المعادن انها لا تكون مملوكة للإنسان إلا بالتعمير و الاحياء، و لا فرق فيها بين أن تكون ظاهرة على وجه الأرض و أن تكون مستورة في باطنها أو في

اعماقها فتحتاج الى تنقيب و حفر آبار و اعداد اجهزة و وسائل معقدة.

و إذا حفر الإنسان البئر و لم يحيى المعدن بالفعل لم يملكه، و كان حفره للبئر و تعيين الموضع تحجيرا يثبت به للحافر حق الأولوية من غيره، و قد سبق نظير هذا الحكم في من حفر له بئرا في أرض ميتة و لم ينبع ماؤها، أو حفر له فيها عينا و لم يخرج ماؤها فلا يكون ذلك إحياء للبئر أو العين و لا يملكها بذلك و يكون حفرهما تحجيرا للموضع من الأرض الميتة تثبت للمحجر به الأولوية.

(المسألة 144):

إذا سبق إنسان الى احد المعادن التي لا تملك إلا بالاحياء و شرع في مقدمات إحيائه ثم تركه و أهمله، خيّره الولي العام للمسلمين بين أن يتم احياء المعدن، و أن يرفع يده عنه لمن يريد إحياءه من الناس و أجبره على أن يختار أحد الأمرين، و إذا اعتذر عن تعطيل العمل بعذر مقبول عند العقلاء أمهله ولي المسلمين مدة يزول فيها عذره فإذا انقضت المدة ألزمه بأن يختار أحد الأمرين و يتولى الحاكم الشرعي ذلك في عصر غيبة الإمام (ع) و سبق نظير هذا الحكم في المسألة التاسعة و الخمسين.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 236

(المسألة 145):

إذا أحيى انسان قطعة من الأرض الموات فوجد في الأرض المحياة: بعض المعادن ملك الأرض بالاحياء و ملك المعدن الذي وجده فيها بتبع الأرض، سواء وجد المعدن ظاهرا على وجه الأرض أم عثر عليه في باطنها، و مثال ذلك: أن يشق له في الأرض نهرا أو يحفر بئرا فيجد المعدن في أثناء حفره، فيملكه لأنه جزء من أرضه، و من توابعها و إذا كان المعدن في الأعماق البعيدة عن وجه الأرض بحيث لا يعدّ عرفا من اجزاء الأرض و لا من توابعها لم يملكه الرجل مع الأرض بإحيائها و من أمثلة ذلك: آبار النفط و شبهه مما يحتاج في استخراجه الى حفر كثير في الأعماق فلا يملك مثل هذا المعدن بإحياء الأرض، و انما يملك بإحياء المعدن نفسه على الوجه الذي تقدم بيانه.

(المسألة 146):

يجوز للإنسان أن يستأجر أجيرا لاستخراج المعدن من موضعه في الأرض بأجرة معلومة بينهما، و يجوز له أن يستأجره لإحياء المعدن إذا كان محتاجا الى الاحياء، و كان العمل المستأجر عليه معلوما بين المتعاقدين، و الأحوط أن يكون مقدارا في المدة، و لا تصح الإجارة إذا كان بدل الإجارة مجهولا، و مثال ذلك: أن يستأجر العامل يستخرج المعدن بربع ما يخرجه منه أو بثلثه، و يمكن للمتعاقدين إذا فقد بعض شروط الصحة في الإجارة أو شكّا في تحقق شرط منها أن يوقعا المعاملة بينهما على وجه الصلح.

(المسألة 147):

لا يجوز للإنسان أن يضع يده على مقاطعة كبيرة لا يستطيع إحياءها بنفسه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 237

من الأرض الموات ثم يقسم المقاطعة بين أفراد متعددين من عشيرته أو غيرهم ليحيى كل فرد منهم حصته و يكون الرجل الأول هو صاحب الحق و الاستيلاء على الأرض كلها، فإذا أخذ كلّ فرد من العشيرة حصته من الأرض و أحياها ملكها هذا الفرد المحيي و لا حق للأول في شي ء منها.

و أولى من هذا الفرض بالمنع و عدم الجواز أن يضع الأول يده على مقدار كبير من المياه المباحة أو المعادن المشتركة و يصنع فيها كما تقدم ذكره من التقسيم على أفراد العشيرة.

(المسألة 148):

إذا أحيى رجل أرضا ميتة ملك الأرض بالاحياء، و إذا وجد في الأرض بعض الآثار القديمة التي يعتبرها الناس ذات قيمة تاريخية أو مالية فهي ملك لمحى الأرض و يملكها بتبع الأرض المحياة، و كذلك إذا اشترى أرضا أو انتقلت إليه بأحد الأسباب الموجبة لتملكها شرعا، فإذا عثر فيها على بعض الآثار للأمم السابقة فهي ملك له لأنها من أجزاء أرضه.

(المسألة 149):

إذا وقف الرجل شارعا عاما من أرضه المملوكة و سبله للناس و عين للشارع أرصفة لمرور المشاة فيها وجب اتباع ما عيّنه الواقف، فلا يجوز المرور و الاستطراق في الأرصفة لركبان الدواب و وسائط النقل، و لا يجوز وقوف السيارات أو الدواب أو وسائط النقل الأخرى فيها، و خصوصا إذا أوجب ذلك منعا أو مزاحمة لمرور المشاة الموقوف عليهم.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 239

كتاب المزارعة و المساقاة

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 240

كتاب المزارعة و المساقاة و تفصيل البحث في هذا الكتاب يكون في ستة فصول:

الفصل الأول في المزارعة و شروطها

(المسألة الأولى):

الزراعة أحد الأعمال التي تأكد استحبابها في شريعة الإسلام، و قد تعددت النصوص الواردة عن الرسول «ص» و عن الأئمة من أهل بيته الطاهرين «ع» الدالة على ذلك، و تنوعت في البحث و التأكيد عليه، ففي الحديث عن يزيد بن هارون الواسطي قال: سألت جعفر بن محمد «ع» عن الفلّاحين، فقال: هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه، و ما في الأعمال شي ء أحب الى اللّه من الزراعة، و ما بعث اللّه نبيا الا زارعا، إلا إدريس «ع» فإنه كان خيّاطا) و في رواية أخرى عنه، قال سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: (الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه اللّه (عز و جل) و هم يوم القيامة أحسن الناس مقاما، و أقربهم منزلة يدعون المباركين)، و عن سيابة عنه «ع» قال: سأله رجل، فقال له: جعلت فداك، أسمع قوما يقولون: أن الزراعة مكروهة، فقال له: (ازرعوا و اغرسوا فلا و اللّه ما عمل الناس أحل و لا أطيب منه) و عنه «ع» (أن اللّه عز و جل اختار لأنبيائه الحرث و الزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء)، و بمضمونها روايات عديدة أخرى.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 241

(المسألة الثانية):

المزارعة معاملة تكون ما بين مالك الأرض و شخص أخر يتفقان بينهما على أن يقوم الشخص بزرع الأرض لمالكها بحصة من نتاج الزراعة، و لا ريب في شرعية هذه المعاملة إذا توفرت فيها شروط الصحة و سيأتي بيانها مفصلا.

و يسميها بعض اللغويين و علماء الحديث مخابرة، بملاحظة أن كلّ واحد من المتعاقدين في المعاملة يستحق خبرة من نتاج الزرع و الخبرة هي النصيب المعيّن، أو بملاحظة أن الخبير اسم يطلق في اللغة على الأكّار نفسه.

و قد روى الصدوق

في كتابه معاني الأخبار (أن النبي «ص» نهى عن المخابرة)، و هذا الخبر محمول على صورة وجود تنازع و تشاجر في المعاملة بين المتعاقدين، فلا نهي و لا كراهة في المزارعة إذا لم تؤد الى ذلك.

(المسألة الثالثة):

المزارعة معاملة معلومة تجري بين عامة الناس، و هي عقد من العقود يجري بين الطرفين المتعاملين، و لذلك فهي لا تتم و لا تنفذ إلا بإيجاب و قبول بينهما و يجوز فيها أن يكون الإيجاب من مالك الأرض و يكون القبول من الزارع، و يمكن أن يقع الإيجاب من الزارع، و يقع القبول من صاحب الأرض، و يصح أن يقع الإيجاب من أحدهما بأي لفظ يكون دالا على إنشاء عقد المزارعة بينهما بحصة معينة من حاصل الزراعة، فيجوز للموجب منهما أن ينشئ، العقد بصيغة الفعل الماضي، و بصيغة الفعل المضارع، و بصيغة فعل الأمر، و بالجملة الاسمية فيقول مالك الأرض للزارع: سلّمت إليك ارضي المعلومة لتزرعها حنطة مثلا و يكون لي النصف أو الثلث من الحاصل الذي ينتج من الزرع و لك الباقي منه، أو يقول له

كلمة التقوى، ج 5، ص: 242

ازارعك في ارضي على كذا، و يذكر له القيود و الشروط، أو يقول له: ازرع لي هذه الأرض بالحصة المعيّنة و هكذا في أي لفظ يكون دالا على إيجاد المعاملة المقصودة بينهما دلالة ظاهرة يعتمد عليها أهل اللسان، و أن كان ظهوره بسبب قرينة موجودة تدل على المراد، سواء وقع من مالك الأرض أم من الزارع.

و لا يتعين أن يكون إنشاء العقد بلفظ عربي، فيصح أن يقع إنشاؤه بأي لغة أخرى تكون دالة عليه في عرف أهل ذلك اللسان، و يجوز أن يكون القبول كذلك بأي لفظ

يكون دالا على رضى القابل بالمعاملة و بشروطها التي اتفق عليها الطرفان سواء وقع من الزارع أم من صاحب الأرض.

(المسألة الرابعة):

يجوز أن ينشأ عقد المزارعة بالمعاطاة الدالة على المعاملة المقصودة، فإذا دفع المالك أرضه إلى الزارع ليزرعها له بحصة معلومة من حاصل الزراعة و قصد بدفعه الأرض إنشاء المعاملة، ثم قبض الزارع الأرض منه بقصد إنشاء القبول على الشروط المتفق عليها بينهما، صحت المعاملة و نفذت، و كانت لازمة على الأقوى و سيأتي ذكر ذلك في موضعه، و انما تجري المعاطاة بعد أن يعين بين الطرفين ما يحتاج الى تعيينه و يشترط ما اتفقا على اشتراطه، ثم ينشأ العقد بالمعاطاة مبنيا على ذلك، فتكون القيود و الشروط بذلك بحكم المذكورة في العقد.

و يجوز أن يكون العقد مؤلفا فيكون الإيجاب باللفظ و القبول بالفعل و بالعكس و يصح أن يقدم القبول على الإيجاب على الوجه الذي يأتي إيضاحه و قد سبق نظير ذلك في بعض العقود.

(المسألة الخامسة):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 243

لا ريب في أن الأرض مملوكة لمالكها الشرعي، و يتبعها في ذلك نماؤها و جميع ما يحصل منها من فائدة و منفعة، فلا يحق للزارع أن يتصرف في الأرض الا بإذن مالكها، و لا يستحق من نمائها و فوائدها شيئا إلا بتمليكه، و لا ريب كذلك في أن عمل العامل الحر ملك خالص له، و لا سلطان لأحد غيره على عمله، و لا على شي ء من نتاجه و فوائده الا بتمليكه.

و من أجل ذلك كانت المزارعة عقدا لا يتم إلا بإيجاب و قبول من المتعاملين و من أجل ذلك صح أن يقع الإيجاب فيها من مالك الأرض و من الزارع، و يكون القبول من الطرف الثاني منهما، فإذا قال مالك الأرض للزارع: سلمت إليك ارضي المعلومة لتزرعها حنطة و يكون لك النصف أو الثلث مما

تنتجه الأرض من حاصل هذه الزراعة، و يكون لي الباقي من حاصلها، أو قال له: زارعتك على أن تزرع ارضي حنطة و يكون حاصل زراعة الأرض بيننا على النهج المذكور، كان مالك الأرض هو الموجب في المعاملة، و لا يتم العقد و لا ينفذ الا بقبول الزارع بعد أن يتم الإيجاب، و يجوز أن يقدم القبول قبل الإيجاب، فيقول الزارع لمالك الأرض و قبل إيجابه: رضيت بالمزارعة التي تنشئها على الشروط التي اتفقنا عليها ما بيننا و يصح العقد منهما على كلا الوجهين.

و إذا ابتدأ الزارع بالإيجاب فقال لمالك الأرض: استلمت منك أرضك المعلومة لأزرعها و تكون الحصص بيني و بينك بالمناصفة مثلا في نتاج الزراعة، أو على النهج المعين الذي اتفقنا عليه فيكون الزارع هو الموجب، و لا يتم العقد و لا ينفذ الا بقبول المالك بعد هذا لإيجاب، و يصح للمالك أن يوقع القبول سابقا على الإيجاب، فيقول للزارع قبل إيجابه رضيت بمزارعتك التي تنشئها، على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 244

الوجه و القيود التي اتفقنا عليها و الشروط التي اردناها.

(المسألة السادسة):

يشترط في صحة عقد المزارعة أن يكون صاحب الأرض بالغا، و عاقلا و مختارا في فعله، فلا يصح عقده إذا كان صبيا غير بالغ أو كان مجنونا، أو كان مكرها أو مقسورا على الفعل، و أن يكون قاصدا لما ينشئه، فلا يصح عقده إذا كان سكران أو غاضبا غضبا يسلبه القصد لما يقول، أو كان هازئا أو هازلا غير جادّ في قوله و فعله، و أن يكون رشيدا غير محجور عليه لسفه، سواء كان سفهه موجبا للحجر عليه في ماله خاصة أم في جميع تصرّفاته، و قد ذكرنا تفصيل هذا في كتاب

الحجر، و أن يكون غير محجور عليه في ماله لفلس، و أن يكون مالكا للتصرف في ماله من الجهات الأخرى، فلا يصح عقده إذا كان غير نافذ التصرّف فيه لبعض الموانع منه.

و مثال ذلك: ما إذا كانت منفعة الأرض مملوكة لغيره بإجارة و شبهها، أو كانت الأرض مرهونة عند غيره على دين لذلك الغير، أو كانت قد تعلق بها حق أخر يمنع المالك من التصرف فيها أو في منفعتها.

و يشترط في صحة العقد كذلك أن يكون الزارع جامعا للشرائط المذكورة كلها على النحو الذي ذكرناه في صاحب الأرض، نعم، لا يضر في صحة المزارعة أن يكون الزارع مفلسا، إذا كانت مزارعته لا تستلزم تصرفا في أمواله الموجودة لديه و التي قد تعلق الحجر بها لحقوق الغرماء.

(المسألة السابعة):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 245

يشترط في صحة عقد المزارعة أن يجعل في العقد جميع ما يحصل من زراعة الأرض مشاعا بين المتعاقدين، فلا يصح العقد إذا جعل نماء الزراعة كله لأحد الطرفين دون الآخر، و لا يصح إذا اشترط أن يكون لأحد المتعاقدين مقدار معين من الحاصل يختص به، فيشترط صاحب الأرض على الزارع أو يشترط الزارع على صاحب الأرض أن تكون له عشرة أمنان من الحنطة الحاصلة من الزراعة يختص بها دون صاحبه، و لا يعلم بأن ما يحصل من نتاج الزرع يفضل عن ذلك المقدار أم لا، فيبطل العقد في هذه الصورة، و يبطل أيضا إذا جعل الباقي من الحاصل إذا اتفق وجوده خاصا بالثاني منهما أو جعل مشتركا بين الطرفين فيكون العقد في جميع هذه الصور، و تلاحظ المسألة الخامسة و العشرون الاتية.

و لا يصح العقد إذا اقتسما الحاصل من الزراعة بينهما بحسب الزمان فاشترطا

مثلا أن يكون ما تنتجه الزراعة في أول الوقت يختص بأحد هما، و ما تنتجه في أخر الزمان يكون للثاني، أو اقتسما النتاج بحسب الأمكنة من الأرض فما تنتجه القطعة الأولى المعيّنة من الأرض يكون لأحد هما و ما تنتجه القطعة الثانية يختص بالاخر.

و لا يصح العقد إذا اقتسما الحاصل بحسب النوع الذي تنتجه الزراعة، فما تنتجه الزراعة من الحنطة مثلا يكون مملوكا لأحدهما، و ما تنتجه من بقية أنواع الحبوب أو المخضرات يكون مملوكا للثاني، فيبطل عقد المزارعة في جميع هذه الفروض، و تصح المعاملة فيها إذا أنشئت على نحو المصالحة عليها بين الطرفين.

(المسألة الثامنة):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 246

يشترط في صحة عقد المزارعة زائدا على الشروط المتقدم ذكرها: أن تجعل في العقد لكل واحد من المالك و الزارع حصة معلومة المقدار من مجموع حاصل الزراعة، النصف منه أو الثلث أو الربع أو الخمس أو غير ذلك من الكسور، حسب ما يتفق عليه المتعاملان، سواء تساوت الحصتان المجعولتان لهما في المقدار أم تفاوتتا، فيكون المجموع بينهما حصتين على المناصفة أو على المثالثة، فلأحدهما ثلث الحاصل و للآخر ثلثاه، أو على غير ذلك، فلأحدهما ربع النتاج و للثاني ثلاثة أرباعه، و هكذا.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه «ع» قال: (لا تقبّل الأرض بحنطة مسماة، و لكن بالنصف و الثلث و الربع و الخمس لا بأس به)، و قال «ع»: (لا بأس بالمزارعة بالثلث و الربع و الخمس)، و في صحيحة أبي الربيع الشامي عنه «ع»، انه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل أخر، فيشترط عليه ثلثا للبذر و ثلثا للبقرة فقال «ع»: (لا ينبغي أن يسمي بذرا و لا بقرا، و لكن يقول لصاحب

الأرض: ازرع في أرضك و لك منها كذا و كذا، نصف أو ثلث أو ما كان من شرط و لا يسمّ بذرا و لا بقرا، فإنما يحرم الكلام)، و بمضمونها أدلة معتبرة اخرى.

فلا يصح العقد إذا لم يعين مقدار الحصة كذلك، فقال له مثلا: زارعتك على أن تكون لك حصة من الحاصل نتفق على تقديرها في ما بعد، أو على أى مقدار تريده أو على ما يعينه لك فلان.

(المسألة التاسعة):

إذا ذكر المتعاقدان للمزارعة بينهما مدة وجب عليهما أن يعيّنا للمدة أمدا محدودا بالأشهر أو السنين، فيقول الموجب من الطرفين لصاحبه: أسلمت إليك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 247

هذه الأرض لتزرعها لي مدة ثلاث سنين مثلا أو أربع، على أن يكون لي الثلث من الحاصل الذي تخرجه الزراعة كل سنة من هذه المدة و لك الثلثان منه، و يقول الآخر: قبلت المزارعة في هذه المدة المعيّنة على الشرط الذي ذكرت.

و إذا ذكرا للمزارعة مدة و لم يجعلا لها أجلا مسمّى بطل العقد بينهما و مثال ذلك أن يقول الموجب لصاحبه: سلمت إليك الأرض لتزرعها مدة من الزمان، فيكون لي الثلث من ناتج الزراعة و لك الباقي منه، فيبطل العقد لعدم التعيين، و إذا ذكر للمزارعة مدة و عيّناها لزم أن يكون الأجل المعيّن بمقدار يحصل فيه الزرع، و يتم إدراكه بحسب العادة المتعارفة لذلك الزرع، فلا يصح العقد إذا كان الأجل أقلّ من ذلك.

و يكفي في صحة العقد أن تعين المدة فيه على وجه الإجمال، فإذا قال المالك لصاحبه أسلمت إليك الأرض لتزرعها حنطة في هذا العام، و يكون لي الثلث من حاصل الزرع و لك الثلثان صح العقد، و تكون المدة من أول الوقت المتعارف

لابتداء زراعة الحنطة في أثناء العام الى حين إدراكها، و كذلك إذا عين مبدأ الشروع في الزرع فقال له: أسلمت الأرض إليك لتزرعها حنطة من أول شهر كذا، فيصح العقد و يحمل الآخر على الوقت الذي يتم فيه ادراك الزرع بحسب العادة، و ترتفع بذلك الجهالة.

(المسألة العاشرة):

يشترط في صحة المزارعة أن تكون الأرض التي تقع عليها المعاملة قابلة للزراعة المقصودة، فلا يصح العقد إذا كانت الأرض غير صالحة لذلك مطلقا و مثال ذلك: أن تكون الأرض سبخة مالحة يمكن علاجها و الإنبات فيها، أو يكون

كلمة التقوى، ج 5، ص: 248

وجهها مكسوا بالصخور و الصلدة و الحجارة الملساء، فلا تثبت فيها الجذور و لا تنمو فيها البذور، أو تكون مغمورة بالمياه، فلا يستطاع تجفيفها ليقوم فيها زرع أو يثمر فيها نبت، أو تكون قد استولت عليها الرمال الكثيفة الناعمة و تراكمت على وجهها فلا يقدر على إزالتها، أو تكون بعيدة عن منابع الماء و موارده، و عن مساقط الغيث و القطر فلا تمكن سقايتها، و لذلك فلا ينبت فيها زرع و لا ينمو فيها عود.

و تصح المزارعة على الأرض إذا أمكن الزرع فيها بالعلاج و الإصلاح فكان ما لك الأرض قادرا على إصلاحها و تسليمها بعد الإصلاح للزارع قابلة للزرع و الإنبات، أو كان الزارع نفسه قادرا على أن يصلح الأرض حتى تصبح قابلة لذلك و لو باستخدام الآلات و الوسائل الحديثة المعدّة لمثل ذلك، و لا ريب في أن ذلك يتبع الشرط بينهما، فإذا شرط مالك الأرض على العامل أن يقوم بإصلاح الأرض و كان العامل قادرا على القيام به، أو شرطه العامل على مالك الأرض، وجب على المشروط عليه أن يفي بالشرط، و

صحت به المعاملة، و ان احتاج الإصلاح إلى مدة طويلة، سنة أو سنتين أو أكثر، مع ذكر ذلك في العقد، و تلاحظ المسألة التاسعة و الستون.

(المسألة 11):

إذا اتفق المتزارعان بينهما على ارادة نوع خاص من الزرع في الأرض: حنطة أو شعير أو غيرهما من أنواع المزروعات و قصداه معا في نفسيهما حين إجراء المعاملة، تعين ذلك النوع في المعاملة الجارية بينهما، و وجب على الزارع و مالك الأرض اتباعه و الوفاء به، و كفى ذلك عن الاشتراط الصريح في العقد، و يكفي أيضا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 249

عن الاشتراط الصريح في العقد أن يكون ذلك النوع الواحد من الزرع هو المتعارف بين عامة الناس في ذلك البلد لمثل هذه الأرض و من ذلك العامل، و هو الذي ينصرف إليه الإطلاق بينهم، فيتعين الإتيان بذلك النوع، و يكون الانصراف اليه كالشرط الصريح في العقد.

و إذا كانت الأرض صالحة لعدة أنواع من الزرع فيها، و علم من القرائن الموجودة: أن مالك الأرض و زارعها كليهما قد قصدا في نفسيهما التعميم لجميع الأنواع التي تمكن زراعتها في الأرض، صح العقد، و كان العامل مخيرا في الزراعة بين جميع الأنواع المقصودة لهما، فأي الأنواع منها أتى به كان وفاء بالعقد، و إذا كانت الأرض قابلة لعدة أنواع من الزرع فيها، و لم يقصد المالك و الزارع العموم لتلك الأنواع، و لم يتفقا على ارادة نوع معين منها، و لم ينصرف الإطلاق عند العقلاء من الناس في البلد الى نوع مخصوص من الزرع فيها، وجب على المتعاقدين أن يعيّنا النوع الذي يريدان في المعاملة بينهما من أنواع الزرع، و إذا هما لم يعيّنا نوعا خاصا منها بطل العقد.

(المسألة 12):

المزارعة كما قلنا أكثر من مرة معاملة تتضمن أن يسلّط المالك العامل على أرضه ليتصرف فيها و يزرعها له، و أن يملكه حصة معينة من الحاصل الذي

تخرجه الأرض بسبب الزراعة، و لذلك فلا بد من فرض وجود ارض تتعلق بها المعاملة المذكورة، و يتعلق بها العمل من الزارع، و يحصل منها النتاج، و بدون هذا الفرض لا يمكن أن تتحقق المعاملة الخاصة و العقد بين الطرفين، و هو أمر في غاية الوضوح و الجلاء.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 250

و الأرض التي تتعلق بها المزارعة قد تكون مفروضة الوجود في الخارج و قد تكون كلية موصوفة، يلتزم بها المالك في ذمته أن يسلمها للعامل كما وصف و يتعاقد معه على زراعتها، و إذا كانت مفروضة الوجود في الخارج فقد تكون متشخصة فيه متميزة بوجودها الخاص عن غيرها، و قد تكون على وجه الكلي في المعيّن، فهي على ثلاث صور مختلفة.

(الصورة الاولي): أن تكون الأرض التي تتعلق بها المعاملة مفروضة الوجود في الخارج، و أن تكون متشخصة متميزة بوجودها الخاص عن سواها، و الأحوط في هذه الصورة أن يعين في عقد المزارعة مقدار الأرض و حدودها بين المتعاقدين فتكون معينة غير مبهمة لديهما، و بذلك يصح العقد عليها من غير ريب، و إذا أهمل ذلك و دار أمر الأرض بين الأقل و الأكثر بطل العقد على الأحوط.

و كذلك الحكم إذا كان للمالك أكثر من أرض واحدة و كانت اراضيه مختلفة في المقادير و الحدود و أراد أن يزارع العامل على واحدة منها، فالأحوط له أن يعيّن الأرض التي يجري عليها المعاملة و يعين مقدارها و حدودها، و بدون ذلك يبطل العقد على الأحوط، و خصوصا إذا كانت أراضيه مما تختلف حصة العامل في زراعتها عند أهل العرف من البلاد.

(المسألة 13):

(الصورة الثانية): أن تكون الأرض مفروضة الوجود في الخارج و أن تتساوى أجزاء الأرض

في صلاحها للزرع و الإنتاج، ثم ينشأ عقد المزارعة بين مالك الأرض و زارعها على مقدار جريب منها بحصة معلومة من حاصل زراعتها، و لا ينبغي الريب في صحة المزارعة على هذا الوجه، و يكون من العقد على الكلي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 251

في المعيّن من الأرض فإذا عيّن المتعاقدان بعد ذلك جريبا خاصا من الأرض، و زرعه العامل على الوجه الذي أراده مالك الأرض و أنتجت الزراعة استحق كل واحد من المتعاقدين حصته التي عينت له من حاصل ذلك الجريب.

و من أمثلة ذلك: أن يكون للمالك أكثر من قطعة واحدة من الأرضين و كل قطعة منها تساوي الأخرى من القطعات في المقدار، و في صلاح اجزائها للزرع و الأثمار، فإذا زارع المالك العامل على قطعة غير معيّنة منها كان ذلك من المزارعة على الكلي في المعين نظير ما تقدم، و صح العقد على الوجه الذي بيّناه في نظيره.

(المسألة 14):

(الصورة الثالثة): أن ينشأ عقد المزارعة بين المتعاقدين على كلي من الأرض موصوف بصفات معينة يكون في ذمة المالك، و الظاهر صحة المعاملة في هذه الصورة أيضا فإذا اتفق المالك مع العامل على أن يزرع له أرضا يدفعها اليه و وصف له الأرض وصفا ترتفع به الجهالة من الطرفين، و أجريا صيغة العقد بينهما و عيّنا مقدار حصة الزارع و مقدار حصة المالك من نتاج الزرع، ثم دفع المالك للعامل أرضا تتحقق فيها الأوصاف التي ذكرها له في العقد صح ذلك و لزم المتعاقدين الوفاء به.

(المسألة 15):

لا يجب على عامل المزارعة أن يبذل البذر أو الجذور التي يقوم بزراعتها في الأرض، و لا أن يبذل غير ذلك من المصارف و النفقات التي يتوقف عليها الزرع، و الواجب عليه انما هو العمل في زرع الأرض و تعهده بالرعاية و السقاية حتى يثمر الزرع و ينتج، و لا يجب شي ء من ذلك على مالك الأرض أيضا.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 252

و لذلك فيجب على المتزارعين أن يعيّنا في عقد المزارعة بينهما من يقوم ببذل ذلك من احد الطرفين أو كليهما، و إذا هما أهملا ذلك، و لم يعيّنا من يقوم بالبذل كان العقد باطلا، و إذا تعارف بين الناس و أصحاب المزارعات أن يكون دفع ذلك على العامل خاصة، أو على مالك الأرض خاصة، أو على كليهما، و انصرف إطلاق المعاملة إلى المتعارف من ذلك، صح و عمل على الانصراف المذكور و كفى ذلك عن التعيين الصريح في العقد.

(المسألة 16):

لا ريب في صحة عقد المزارعة إذا وقع ما بين المالك الشرعي للأرض و العامل الذي يتولى الزراعة على الوجوه التي تقدم تفصيلها، و لتوضيح الاحكام قد جرينا على هذا في التعبير في المسائل السابقة من هذا الكتاب، و لا يشترط في صحة المزارعة أن يكون المزارع مالكا لعين الأرض، و يكفي في صحة مزارعته للعامل أن يكون مالكا لمنفعة الأرض وحدها ملكا تاما يبيح له أن يزارع غيره على الأرض و ان لم يك مالكا لها، و مثال ذلك: أن يستأجر الأرض من مالكها فيملك منفعتها بالإجارة مدة معلومة، أو يملك منفعة الأرض بالوصية له بالمنفعة من مالكها قبل موته، أو بوقف المنفعة عليه من واقفها، و يكون ملكه لمنفعة الأرض على وجه

مطلق يصح له معه أن يسلّط غيره على الأرض، فيزرعها و يجعل له حصة معيّنة من نتاجها، و لا يصح له ذلك إذا شرط عليه مالك الأرض في عقد الإجارة أو الوصية له أو الوقف عليه أن يتولى الانتفاع من الأرض بنفسه، و لا يسلّط عليها غيره.

(المسألة 17):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 253

يجوز للقيم الذي يجعله الواقف متوليا على الوقف العام أو الوقف الخاص أن يزارع من يشاء على الأرض الموقوفة التي تدخل تحت ولايته المجعولة له مع اجتماع الشرائط المعتبرة، فتنفذ مزارعته و تترتب عليها أحكامها، و كذلك المتولي العام أو الخاص المنصوب بأمر الشارع لذلك. و مثله الحكم في الوصي الشرعي المجعول بوصية الميت، فتنفذ مزارعته في الأرض التي تشملها وصايته المجعولة له من الميت الموصى.

و تنفذ مزارعة الولي الشرعي على الطفل أو المجنون أو السفيه إذا زارع أحدا على الأرض التي تكون ملكا أو حقا للمولى عليه، و كانت ولايته جامعة للشرائط المعتبرة.

(المسألة 18):

يكفي في صحة المزارعة أن يكون الرجل مالكا للانتفاع بالأرض انتفاعا تاما، و أن لم يكن مالكا للأرض نفسها، و لا لمنفعتها على أحد الوجوه التي تقدم ذكرها، و مثال ذلك: أن يحجر الأرض و هي موات، و قد تقدم في المسألة السابعة و الأربعين من كتاب احياء الموات أن الإنسان إذا حجر أرضا مواتا لا يد لأحد عليها كان أولى بالأرض التي حجرها من غيره، و مالكا للانتفاع بها، فلا يحق لأحد سواه أن يتصرف في الأرض أو يحييها أو يزرعها أو يزارع عليها إلا باذنه، و نتيجة لملكه للانتفاع بالأرض المحجرة، فإذا زارع أحدا على الأرض صحت مزارعته و ترتبت عليها أحكامها، فإذا زرعها العامل و أنتجت زراعته ثمرا استحق العامل حصته المعينة له من الحاصل و كان الباقي منه لمحجر الأرض.

و كذلك إذا سبق الإنسان إلى أرض ميتة فوضع يده و استولى عليها لينتفع بما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 254

فيها من كلاء و نبات و أشياء أخرى من المباحات العامة، فيكون أولى

بتلك الأرض من غيره، ما دامت يده موضوعة عليها و ان لم يحيها و لم يحجرها، و يكون مالكا للانتفاع بها: و لا يجوز لغيره أن يضع يده عليها و لا على شي ء من منافعها، و إذا وضع غيره يده عليها بدون اذنه كان غاصبا، و قد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة عشرة و في المسألة المائة و الأربعين من كتاب احياء الموات، و يجري فيها الحكم المتقدم، فيصح لصاحب اليد السابقة التي ذكرناها أن يزارع غيره على تلك الأرض التي سبق إليها و استحق الانتفاع بها، فتنفذ مزارعته و تتم أحكامها كما ذكرنا في الأرض المحجرة.

(المسألة 19):

إذا زارع الرجل المحجر غيره على الأرض التي حجرها و ثبت له فيها حق الأولوية، فزرعها له العامل و أحياها بالزراعة ملكها المحجر بإحياء العامل لها و استحق العامل حصته من حاصل الزراعة بسبب عقد المزارعة بينهما، و لم يملك الأرض و لا نصيبا منها، و كذلك الحكم في الأرض التي سبق الإنسان لها فوضع يده عليها لينتفع بمائها و كلائها و كان أولى بها من غيره، فإذا زارع أحدا عليها- كما فرضنا في المسألة المتقدمة- و زرعها له العامل ملك المزارع الأرض بإحياء العامل لها، و لم يملك العامل من الأرض شيئا، و انما يستحق الحجة المعينة له من حاصل الزراعة بسبب عقد المزارعة بينهما.

(المسألة 20):

إذا زارع الرجل شخصا على بعض الوجوه التي تقدم ذكرها، و التي تصح المزارعة فيها، فقد يعلم من صريح العقد أو من القرائن الخاصة أو العامة الحافة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 255

بالمعاملة و المفهمة للمعنى المراد منها: أن المقصود في المعاملة أن يقوم العامل بزرع الأرض و تعهد الزرع حتى ينمو و يثمر، و لو بمزارعة شخص أخر، بحيث لا يباشر العامل العمل بنفسه، و لا ينبغي الإشكال في هذا الفرض في انه يجوز لعامل المزارعة أن يزارع شخصا ثالثا في حصته التي يستحقها من الحاصل، فإذا كان صاحب الأرض قد زارعه و جعل له النصف من حاصل الزراعة مثلا، جاز للعامل في تلك الصورة أن يزارع عاملا غيره على الربع مثلا، فيكون لصاحب الأرض نصف الحاصل دون نقيصة، و للعامل الثاني الربع، و يبقى الباقي من الحاصل و هو الربع منه للعامل الأول، و إذا دلت القرائن على أن صاحب الأرض يشترط على عامله في المزارعة أن

يتولى العمل فيها بنفسه، لم يجز له أن يزارع غيره و سنتعرض لبيان الحكم في المسألة على وجه أكثر إيضاحا و تفصيلا أن شاء اللّه تعالى و إذا صح للعامل أن يزارع غيره في حصته من الحاصل لم يجز له أن يسلّم إليه الأرض الا بإذن صاحبها.

(المسألة 21):

يجوز للإنسان أن يستعير أرضا من مالكها ليزرعها و ينتفع بزراعتها، و إذا أذن له مالك الأرض في أن يزارع غيره على الأرض المستعارة بحصة معينة جاز للمستعير ذلك، فإذا زارع عليها أحدا نفذت مزارعته، و ترتبت عليها أحكامها و لا بد و أن يكون اذن مالك الأرض له بذلك صريحا، كما اشترطنا ذلك في إعارة العين ليرهنها المستعير على دين في ذمته، و إعارة الأرض ليدفن المستعير ميته فيها، و لا يكفي أن يأذن له بأن يزرع الأرض، أو بان ينتفع بها حتى يحصل العلم بالاذن له بالمزارعة عليها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 256

(المسألة 22):

أرض الخراج هي الأرض العامرة التي يأخذها المسلمون من أيدي الكفار بالقوة و الغلبة عليهم، و هي ملك عام لجميع المسلمين، تنفق فوائدها و منافعها في مصالحهم و شؤونهم العامة، و لا يختص ملكها بأفراد المسلمين و احادهم.

نعم إذا تقبل انسان قطعة من الأرض الخراجية من سلطان المسلمين، أو من الولي الشرعي على أمورهم، ثبت لذلك الشخص حق الاختصاص بتلك القطعة التي تقبلها، و وجب عليه أن يؤذي خراجها، و الخراج هو الضريبة الخاصة التي يجعلها السلطان أو ولي الأمر على تلك القطعة لتنفق في الشؤون العامة للمسلمين و جاز لذلك الشخص الذي تقبّل الأرض أن ينتفع بها، و ملك ما يفضل عن الخراج من حاصلها و فوائدها، و يصح له أيضا أن يزارع أحدا على تلك الأرض، فيزرعها له بحصة يعيّنها له من حاصل الزراعة، و يصح بذلك عقد المزارعة بينهما بعد أن ثبت له حق الاختصاص بالأرض، و يجوز له أيضا أن يشترط على العامل في عقد المزارعة أن يكون الخراج و ما يؤديه للسلطان كله على كليهما،

فتكون حصة العامل و حصة المزارع مما يفضل من حاصل الزراعة بعد دفع الخراج منه.

(المسألة 23):

إذا أذن مالك الأرض لرجل معين في أن يزرع له أرضه، و لم يجر معه عقد المزارعة، و اشترط عليه في اذنه له بزراعة الأرض أن يكون للمالك النصف أو الربع مثلا من حاصل الزرع، جاز للرجل أن يزرع الأرض كما اذن له مالكها، و إذا فعل استحق المالك الحصة المعينة التي اشترطها عليه في اذنه و كان الباقي للرجل، و لا يكون ذلك من المزارعة المصطلحة المبحوث عنها في هذا الكتاب، و لذلك فيجوز

كلمة التقوى، ج 5، ص: 257

لمالك الأرض أن يرجع عن اذنه متى شاء، و يجوز للعامل أن يترك الزرع إذا أراد.

و كذلك الحكم إذا أذن مالك الأرض إذنا عاما لكل من يريد زراعة الأرض و اشترط عليه في اذنه أن تكون الحصة المذكورة من حاصل الزرع لمالك الأرض و الباقي منه للعامل، فيجوز لأي شخص أراد: أن يستجيب لإذن المالك بالزرع على الشرط المعين، و لا يكون ذلك من عقد المزارعة، و انما هو إيقاع للإذن من المالك و استجابة له من العامل.

و نظير ذلك أن ينشئ المالك المعاملة بصورة الجعالة، فيقول: من زرع هذه الأرض أو هذه القطعة المعينة منها، فله النصف من حاصل الزرع و لي الباقي، فإذا استجاب له عامل و زرع الأرض استحق الحصة، و كان الباقي من الحاصل للمالك و كان ذلك إيقاعا، و لم يكن من المزارعة المصطلحة بين الفقهاء، و تلاحظ المسألة الثلاثون الآتية.

(المسألة 24):

لا تصح المزارعة بين الرجلين على أرض ميتة لم يسبق أحدهما بتحجيرها فيكون أولى بها من غيره بسبب تحجيرها، و لم يسبق أحدهما بوضع يده عليها لينتفع بما فيها من مباحات أصلية فيكون له حق السبق إليها، و لذلك

فلا يكون احد الرجلين أولى بالأرض الميتة من صاحبه، فيكون هو صاحب الحق فيها.

و يجوز للرجلين أن يشتركا في العمل في زرع تلك الأرض، فإذا هما اشتركا في العمل و أثمرت زراعتهما استحق كل واحد من حاصل الزرع بمقدار عمله فيها و ملك من الأرض نفسها بذلك المقدار أيضا، لأنهما قد اشتركا في إحيائها بالزراعة، و لا يكون ذلك من المزارعة التي يبحث الفقهاء عنها في هذا الكتاب.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 258

و يجوز للرجلين أن يشتركا في البذر و الحبوب التي تزرع في الأرض المقصودة لهما، و في المصارف و النفقات التي تنفق على الزرع، و العمل فيه فيستحق كل رجل منهما من النتاج بمقدار ما بذل من النفقة، و يمكن لهما أن يتفقا بينهما فيكون البذل و الإنفاق من أحد الرجلين، و العمل من الآخر، فيؤجر العامل منهما نفسه لصاحبه بالنصف من الحاصل مثلا، أو بالثلث منه، أو بغير ذلك حسب ما يتراضيان، و على أي حال فلا تكون المعاملة الجارية بينهما من المزارعة المصطلحة التي يبحث عنها الفقهاء في كتاب المزارعة.

(المسألة 25):

يصح لأحد المتعاملين في المزارعة أن يشترط في العقد على صاحبه لنفسه مقدارا معينا من المال يخرج من حاصل الزرع، فيختص هو بهذا المقدار دون صاحبه، ثم يقسم الباقي من الحاصل بينهما، فيأخذ كلّ واحد منهما حصته المعينة من الباقي، و مثال ذلك: أن يشترط صاحب الأرض لنفسه عشرة أمنان من الحنطة تخرج مما يحصل لهما من زراعة الحنطة في الأرض فيختص مالك الأرض بها و يقسم الباقي من حصيلة الزراعة بينه و بين العامل على المناصفة مثلا، فإذا قبل العامل بالمعاملة و بالشرط صح و لزم العمل به، و كذلك

إذا اشترط العامل ذلك لنفسه على صاحب الأرض، فيصح و ينفذ مع القبول، و انما يتم ذلك و ينفذ إذا علم أن ما يحصل من زراعة الأرض يزيد على المقدار المعين الذي يشترطه المشترط لنفسه، و تلاحظ المسألة السابعة.

و يصح لصاحب الأرض أن يستثني مقدار ما يأخذه السلطان على الأرض من الخراج أو الضريبة فيشترط على العامل خروج ذلك من حاصل الزراعة، ثم

كلمة التقوى، ج 5، ص: 259

يقسم الباقي بينهما، و يصح لباذل البذر أن يستثنى قيمة البذور و النفقات و المصارف التي ينفقها على الزرع، أو على تعمير الأرض أو السقاية، فيشترط إخراج ذلك من مجموع ما يحصل من الزرع، و تكون القسمة على الحصتين بعد ذلك، فيصح ذلك كلّه على الأقوى، إذا علم بأن ما يحصل من نتاج الزراعة يزيد على المقدار الذي استثناه، و تبطل المعاملة إذا علم بأن الحاصل لا يفي بذلك، أو لا يزيد عليه، و تبطل كذلك إذا شك في أن الحاصل يزيد على المقدار المستثنى أم لا يزيد عليه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 260

الفصل الثاني في أحكام عقد المزارعة

(المسألة 26):

المزارعة أحد العقود اللازمة، فإذا تم الإيجاب و القبول بين المتزارعين على احد الوجوه التي فصلناها و قلنا بصحتها، لم يجز لواحد منهما فسخ العقد و عدم الوفاء به، الا إذا اتفق الطرفان، فأقال كل منهما صاحبه، كما في غيره من العقود، و قد ذكرنا الإقالة و بيّنا أحكامها في أخر كتاب التجارة من هذه الرسالة.

و يصح فسخ المزارعة إذا كان أحد المتعاقدين فيها قد اشترط لنفسه الحق في أن يفسخ العقد في وقت معين، أو شرط ذلك كلاهما، فيجوز لصاحب الشرط أن يفسخ العقد في الوقت الذي عيّنه للأخذ بالخيار، و يصح

فسخ المزارعة كذلك إذا كان أحد المتعاملين قد اشترط لنفسه على صاحبه شرطا، و جرى عليه الإيجاب و القبول بينهما، ثم تخلف الشرط و لم يف به صاحبه، فيثبت له خيار تخلّف الشرط، و يجوز فسخها أيضا في الموارد التي يثبت للفاسخ فيها خيار الفسخ بأحد الأسباب التي توجب له ذلك الحق، كالغبن و شبهه من الخيارات التي تجري في جميع المعاملات و لا تختص بالبيع.

و لا فرق في الحكم بلزوم المزارعة بين ما ينشأ منها بالإيجاب و القبول اللفظيين، و ما ينشأ بالمعاطاة، فيكون لازما على الأقوى، و تجرى فيه الاستثناءات

كلمة التقوى، ج 5، ص: 261

المتقدمة.

(المسألة 27):

تبطل المزارعة إذا طرأ الخراب على الأرض التي جرت عليها المعاملة بعد ما كانت قابلة للزرع فأصبحت غير صالحة، و مثال ذلك: أن يستولي عليها السبخ الشديد، أو تتراكم عليها الرمال، أو تطغى عليها المياه حتى تعود أجمة لا يمكن زرعها و لا علاجها و لا إصلاحها، أو تغور المياه الموجودة فيها و لم تمكن سقايتها و لم يكفها ماء الغيث، فيبطل عقد المزارعة بطروء ذلك على الأرض، و تلاحظ المسألة العاشرة.

(المسألة 28):

لا يبطل عقد المزارعة بموت أحد المتعاملين فيها، فإذا كان العقد جامعا للشرائط المعتبرة في صحته و مات أحدهما قام ورثة الميت مقامه، فيجب عليهم الوفاء بالعقد الذي أوقعه مورثهم، و لم يجز للآخر الموجود من المتعاملين أن يفسخ العقد.

فإذا مات من المتعاقدين صاحب الأرض وجب على وارثه تسليم الأرض للزارع، و تمكينه من التصرف فيها حتى يتم عمله، و لزمه الوفاء بكل شرط قد اشترط في ضمن العقد للزارع، و أن يلتزم بالأحكام التي يستتبعها عقد المزارعة و إذا كان الميت هو العامل وجب على وارثه من بعده أن يقوم بالعمل لصاحب الأرض حسب ما يقتضيه العقد و أن يرتب آثاره و احكامه كلها، و تلاحظ المسألة الآتية.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 262

(المسألة 29):

إذا كان صاحب الأرض قد اشترط على العامل في ضمن عقد المزارعة بينهما أن يتولى العامل الزرع في الأرض و العمل في ذلك بنفسه، فقد يكون هذا الاشتراط منه على وجه التقييد لموضوع المزارعة و وحدة المطلوب فيه، و المعنى الصريح لذلك: أن المزارعة التي جرى عليها العقد بينهما انما تعلقت بعمل العامل بنفسه، و بمنفعته الخاصة التي يقوم بها على سبيل المباشرة، فإذا مات العامل في هذه الصورة بطلت المزارعة بموته دون ريب، و ذلك لأن وارث العامل لا يستطيع أن يقوم مقام مورثه العامل في ذلك فيأتي بموضوع المزارعة حسب ما قيده به المالك.

و قد يكون ذلك الاشتراط من صاحب الأرض على سبيل تعدد المطلوب في المعاملة، و المعنى المراد من ذلك أن المزارعة التي جرى عليها العقد قد تعلقت بأن يأتي العامل بالعمل على أي وجه اتفق، سواء أتى بالعمل بنفسه أم أتى به غيره بالنيابة عنه، و

هذا هو المطلوب الأول، و أن صاحب الأرض يشترط على العامل في ضمن العقد أمرا زائدا على ذلك، و هو أن يتولى القيام بالعمل بنفسه، و هذا هو المطلوب الثاني في العقد، فإذا مات العامل في هذه الصورة لم تبطل المعاملة بموته، فان الوارث من بعده يستطيع أن يأتي بالعمل بالنيابة عن مورثه، و هو الذي تعلقت به المزارعة، و يثبت لصاحب الأرض خيار فسخ المعاملة إذا قام الوارث بالعمل بعد موت العامل لتخلف الشرط، فان ما يأتي الوارث به غير ما شرطه صاحب الأرض على مورثه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 263

(المسألة 30):

إذا أذن صاحب الأرض لشخص في أن يزرع أرضه، و اشترط عليه أن يكون حاصل الزرع بينهما بالمناصفة أو المثالثة أو غيرهما من الحصص المشاعة، جاز للشخص المأذون أن يزرع الأرض على الشرط المعين، و قد ذكرنا هذا الحكم في المسألة الثالثة و العشرين، و أوضحنا فيها أن ذلك لا يكون من المزارعة المبحوث عنها، و يتفرع على ذلك: انه يجوز لصاحب الأرض أن يرجع عن اذنه للعامل بالزرع متى شاء، و يجوز للعامل المأذون أن يترك العمل متى أراد، فإذا رجع مالك الأرض عن اذنه قبل أن يزرع العامل الأرض، أو قبل أن ينمو الزرع فيها، بطلت المعاملة، و إذا رجع عن اذنه بعد أن زرع العامل الأرض، و بعد أن ظهر بعض الحاصل من الزرع لزم العمل على وفق الشرط في ما ظهر من النتاج، و بطل الاذن في ما لم يظهر منه، و كذلك الحكم إذا نشأت المعاملة بصورة الجعالة، كما سبق منا ذكره في تلك المسألة، فيجري فيها هذا التفصيل أيضا.

(المسألة 31):

إذا أذن مالك الأرض للرجل في أن يزرع أرضه و اشترط عليه أن تكون لمالك الأرض حصة معلومة من حاصل زرع الرجل فيها كما فرضنا في المسألة المتقدمة فزرع الزارع الأرض بعد اذن مالكها، و كان الزارع هو الذي يملك البذر أشكل الحكم في هذه الصورة في أن يرجع مالك الأرض عن اذنه فيقتلع الزرع قبل أن يظهر النتاج فيه، و لا ينبغي أن تترك مراعاة الاحتياط بين الجانبين في هذه الصورة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 264

(المسألة 32):

إذا اشترط صاحب الأرض على العامل أن تكون المزارعة بينهما في مدة معينة، لزم العمل بموجب الشرط، فلا يحق للعامل أن يزرع الأرض قبل حلول الوقت المعين، و لا يجوز له أن يترك الزرع بعد حلول الوقت، و يجب أن يكون الأجل بمقدار يحصل فيه الزرع بحسب العادة و يبلغ أوان إنتاجه، و تتم فيه حصيلته، و لا يصح العقد إذا كان الأجل قصيرا لا يتسع لذلك، و قد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة.

و إذا عين المتعاقدان للزرع مدة معلومة تتسع للزرع بحسب العادة المتعارفة، ثم اتفق أن انقضت المدة، و لم يدرك الزرع فيها لبعض الطواري المانعة و لم تتم حصيلته، جاز لصاحب الأرض بعد انقضاء المدة أن يأمر العامل باقتلاع الزرع من أرضه مجانا، و إذا قلعه العامل بأمره لم يستحق العامل على صاحب الأرض أرشا للزرع الذي يقلعه، و جاز لصاحب الأرض أن يرضى ببقائه، ثابتا في الأرض و لا يستحق على إبقائه في الأرض أجرة لأرضه، و إذا رضي العامل بإبقاء الزرع فيها مع الأجرة جاز لصاحب الأرض مطالبته بها و أخذها منه، و هذا كلّه مع وجود الضرر بالفعل على صاحب الأرض إذا

بقي الزرع في أرضه، و وجود الضرر كذلك على العامل إذا قلع زرعه، فيتخير صاحب الأرض كما ذكرناه لسلطنته على أرضه، و إذا وجد الضرر على أحد الطرفين خاصة دون الآخر كان الحكم لمن يصيبه الضرر.

(المسألة 33):

إذا لزم الضرر على العامل في الحكم عليه بإزالة زرعه من أرض المالك في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 265

الصورة المتقدمة، و لم يوجد أي ضرر على صاحب الأرض بإبقاء زرع العامل فيها حتى يدرك لم تصح لصاحب الأرض إزالة الزرع عنها، فإذا بقي الزرع فيها استحق صاحب الأرض أجرة المثل لأرضه على الكامل للمدة التي يبقى الزرع فيها.

(المسألة 34):

إذا تم العقد بين المتزارعين على الوجه الصحيح، و دفع المالك أرضه إلى العامل ليزرعها، ثم ترك العامل زراعة الأرض مختارا عامدا في تركه حتى انقضت مدة المزارعة بينهما، وجب على العامل أن يدفع للمالك أجرة المثل لأرضه بسبب تفريطه في الأمانة، بل يجب عليه أن يدفع له أرش الأرض إذا نقصت منفعة الأرض بسبب إهمالها و ترك زرعها و سقيها طول تلك المدة، و كان هذا النقص بعد تفريطه في الامانة.

و إذا ترك العامل زراعة الأرض في المدة بغير تفريط منه، فلا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة و التراضي بينه و بين مالك الأرض.

(المسألة 35):

إذا ترك العامل زراعة الأرض حتى انقضت مدة المزارعة و كان تركه للزراعة بسبب وجود عذر عام له و لغيره أوجب عدم قدرته على الزراعة طول تلك المدة فالظاهر بطلان عقد المزارعة، لعدم إمكان انتفاعه بالأرض، و قد ذكرنا في المسألة العاشرة أن إمكان انتفاع العامل بالأرض شرط في صحة المزارعة.

و من الأعذار التي لا يمكن معها الانتفاع بالأرض أن تنزل على المنطقة كلها أو على الأرض نفسها ثلوج شديدة تمنع من زراعتها، أو تصبح المنطقة أو الأرض مأوى لسباع ضارية من الوحوش أو لحشرات فاتكة فلا يمكن دخولها، أو يمنع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 266

ظالم مستبد من الوصول إلى المنطقة أو الى الأرض، فلا يتمكن العامل من زراعتها بسبب ذلك فتبطل المزارعة عليها.

(المسألة 36):

المزارعة كما أوضحنا في المسائل المتقدمة معاملة تقع بين المتعاقدين فيها، على أن يزرع الزارع منهما لصاحب الأرض أرضه المعينة، و تكون لكل واحد من الشخصين حصة معلومة مشاعة يستحقها من الحاصل الذي تنتجه الزراعة في الأرض، و هذا هو القدر الثابت من أدلة هذه المعاملة، و لا يملك العامل بسبب عقد المزارعة شيئا من منفعة الأرض.

نعم، يجب على صاحب الأرض أن يدفع أرضه للعامل ليزرعها و يقوم بالعمل الخاص الذي وجب عليه بالعقد بينهما و من الواضح أن ذلك لا يتم الا بتسليم الأرض للعامل و تمكينه من التصرف فيها، فتسليم الأرض له شرط تقتضيه المعاملة، و إذا لم تسلم له الأرض كان له فسخ العقد لفوات الشرط، و سيأتي لهذا مزيد من الإيضاح و التبيين في بعض المسائل الآتية ان شاء اللّه تعالى.

فإذا تم عقد المزارعة بين الرجلين على الوجه المطلوب شرعا، ثم غصبت الأرض من صاحبها قبل

أن يسلمها لعامل المزارعة و لم يكن استردادها من الغاصب، جاز للعامل أن يفسخ عقد المزارعة لفوات الشرط، فإذا هو فسخ العقد بطلت المعاملة، و لم تترتب له و لا عليه أحكامها، و إذا هو أبقى العقد و لم يفسخه لفوات الشرط انفسخت المعاملة بنفسها، لأن العامل لا يستطيع الانتفاع بالأرض بسبب غصبها كما هو المفروض، فلا فرق في النتيجة بين فسخه و عدم فسخه.

و كذلك الحكم إذا غصب الغاصب الأرض بعد أن سلمها مالكها للعامل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 267

فتنفسخ المعاملة بنفسها لعدم إمكان الانتفاع بها، و لا يثبت للعامل خيار الفسخ في هذه الصورة.

(المسألة 37):

يلزم غاصب الأرض ضمان جميع منفعة الأرض في جميع مدة الغصب لمالكها الشرعي سواء غصبها من يد المالك نفسه أم من يد عامل المزارعة، و سواء استوفي الغاصب من هذه المنفعة شيئا أم لم يستوف منها شيئا، و لا يضمن لعامل المزارعة حصته من المنفعة، و ان كان غصبه للأرض من يده، فقد ذكرنا في المسألة المتقدمة: أن العامل لا يملك شيئا من منفعة الأرض بعقد المزارعة، و لا يضمن الغاصب لمالك الأرض حصته من عمل العامل، و لا يضمن للعامل حصته من عمل نفسه في الأرض من حيث انه قد فوته عليه بسبب غصبه للأرض.

(المسألة 38):

إذا عين مالك الأرض لعامل المزارعة في ضمن العقد الواقع بينهما أن يزرع في الأرض نوعا خاصا من المزروعات، كالحنطة أو الشعير أو الأرز أو غيرها من الحبوب أو المخضرات، وجب على العامل أن يقتصر على زراعة ذلك النوع الخاص في الأرض و لم يجز له أن يتعدى عنه الى ما سواه من الأنواع الأخرى، و ان كان أيسر له في الزرع أو أكثر فائدة له من غيره.

(المسألة 39):

إذا عين مالك الأرض لعامل المزارعة أن يزرع في أرضه نوعا خاصا من المزروعات، فقد يكون هذا التعيين منه بنحو التقييد للمزارعة و وحدة المطلوب فيها، و يكون المستفاد من صريح قول المالك، أو من القرائن الموجودة الدالة على

كلمة التقوى، ج 5، ص: 268

مراده، أن المزارعة التي أجراها مع العامل قد تعلقت بأن يزرع العامل في الأرض ذلك النوع الخاص من المزروعات دون غيره، و ان هذا هو مقصده و لا غرض له في سواه، و نتيجة لهذا التقييد فإذا ترك العامل زراعة ذلك النوع المعين فقد ترك موضوع المعاملة، و لم يأت بشي ء من المقصود فيها، و ان زرع في الأرض غيره من الأنواع.

و قد يكون تعيين المالك للنوع الخاص من الزرع بنحو الاشتراط في المعاملة، و على سبيل تعدّد المطلوب فيها، و يكون المستفاد من صريح قول المالك أو من القرائن الدالة على مراده: أن المقصود الأول من المزارعة هو أن يزرع العامل الأرض، و ينتفع الطرفان بزراعتها بأي نوع حصل من أنواع المزروعات و ان له مطلوبا أخر لبعض الأغراض المهمة و هو أن يكون الزرع فيها من الحنطة أو من الشعير مثلا، فيشترط ذلك على العامل في ضمن العقد، و نتيجة هذا

الاشتراط فإذا ترك العامل زراعة ذلك النوع المعين لم تبطل المعاملة بتركه، و يثبت لمالك الأرض خيار الفسخ لتخلف الشرط الذي شرطه على العامل.

(المسألة 40):

إذا ترك العامل زراعة النوع الخاص الذي عيّنه مالك الأرض في العقد، و كان تعيينه لذلك النوع بنحو التقييد للمعاملة و وحدة المطلوب فيها حسب ما أو أوضحناه في المسألة المتقدمة، بطلت المزارعة بينهما لفوات الموضوع الخاص الذي تعلقت به، و لزم العامل أن يؤدي للمالك أجرة المثل لأرضه عن المنفعة التي فوتها عليه لما ترك الزراعة المعينة للأرض، سواء زرع في الأرض نوعا أخر غير النوع المخصوص الذي اراده المالك أم لم يزرع فيها شيئا، و إذا أوجب تصرف

كلمة التقوى، ج 5، ص: 269

العامل في الأرض على الوجه المذكور نقصا فيها وجب عليه أن يدفع للمالك أرش ذلك النقص، مع أجرة المثل التي تقدم بيانها، فيلزمه الأمران معا في هذه الصورة.

(المسألة 41):

إذا ترك العامل زراعة الأرض بالنوع الخاص الذي عيّنه له المالك، و زرع غيره من أنواع المزروعات، و كان تعيين المالك لذلك النوع بنحو الاشتراط و تعدد المطلوب حسب ما أوضحناه في المسألة التاسعة و الثلاثين، تخير مالك الأرض بين أن يفسخ المزارعة الواقعة بينهما و أن يمضيها، فإذا هو اختار الأول ففسخ المعاملة بطلت، و استحق المالك على العامل أن يدفع له أجرة المثل لأرضه عن المنفعة التي فوّتها العامل عليه، و إذا اختار الثاني فأمضى المعاملة حسب ما فعل الزارع صحت المعاملة كذلك، و استحق كل من المالك و العامل حصته التي جعلت له في العقد من حاصل تلك الزراعة.

و لا فرق في جريان الحكم المذكور بين أن ينكشف الأمر لمالك الأرض بعد تمام الزراعة و بلوغ الحاصل، و أن ينكشف له قبل ذلك، فيثبت له الخيار على الوجه الذي بيّناه.

(المسألة 42):

إذا زرع العامل في الأرض نوعا من المزروعات غير النوع الخاص الذي عيّنه مالك الأرض، على نحو التقييد للمعاملة أو على نحو الاشتراط فيها، فنما ما زرعه العامل و أنتج، فإن كان البذر الذي زرعه العامل في الأرض مملوكا للعامل نفسه، فلا ينبغي الإشكال في أن جميع ما يحصل من ذلك الزرع و ما ينتج يكون ملكا للعامل تبعا لملكه للبذر، و لا يستحق مالك الأرض منه شيئا، و انما يستحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 270

على العامل اجرة المثل لأرضه، و قد ذكرنا هذا في ما تقدم.

و إذا كان البذر مملوكا لصاحب الأرض و قد تصرف فيه العامل فزرعه في الأرض بغير اذنه فان المفروض أن المالك قد عين غير ذلك النوع في زراعة الأرض، فيتخير المالك بين أن يطالب العامل

بعوض بذره فيأخذ منه مثله إذا كان البذر مثليا و قيمته إذا كان قيميا، فإذا دفع العامل اليه عوض البذر كان البذر و الزرع و ما يحصل منه كله مملوكا للعامل و لم يستحق المالك منه شيئا بعد دفع البدل اليه و لا يستحق العامل أن يطالب المالك بأجرة على عمله، و يستحق المالك على العامل اجرة المثل لأرضه.

و يجوز لمالك الأرض و البذر إن يغضي عن تصرف العامل في بذره فلا يطالبه بالعوض فيكون الزرع و جميع ما يحصل منه مملوكا له تبعا لملكه للبذر و لا يستحق العامل أن يطالبه بأجرة على عمله كما تقدم.

(المسألة 43):

إذا شرط مالك الأرض على العامل أن يزرع فيها نوعا خاصا من المزروعات على نحو تعدد المطلوب و قد أوضحنا المراد منه، ثم تعدى العامل فزرع في الأرض نوعا أخر غير ما شرطه المالك، و كان البذر مملوكا للعامل، فإذ لم يعلم مالك الأرض بأن العامل قد تعدى و خالف الشرط حتى بلغ الزرع الذي زرعه العامل أوانه و أدرك، جرى فيه نظير الحكم المتقدم، فيتخير مالك الأرض بين أن يفسخ المعاملة و أن يرضى بها و يمضيها، فإذا اختار الشق الأول ففسخ المعاملة استحق على العامل أجرة المثل تامة لأرضه عن المنفعة التي فوتها العامل عليه بمخالفته للشرط، و أخذ العامل جميع حاصل ما زرعه، و إذا اختار الشق الثاني

كلمة التقوى، ج 5، ص: 271

فأمضى المعاملة و لم يفسخها صحت المعاملة و استحق كل من المالك و العامل حصته المعينة له من حاصل الزرع الموجود.

و إذا علم مالك الأرض بأن العامل قد خالف الشرط قبل أن يبلغ ما زرعه العامل أوانه جاز للمالك أن يفسخ المعاملة،

فإذا فسخها بطلت و استحق المالك على العامل اجرة المثل لأرضه عن المنفعة الفائتة، و جاز له أن يلزم العامل باقتلاع ما زرعه في الأرض و أمكن له ان يرضى ببقاء ما زرعه العامل في الأرض حتى يدرك و يأخذ منه أجرة المثل لتلك المدة، و يجوز له مع رضاه أن يبقى الزرع في الأرض مجانا بغير أجرة.

(المسألة 44):

إذا زارع المالك العامل على أرض ليس لها ماء يكفي لسقاية الزرع فيها و كان العامل قادرا على أن يستخرج لها ما يكفيها من الماء بحفر نهر أو ساقية أو إخراج بئر أو تفجير عين، فان كان العامل يعلم بوصف الأرض حين إجراء المعاملة بينه و بين المالك عليها، صحت المزارعة و لزمت فلا يجوز للعامل فسخها، و ان كان يجهل وصف الأرض في حال إجراء المزارعة ثبت له حق الخيار فيها، فان شاء أمضى المعاملة و وجب عليه أن يستخرج الماء، و يزرع الأرض لأنه قادر على ذلك كما فرضنا، و ان شاء فسخ المعاملة فبطلت و لم يلزمه شي ء، و إذا كان غير قادر على إخراج الماء في الأرض كانت المعاملة باطلة لعدم إمكان الانتفاع بالأرض.

و كذلك الحكم إذا زارع المالك العامل على أرض قد استولت عليها المياه أو الاملاح و الاسباخ بالفعل، و كان العامل قادرا على أن يعالج الأرض، فيجفف المياه و ينقيها من السبخ و الأملاح، فتصح المعاملة و تلزم إذا كان العامل عالما بوصف

كلمة التقوى، ج 5، ص: 272

الأرض حين إجراء المعاملة، و يثبت له خيار الفسخ إذا كان جاهلا، و تبطل المعاملة من أصلها إذا كان غير قادر على إصلاحها، سواء كان عالما بوصف الأرض أم كان جاهلا به.

و

تبطل المزارعة كذلك إذا طرأ بعض العوارض على الأرض في الأثناء فانقطع عنها الماء، و لم تمكن سقايتها، أو استولت عليها المياه أو الأسباخ أو الرمال الكثيفة الناعمة، و لم تمكن إزالتها و أصبحت غير قابلة للانتفاع بزراعتها و تلاحظ المسألة العاشرة.

(المسألة 45):

إذا زارع المالك عاملا على أرض، و كانت الأرض في حين عقد المزارعة ببينهما صالحة للانتفاع بها، و زرعها العامل بعد العقد و هي صالحة كذلك، ثم طرأ عليها بعض العوارض المفسدة قبل أن يظهر الزرع فيها أو قبل أن يدرك، فانقطع عنها الماء مثلا، و لم يمكن تحصيله لسقايتها بعد ذلك، أو استولت عليها المياه الكثيرة و لم يمكن تجفيفها، و أصبحت غير قابلة للانتفاع بها في بقية مدة المزارعة، بطلت المعاملة لفقد الشرط المعتبر في صحتها، و قد سبق ذكره في المسألة العاشرة و كان الزرع الموجود مملوكا لمالك البذر.

فإذا كان البذر مملوكا للعامل فالزرع الموجود و جميع ما يحصل منه من الثمر و النتاج يكون مملوكا للعامل تبعا لأصله و هو البذر، و استحق مالك الأرض عليه أجرة المثل لأرضه مدة بقاء الزرع فيها من أول زرعه فيها الى حين إدراكه و استيفاء العامل له، و إذا كان البذر مملوكا لصاحب الأرض كان الزرع و جميع نتاجه مملوكا له تبعا لأصله و هو البذر، و استحق العامل عليه أجرة المثل لعمله في الزرع.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 273

(المسألة 46):

تصح المزارعة الواقعة بين الطرفين المتعاقدين إذا كانت الأرض خاصة من أحدهما، و كان البذر و العوامل و العمل كلها من الثاني، و تصح المزارعة أيضا إذا كانت الأرض و البذر من أحد الطرفين، و كانت العوامل و العمل من الطرف الآخر و تصح المعاملة كذلك إذا كانت الأرض و البذر و العوامل من أحد الطرفين و كان العمل وحده من الطرف الثاني، و تصح أيضا إذا كانت الأرض و العمل من أحدهما و كان البذر و العوامل من صاحبه.

و تصح المزارعة إذا كانت

الأرض مشتركة بين المتزارعين كليهما، و كانت الأمور الثلاثة الباقية كلها على أحدهما خاصة دون صاحبه، و تصح المزارعة إذا اشترك الطرفان في جميع الأمور الأربعة أو في بعضها دون بعض حسب ما يتفقان عليه، و يجب عليهما تعيين الأمر الذي يشترك الطرفان فيه من هذه الأمور، و الأمر الذي يختص به أحدهما، و من يختص به من الطرفين، و مقدار الحصة من الأمر المشترك، فيجب عليهما تعيين ذلك في جميع الفروض المتصورة، و لا تصح المعاملة إذا ترك التعيين فيها.

و يستثنى من ذلك: ما إذا كان الاشتراك في الأمر أو الاختصاص بأحد الطرفين من العادات المتعارفة بين أهل البلد، و السيرة التي جرت عليها المعاملات الدارجة بينهم، بحيث ينصرف اليه العقد لديهم عند الإطلاق، و يصبح الانصراف قرينة عامة على ارادة ذلك الفرض في المعاملة، فلا يجب التعيين في هذا الفرض.

(المسألة 47):

لا يعتبر في الشخص الذي يلزمه دفع البذر من المتعاقدين أن يكون مالكا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 274

لعين البذر، فيكفي فيه أن يكون مالكا لقيمته، و لو بالاقتراض و الاستدانة له عند الحاجة، فإذا اشترط في عقد المزارعة على مالك الأرض أن يدفع البذر كله، أو يدفع نصفه مثلا، أو اشترط ذلك على العامل، كفاه في الوفاء بالشرط أن يدفع القيمة و يشتري بها ما لزمه من البذر ليزرع في الأرض عند الحاجة، سواء كان هو الذي يتولى زرعه فيها، أم كان الذي يتولى الزرع غيره.

و المراد بالعوامل الحيوانات و الدواب أو الآلات و المكائن و الأجهزة الحديثة أو القديمة التي تستخدم في حراثة الأرض، أو في تنقيتها و تسميدها، أو في سقاية الزرع و مكافحة الحشرات و الطفيليات المضارة قبل الزرع

و بعده، و في حصاد المزروعات و جمعها و تصفيتها، سواء كانت العوامل المذكورة مملوكة بأعيانها أم بمنافعها باستئجار و نحوه.

و المراد بالعمل زرع البذور في الأرض و القيام بما يطلبه ذلك عادة من حراثة الأرض و تمهيدها و إصلاحها قبل نثر البذور و وضع الجذور و بعده و السعي الذي يتوقف عليه نمو الزرع و تعهده و سقيه كل ما احتاج الى السقاية و مكافحة ما يضره، و شبه ذلك من الأعمال المتعارفة للمزارعين، حتى يدرك الزرع و يبلغ أوانه و يتم نتاجه.

و لا يعتبر في هذه الأعمال أن يتولاها العامل بنفسه بنحو المباشرة، فيكفي فيها أن ينوب عن العامل فيها غيره من أجير أو نائب أو متبرع، و قد جرى على هذا بناء العقلاء من الناس و سيرة أهل العرف في عامة البلاد، فهم يكتفون في هذه الأعمال التي تقبل النيابة بعمل النائب و الأجير و المتبرع، إذا أتوا بالعمل على الوجه الصحيح الذي يحصل به المقصود و جرى عليه بناء المتشرعة و الفقهاء

كلمة التقوى، ج 5، ص: 275

(قدس اللّه أرواحهم)، إلا إذا دلت قرينة خاصة أو عامة بين المتعاقدين على اشتراط أن يتولّى العامل العمل بنحو المباشرة بنفسه فيلزمه الوفاء بالشرط عند ذلك، و لكن الاحتياط عند الشك مما لا ينبغي تركه.

(المسألة 48):

يصح في المزارعة أن تقع على أرض واحدة مشتركة بين مالكين أو أكثر على وجه الإشاعة بينهم، فيوكل الشركاء في الأرض واحدا منهم على إنشاء عقد المزارعة بينهم و بين عامل واحد، و يتولى ذلك الشريك الذي وكلوه إيجاب المعاملة بالأصالة عن نفسه و بالوكالة عن شركائه في الأرض، أو يوكّلوا أجنبيا عنهم في إجراء المعاملة، و يتولى العامل

أو وكيله قبول هذه المزارعة منهم، أو ينشئ العامل إيجاب المعاملة و يتولى الشريك الذي وكلوه قبولها، و يذكر الموجب و القابل في ضمن العقد ما يتفقون عليه من قيود و شروط على نهج ما سلف بيانه في مالك الأرض إذا كان واحدا.

و يصح في المزارعة أن يكون العامل فيها أكثر من شخص واحد، فيوكلوا بعضهم أو غيرهم و تجري المعاملة بينهم و بين مالك الأرض على نهج ما سبق في مالك الأرض إذا كان متعددا، و تصح المعاملة أيضا إذا كان مالك الأرض متعددا و كان العامل فيها متعددا، و يجرى العقد بين الطرفين كما سبق.

و يمكن لهم في جميع هذه الصور و الفروض أن يشترط بعضهم على بعض في ضمن العقد أن تكون العوامل و البذور و العمل على نحو الاشتراك بين جميعهم، أو على نحو الاشتراك بين بعضهم، أو تكون على بعضهم خاصة دون الآخرين، فيصح العقد في كل في هذه الفروض مع الاشتراط و التعيين في ضمن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 276

العقد، و حصول الرضا و القبول به من الجميع، و من الواضح جدا أن العقد في جميع هذه الصور المفروضة يتألف من إيجاب واحد و قبول واحد و أن كان الشركاء في الأرض و في العمل الذين بتعلق بهم العقد متعددين.

(المسألة 49):

يشكل الحكم بصحة عقد المزارعة إذا أجرى العقد بين أكثر من طرفين و مثال ذلك أن يتعاقد ثلاثة أشخاص على إجراء المزارعة في ما بينهم، فتكون الأرض من أحدهم و يكون العمل في الأرض من الثاني، و تكون العوامل و البذور من الثالث، و تكون لكل واحد من الأشخاص الثلاثة حصة معلومة من نتاج الزرع، أو يتعاقد أربعة

رجال فتكون الأرض من الأول و العمل من الثاني و العوامل من الثالث و البذور من الرابع، أو يتعاقد أكثر من ذلك على أن يكون العمل أو العوامل أو البذر بين شخصين أو أكثر، فتكثر أطراف المعاملة، و يجعل لكل طرف منهم حصة معينة من نتاج الزرع بالمساواة بينهم، أو بالتفاضل حسب ما يتفقون عليه و يعيّنونه في العقد، فيشكل وقوع المزارعة المصطلحة بين الفقهاء في مثل هذه الفروض.

و تصح المعاملة إذا أجريت بينهم على وجه المصالحة، و تصح أيضا و تلزم على الأقوى إذا أنشئت بينهم على انها إحدى المعاملات المستقلة في أنظار العقلاء و أهل العرف، و تدل على صحة هذه المعاملة العمومات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود، و وجوب الوفاء بالشروط، و أن بعدت في صورتها عن المزارعة الخاصة المعروفة بين الفقهاء.

(المسألة 50):

إذا تم عقد المزارعة بين مالك الأرض و عامل المزارعة على الوجه الصحيح

كلمة التقوى، ج 5، ص: 277

الجامع للشرائط، أصبح العامل صاحب حق في الأرض المذكورة، و ان لم يملك شيئا من الأرض و لا من منفعتها، و من أجل ثبوت هذا الحق وجب على المالك دفع الأرض إليه ليعمل فيها عمل المزارعة، و جاز له التصرف فيها بما تقتضيه المعاملة بينهما، و إذا مات مالك الأرض لم يسقط حق العامل، فلا يجوز لورثة المالك منعه من التصرف فيها، و إذا مات العامل انتقل الحق إلى ورثته فيجب عليهم القيام بوظيفة مورثهم في الأرض، و قد سبق منا ذكر جميع هذا مفصلا.

و من نتائج ثبوت هذا الحق للعامل في الأرض انه يصح للعامل أن يزارع على الأرض شخصا أخر فيكون هذا الشخص الثاني عاملا للزارع الأول، و يجب عليه

أن يقوم بكل عمل يلزم الأول القيام به إذا كان هو المتصدي للعمل و لم يزارع غيره و يجب على الثاني أن يفي بكل ما يشترطه عليه الأول مما لا ينافي مزارعته مع مالك الأرض.

و لا بد في هذه المزارعة الثانية أن تكون حصة مالك الأرض من الحاصل محفوظة، فلا ينقص منها شي ء، فإذا كان المالك قد زارع العامل الأول على أن يكون لكل واحد منهما نصف الحاصل من الزرع، أمكن للعامل الأول أن يزارع الشخص الثاني، على النصف كذلك فتكون حصة مالك الأرض هي النصف و يكون النصف الثاني للعامل الثاني و لا يستحق الأول منه شيئا، و يمكن له أن يزارعه على النصف من حصته خاصة، فيكون نصف الحاصل لمالك الأرض و لا ينقص منه شي ء، و يقسم النصف الثاني بين العامل الأول و الثاني على التنصيف فيكون لكل واحد منهما ربع الحاصل، و يصح له أن يزارعه على الثلث أو الربع من حصته حسب ما يعينه له منها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 278

و لا يعتبر في صحة مزارعة العامل الأول للثاني أن يستأذن مالك الأرض فيها، بل و يجوز له أن يسلم إليه الأرض إذا كان أمينا و ان لم يأذن له المالك و ان كان الأحوط له الاستئذان في ذلك.

و لا فرق في صحة هذه المزارعة على الأقرب بين أن يكون البذر من مالك الأرض و أن يكون من العامل.

(المسألة 51):

إذا كان مالك الأرض قد اشترط على العامل في ضمن العقد أن يتولى العمل في الأرض بنفسه وجب عليه ذلك و أن صح له أن يزارع عليها شخصا أخر كما تقدم، فتصح المزارعة الثانية و يجب على العامل الأول أن يتولى

العمل في الأرض بنفسه بالنيابة عن العامل الثاني، و يستحق العامل الثاني بذلك حصته المعينة له من الحاصل.

(المسألة 52):

ذكر بعض أكابر الفقهاء (قدس اللّه أنفسهم): أنه يجوز لعامل المزارعة أن يشارك غيره في حصته من حاصل الزراعة، و لعل مراد هذا القائل أن يزارع العامل شخصا غيره في حصته، فإذا و في هذا المزارع الثاني بمزارعته معه استحق نصيبه من الحصة فكان مشاركا له فيها، و يعود الى ما ذكرناه في المسألة الخمسين.

و يشكل ذلك أو يمتنع إذا كان المراد أن يبيع العامل بعض حصته على الغير على وجه الإشاعة بعوض معلوم، فان العامل لا يملك حصته قبل الزرع و ظهور الحاصل منه فكيف يجوز له بيعها أو بيع شي ء منها؟ و انما يجوز بيع الثمرة قبل ظهورها إذا باعها المالك مع الضميمة، أو باعها لأكثر من سنة واحدة، و قد ذكر

كلمة التقوى، ج 5، ص: 279

الفقهاء هذا الحكم في فصل بيع الثمار من كتاب البيع.

(المسألة 53):

إذا جرى عقد المزارعة بين المتزارعين بحسب ظاهر الأمر، و استلم العامل الأرض من صاحبها ليزرعها له، ثمّ تبيّن للجانبين فساد المزارعة الجارية بينهما من أصلها لفقد بعض شروط الصحة فيها، فان كان تبين بطلان المعاملة قبل أن يبدأ العامل بزراعة الأرض، أو يشرع بشي ء من مقدماتها القريبة أو البعيدة: استرد المالك أرضه، و دفع العامل يده عنها، و لا شي ء لأحدهما على الآخر.

و كذلك الحكم إذا كان العامل قد استلم الأرض من صاحبها، و بدأ في المقدمات البعيدة التي لا تعد شروعا في العمل لمالك الأرض في نظر أهل العرف و من أمثلة ذلك: أن يشتري العامل بعض الأدوات التي يحتاج إليها عند حراثة الأرض و تمهيدها للزرع، أو يشتري الحيوانات و الحبال و الدلاء التي يستخدمها عند سقي الزرع، و لم يستخدم شيئا منها

بالفعل، فإذا تبين فساد المزارعة أخذ المالك أرضه و كانت للعامل أدواته و دوابه و آلاته التي اشتراها، و لا شي ء للمالك و العامل غيرها.

و إذا كان العامل قد بدأ في المقدمات القريبة التي تعد عند أهل العرف شروعا في العمل لمالك الأرض و امتثالا لأمره بالمزارعة، كما إذا أخذ في حراثة الأرض و تمهيدها للزراعة، أو شق النهر الذي تحتاج اليه، أو حفر البئر أو نصب الناعور والد و لأب في الأرض أو أعدّ المكينة لجذب الماء من العين أو البئر، أو هيأ جهاز الكهرباء لتحريك الماكنة، فإذا ظهر بعد ذلك بطلان المزارعة استرد المالك أرضه من العامل، و وجب عليه أن يدفع للعامل اجرة المثل لما قام به من العمل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 280

و كانت الأعيان من الأدوات و الاجهزة و الماكنة لصاحبها التي اشتراها و دفع قيمتها.

و أولى من ذلك بالحكم المذكور ما إذا عمل العامل في الأرض عملا ترتفع به قيمتها في أنظار العقلاء و أهل العرف، كما إذا حرث الأرض و بسطها و مهدها لتزرع فزادت قيمتها بذلك، و كما إذا شق فيها نهرا، أو فجّر فيها عينا، أو حفر فيها بئرا فارتفعت قيمتها، فيجب على المالك أن يدفع اليه اجرة المثل لذلك العمل بطريق أولى من الصورة المتقدمة.

(المسألة 54):

إذا تبيّن بطلان عقد المزارعة بعد أن أخذ العامل الأرض من صاحبها و بدأ بالعمل فزرع الأرض و نثر الحب و البذر فيها، كان جميع الزرع و ما ينتج منه مملوكا لصاحب البذر، فان النماء يتبع أصله في الملك، و هذا الفرض يقع على صور متعددة و لكل صورة أحكامها: (الصورة الأولى): أن يكون البذر مملوكا لعامل المزارعة، و

الحكم فيها أن يكون الزرع و النتاج مملوكا للعامل، و لا يملك صاحب الأرض منه شيئا، و لا يجب على مالك الأرض أن يبقى ما زرعه العامل في أرضه الى أن يبلغ و يدرك أوانه، و ان بذل العامل له أجرة المثل لأرضه في تلك المدة، فلا يجبر على ذلك، و يستحق مالك الأرض على العامل أجرة أرضه للمدة السالفة، و يجوز له أن يأمر العامل بإزالة ما زرعه في الأرض، و إذا قلعه العامل بعد أن أمره المالك بالقلع، فلا يستحق على المالك أرشا لزرعه، و يجوز لمالك الأرض أن يبقى زرع للعامل فيها بأجرة المثل أو مجانا إذا رضي العامل مالك الزرع بذلك و لا يحق لمالك الأرض أن يلزم العامل بإبقاء زرعه في الأرض و دفع الأجرة عنه إذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 281

هو لم يختر ذلك.

و إذا اختار العامل فأبقى زرعه في الأرض فعليه أن يدفع لمالكها أجرة أرضه كما قلنا، و يدفع له اجرة العوامل المستخدمة في الزرع و السقي إذا كانت مملوكة لصاحب الأرض.

(المسألة 55):

(الصورة الثانية): أن يكون البذر مملوكا لصاحب الأرض، و الحكم فيها أن يكون الزرع و نماؤه و ما يحصل منه مملوكا لصاحب الأرض و البذر تبعا لأصله و يجب عليه أن يدفع للمعامل اجرة المثل عن جميع عمله الذي قام به في زرع الأرض و تنمية الزرع، و أن يدفع له اجرة العوامل التي استخدمها في الزرع و السقي إذا كان مالكا لها أو لمنفعتها.

(المسألة 56):

الصورة الثالثة: أن يكون البذر مملوكا لكل من صاحب الأرض و عامل المزارعة على سبيل الاشتراك بينهما، و الحكم فيها أن كل واحد من المتعاملين المذكورين يملك من حاصل الزرع بنسبة ما يملكه من البذر، فإذا كان مملوكا لهما بالمناصفة فلكل واحد منهما نصف الزرع و النماء و إذا كان لأحدهما ثلث البذر فقط، فله الثلث من الزرع و النماء و للآخر الثلثان، و هكذا.

و يجب على العامل أن يدفع لمالك الأرض من أجرة المثل لأرضه من اجرة المثل لعوامله التي يملكها أو يملك منفعتها و كان قد استخدمها في الزرع، و من النفقات و المصارف الأخرى التي أنفقها المالك فيه بنسبة ما يملكه العامل من الحصة في الزرع، فإذا كان يملك منه النصف لأنه يملك نصف البذر كما ذكرنا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 282

وجب علة أن يدفع لمالك الأرض نصف اجرة المثل لأرضه و عوامله، و من مجموع نفقاته على الزرع، و إذا كان العامل يملك من الحاصل الثلث وجب عليه أن يدفع لمالك الأرض ثلث جميع ما عددناه، و إذا كان يملك الثلثين وجب عليه أن يدفع له الثلثين من ذلك.

و يجب على صاحب الأرض أن يدفع للعامل من اجرة المثل لعمله في الزرع و متعلقاته و

من اجرة المثل للعوامل التي يملكها العامل، أو يملك منفعتها و كان قد استخدمها في الزرع، و من النفقات الأخرى التي أنفقها فيه، بنسبة حصة مالك الأرض من الزرع و النماء و فإذا كان يملك منه النصف على الوجه الذي بيّناه وجب عليه أن يدفع للعامل نصف ذلك، و هكذا إذا كانت حصته من الزرع أقلّ من النصف أو أكثر، فيجب عليه أن يدفع للعامل بنسبة حصته.

(المسألة 57):

إذا وقعت المزارعة بين أكثر من متعاقدين و كان إنشاؤها بين الأطراف باعتبار انها معاملة خاصة مستقلة بنفسها عن المعاملات الأخرى، و عن المزارعة المصطلحة بين الفقهاء، و قد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة و الأربعين، فاشترط في المعاملة أن تكون الأرض من الطرف الأول و أن يكون العمل على الطرف الثاني و أن يكون البذر من الثالث، و استلم العامل الأرض من مالكها، و زرعها ثم تبيّن لهم بطلان المعاملة، فيكون جميع الزرع و النماء، لمالك البذر، و هو الطرف الثالث في المثال الذي ذكرناه، و يجري فيها الحكم المتقدم، فلا يجب على مالك الأرض إبقاء الزرع الى أن يبلغ أوان حاصله، و يجوز له أن يأمر مالك الزرع بإزالته من الأرض، و لا أرش له إذا قلعه، و يجوز لمالك الأرض أن يبقى الزرع في الأرض

كلمة التقوى، ج 5، ص: 283

مجانا أو بأجرة المثل إذا رضي مالك الزرع بذلك، و إذا اختار مالك الزرع فأبقى الزرع في الأرض لزمه أن يدفع لمالك الأرض أجرة أرضه مدة بقاء الزرع فيها و يجب على مالك الزرع أن يدفع للعامل أجرة عمله في الزرع، و أن يدفع لصاحب العوامل أجرة عوامله.

(المسألة 58):

قد اتضح مما ذكرناه في مسائل الفصل الأول و ما بعدها من هذا الكتاب أن القدر المعلوم ثبوته في عقد المزارعة: هو أن يلتزم صاحب الأرض للعامل بان يبذل له أرضه المعلومة ليزرعها له، و أن يلتزم العامل لصاحب الأرض بأن يقوم له بالعمل المطلوب فيزرع الأرض و يتعهد الزرع بما يربيه و ينميه حتى يظهر و يستكمل نموه و يثمر و يبلغ أوان حاصله، و يلتزم الجانبان بأن تكون لكل واحد منهما في

قبال ذلك حصة معلومة المقدار مشاعة من الحاصل الذي ينتجه الزرع.

ثم أن الثابت المعروف في مرتكزات أهل العرف و العقلاء، الخبراء بالمعاملة من الناس أن يكون الزرع في جميع مراحل نموه من حين ظهوره في الأرض إلى أخر إدراكه و بلوغ غايته مشتركا بين الطرفين على نسبة الحصتين اللتين عيّنهما الطرفان لهما من الحاصل، و من متفرعات ذلك و نتائجه أن يكون الفصيل و الورق و التبن و غير ذلك من نواتج الزرع مشتركة بين الطرفين على نسبة حصتيهما المعينتين و على هذا الأمر الثابت في أذهان أهل العرف و في مرتكزاتهم تتنزل الأدلة الشرعية و الإطلاقات الواردة في أحاديث المعصومين «ع» في عقد المزارعة و يثبت بها الحكم المذكور.

و يصح للمتعاقدين أن يشترطا ذلك في ضمن العقد بينهما اشتراطا صريحا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 284

فيقول مالك الأرض للعامل في إيجابه للعقد: أسلمت إليك هذه الأرض لتزرعها حنطة أو شعيرا، على أن يكون جميع ما يحصل من ثمر الزراعة بينى و بينك بالمناصفة مثلا، و على شرط أن يكون الاشتراك ما بيننا في الزرع في جميع مراحله من أول ظهور الزرع في الأرض إلى نهاية إدراكه و بلوغ حاصله، و يقبل العامل المزارعة منه على الشرط المذكور، و تكون نتيجة هذا الاشتراط كما تقدم اشتراك الطرفين حتى في ورق الزرع الذي يؤخذ منه و في فصيله و تبنه، و في أغصانه اليابسة أو الطرية التي تؤخذ منه لتزرع في موضع أخر من الأرض أو في أرض أخرى.

و إذا اشترطا أن يقع الاشتراك بينهما من أول الزرع لا من حين ظهوره في الأرض، اشتركا حتى في البذر بعد نثرة في الأرض، و في جذوره التي

تتكون قبل ظهور الزرع.

(المسألة 59):

إذا اشترط المتعاقدان أن يكون الاشتراك ما بينهما في الزرع عند بلوغه إلى مرحلة معينة من النمو، ثبت لهما ما شرطاه، فلا يكون بينهما اشتراك في الزرع قبل أن يصل الى تلك المرحلة، و مثال ذلك أن يقول الموجب منهما لصاحبه: زارعتك على هذه الأرض ليكون حاصل الزراعة فيها ما بيننا بالمناصفة، و على شرط أن يكون الاشتراك ما بيننا بعد ظهور الثمر في الزرع أو بعد انعقاد الحب فيه، أو بعد صدق اسم الغلة عليه، فيسمى حنطة أو شعيرا أو عنبا، فلا يقع الاشتراك الا بعد حصول الشرط و بلوغ الزرع إلى المرحلة التي عينها المشترط، و يكون الزرع في مراحله السابقة عليها مملوكا لمالك البذر و لا حق لصاحبه فيه، و لما بيّناه في هذه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 285

المسألة و سابقتها فروع سنتعرض لذكرها ان شاء اللّه تعالى في المسائل الآتية.

(المسألة 60):

إذا وقعت المزارعة بين الشخصين جامعة لما يعتبر فيها من شرائط الصحة و زرع العامل الأرض ثم بدا للطرفين أن يتقايلا و يفسخا عقد المزارعة الواقع بينهما بعد أن ظهر الزرع في الأرض، أو بعد ما ظهر الثمر، أو انعقد الحب في الزرع فالظاهر أن يكون فسخ المعاملة إذا حصل بينهما فسخا لها في حين وقوعه و ليس فسخا لها من أصل وقوع العقد، و أن كان ذلك هو مقتضى القاعدة في التقايل إذا حصل بين الطرفين، و ذلك لأن المرتكز في أذهان عامة العقلاء و أهل العرف في فسخ المزارعة أن يكون ذلك على نحو تعدّد المطلوب، و هو نظير الفسخ عند تبعض الصفقة.

و يتفرع على حصول الفسخ بينهما في حين وقوع الفسخ كما ذكرنا لا من أصل العقد:

أن يكون الزرع الموجود مملوكا لصاحبه حين ما وقع الفسخ بينهما و ليس مملوكا لصاحب البذر، و يتفرع على ذلك أيضا: أن لا يثبت لصاحب الأرض حق في أن يأخذ من العامل أجرة لأرضه للمدة الماضية قبل الفسخ، و لا يثبت للعامل حق في أن يأخذ من صاحب الأرض أجرة لعمله في تلك المدة.

و إذا فسخا عقد المزارعة كما ذكرنا، فيجوز لهما أن يتراضيا بينهما على أن تبقى حصة العامل من الزرع في الأرض الى أن يبلغ أوانه و يتم نتاجه مع تسليم العامل اجرة المثل لمالك الأرض مدة بقاء الزرع فيها أو بغيره اجرة، و يجوز لهما أن يتراضيا على أن تقطع حصة العامل من الزرع قصيلا.

و يجوز لصاحب الأرض أن يطالب العامل بقسمة الزرع الموجود عند

كلمة التقوى، ج 5، ص: 286

الفسخ، فيبقي مالك الأرض حصته من الزرع بعد القسمة في الأرض، و يأمر العامل بقطع حصته من الزرع و إزالتها من الأرض و لا يستحق العامل عليه بذلك أرشا و ليس للعامل أن يبقى حصته من الزرع في الأرض إذا كان صاحب الأرض لا يرضى ببقائها فيها و ان دفع له اجرة المثل.

و كذلك الحكم إذا شرط أحد المتعاقدين أن يكون له خيار فسخ المزارعة في وقت معين، ففسخها في ذلك الوقت المعين، أو ثبت له خيار الفسخ لتخلف بعض الشروط التي شرطها على صاحبه، فإذا فسخ المعاملة و كان فسخه في أثناء المدة المعينة لعقد المزارعة بينهما جرت الأحكام و اللوازم التي بيناها في هذه المسألة.

(المسألة 61):

إذا غصب أحد أرضا من مالكها الشرعي، و سلّم الغاصب الأرض إلى عامل ليزرعها له مدة معلومة بحصة معينة من حاصل الزراعة فيها، جاز لمالك

الأرض أن يسترجع أرضه المغصوبة من الغاصب أو من العامل، و يصح له الرجوع بها على أيهما شاء.

و يتخير مالك الأرض بين أن يجيز عقد المزارعة الذي أنشأه الغاصب مع العامل، و أن يرد ذلك العقد، فان هو أجاز العقد صح و أصبحت المزارعة بين مالك الأرض و العامل على حسب ما عين في عقدها من قيود و شروط، و لا تفتقر صحة المزارعة بعد اجازة المالك الشرعي إلى قبول جديد من العامل.

و تثبت للعامل حصته الخاصة التي ذكرت له في العقد ما بينه و بين الغاصب من حاصل الزراعة، و تكون لمالك الأرض الحصة الأخرى منه، سواء وقعت اجازة المالك للعقد قبل شروع العامل بالعمل أم وقعت بعده، و إذا أبى المالك الشرعي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 287

فرد عقد المزارعة و لم يجزه على أرضه بطلت المعاملة من أصلها، و إذا كان عامل المزارعة قد زرع الأرض بعد عقد المزارعة عليها و قبل أن يرده المالك، و قد ظهر الزرع في الأرض و كان البذر من العامل، فالزرع الموجود يكون مملوكا للعامل تبعا للبذر، و يلزم العامل أن يدفع لمالك الأرض أجرة المثل لمنفعة أرضه في المدة الماضية.

و يجوز لمالك الأرض بعد رده للمزارعة أن يأمر العامل بإزالة زرعه و جذوره من الأرض، و لا أرش للعامل إذا أزالها، و يجوز للمالك أن يرضى ببقاء الزرع في أرضه حتى يدرك، و يبلغ أوانه و يأخذ منه اجرة المثل في المدة الآتية.

و إذا أخذ مالك الأرض من العامل أجرة المثل لما مضى من المدة أو لما يأتي من مدة بقاء الزرع في الأرض جاز للعامل أن يرجع بما خسره على الغاصب إذا كان قد

غرّه.

(المسألة 62):

إذا أنشئت المزارعة بين مالك الأرض و عامل المزارعة ثم تبين بعد اجراء العقد، أو بعد زرع العامل الأرض: أن العامل الذي جرت معه المعاملة عبد مملوك و أن مولاه لم يأذن له في المزارعة، كان الأمر في تصحيح هذه المعاملة عبد المولى المالك للعبد، فان هو أجاز مزارعته صحت، و الزم العبد بالعمل في زراعة الأرض و القيام بما تحتاج اليه من سقي و غيره، و كانت الحصة المعينة له من حاصل الزرع لمولاه، و الحصة الثانية من الحاصل لمالك الأرض: و ان فسخ المولى المالك للعبد المعاملة بطلت من أصلها، و كان الزرع الموجود الذي زرعه العبد تابعا للبذر، فان كان مالك البذر هو مالك الأرض، كان الزرع مملوكا له لانه نماء بذره، و لزم صاحب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 288

الأرض أن يدفع لمولى العبد أجرة المثل لعمل مملوكه، و ان كان البذر للعبد فهو ملك لمولى العبد و يكون هو المالك للزرع أيضا، و يجوز لمالك الأرض أن يأمره بقلع الزرع و ازالته من الأرض، و لا أرش لصاحب الزرع بذلك، و يجوز لمالك الأرض أن يبقى الزرع في أرضه حتى يبلغ أوانه مجانا أو مع أجرة المثل لأرضه في تلك المدة، إذا رضي مولى العبد بدفعها و لا يجبر على ذلك.

________________________________________

بصرى بحرانى، زين الدين، محمد امين، كلمة التقوى، 7 جلد، سيد جواد وداعى، قم - ايران، سوم، 1413 ه ق

كلمة التقوى؛ ج 5، ص: 288

و كذلك الحكم إذا غصب العبد غاصب من مولاه الشرعي، و زارعه صاحب الأرض بأمر الغاصب، و لم يستأذن مولاه، فيكون الأمر في صحة المزارعة لمولاه و يجرى فيه و في زرعه البيان الذي قدمناه.

(المسألة 63):

إذا

حكم الشارع ببطلان المزارعة بين المتعاقدين من أصلها، أو حكم ببطلانها في أثناء المدة بعد أن كانت صحيحة في أول الأمر لطرو، بعض العوارض التي أوجبت الحكم بفسادها كذلك و قد تكرّر منا أكثر من مرة، أن الزرع الموجود في الأرض بعد بطلان المعاملة بكون تابعا للبذر في الملك فمالك الزرع الموجود في الأرض هو مالك البذر.

فإذا علم أن البذر الذي زرع في الأرض كان مغصوبا من مالكه كان الزرع الموجود في الأرض مملوكا للمالك الأصلي الذي غصب البذر منه، فالزرع و النتاج كله له، و لا يستحق عليه مالك الأرض أجرة لأرضه، و لا يستحق عليه عامل المزارعة أجرة لعمله، بل تكون الأجرة على من جاء بالبذر ليزرع في الأرض فإن كان الذي جاء بالبذر للزراعة هو العامل لزمه أن يدفع أجرة الأرض لصاحبها، و أن كان الذي جاء به للزراعة هو صاحب الأرض لزمه أن يدفع للعامل أجرة عمله

كلمة التقوى، ج 5، ص: 289

و يجوز لمالك الأرض أن يأمر المالك المذكور للزرع بإزالة زرعه عن أرضه و أن لم يبلغ الزرع أوان قطعة، و لا أرش لمالك الزرع بسبب ذلك.

(المسألة 64):

إذا تمت المزارعة بين الطرفين المتعاقدين، ثم علم بعد ذلك أن العوامل التي استخدمت في زراعة الأرض و في حرثها و سقايتها كانت مغصوبة من مالكها الأصلي لم تبطل المزارعة بذلك، سواء كان الذي غصبها أو استخدمها هو مالك الأرض، أم كان هو العامل، و يجب عليه أن يدفع لمالكها الشرعي أجرة المثل لمنفعتها في مدة استخدامها، و كذلك الحكم في سائر المصارف التي أنفقها المالك على أرضه أو أنفقها العامل على زرعه، ثم علم بعد ذلك انها كانت مغصوبة من مالكها،

فلا يضر ذلك بصحة المعاملة الجارية بين المتعاقدين، و يلزم على منفقها أن يدفع لمالكها الأصلي مثلها إذا كانت مثلية، و قيمتها إذا كانت قيمية.

(المسألة 65):

قد سبق منا أن الأقوى حصول الاشتراك ما بين مالك الأرض و العامل في الزرع عند ظهوره في الأرض و تبيّنه على وجهها، و ان لم يسمّ قصيلا أو يخرج له شطئا، و قبل أن يظهر له ثمر أو ينعقد له حب، و قد ذكرنا هذا في المسألة الثامنة و الخمسين، و كذلك إذا اشترط المتزارعان في ضمن العقد ان تحصل الشركة فيه بينهما عند ظهور الزرع في الأرض.

و من نتائج ذلك: أن يملك كل واحد من الطرفين حصته المقدرة له من حاصل الزراعة منذ ذلك الوقت، و في جميع مراحل نمو الزرع المتعاقبة، فإذا ظهر ثمر الزرع، و صدق عليه اسم الغلة حنطة أو شعيرا أو غيرهما من الغلات التي تجب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 290

فيها الزكاة، و بلغت حصة مالك الأرض أو الزارع مقدار النصاب وجبت عليه الزكاة في حصته، و إذا لم تبلغ مقدار النصاب فلا زكاة عليه.

و إذا اشترط المتعاقدان أن يكون الاشتراك بينهما في ما بعد ذلك من المراحل كانت الزكاة على من يملك الزرع قبل ذلك و في المرحلة التي يتعلق فيها وجوب الزكاة في الغلة و هو مالك البذر، فإذا بلغ مجموع الحاصل مقدار النصاب وجبت عليه زكاة الحاصل كله و لا زكاة على الآخر لانه لم يملك الحصة في وقت تعلق وجوب الزكاة بها.

(المسألة 66):

إذا تم عقد المزارعة بين مالك الأرض و العامل و استلم العامل الأرض من مالكها فأهملها و لم يزرعها حتى انقضت المدة المعينة للمزارعة و كانت الأرض بيد العامل و لم يكن له عذر في ترك الزرع و إهمال الأرض لزمه أن يدفع لصاحب الأرض أجرة المثل لمنفعتها الفائتة في تلك المدة،

و قد سبق ذكر هذا في المسألة الرابعة و الثلاثين و ما بعدها، و لا ضمان عليه إذا لم يكن مفرطا في ترك الزرع، و قد ذكرنا في المسألتين بعض الأعذار الموجبة لعدم التفريط، و لا ضمان على العامل بذلك إذا كانت الأرض في يد مالكها، و كان مالكها يعلم بان العامل قد ترك زراعتها و لا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة بين الطرفين إذا كانت الأرض في يد مالكها، و كان المالك لا يعلم بأن العامل قد ترك زراعتها.

(المسألة 67):

إذا أجريت المزارعة بين المتعاقدين على أرض معلومة معينة الحدود و كان الأرض بمجموعها صالحة للزرع و الانتفاع بها في جميع المدة، ثم اتفق أن طرا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 291

الخراب و البوار على بعض من الأرض فاستولت عليه المياه، أو الاسباخ، و لم يمكن علاجه، و لم يعد صالحا للانتفاع به بوجه من الوجوه، و بقي بعضها الآخر صالحا للزرع و الانتفاع به بالفعل بطلت المزارعة في القسم البائر من الأرض، و تخير كل من مالك الأرض و عامل المزارعة في القسم الثاني الذي يمكن الانتفاع به من الأرض بين أن يفسخ المعاملة فيه للتبعض الطاري عليها و أن يمضيها، فإذا اتفق الطرفان فأمضيا العقد في ذلك القسم من الأرض صحت المزارعة فيه و ترتبت أثارها، فيجب على العامل زرعه و يستحق كل من الطرفين حصته من حاصل الزراعة فيه، و إذا فسخا المعاملة فيه معا أو فسخ أحدهما بطلت المعاملة.

(المسألة 68):

إذا ذكر المتعاقدان للمزارعة الواقعة بينهما مدة وجب عليهما أن يعينا للمدة أمدا و أجلا مسمى، و يجب أن يكون الأجل بمقدار يتسع لزراعة الأرض فيه و بلوغ الزرع غايته و نتاجه بحسب العادة المتعارفة لذلك الزرع من الزمان، و قد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة و في مسائل غيرها.

و إذا عين المتزارعان للمعاملة أجلا يتسع لمعاملتهما بحسب العادة ثم اتفق أن انقضت المدة المضروبة و لم يدرك الزرع فيها أوانه و لم يبلغ غايته لبعض الطوارئ المانعة، فلا حق للعامل في أن يبقى زرعه في الأرض إذا لم يرض مالك الأرض بإبقاء الزرع فيها و ان بذل له أجرة الأرض لذلك، و يجوز للطرفين أن يتراضيا على إبقاء الزرع فيها مجانا

أو مع الأجرة، و يجوز لمالك الأرض أن يأمر العامل بإزالة ما زرعه من الأرض و لا أرش للعامل في ذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 292

(المسألة 69):

إذا زارع المالك عاملا على أرض معيّنة، ثم علم العامل بعد إنشاء المعاملة أن الأرض التي زارعه المالك عليها ليس لها ماء يسقيها بالفعل، و كان العامل قادرا على تحصيل الماء للأرض بحفر بئر أو استخراج عين أو غير ذلك و لم يكن العامل يعلم بذلك حين اجراء العقد، صحت المعاملة و لم تبطل بذلك، و يثبت للعامل فيها خيار الفسخ، فان شاء فسخ المعاملة و أبطلها، و ان شاء أمضاها و لزمه أن يقوم بتحصيل الماء و زراعة الأرض و سقاية الزرع.

و كذلك الحكم إذا أجريت المزارعة بين المتعاقدين، ثم علم الزارع بعد العقد أن الأرض المعينة غير قابلة للانتفاع بها الا بعلاج و كان قادرا على القيام بعلاجها و إصلاحها، فتصح المعاملة و يثبت للعامل خيار الفسخ فيها كما تقدم و تلاحظ المسألة العاشرة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 293

الفصل الثالث في آثار تتبع عقد المزارعة

(المسألة 70):

إذا ظهر ثمر الزرع الذي زرعه العامل و بلغ أوان حاصله جاز لكل من مالك الأرض و عامل المزارعة أن يخرص الثمر الموجود في الزرع على صاحبه خرصا يتفق الطرفان على قبوله، و أن يحدّد لصاحبه مقدار حصته المجعولة له من المقدار الذي عيّنه بالخرص لجميع الحاصل، فإذا خرص مالك الأرض مجموع حاصل الزرع الموجود فيها بمائة من من الحنطة- مثلا- و كانت حصة العامل المجعولة له في عقد المزارعة هي نصف الحاصل، كان مقدار حصته من الثمر المخروص خمسين منا من الحنطة و للمالك الباقي منها، بشرط أن يحصل الرضا و القبول بذلك من العامل، فيصح ذلك و يلزم الطرفين الوفاء به سواء زاد الحاصل على مقدار الخرص أم ساواه أم نقص عنه، و لا يصح لأحدهما رد ذلك أو فسخه بعد جريان

معاملة الخرص المذكورة و القبول بها من كليهما.

و الخرص المذكور معاملة خاصة مستقلة بنفسها و بأدلتها الشرعية الواردة فيها عن سائر المعاملات، و أثر هذه المعاملة إخراج المال المشترك بين المالك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 294

و العامل من الإشاعة المطلقة، و تحديد حصة كل واحد منهما عن حصة الآخر على وجه الاجمال، و هي ليست من البيع و لا من الصلح بعوض أو بغير عوض.

(المسألة 71):

يشترط في صحة معاملة الخرص التي ذكرناها: أن يكون خرص الثمرة بعد أن تبلغ و يتم إدراكها كما ذكرنا في المسألة المتقدمة فلا تصح إذا وقع الخرص قبل أن يبلغ الثمر هذا المبلغ، و أن ظهر في الزرع أو بدأ أول إدراكه و لم يتم، و يعتبر في صحتها: أن تكون الحصة المعينة لكل من الطرفين من حاصل الزرع نفسه، فلا تصح المعاملة إذا جعلت الحصة بذلك المقدار في الذمة من جنس الحاصل، و أولى من ذلك بعدم الصحة ما إذا جعلت بذلك المقدار من غير جنسه.

و يكفي في إنشاء المعاملة أن يقول الموجب من الطرفين: رضيت بالخرص المعيّن لثمر هذه الزراعة لي و علي، و تقبلت نصف المقدار الذي حدده الخرص في حصتي المعينة لي من حاصل الزرع و جعلت الباقي من الحاصل لك، فإذا قبل الجانب الآخر ذلك و رضي به صحت المعاملة، و وجب على الطرفين الوفاء بها فإذا زاد الحاصل على مقدار الخرص لم يستحق الطرف الذي تقبل حصته من الخرص من هذه الزيادة شيئا، كان الزائد من الحاصل كله لصاحبه، و إذا نقص الحاصل عن مقدار الخرص، أخذ الأول حصته من مقدار الخرص كاملة دون نقص و كان الباقي الناقص للثاني.

و يكفي في صحة

المعاملة أن تنشأ، بأي لفظ غير ذلك، إذا كان دالا على هذا المضمون في عرف أهل اللسان، و ان كانت دلالته بالقرينة المفهمة أو بلغة غير عربية، و يصح أن تنشأ بالفعل إذا كان دالا على المعنى المراد.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 295

و لا فرق في صحة معاملة الخرص المذكورة بين أن يكون الخارص لحاصل الزرع احد الطرفين المتعاقدين و أن يكون شخصا ثالثا غيرهما، إذا كان من أهل الخبرة و الوثوق و تم بخرصه غرض المتعاملين، و حصل به الرضا و القبول منهما.

(المسألة 72):

إذا تلف جميع حاصل الزرع أو تلف بعضه بحيث كان الباقي من الحاصل أقل من المقدار المخروص، و كان تلف التالف منه بعد الخرص و تقبيل الحصة منه دخل النقص على الجانبين، و لم يختص بواحد منهما على الأقوى، سواء كان التلف بآفة سماوية أم أرضية، و سواء كان التلف بفعل الإنسان، أم بسبب أخر من حيوان أو غيره.

و يشكل الحكم إذا تلف بعض الحاصل و كان المقدار الباقي منه يساوي مقدار الخرص، أو يزيد عليه، و لا يترك الاحتياط في هذه الصورة بالرجوع إلى المصالحة و التراضي بين الطرفين.

(المسألة 73):

لا تختص معاملة الخرص التي ذكرناها بالمزارعة و تقبيل الحصة منها، بل تجري أيضا في المساقاة، و سيأتي بيانه (ان شاء اللّه تعالى)، و تجري في ثمر النخيل و الشجر إذا كان مشتركا على وجه الإشاعة التامة بين مالكين بسبب إرث أو شراء، أو غيرهما من أسباب الملك و الاشتراك فيه، و تجري في كل ثمر أو زرع مشترك بين مالكين لأحد الأسباب الموجبة للتملك و الاشتراك فيه، فيجوز لهما أو لأحدهما أن يخرص الثمر عند بلوغه و تحقق إدراكه، فإذا رضي الجانبان بالخرص و رضيا بأن تكون حصة أحدهما من المقدار المخروص، و للآخر الباقي سواء زاد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 296

الحاصل عنه أم نقص، صحت المعاملة و لزمت و ترتبت أثارها.

(المسألة 74):

يجوز لمالك الأرض أن يصالح عامل المزارعة عن حصته المقدرة له من حاصل الزرع بمقدار معين في ذمته من جنس الحاصل أو من غير جنسه، فإذا كانت الزراعة المشترطة بين المتعاقدين من الحنطة- مثلا- و كانت حصة العامل هي النصف من حاصلها، جاز لمالك الأرض أن يصالح العامل عن حصته المذكورة بعشرين منا من الحنطة، تبقى في ذمة المالك، أو بعشرين منا من الأرز أو الماش أو العدس تبقى في ذمته كذلك، و يجوز له أن يصالحه عنها بعين في الخارج مملوكة له، من جنس الحاصل أو من غير جنسه، فتكون عوضا للعامل عن حصته.

و يجوز للعامل أن يصالح مالك الأرض عن حصته المعينة له من الحاصل كذلك، في كلا الفرضين و انما يصح الصلح في جميع ما ذكر من الفروض إذا ظهر حاصل الزرع سواء تم إدراكه أم لم يتم.

و لا تضر بصحة هذا الصلح بينهما جهالة الطرفين بمقدار الحصة

المصالح عليها، فان مثل هذه الجهالة مغتفرة في عقد الصلح و الأحوط استحبابا لهما تقدير ذلك بخرص متعارف عند أهل الخبرة، و لا يضر بصحة الصلح وجوه التفاوت بين العوضين، و ذلك لان حصة المزارع و العامل من الزرع قبل الحصاد و التصفية ليست من المكيل و لا الموزون، فلا تكون المعاوضة عليها مع التفاوت بين العوضين من الربا المحرّم في الإسلام.

و إذا أراد أحد المتزارعين أن يصالح صاحبه عن حصته قبل ظهور الحاصل فلا بد له من ضم ضميمة إلى الحصة، و لا يصح الصلح عليها بغير ذلك.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 297

(المسألة 75):

إذا انقضت المدة المضروبة للمزارعة بين العامل و مالك الأرض، و وقعت القسمة لحاصل الزرع المشترك بينهما، و أخذ كل شخص منهما حصته المعينة له من الحاصل، و بقيت في الأرض بعد ذلك أصول الزرع و جذوره، فأنبتت في السنة الثانية نباتا و أخرجت زرعا، فالنبات و الزرع الذي يحصل منها يكون مشتركا بينهما، و قد ذكرنا في المسألة الثامنة و الخمسين، أن مقتضى عقد المزارعة عند إطلاقه أن يحصل الاشتراك بين مالك الأرض و عامل المزارعة من حين ظهور الزرع في الأرض، و في جميع مراحل نموه و أدواره، و لا يختص بالحاصل عند ظهوره في الزرع أو عند انعقاد الحب أو صدق الاسم، و كذلك إذا اشترط المتعاملان في ضمن العقد أن يقع الاشتراك بينهما في الزرع في تلك المرحلة أو قبلها.

و من نتائج ذلك: أن تكون أصول الزرع و جذوره الباقية في الأرض بعد الجذاذ مشتركة بينهما كما ذكرنا، و يتبعها نماؤها الذي يحصل منها فيكون مشتركا بينهما، إلا إذا أعرض المتعاقدان عن هذه الأصول الباقية، فيكون النبات

الحادث منها لمن سبق اليه فتملكه بالحيازة.

(المسألة 76):

إذا بقي في الأرض بعض الحبوب من حاصل الزراعة الماضية، فأنبت في السنة اللاحقة زرعا و اخرج نماء، فإذا كان الحب الذي بقي في الأرض من الحاصل المشترك بين المتزارعين قبل قسمته بينهما، فالزرع و النماء الذي يخرج منه يكون مشتركا بينهما أيضا تبعا لأصله، و يكون لكل واحد من الشريكين من هذا النماء الجديد بمقدار حصة ذلك الشريك من الأصل، فإذا كان الأصل مشتركا بينهما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 298

بالمناصفة، فالنماء، الحادث منه مشترك بينهما بالمناصفة كذلك، و إذا كان لأحدهما الثلث منه أو الربع أو غيرهما، فله من النماء الجديد بتلك النسبة.

و إذا كان الحب الباقي في الأرض مختصا بأحد الشريكين، كما إذا سقط من حصة العامل بعد القسمة أو من حصة مالك الأرض كذلك اختص مالكه بالنماء الحادث منه، و لم يستحق الآخر منه شيئا، و لا يستحق مالك الأرض على العامل أجرة لأرضه إذا كان النماء الحادث ملكا للعامل خاصة، أو كان مملوكا له و لصاحب الأرض على نحو الاشتراك، ثم بقي النماء في الأرض حتى أدرك و بلغ أوانه.

(المسألة 77):

إذا قصّر عامل المزارعة في القيام المطلوب منه على الزراعة في تمهيد الأرض مثلا أو تسميدها، أو في السقي الكافي لحاجتها و حاجة الزرع، أو في مكافحة الحشرات و الطفيليات و الطوارئ، المؤثرة عادة، فقل بسبب تقصيره حاصل الزرع، فان كان التقصير منه قبل أن يظهر الزرع في الأرض لم يضمن العامل لمالك الأرض بسبب هذا التقصير شيئا، و ثبت لمالك الأرض بذلك خيار فسخ المعاملة الجارية بينه و بين العامل، فان شاء فسخ المزارعة، و ان شاء أمضاها و لم يفسخها فإذا اختار مالك الأرض ففسخ المزارعة و كان

البذر مملوكا للفاسخ صاحب الأرض كان الحاصل الذي يخرج من الزرع مملوكا له تبعا للبذر، و لزمه أن يدفع للعامل اجرة المثل لعمله، و إذا تلف شي ء من البذر بسبب تقصير العامل كان العامل ضامنا لما تلف منه فيجب عليه أن يدفع لمالكه مثله إذا كان مثليا و قيمته إذا كان قيميا.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 299

و إذا كان البذر مملوكا للعامل كان الحاصل مملوكا له بتبع البذر، و لزمه أن يدفع لمالك الأرض أجرة المثل لأرضه.

و إذا اختار مالك الأرض فأبقى المعاملة بينه و بين العامل و لم يفسخها بسبب تقصير العامل صحت المزارعة و كانت لكل واحد من الطرفين حصته المعيّنة له في العقد قلّت أو كثرت.

و ان كان التقصير الذي ذكرناه من العامل بعد ظهور الزرع في الأرض، تخير مالك الأرض، فيجوز له أن يفسخ المعاملة و تترتب على فسخه جميع النتائج و الآثار التي قدمنا ذكرها في الفرض السابق، و يجوز له أن يمضي المعاملة فتكون لكل واحد من الطرفين حصته المعينة له في عقد المزارعة قلّت أو كثرت، و يضمن العامل لصاحب الأرض مقدار التفاوت في حاصل الزرع بسبب تقصيره، و يعرف ذلك بالرجوع إلى أهله الخبرة، و إذا لم يعلم فالاحتياط بالرجوع إلى المصالحة.

(المسألة 78):

إذا ادعى مالك الأرض على عامل المزارعة فيها انه لم يف له ببعض الشروط التي شرطها عليه في عقد المزارعة، و جحد العامل ما يدعيه المالك عليه من عدم الوفاء، فالقول قول العامل، و لا يمين عليه لأنه مؤتمن، الا أن يقيم المالك على صحة دعواه على العامل بينة مقبولة يثبت بها عدم وفائه، و كذلك الحكم إذا ادعى مالك الأرض أن العامل قد قصّر

في عمله في المزارعة فأضر بالزرع بسبب تقصيره في العمل، و أنكر العامل وقوع تقصير منه، أو ادعى المالك عليه أنه فرط في حفظ الثمر بعد ظهوره في الزرع فتلف جميع الحاصل أو تلف بعضه، و أنكر العامل وقوع أي تفريط أو تقصير منه، فالقول في جميع هذه الفروض قول العامل و لا يطالب بيمين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 300

على إنكاره لأنه مؤتمن.

(المسألة 79):

إذا ادعى مالك الأرض انه قد اشترط على العامل شرطا في ضمن العقد و أنكر العامل وقوع ذلك الشرط بينهما، أو ادعى العامل انه قد اشترط على المالك شيئا و أنكر المالك ذلك، فالقول قول المنكر منهما مع يمينه في كلتا الصورتين، إلا إذا أثبت المدعي منهما صحة قوله ببينة مقبولة، فيؤخذ بها و إذا انعكس الفرض فادعى أحد المتزارعين أن صاحبه قد اشترط عليه شرطا معيّنا في ضمن عقد المزارعة، و أنكر صاحبه وجود ذلك الشرط منه، ألزم الأول منهما بأن يفي بالشرط الذي ذكره أخذا له بإقراره، فلا يأخذ حصته المعينة له من الحاصل حتى يفي بالشرط، و يعامل الثاني أيضا بمقتضى قوله، و لذلك فليس له أن يطالب صاحبه المقرّ بالشرط الذي ذكره بعد إنكاره إياه و يلزمه أن يوصل الى صاحبه حصته من الحاصل و أن لم يف بالشرط أخذا له بقوله، و يمكن لهما أن يتخلّصا من هذا الاشكال بالرجوع الى التسالم و المصالحة بينهما.

(المسألة 80):

إذا ادعى أحد المتزارعين أن صاحبه قد غبنه بالمزارعة الجارية بينهما، لزمه أن يثبت وجود الغبن عليه في المعاملة بأحد المثبتات الشرعية، فإذا أثبت ذلك جاز له فسخ المزارعة للغبن، و لا يكون له حق الخيار الا بعد إثبات وجود سببه و هو واضح و انما يذكر للتنبيه.

(المسألة 81):

إذا تنازع المتزارعان في مقدار المدة التي عيناها لمزارعتهما، فقال أحدهما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 301

هي سنة واحدة و قال الأخر بل هي سنتان، أو قال الأول: قد جعلنا لمزارعة بيننا الى ثلاث سنين، و قال الثاني، بل جعلناها إلى أربع سنين، قدم قول من ينكر الزيادة في المدة منهما مع يمينه، و تستثنى من ذلك صورة واحدة، و هي ما إذا ادعى احد المتعاقدين مدة قصيره لا تكفى بحسب العادة لزرع الأرض و بلوغ الحاصل فيها لقصرها، و ادعى الثاني مدة تتسع لذلك بحسب العادة فيقدم قول الثاني لأن قوله يستلزم صحة المعاملة الواقعة بينهما، و قول الأول يستلزم فسادها بسب قصر المدة، و قد بينا في المسألة التاسعة أن المدة التي تشترط للمزارعة إذا كانت قصيرة لا تكفى بحسب العادة المتعارفة لمزارعة الأرض و ادراك حاصل الزرع فيها كان العقد الواقع عليها باطلا.

(المسألة 82):

إذا تنازع المتزارعان في مقدار الحصة المعينة لأحدهما من حاصل الزرع، فقال احد الطرفين لصاحبه، قد جعلنا لك الثلث خاصة من حاصل الزراعة، و قال الثاني: بل حصتي النصف من الحاصل، فالقول قول من يدعى قلة الحصة، و ينكر الزيادة فيها من الطرفين مع يمينه، و هو في غالب الفروض المتعارفة من يملك البذر كله فهو يدعي القلة في حصة صاحبه ليكون الزائد من نصيبه، و قد يختلف ذلك، و قد يكون البذر ملكا للجانبين معا بالتساوي أو مع التفاوت، و على اى حال فالقول قول من ينكر الزيادة مع يمينه في جميع الصور التي يقع التنازع بين الطرفين في مقدار الحصة.

(المسألة 83):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 302

يجوز لمن تقبل قطعة من الأرض الخراجية من السلطان، أو من ولى أمر المسلمين، و كانت القطعة بيده يؤدي خراجها و ينتفع بها، أن يدفع تلك الأرض إلى شخص آخر ليزرعها ذلك الشخص و ينتفع بها لنفسه، فيؤدى من حاصل زراعة الأرض ما عليها من الخراج زاد أم نقص و يأخذ ما بقي من الحاصل لنفسه، و لا ينتفع الأول الذي تقبلها من السلطان منها بشي ء، سوى انه قد تخلص بذلك من الخراج، و قد دل بعض النصوص على جواز ذلك إذا كان دفع الأرض من الأول الى الثاني برضاه و يجوز لمن تقبل الأرض الخراجية كذلك أن يزارع عليها عاملا ليزرعها و يعمل فيها و يدفع خراج الأرض من حاصل الزارعة فيها، ثم يكون الباقي من الحاصل لكل من المتقبل و العامل فيقتسمانه بينهما بالمناصفة أو بما سوى ذلك من الحصص بحسب ما يشترطان و يتراضيان، فيكون الخراج على كليهما.

و يجوز لمتقبل الأرض من السلطان أو ولى

الأمر أن يشترط على العامل الذي يزارعه أن يكون جميع الخراج على العامل خاصة، فيدفعه من حصته من الحاصل بعد القسمة و لا يكون على المتقبل شي ء من الخراج، فيصح جميع ما ذكرناه من الفروض مع الاشتراط و الرضى به من الطرفين، و تلاحظ المسألة الثانية و العشرون.

و يجوز لمتقبل الأرض أن يدفعها الى شخص غيره ليزرعها و ينتفع بها و يشترط على ذلك الغير أن يدفع جميع الخراج من حاصل زراعته في الأرض و أن يدفع للمتقبل مع ذلك مبلغا معينا مائة دينار مثلا أو أقل أو أكثر، ثم يأخذ الزارع لنفسه ما بقي من الحاصل و قد دلت النصوص إلى صحة جميع ذلك مع الاشتراط في العقد و الرضى به من الجانبين.

(المسألة 84):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 303

يصح أن يقع عقد المزارعة بين المسلم و الكافر سواء كان الكافر هو صاحب الأرض أم كان هو العامل في المزارعة، و تجري في المعاملة بينهم جميع الاحكام و تترتب جميع الآثار التي بيّناها للمزارعة و يلزم الوفاء بعقدها و القيام بواجباتها و شروطها على كل من المسلم و الكافر من غير فرق بينهما.

(المسألة 85):

يجوز للقيم الذي جعله الواقف متوليا على الأرض الموقوفة، أو الذي نصبه الحاكم الشرعي متوليا عليها، أن يزارع عاملا على الأرض الموقوفة الداخلة تحت ولايته، إذا اقتضت مصلحة الوقف، أو مصلحة الموقوف عليهم: أن يزارع أحدا على الأرض، و قد توفرت في المتولي شروط الولاية، و صحة التصرف، سواء كان وقف الأرض عاما أم خاصا، و سواء كان وقفها على جهة، أم على أشخاص، أم على غير ذلك، و تنفذ المزارعة الواقعة من المتولي عليها، و يلزم الطرفين الوفاء بها و بأحكامها.

و إذا عين المتولي للمزارعة مدة تقتضي المصلحة تعيينها، لزم العمل بالمعاملة في تلك المدة و لا تبطل بموت المتولي الذي أوقع المزارعة إذا مات في أثناء المدة.

و إذا كانت الأرض موقوفة على بطون متلاحقة من الموقوف عليهم، و زارع المتولي أحدا على الأرض المذكورة لمصلحة البطون و عين للمزارعة مدة، لزم الوفاء بالعقد في جميع المدة، و لا يبطل العقد بموت المتولي، و لا بموت أهل البطن الأول أو الثاني أو الثالث من الموقوف عليهم، ما دامت المدة المشترطة باقية.

(المسألة 86):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 304

إذا زارع أهل البطن المتقدم عاملا على الأرض الموقوفة عليهم، و على من بعدهم من البطون لم تنفذ المزارعة التي أنشأها هؤلاء على من يأتي بعدهم من البطون المتأخرة، فإذا مات أهل البطن الذين أوقعوا المزارعة، بطلت مزارعتهم بعد موتهم، إلا إذا أجازها أهل البطن اللاحق لهم، فتصح المزارعة بإجازتهم، كما يصح العقد الفضولي إذا اجازه الأصيل في سائر المعاملات.

(المسألة 87):

يصح أن تقع المصالحة بين عاملين مستقلين في مزارعتين مختلفين يختص كل عامل منهما بأرض خاصة به، و بحصة معلومة معينة له من حاصل زراعته في أرضه، فيوقعا عقد الصلح ما بينهما على الحصتين، فيجعل الأول منهما حصة المعينة له من حاصل زراعته عوضا للعامل الثاني عن حصته المعينة له من زراعته، فإذا تم عقد الصلح بينهما، و حصل الإيجاب و القبول منهما انتقلت حصة كل واحد منهما من زراعته الى ملك الأخر، و حصلت المعاوضة بين الحصتين.

و من أمثلة ذلك أن يزارع مالك الأرض سعيدا و هو العامل الأول على قطعة معلومة من أرضه و يعين له حصة معلومة من حاصل زرعه لتلك القطعة، ثم يزارع عبد اللّه و هو العامل الثاني على قطعة اخرى من الأرض بحصة معينة كذلك من حاصل زرعه لهذه القطعة، فيختص كل واحد من العاملين بقطعته التي حددها له مالك الأرض، و بحصته التي عينها له من الحاصل، ثم يصالح سعيد عبد الله عن حصته من زراعة القطعة الثانية بالحصة التي يملكها سعيد من زراعته للقطعة الاولى، فتصبح بسبب الصلح الواقع بينهما حصة عبد الله من زراعته ملكا لسعيد فيقتسم حاصلها مع مالك الأرض بنسبة هذه الحصة التي ملكها بالصلح، و تصبح

كلمة التقوى،

ج 5، ص: 305

حصة سعيد من زراعته ملكا لعبد الله فيقتسم حاصلها مع المالك بهذه النسبة.

(المسألة 88):

إذا زارع مالك الأرض عاملين و لنفرضهما زيدا و عمرا على أن يزرعا له أرضه المعلومة و عين للعاملين حصة معلومة من حاصل زراعتهما للأرض تكون لهما معا: النصف من الحاصل أو الثلث أو الربع مثلا، و للمالك الحصة الأخرى منه و تم العقد بينهم على ذلك، جاز لزيد و عمرو (عاملي المزارعة) أن يقتسما الأرض التي دفعها المالك إليهما قطعتين و يختص زيد بزراعة احدى القطعتين و تكون له الحصة العينة في عقد المزارعة من حاصلها و للمالك الحصة الأخرى و يختص عمرو بزراعة القطعة الثانية و يقتسم حاصلها مع المالك- كما تقدم-

(المسألة 89):

يجوز لصاحب الأرض إذا كانت أرضه بوارا لا ينتفع بها بالفعل الا بعد علاج و تعمير و إصلاح يستمر سنة كاملة أو سنتين مثلا: أن يزارع على أرضه عاملا و يجعل للمزارعة مدة طويلة: خمس سنين مثلا أو أكثره و يشترط على العامل في ضمن العقد أن يقوم بعلاج الأرض و إصلاح خرابها سنة أو سنتين حتى تعمر و تكون صالحة للإنتاج، و يشترط على نفسه في العقد أن يكون جميع حاصل الأرض في فترة العلاج و التعمير مملوكا للعامل خاصة و لا يشاركه المالك فيه، ثم يزرعها العامل بعد تلك الفترة، فيكون الحاصل الناتح منها مشتركا بين المالك و العامل بمقدار ما يعينان لهما من الحصة، فإذا وقعت المعاملة بينهما كذلك، و تم الإيجاب و القبول عليه، صحت المزارعة، و لزم الوفاء بها على الطرفين، سواء كانت الأرض مملوكة لصاحبها أم كانت من ارض الوقف العام أو الخاص البائرة، فيجري

كلمة التقوى، ج 5، ص: 306

متولي الوقف عقد المزارعة عليها كذلك.

(المسألة 90):

ورد في الخبر عن مسمع عن الإمام ابى عبد الله (ع) قال: (لما أهبط أدم إلى الأرض احتاج الى الطعام و الشراب فشكا ذلك الى جبرئيل (ع) فقال له جبرئيل: يا أدم كن حراثا، قال فعلمني دعاء، قال: قل: (اللهم اكفني مؤنة الدنيا و كل هول دون الجنة و ألبسني العافية حتى تهنئني المعيشة)، و عن شعيب العقرقوفي عنه (ع) قال: إذا بذرت فقل: (اللهم قد بذرت و أنت الزارع فاجعله حبا متراكما)، و عن ابن بكير قال: قال أبو عبد اللّه (ع): (إذا أردت أن تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر و استقبل القبلة و قل (أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ

تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ) ثلاث مرات، ثم تقول: بل الله الزارع، ثلاث مرات، ثم قل: (اللهم اجعله حبا مباركا و ارزقنا فيه السلامة) ثم انثر القبضة التي في يدك في القراح)، و ورد عنه (ع): (إذا غرست غرسا أو نبتا فاقرأ على كل عود أو حبة: «سبحان الباعث الوارث» فإنه لا يكاد يخطئ ان شاء الله تعالى)، و عن أحدهما (ع) قال: تقول إذا غرست أو زرعت: (و مثل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي السَّمٰاءِ تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا)

كلمة التقوى، ج 5، ص: 307

الفصل الرابع في المساقاة و شروطها

(المسألة 91):

المساقاة معاملة خاصة تقع بين الرجل و شخص أخر على أن يسقى الشخص الثاني للرجل الأول أصولا ثابتة من نخيل أو شجر مدة معينة، و يتعهد تلك الأصول في تلك المدة بما تحتاج إليه عادة من الرعاية و العمل في نموها و اثمارها حتى تنتج، و على أن تكون للشخص الساقي حصة مشاعة معينة بين المتعاملين من حاصل الثمر الذي تنتجه تلك الأصول، و لا ريب في مشروعية هذه المعاملة، و صحتها إذا توفرت فيها الشروط الاتى ذكرها.

(المسألة 92):

المساقاة عقد من العقود المعروفة و المتعارفة بين الناس عامة في غالب البلاد، و ان كانت في بعض البلاد أكثر شيوعا و تعارفا بين عامة الناس في بعض الفترات من الزمان، لاحتياج السقي فيها إلى مزاولة أعمال و إتعاب لا يحتاج الى مثلها في بلاد اخرى و في أزمنة أخرى، و لا بد في صحة هذه المعاملة من الإيجاب و القبول لأنها كما ذكرنا عقد من العقود.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 308

و يكفي في صحة الإيجاب و القبول فيها أن يقعا بأي لفظ يكون ظاهر الدلالة عند أهل اللسان على المضمون الذي يريده المتعاقدان، سواء كانت دلالته بنفسه أم بقرينة موجودة تحف بالمعاملة، و سواء أنشأ المتعاملان الإيجاب القبول بينهما بصيغة الفعل الماضي، أم بالفعل المضارع أم بفعل الأمر، أم بالجملة الاسمية، أم بغير اللغة العربية من اللغات الحية التي يحسنها الطرفان إذا هما قصدا إنشاء المعنى المقصود بها، فإذا قال مالك الأصول لعامل المساقاة: سلمت إليك هذه الأصول المغروسة أو ادفع لك هذه المغروسات لتسقيها و تتعهد أمرها بالرعاية و الإصلاح و العمل فيها حتى تثمر، و لك النصف من حاصل ثمرها، أو الثلث، أو غيرهما

من الحصص المشاعة إذا اتفقا عليها، أو قال له: اسق هذه الأصول المغروسة و تعهدها بالعمل فيها و في إصلاحها حتى تنتج و تثمر و لك نصف حاصلها، و قال العامل:

قبلت المساقاة منك بالحصة التي عينتها لي من الحاصل صحت المعاملة.

و كذلك إذا كان الإيجاب من عامل المساقاة فقال لمالك الأصول: تسلمت منك هذه المغروسات لا سقيها و اعمل لك فيها حتى تثمر، ولى النصف من حاصل ثمرها و قال المالك رضيت بذلك، و مثله ما إذا أنشأ أحدهما الإيجاب بلغة غير عربية و قبل صاحبه منه الإيجاب فتصح المعاملة و تنفذ، و يمكن أن ينشأ الإيجاب باللفظ و القبول بالفعل الدال على الالتزام و الرضا بما أنشأه الموجب، و يصح بعكس ذلك فينشئ للموجب العقد بالفعل الدال على إنشاء المعنى المقصود و يكون القبول باللفظ، و يكفى أن يكون إنشاء المعاملة بالمعاطاة من الجانبين، بعد أن يعينا قبلها ما يحتاجان الى تعيينه، و يذكرا ما يحتاجان الى ذكره من الشروط، ثم تجرى المعاملة بالمعاطاة مبينة على ذلك، و قد ذكرنا نظير هذا في عقد المزارعة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 309

(المسألة 93):

يشترط في صحة المساقاة أن يكون كل من صاحب الأصول المغروسة و عامل المساقاة بالغا و أن يكون عاقلا، فلا تصح المعاملة إذا كان الطرفان فيها صبيين غير بالغين، أو مجنونين غير عاقلين، أو كان أحدهما كذلك، و يشترط في صحتها أن يكون كل من الطرفين قاصدا في إنشائه للمعنى المراد في العقد فلا تصح إذا كانا هازلين أو هازئين في قولهما أو فاقدين للقصد لسكر أو غضب شديد أو كان أحدهما كذلك، و يشترط في صحتها أن يكون كل من المتعاقدين فيها مختارا

غير مكره اكراها يسلب منه الاختيار، و ان لا يكونا محجورين لسفه يوجب عليهما الحجر في المال أو الحجر في مطلق التصرف أو يكون أحدهما كذلك، و أن لا يكون مالك الأصول محجورا عليه لفلس من المال، و لا يشترط ذلك في العامل فتصح مساقاته إذا كان مفلسا، و تلاحظ الايضاحات التي بيناها لهذه الشروط العامة في عقد المزارعة و في المعاملات الأخرى التي سبق منا ذكرها في هذه الرسالة و في كتاب الحجر منها.

(المسألة 94):

يشترط في صحة المساقاة بين الشخصين أن تكون الأصول التي يتفقان على سقايتها مملوكة لصاحبها بأعيانها و منفعتها أو مملوكة له منفعتها خاصة، أو يكون نافذ التصرف في الأصول أو في منفعتها بوكالة أو ولاية، أو بتولية مجعولة له من شخص نافذ التصرف فيها.

فلا تصح مساقاة الرجل إذا كان مالكا لأعيان الأصول المغروسة خاصة و كانت منفعة الأصول مملوكة لغيره بإجارة أو صلح أو هبة أو معاملة شرعية اخرى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 310

تنقل المنفعة عن ملكه الى غيره، فإنه لا يقدر في هذه الصورة أن يجعل حصة من منفعة الأصول لعامل المساقاة.

و تصح مساقاة الرجل على الأصول إذا كان مالكا لمنفعتها خاصة بإجارة و شبها، فإذا ساقى عاملا عليها و في له العامل بالعقد استحق الحصة المجعولة له من حاصلها، و تصح المساقاة من الرجل إذا كان نافذ التصرف في الأصول أو في المنفعة كما ذكرنا و ان لم يكن مالكا لأعيانها، و مثال ذلك: أن يكون وكيلا عن المالك أو وليا عليه كالأب أو الجد أبى الأب على مال الطفل، و كالولي الشرعي على مال اليتيم أو المجنون أو السفيه، و كالمتولي المجعول على ارض الوقف و

الوصي على الثلث و الأرض الموصى بها، و لا تصح المساقاة إذا انتفى جميع ذلك.

(المسألة 95):

يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول التي تجري المعاملة على سقايتها معينة في الخارج، فلا تصح المساقاة إذا كانت الأصول مرددة بين افراد متعدّدة منها من غير تعيين للأصول المرادة، و أن تكون معلومة عند المالك و العامل، فلا تصح المعاملة على سقي الأصول إذا كانت مجهولة عندهما أو عند أحدهما.

(المسألة 96):

يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول التي تجري المعاملة على سقيها مغروسة في الأرض، فلا تصح المعاملة على فسيل نخيل أو ودى شجر أو قضبان و أعواد لم تغرس بعد في الأرض، قالوا: و لا تصح المساقاة على أصول غير ثابتة و ان كانت مزروعة ذات جذور نابتة في الأرض، كالبطيخ و الخيار و الباذنجان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 311

و القطن و الفلفل و ما يشبه ذلك من المزروعات، و كأنهم (قدس الله أرواحهم) يريدون من الأصول الثابتة التي تقطع المساقاة عليها ما يسمى نخلا أو شجرا في نظر أهل العرف، و سنتعرض في ما يأتي لحكم هذه المزروعات الأخرى ان شاء الله تعالى، و تلاحظ المسألة المائة و السادسة، و المسألة المائة و التاسعة و ما بعدها.

(المسألة 97):

لا ينبغي الريب في أن سقى أصول النخيل و الشجر لا يمكن ضبطه عادة في زمان معين و أجل محدد منه حتى يلزم ذكره في عقد المساقاة و يجب تحديد أمده بين المتعاملين، و انما يدور ذلك مدار الحاجة إليه في وقته و في مقداره، فان من السقي ما يحتاج إليه في تثبيت الأصل بعد ما يغرس في الأرض، و في نموه بعد ذلك و في تتابع نموه حتى يشتد الأصل و يقوى، و من السقي ما يحتاج اليه لاثمار الأصول في مواقيت اثمارها و في تربية الثمر و تقويته في مواعيد ايناعه، و في انضاجه في وقت نضوجه، و كل ذلك يدور مدار الحاجة إليه في الوقت و في المقدار كما قلنا، و هي أمور تتبع العادة العامة المتبعة بين الناس و التعارف الجاري عند أهل المعرفة و الخبرة منهم و لهذا الذي بيناه

فيكفي في صحة المساقاة أن يعتمد المتعاقدان على هذه العادة الجارية بين عامة الناس و على تعارف أهل الخبرة منهم في تعيين أوقات السقي و مواعيد الحاجة اليه و مقاديره، و لا يفتقران الى تعيين مدة له أو مقدار.

و كذلك الأعمال الأخرى التي يلزم على عامل المساقاة أو على مالك الأصول أن يقوم بها في معاملة المساقاة، مثل تنقية مجاري الماء و كري النهر و شقه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 312

إذا لم يكن مشقوقا في الأرض، و حفر البئر إذا لم تكن محفورة، و تلقيح ما يحتاج الى التلقيح من الثمر، و تجريد النخيل و الشجر من السحف و الأغصان اليابسة و مثل حراثة الأرض و تسميدها إذا احتاج نمو الأصول أو نماؤها الى ذلك، و ازالة ما في الأرض من نبات أو حشائش تضر بالأصول أو بالثمار، و إصلاح مواضع جمع التمر و تصفيته و تشميسه، و إعداده للقسمة أو للنقل و البيع و ما يشبه ذلك، فان مواقيت هذه الأعمال، و مقاديرها تدور مدار تحقق الحاجة إليها، و الرجوع فيها إلى العادة العامة، و الى نظر أهل الخبرة من الناس يغني عن تعيين مدة أو مقدار لها و سنتعرض ان شاء اللّه تعالى لذكر هذه الأعمال، و ما يجب على العامل منها، و ما يجب على المالك في بعض المسائل الآتية.

و نتيجة لما تقدم ذكره فيكفي في صحة المساقاة أن يعين المتعاملان في العقد بينهما مبدأ الشروع في سقي الأصول، و أن تجعل النهاية إلى أوان بلوغ الثمر فان بلوغ الثمر أمر تحدده العادة، و يكفي في تعيينه الرجوع الى أهل الخبرة فيتعين الأمد بذلك و تصح المعاملة، و هذا إذا كانت

المساقاة الجارية بين الطرفين لعام واحد.

(المسألة 98):

قد يتعلق غرض خاص لمالك الأصول أو لعامل المساقاة في أن يكون مبدأ الشروع في المساقاة بينهما في وقت مخصوص، و أن تكون نهاية العمل فيها في وقت مخصوص كذلك و يجب في مثل هذه الفروض على المتساقيين أن يعيّنا المدة المقصودة للطرفين في بدايتها و نهايتها، فإذا لم تعين المدة بطلت المساقاة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 313

فإن المفروض انهما لم يقصد اما هو المتعارف بين الناس.

و يجب أن تكون المدة التي تعين للمساقاة كافية لأن يظهر فيها ثمر الأصول و يبلغ أوانه بحسب العادة و لا تصح المساقاة إذا كانت المدة قصيرة لا تكفي لذلك و قد سبق نظير هذا في عقد المزارعة.

(المسألة 99):

يصح أن تعقد المساقاة بين الشخصين على سقي الأصول المعلومة و أخذ الحصة المعيّنة من ثمرها سنين متعددة، خمس سنين أو عشر سنين أو أقل من ذلك أو أكثر، و يجب تحديد عدد السنين التي تراد المعاملة عليها بينهما، بحيث تكون المدة مضبوطة لا تقبل الزيادة و النقصان، فيقول مالك الأصول للعامل مثلا: سلمت إليك هذه الأصول لتسقيها و تعمل فيها عمل المساقاة و تأخذ الربع من حاصل ثمرها مدة عشر سنين من هذا الوقت، أو يقول له: عاملتك على هذه الأصول لتسقيها و تتعهد أمرها من هذا الوقت إلى نهاية بلوغ الثمر فيها من السنة العاشرة، و لك الربع من حاصل ثمرها في كل عام من جميع هذه المدة، فإذا قبل العامل المساقاة على القيود المعينة في المدة المذكورة صحت المعاملة، و لزم على الطرفين الوفاء بها ما دامت المدة باقية.

(المسألة 100):

يظهر جليا من إطلاق بعض النصوص المعتبرة: أنه يجوز لصاحب الأصول أن يدفع أصوله و شجره إلى العامل ليسقيها و يعمل فيها ما تحتاج اليه من أعمال المساقاة و يأخذ الحصة المعينة له من حاصل ثمرها في كل سنة ما دامت الأصول باقية في يد العامل من غير أن يعين لبقاء الأصول في يده مدة محدودة من الأشهر أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 314

السنين، و هذا أيضا هو الغالب و المتعارف بين العقلاء عامة في مختلف الأقطار و البلاد، فإن المألوف و المعروف في ما بينهم جميعا أن أرباب البساتين و النخيل يعاملون الفلاحين عليها من غير تحديد لمدة المعاملة، فهم يدفعون نخيلهم و أشجارهم و بساتينهم و ضيعاتهم الى الأكارين و الفلاحين ليسقوها و يعملوا فيها و يأخذوا الحصص المعينة لهم

من حاصل ثمرها في كل عام، و إذا أخذها العامل منهم بقيت الأصول في يده يسقيها و يعمل فيها عمل المساقاة و يأخذ حصته المحددة له ما دامت في يده، من غير أن يعين المالك أو العامل لذلك مدة و أجلا.

و الذي يظهر من مجموع ذلك و من الإطلاقات الواردة في هذا المجال: أن المساقاة التي تكون بين المتعاملين في هذه الموارد تجرى بينهما على نحو الانحلال في عقد المساقاة ففي كل عام معاملة مستقلة، يلتزم المالك و عامل المساقاة بأحكامها و لوازمها إذا هما بقيا على جريان المعاملة بينهما، فإذا بدا لهما أو لأحدهما في ذلك فترك المساقاة بينه و بين صاحبه باختياره لم يلزمه القيام بلوازمها و أثارها فليست المساقاة الجارية بين الطرفين مساقاة واحدة مستمرة على الدوام ليجب الوفاء بها على الدوام كذلك.

(المسألة 101):

يشترط في صحة المساقاة التي تجري بين المتعاملين أن يكون السقي و العمل الذي يقوم به عامل المساقاة مما يجدي نفعا في تقويم الأصول المساقى عليها، أو في قوة نموها أو في كثرة الثمر أو في تحسينه، و قد سبقت الإشارة منا الى ذلك في المسألة السابعة و التسعين.

و نتيجة لهذا الشرط فتصح المساقاة إذا شرع العامل بالعمل في الأرض

كلمة التقوى، ج 5، ص: 315

و بسقي الأصول بعد غرس الأصول و قبل ظهور الثمر فيها و استمر بالعمل و السقي الى أن أدرك الثمر أوان بلوغه، و تصح المساقاة إذا ابتدأ به بعد أن ظهر الثمر في الأصول و قبل أن يبلغ و استمر به الى النهاية، و يشكل الحكم بصحة المساقاة إذا شرع العامل في السقي بعد أن بلغ الثمر مبلغه، و لم يبق من الأعمال التي

يحتاج إليها غير جذاذ التمر و قطف الثمر و تصفيته و تشميسه و حفظه و نحو ذلك و لا يترك الاحتياط في هذه الصورة بالرجوع إلى المصالحة و التراضي بين الطرفين.

(المسألة 102):

يشترط في صحة المساقاة أن تجعل في العقد لعامل المساقاة حصة معينة من حاصل ثمر الأصول، و المراد بذلك أن تجعل له من مجموع الحاصل حصة مقدرة بكسر معلوم: النصف منه أو الثلث أو غيرهما من الكسور المعلومة، فلا تصح المساقاة إذا جعل له مقدار خاص مائة منّ من الثمر مثلا ليكون ذلك المقدار نصيبه في المساقاة و يكون للمالك باقي الثمر، و يشترط في صحتها أن تكون الحصة المعيّنة للعامل مشاعة في جميع الثمر و يكون جميع الحاصل مشتركا على نحو الإشاعة بين الطرفين، فلا تصح المساقاة إذا عيّنت للعامل فيها ثمرة أشجار أو نخيل معلومة فكانت ثمار تلك الأشجار أو النخيل حصته في المساقاة و للمالك بقية الحاصل، و لا تصح المساقاة إذا جعل فيها جميع ما يحصل من ثمر، الأصول ملكا للمالك أو للعامل خاصة، و ان شرط عليه في العقد أن يدفع لصاحبه مبلغا معينا من المال، من جنس الحاصل أو من غيره.

(المسألة 103):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 316

يجوز أن تجرى معاملة المساقاة بين الرجلين على الوجه الصحيح الذي ذكرناه فيكون حاصل الثمر مشتركا بين الطرفين، و تكون للعامل منهما حصته المعينة له المشاعة من الحاصل، و يشترط مالك الأصول أو عامل المساقاة في ضمن العقد أن يختص بأشجار أو نخيل معلومة من الأصول المساقى عليها فيكون ثمرها له خاصة، و يكون الاشتراك بين الجانبين و الحصة لصاحبه في بقية الثمر فتصح المعاملة و ينفذ الشرط إذا قبل به الطرفان.

و يجوز لأحدهما أن يشترط لنفسه في ضمن العقد أن يكون له مقدار معلوم من المال من جنس الحاصل أو من غير جنسه يختص بهذا المقدار دون صاحبه و يكون الاشتراك بينه

و بين صاحبه في الباقي بعد إخراج ذلك المقدار، و يقسم عليهما بحسب الحصة المعيّنة، فتصح المعاملة كذلك، و ينفذ الشرط إذا قبل به الطرفان و هذا إذا علم أن الثمر أكثر من المقدار الذي عيّنه المشترط منهما لنفسه بحيث تبقى بعد إخراجه بقية يشترك فيها الطرفان و يقتسم بينهما بحسب الحصة المعينة في العقد.

(المسألة 104):

سبقت الإشارة منا في المسألة السابعة و التسعين إلى أعمال كثيرة يحتاج إليها في إصلاح النخيل و الأشجار و البساتين لتنمية الأصول المغروسة في الأرض و تقوية نموّها، و زيادة ثمرها و تحسينه و صيانته من الآفات المضرّات، و حفظه من السراق و مؤثرات البيئة من حرّ و برد و مطر و رطوبة و غير ذلك، حتى يستكمل الغاية المطلوبة من المساقاة، غير سقي الأصول بالماء و تعهّدها بالري الكامل حتى تثمر و تنتج.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 317

فمن الاعمال ما بعد من شؤون السقي و مقدماته، مثل حفر البئر في الأرض أو استنباط العين فيها أو إخراج البئر الارتوازى، و شق النهر أو القناة و اعداد السواقي و المجاري للماء، و مثل جعل الناعور و الدولاب و اعداد الحبال و الدلاء و الدواب، أو نصب المكائن التي تجذب الماء، و مثل بناء الحياض و المخازن التي يجتمع فيها الماء ثم يقسم على أبعاض الأرض و أطرافها ليعم الأصول التي يجب سقيها.

و من الأعمال ما يعدّ من توابع السقي و متمماته مثل تنقية السواقي التي توصل الماء إلى الأصول، أو تخرج الفضلات و الاملاح عنها بعد السقي، و مثل كري النهر و تعمير البئر و العين إذا احتاجا إلى الإصلاح و التعمير.

و منها ما يكون لغير ذلك مثل تسوير الضيعة

و البستان، و حراثة الأرض و تمهيدها لتثبت فيها الجذور و الغراس، و تسميدها و ازالة الحشائش و النبات الغريب الذي يضر بالأرض أو بالأصول، و مكافحة الآفات و الطواري التي تقلل الثمر أو تتلفه أو تضعفه، و مثل اعداد مواضع التشميس للثمر الذي يحتاج الى التشميس، و التصفية و التنقية من الحشف أو الثمار المتغيرة أو المتعفنة أو المعيبة و تهيئة أماكن الحفظ للثمار من السرقة و من طوارئ الحر و البر و المطر و غيرها حتى تتم قسمتها أو نقلها و بيعها.

و لا بد من النظر و الملاحظة في هذه الأعمال التي ذكرناها، فان ثبت في بعضها اعتياد عام بين العقلاء و أهل العرف من البلد، أو تعارف يوجب الانصراف في العقد، و يعين بموجبه أن ذلك العمل مما يلزم على المالك خاصة أن يقوم به أو مما يلزم على العامل خاصة وجب اتباع هذا الانصراف في عقد المساقاة و كان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 318

قرينة عامة على ارادته و لزومه، و ان لم يثبت الانصراف المذكور وجب على المتعاملين أن يعيّنا في ضمن العقد بينهما ما على المالك من هذه الاعمال و ما على العامل، و إذا لم يعيّنا شيئا بطلت المساقاة.

(المسألة 105):

تصح المساقاة بين المالك و العامل على أشجار لا تنتج ثمرا إذا كانت الأشجار مما ينتفع بورقه انتفاعا يعتد به بين الناس، و ينتج حاصلا يرغب فيه العقلاء كشجر الحناء، و كالتوت الذكر يطلب و رقه ليأكله دود القز، و كشجر الورد ينتفع بورده فيصعّد منه ماء الورد و يستخرج منه عطر الورد، و يطلب لغير ذلك من الغايات، و كبعض الأشجار التي يستحضر من ورقها أو من زهرها

أو من حبّها بعض الأدوية النافعة في علم الصيدلة لعلاج بعض الأمراض، فإذا شاعت و تعارف استعمالها لذلك، حتى أصبح نتاجا لها و حاصلا متعارفا بين أهل البلاد صحت المساقاة على تلك الأشجار لتلك الغايات.

و لا تصح المساقاة على أشجار لا ثمر لها و لا ينتفع منها بورق و لا ورد و لا غيره، كشجر الخلاف و الصفصاف و الأثل و ما يشبهها.

(المسألة 106):

يشكل الحكم بجريان عقد المساقاة المصطلحة بين الفقهاء (قدس اللّه أنفسهم) على سقي أصول غير ثابتة في نظر أهل العرف و ان كان مزروعة نابتة الجذور في الأرض كالبطيخ و الخيار و اليقطين و الباذنجان و الفلفل و القطن و ما يشبه ذلك، و ان كان القول بجريان المساقاة فيها لا يخلو من قرب، و الأحوط للمتعاقدين إذا أرادا اجراء المعاملة في مثل هذه المزروعات أن ينشئاها على انها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 319

معاملة مستقلة غير المساقاة و المعاملات الأخرى، فتشملها العمومات على الأصح و يجب الوفاء بها.

(المسألة 107):

يجوز إنشاء عقد المساقاة على أشجار أو نخيل غير محتاجة إلى سقي من العامل أصلا لأنها تكتفي من الري بماء السماء، أو بمصّ جذورها مما ينز من مياه الأرض أو من الأنهار القريبة أو بارتفاع مدّ الماء إذا كانت في بلاد يتعاقب فيها المدّ و الجزر، و لكنها تحتاج الى تعهد بأعمال أخرى من أعمال المساقاة تزيد في نمو الأصول أو في ثمرها أو غير ذلك مما تحتاج إليه الأصول عادة، فإذا أوقع المالك مع العامل عليها عقد المساقاة لذلك صح العقد، و وجب على العامل أن يقوم بالأعمال التي تحتاج إليها حسب ما يشترطه المالك عليه أو حسب ما تلزم به العادة المتبعة في البلد، فإذا قام بذلك استحق الحصة المعيّنة له من الحاصل و أن لم يسق الأصول بالماء حتى مرة واحدة و تراجع المسألة المائة و الثانية و العشرون.

(المسألة 108):

لا يعتبر في صحة المساقاة أن تكون الأصول المساقى عليها مما تثمر بالفعل، فإذا غرس المالك في أرضه فسيل نخيل أو ودى شجر، و ثبتت جذورها في الأرض صح له أن يعامل أحدا على سقيها و العمل فيها حتى تنمو و تثمر، و يجب في هذا الفرض أن يجعل للمساقاة عليها مدة معلومة تكون فيها الأصول مثمرة بالفعل، فيعين للمساقاة على فسيل النخيل مدة ست سنين أو أكثر و يعين للمساقاة على ودي الشجر مدة تكفى لذلك، و لا تصح المساقاة إذا لم تعيّن لها مدة، أو كانت المدة التي عينها قليلة لا تكفى لذلك، و إذا عيّن لها مدة كافية صحت المساقاة، و ان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 320

اتفق أن الأصول لم تثمر في تلك المدة الإمرة واحدة، و الظاهر عدم

الصحة إذا اتفق أنها لم تثمر في المدة حتى مرة واحدة.

(المسألة 109):

لا تصح المساقاة على فسيل نخيل أو ودى شجر لم يغرس بعد في الأرض و ان عينت للمعاملة عليه مدة طويلة تكفى عادة لغرس الفسيل و الودي و لنموه و اثماره، إذا أوقع المعاملة عليها كانت باطلة.

و إذا دفع مالك النخيل أو البستان نخيله أو شجره الثابتة الموجودة بالفعل الى عامل ليسقيها له و يعمل فيها بحصة معلومة من حاصل ثمرها صحت المساقاة على الأصول المعلومة الثابتة بالفعل، فإذا كان للنخيل و الشجر المدفوع إليه فسيل أو ودي لم يغرس بعد لم تشمله مساقاة أصوله، و إذا غرسه العامل أو المالك حتى ثبت في الأرض أمكن للمتعاقدين أن يجريا على هذا الغراس مساقاة أخرى تختص به، و أمكن لهما أن يتقايلا فيفسخا معاملتهما الأولى، و ينشئا مساقاة جديدة تشمل الجميع.

و إذا كانت المساقاة الأولى التي أنشئت بينهما كانت على سقي الأصول الثابتة في البستان، و لم يقيدها بالموجودة منها بالفعل شملت المساقاة الأولى هذه الأصول الجديدة، بالتبع بعد غرسها، و ثباتها فيجب على العامل سقيها و يستحق الحصة من حاصلها مع بقية حاصل البستان.

(المسألة 110):

يصح للمالك و العامل أن ينشئا ما بينهما في الفسيل و الودي الموجود غير المغروس معاملة مستقلة عن سائر العقود و المعاملات، يلتزم العامل فيها للمالك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 321

بان يغرس له الفسيل و الودي في أرضه و يسقيه حتى يثبت و يؤتي ثمره، و تكون للعامل حصة معلومة من حاصل ثمره، و يتم على الإيجاب و القبول من المتعاقدين، فتصح هذه المعاملة و يلزمها الوفاء بها، و لا تكون من المساقاة المصطلحة بين الفقهاء.

(المسألة 111):

إذا كانت الأرض أو البستان الذي يملكه الرجل يحتوي على أنواع عديدة من الأصول المغروسة، ففيه النخيل و فيه الكرم و شجر الرمان و التفاح و بعض الفواكه الأخرى، جاز لمالك البستان أو الأرض أن يساقي العامل على سقي جميع ما فيه من النخيل و الأشجار المختلفة و يجعل له في عقد المساقاة حصة معينة واحدة من حاصل جميع ما ينتجه البستان من مختلف أنواع الأصول و الشجر فيه، فيقول للعامل: سلمت إليك هذا البستان لتسقى ما فيه من النخيل و الأشجار المختلفة و تقوم فيه بعمل المساقاة الذي يحتاج إليه عادة، و لك الربع مثلا من جميع ما تنتجه النخيل و الشجر من التمر و الثمار المختلفة، فإذا قبل العامل إيجابه صحت المساقاة و لزم الطرفين الوفاء بها.

و لا يشترط في هذه الصورة أن يعلم العامل و لا المالك بمقدار كلّ نوع من الأنواع الموجودة في البستان على الانفراد، و لا يشترط فيها أن يعلم بعدد ما في البستان من النخيل و الشجر الذي تجرى المعاملة و استحقاق الحصة من نتاجه، بل يكفي في الصحة أن يكون الجميع مشاهدا معلوما على وجه الاجمال لكل من الجانبين.

(المسألة 112):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 322

و يصح لمالك البستان الذي ذكرناه في المسألة الماضية أن ينشئ العقد مع عامل المساقاة على سقى جميع أصوله و تعهدها بالأعمال التي تحتاج إليها في مثل هذه المساقاة و تعين له حصصا مختلفة باختلاف الأنواع الموجودة في البستان، فيقول له: اسق نخيل هذا البستان، و أشجاره الموجودة فيه و تعهد أمرها بما تحتاج اليه من الأعمال و الرعاية، و لك الربع من ثمر النخيل، و الثلث من حاصل العنب، و النصف من

الرمان و بقية الفواكه الموجودة في البستان، فتصح المعاملة على ذلك إذا قبلها العامل، و الظاهر أنه يشترط في صحة المساقاة في هذه الصورة أن يعلم الطرفان بمقدار كلّ نوع من الأنواع الموجودة في البستان على انفراده و لا يكفي أن يعلم بمقدار الجميع.

(المسألة 113):

يجوز لمالك الأصول أن يساقى العامل على احد وجهين معلومين ليختار العامل أي الوجهين أراده، و يجعل له حصة معيّنة من الحاصل إذا اختار أحد الوجهين، و يجعل له حصة معينة غيرها أقلّ من الأولى أو أكثر إذا هو اختار الوجه الثاني، فيقول للعامل: عاملتك على أن تسقي هذه الأصول و تعمل في سقايتها و رعايتها بما تحتاج اليه من الأعمال المطلوبة عادة في المساقاة، فإن سقيتها بالناضح أو بالمكينة فلك النصف تاما مما تنتجه الأصول من الحاصل و الثمر، و ان سقيتها سيحا فلك الثلث فقط من الحاصل، فإذا قبل العامل منه ذلك صح العقد و تخير بين الوجهين المذكورين فإذا سقى الأصول على الوجه الأول استحق النصف من الحاصل، و إذا سقاها على الوجه الثاني استحق الثلث منه، و يكون ذلك من الأمر على وجه التخيير، فيلتزم عامل المساقاة للمالك بأن يأتي له بأحد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 323

الفردين، و يلتزم مالك الأصول للعامل بالحصة التي عيّنها له على الفرد الذي يختاره منهما، و لا يكون ذلك من العقد على أمر مردد فيكون باطلا كما يراه بعض الأكابر، و قد سبق نظير هذا في كتاب الإجارة.

(المسألة 114):

يصح أن يكون مالك الأصول في عقد المساقاة واحدا و يكون العامل متعددا، فيقول المالك للعاملين: اسقيا لي هذه الأصول و اعمل فيها بما يصلحها و يثمرها و يصلح ثمرها على ما جرت به العادة بين عمال المساقاة، و لكما الربع مثلا من جميع ما يحصل من ثمرها، ولي ثلاثة أرباعه فإذا قبل العاملان منه إيجابه صح العقد و لزم الجميع الوفاء به، سواء اتفق العاملان بينهما على أن يقتسما الحصة التي عيّنها المالك لهما و

هي الربع بالتساوي فيكون لكل واحد منهما نصف الحصة و هو ثمن الحاصل، أم اتفقا على أن يقتسما الحصة، بينهما بالتفاوت و سواء علم المالك بمقدار ما يأخذه كل واحد منهما من حصة العامل أم لم يعلم فتصح المساقاة و يلزم الوفاء بها بعد أن علم الجميع بمقدار حصة العاملين معا و بمقدار حصة المالك من مجموع الحاصل، و كذلك إذا جعل للعاملين الثلث أو النصف أو غير ذلك من الحصص و له الباقي فيتبع ما عين في العقد.

(المسألة 115):

إذا ساقى مالك الأصول على نخيله و شجره عاملين كما فرضتا في المسألة السابقة و اتفق المالك مع العاملين على أن يختص أحدهما ببعض أعمال المساقاة فيأتي به مستقلا عن صاحبه و ينفرد العامل الثاني بالأعمال الأخرى منها أو يشترك فيه مع الأول، وجب أن يذكر ذلك في ضمن العقد، و إذا عيّنه كذلك وجب اتباعه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 324

حسب ما عين و اشترط، و إذا ذكر الأعمال و لم يشترط عليهما الانفراد أو الاشتراك فيها جاز للعاملين أن يقتسما العمل بينهما حسب ما يريدان، سواء علم المالك بذلك أم لم يعلم.

(المسألة 116):

يمكن أن يتعدد المالك للأصول و يتحد العامل في المساقاة، و مثال ذلك أن تكون النخيل و الشجر في الضيعة أو البستان مملوكة لشريكين أو أكثر، فيساقون على أصولهم المشتركة بينهم عاملا واحدا، فيقول له أحد الشركاء فيها بالأصالة عن نفسه و بالوكالة عن شركائه أو يقول له الوكيل عنهم: اسق هذه الأصول الثابتة و قم بأعمال المساقاة فيها و في الأرض، و لك الربع مثلا من جميع ما تنتجه الأصول من الثمر، فإذا قبل العامل إيجابه صحت المعاملة و تثبت له الحصة المعينة سواء تساوى الشركاء في مقدار ما يملكونه من الأصول أم تفاوتوا فيه، و لا يشترط في صحة المساقاة في هذه الصورة أن يعلم العامل بمقدار ما لكلّ واحد من الشركاء في الأصول.

و يجوز أن تختلف الحصة التي تجعل للعامل باختلاف الشركاء فيقول الشريك للعامل: اسق هذه الأصول المشتركة بيني و بين زيد و قم بأعمال المساقاة فيها، و لك الثلث من حاصل الثمر مما أملكه انا من هذه الأصول، و لك الربع فقط من حاصل الثمر في

حصة زيد منها، فإذا قبل العامل منه الإيجاب صحت المعاملة و نفذت، و يشترط في صحة المعاملة في هذه الصورة أن يكون العامل عالما بمقدار ما يملكه كلّ واحد من الشريكين في الأصول، فإن المفروض ان حصة العامل من الثمر تختلف باختلاف مقدار حصتي المالكين من الأصول و هذا واضح.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 325

(المسألة 117):

يصح أن يتعدد مالك الأصول المساقى عليها بأن تكون مشتركة بين مالكين أو أكثر، و أن يتعدد عامل المساقاة كذلك، فيساقى الشريكان في الأصول عاملين أو أكثر فيقول احد المالكين على النهج الذي قدمنا ذكره للعاملين: اسقيا هذه الأصول المشتركة ما بيننا و تعهّدا أمرها بالأعمال التي تحتاج إليها المساقاة عادة، و لكما الربع أو الثلث من حاصل الأصول و ثمرها، فتصح المساقاة و تلزم، إذا قبل العاملان إيجاب الموجب و تجري فيها الفروض و الأحكام التي فصلناها في المسائل المتقدمة قريبا.

(المسألة 118):

يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول المساقى عليها قابلة للاثمار و الإنتاج، فلا تصح المساقاة عليها إذا كانت غير قابلة لذلك لطول بقاء أو جفاف عروق أو يبس أغصان، أو لغير ذلك من موانع الإنتاج، سواء كانت غير قابلة له من أول الأمر و من حين اجراء العقد، أم عرض ذلك لها في أثناء مدة المساقاة فأصبحت غير صالحة، و هذا إذا لم يمكن علاجها و إصلاحها حتى ينتفع بها، فإذا أمكن ذلك صحت المساقاة عليها، و اتبع الشرط بين المتعاقدين في لزوم العلاج و الإصلاح على المالك أو العامل.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 326

الفصل الخامس في أحكام عقد المساقاة

(المسألة 119):

المساقاة عقد من العقود اللازمة فلا يبطل و لا ينفسخ إذا تم إنشاؤه و اجتمعت شروط الصحة فيه، الا إذا اتفق المتعاقدان، فأقال أحدهما صاحبه، أو ثبت لواحد منهما أو لكليهما خيار الشرط، فيجوز لمن ثبت له الخيار أن يأخذ بحقه، فيفسخ العقد في الوقت الذي شرط لنفسه فيه الخيار، أو عند حصول الشي ء الذي اشترط لنفسه الخيار عند حصوله، أو كان له خيار الفسخ شرعا لتخلف شرط قد اشترطه في ضمن العقد على صاحبه، أو لوجود غبن عليه في المعاملة الجارية بينهما، أو لسبب أخر من موجبات الخيار شرعا حسب ما فصلناه في مبحث الخيارات من كتاب التجارة، و تبطل أيضا عند طروء مانع عام يوجب عدم القدرة، و قد تقدم ذكر هذه الموجبات للبطلان أو الفسخ في أكثر العقود اللازمة التي ذكرناها في هذه الرسالة، فليرجع إليها من يريد المزيد من التوضيح.

(المسألة 120):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 327

إذا جرى عقد المساقاة بين مالك الأصول و عامل المساقاة على الوجه التام وجب عليهما الوفاء بالعقد حسب ما حصل عليه الاتفاق بينهما، و لزم على العامل أن يقوم بالعمل من سقى للأصول و غيره، و لا يتحتم عليه أن يتولى القيام بالأعمال اللازمة في المعاملة بنفسه، فيصح له أن يستأجر أجيرا لسقي الأصول لبعض الاعمال اللازمة الأخرى من تلقيح ثمرة و جذاذ تمر و قطف فاكهة و نحو ذلك، بل و يجوز له ان يستأجر من يقوم بجميع أعمال المساقاة و إذا استأجر من يقوم له ببعض الأعمال أو بجميعها، فالأجرة عليه لا على مالك الأصول، و هو واضح.

و إذا اشترط المالك على العامل أن يتولى بعض الأعمال المعينة بنفسه بنحو المباشرة، أو اشترط عليه

أن يتولى جميع أعمال المساقاة كذلك، وجب على العامل أن يفي بما شرط عليه، و لم يجز له أن يستأجر غيره أو يستنيبه للعمل الذي شرط عليه المباشرة فيه.

(المسألة 121):

إذا تبرع رجل عن عامل المساقاة فقام بسقي النخيل و الشجر و أتى بأعمال المساقاة اللازمة على العامل، و قصد بفعله التبرع للعامل بفعل ما وجب عليه، كفى ذلك في وفاء العامل بالعقد و استحق بفعل المتبرع الحصة التي عيّنها له المالك من الثمر، إلا إذا كان المالك قد اشترط على العامل أن يتولى السقاية و العمل بنفسه، فلا يكفيه تبرع ذلك الشخص مع هذا الشرط.

و كذلك إذا أتى ذلك الشخص الثالث بعمل المساقاة لنفسه و لم يقصد بفعله التبرع عن العامل، فلا يستحق العامل الحصة بذلك، و لا يستحقها الشخص الثالث و كذا إذا قام الشخص الثالث بالعمل و قصد به التبرع لمالك الأصول بسقي نخيله

كلمة التقوى، ج 5، ص: 328

و شجره و العمل فيها لبعض الغايات و الأغراض الخاصة، فلا يستحق العامل الحصة المعيّنة له في عقد المساقاة و لا يستحقها ذلك الشخص الثالث المتبرع.

(المسألة 122):

إذا دفع المالك نخيله و شجره إلى العامل ليسقيها بالماء حتى تثمر، و عيّن له بذلك حصة خاصة من حاصل ثمرها، و لم يذكر في العقد أي عمل أخر غير السقي من أعمال المساقاة و لم توجد قرينة خاصة و لا عامة على إرادة شي ء من هذه الأعمال، ثم اتفق أن استغنت الأصول عن سقاية العامل مطلقا، فقد اكتفت عنها بماء المطر الغزير، أو بجريان بعض العيون الدافقة أو بماء المدّ، فلم يسقها العامل ابدا حتى أثمرت، لم يستحق العامل الحصة التي عيّنت له من حاصلها، فإنه لم يسق الأصول، و لم يأت بشي ء من عمل المساقاة كما فرضناه، و ان هو أتى بشي ء من الاعمال فهو متبرع به لا يستحق عليه حصة بمقتضى عقد المساقاة، و

تلاحظ المسألة المائة و السابعة.

(المسألة 123):

إذا وقع الاتفاق بين الشخصين على المساقاة و جرى العقد بينهما على الوجه الجامع لشرائط الصحة ثبت العقد و لزم الوفاء به، و لم يبطل بموت أحد المتعاقدين، بل يقوم وارث الميت منهما مقام مورثه في تطبيق الاحكام على النهج الذي يأتي تفصيله.

فإذا مات مالك الأصول و بقي العامل وجب على ورثة المالك الميت أن يمكّنوا العامل من الأصول المساقي عليها ليقوم بعمل المساقاة فيها من سقاية و رعاية و لا يجوز لهم منعه من ذلك فإذا قام بالعمل و أثمرت الأصول استحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 329

العامل حصته المعينة له من حاصل الثمر، فإذا طلب منهم قسمة الحاصل قاسموه و دفعوا له حصته.

و إذا مات عامل المساقاة و بقي مالك الأصول قام وارث العامل الميت مقام مورثه، فإذا اختار أن يقوم بعمل المساقاة بنفسه بعد موت مورثه جاز له ذلك و أتم مالك الأصول معه معاملة المساقاة، و إذا اختار وارث العامل أن يستأجر شخصا غيره ليقوم بالعمل جاز له ذلك، و لم يجبره مالك الأصول على أن يعمل فيها بنفسه فإذا استأجر أجيرا و قام الأجير بالعمل حتى أتمه صح ذلك و لزمته الأجرة في ماله و استحق الحصة المعيّنة في عقد المساقاة لمورثه.

و إذا امتنع وارث العامل بعد موت مورثه فلم يعمل بنفسه و لم يستأجر أجيرا ليعمل عنه، قام الحاكم الشرعي بما يلزم فاستأجر من تركة العامل الميت أجيرا يقوم بالعمل في الأصول المساقى عليها حتى يبلغ الثمر، فإذا أتم الأجير عمله تولى الحاكم قسمة الحاصل بين مالك الأصول و وارث العامل و دفع لكل واحد منهما حصته.

(المسألة 124):

إذا مات عامل المساقاة و كان مالك الأصول قد اشترط على العامل

في ضمن العقد الجاري بينهما أن يتولى عمل المساقاة بنفسه، فان كان اشتراطه لذلك بنحو التقييد للمساقاة و وحدة المطلوب فيها بطلت المساقاة بموت العامل، فان وارث العامل لا يقدر على تأدية عمل المساقاة بنفسه و لا باستئجار غيره بسبب القيد المذكور.

و ان كان اشتراطه لذلك بنحو تعدد المطلوب تخير مالك الأصول بعد موت

كلمة التقوى، ج 5، ص: 330

العامل بين أن يفسخ المعاملة لتخلف شرطه فإذا فسخها بطلت و ارتفعت لوازمها و أحكامها، و أن يسقط حقه من الشرط المذكور و يرضى من وراث العامل بان يتولى عمل المساقاة بنفسه أو يستأجر أجيرا يقوم به، و ليس للمالك أن يجبر الوارث على أحدهما، بل يكون مخيرا بينهما.

(المسألة 125):

إذا شرط المتعاملان في عقد المساقاة أن تكون جميع الاعمال فيها على مالك الأصول من سقى و غيره و لا شي ء منها على العامل فلا ريب في بطلان هذه المعاملة من أصلها، فإن العامل في هذا الفرض لا يقوم بأي عمل حتى يستحق عليه حصة من الثمر و إذا قام بشي ء منها فهو متبرع بفعله لا يستحق عليه عوضا.

(المسألة 126):

إذا شرط المتعاقدان في المساقاة بينهما أن يقوم العامل ببعض الأعمال المعيّنة و كانت الأعمال التي اشترطت عليه مما توجب الزيادة في مقدار الثمر أو مما توجب صلاح الثمرة و تحسينها، و أن يكون باقي الأعمال كلّها على مالك الأصول، فالظاهر صحة المعاملة و نفوذها فيجب على كل واحد من المتعاقدين أن يفي بما شرط عليه، و إذا قام العامل بما شرط عليه من الأعمال استحق حصته المعيّنة له من الحاصل.

(المسألة 127):

إذا شرط المتعاقدان في المعاملة الجارية بينهما على العامل أعمالا خاصة و كانت الأعمال المشترطة عليه لا توجب زيادة في مقدار الثمر و لا صلاحا أو حسنا فيه، مثل جذاذ الثمر و قطف التمر و جمعه و حفظه من السّراق حتى تتم

كلمة التقوى، ج 5، ص: 331

قسمته و نقله، و أن تكون بقية الأعمال كلها على مالك الأصول، حتى الأعمال التي تزيد في الثمر و في صلاحه و في نمو الأصول و ثباتها، أشكل الحكم بصحة المساقاة في هذه الصورة، و لا يترك الاحتياط بالرجوع فيها إلى المصالحة و التراضي بين الطرفين، و كذلك إذا وقعت المساقاة بين الطرفين بعد أن إدراك الثمر في الأصول و تم بلوغه، و لم يبق من الأعمال للعامل الا مثل جذاذ التمر و قطف الثمار و جمع الحاصل و حفظه فلا يترك الاحتياط الذي ذكرناه في الفرض السابق.

(المسألة 128):

إذا شرط مالك الأصول على عامل المساقاة في ضمن العقد أن يأتي ببعض الأعمال المعيّنة، و كان شرطه عليه بنحو تعدد المطلوب في المعاملة و ليس على نحو التقييد فيها، ثم ترك العامل ذلك العمل الذي شرطه المالك عليه، جاز للمالك إجبار العامل على الإتيان به إذا كان وقت العمل لا يزال باقيا و لم يفت، فان لم يستطع إجباره على فعله، أو كان العمل قد فات وقته، جاز للمالك أن يفسخ عقد المساقاة لتخلف الشرط الذي أخذه على العامل، و لا يحق للمالك أن يترك فسخ المعاملة و يطالب العامل بأجرة ذلك العمل الذي تركه، سواء كان العمل الذي اشترطه المالك مما يتعلق بالمساقاة، كما إذا اشترط عليه أن ينظف السواقي التي يجرى فيها الماء إلى الأصول، أو يكافح

بعض الآفات التي تضرّ بالثمر، أم كان العمل زائدا لا يتعلق بالمساقاة نفسها، كما إذا شرط عليه أن يخيط له ثوبا أو يصوم عن أبيه أياما، و سنتعرض لحكم المساقاة إذا خالف العامل فترك بعض قيودها و الأعمال المعتبرة فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 332

(المسألة 129):

إذا اشترط العامل في ضمن عقد المساقاة أن يكون جميع ما يحصل من ثمر الأصول للعامل نفسه و لا يكون منه لمالك الأصول شي ء كانت المعاملة باطلة و كان جميع الثمر و النتاج لمالك الأصول، لأنه نماء ما يملكه فيكون تابعا له، و إذا قام العامل بعمل المساقاة أو ببعضه استحق أجرة المثل بمقدار ما عمل.

و كذلك إذا اشترط في العقد أن يكون جميع الحاصل من الثمر لمالك الأصول، و لا يكون لعامل المساقاة منه شي ء، فتبطل المساقاة بهذا الشرط و يكون الحاصل كله لمالك الأصول لأنه نماء ما يملكه فيكون تابعا له كما قلنا، و ليس ذلك للعمل بالشرط، و الظاهر ان العامل في هذه الصورة لا يستحق شيئا على عمله، فإنه قد دخل في المساقاة و قام بالعمل على شرط أن لا تكون له حصة فهو كالمتبرع بعمله، و لا ينبغي ترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة و التراضي بين الطرفين.

(المسألة 130):

يجوز أن يشترط في عقد المساقاة أن يكون لمالك الأصول مقدار معلوم من الذهب أو الفضة أو غيرهما زائدا على حصته المعينة له في المعاملة من حاصل الثمر، و يجوز أن يشترط ذلك لعامل المساقاة، فإذا اشترط مالك الأصول ذلك لنفسه و قبل العامل بشرطه، أو شرطه العامل لنفسه و قبل به المالك صح الشرط و وجب الوفاء به.

قالوا: و يكره أن يشترط المالك لنفسه على العامل شيئا من الذهب أو الفضة و لم يدل على كراهة ذلك دليل سوى ما نقله بعضهم من الإجماع عليها، و على أي حال فلا كراهة في أن يشترط المالك لنفسه شيئا غير الذهب و الفضة، و لا كراهة في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 333

أن يشترط

العامل لنفسه ذهبا أو فضة أو غيرهما على مالك الأصول.

(المسألة 131):

إذا اشترط مالك الأصول لنفسه على العامل أن يكون له من الحاصل مقدار من الذهب أو من الفضة أو من غيرهما زائدا على ما يستحقه من الحصة المعينة له في عقد المساقاة، أو اشترط العامل لنفسه مثل هذا الشرط على مالك الأصول، ثم اتفق أن حالت الأصول كلّها في ذلك العام فلم تخرج ثمرا أصلا، بطل عقد المساقاة الواقع بينهما من أصله، و سقط الشرط الذي شرطه المالك أو العامل، فقد ظهر أنه شرط وقع في ضمن عقد فاسد، فلا يجب الوفاء به، و إذا اشترط أحد المتعاقدين ذلك الشرط في ضمن العقد، ثم اتفق أن حال بعض الأصول المساقى عليها: نصفها أو ثلثها أو ربعها مثلا فلم يثمر شيئا في ذلك العام، بطلت المساقاة بين المتعاقدين في ذلك البعض الذي لم يثمر، و صحت و لم تبطل في البعض لآخر الذي أثمر فيستحق كل واحد من المالك و العامل حصته المعيّنة له من ثمرة ذلك البعض.

و الظاهر أن شرط المقدار من الذهب أو الفضة للمالك أو العامل يسقط في هذه الصورة أيضا كما سقط في الصورة السابقة، فلا يستحق المشترط شيئا من المقدار لا من البعض الحائل من الشجر و لا من البعض الذي أثمر، فان المنصرف اليه من مثل هذا الشرط أن الشارط انما يشترطه في المعاملة الجارية في جميع الأصول، و لا يجري في المعاملة المبعضة التي يبطل بعضها و يبقى بعضها.

و إذا كان الحائل من الأصول قليلا لا يعتنى به عند العقلاء لقلته كالشجرة الواحدة و الشجرتين، بل و الثلاث و الأربع من الشجر الكثير المثمر في البستان الكبير لم تبطل

به المساقاة، و لم يسقط الشرط فان من المعتاد و المتعارف أن تحيل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 334

الشجرة و الشجرتان و الثلاث من مجموع الشجر الكثير فلا تثمر، و لا يضر عدم اثمارها في صحة عقد المساقاة.

(المسألة 132):

إذا شرط مالك الشجر لنفسه على عامل المساقاة أن يكون له مقدار من المال زائدا على حصته في المعاملة، أو شرط العامل ذلك لنفسه على المالك كما فرضنا في المسألة السابقة و ظهر الثمر في الشجر تاما، ثم اتفق بعد ذلك أن تلفت الثمرة كلها و لم يبق منها شي ء، لم يبطل عقد المساقاة بتلفها بعد ظهورها، فان العامل قد ملك حصته من الحاصل بظهور الثمرة و سيأتي توضيح ذلك قريبا ان شاء اللّه تعالى و كذلك حصة مالك الأصول من الثمرة، فقد تعينت له بالظهور، و بذلك تصح المعاملة و تتم المعاوضة، و التلف الذي يحدث بعد ذلك يطرأ على كل من حصة العامل و حصة المالك بعد أن ملكها صحبها الذي عيّنت له في العقد، و يكون تلف كل حصة منهما من مال صاحبها، و لا سبب يوجب فساد العقد، و إذا صح العقد كما بيّنا صح الشرط الواقع في ضمنه و وجب الوفاء به، و يستثنى من ذلك ما إذا كان الشارط منهما أو صاحبه قد قيّد الشرط بما إذا سلمت الثمرة كلها و لم يتلف منها شي ء، فيجب في هذه الصورة أن يتبع الشرط حسب ما جعل و قيّد في ضمن العقد بين المتعاملين، و يسقط الشرط إذا تلفت الثمرة.

و كذلك الحكم إذا تلف البعض المعتد به من الثمرة بعد ظهورها، فلا تبطل المعاملة و لا يسقط الشرط بتلفه، إلا إذا كان الشرط

مقيدا بعدم تلف الثمرة و عدم تلف البعض المعتد به منها، و يتبع في ثبوت التقييد المذكور تصريح المتعاقدين به أو وجود القرينة الخاصة أو العامة التي تدل عليه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 335

(المسألة 133):

إذا أنشأ المالك عقد المساقاة بينه و بين العامل على أن يسقى له شجره و نخيله التي دفعها اليه، و يعمل فيها عمل المساقاة، و جعل له حصة معلومة من حاصل الثمر، و جعل له مضافا الى ذلك حصة معينة مشاعة أو مفروزة من الأصول المساقى عليها، فان قصد بذلك ان الحصة التي دفعها للعامل من الأصول جز، من العوض له في المعاملة، و أن مجموع الحصة من الحاصل و الحصة التي عينها له من الأصول يكون نصيبا له في عقد المساقاة، كانت المعاملة باطلة فلا يستحق العامل شيئا من الأمرين، و ان جعل الحصة من الأصول للعامل بنحو الاشتراط له في ضمن العقد، صح العقد و الشرط، فتكون للعامل حصته المعينة له من الثمر بمقتضى المساقاة، و تكون له تلك الحصة المذكورة من الأصول بمقتضى الشرط، و الأحوط للعامل أن لا يختص بنماء تلك الحصة في ذلك العام بل يكون ثمرها فيه للطرفين بحسب الحصة المعينة لهما، ثم يختص بها و بنمائها بعد ذلك العام.

(المسألة 134):

إذا وقع المساقاة بين المتعاملين، و شرع العامل في سقي الأصول أو في غيره من اعمال المساقاة، ثم استبان للطرفين أن الشجر لا يثمر شيئا في ذلك العام بطل عقد المساقاة بينهما على الظاهر، و قد سبق منا ذكر هذا، و لم يجب على العامل أن يتم سقى الأصول و اعمال المساقاة الأخرى في ذلك العام.

(المسألة 135):

إذا بطلت المساقاة بين المتعاقدين في أثناء المدة لبعض الطواري أو الأسباب التي توجب البطلان شرعا، كان الثمر الموجود في الشجر كله مملوكا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 336

لمالك الأصول لأنه نماء شجره فيكون تابعا له في الملك، و تثبت للعامل على المالك اجرة المثل لعمله الذي قام به و منفعته التي استوفاها المالك، و يستثنى من ذلك ما إذا علم العامل بأن المساقاة بطلت فلا يجب عليه الوفاء بها، فاتى بالعمل بقصد التبرع به، و يستثنى من ذلك أيضا ما إذا كان السبب في بطلان المساقاة هو اتفاق الطرفين على أن يكون جميع ما ينتج من الشجر للمالك خاصة و لا شي ء منه للعامل، فان العامل في هذا الفرض قد اتى بالعمل على أن لا تكون له حصة من الحاصل، فهو بمنزلة المتبرع بعمله فلا يستحق عليه اجرة، و قد مر ذكر هذا الفرض الأخير في المسألة المائة و التاسعة و العشرين.

(المسألة 136):

يجوز لأحد المتعاملين أن يشترط على الثاني في عقد المساقاة بينهما أن يجرى معه مساقاة أخرى على أصول أخرى، فإذا قبل صاحبه بالشرط صح العقد الأول و صح الشرط و لزم الوفاء بهما، و مثال ذلك أن يقول مالك الأصول للعامل:

سلمت إليك بستاني هذا لتسقى أصوله و تعمل فيه عمل المساقاة، و لك النصف من الثمر الذي يحصل من شجره و نخيله، و اشترطت عليك أن تساقينى في بستاني الثاني فتسقى أصوله و تعمل فيه و لك الربع مثلا من ثماره، فإذا قبل العامل ذلك صحت المساقاة و لزم الوفاء بالشرط المذكور فيها.

و كذلك إذا أنشأ العامل العقد فكان هو الموجب و هو المشترط، فقال لصاحب البستان: تسلمت منك هذا البستان لا

سقى لك أصوله و اعمل فيه عمل المساقاة و لي الربع من حاصل شجره و نخيله، و اشترط عليك أن تساقينى في بستانك الأخر على النصف من ثمره، فتصح المساقاة و الشرط إذا قبل المالك بهما.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 337

و من أمثلة ذلك أيضا أن يقول الرجل للعامل: عاملتك على أن تسقى شجر بستاني هذا و نخليه و تعمل فيه حتى يثمر الشجر و النخيل و يكون لك الثلث مثلا من جميع حاصله، و اشترط عليك أن تساقينى في بستانك المعلوم لا سقى لك أصوله و اعمل فيه بالربع من حاصله، فتصح المعاملة و الشرط إذا وقع القبول من الأخر، و يكون المالك في المساقاة الاولى عاملا في الثانية و بالعكس، و كذلك إذا أنشأ العامل الإيجاب و اشترط على صاحبه مثل ذلك الشرط فيصحان و يلزمان إذا حصل القبول.

و من أمثلة ذلك أن يقول المالك للعامل: اعاملك على أن تسقى شجر بستاني هذا و نخيله و تعمل فيه و لك النصف من تمره و تمره على أن تساقى أخي زيدا فتسقى له شجر بستانه و نخيله و تعمل فيه و لك الثلث من حاصله، فتصح المساقاة و الشرط حسب ما ذكر إذا قبل العامل بهما.

و مثله ما إذا قال العامل لصاحب البستان: تسلمت منك شجر بستانك هذا و نخيله لاسقيها و اعمل لك فيها حتى تثمر ولى الربع من حاصل الثمر، و اشترطت عليك أن تساقى ابن عمى بكرا في بستانك الثاني ليسقي أصوله و يعمل فيها حتى تثمر بالربع من حاصل الثمر، فتصح المساقاة و الشرط إذا قبل المالك.

(المسألة 137):

إذا جرى عقد المساقاة بين مالك الأصول و عامل المساقاة، و ترك العامل

الوفاء بالعقد من أول الأمر فلم يسق و لم يعمل في البستان شيئا، أو ترك السقي و العمل في أثناء المدة بعد أن قام بهما في أول الأمر، جاز لمالك الأصول أن يجبر العامل على العمل بالمساقاة و الوفاء بها، فان هو لم يقدر على إجباره و لو بمراجعة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 338

الحاكم الشرعي، جاز له أن يفسخ المعاملة، سواء كان قد اشترط على العامل أن يباشر العمل بنفسه أم لم يشترط، و لا يحق له أن يقاصه من ماله عن العمل الذي تركه أو يستأجر عند أجيرا يقوم بالعمل ثم يرجع عليه بأجرة الأجير.

(المسألة 138):

إذا تم عقد المساقاة بين المالك و عامل المساقاة على وجه جامع لشروط الصحة، ملك العامل حصته المعينة له في العقد من حين خروج الثمر و ظهوره في النخيل و الشجر، و أن لم يبد صلاحه بعد، و إذا كان إنشاء المعاملة بين الطرفين بعد أن ظهرت الثمرة في الأصول ملك العامل حصته من الثمر من حين وقوع العقد بينهما.

فإذا مات العامل بعد أن ملك حصته من الثمر في إحدى الصورتين المذكورتين انتقلت الحصة منه بعد موته الى ملك وارثه كسائر أمواله، و وجب على الوارث أن يقوم بما بقي من اعمال المساقاة التي وجبت على مورثه بالعقد، و تخير بين أن يأتي بهذه الاعمال بنفسه و أن يستأجر من ماله أجيرا يأتي بالعمل عن مورثه و قد ذكرنا هذا في المسألة المائة و الثالثة و العشرين.

و إذا كان صاحب الأصول قد اشترط في العقد على العامل أن يتولى عمل المساقاة بنفسه بنحو المباشرة، و كان اشتراطه لذلك على العامل بنحو التقيد في المعاملة الجارية بينهما بطلت المساقاة

بموت العامل فان الوارث لا يقدر على أن يفي للمالك بهذا الشرط، و قد بينا هذا في المسألة المائة و الرابعة و العشرين.

و الظاهر ان الحكم ببطلان المساقاة في هذه الصورة انما يقع في حينه و بعد تحقق سببه و هو موت العامل و تعذر حصول القيد المأخوذ في المعاملة، و ليس

كلمة التقوى، ج 5، ص: 339

من أول الأمر، و لذلك فهو لا ينافي ملك العامل لحصته من الثمر و انتقال الحصة منه الى الوارث بعد موته، و تلاحظ المسألة المشار إليها في حكم ما إذا كان اشتراط المباشرة في العمل على عامل المساقاة بنحو تعدد المطلوب.

(المسألة 139):

إذا ملك عامل المساقاة حصته المعينة له من الحاصل بظهور الثمر في الأصول المساقى عليها كما قلنا في المسألة المتقدمة، فلا يزول ملكه لحصته إذا فسخت المساقاة بعد ذلك لوجود بعض الأسباب الموجبة لخيار الفسخ، و لا إذا بطلت المعاملة لطرو، بعض العوارض الموجبة للبطلان، و مثال ذلك أن يفسخ احد المتعاملين عقد المساقاة بسبب خيار شرط كان ثابتا له في المعاملة أو بسبب تخلف شرط قد اشترطه في العقد على صاحبه، أو يتقايل الطرفان فيفسخا المعاملة باتفاقهما على ذلك، فلا ينفسخ بذلك ملك العامل لحصته و كذلك إذا طرأ للعامل عذر عام أو خاص أوجب عجزه و عدم قدرته على إتمام عمل المساقاة بعد أن ظهرت الثمرة في الشجر و ملك حصته بظهورها فتبطل المساقاة بذلك العذر، و لا يزول ملك العامل للحصة المعينة له، و مثله ما إذا عرض للأصول المساقى عليها عارض بعد أن ظهر بعض الثمر فيها و ملك العامل حصته منه، فأوجب ذلك العارض جفاف الأصول و عدم قابليتها لإنتاج الثمر المتأخر،

و لا لإنضاج الثمر الموجود و إيصاله إلى حد الإدراك و البلوغ، فلا تبطل حصة العامل بل يسقى الثمر الموجود مشتركا بين المالك و العامل و ان لم يكن بالغا.

(المسألة 140):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 340

إذا امتنع العامل أن يأتي بعمل المساقاة من غير عذر جاز لمالك الأصول أن يجبره على العمل، و قد ذكرنا هذا في المسألة المائة و السابعة و الثلاثين، فان هو لم يقدر على إجباره جاز له أن يفسخ المساقاة، فإذا فسخها المالك و كان فسخه قبل ان يظهر الثمر في الأصول كان الثمر الذي يظهر فيها كله مملوكا للمالك تبعا للأصول و إذا كان العامل قد اتى ببعض العمل في أول الأمر ثم امتنع عن إتمامه استحق العامل على المالك بعد فسخه في الصورة المذكورة ان يدفع له اجرة المثل بمقدار عمله إذا لم يكن متبرعا به.

و إذا كان فسخ المالك للمساقاة في الصورة المذكورة بعد أن ظهرت الثمرة في الأصول استحق العامل حصته المعينة له من الثمر، و يجوز للمالك أن يبقى حصة العامل في الشجر الى وقت بلوغه و إدراكه إما مجانا أو مع الأجرة إذا رضي العامل بدفعها، و يجوز له أن يأمر العامل بقطع مقدار حصته قبل أن يبلغ الثمر و يدرك، و لا يضمن المالك له أرش و حصته إذا هي نقصت أو عابت أو تلفت بسبب قطعها.

(المسألة 141):

إذا شرط مالك الأصول على العامل في ضمن العقد بينهما أن يتولى العمل في المساقاة بنفسه، لم يصح للعامل أن يساقى على تلك الأصول شخصا أخر فيقوم هذا العامل الثاني بالعمل فيها، و أن ساقاه في حصته الخاصة بأن جعل له حصة مشاعة منها بعد أن ملكها و لم ينقص من حصة المالك شيئا.

و كذلك الحكم إذا نهاه المالك في ضمن العقد عن أن يساقى على نخيله و شجره شخصا غيره، فان هذا النهي يدل بالدلالة التزامية

على أن المراد أن يعمل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 341

العامل في المساقاة بنفسه، فلا يجوز له أن يساقى عليها عاملا غيره.

(المسألة 142):

إذا لم يشترط المالك على العامل أن يباشر العمل في المساقاة بنفسه كما في الفرض الأول و لم ينهه عن مساقاة غيره كما في الفرض الثاني، جاز للمالك أن يأذن للعامل الأول فيساقى على الأصول التي دفعها اليه عاملا غيره، و مرجع اذن المالك له بالمساقاة مع عامل أخر الى أن المالك قد وكله في أن يفسخ المساقاة السابقة التي جرت بينهما و ينشئ بعدها مساقاة ثانية بين المالك و العامل الثاني، و لا تكون في المساقاة الثانية حصة و لا نصيب للعامل الأول، و معنى ذلك أن المالك الموكل و العامل الأول الوكيل قد تقايلا عن المساقاة الاولى و فسخاها برضاهما معا فسخا اختياريا، فإذا فعل الطرفان كذلك صحت الوكالة و المقايلة، و نفذت المساقاة الثانية بين المالك و العامل الثاني.

و إذا اذن المالك له ففسخ المساقاة الاولى و ساقى عاملا ثانيا بوكالته عن المالك جاز له أن يسلم إليه الأرض و الشجر الذي بيده، و لم يحتج في التسليم الى إذن أخر من المالك.

(المسألة 143):

إذا تقبل انسان من السلطان أو من الولي العام للمسلمين قطعة من ارض الخراج لينتفع بالأرض و ما فيها من المغروسات، و جعل السلطان أو الولي العام على الأرض ضريبة خراج معلومة وجب وفاؤها على ذلك الشخص المتقبل، سواء جعل الخارج ضريبة على الأرض نفسها أم جعله على النخل و الشجر المغروس فيها، فإذا دفع الرجل الأرض التي تقبلها الى عامل ليسقي له الأصول الثابتة فيها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 342

و يعمل في الأرض و الشجر عمل المساقاة بحصة معينة من الثمر الذي تنتجه الأصول فالخراج كله على المتقبل صاحب الأصول و ليس على عامل المساقاة منه شي ء.

و

يجوز للمتقبل أن يشترط على العامل في عقد المساقاة بينهما أن يكون جميع الخراج على العامل، فإذا قبل العامل الشرط لزمه الوفاء به، فيؤديه من حصته بعد القسمة أو من مال أخر، و يجوز له أن يشترط في العقد أن يكون الخراج عليهما معا، و لا بد أن يعين مقدار ما على كل واحد منها من الخراج فإذا قبلا بذلك لزم كل واحد منهما أن يدفع قسطه المشترط عليه.

(المسألة 144):

إذا أنشأ وكيل المالك عقد المساقاة على الأصول المعلومة بين موكله صاحب الأصول و عامل المساقاة و قبل العامل العقد صحت المعاملة، و ثبتت أثارها و لزم الطرفين الوفاء بها، و ان كان العامل يعتقد في بادى الأمر أن الشخص الذي اجرى العقد معه هو مالك الأصول، فإذا تبين له بعد ذلك انه وكيل عن المالك و ليس المالك نفسه كانت مساقاته على لزومها و ثباتها، و لم يقدح جهله السابق بصحتها و لم يفتقر الى تجديد العقد بعد استبانة الحال له.

و كذلك الحكم إذا أنشأ الولي العقد على الأصول التي يملكها اليتيم أو المجنون أو السفيه و قبل العامل العقد و جرت المساقاة، ثم علم العامل أن منشئ العقد ولى المالك و ليس هو مالك الأصول نفسه

(المسألة 145):

إذا جرى عقد المساقاة بين شخصين على أصول معلومة، و تم الإيجاب و القبول بينهما، ثم علم أن الأصول التي جرت عليها المساقاة مغصوبة من مالكها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 343

الشرعي و ليست مملوكة للشخص الذي اجرى المعاملة عليها، أو ثبت ذلك بحجة شرعية من بينة مقبولة أو غيرها، كان الأمر في المساقاة لمالكها الشرعي، فإن هو أجاز المعاملة صحت و كانت مساقاة نافذة بين المالك نفسه و العامل، على النهج الذي ذكره المتعاقدان في العقد، و المقدار الذي عيناه من الحصة، كما هو الحال و الحكم في المعاملات الفضولية إذا أجازها المالك الحقيقي، و لا يكون للغاصب فيها نصيب، و ان لم يجزها المالك كانت باطلة، و كان جميع الثمر الذي تنتجه الأصول مملوكا للمالك الشرعي الذي غصبت منه و لا حصة فيه للعامل، و كانت للعامل اجرة المثل لعمله الذي قام به في

المعاملة، و يأخذ أجرته هذه من الغاصب فإنه هو الذي أمره بالعمل في المعاملة، و قد استوفيت منه منفعته باستدعائه فيكون هو الضامن لاجرة عمله.

و يستثنى من ذلك ما إذا ادعى العامل أن المساقاة التي جرت بينه و بين صاحبه الذي ساقاه صحيحة ليست باطلة و أن الأصول المساقى عليها مملوكة لصاحبه و ليست مغصوبة من احد، فهو يعترف بان حقه انما هو الحصة التي عينها له صاحبه من الثمر و أن المدعى أخذها منه ظالما، و لذلك فلا يجوز له أن يأخذ من صاحبه اجرة المثل على عمله بمقتضى اعترافه.

(المسألة 146):

إذا جرت المساقاة بين الشخصين ثم علم، أو ثبت بحجة شرعية، أن الشجر و النخيل المساقى عليها مغصوبة من مالكها الشرعي، و كان ثبوت الغصب بعد أن أخذ المتساقيان جميع الحاصل الذي انتجته الأصول و اقتسماه بينهما و أخذ كل واحد منهما حصته و تلفت الحصة بيده، فإذا ثبت الغصب بعد ذلك جاز للمالك

كلمة التقوى، ج 5، ص: 344

الشرعي أن يرجع على كل واحد من الغاصب و العامل بعوض ما تلف في يده من الحصة التي أخذها من الحاصل، و إذا أخذ العوض منهما على ما بيناه لم يرجع الغاصب على العامل بشي ء مما عزم، و لم يرجع العامل على الغاصب بشي ء و ذلك لان ضمان كل واحد منهما للعوض قد استقر عليه بتلف حصته في يده، و قد ذكرنا هذا في كتاب الغصب.

و جاز للمالك أيضا أن يرجع على الغاصب وحده فيأخذ منه عوض جميع الثمر الذي حصل من الشجر ما تلف منه في يده الغاصب و ما تلف في يد العامل و إذا أخذه من الغاصب بمقتضى هذا الحكم جاز للغاصب

أن يرجع على العامل بمقدار عوض حصته لان ضمانها قد استقر على العامل بتلفها في يده.

و يستثنى من ذلك ما إذا كان الغاصب يعترف بصحة المساقاة و أن العامل يستحق الحصة من الثمر و من أجل اعترافه بذلك فلا يجوز له أن يأخذ من العامل شيئا في الصورة المذكورة، لأنه يعترف بان المدعى قد ظلمه بأخذ العوض منه، فلا يحق له أن يرجع بشي ء منه على العامل.

و إذا كان عامل المساقاة ممن يصدق عليه صدقا تاما في نظر أهل العرف انه ممن استولى على الأصول المذكورة و وضع يده عليها و على جميع ثمرها، جاز للمالك المغصوب منه ان يرجع عليه بعوض جميع الثمرة كما سبق في الحكم برجوعه على الغاصب، و إذا أخذ من العامل جميع العوض رجع العامل على الغاصب بعوض الحصة التي أخذها الغاصب لنفسه من الثمر و تلفت في يده كما سبق في نظيره، إلا في الصورة المستثناة و قد مر ذكر كل ذلك.

و المدار في جواز رجوع المالك على العامل بجميع العوض على الصدق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 345

التام الذي بيناه، و لا ريب في أن الموارد مختلفة في صدق ذلك على العامل و عدم صدقه، فإذا لم يصدق عليه ذلك في نظر العقلاء، و أهل العرف أو شك في صدقه عليه و عدم صدقه لم يجز للمالك أخذ جميع العوض منه، و جاز له أن يأخذ منه عوض حصته خاصة كما تقدم.

(المسألة 147):

إذا ملك العامل حصته المقدرة له من الثمرة في وقت وجوب الزكاة في الغلة، أو ملكها قبل ذلك، و كانت حصته بمقدار النصاب الشرعي الذي تجب فيه الزكاة أو أكثر، وجبت عليه الزكاة في الحصة، و

لا تجب عليه إذا نقصت الحصة عن ذلك إلا إذا تم له النصاب أو زاد عليه من مال أخر يملكه، و كذلك الحكم في الوارث إذا مات العامل و انتقل ملك الحصة منه الى وارثه عند وقت وجوب الزكاة أو قبله فتجب الزكاة عليه إذا بلغت حصته النصاب، و لا زكاة عليه إذا لم تبلغ، إلا إذا بلغت مقدار النصاب مع مال له أخر.

و إذا ملك العامل حصته بعد وقت وجوب الزكاة في الغلة لم تجب عليه زكاتها و ان بلغت مقدار النصاب، و وجب على مالك الأصول أن يؤدى زكاة جميع الثمرة إذا بلغ مقدار النصاب، و يرجع الى ما أوضحناه في كتاب الزكاة في وقت وجوبها في الغلة، و في مقدار النصاب الشرعي الذي تجب فيه، و إذا وجبت الزكاة على العامل في حصته من المساقاة ثم مات قبل أن يؤديها، وجب على ورثته أن يؤدوها بعده، و أن لم يبلغ نصيب كل وارث منهم مقدار النصاب.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 346

الفصل السادس في أمور تلحق المساقاة

(المسألة 148):

إذا قامت بينة شرعية عادلة أو حجة معتبرة اخرى تدل على خيانة عامل المساقاة، فإن كان ثبوت الخيانة عليه قبل أن يظهر الثمر في الأصول، و قبل أن يملك العامل حصته منه، جاز لمالك الأصول أن يستأجر من مال المالك نفسه أمينا يراقب العامل، و يمنعه عن الخيانة للمال الذي دفعه اليه من البستان أو الشجر أو المملوكات الأخرى الموجودة في البستان، أو الخيانة في العمل الذي وجب عليه في المعاملة، و إذا لم يفد ذلك في منعه عن الخيانة، جاز له أن يستأجر من ماله أيضا أمينا يضمه الى العامل، فيرفع بذلك يده عن الاستقلال في عمله و في ما

بيده من المال، و يحفظ المال إذا احتاج معه الى حفظ المال.

و إذا ثبتت خيانة العامل كذلك بعد أن ظهرت الثمرة في الشجر و بعد أن ثبتت للعامل حصته المعينة له في الثمر، فالظاهر جواز ما تقدم للمالك أيضا على التفصيل الذي بيّناه، و الأحوط أن يكون ذلك بمراجعة الحاكم الشرعي.

(المسألة 149):

إذا ادعى مالك البستان و الشجر انه قد اجرى مع العامل عقد المساقاة و لذلك فهو يلزمه يسقى الشجر و العمل في البستان و الأصول المغروسة فيه عمل المساقاة، و أنكر العامل وقوع عقد بينهما على ذلك، قدم قول المنكر و هو العامل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 347

مع يمينه، الا أن يثبت المالك صدق دعواه بإقامة بينة شرعية عليها فيقدم قوله و كذلك الحكم إذا انعكس الأمر، فادعى العامل انه قد اجرى العقد مع المالك على سقي شجره و نخيله و العمل فيها، و لذلك فهو يروم من المالك أن يمكنه من القيام بالمعاملة، و أنكر المالك حدوث العقد، فالقول قول المنكر و هو المالك مع يمينه ما لم يثبت العامل صحة قوله بإقامة بينة.

(المسألة 150):

إذا تصادق المالك و العامل على صدور عقد مساقاة بينهما، ثم ادعى المالك أو العامل أن العقد الذي وقع بينهما كان باطلا لا يجب الوفاء به، لانه يفقد بعض الشروط المعتبرة في صحة العقد، و ادعى الثاني منهما أن العقد صحيح يلزم الوفاء به، قد قول من يدعى صحة العقد بينهما، سواء كان هو مالك الأصول أم كان هو العامل فيها، الا أن يثبت الثاني المدعى للبطلان صدق ما يدعيه بحجة شرعية مقبولة.

(المسألة 151):

إذا ادعى مالك البستان انه قد اشترط على العامل في ضمن العقد شرطا: أن يباشر العمل في المساقاة بنفسه مثلا، أو أن يكون بعض الخراج أو النفقات الأخرى عليه، أو غير ذلك من الشروط السائغة، و أنكر العامل وجود ذلك الشرط بينهما قدم قول العامل المنكر للشرط مع يمينه، و مثل ذلك ما إذا انعكس الفرض، فادعى العامل انه قد اشترط على المالك بعض الشروط النافذة شرعا، و أنكر المالك حدوث الشرط بينهما، فيقدم قول المنكر و هو المالك مع يمينه، الا أن يقيم المدّعى منها بينة شرعية على صدق ما يدعيه من وجود الشرط فيثبت بها قوله.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 348

(المسألة 152):

إذا ادعى عامل المساقاة أن حصته التي جعلت له في المعاملة التي جرت بينه و بين المالك هي نصف ما يحصل من الثمر و الثمار، أو قال حصتي هي الثلث منه و أنكر مالك البستان ما يدعيه فقال له أن حصتك المعينة لك بيننا هي ربع الحاصل لا أكثر، فالقول قول من ينكر الزيادة و هو المالك مع يمينه، الا أن يقيم العامل بينة تثبت ما يقول فيؤخذ بها، و نظير ذلك ما إذا ادعى المالك أو العامل أن مدة المساقاة المحددة بينهما هي ثلاث سنين أو أربع مثلا و أنكر صاحبه أن المدة أزيد من سنة واحدة، أو قال المدة سنتان لا أكثر، فالقول قول من ينكر الزيادة في المدة منهما مع يمينه، الا أن يثبت الأخر صدق قوله ببينة شرعية.

(المسألة 153):

إذا أنتجت النخيل و الشجر المساقى عليها مقدارا من الحاصل، ثم وقع الخصام بين مالك الأصول و عامل المساقاة في مقدار ما انتجته من ذلك، فقال أحدهما: أنها أخرجت مقدارا معينا من الحاصل مائة من مثلا من التمر و عشرين منا من العنب، و ادعى صاحبه أن الحاصل منها أكثر من ذلك المقدار، أو قال: انه أقل فإن كانت الثمرة تحت يد العامل خاصة صدق قوله في ما يدعيه سواء كان يدعي الزيادة أم النقيصة لأنه صاحب يد فيكون إخباره حجة شرعية في ما بيده و كذلك إذا كانت الثمرة في يد المالك خاصة فيصدق قوله، لان قوله حجة في ما بيده كما ذكرنا و ان كانت الثمرة في يد كل من المالك و العامل على نحو الاشتراك و عدم الاستقلال، و قد اختلطت بغيرها فالتبس الأمر في مقدارها أو تلفت بغير تفريط،

أو

كلمة التقوى، ج 5، ص: 349

بيعت و لم يكن العلم بمقدارها، فالقول قول من ينكر الزيادة منهما مع يمينه.

(المسألة 154):

إذا أجريت معاملة المساقاة بين المتعاقدين و ائتمن المالك عامل المساقاة على ضيعته و أصوله المغروسة فيها، ثم ادعى المالك على العامل انه سرق بعض الثمر أو بعض الأموال أو الأدوات التي بيده، أو انه أتلفها أو ادعى عليه قد خان في عمله أو في بعض الجهات الأخرى، و أنكر العامل ما ادعاه المالك عليه، قدم قول العامل في جميع ذلك لانه منكر، و لان المالك قد ائتمنه، الا أن يثبت المالك صحة ما يدعيه عليه ببينة شرعية.

و كذلك إذا تلف بعض المال في يد العامل فادعى المالك عليه انه قد فرط في الحفظ و أن التلف كان بسبب تفريطه أو بعد تفريطه فيكون له ضامنا، فلا تسمع دعوى المالك بعد أن ائتمنه، إلا إذا أقام البينة على صدق الدعوى.

(المسألة 155):

إذا ادعى مالك الأصول على العامل انه قد أتلف أو فرط أو سرق مقدارا و اقام بينة شرعية على صحة قوله سمعت دعواه و قبلت بينته، و ان لم يعين المقدار الذي يدعيه من المال أو من الثمر.

(المسألة 156):

إذا استعار احد بستانا من مالكه لينتفع به و بشجرة و ثمرة مدة معلومة سنة أو أكثر، و كانت اعارة المالك إياه مطلقة، فلم يشترط عليه فيها أن يتولى الانتفاع بالبستان و التصرف فيه بنفسه أو في جهة معينة، جاز للمستعير أن يساقى عاملا على البستان و ما فيه من نخيل و شجر، فيسقيه و يعمل فيه بما يحتاج اليه البستان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 350

و الشجر و الثمر بحصة معينة من الحاصل، و للمستعير الباقي من الحاصل، و يجوز للمستعير أن يسلم البستان و الشجر الى عامل المساقاة، بمقتضى إطلاق العارية و لا يفتقر في ذلك الى إذن جديد من مالك البستان.

(المسألة 157):

يصح أن تجرى معاملة المساقاة بين مسلم و كافر سواء كان المسلم منهما هو مالك البستان و الأصول المساقى عليها أم كان هو عامل المساقاة، فتصح المعاملة، و تنفذ إذا أنشئ العقد و تمت القيود و الشروط و تجري أحكامها و لوازمها، و يستحق كل من المتعاملين حصته المقدرة في العقد، و تصح أيضا مع تعدد المالك و مع تعدد العامل و مع تعددهما معا، فيكون شريكان في البستان و هما مسلم و كافر، و يساقيان على البستان عاملا واحدا مسلما أو كافرا، أو يساقيان عاملين أحدهما مسلم و الثاني كافر، و كذلك في باقي الصور المحتملة فتصح المعاملة و تنفذ في جميعها إذا تحققت الشروط و جرت المعاملة على الوجه الصحيح.

(المسألة 158):

المغارسة هي أن يدفع الإنسان أرضه إلى العامل ليغرس فيها نخيلا أو شجرا و يسقيها و يعمل في الأرض و الغراس حتى يثبت و ينمو، و تكون للعامل حصة معينة المقدار من الشجر و الأصول التي يغرسها في الأرض: الربع منها أو النصف أو غيرهما من الحصص، فإذا أثمرت الأصول التي غرسها ملك من ثمرها بتلك النسبة، فيكون له الربع أو النصف من الثمر في المثالين المتقدمين، و قد يشترط الطرفان أن تكون للعامل حصة معينة المقدار من رقبة الأرض نفسها، و من الأصول

كلمة التقوى، ج 5، ص: 351

الموجودة في الأرض قبل المغارسة عليها، بالإضافة إلى حصته من الأصول التي غرسها، و هذا على ما هو متعارف بين الناس في المغارسات الدارجة في ما بينهم.

و قد اشتهر بين أصحابنا (قدس الله أرواحهم) القول ببطلان المغارسة و عدم نفوذها، و اشتهرت بينهم دعوى قيام الإجماع على عدم الصحة، و لعل المقصود من ذلك

أن المعاملة المذكورة لا تكون من المساقاة المصطلحة بين العلماء، و لا تشملها الأدلة الخاصة الواردة في المساقاة، و ليس مرادهم أن المغارسة باطلة لا تصح على الإطلاق، و لا ريب في بطلان المغارسة التي ذكرناها إذا أجراها المتعاقدان و قصدا بها المساقاة المصطلحة.

(المسألة 159):

إذا أوقع مالك الأرض مع العامل صورة المغارسة التي بيناها و قصدا بها معاملة المساقاة المصطلحة كانت المغارسة باطلة بلا ريب كما قلنا في المسألة المتقدمة، و بطل كل ما يذكر في ضمنها من الشروط، فإنها شروط في ضمن عقد فاسد، فلا يجب السقي و لا العمل في الأرض على العامل، و لا يملك حصة من الثمر و لا من النخيل و الشجر التي يغرسها، و لا من الأرض و الأصول الموجودة فيها من قبل إذا اشترط له ذلك فيها.

فإذا غرس العامل في الأرض المدفوعة اليه نخيلا أو شجرا، فالنخيل و الشجر التي غرسها تكون جميعا مملوكا لمالكها فسيلا و وديا قبل أن تغرس، فان كانت قبل غرسها مملوكة لصاحب الأرض كما إذا اشتراها أو تملكها بسبب شرعي أخر لتغرس في أرضه، و كما إذا أخذها فسيلا أو وديا من أصول مملوكة له في تلك الأرض، أو في أرض له اخرى، كانت جميعا بعد غرسها باقية على ملكه، و لا حصة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 352

و لا حق للعامل الغارس فيها.

و إذا كان مالك الأرض و العامل فيها يعلمان ببطلان هذه المعاملة الجارية بينهما، و علم العامل بان غرسه و تصرفه في الفسيل و في الأرض محرم عليه من حيث انه تصرف في مال الغير بغير اذنه، تنجز عليه التكليف بحرمته و حرم عليه أخذ الأجرة على الغرس و العمل

في الأرض، لأنه من الأجرة على العمل المحرم فان مالك الأرض انما اذن له في التصرف في أرضه و في ملكه إذا كانت المعاملة صحيحة شرعية و لم يأذن له في التصرف إذا كانت باطلة.

و إذا علم من القرائن أو من القول الصريح بان مالك الأرض قد اذن للعامل إذنا مطلقا بالتصرف في الأرض، و في الفسيل و الودي المملوك له، و لم يقيد اذنه له بالمعاملة الصحيحة استحق العامل على المالك اجرة المثل على عمله في الغرس و الأرض.

(المسألة 160):

إذا جرت المغارسة بين الرجلين على الوجه المتقدم الذي قلنا ببطلانه و كان الفسيل و الودي الذي غرسه العامل مملوكا له قبل الغرس، كما إذا اشتراه من قبل ليغرسه أو أخذه من نخيل و شجر يملكه ثم غرسه في الأرض بقي مملوكا للعامل خاصة و لم يملك صاحب الأرض منه شيئا.

فإذا كان مالك الأرض انما اذن للعامل في التصرف في أرضه و غرسها إذا كان التصرف بوجه شرعي صحيح و كانت المعاملة الواقعة بينهما صحيحة شرعية و لم يأذن له بذلك إذا كانت المعاملة باطلة، فلا يستحق مالك الأرض على العامل في هذه الصورة اجرة لأرضه عن تصرفه فيها في المدة الماضية، و يجوز للمالك أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 353

يأمر العامل بقلع ما غرسه في الأرض من شجر و نخيل، و يجوز له أيضا أن يأذن للعامل بإبقاء ما غرسه في الأرض مجانا أو مع اجرة المثل للأرض مدة بقاء المغروسات فيها، و هذا إذا رضي العامل بالإبقاء، و ليس للمالك أن يجبره عليه بأجرة أو بغير اجرة.

و إذا أمره المالك أن يقلع ما غرسه في الأرض وجب على العامل أن يقلعه و

يطم الحفر التي تحدث في الأرض بسبب الغرس أو القلع، و إذا حدث في المغروسات نقص أو عيب أو كسر بسبب قلع العامل إياها لم يضمن المالك له أرش ذلك.

و إذا أمر المالك العامل أن يقلع ما غرسه في الأرض فامتنع العامل جاز للمالك أن يقلعه بنفسه، فإذا انكسرت الشجرة أو النخلة أو عابت بسبب قلع مالك الأرض لها ضمن للعامل أرش هذا النقص أو العيب الحادث فيها بفعله، و أرش النقص أو العيب هو التفاوت في المقلوع منها ما بين قيمته صحيحا و قيمته مكسورا أو معيبا و لا يضمن للعامل تفاوت ما بين قيمتها و هي ثابتة في الأرض و مقلوعة منها.

(المسألة 161):

إذا كانت المغارسة بين الشخصين على الوجه المتقدم الذي حكم الشارع فيه بالبطلان و عدم النفوذ، و كان الودي و الفسيل الذي غرسه العامل في الأرض بسبب هذه المعاملة على قسمين، فمنه ما هو مملوك لصاحب الأرض من قبل غرسه، و منه ما هو مملوك للعامل، جرى في كل واحد من القسمين ما يخصه من الاحكام التي أوضحناها في المسائل المتقدمة من الملك و الضمان و الآثار

كلمة التقوى، ج 5، ص: 354

الأخرى، فليلاحظ ما سبق بيانه فيها لتطبيق حكم كل قسم منهما في مورده و لا موجب للتكرار.

(المسألة 162):

يمكن للمتعاملين أن يوقعا المغارسة بينهما على انها معاملة مستقلة بنفسها عن سائر المعاملات، و عقد من العقود المتعارفة بين العقلاء و أهل العرف و الشائعة بينهم، فتكون بذلك معاملة صحيحة و نافذة على الأقوى، تشملها العمومات و الإطلاقات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود من الكتاب الكريم و السنة المطهرة و ذلك بان يتفق مالك الأرض مع العامل على أن يغرس العامل له أرضه نخيلا و شجرا معلومة، و يعمل له في الأرض و في الغرس حتى تنمو المغروسات و تثبت و تثمر، و يلتزم الجانبان بينهما بان يملك مالك الفسيل و الودي منهما صاحبه نصف الفسيل و الودي الذي يراد غرسه في الأرض أو ربعه مثلا على نحو الشركة و الإشاعة، فإذا كان مالك الفسيل و الودي هو مالك الأرض، ملك العامل الحصة المعينة منها و جعل ذلك عوضا له عما يقوم به من الغرس و العمل في الأرض، و إذا كان مالكها هو العامل، ملك الحصة منها لصاحب الأرض، و جعل ذلك عوضا له عن تصرف العامل في أرضه و انتفاعه بها.

فإذا اتفق الطرفان

على ما ذكرناه واقعا الإيجاب و القبول الدالين على الاتفاق و التمليك المذكورين و الالتزام بموجبهما صحت المعاملة، و شملتها الأدلة العامة و المطلقة الدالة على صحة العقود و وجوب الوفاء بها، و يمكن لهما أن يشترطا في ضمن هذا العقد أن يملك صاحب الأرض العامل حصة معلومة المقدار مشاعة من رقبة الأرض، و من الأصول الموجودة فيها قبل المغارسة، فيصح الشرط و ينفذ فإنه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 355

شرط سائغ وقع في ضمن عقد لازم.

(المسألة 163):

يكفي في صحة عقد المغارسة الذي ذكرناه أن يعلم الطرفان مقدار الأرض التي تجري المعاملة عليها، و مقدار ما تحتاج اليه من المغروسات من النخيل و الشجر، و مقدار الحصة التي تجعل للعامل و المالك من الأرض و من الأصول بالمشاهدة الرافعة للجهالة و بتقدير المطلعين من أهل الخبرة و المعرفة فترتفع بذلك الجهالة التي تضر بمثل هذا العقد، و يكفى الاعتماد على ما هو المتعارف و المعتاد بين عامة أهل البلد في تعيين أنواع المغروسات من الشجر و النخيل و أصنافها، و إذا اختلف الأمر في ذلك، و لم يثبت المتعارف شيئا، أو اختلف المقصود بين المالك و العامل، فلا بد من تعيين النوع و الصنف الذي يراد غرسه و لا بد من تعيين كل قيد أو شرط أو أمر يكون الجهل به موجبا للتنازع بين الطرفين.

(المسألة 164):

إذا كان الفسيل و الودي الذي يرام غرسه في الأرض مشتركا على سبيل الإشاعة التامة بين مالك الأرض و العامل فيها، و مثال ذلك أن يشترى أحدهما جميع ذلك بالأصالة عن نفسه و بالوكالة عن الأخر، على ان يكون جميع ما يشتريه منها مشتركا مشاعا بينهما مع التساوي في الحصة، أو مع التفاوت فيها حسب ما يتراضيان عليه فإذا تم الاشتراك فيه بين الطرفين كذلك، أمكن لهما أن يوقعا معاملة المغارسة بينهما بصورة الإجارة على الوجه الاتى.

فيستأجر صاحب الأرض العامل ليقوم بغرس حصة صاحب الأرض من الفسيل و الودي المشترك في الأرض و سقيها و العمل فيها في مدة معلومة، و يجعل

كلمة التقوى، ج 5، ص: 356

للعامل عوضا عن عمله في ذلك أن يغرس العامل حصته المشتركة في الأرض و ينتفع بها في تلك المدة المعلومة،

أو يضيف الى ذلك ان شاء الطرفان أن يملك العامل معها حصته من الأرض.

و يمكن أن يتولى العامل إنشاء عقد الإجارة، فيؤجر نفسه لصاحب الأرض ليغرس له حصته من الفسيل و الودي في الأرض و يعمل فيها و يذكر المدة و العوض و الشرط حسب ما بيناه فإذا وقع الإيجاب و القبول في الصورتين صحت المعاملة و ثبتت لوازمها و آثارها و لا تصح الإجارة إذا لم تعين المدة أو لم تحدد المنفعة المستأجر عليها.

(المسألة 165):

إذا كان جميع الفسيل و الودي الذي يراد غرسه في الأرض مملوكا لصاحب الأرض أمكن له أن يجرى المغارسة بينه و بين العامل على الصورة الاتية و هي أن يملك العامل من الفسيل و الودي المذكور حصة معلومة النسبة له على سبيل الإشاعة التامة: النصف منه مثلا أو الثلث أو الربع، فيملكه ذلك بمصالحة أو ببيع أو بغيرهما من العقود اللازمة و يجعل عوض تمليك الحصة أن يغرس العامل حصة المالك من الفسيل و الودي في الأرض و يسقيها و يعمل فيها إلى مدة معينة، و يشترط المالك على نفسه في العقد أن يغرس العامل حصته التي ملكه المالك إياها من الفسيل في الأرض و يبقيها فيها الى آخر المدة المعينة للمغارسة بغير اجرة على غرسها و لا على بقائها من العامل، أو يشترط على نفسه مع غرس العامل حصته من الفسيل في الأرض أن يملك العامل حصة معينة من رقبة الأرض: النصف أو الربع مثلا على وجه الإشاعة فيها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 357

و إذا كان الفسيل و الودي كله مملوكا للعامل أمكن له أن يجرى المغارسة أيضا، فيملك العامل صاحب الأرض حصة معلومة النسبة كذلك من الفسيل و

الودي بمصالحة أو بيع أو غيرهما كما سبق في نظيره، و يجعل عوض تمليكه الحصة أن يغرس العامل حصته من الفسيل و الودي في أرض المالك بغير اجرة و يستوفي بذلك منفعة الأرض إلى مدة معينة، و يشترط العامل على نفسه في ضمن العقد أن يغرس لصاحب الأرض حصته التي ملكه إياها من الفسيل و الودي، و يسقيها و يعمل فيها الى انتهاء المدة، و يمكن له أن يجعل من العوض أن يملكه مالك الأرض نصف رقبتها أو ربعها، فتصح المعاملة و تنتج نتيجة المغارسة إذا جرى عليها الإيجاب و القبول.

(المسألة 166):

إذا أنشئت المغارسة بين العامل و مالك الأرض على انها معاملة مستقلة بذاتها، و ليست من المساقاة و لا من سائر المعاملات، و قد مر تفصيل بيان ذلك في المسألة المائة و الثانية و الستين، ثم وقع النزاع بين المتعاقدين فادعى أحدهما أن المعاملة تمت بينهما على الوجه المطلوب فالمغارسة صحيحة نافذة، و قال الثاني انها كانت فاقدة لبعض المقومات أو لبعض الشروط فهي باطلة و لا اثر لها، قدم قول من يدعى الصحة منهما الا أن يثبت الثاني صحة ما يقول ببينة شرعية.

و كذلك إذا أنشئت المغارسة بينهما بصورة الإجارة، أو على وجه تمليك الحصة من الفسيل و الودي، كما فصلناه في المسألتين السابقتين ثم ادعى احد الرجلين أن المعاملة صحيحة و قد جرت على وفق ما يرام، و ادعى الثاني بطلانها فالقول قول من يدعى الصحة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 358

و إذا وقعت المغارسة بينهما، فادعى احد الشخصين أن المعاملة أنشئت، بينهما و تمت على انها من المساقاة المصطلحة فتكون باطلة على ما سبق بيانه.

و قال الأخر منهما: اننا قد أجرينا المغارسة

بيننا على انها معاملة مستقلة فهي صحيحة نافذة، أشكل الحكم بتقديم قول من يدعى الصحة، لعدم إحراز العنوان الذي وقعت عليه المعاملة، و لذلك فلا يترك الرجوع فيها الى الاحتياط بالمصالحة و التراضي بين المتداعيين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 359

كتاب السبق و الرماية

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 361

كتاب السبق و الرماية و هو يحتوي على فصلين:

الفصل الأول في السبق و شروطه و أحكامه

(المسألة الأولى):

السبق بفتح السين و سكون الباء مصدر من قولنا: سبق الرجل الى المكان أو الى الغاية بمعنى تقدم على غيره في الوصول إليهما، و منه حق السبق الى الموضع من المسجد، و الى الموضع في السوق، و السبق أيضا كما يقول بعض اللغويين مصدر ثان من قولهم سابقه مسابقة اي غالبة في أمر يريد كل واحد من الرجلين أن يتقدم فيه على صاحبه، و المعنيان للسبق متغايران، فالسبق الأول يدل على تقدم فعلي من الرجل السابق، و ان لم تكن بينه و بين غيره منافسة أو مغالبة، و السّبق الثاني يدل على المسابقة في الأمر بين الرجلين أو الرجال، و لا يدل على تقدم واحد منهم بالفعل، و السبق بالمعنى الثاني أقرب الى المعنى الاصطلاحي الذي يبحث عنه الفقهاء في هذا الكتاب و السبق بفتح السين و الباء هو العوض الذي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 362

يجعل أو يبذل لمن يسبق في الحلبة مكافأة له على سبقه و فوزه، و يقال له أيضا:

الخطر بفتح الخاء و الطاء، و يسمى كذلك الرهن و منه تسمية المسابقة بالمراهنة.

(المسألة الثانية):

السبق أو المسابقة المبحوث عنها في الكتاب هي إجراء الخيل و ما يشبهها من الدواب ذوات الحافر و هي البغال و الحمير، و من ذوات الخف و هي الإبل و الفيلة في حلبة لتعرف السوابق الجياد من المركوبات، و الأشد حذاقة و معرفة و الأقدر على الفروسية و المران من راكبيها، و لتمرن الدواب على الجري و العدو و الوقوف و الاندفاع حسب الإشارة و الأمر و الزجر، و يمرّن الراكب على أنواع الحذق و الفروسية و التبصر في فنونها و التصرف كما تقتضي الحال و القدرة عليها و

يدخل ذلك في أعداد القوة الذي أمر اللّه به في صريح الكتاب و متواتر السنة.

و لا ريب في مشروعية السبق و محبوبيته في الإسلام دين الجدّ و الجهاد و الاجتهاد، و المسابقة بعد ذلك كله معاملة شرعية ثابتة تقع بين المتسابقين يدفع فيها للسابق عوض مخصوص مكافأة له على سبقه و حذاقته، و ليشجع على المضي في سيرته، و ليندفع غيره الى الاقتداء به، و التحليق معه أو الارتفاع عنه في الأشواط المقبلة و المسابقات الآتية.

(المسألة الثالثة):

المسابقة عقد شرعي مخصوص يقع على اجراء الخيل، و على اجراء البغال أو الحمير ليعرف السابق من غيره بعوض يعين للسابق واحدا كان أم أكثر بحسب ما يتفق عليه المتعاقدان أو المتعاقدون في الحلبة، و يصح أن يجرى العقد لإجراء ذوات الخفّ من الإبل أو الفيلة، و يجري نظيره أيضا في الرماية و سيأتي بيانه ان

كلمة التقوى، ج 5، ص: 363

شاء اللّه تعالى.

و الظاهر أن العقد الشرعي الذي ذكرناه انما يجرى في المسابقة بين الدّواب إذا كانت من نوع واحد، فلا يصح في المسابقة بين الخيل و البغال مثلا أو بين البغال و الحمير، و تصح المعاملة فيها إذا أجويت على وجه آخر من المعاملات كالجعالة و الصلح و شبههما.

و لا يجري العقد الشرعي المخصوص في المسابقات في الأعمال الأخرى و ان كانت مباحة صحيحة الغرض، بعيدة عن اللعب و اللهو، بل و ان كانت من الأمور الراجحة في الدين أو الدنيا، و يمكن أن تجرى المعاملة فيها على وجه شرعي أخره و سنتعرض لذلك ذلك في موضع يأتي من الكتاب ان شاء اللّه تعالى.

و لا تجوز المعاملة في الأمور التي تكون من اللهو و اللعب و المقامرة،

و لا يجوز فعل هذه الأمور، و أن خلت من الأعواض عليها و بذل المال فيها، و إذا بذلت فيها الأعواض و الأموال كان تحريمها أشد و العقاب عليها أشق، و خصوصا إذا كان دفع العوض و المال بقصد التمرين و التشجيع على مزاولة الفعل المحرم في الإسلام، من المرديات المهلكات و من كبائر الكبائر.

(المسألة الرابعة):

يجوز لأحد الرجلين أو الرجال المشتركين في المسابقة أن يبذل مبلغا من ماله أو عينا معلومة من مملوكاته و يجعل ذلك عوضا في المسابقة بينه و بين أصحابه، ليدفع لمن يسبق منهم جزاء له على سبقه، و يصح أن يكون العوض الذي يبذله الباذل دينا له في ذمة أحد من الناس، فيقول: جعلت المبلغ الذي أملكه في ذمة زيد عوضا لمن يسبق في هذه الحلبة، و يصح أن يجعله دينا يبقى في ذمته

كلمة التقوى، ج 5، ص: 364

للسابق، و يجوز أن يشترك المتسابقان كلاهما في بذل العوض، فيبذل كل واحد منهما مبلغا من ماله، أو عينا معلومة من مملوكاته، أو دينا له على احد، أو دينا يبقى في ذمته، كما ذكرنا في الفرض المتقدم، و يجوز لكل فرد من المتسابقين إذا كانوا أكثر من اثنين أن يفعل كذلك، و يجوز أن يبذل بعضهم دون الآخرين، و يصح أن يكون العوض المجعول في المسابقة من شخص أخر لم يشترك في المسابقة، فيبذله من ماله عينا أو دينا كما في الفروض المتقدمة، و يجوز للولي العام على أمور المسلمين أن يدفع عوض المسابقة من بيت مال المسلمين، فإنها من مصالحهم العامة التي يصح الإنفاق فيها من بيت المال، و لا فرق بين أن تكون المسابقة عامة أو خاصة، إذا كانت مما

تدخل عرفا في الجهة التي يدعوا إليها الإسلام.

و يجوز أن تقع المسابقة و الرماية بين المتسابقين و المناضلين من غير عوض، فلا تكونان حين ذلك عقدا من العقود، و يصح أن يدفع للسابق فيهما بعض المال بعد سبقه من غير عقد أو معاملة سابقه، و يكون ذلك نوعا من التجلة و التكريم له على سبقه و فوزه.

(المسألة الخامسة):

العقد المخصوص في المسابقة أن يلتزم كل واحد من المتسابقين للثاني سواء كانا شخصين أم كانا فريقين بالمسابقة بينهما و بقيودها و شروطها حسب ما يتفقان عليه، و باستحقاق من يسبق منهما بالفعل للعوض المبذول و دفعه اليه، و أن يعينا كل أمر يفتقر التعيين في المعاملة، و يكون إهماله و عدم تعيينه موجبا للنزاع، فإذا تمّ الاتفاق بينهما على جميع ذلك أجريا صيغة العقد بينهما بأي لفظ

كلمة التقوى، ج 5، ص: 365

يكون دالا على اتفاقهما المذكور و التزامها بالمقصود، سواء كانت دلالته بظهور اللفظ بنفسه أم بسبب قرينة موجودة توجب الظهور في المعنى المراد، فإذا حصل الإيجاب من أحد الجانبين و القبول من الجانب الثاني تم العقد و وجب الوفاء به بينهما.

و لا يتعين في عقد المسابقة أن يكون الموجب فيه هو باذل العوض، بل يتخير الجانبان في أن يكون الإيجاب من أيهما أرادا، و إذا تعدّد المتسابقون و كلّ احاد الفريق و أحدا منهم أو من غيرهم لينشئ الإيجاب بالوكالة عنهم، و وكل أفراد الفريق الثاني أحدا منهم أو من غيرهم لينشى القبول كذلك و يجوز إنشاء العقد بالمعاطاة.

(المسألة السادسة):

يشرط في صحة عقد المسابقة أن تجتمع في الموجب و القابل جميع الشروط العامة التي تشترط في صحة العقود و المعاملات الشرعية، فيجب في كل منهما أن يكون بالغا عاقلا مختارا قاصدا للمعنى المراد غير محجور عليه حجرا يمنعه عن التصرف، فلا يصح عقده إذا كان صبيا أو كان مجنونا، أو كان مكرها على فعله، أو كان هازئا أو هازلا في قوله، أو سكر أن أو غضبان ليس له قصد، أو كان سفيها سفها يحجره عن مطلق التّصرف، و لا يجوز له أن

يبذل العوض من ماله إذا كان سفهه يحجره عن التصرف في ماله إلا إذا أذن له وليه بالبذل، و لا يجوز له البذل من أمواله الموجودة إذا كان مفلسا إلا إذا أذن له الغرماء أصحاب الديون عليه، و يصح إذا كان العوض المبذول منه دينا يبقى للسابق في ذمته، فإنه لا يزاحم حقوق الغرماء.

(المسألة السابعة):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 366

يجب تحديد المسافة التي تقع فيها المسابقة من أول بداءتها الى نهايتها على الأحوط لزوما بل لا يخلو ذلك عن قوة، و يجب أيضا تعيين العوض الذي يجري عليه العقد في جنسه و مقداره، و تبيين انه عين مشخصة في الخارج أو دين يثبت للسابق في الذمة، و إذا كان دينا فهل هو حال أو مؤجل، و لا بد من تعيين الدابة التي يسابق عليها بمشاهدة يرتفع بها الغرر و الجهل، أو بوصف يكون بمنزلة المشاهدة و منها ما إذا كانت الفرس التي يسابق عليها مشهورة الوصف معلومة الحال عند الطرفين، فيكفي ذلك في صحة العقد، و ان لم يشاهدها غير صاحبها من المتسابقين.

و إذا كانت المسابقة بين الطرفين لا تشتمل على عقد، لم يجب فيها تعيين المسافة، و لا تعيين العوض و أن كان بعض الأطراف عازما من أول الأمر على أن يدفع من ماله عوضا في المسابقة، فإذا أجريت المسابقة و علم السابق فيها جاز لذلك الشخص أن يدفع له اي مقدار يريد.

(المسألة الثامنة):

يشترط في صحة العقد في المسابقة أن يجعل العوض الذي يراد دفعه فيها لمن يسبق من المشتركين في الحلبة، و يجوز أن يجعل منه نصيب لمن كان مصليا أو ثالثا، و لا يصح العقد إذا اشترط فيه أن يكون العوض كله أو بعضه لشخص لم يشترك في المسابقة و ان اشترك في تنظيمها، أو في بعض مقدماتها، و لا يصح العقد إذا اشترط فيه أن يكون العوض كله أو بعضه للمسبوق المغلوب في المسابقة، و يجوز للسّابق بعد أن يتملك العوض في المسابقة و يقبضه، من باذله، أن يتبرع به أو ببعضه للمسبوق أو لشخص

لم يشترك في المسابقة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 367

(المسألة التاسعة):

يشترط في صحة العقد أن يكون كل واحد من المتسابقين قادرا على المسابقة غير عاجز عنها، فلا يصح العقد إذا علم أن الفارسين الراكبين عاجزين عن المسابقة أو كان أحدهما عاجزا كذلك، و لا يصح العقد إذا علم أن الدابتين اللتين يقع السباق عليهما ضعيفتان لا تقويان على المسابقة، أو علم أن أحدهما لا تطيق ذلك، و المراد بهذا الشرط أن يكونا قادرين على المسابقة في وقت المسابقة لا في وقت العقد، فإذا اجرى العقد و كانا قادرين عليها في ذلك الحال ثم عجزا أو عجز أحدهما في حين المسابقة بطل العقد.

(المسألة العاشرة):

لا يمنع من اشتراك غير البالغ في المسابقة نفسها إذا كان قادرا على الركوب و الدخول في المسابقة فيصح منه ذلك، و لا يمنع المجنون من الاشتراك فيها أيضا إذا كان قادرا عليها، و كان جنونه لا يمنعه من ذلك، و لا يخشى أن يؤدّي به أو بدابته الى ما لا يحمد، فيصح اشتراكه في المسابقة نفسها، و يجب أن يكون الاشتراك بإذن ولي الصبي و ولي المجنون، و لا بد و أن يكون اجراء عقد المسابقة من الوليين نفسهما، و قد سبق في المسألة السادسة أن العقد لا يصح الا من البالغ العاقل.

(المسألة 11):

ليس من المسابقة المبحوث عنها أن يرسل كل واحد من الرجلين فرسه أو دابته من غير أن يركبها فتستبق الدابتان بينهما من غير فارس أو راكب، فلا يكون ذلك مسابقة، و لا يصح عليه عقد و لا يحلّ به أخذ عوض، إلا إذا دفعه الباذل الى

كلمة التقوى، ج 5، ص: 368

مالك الفرس السابق من باب التبرع له، و كذلك الحكم إذا ركب أحد المتسابقين دابته و أرسل الآخر دابته فاستبقت مع الأول، فلا يكون ذلك من المسابقة، و لا تجرى عليها الأحكام.

(المسألة 12):

يصح أن تجري المسابقة بين شخصين، و أن يقع بينهما عقد المسابقة و تترتب بينهما ما للعقد من أحكام و أثار، و يستحق السابق منهما العوض كلّه إذا كان مبذولا للسابق، و أن أتى الثاني بعده مصليا، فلا يستحق من العوض شيئا، سواء بذله أحدهما، أم بذله كلاهما، أم بذله شخص ثالث لم يشترك في المسابقة معهما و لا يشترط في صحة المسابقة بينهما أن يدخل معهما شخص ثالث محلل يتسابق معهما كما يراه جماعة، و إذا اشترط المتسابقان في العقد أن يدخل المحلل معهما لزم الشرط و وجب الوفاء به، فان عيّنا له في ضمن العقد حصة معلومة من العوض تكون له إذا سبق تعينت له تلك الحصة، و مثال ذلك: أن يشترطا في ضمن العقد أن يكون له ربع العوض أو ثلثه إذا هو سبق في الحلبة، فإن هو سبق أخذ تلك الحصة خاصة، و ان لم يشترطا ذلك أخذ العوض كله، و إذا سبق مع غيره اقتسم معه العوض بالسوية.

(المسألة 13):

المحلل كما بيّنا شخص ثالث يدخل مع الشخصين المتسابقين إذا هما اشترطا في ضمن العقد وجوده في المسابقة، فيتناوله العقد للشرط المذكور و يجرى فرسه معهما في الحلبة، و لا يبذل مع المتسابقين شيئا من العوض، و قد بيّنا في المسألة الماضية مقدار ما يأخذه من العوض إذا سبق.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 369

(المسألة 14):

إذا تساوى المتسابقان و المحلل في وصولهم جميعا إلى الغاية و لم يسبق منهم أحد لم يستحقوا جميعا من العوض المبذول شيئا و رجع كل مال الى باذله سواء كان البذل من بعضهم أم من الجميع أم من شخص لم يشترك معهم في المسابقة.

و إذا بذل العوض أحد المتسابقين في الحلبة، ثم سبق الباذل فيها و لم يشاركه في السبق غيره رجع اليه العوض الذي بذله، فإنه لا يستحق على نفسه شيئا و هذا هو المراد باستحقاق العوض في هذه الصورة من الإطلاق الذي ذكرناه في المسألة الثانية عشرة.

و كذلك إذا بذل معه صاحبه المسبوق عوضا أخر أو اشترك معهما شخص ثالث فبذل كل واحد منهم عوضا فإذا سبق أحد الباذلين و لم يسبق معه غيره استحق هذا السابق العوض الذي بذله الآخران و رجع اليه العوض الذي بذله هو لأنه لا يستحق على نفسه شيئا و هذا الأمر واضح و انما يذكر للتنبيه لئلا يلتبس الأمر.

و تراجع المسألة السابعة عشرة في حكم ما إذا كان المتسابقون كثيرين.

(المسألة 15):

إذا بذل كل واحد من الشخصين المتسابقين من ماله عوضا لمن يسبق في الحلبة، ثم سبق احد الباذلين للعوض و سبق معه المحلل و تساويا هو و المحلل في الوصول إلى الغاية و تأخر الآخر المسبوق عنهما، استحق السابقان العوض الذي بذله المسبوق و كان بينهما بالمناصفة، و أشكل الحكم في العوض الذي بذله

كلمة التقوى، ج 5، ص: 370

السابق، و قد ذهب جمع من العلماء الى أن هذا العوض يرجع الى باذله السابق و لا يستحق المحلل منه شيئا، و هو مشكل كما ذكرنا و لا يترك الاحتياط فيه بالرجوع إلى المصالحة بين الباذل و المحلل.

و

كذلك إذا بذل كل من المتسابقين عوضا، أو بذله أحدهما خاصة، و بذل معهما أجنبي لم يشترك في المسابقة ثم سبق في الحلبة أحد الباذلين و سبق معه المحلل، فيتقسم السابق الباذل و المحلل كلا من العوض الذي بذله الأجنبي و العوض الذي بذله المسبوق بينهما بالمناصفة، و يشكل الأمر في العوض الذي بذله السابق كما تقدم و يجرى فيه الاحتياط المذكور.

و نظيرهما في الاشكال ما إذا بذل الأول العوض و لم يبذل معه غيره ثم سبق في الحلبة و سبق معه المحلّل، فذهب أصحاب ذلك القول الى أن العوض المبذول يرجع الى باذله و لا يستحق المحلل منه شيئا، و لا يترك الاحتياط الذي ذكرناه و الفروض المذكورة في المسألة كلها من مأخذ واحد.

(المسألة 16):

إذا بذل شخص أجنبي عوضا من ماله في المسابقة و شرط في بذله أن يكون عوضه لزيد خاصة إذا سبق على غيره، و أن لا يدفع الى السابق إذا كان غير زيد، أو شرط أن يكون العوض كله لزيد وحده إذا سبق، و ان سبق معه غيره و ساواه فلا يدفع من العوض شي ء للسابق الآخر، أو شرط أن يكون العوض الذي بذله كله لزيد سواء كان غالبا أم مغلوبا، لم يصح ذلك إذا كان دفعه بنحو العوض المعلوم في العقد الشرعي المخصوص، فيرجع الى باذله، و يصح ذلك منه إذا كان دفعه للمال على وجه التبرع لزيد على النحو الذي تبرع به.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 371

(المسألة 17):

السابق من فرسان الحلبة هو الذي يتقدم حصانه على خيل المسابقة بالعنق و الكتد أو بأكثر من ذلك، و يراد بالكتد عظم مرتفع يقع بين عنق الحصان و ظهره و يسمى السابق أيضا بالمجلى، و الثاني من فرسان الحلبة هو المصلى و هو الذي يأتي حصانه بعد السابق، و يحاذي رأسه صلوى السابق أو يتقدم عليها و لا يصل الى الكتد، و المراد بالصلوين من الحصان عظمان يقعان عن يمين ذنبه و يساره، ثم يأتي الثالث من فرسان الحلبة، ثم الرابع و هكذا، و لها أسماء خاصة في اللغة تعرف بها.

فإذا كان العوض الذي بذله مالكه في المسابقة قد اشترط فيه باذله أن يكون للسابق اختص به الأول المجلى إذا كان واحدا، و أخذه وحده، و إذا كانت الحلبة كثيرة العدد و سبق منهم اثنان أو ثلاثة فوصلوا إلى الغاية متساوين في السبق اقتسموا العوض المبذول للسابق بينهم بالمساواة فإن كانا اثنين اقتسماه بالمناصفة و ان كانوا

ثلاثة فبالمثالثة، و لم يستحق الثاني المصلى من هذا العوض شيئا، و إذا كان باذل العوض قد جعله حصصا متعددة فللسابق حصة معينة و للمصلي حصة أخرى و للثالث حصة ثالثة، وزع العوض بينهم حسب ما عينه الباذل.

(المسألة 18):

إذا بذل الباذل من المتسابقين أو من غيرهم عوضا في المسابقة و أطلق بذل ماله و لم يجعله حصصا على مراتب المتسابقين كما بيناه في المسألة المتقدمة كان جميع العوض للسابق الأول سواء كان واحدا أم متعددا، و لا حق فيه للثاني المصلى و لا لغيره و قد فصلنا ذكر هذا، و كذلك إذا بذل الجميع من أموالهم أعواضا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 372

في المسابقة و أطلقوا بذلهم و لم يذكروا حصصا، فيكون الجميع نصيبا للسابق المجلى و ان كان واحدا و كان المبلغ كثيرا، و انما يستحق المصلى أو الثالث أو غيرهما شيئا إذا صرح الباذل فجعل في عوضه الذي بذله حصة للمصلي أو لغيره.

و نتيجة لهذا التفصيل فإذا بذل كل واحد من الشخصين المتسابقين من ماله عوضا و أطلقا بذلهما ثم تسابقا مع المحلل، فسبق أحدهما و صلى المحلل و تأخر الثالث أخذ السابق جميع العوض و لم يستحق المحلل منه شيئا و ان كان مصليا.

(المسألة 19):

إذا تم عقد المسابقة بين الشخصين أو الأشخاص و أجريت الخيل أو الدّواب و تحقق السبق من بعضهم ملك السابق العوض المبذول و ان تأخر قبضه لبعض الموانع التي أوجبت التأخير، فإذا كان العوض عينا و حصل منها نماء أو نتاج بعد التحقق السبق كان النماء و النتاج الحاصل منها مملوكا للسابق بتبع ملكه للعين.

(المسألة 20):

لا يصح أن يجعل العوض في المسابقة لشخص لم يشترك في السباق، و من أمثلة ذلك أن يقول بعض المتفرجين في حفلة السباق للبعض الآخر منهم: أراهنك على سبق هذه الفرس و هي فرس زيد، فان سبقت هي على غيرها من الخيل فعليك أن تدفع لي عشرة دنانير مثلا و أن سبقها غيرهما فعلىّ أن أدفع لك مثل هذا المبلغ فلا يصح مثل هذا الرهن و لا يحلّ أخذ المال بسببه، و يكون من المقامرة المحرمة و أشدّ من ذلك حرمة و أنكى أن يجرى مثل هذا الرهان بين المتفرجين على الألعاب

كلمة التقوى، ج 5، ص: 373

الرياضية و شبهها مع فرض كونها ألعابا.

(المسألة 21):

لا يحل أن يقول احد المتسابقين في الحلبة لشخص ثالث لم يشترك: أراهنك على فوزي في المسابقة، فإن غلبني صاحبي و فاز بالسبق علي دفعت إليك عشرين دينارا، فلا يحل لذلك الشخص أن يأخذ المبلغ من القائل إذا غلبه صاحبه و دفع مبلغ الرهان اليه، و يكون ذلك من المقامرة المحرمة.

(المسألة 22):

قد تقع المسابقة بين الشخصين أو الأشخاص، و تجرى فيها الخيل أو الدواب لغير الوجه الشرعي الذي أراده الإسلام من المسابقة و دعا اليه و حث المسلمين عليه، و شرع له احكامه، و هو اعداد القوة لقتال الأعداء و التمرين على الفروسية للجهاد في سبيل اللّه، و بسط العدل في الأرض، و إعلاء كلمة اللّه، فتقام المسابقة لغير ذلك من المقاصد و الغايات.

فان كان الوجه الذي تقام له هذه المسابقات مقصدا، صحيحا راجحا أو مباحا يرغب فيه العقلاء المتزنون و لا يعدّونه من اللهو و اللعب، كانت كسائر المسابقات التي تجريها العقلاء لمثل هذه الغايات الراجحة في الدين أو المطلوبة في أمور الدنيا، و سيأتي أن شاء اللّه تعالى بيان الحكم فيها.

و أن أقيمت بداعي اللهو و اللعب و قتل الوقت كما يقول البعض أو بداعي تحصيل المال، و ان كان تحصيله بوسيلة غير شرعية، شملتها أدلة تحريم اللهو و اللعب، فيحرم إجراؤها و ان كانت بغير عوض، و إذا كانت مع الأعواض فهي أشد حرمة و أمض عقوبة من اللّه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 374

(المسألة 23):

تحرم الأعمال التي تعدّ من اللعب و اللهو عرفا، و تكون هذه الأعمال مع الاجتماع لها لهذه الغاية أشد حرمة و جرما، ثم هي مع استصغار أمرها و الاستهانة بنهي اللّه عنها تكون أشد من ذلك تحريما و مقتا و عقوبة عند اللّه، فإذا تعاظم الاستصغار لها و بلغ إلى درجة الإصرار على معصية اللّه و التمرن و الاعتياد عليها اشتد الأمر فيها و تعقد و تلبّد و كلما ازداد الإصرار و الاعتياد كبرت الجريمة و العقوبة و المقت من اللّه سبحانه ثم يكون تأثيرها أشد و أعمق و

جرحها أنكى و أمض إذا هي وقعت في أدوار الشباب، و هي زهرة الحياة و أيام التفتح و البناء النافع المجدي للشخصية المؤمنة المتكاملة، فلا بدّ من اليقظة، و لا بد من الوعي و لا بد من الحذر، و خصوصا في العصور التي كثرت فيها الدعايات لهذه الأمور و تنوّعت أسباب الإغراء و الفتنة بها و أساليب الدعوة إليها (إِنَّ الشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّمٰا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحٰابِ السَّعِيرِ).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا، وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

(المسألة 24):

يجوز التنافس في الأعمال الراجحة في الحياة الدنيا، و في الأعمال المباحة فيها من اللّه (عز و جل) و لم يرد فيها منه نهي و لا تحريم، و يجوز التسابق فيها مع العقلاء، فالتنافس و التسابق إذا كان صحيحا مستقيما في اساليبه و غاياته فهو وسيلة كبرى من وسائل الابداع في الفكر، و الارتقاء في الحياة و الابتكار في الأمور و الاعتماد على النفس و الذكاء و المواهب، و التحرر الذاتي عن التبيعات و النفع الكبير الكثير للنفس و للإخوان من بني الإنسان، شريطة أن لا يشغل المؤمنون

كلمة التقوى، ج 5، ص: 375

و المسلمون بهذا التنافس و التسابق عما هو أكبر و أعظم و أجدى لهم و أنفع، و هو ابتغاء مرضاة اللّه و السعي في طلب نائلة، و التوكل الكافي عليه، و شريطة أن لا يشغل المؤمنون و المسلمون بسبب ذلك في ما بينهم، فتتولد الفروق و الا حن و الحزازات، و يبعدون عن الغاية و هم يرومون القرب إليها، فإن مكائد الشيطان و اساليبه في صرف المؤمن عن رضى ربه، و عن سبيل الحق لن تعد و

لن تحصى، و التنافس و التسابق إذا لم يكن صحيحا، و لم يكن مستقيما مع المبادئ الصحيحة السوية كان وسيلة من وسائل الشيطان للتفرق و الشقاق و الشقاء.

يجوز التسابق و التنافس في الأعمال التي ذكرناها إذا خلت عن المحاذير التي يمقتها الله، و يبغض وقوعها من الإنسان الذي كرمه و فضله، و من المسلم و المؤمن على الخصوص، و يجوز دفع العوض من الأموال للسابق فيها إذا كان دفع المال اليه من باب الجعالة له على فعله الذي سبق فيه، و يجوز التبرع له بذلك بقصد التشجيع و التكريم له لسبقه أو لابتكاره أو للمزية التي امتازها على أقرانه.

و لا يجري فيها العقد الشرعي المتقدم ذكره، فإنه يختص بمسابقة ذوات الحافر أو الخف، و بالرماية للنصوص الخاصة، و منها قول الرسول (ص): (لا سبق إلا في حافر أو نصل أو خف).

(المسألة 25):

تصح المسابقة على الظاهر بين الشخصين في العدو على الأقدام، و في السباحة، و في السفن الشراعية و نحو ذلك إذا تعلق بمثل هذه المسابقات غرض يعده الناس العقلاء صحيحا متعارفا لهم، و لم تكن من اللعب و اللهو في نظر أهل العرف، و يجرى فيها البيان الذي تقدم في المسألة الماضية.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 376

(المسألة 26):

من السبق المطلوب الراجح أن يتقدم الطبيب في صناعته حتى تكون له الأولية و التفوق الكبير على أقرانه في كشف الأمراض الخبيثة و المستعصبة، و علاج المصابين بها من بني الإنسان، و ازالة الأوباء و الاخطار بذلك عن حياة كثير من الموبوئين و المعذبين في هذه الحياة، و من السبق المرغوب فيه أن يتقدم السابق فيه في علوم الصيدلة فيكتشف العقاقير و الأدوية الحاسمة للأدواء المتوطنة المزمنة، و التي تزيل البؤس و النعاسة عن نفوس بائسة يائسة، و تعيد لها نضرة الحياة و بهجة الأمل، و من السبق المهم أن يتقدّم الصانع في صنعته و يفوق أقرانه و زملاؤه فيها، و يصبح قدوة و مثلا عاليا لهم في إتقان العمل، و دقة الصنعة و كثرة الإنتاج، و من السبق أن يبرع الخطاط و يبدع في جمال خطّه، و دقي فنّه و يحرز الأولية، و الفوز بين زملائه و هكذا في كل مجال من الصناعات و العلوم و الفنون المباحة و النافعة في هذه الحياة فيمكن فيه السبق و يجوز فيها التسابق و إحراز الفوز و الأولية و تجرى فيها الاحكام التي تقدمت في المسألة الماضية.

(المسألة 27):

الإسلام دين الجد و التكامل و الارتقاء الاختياري في كلّ المجالات التي يمرّ بها المسلم منذ نعومة أظفاره، فهو يجب للتلميذ الصغير من أبنائه منذ مراحله الاولى أن يتقدم في تعلّمه و تلقيه، و يسبق على اترابه، و يجوز الأولية في جميع أشواطه، و يجب للشاب في مراحله المتوسطة أن يتقدم كذلك حتى يبذ أقرانه و يكون السبق له عادة مستمرة، و يحب له في مراحله المنتهية أن يصبح السعي و الجد المتفوق على الآخرين عادة مستقرة في أعماقه، فلا

يقر و لا يهدأ حتى ينال

كلمة التقوى، ج 5، ص: 377

الأولية في كل شوط ممكن.

و الإسلام بالإضافة إلى الطلاب من أبنائه في مدارسهم الدينية، و تعلّمهم فيها، و تكاملهم و ارتقائهم في مناهجها أشد رغبة لهم في أن يتقدموا و يحرزوا الفوز و السبق في اشواطهم في العلم، و اشواطهم في العمل، و اشواطهم في الخلق و اشواطهم في التربية، و أدب النفس، و متممات السعادة لهم و للآخرين من تلاميذهم، و المتبعين لإرشادهم و السائرين على هديهم، و الإسلام بالإضافة الى جميع أبنائه المتبعين لحكمه و حكمته يريد منهم التقدم و السبق في التعلم و التعليم و في الأدب و في زكاة النفس و بناء الشخصية فهو يحب حبا عميقا و يرغب رغبة ملحة للمتعلم و المعلم و للأديب و للخطيب و للمرشد و للمسترشد في أن يسبقوا و يتقدموا و يحلقوا في مجالاتهم، حتى يصل دين اللّه بهم الى الغاية التي أرادها لهم، و هي السعادة العامة المتكاملة الحلقات و المجتمع الفاضل المتراصّ البناء المنير الأجواء.

و الإسلام يهيئ نفوس اتباعه و قلوبهم و طباعهم لكل ذلك بمناهجه و تعاليمه، و يفتح أبواب المشاريع له في أنفسهم و أموالهم، فيأمرهم بالاستباق الى الخير و التعاون على البر و التقوى، و يعدّ لهم الضمانات الاجتماعية الكفيلة بذلك و غيرها مما يطول شرحه، و يضيق هذا المجال عن بيانه، و النصوص التي تدعم كلّ هذه الجهات كثيرة وفيرة.

(المسألة 28):

يجري في هذه المسابقات كلها ما ذكرناه في المسألة الرابعة و العشرين فيجوز دفع العوض للسابق فيها بعنوان الجعالة له على ما قام به من علم، و يجوز دفع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 378

العوض له من

باب التبرع له، مكافأة على سبقه و تميّزه، و مساهمة من المتبرع في بناء المجتمع المسلم، و خدمة للإسلام في تحقيق بعض اهدافه و غاياته و يصح أن يدفع العوض له من باب الاستباق الى الخير، و التعاون على البر، بل و يستحب الاعداد لإجراء هذه المسابقات و دفع الأعواض للسابقين فيها، لما ذكرناه من الوجوه، و للمشاركة في الضمان الاجتماعي الذي يعدّه دين اللّه العظيم لأتباعه، و لا يجري فيها العقد الشرعي المخصوص في المسابقة، و قد بينا وجه ذلك في المسألة المشار إليها.

(المسألة 29):

يحسن إنشاء هذه الرغبة في نفوس التلاميذ الصغار من المؤمنين و بعث الشوق في قلوبهم، بإجراء المسابقة بينهم في حفظ بعض السور من الكتاب الكريم فيمرنون فيها على التلاوة الصحيحة، و يرغبون في حفظ السور منه، و يحرّضون على التسابق في ذلك، و يوعد السابق منهم بالمكافاة له على سبقه، فمن كانت تلاوته أصح و حفظه أتم فهو السابق الأول، و له التكريم في الدرجة الاولى و العوض التام المعيّن في المسابقة، و من كان أدنى من ذلك فهو في الدرجات اللاحقة من السبق، و له الحصة الثانية أو الثالثة من العوض، و يبتدأ معهم بالسور الصغيرة و يكبر التمرين معهم كلما كبر سنهم، و ازدادت قوة حفظهم و نشطت ملكات إدراكهم، ثم يزادون مادة من التفسير الواضح و معاني الكلمات المفردة في اللغة.

و يمكن أن تكون الدربة لهم مع تقدم السن بحفظ بعض النصوص المنتخبة من الحديث النبوي الشريف، و من خطب نهج البلاغة و كلمات بعض المعصومين (ع) مع اضافة بعض الشرح و بعض الإيضاح، و يعد للسابق جزاؤه و للاحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 379

مكافأته على

النهج المتقدم في سبقهم في حفظ القران.

الفصل الثاني في الرماية و ما يتعلّق بها

(المسألة 30):

يراد بالرماية هنا المسابقة بين شخصين أو بين فريقين في الرمي ليعرف من هو أدقّ في إصابة الغرض، و أكثر في عدد الإصابة من غيره، و تسمى أيضا بالمناضلة، و تطلق الرماية أيضا على المناضلة بالسيوف و الرماح و الحراب من ذوات النصل، و ان كان الضرب بالسيف أو بالرمح لا يسمّى رميا، و الرماية كالمسابقة بين ذوات الحافر و الخف و نظيرتها في الشرعية و الأحكام، فالحث و التأكيد الشرعي في النصوص وارد فيهما على السواء، و هما معا من أعداد القوة المستطاعة لقتال من يجب قتاله و ارهابه من أعداء الإسلام، و لتأديب من يجب تأديبه من غيرهم، و يصح في الرماية أيضا ان تكون بعوض و ان تقع بغير عوض و تطلق كلمة الرماية أيضا على العقد الشرعي المخصوص للمسابقة بين الطرفين و العقد الشرعي المذكور يجري في كل من المسابقتين.

(المسألة 31):

يشترط في صحة المناضلة في الرمي شرعا جميع ما يشترط في مسابقة ذوات الخف و الحافر فلا بد فيها من تعيين المسافة بين موقف الرامي و الغرض الذي ترام اصابته، و لا بد من تعيين العوض الذي يجعل للسابق، و يجري عليه العقد بين الطرفين على النحو الذي بيناه في المسألة السابعة، و لا بدّ من تعيين عدد الرمي

كلمة التقوى، ج 5، ص: 380

و تعيين عدد الإصابة و صفتها كما سيأتي، و لا بد من تماثل الصنف في إله الرمي فتكون إله كل من المتناضلين من السهام، أو من الحراب أو من السيوف مثلا، فلا تصح المناضلة إذا اختلفت آلاته، و يعتبر في صحتها أن يكون المتناضلان قادرين عليها، فلا يصح العقد بين عاجزين و لا بين قادر و عاجز،

و تلاحظ المسائل المتعلقة بهذه الشروط من الفصل الأول.

(المسألة 32):

يجرى العقد الشرعي المخصوص في الرماية كما يجري في السبق و يتحدان في نحو إنشاء العقد، و في ما يعتبر في صحة العقد من الشروط، و في ما يصح من العوض فيه، و من يبذله، و لا اختلاف بينهما في شي ء من ذلك، بل الظاهر أن العقد في كلا الموردين عقد واحد، و تفصيل ما يتعلق به في المورد الأول يغني عن اعادته هنا فليرجع الى الفصل الأول من يريد التطبيق هنا.

(المسألة 33):

الرشق بكسر الراء و سكون الشين هو عدد الرميات الذي يعينه المتناضلان للنضال بينهما فيرمي كل واحدا منهما ذلك العدد، و الناضل أو السابق في المناضلة هو من يكون أكثر و أدق اصابة للغرض في ذلك العدد المعيّن.

و الغرض هو رقعة معيّنة يقصد الطرفان اصابتها بالرمي، و قد يجعلان الغرض دائرة أو نصف دائرة و يجعلان في وسطها نقطة معيّنة تسمى في عرف الرماة بالخاتم و يشترطان في السابق أن يصيب أي جزء اتفق من الدائرة أو يشترطان أن يصيب النقطة المعينة في وسطها، و الهدف موقع المرتفع عن وجه الأرض من تراب أو حائط أو غيرهما يجعل عليه الغرض لتتبين رؤيته و تمكن اصابته.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 381

و للسهم في عرفهم أيضا أوصاف كثيرة يعدّدهما علماء اللغة و يذكرون للسهم أسماء باعتبار تلك الأوصاف فمن السهام مثلا ما يصطدم بالأرض ثم يتنقّل و هو بسرعته على وجهها حق يصل الى الغرض، و منها ما يصيب الهدف و لا يصل الى الغرض نفسه، و منهما ما يضرب وجه الغرض فيخدشه خدشا و لا يثبت فيه و منها ما يخرقه و ينفذ منه، و هكذا، و ليس في ذكر هذه الأوصاف و تعداد

أسمائها كبير فائدة في البحث المطلوب، و المدار في صدق السبق على ما يعدّ اصابة للغرض في نظر أهل العرف، فيكون هذا هو المتبع، و إذا لم يوجد بين أهل العرف شي ء يمكن التعويل عليه ليتبع في ذلك، فلا بد من التعيين و الاشتراط في العقد بين المتناضلين، و إذا أهملا ذلك و لم يعينا شيئا يكون العقد باطلا.

(المسألة 34):

تصح المسابقة في الرمي على الأقوى بآلات الرمي الحديثة، و بأسلحة الحرب الموجودة في الأزمنة الحاضرة، و يجوز بذل العوض للسابق فيها إذا كان دفعه اليه بعنوان الجعالة على ما قام به من عمل للإسلام، أو من التبرع له مكافأة له على فوزه و نجاحه في بلوغ الغاية المطلوبة، أو من السبق الى الخير و التعاون على البرّ إذا كانت المسابقة لإعداد القوة للجهاد في سبيل اللّه، و قتال أعداء الإسلام و ارهابهم، و لا يجري فيها العقد الشرعي الخاص للمسابقة على الأحوط.

(المسألة 35):

إذا جرى عقد المسابقة في الرمي بين الطرفين و حصلت المناضلة بينهما و علم سبق السابق فيها ملك للسابق العوض المجعول له في العقد كما تقدم في نظيرتها، و لا يملك العوض بنفس العقد و تلاحظ المسألة التاسعة عشرة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 382

(المسألة 36):

إذا تم عقد السبق أو الرماية، و جرت المسابقة أو المناضلة و تبيّن سبق السابق، و لما أراد الباذل دفع العوض المعيّن اليه ظهر أن العوض المعين له مغصوب من مالكه الشرعي، كان الأمر في العوض راجعا للمالك، فان شاء أجاز بذل العوض فيصح للسابق أخذه، و يكون الباذل من المالك و ان شاء لم يجز البذل فيصح له أن يأخذ عين ماله من الباذل، و يلزم الباذل أن يدفع مثل العوض أو قيمته للسابق وفاء بالعقد.

و إذا قبض السابق العوض بعد أن تبين سبقه ثم علم بالغصب بعد ذلك جاز للمالك أن يأخذ عين ماله من يد السابق، و إذا أخذه منه و كان الباذل قد غره فدفع العوض المغصوب اليه جاز له أن يرجع على الباذل بمثل العوض إذا كان مثليا و بقيمته إذا كان قيميا، و إذا كان السابق عالما بغصب العوض و لم يكن مغرورا بقبضه لم يرجع على الباذل بشي ء.

(المسألة 37):

إذا بطل عقد السبق أو الرماية بسبب عروض لبعض الطواري، فأوجبت فساد العقد بعد ان كان صحيحا لم يستحق السابق العوض المعين، و كذلك إذا تبين بعد العقد و المسابقة فساد العقد من أصله، فلا يستحق السابق العوض، و لا يترك الاحتياط بان تدفع له أجرة المثل بمصالحة أو غيرها في الصورتين.

(المسألة 38):

إذا اختلف السابق و الباذل في مقدار العوض المعين للسابق في عقد المسابقة فقال السابق: أن العوض ستون دينارا، و قال الباذل: بل هو خمسون لا أكثر قدم قول من ينكر الزيادة مع يمينه، الا أن يثبت الآخر صحة دعواه ببينة شرعية.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 383

كتاب الإقرار

اشارة

كلمة التقوى، ج 5، ص: 385

كتاب الإقرار و بيان البحث في هذا الكتاب يقع في ثلاثة فصول:

الفصل الأول في الإقرار و لوازمه و شروطه

(المسألة الأولى):

الإقرار هو أن يخبر الرجل على وجه قاطع جازم، لا تردّد له فيه و لا احتمال بثبوت حق لشخص أخر يلزم المخبر الوفاء به لذلك الشخص الآخر، أو يخبر كذلك بنفي حق له يلزم ذلك الشخص أن يفي به للمخبر، و من الإقرار أيضا أن يخبر الإنسان بوجود شي ء يستلزم وجوده ثبوت حق للغير يلزم على المخبر نفسه أن يفي به، أو يستلزم ثبوت حكم يجب على المخبر امتثاله، و من الإقرار أن يخبر بنفي شي ء يستلزم نفيه انتفاء حق للمخبر على الغير.

و مثال الفرض الأول أن يقول المخبر لرجل أخر: لك في ذمتي مائة دينار و أن يقول مشتري الدار: أن بائع هذه الدار قد اشترط علي أن يكون له خيار فسخ البيع إذا هو ردّ الثمن بعد مضي سنة من حين وقوع البيع، فهو يملك حق الخيار على رأس السنة إذا ردّ الثمن، و مثال الفرض الثاني أن يقول الشخص للمدعي: لا حق لي في الدار التي تدعى ملكها، و أن يخبر الشريك بأنه لا يستحق الشفعة على المشتري في الحصة التي اشتراها من شريكه.

و مثال الفرض الثالث أن يقول الرجل: إن فاطمة بنت زيد زوجته نفسها

كلمة التقوى، ج 5، ص: 386

و مكنته من حقوق الزوجية، فان ذلك يستلزم ثبوت حق النفقة لفاطمة على المخبر، و ثبوت حق القسمة لها في الليالي، و يستلزم أيضا حرمة زواجه بأختها حتى يطلّقها، و حرمة بنتها عليه إذا كان قد دخل بالأم، و حرمة الزواج بامرأة خامسة إذا كانت فاطمة هي الرابعة من زوجاته، و مثال الفرض الأخير

ان تقول المرأة المطلقة:

ان الزوج الذي طلقها لم يرجع بها حتى انقضت عدة الطلاق، فلا يجوز لها بعد إقرارها بذلك ان تطالب الزوج بحق الإنفاق عليها، و ليس لها أن تمكنه من الاستمتاع بها، أو تنظر اليه أو تلمسه بشهوة إلا بعد عقد جديد.

و قد ذكرنا في أول المسألة أن اخبار الإنسان بحصول الأمر المذكور فيها أو بنفيه انما يكون إقرارا لذا وقع منه على نحو الجزم به، و لهذا التقييد فإذا أخبر الإنسان بحصول الأمر و هو يظن حصوله، أو على نحو الشك و التردد فيه لم يكن اخباره إقرارا، و لم تترتب عليه آثاره.

و المتبع في تبيّن ذلك هو ظهور اللفظ الذي نطق به و دلالته في متفاهم أهل اللغة و اللسان، و ان لم تكن دلالة قطعية أو كانت الدلالة بسبب وجود قرينة عامة أو خاصة من حال أو مقال، فإذا دل اللفظ كذلك على حصول الشي ء، أو نفيه و دل على ان القائل كان جازما بخبره، و ليس ظانا و لا شاكا فيه، كان هذا الاخبار منه إقرارا بالمضمون، و لا اعتبار به إذا لم يكن للفظ ظهور في المعنى المراد، و كان أهل المحاورة يحتملون ان المراد منه شي ء يخالف ذلك.

(المسألة الثانية):

يعتبر في الإقرار أن يكون المخبر عارفا باللفظ الذي نطق به، و عارفا بمعناه الذي يدل عليه عند أهل اللغة، و بالقرينة الموجودة الموجبة لظهور اللفظ في المعنى المراد إذا كان الاعتماد في الظهور على القرينة، فإذا نطق هذا المخبر باللفظ

كلمة التقوى، ج 5، ص: 387

المذكور كان مقرا بمضمونه، سواء كان اللفظ عربيا أم غير عربي، و سواء كان المخبر من أهل تلك اللغة أم من غيرهم.

و بحكم

اللفظ الإشارة المفهمة للمعنى، فإنها ان لم تكن إقرارا حقيقيا فهي بمنزلة الإقرار، فإذا سأل سائل من بائع الدار بعد تمام العقد بينه و بين المشتري فقال له: هل اشترطت لنفسك خيار فسخ البيع إذا أنت رددت ثمن الدار على المشتري؟ فأشار البائع اشارة واضحة تدل على عدم الاشتراط، كانت إشارته بمنزلة الإقرار على نفسه بنفي حق الخيار له، و إذا سئل الرجل: هل تزوجت هندا؟

فأشار بالإيجاب كانت إشارته بمنزلة الإقرار على نفسه بزوجية المرأة، و إذا أشار بالنفي، كانت إشارته بمنزلة الإقرار بعدم الزوجية، فتلزمه أحكام الإقرار في الأمثلة المذكورة.

(المسألة الثالثة):

إذا وقع الاخبار من المخبر على الوجه الذي أوضحناه كان إقرارا من المخبر على نفسه بمضمون الخبر، و ان لم يكن قاصدا للإقرار على نفسه، فإذا سأله أحد هل استدنت من زيد مائة دينار؟.

فقال نعم، كان قوله: نعم إقرارا منه بأن ذمته مشغولة لزيد بالمبلغ المذكور و صح للسامع أن يشهد على إقراره به، و كذلك إذا قال و هو في أثناء حديثه مع بعض الناس: يمكنك أن تنكر دين فلان عليك و لا بينة له عليك، كما أنكرت انا دين زيد عليّ فلا يستطيع إثباته، فيكون قوله هذا إقرارا يمكن لمن سمعه منه أن يشهد عليه، و ان لم يكن قاصدا للإقرار، و مثل ذلك أن يدعي عليه المدّعي و يقول له هذه الدار أو هذه الأرض التي بيدك مملوكة لي و ليست لك، فيقول له انني قد اشتريتها منك، فيكون اخباره بشراء الدار منه إقرارا منه بأن المدّعي يملك الدار و دعوى منه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 388

بان الدار انتقلت اليه بالبيع، فيؤخذ بإقراره، و عليه أن يثبت صحة ما يدعيه

من البيع بإقامة بيّنة و نحوها.

(المسألة الرابعة):

إذا قال المدعي للإنسان الذي يدعي عليه: ان لي في ذمتك مائة دينار، أو قال له ماذا صنعت بالمبلغ الذي استحقه في ذمتك؟ أو قال له: ان الدين الذي استحقه عليك قد حضر ميعاده، فقال له الرجل: سأدفعه إليك، أو قال له: إنك ذكرتني به و قد نسيته، أو قال له: سيدفعه لك وكيلي فلان، فقد أقر له بالحق، و بمقداره في المثال الأول، و أقرّ له بالحق في المثال الثاني، و أقر له بالحق و بحضور وقته في المثال الأخير.

و لا فرق في الإقرار بين أن تكون دلالة القول عليه بالمطابقة أو بالالتزام و الأمثلة التي ذكرناها في المسألة من القسم الثاني و قد تقدمت لذلك عدة من الأمثلة أيضا.

و إذا أخبر الإنسان بثبوت حق لغيره على نفسه، و علّق في اخباره ثبوت الحق على وجود شي ء معين فقال: ان لزيد عندي أو في ذمتي مائة دينار إذا أنا وجدت المبلغ المذكور مسجلا في دفتري الخاص بالديون، لم يكن ذلك منه إقرارا، فلا ينفذ و لا يثبت له أثر، و نظير ذلك أن يقول لشخص: لك في ذمتي خمسون دينارا، إذا أنا قبضت مثل هذا المبلغ من زيد، فلا يكون إخباره إقرارا، و قد سبق منا أن الإقرار هو الاخبار بثبوت الحق على نفسه على وجه الجزم، و لذلك فيعتبر في الإقرار أن يكون الاخبار بثبوت الحق أو بنفيه منجزا غير معلّق على وجود شي ء أو على عدمه.

(المسألة الخامسة):

كلمة التقوى، ج 5، ص: 389

قد تصحب اخبار المخبر قرينة خاصة تدل على ما يخالف الظاهر من لفظه الذي تكلم به، فلا يتم ظهور اللفظ و لا دلالته على المعنى عند أهل العرف بسبب وجود تلك

القرينة، و ان كان اللفظ ظاهرا أو صريحا في معناه لو لم توجد تلك القرينة، فلا يكون خبره خبرا و لا إقراره إقرارا بسببها.

و مثال ذلك أن يخبر بخبره و هو يضحك من ذلك القول أو يبتسم ابتسامة هازئة أو ساخرة أو يتكلم بلهجة تدل على التهكم و الإنكار للخبر، أو يصحب قوله بحركة رأس أو يد أو عين أو مطّ شفة تدل على شي ء من ذلك، فلا يكون خبره خبرا كما قلنا و لا إقراره إقرارا، و مثل ذلك إذا كان اخباره بالشي ء بإشارة مفهمة لثبوته أو نفيه، أو بقول: لا، أو نعم، بعد سؤال السائل عن وجود الحق أو بغير ذلك مما تقدم ذكره فلا يثبت خبره و لا إقراره مع وجود شي ء من هذه القرائن، و هو أمر معلوم لا يرتاب فيه عاقل، و انما يذكر للتنبيه، و لكي لا تلتبس الحقائق أو الأحكام في بعض الموارد لغفلة و نحوها.

(المسألة السادسة):

إذا أقر الرجل على نفسه بثبوت حق لبعض الناس عليه أو بنفي حق للمخبر على بعض الناس الآخرين، أو أقر بوجود شي ء يستلزم وجوده ثبوت حق على المخبر، أو انطباق حكم شرعي ملزم عليه، أو أقرّ بعدم شي ء يستلزم عدمه مثل ذلك، و كان إقراره جامعا للشرائط المعتبرة فيه لزمه الأمر الذي أقرّ به، و لا ريب في هذا الحكم، بل و لا اشكال فيه بين عامة العقلاء و المشرّعين، و لا الاختلاف في نظرات المشرعين انما حصل لاختلافهم إزاء الشروط التي يعتبرونها في صدق الإقرار، و في ثبوت لوازمه على المقر عندهم.

و الشروط المعتبرة شرعا في تحقق الإقرار و لوازمه متنوعة، فبعض هذه

كلمة التقوى، ج 5، ص: 390

الشروط يجب توفره

في الأمر المقرّبة، و بعضها يعتبر اجتماعه في الشخص المقر نفسه، و بعضها يلزم وجوده في الذات أو الجهة المقرّ لها، و سنوضح كلّ قسم منها في موضعه من المسائل الآتية ان شاء اللّه تعالى.

(المسألة السابعة):

الحق الذي يقر به الإنسان لغيره على نفسه فيلزم المقر أداؤه إليه يصح ان يريد به واحدا معينا من الأشياء التي يمكن للإنسان تملكها، فيعمّ ما إذا كان الشي ء عينا موجودة في الخارج، و مثال ذلك ان يقول الرجل: الدار أو الأرض التي بيدي مملوكة لزيد، أو يقول: نصف هذه الدار أو الأرض مملوك له.

أو كان عينا كلية تشتغل بها الذمة، و مثاله أن يقول: يملك زيد في ذمتي ألف دينار، أو مائة من الحنطة، أو كان منفعة خاصة لعين مملوكة للمقر، و مثاله أن يقول:

________________________________________

بصرى بحرانى، زين الدين، محمد امين، كلمة التقوى، 7 جلد، سيد جواد وداعى، قم - ايران، سوم، 1413 ه ق

كلمة التقوى؛ ج 5، ص: 390

فلان يملك حق السكنى في داري هذه مدة سنة، أو يقول: انني أجرت فلانا أحد هذه الدكاكين المعينة التي بيدي، فهو يملك الاتجار في واحد منها مدة ستة أشهر و يصح أن يكون الدكان المستأجر واحدا في الذمة فيكون الحق المقر به منفعة كلية في الذمة، أو كان عملا من الأعمال، و مثاله، أن يقول: يملك فلان علي أن اعمل له في مزرعته أو ضيعته مدة ستة أشهر، أو كان حقا من الحقوق التي تجوز لصاحبها المطالبة بها، و مثال ذلك ان يقول: لزيد علي حق الشفعة في الأرض التي اشتريتها من شريكه، أو يقول: له علي حق الخيار في الدار التي اشتريتها منه.

و كذلك الحال عند ما يقرّ الرجل بنفي

حقه عن رجل أخر، فان الحق المنفي يمكن ان يراد به أيّ واحد معيّن من الأشياء التي تقدّم ذكرها.

و قد يكون المقرّ به امرا خارجيا إذا كان الإقرار به يستتبع ثبوت حق لأحد على المقر، أو يستتبع حكما شرعيا ملزما له، و مثال ذلك أن يقر الرّجل بنسب ولد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 391

فيتبع ذلك إلحاق الولد بنسبه و ميراثه منه بعد موته، و أن يقرّ بزوجية امرأة، فيتبع ذلك ثبوت نفقتها عليه و حرمة زواجه بأختها.

و نظير ذلك ما إذا أخبر الرجل بنفي شي ء خارجي، و كان نفيه يستتبع سقوط حق للمقر على غيره أو يستتبع حكما شرعيا ملزما للمقر، و قد ذكرنا في ما مضى أمثلة لذلك.

(المسألة الثامنة):

يشترط في صحة الإقرار و في نفوذه على الشخص المقر أن يكون ثبوت الأمر الذي يقرّ به مما يوجب دخول نقص عليه أو شي ء يضرّ به، كما في الأمثلة الماضية، فإن وجوب حق للغير على المقرّ أو تعلق حكم شرعي ملزم به و ما يشبه ذلك: من الأمور التي تكلّفه و توجب عليه الثقل أو تسبب له تضررا ماليا أو خسارة أو تحمّله كلفة و مؤنة في ماله أو بدنه أو في نفسه، أو في بعض الاعتبارات المتعلقة به، أو تلقى عليه مسئوولية خاصة.

و لذلك فلا ينفذ الإقرار في ما يكون فيه نفع للمقر، و لا ينفذ في ما كون مضرا بالغير، أو مثبتا للحق أو الحكم عليه، و إذا كان ثبوت الشي ء المقرّ به مضرا بالمقر من ناحية أو مضرا بغيره من ناحية أخرى، نفذ الإقرار و ثبت أثره على المقر فيجب عليه تحمل الضرر الذي يلم به، و لم ينفذ و لم يترتب

أثره على الشخص الآخر فلا يجب عليه تحمل شي ء، إلا إذا صدق ذلك الشخص إقرار المقر و شاركه في الاعتراف بما قال، فإذا أقر الرجل بنسب الولد اليه، و اعترف بأنه ولد شرعي له وجب على الرجل المقر أن ينفق على الولد من ماله إذا كان الولد فقيرا محتاجا، و كان الرجل غنيا قادرا على الإنفاق، و لم يجب على الولد أن ينفق على الرجل إذا انعكس الأمر، فكان الولد غنيا متمكنا، و كان الرجل المقر هو المحتاج، و استحق

كلمة التقوى، ج 5، ص: 392

الولد نصيبه من الميراث إذا مات الرجل الذي أقربه قبله، و لا يرث المقر من مال الولد شيئا إذا مات الولد قبل الرجل، إلا إذا صدّق الولد إقرار الرجل بالنسب و اعترف بأبوته، فيثبت وجوب الإنفاق و التوارث من الجانبين، و سيأتي تفصيل الحكم ان شاء اللّه تعالى.

و إذا أقر الرجل بامرأة أنها زوجته شرعا لزمه الإنفاق عليها، و لم يجب عليها أن تمكنه من الاستمتاع بها، و استحقت هي نصيبها من الميراث إذا مات الرجل قبلها، و لم يستحق هو شيئا من ميراثها إذا ماتت قبله، الا إذا أقرأت به زوجا و صدقته في قوله فتثبت الحقوق و الأحكام من الجانبين.

(المسألة التاسعة):

لا يشترط في صحة الإقرار بالشي ء أن يكون المقرّ به أمرا معينا أو أمرا معلوما فيصح الإقرار به إذا كان شيئا مبهما أو مرددا غير معين، و يصح الإقرار به إذا كان مجهولا غير معلوم، فإذا قال الرجل لشخص أخر: لك عندي بعض الأشياء، أو لك عندي حاجة، أو أحتفظ لك بشي ء، صح الإقرار منه، و نفذ عليه شرعا، و ألزم على الأحوط بأن يبيّن مراده من اللفظ

الذي تكلّم به، و أن يرفع الإبهام و اللبس عنه، فإذا هو بيّن المراد و كان بيانه يتطابق عند أهل العرف و اللسان مع القول الذي نطق به، و يصلح لأن يكون مدلولا له، و يصح أن يكون ذلك المدلول مما يلتزم به مثل هذا المقر لمثل ذلك الشخص، و يكون على عهدته كما هو ظاهر قوله: (لك عندي) قبل منه تفسيره لمقصده و ألزم بأدائه للمقرّ له، و ان كان ما ذكره قليلا، أو كان مما لا يعد مالا، و إذا لم يصلح ما ذكره أن يكون تفسيرا، للفظ الذي نطق به، أو لم يصح أن يكون على عهدة مثله في منزلته و مقامه الاجتماعي لم يقبل تفسيره و لزمه أن يتخلص من تبعة إقراره بوجه صحيح من مصالحة أو نحوها.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 393

و إذا قال للمقر له: لك في ذمتي شي ء، وجب أن يكون المدلول الذي يفسّره به مما يصلح أن يكون في الذمة و تشتغل به، و إذا قال: لك عندي مال، وجب ان يكون الأمر الذي يفسره به مما يعد مالا عند أهل العرف و في حكم الشرع، فلا يقبل منه إذا فسره بخمر أو بخنزير أو بنحوهما مما لا مالية له في حكم الإسلام، و لا يقبل منه إذا فسّره بحفنة من التراب، أو بخرقة بالية أو بحبة حنطة مما لا يعد ما لا في العرف.

(المسألة العاشرة):

إذا قال الرجل لآخر: لك في ذمتي من واحد ذمتي من الحنطة أو من واحد من الأرز مثلا على نحو التردد بين الجنسين، صح إقراره بالمن المردد و نفذ عليه و الزم المقر على الأحوط بأن يعيّن ما في ذمته منهما و

يزيل الإبهام عنه، و إذا هو استجاب و عيّن أحدهما، فقال لصاحبه: الذي تملكه في ذمتي هو منّ الحنطة مثلا قبل تعيينه و لزمه اداؤه، و إذا دفعه الى صاحبه المقر له و رضي به برئت ذمة المقر ظاهرا، و إذا تذكر بعد أن دفع إليه الحنطة أن ما في ذمته للمقر له هو الأرز و ليس هو الحنطة أعلم صاحبه بغلطه في التعيين، و استرد منه ما دفعه اليه و أعطاه الشي ء الثاني، و لا تبرأ ذمته بدفع الأول الا إذا تصالحا، فجعلا ما في ذمة أحدهما عوضا عما في ذمة الآخر، أو أبرأ كل واحد منهما ذمة الثاني، و أسقط حقه عنه.

و إذا عين المقر أحد الأمرين الذين تردد بينهما في إقراره و قال لصاحبه: ان الشي ء الذي لك في ذمتي هو من الحنطة، و أنكر المقر له ذلك، و لم يرض بتعيينه و قال: لست أملك في ذمتك من الحنطة، سقط حقه ظاهرا بسبب إنكاره لإقرار المقر، فلا تجوز له المطالبة به، و لم يسقط حقه واقعا، و لذلك فيجب على المقر- مع الإمكان أن يوصل حقه اليه، و لو بدسه في ماله في الخفاء أو يصالحه عنه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 394

و إذا طلب من المقر أن يعيّن الشي ء الذي أقرّ به لصاحبه من الأمرين، فقال:

لست أعلم به على التعيين، و صدقه صاحبه في دعوى عدم العلم، فالأحوط لهما أن يرجعا إلى المصالحة بينهما، و إذا أقيمت بينة شرعية على تعيين أحد الأمرين لزم العمل بها، أو رجعا إلى المصالحة إذا شاءا.

(المسألة 11):

إذا كان في يد الإنسان شيئان معلومان من الأعيان الخارجية و لنفرض أحدهما دارا معينة و الآخر بستانا معلوما،

فقال صاحب اليد لشخص أخر: انك تملك أحد هذين الشيئين، أما الدار و اما البستان صح إقراره بالشي ء المردد بينهما و ألزم على الأحوط بأن يعين مراده من الشي ء الذي أقرّ به، و يزيل التردد فيه كما سبق في نظيره، فإذا استجاب المقر و عيّن أحد الشيئين، و قال لصاحبه: الشي ء الذي تملكه منهما هي الدار مثلا، فان صدقه المقرّ له في تعيينه، أو رضي به من غير تصديق، صح تعيينه، و الزم بدفع الدار في المثال للشخص المقر له، و إذا جحد المقر له ما قاله المقر، و لم يرض بتعيينه، و استمر المقر على إقراره و تعيينه، الأول و أصر المقرّ له على جحوده للتعيين، و إنكاره كان ما عينه المقر و هي الدار في المثال الذي ذكرناه من مجهول المالك ظاهرا، فتولى الحاكم الشرعي المحافظة عليها، أو سلمها بيد ثقة يأتمنه على حفظها حتى يتبين أمرها ببينة أو غيرها و يمكن للحاكم الشرعي ان يبقيها في يد المقر إذا كان ثقة مأمونا لا تخشى خيانته فإذا يئس الحاكم من استيضاح الأمر، و لم يمكنه إيقاع المصالحة بين المقر و المقر له عليها، صرفها في باب مجهول المالك.

و إذا أقر الإنسان لغيره بأنه يملك احد الشيئين، الدار أو البستان كما في المثال المتقدم، و جهل المقرّ و المقرّ له أي الأمرين هو الذي يملكه المقرّ له، و لم يعلما

كلمة التقوى، ج 5، ص: 395

من ذلك شيئا، و لم يمكنها التعيين و لا إقامة البينة، تخلصا من الإشكال بالمصالحة بينهما.

(المسألة 12):

يشترط في صحة الإقرار: أن يكون المقر بالغا، فلا يصح الإقرار و لا ينفذ إذا صدر من الصبي قبل أن يبلغ الحلم، و

ان كان إقراره بإذن وليه الشرعي، و كان مميزا رشيدا، و حتى إذا أكمل السنة العاشرة من سني عمره و كان إقراره في ما يصح منه فعله و إيقاعه، و هو الوصية بالمعروف و وجوه الخيرات و المبرات على الأحوط في الإقرار الأخير.

و يشترط في صحته أن يكون المقر عاقلا، فلا يصح إقرار المجنون سواء كان جنونه مطبقا أم ذا أدوار، و كان إقراره في دور جنونه، و يصح إقراره إذا وقع في دور إفاقته.

و يشترط في صحته أن يكون المقر قاصدا للمعنى المراد في اخباره و مختارا فيه، فلا يصح الإقرار إذا كان المقر سكران في حال إقراره أو غضبان لا قصد له لشدة غضبه، أو كان هازلا غير جاد في خبره، أو ساهيا أو غافلا ينطق بدون وعي كامل، أو كان مبرسما، و المبرسم هو من تصيبه بعض الحميات أو الأمراض الحادة، فيفقد شعوره و ينطق من غير قصد، و لا يصح إقراره إذا كان مكرها لا اختيار له.

(المسألة 13):

إذا أخبر الصبي عن نفسه بأنه قد بلغ، لم يثبت بلوغه باخباره، سواء قصد بذلك ان يرفع عن نفسه الحجر و يتسلم أمواله و يتخلص من ولاية الولي، أم أراد بذلك الإقرار على نفسه ليثبت عليه حدا شرعيا عن ذنب قد ارتكبه و يتخلص من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 396

تأنيب الضمير، و قد سبق في المسألة السابقة أن إقرار الصبي غير نافذ ما لم يثبت بلوغه، فإذا هو ادعى البلوغ بنبات الشعر الخشن في موضع العانة من جسده، فحص عن ذلك ليعلم بالاختيار صحة قوله، و إذا ادعى البلوغ بإكمال السنة الخامسة عشرة من عمره طلب منه إقامة البينة الشرعية على صحة دعواه،

و إذا ادعى البلوغ بالاحتلام أشكل الحكم بثبوت دعواه بمجرد قوله مع اليمين و بغير يمين.

(المسألة 14):

يشترط في صحة الإقرار أن يكون المقر رشيدا غير محجور عليه، فلا يصح إقراره إذا كان سفيها، فان كان سفهه مختصا بالتصرفات المالية لم يصح إقراره إذا كان متعلقا بالمال، و يصح منه الإقرار المتعلق بغير المال من التصرفات الأخرى كما إذا أقر بطلاق زوجته أو بجناية على غيره توجب القصاص في بدنه، و كما إذا أقر على نفسه بأحد الإقرارات التي توجب الحدّ كالزنا و القذف و شرب الخمر.

و إذا أقر السفيه المحجور عليه في المال على نفسه بالسرقة و شبهها من الأمور التي تشتمل على الضمان المالي، و على غيره نفذ إقراره في غير جهة المال، فيقام عليه الحد الشرعي إذا أقر بالسرقة، و لا يقبل إقراره في جهة المال، و هكذا إذا أقر بخلع زوجته، فيقبل إقراره و ينفذ عليه بفراق الزوجة و بينونتها منه، و لا ينفذ في الفدية، و تراجع المسألة الحادية و الأربعون من كتاب الحجر من هذه الرسالة.

و إذا كان سفه السفيه عاما يوجب الحجر عليه في جميع التصرفات المالية و غيرها، لم يصح إقراره في الجميع، و يلاحظ ما حررناه في مبحث الحجر على السفيه من الرسالة.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 397

(المسألة 15):

يصح الإقرار إذا صدر من المفلّس المحجور عليه، و لا يكون الحجر عليه مانعا من نفوذ إقراره على نفسه، من غير فارق بين أنواع الإقرارات، فإذا هو أقر بعد تحقق فلسه و الحجر عليه في أمواله بأن لزيد عليه دينا في ذمته سابقا على تاريخ الحجر عليه، صح منه هذا الإقرار و نفذ عليه، و نفذ على الديان الغرماء، فيكون زيد الذي أقر له بالدين شريكا معهم في الاستحقاق، و يضرب معهم في الأموال التي

تعلّق بها الحجر، و يأخذ من الأموال بنسبة مقدار دينه الى مجموع الديون، و تثبت له فيها حصة من الحصص و قد ذكرنا هذا في المسألة الثانية و الستين من كتاب الحجر.

و إذا أقر المفلس بعد الحجر عليه فقال: ان لزيد علي دينا حادثا قد استدنته منه بعد وقوع الحجر، صح الإقرار و نفذ عليه كذلك و لكن هذا الدائن الجديد لا يشارك الغرماء السابقين، فلا يضرب معهم في الأموال الموجودة و التي تعلق بها الحجر فيبقى دينه الى ما بعد ارتفاع الحجر، و تلاحظ المسألة الثالثة و الستون من كتاب الحجر.

و ذا أقر المفلس بعد الحجر عليه و منعه من التصرف في أمواله الموجودة، فقال: ان هذه العين الخاصة من الأموال الموجودة التي بيدي ليست ملكا لي بل هو مملوكة لزيد، نفذ إقراره على نفسه، و لم ينفذ على الغرماء، فإذا اتفق ان العين التي أقربها بقيت في يده حق استوفيت ديون الغرماء، و ارتفع الحجر عنه لزمه أن يدفع العين المذكورة لزيد الذي أقر له بملكها، و إذا لم تسدّد الديون و لم تسقط حقوق الغرماء أشكل الحكم في العين المقر بها، و لا بد فيها من مراعاة الاحتياط.

(المسألة 16):

إذا أقر العبد الملوك على نفسه بمال لغيره، فقال: ان لزيد في ذمتي مائة دينار

كلمة التقوى، ج 5، ص: 398

أو قال: ان هذه العين التي بيدي مملوكة لزيد، و صدّقه مالكه في ما قاله، نفذ الإقرار عليه، و لزمه الوفاء به بالفعل، و لم ينتظر به الى ما بعد العتق، و كذلك إذا أقر على نفسه بما يوجب عليه الحد أو التعزير الشرعي أو بجناية على غيره توجب القصاص من المقر في نفسه،

أو في بعض أعضائه، أو توجب عليه الدية في ماله و صدّقه مالكه في مال قال، فينفذ إقراره بالفعل و يؤخذ به، و لا ينتظر الى ما بعد العتق.

و إذا أقر لغيره بمال في ذمته أو بعين أو منفعة في يده، أو أقر بما يوجب عليه الحد الشرعي أو التعزير، أو القصاص أو الدية، و لم يصدقه مولاه في قوله، لم ينفذ إقراره عليه بالفعل، لأنه إقرار في حق مالكه، فإذا أعتقه مولاه أو انعتق العبد بسبب أخر يوجب الانعتاق، نفذ عليه الإقرار بعد العتق، و لزم العمل بموجبه.

(المسألة 17):

يصح لمالك العبد ان يجعله وكيلا عنه في التجارة للمالك نفسه، و ان يجعله مطلق الحرية في التصرف في ما يتعلق بهذه التجارة من البيع و الشراء، و الأخذ و الرد و البيع نقدا و في الذمة و الشراء كذلك، حسب ما تقتضيه قوانين التجارة و قواعدها المألوفة بين الناس، فإذا و كله في التجارة على هذه الوجه، و اذن له في جميع ذلك كان هذا العبد الوكيل نافذ الإقرار و التصرف في ما يتعلق بتجارته و بعمله فيها سواء أقر بثبوت حق للآخرين عليه أم بنفي حق له على الآخرين، و لا يعم اذن المالك له غير هذه التجارة، فإذا أقر بمال أو بأمر يتصل بها لم ينفذ إقراره إلا إذا صدقه سيده، فان هو لم يصدقه فيه لم ينفذ الإقرار بالفعل، و اتبع به بعد ان يعتق أو ينعتق بسبب يوجب ذلك.

و يصح لمالك العبد ان يأذن له في ان يتجر لنفسه لا للمولى، و يأذن له بجميع

كلمة التقوى، ج 5، ص: 399

التصرفات التي تتعلق بعمله و معاملته في التجارة على نهج ما

تقدم في الفرض السابق، فيجري فيه مثل تلك الأحكام، و تنفذ إقراراته التي تتعلق بتجارته بموجب هذا الاذن العام في كل ماله و ما عليه، و لا يصح تصرفه و لا ينفذ إقراره في غيرها إلا بإذن من مولاه، و إذا لم يأذن له المولى و لم يصدقه في الإقرار اتبع به بعد العتق.

(المسألة 18):

يشكل الحكم بالصحة في أن يسقط المولى عن عبده المملوك له وجوب الاستئذان منه في جميع تصرفاته و إقراراته التي يوقعها، أو أن يأذن له في ذلك إذنا عاما يفعل فيه ما يشاء كما يشاء، و لا يحتاج الى الاذن من السيد في الموارد الخاصة التي تجد له ما دامت الحياة، بل الظاهر عدم صحة ذلك، فان العبد مملوك لا يقدر على شي ء، و هذا حكم من أحكام العبد المملوك اللازمة له، و ليس حقا من حقوق المولى و لذلك فلا يصح بل لا يمكن للمولى أن يسقطه الا بالعتق فإنه يرفع الموضوع.

(المسألة 19):

يصح إقرار المريض و ان كان في مرض موته، و ينفذ عليه كما ينفذ إقرار الصحيح السليم، سواء أقر لبعض وارثيه أم لشخص لا يرثه، و سواء أقر له بدين في ذمته أم بعين موجودة في يده.

و إذا أقر بذلك ثم مات في مرضه، و لم يكن متهما في إقراره نفذ الإقرار منه و لزم على الوصي أو الوارث أن يدفع المال الذي أقر به ذلك الميت قبل موته من أصل تركته، و إذا كان متهما نفذ الإقرار منه كذلك و يدفع المال الى المقرّ له من ثلث تركة الميت المقرّ، و إذا قصر ثلثه و لم يكف للوفاء بالمال المقر به لم ينفذ الإقرار في المقدار الزائد من المال على الثلث، فينفذ الإقرار في البعض و يسقط في البعض.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 400

و المراد بالمريض المتهم هنا هو من تدل القرائن على أنه يريد تخصيص الشخص الذي أقر له بالمال الذي أقر به أو يريد ان يحرم الورثة الآخرين منه.

(المسألة 20):

يشترط في صحة الإقرار بالمال أن يكون المقر له ممن له قابلية تملك المال أو الاختصاص به كالإنسان مثلا، فإنه ممن ثبتت له هذه القابلية، سواء كان كبيرا أم صغيرا، و ذكرا أم أنثى، و عاقلا أم مجنونا، و لذلك فيصح الإقرار للإنسان بجميع الأقسام المذكورة، سواء كان المقر له واحدا أم متعددا، و مثال ذلك أن يقول المقر:

يملك زيد في ذمتي عشرين دينارا مثلا، أو يقول: يملك زيد و عمرو في ذمتي عشرين دينارا، أو لهما عندي هذا المبلغ، أو يقول: يملك أولاد عبد اللّه الثلاثة أو الأربعة هذه الدار التي بيدي، أو هذا البستان، أو لهم عندي مبلغ مائة دينار.

و يصح

ان يقرّ الرجل لعنوان عام ينطبق على كثير من الافراد، فيقول: للفقراء عندي أو في ذمتي ألف دينار، أو يقول: عندي للفقراء من بني هاشم أو للفقراء من أهل هذا البلد مبلغ كذا من المال.

و إذا أقر الرجل بالمال لعنوان كثير الافراد أو قليلها، فعليه ان يعين ان المال المقر به لافراد هذا النوع أو هذا الصنف كلهم على وجه الاستيعاب لكل فرد فرد منهم، أو هو لهم على نحو التقسيم فيهم، و لو على بعضهم.

و يصح للرجل ان يقر بالمال لمسجد أو لمشهد أو لمدرسة أو مقبرة أو رباط معينة أو غير معينة، فإن المال قد يكون منذورا لينفق في هذه الجهات، و قد يكون من غلة أرض موقوفة عليها، أو من مال اوصى به الموصى لينفق فيها و لذلك، فيصح الإقرار به، و ينفذ على المقر، و عليه أن يفي بما أقر به و يقوم بأدائه حسب ما يعين في إقراره.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 401

(المسألة 21):

لا يصح الإقرار بالمال لبهيمة من البهائم أو لحيوان من الحيوانات، فإنها غير قابلة لتملك المال أو الاختصاص به فيكون الإقرار لها بالمال باطلا، إلا في موارد نادرة يمكن تصورها و قد لا يتفق وجودها و مثال ذلك أن يكون المال منذورا أو موصى به لعلف خيل المجاهدين، أو لانعام الصدقات و ما أشبه ذلك، فيمكن أن يحصل الاختصاص بها في هذه الموارد و يصح الإقرار لها.

و لا يصح الإقرار لشخص بشي ء لا يثبت له تملكه في الإسلام، و مثال ذلك ان يقر الرجل لرجل مسلم بخمر أو خنزير.

(المسألة 22):

إذا أقر الرجل على نفسه بحق من الحقوق اللازمة غير المالية كحق القصاص في النفس، أو بإحدى الجنايات التي توجب القصاص في الطرف، أو الضمان للدية أو الأرش، فالمقر له هو الإنسان الذي يثبت له ذلك الحق، و الحق نوع من الملك فلا يثبت لغير الإنسان، و إذا أقر على نفسه بما يوجب الضمان لبهيمة قد غصبها أو أتلفها أو أحدث فيها عيبا، أو نقصا أو كسرا، فالمقر له هو مالك البهيمة.

(المسألة 23):

إذا أقر الإنسان لعبد مملوك بمال يملكه العبد في ذمة المقر أو يعين في يده فالمقر له هو العبد نفسه، و الأحوط له أن يستأذن من مالك العبد في دفع المال اليه و إذا أقر بجناية جناها على العبد فالمقر له هو مالك العبد، فلا يكفى أن يرضي العبد أو أن يسقط العبد حقه من الجناية ما لم يرض المالك أو يسقط حقه.

(المسألة 24):

لا يعتبر في صحة الإقرار من الإنسان أن يكون المقر له شخصا معينا غير

كلمة التقوى، ج 5، ص: 402

مردد في الإقرار، و لا ان يكون فردا معلوما غير مجهول، فإذا قال الرجل: هذه الأرض التي بيدي مملوكة اما لزيد أو لعمرو قبل منه إقراره، ثم ألزم بأن يعيّن المالك الحقيقي للأرض من الرجلين اللذين أقر لهما، فإذا عيّنه و قال: مالك الأرض المذكورة هو زيد، و صدقه الشخص الآخر و هو عمرو في تعيينه أو رضي بقوله و لم ينازع، قبل منه الإقرار و التعيين، و عليه أن يدفع الأرض لزيد، و إذا أنكر عمرو تعيين المقر، و لم يقبل به وقعت المخاصمة بين المقر و هو المدعي و بين عمرو و هو المنكر.

و كذلك إذا قال الرجل: الدار التي بيدي لرجل من أهل هذه القرية أو لرجل من بنى هاشم، فيقبل منه الإقرار و يلزم شرعا بأن يعين الرجل المقصود من أهل القرية أو من بني هاشم، فإذا عيّنه قبل تعيينه، و دفعت الدار المقر بها اليه، و إذا ألزم بتعيين الرجل الذي يملك الدار، فقال: لست اعلم به حتى أعيّنه لم يلزم بذلك، و إذا ادعى عليه أحد الطرفين أو أحد الأطراف الذين أقر لهم بأنه يعرف شخص المالك

الحقيقي للدار، و أنكر المقر معرفته على الخصوص أحلف على عدم العلم، و سقط عند الإلزام.

(المسألة 25):

إذا أقر الإنسان لأحد بحق لازم من الحقوق المالية أو غيرها فقال: ان سعدا يملك علىّ حق الشفعة في الحصة التي اشتريتها من شريكه، أو قال انه يملك حق الخيار في الدار التي اشتريتها منه و لما سمع المقر له و هو سعد قوله جحد ذلك و قال: ليس لي هذا الحق عندك، أو قال: لست أملك عليك حقا اطالبك به، برئت ذمة المقر من ذلك الحق الذي اعترف به.

و إذا أقر للغير بمال أو بدين في ذمته فقال: يملك إبراهيم في ذمتي مائة دينار

كلمة التقوى، ج 5، ص: 403

و لما سمع المقر له أنكر أن الرجل مدين له بالمبلغ الذي ذكره، أو قال: ليس لي في ذمة هذا الرجل شي ء، أو قال: ليس لي عنده قليل و لا كثير، برئت ذمة المقر ظاهرا من هذا الدين، فلا يحق للمقر له أن يطالب المقرّ بالدين بعد إنكاره، و لم تبرأ ذمته إذا كان مدينا له في الواقع، فيجب عليه ان يوصل الدين اليه و لو من حيث لا يعلم أو يصالحه عنه.

و إذا رجع المقر له عن إنكار الدين، فقال: فحصت دفاتري فلم أجد ذكرا للدين، و لذلك أنكرته، ثم وجدته في دفتر مخصوص، جازت له المطالبة به و أخذه من المقر إذا دفع المال اليه، و هذا إذا كان المقر بالدين لا يزال مقرا به، و إذا رجع عن إقراره الأول أشكل الحكم بوجوب الدفع إليه في هذه الصورة.

(المسألة 26):

إذا أقر إنسان لغيره بعين موجودة في يده، فقال: ان هذا المتاع أو هذا الجهاز أو هذه الدار التي بيدي مملوكة لإبراهيم و لما سمع المقر له بذلك أنكر قوله و قال ان الرجل

مخطئ و ليست العين التي ذكرها مملوكة لي، أصبحت العين المقر بها مجهولة المالك بحسب ظاهر الحال، فيستولي عليها الحاكم الشرعي، أو من يعتمد عليه، لتحفظ عنده حتى يتبين أمرها و يعلم مالكها، و يجوز للحاكم إبقاؤها في يد المقر نفسه إذا اطمأن على حفظها مع بقائها في يده، و تراجع المسألة الحادية عشرة فقد بينا فيها بقية متعلقات المسألة و أحكامها.

و إذا رجع المقر له و هو إبراهيم عن إنكاره لتملك العين و اعترف بها جرى فيه نظير الحكم الذي ذكرناه في المسألة المتقدمة، في فرض الإقرار بالدين إذا أنكره المقر له، ثم رجع بعد ذلك عن إنكاره، فليلاحظ ليطبق هنا.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 404

(المسألة 27):

إذا أقر شخص لغيره بدين عليه، أو بمال في يده، فقال: ان سعدا يملك الدين أو المال، و ذكر في إقراره ان مقدار ذلك الدين، أو المال الذي يملكه الرجل المقر له عنده، مردد بين ان يكون مائة دينار فقط و ان يكون مائة و خمسين دينارا، و هو لا يدري بمقداره على التعيين، أجزأ المقر أن يدفع له أقل الأمرين، و هو المائة دينار و لم يجب عليه دفع الزائد.

(المسألة 28):

إذا أقر الشخص لغيره بدين مؤجل إلى أجل مسمى ثبت للمقر له ذلك الدين الى ذلك الأجل المعين، فلا يحق له أن يطالب المقر بالدين قبل حضور ذلك الوقت و إذا أقر له بدين مؤجل و قال في إقراره: ان الدين الذي يملكه الرجل في ذمتي مؤجل اما الى شهر واحد و اما الى شهرين، و لست أعلم بمقدار الأجل على وجه التعيين، ثبت الدين للرجل المقر له إلى الأجل الأبعد منهما، فلا تحقّ له المطالبة بالدين قبل ذلك، و كذلك إذا أقر له بدين، و تردد في أمر الدين بين ان يكون حالا في الوقت، و أن يكون مؤجلا إلى شهر مثلا، فيؤخذ بإقراره و يثبت الدين للمقر له مؤجلا و لا تجوز له المطالبة بالدين قبل حلول الأجل الذي ذكره.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 405

الفصل الثاني في بعض ما يلحق الإقرار و يتبعه.

(المسألة 29):

إذا أقر الرجل لأحد بأنه يملك في ذمته مبلغا معينا من النقود، و أطلق قوله و لم يعين نقدا خاصا، فالمراد به النقد الموجود في بلد المقر، سواء كان النقد الموجود فيه من الذهب أم من الفضة أم من غيرهما، و سواء كان خالصا في جنسه أم مخلوطا من جنسين أو أكثر، و كذلك إذا أقر له بمبلغ من العملة الورقية، و أطلق القول و لم يعين عملة خاصة منها، فيكون المراد من إقراره العملة الدارجة في بلد المقر من اي فئة كانت، فإذا قال الرجل: يملك عبد اللّه في ذمتي مائة دينار، فالمراد هو الدينار الموجود في بلد الرجل المقر، فإذا كان من أهل العراق مثلا كان مضمون إقراره أنه مدين لعبد اللّه بمائة دينار من العملة الموجودة في العراق و يجزيه أن يؤديها للمقر له من

أي الفئات الموجودة في البلد، فله ان يفي دينه من الفئة ذات الدينار الواحد أو الخمسة دنانير أو العشرة أو الأكثر، بل و يجوز له ان يدفع الدين من الفئة ذات النصف دينار أو الربع الموجودة في البلد.

و هذا إذا كان الحق الذي أقر به أمرا كليا كالدين و ثمن المبيع و ما يشبه ذلك:

و إذا كان المال المقر به وديعة، فلا بد له من أن يدفع العين المودعة بذاتها إذا كانت موجودة في يده.

و إذا أقر له بالمبلغ، و كان في بلد المقر نوعان من النقد الذي أقر به، فالمراد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 406

في إقراره هو النقد الغالب في المعاملات الجارية بين الناس من أهل البلد و لا يجزيه أن يدفع الحق من النقد غير الغالب، و لا يحق للمقر له أن يطالب المقر به الا إذا اتفق الجانبان على الاكتفاء به، و إذا أقر له بالحق و عين في إقراره، نقدا خاصا لزمه ان يدفع للمقر له ذلك النقد الذي عينه، و ان كان من غير الغالب أو من نقد غير البلد.

و إذا وجد في البلد نقدان مختلفان و هما متساويان في معاملة الناس بهما و لا غلبة لأحدهما على الثاني رجع الى المقر نفسه في تعيين النقد الذي اراده في إقراره.

(المسألة 30):

إذا أقر الإنسان لأحد بحق، و كان الحق الذي أقر به مما يوزن أو يكال، فان عين في إقراره وزنا أو كيلا خاصا ثبت ما عينه، و لزم العمل به، و ان لم يكن متعارفا في البلد، و إذا أطلق إقراره بالحق و لم يعيّن شيئا فالمراد الوزن و الكيل الموجود ان في بلد المقر، و يجرى فيه التفصيل

الذي تقدم في النقد، و تلاحظ المسألة السابقة.

(المسألة 31):

إذا أقر أحد لغيره بشي ء و ذكر أن الشي ء مودع في ظرف، ثبت إقراره بالشي ء المظروف وحده و لا يكون اخباره به إقرارا بالظرف معه، فإذا قال: عندي لسعيد عشرة دنانير في محفظة نقود كان قوله إقرارا لسعيد بالدنانير العشرة و حدها و ليس إقرارا بالمحفظة معها، و إذا قال: له عندي عشرة أمنان من الحنطة في اكياس كان إخباره إقرارا بأمنان الحنطة لا بالاكياس مع الحنطة، فلا يحق لسعيد أن يطالبه بالمحفظة أو بالاكياس و ما فيها، الا ان توجد قرينة تدل على ارادة الظرف مع المظروف، فيقول مثلا: لسعيد عندي عشرة دنانير مع محفظتها، أو عشرة أمنان من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 407

الحنطة مع اكياسها فيكون إقرارا بالأمرين.

و كذلك لا حكم في العكس، فإذا أقر الشخص لغيره بالظرف لم يكن ذلك إقرارا له بالشي ء المودع فيه، و مثاله ان يقول: لسعيد عندي عشرة اكياس فيها حنطة، أو له عندي محفظة فيها نقود، فقوله إقرار لسعيد بالظروف خاصة و لا يعد إقرارا بالحنطة مع الأكياس أو بالنقود مع المحفظة، الا مع وجود قرينة ظاهرة تدل عليه فيكون إقرارا بهما، و لا اعتبار بالاحتمال.

(المسألة 32):

إذا أقر الرجل بشي ء ثم أقر بعده إقرارا أخر، و عطف إقراره الثاني على الأول بكلمة (بل) اتبع في إقراره ما يظهر عند أهل العرف و اللسان من مجموع قوله في الاخبار عن ذلك، و له عدة صور كما سيأتي:

(الصورة الأولى): أن يقر الإنسان لأحد بشي ء، ثم يقر لذلك الرجل أيضا بشي ء أخر يختلف عن الشي ء الأول، و مثاله أن يقول: يملك عبد اللّه في ذمتي منا من الحنطة، بل يملك فيها منا من الأرز، و الظاهر من هذا القول

في متفاهم أهل العرف: انه قد أقر لعبد اللّه بالاقرارين كليهما، فهو يملك في ذمة المقر من الحنطة و من الشعير فيلزمه أن يدفع للمقر له كلا المنّين، و يصح لعبد اللّه أن يطالبه بهما و هذا هو الأقوى الا ان تدل قرينة قوية الظهور على أن كلمة (بل) في الإقرار الثاني كانت للإضراب عن إقراره الأول، و انه قد غلط في هذا القول، أو توهم فأقر إقراره الثاني ليصحح غلطه، فيكون هذا هو الثابت.

و يجري هذا في كل مورد يقول الإنسان فيه مثل هذا القول، و يكون الشي ء الثاني المقر به مختلفا عن الشي ء الأول في الجنس، فإن إخباره كذلك يكون إقرارا بالشيئين معا، و يلزمه دفعهما الى المقر له، الا إذا ثبت غلطه و اضرابه عن الإقرار

كلمة التقوى، ج 5، ص: 408

الأول بوجه ظاهر عند أهل العرف.

و كذلك إذا قال الرجل مثل هذا القول و أقر مثل هذا الإقرار بشيئين معينين في الخارج فقال مثلا: يملك سليمان هذا الدكان الذي بيدي بل هذا الدكّان، أو قال:

يملك هذا المتاع بل هذا المتاع، فيجري فيه نظير الحكم المتقدم.

(المسألة 33):

الصورة الثانية: ان يقر الرجل لغيره بمقدار من الجنس، ثم يقر لذلك الشخص نفسه بأكثر من ذلك المقدار من الجنس الأول، و يعطف الإقرار الثاني على الأول بكلمة (بل) فيقول مثلا: لسليمان عندي أو في ذمتي من واحد من الحنطة بل له عندي منّان من الحنطة، أو يقول: له عندي خمسة دنانير بل عشرة دنانير و الظاهر من هذا القول انه يقر لسليمان بالعدد الأكثر من ذلك الجنس، فهو يملك عند المقر منّين من الحنطة في المثال الأول و يملك عنده عشرة دنانير في المثال الثاني،

و لا يكون إقرارا بكلا العددين: الأقل و الأكثر معا كما في الصورة الأولى.

و كذلك الحكم إذا قدم العدد الأكثر في الذكر على العدد الأقل فقال: له عندي أو في ذمتي منّان من الحنطة بل من واحد منها: أو قال له عندي عشرة دنانير بل خمسة دنانير فيكون قوله إقرارا بالعدد الأكثر في المثالين و لا يكون إقرارا بثلاثة أمنان من الحنطة أو بخمسة عشر دينارا. و أوضح من ذلك في الظهور أن يقر كذلك في عين خارجية فيقول: له هذه الغرفة من الدار بل له الدار كلها.

(المسألة 34):

(الصورة الثالثة): ان يقر لأحد بشي ء معين موجودة في الخارج يكون في يد المقر، ثم يقر بذلك الشي ء المعين نفسه لشخص آخر غير الأول فيقول مثلا: هذه الدار التي بيدي مملوكة لزيد بل هي مملوكة لعمرو، و الظاهر أن ما قاله المخبر في

كلمة التقوى، ج 5، ص: 409

هذه الصورة يحتوي على إقرارين لازمين له، و لذلك فيلزمه أن يدفع الدار المعينة نفسها للشخص الذي أقر له أولا و هو زيد، و ان يدفع قيمة الدار للشخص الثاني و هو عمرو، و إذا كانت العين التي أقر بها للرجلين من المثليات كما إذا قال: هذه الأمنان من الحنطة مملوكة لزيد، بل هي مملوكة لعمرو، لزمه ان يدفع العين ذاتها و هي أمنان الحنطة التي وقع عليها الإقرار- لزيد المقر له أولا، و أن يدفع مثلها لعمرو و إذا كان الشي ء الذي أقر به للرجلين من الأمور الكلية، كما إذا قال: يملك زيد في ذمتي مائة دينار، بل يملك المائة في ذمتي عمرو، لزمه أن يدفع لكل واحد من الرجلين مائة دينار عما في ذمته فلا يكون أحدهما

أصلا و الثاني بدلا عنه.

(المسألة 35):

إذا أقر الرجل للشخصين اللذين ذكرهما على الوجه المتقدم في المسألة السابقة بأحد تلك الإقرارات أو بما يماثلها، و أنكر أحد الشخصين المقر لهما قول الرجل المقر و جحد أن يكون له حق أو ملك في العين أو الدين الذي أقر به، سقط حقّ هذا المنكر، و برئت ذمة المقر منه ظاهرا، فلا يحق لهذا الشخص ان يطالب بالحق بعد إنكاره و على المقر أن يدفع العين أو الدين المقر بهما للشخص الآخر.

(المسألة 36):

إذا أقر الإنسان لغيره بشي ء و تم اخباره به، و دل ظاهر كلامه على الإقرار بالشي ء عند أهل اللسان و العرف، ثبت إقراره شرعا و لزمته أحكامه و إثارة، فإذا عقب على قوله المتقدم بقول آخرينا في قوله الأول بظاهره و يبطله لم يقبل القول الثاني و لم يؤثر على إقراره شيئا الا ان تكون دلالة الثاني على المعنى أقوى و أتم بحيث يزول بالثاني ظهور الكلام الأول في متفاهم أهل اللسان، و في محاوراتهم العرفية، و يعدونه قرينة معتبرة على ان المراد خلاف ذلك الظاهر.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 410

و من الأمثلة المعروفة للمسألة بين الفقهاء أن يقول الرجل: ان لزيد عندي وديعة من المال، ثم يقول بعده: و قد تلفت الوديعة في يدي، فيثبت بهذا القول إقرار الرجل لزيد بالوديعة، و لا يبطل هذا الإقرار باخبار الرجل بأن الوديعة قد تلفت، فان قوله له عندي وديعة نام الدلالة و الظهور في أن الوديعة عنده، و لم تزل، و لو انها تلفت لم تكن عنده، فيؤخذ بإقراره، و يلزم بدفع الوديعة لزيد أو يثبت تلفها بحجة شرعية مقبولة.

و لو انه قال: كانت لزيد عندي وديعة، ثم قال و قد تلفت الوديعة

في يدي صح قوله الثاني و قوله الأول، و لم يكن تناف بين القولين، و كان قوله يشتمل على إقرار منه بالوديعة و دعوى منه بتلفها، فيثبت إقراره و يؤخذ به، و على المقر و المقر له إذا أحبا أن يرجعا الى الحاكم الشرعي ليفصل بينهما دعوى تلف الوديعة أو يرجعا إلى المصالحة بينهما.

و من الأمثلة المعروفة للمسألة، أن يقول الرجل: يملك فلان عندي عشرة دنانير، ثم يقول: لا بل تسعة، فلا يقبل منه قوله الثاني بالنفي و يلزم بإقراره الأول بالعشرة، و من أمثلة ذلك أيضا أن يقول: يملك فلان عندي مائة دينار، ثم يقول: و هي ثمن خمر أو ثمن خنزير أو من لعب قمار، فيثبت إقراره بالمال، و يلزم بدفعه لمن أقر له، و لا يسمع منه قوله الثاني.

(المسألة 37):

الاستثناء في اللغة العربية احد مقومات الدلالة على المراد في الجملة التي يقع فيها الاستثناء، و لذلك فلا يتم ظهور الجملة في المعنى المراد منها الا به و ليس هو من تعقيب الكلام بكلام أخر ينافيه و يبطل ظهوره، كما في الأمثلة التي ذكرناها و تعرضنا لبيان حكمها في المسألة الماضية، و من القواعد المعروفة بين

كلمة التقوى، ج 5، ص: 411

أهل العربية ان الاستثناء إذا وقع من كلام مثبت يكون نفيا للمستثنى، و إذا وقع من كلام منفي يكون إثباتا للمستثنى، و كل هذا واضح لا يشك فيه احد من أهل اللغة و يجرى عليه حتى العامة من أهل العرف العربي الدارج، فإذا قال القائل منهم:

زارني أهل القرية إلا موسى، عرف الجميع من قوله ان أهل القرية، كلهم قد جاؤوا الى زيارته و ان موسى وحده لم يزره، و إذا قال: لم

يدخل المسجد أحد في هذا اليوم الا عبد اللّه، فهموا من خبره ان الجميع لم يدخلوا المسجد في ذلك اليوم، و قد دخله عبد اللّه وحده.

و على مجرى هذه الأمور الواضحة فإذا قال الرجل: يملك زيد في ذمتي مائة دينار الا خمسة دنانير فقد أقر في قوله هذا بان لزيد في ذمته خمسة و تسعين دينارا فله الحق في ان يطالب المقر بهذا المبلغ و لا يحق له في أن يطالبه بالخمسة دنانير التي تكمل بها المائة دينار، إلا إذا أثبت استحقاقه إياها بحجة شرعية.

و إذا قال: ليس لزيد عندي حق الا عشرة دنانير، فقد أقر لزيد بأن له عنده عشرة دنانير، فله أن يطالبه بها و يأخذها منه، و لا يحق له أن يطالب بأكثر من العشرة و لا بغيره من الحقوق الا أن يثبته بوجه شرعي، و إذا قال: ليس لي في ذمة زيد سوى مائة دينار، فقد أقر لزيد بان المقر لا يستحق في ذمته غير المائة، فلا يجوز له أن يطالب زيدا بأكثر منها، و هو يدعي في ضمن إقراره بان له في ذمة زيد مائة دينار فعليه أن يثبت صحة دعواه بها إذا أراد ذلك.

و إذا قال: لي عند زيد مائة دينار إلا عشرة دنانير، فقد ادّعى أنه يستحق عند زيد تسعين دينارا، و أقر لزيد في ضمن ادّعائه عليه بان المقر لا يستحق عنده العشرة التي تكمل بها المائة فيؤخذ بما أقرّ، و يحتاج في تصحيح دعواه إلى الإثبات.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 412

(المسألة 38):

يدخل الاستثناء في الأعيان الخارجية و في الاجزاء من الأشياء المركبة الموجودة في الخارج كما يدخل في الأعداد من المعدودات، فإذا قال الرجل:

يملك إبراهيم هذه

الدار التي بيدي الّا الحجرة التي تقع على يمين الدّاخل من باب الدار، أو إلّا الموضع الذي أعدّ لاستقبال الضيوف من الرجال فقد أقر لإبراهيم بأنه يملك جميع الدار التي ذكرها عدا ما استثناه من أجزائها و إذا قال: يملك إبراهيم جميع ما في هذه الدار من أثاث و أمتعة و حوائج الا الفراش الذي أغلقت عليه الحجرة الخارجية المعينة، فقد أقرّ له بجميع ما تحتويه الدار من الأعيان الموجودة فيها غير الفراش الذي ذكره، و هكذا.

و يجري في هذه الاستثناء ان نظير ما سلف في المسألة المتقدمة من الأمثلة و الصور المتعلقة بالمقر نفسه أو بالمقر له في كل من النفي و الإثبات.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 413

الفصل الثالث في الإقرار بالنسب أو بالميراث

(المسألة 39):

إذا أقر الرجل بطفل صغير أو بصبي لم يبلغ الحلم، فقال: هذا الصبي ولد شرعي لي، أو قال: انه صحيح الولادة مني، أو قال: قد ولدته أمه مني، أو على فراشي و كان إقراره جامعا للشرائط التي تعتبر في صحة الإقرار، ثبت النسب بين الرجل المقر و الصبي المقر به، و قد سبق منا ذكر الأمور التي يشترط وجودها في المقر بالنسب و غيره، و يشترط في صحة الإقرار بالنسب مضافا الى ذلك: (1): أن تكون ولادة الصبي المقر من الإنسان المقر ممكنة غير ممتنعة بحسب العادة المألوفة في تولد الإنسان من الإنسان، (2): أن يكون لحوق هذا الوليد بنسب المقر صحيحا غير ممنوع في حكم الإسلام، (3): ان لا يكون للمقر منازع في دعوى النسب بالصبي.

فإذا توفرت هذه الشروط صح الإقرار و ثبت النسب بين الرجل و الصبي بأصوله و فروعه، فيكون الرجل المقر أبا شرعيا للصبي، و يكون أبو المقر جدا للصبي، و أم

المقر جدّة له، و أولاد المقر اخوة له و أخوات، و اخوان المقر أعماما و عمات، و تكون أولاد الصبي المقر به إذا كبر و تزوج و أعقب أحفادا للمقر و اسباطا، و هكذا في جميع الفروع، و ثبتت أحكام النسب بين جميع أولئك في النكاح و جواز النظر للمحارم، و في الولايات و النفقات و المواريث و غيرها من

كلمة التقوى، ج 5، ص: 414

اللوازم و الآثار التي تكون للنسب، حتى في الوقف على الذرية و الأقارب، و الوصية لهم، و لا فرق في الحكم المذكور بين الطفل الصغير كما قلنا و الصبي المراهق للبلوغ، و لا بين المميز و غيره، و لا بين الصبي و الصبية.

(المسألة 40):

يشترط في لحوق الصبي غير البالغ بنسب الإنسان الذي أقر به- كما ذكرنا في المسألة المتقدمة أن تتوفر أمور ثلاثة عرضناها بنحو الاختصار، و لا بد من ذكرها بوجه أكثر بسطا و توضيحا:

الأمر الأول: ان يكون تولد الصبي من ذلك الشخص الذي أقر به ممكنا بحسب العادة المعروفة في ولادة الإنسان، فلا يصح إقرار المقر و لا يثبت به نسب الصبي إليه إذا كانت ولادة الصبي منه مما يمتنع بحسب هذه العادة الجارية، و مثال ذلك: أن يكون المقر في وقت انعقاد نطفة الصبي في بطن امه غير بالغ الحلم، و ان بلغ في وقت ولادة الطفل أو في وقت إقراره به، كما إذا تأخر زمان الإقرار عن وقت الولادة مدة، فيكون تولده منه ممتنعا و عادة لا يمكن الحاقه به في النسب.

و من أمثلة ذلك ان يكون المقر غائبا عن المرأة في وقت انعقاد الجنين في بطنها، أو يكون مريضا شديد المرض، أو سجينا فلا يستطيع

الوصول إليها و مقاربتها لتحمل منه، بالصبي أو يكون تاركا لمقاربة المرأة لسبب آخر.

الأمر الثاني: أن يكون إلحاق الصبي بنسب الرجل المقر صحيحا في حكم الشريعة الإسلامية، فلا يصح إقرار الرجل به و لا يثبت بالإقرار نسب الطفل إليه إذا كان الطفل ملحقا في الشريعة بنسب شخص أخر لوطي شبهة مثلا، أو كان الحاقه بنسب المقر ممنوعا، و مثال ذلك: ان تحرم المرأة على الرجل لرضاع، أو لعان، أو لسبب أخر من موجبات التحريم، فلا يصح الإلحاق و لا يصح الإقرار بالصبي.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 415

الأمر الثالث: ان لا يكون للرجل المقر بالطفل منازع في نسبه، و مثال ذلك أن يدعى شخص آخر نسب الطفل إليه أيضا فيقر به كما أقر به الأول، أو يدعي هذا الشخص الآخر عدم صحة نسب الأول و كذبه في إقراره، فيكون المورد من التنازع بين الرجلين، فلا يسمع إقرار المقر، و يلزم الرجوع الى الحاكم الشرعي ليحل الخصام و يفصل النزاع.

و لا يشترط في صحة الإقرار بالصبي و ثبوت نسبه به ان يصدق الصبي قول المقر و ان كان مميزا أو مراهقا و لا يشترط كذلك ان يصدقه و يعترف بأبوته بعد البلوغ، و إذا أقر الرجل بالصبي و تمت الشروط المذكورة و ثبت النسب بينهما بموجب ذلك، ثم أنكر الصبي النسب بعد ان بلغ الحلم لم يسمع منه إنكاره.

(المسألة 41):

إذا أقر الرجل بنسب ولد كبير قد بلغ الحلم أو تجاوز البلوغ، و لم يكن قد أقر به في طفولته على الوجه المتقدم، فقال عن الولد الكبير: هذا ولد شرعي لي، أو قال:

هو صحيح النسب لي أو قال ولدت هذا امه على فراشي، و قد اجتمعت في إقراره

به جميع الشروط التي ذكرناها لم يلحق الولد بنسب المقر حتى يصدقه الولد و يقر بنسبه اليه و يعترف بأبوته، فإذا أقر الطرفان كذلك مع اجتماع الشرائط المتقدمة فيهما يثبت النسب بينهما و ثبتت احكامه و آثاره لهما و لجميع أصول النسب و فروعه على النهج الذي فصلناه في الولد الصغير.

و كذلك إذا ابتدأ الولد فأقر بنسبه للرجل، و قال: انه أبي الشرعي و قد ولدتني أمي على فراشه، و صدق الرجل إقراره، و اعترف به على الوجه السابق بيانه و اجتمعت الشروط في الجانبين، فيثبت النسب، و يعم و تترتب اللوازم و الاحكام لهما، و لجميع أصول النسب و فروعه.

كلمة التقوى، ج 5، ص: 416

(المسألة 42):

إذا أقر الرجل بالولد الكبير و لم يصدقه الولد، أو أقر الولد بالنسب و لم يصدقه الرجل، نفذ الإقرار على المقر خاصة، و لم ينفذ على الثاني الذي لم يقر و لم يثبت النسب بينهما، و لا بين طبقات النسب الآخرين و لم تترتب احكامه عليهم و لزمت المقر أحكام إقراره التي تكون عليه من حرمة نكاح، و وجوب نفقة و ميراث و غيرها، و لم تترتب عليه الأحكام الأخرى التي تكون للمقر، و لا الاحكام التي تكون على الطرف الثاني.

(المسألة 43):

إذا مات الصبي و هو مجهول النسب، ثم أقر الرجل بعد موت الصبي بأنه ولد شرعي له، و كان إقرار الرجل به جامعا للشرائط التي بيناها أنفا نفذ إقراره بالطفل بعد موته، كما ينفذ في حياته و ثبت به نسبه اليه، و ترتب الممكن من أحكام النسب بينهما فتجب على الرجل نفقة تجهيزه و دفنه، و إذا كان للطفل مال ورث منه نصيبه لأنه أبوه شرعا.

(المسألة 44):

لا يثبت النسب بالإقرار في غير الولد الصغير أو الكبير، إذا جرى على الوجه الذي سبق بيانه، فإذا أقر الرجل لصبي أو شاب انه ولد ولده أو انه أخوه في النسب لم يثبت بذلك نسبه له، و انما تترتب على قوله أحكام الإقرار فيؤخذ الرجل بأحكام هذا الإقرار و لوازمه في ما يكون على المقر من هذه الاحكام و اللوازم لا في ما يكون له، و لا في ما يكون على غير المقر، فإذا قال الرجل هذا الصبي أو هذا الشاب ولد ولدي نفذ هذا الإقرار على الرجل، فتجب عليه نفقة الولد إذا كان فقيرا، و ليس له منفق أقرب من الرجل، و يحرم عليه الزواج بها إذا كانت أنثى، و يرثه الولد إذا

كلمة التقوى، ج 5، ص: 417

مات هو و لا وارث له سوى الولد.

و إذا أقر بولد الولد و كان بالغا و صدقه ولد الولد في قوله نفذ الإقرار في حقهما معا، فيرث أحدهما من الأخر إذا مات قبله، و لم يكن له وارث أقرب منه، و تجب نفقة الفقير منهما على الآخر إذا كان قادرا و لا منفق أقرب منه، و هكذا في بقية لوازم الإقرار، و لا يثبت به النسب و لا يقع به

التوارث بين غيرهما من الأقارب.

و كذلك الحكم إذا أقر الرجل بشخص أنه اخوه أو عمه أو قريبه في النسب فينفذ إقراره عليه خاصة، و تلزمه أحكام الإقرار التي تكون عليه لا على الآخرين و إذا صدقه الثاني في قوله نفذت عليهما أحكام الإقرار، و لا تنفذ على غيرهما لا في المواريث و لا في غيرهما من الاحكام و الآثار.

(المسألة 45):

إذا أقر الإنسان بشخص أنه أخوه في النسب أو ابن أخيه أو قريبه و صدقه الشخص المقر به، و اعترف بالقرابة التي ذكرها، نفذ الإقرار عليهما كما تقدم و ورث أحدهما صاحبه إذا مات قبله، و لم يكن له وارث أخر سواه، و إذا مات أحدهما و له وارث أخر غير المقر ففي ثبوت التوارث بينهما اشكال، و لا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة، و كذلك الإشكال إذا أقر الرجل بأخ أو ابن أخ أو عم أو قريب في النسب ثم نفاه بعد الإقرار به، فلا يترك الاحتياط المذكور.

(المسألة 46):

يثبت النسب بين الشخصين المشكوك نسب أحدهما إلى الآخر بشهادة رجلين عادلين لهما بولادة أحدهما من الآخر، أو بولادتهما من شخص ثالث بغير واسطة أو بواسطة واحدة أو بأكثر مع وجود القرابة بينهما عرفا، سواء كان الشاهدان قريبين من الشخصين المشهود لهما بالنسب، أم بعيدين عنهما، و يثبت بإقرار

كلمة التقوى، ج 5، ص: 418

الرجل بالولد على الوجه الذي تقدم بيانه في المسائل الماضية من هذا الفصل، و لا يثبت النسب بغير ذلك، و اثر ثبوت النسب بالوجهين المذكورين أن تجرى جميع أحكام النسب بين الشخصين أحدهما مع الثاني و بين كل واحد منهما مع أقرباء الثاني و بين اقربائهما بعضهم مع بعض ممن يتصل بهما في نسبه، فتجري جميع أحكام النسب بين هؤلاء كافة في النكاح و جواز اللمس و النظر الى المحارم و في الولايات و الميراث و الحجب و غيرها و قد أشرنا الى هذا في ما سبق.

(المسألة 47):

إذا مات رجل و له ولدان معلومان و لا وارث له غيرهما ظاهرا، فأقر الولدان كلاهما بولد ثالث للميت غيرهما، و قالا: هذا أخ ثالث لنا و هو شريكنا في الميراث من أبينا، نفذ الإقرار عليهما و قسمت تركة الميت بينهم أثلاثا و أخذ كل واحد منهم ثلثا، و ان لم يعرفه احد من الأقرباء الآخرين. و إذا أقر به احد الولدين المعلومين للميت و أنكره الثاني نفذ إقرار المقر منهما على نفسه فيقسم المال نصفين و يأخذ الولد الذي أنكر أخاه، و لم يعترف به نصف المال تاما، و يأخذ الثاني الذي أقر به الثلث، و يدفع الباقي من المال و هو السدس الى الثالث، و هو الذي اعترف به أحد الأخوين و

أنكره الآخر.

(المسألة 48):

إذا مات رجل و ترك بعده وارثا واحدا معلوما، فهو الذي يستحق الميراث كله في ظاهر الأمر، فأقر هذا الوارث بوارث أخر أولى منه بميراث الميت، لزمه الإقرار و وجب عليه أن يدفع التركة كلّها للوارث الذي أقر به، و مثال ذلك أن يترك الميت بعده أخا لا غيره، و يقر هذا الأخ الوارث ظاهرا بولد للميت أو بولد ولد فيقول: هذا ولد أخي أو ولد ولده، و هو أولى بميراث أبيه مني، فيؤخذ بإقراره

كلمة التقوى، ج 5، ص: 419

و عليه أن يدفع الميراث كله للوارث الذي أقر به، لأنه أولى به كما قال.

و إذا أقر الوارث الواحد بوارث أخر يساويه في الاستحقاق، و في مقدار النصيب فعليه ان يقتسم تركة الميت معه بالمساواة، و مثال ذلك: ان يقر أخو الميت في المثال السابق بأخ ثان له و للميت، فإذا كان الميت قد ترك مأة دينار اقتسمها اخوه الأول الوارث مع الثاني الذي أقر به، فلكلّ واحد منهما خمسون دينارا، و إذا أقر بأخت له و للميت اقتسم التركة معها بالمثالثة، فدفع لها ثلثا و أخذ ثلثين.

(المسألة 49):

إذا كان الوارث الوحيد ظاهرا هو عم الميت مثلا، و لما دفعت اليه تركة الميت قال هذا زيد و هو أخو الميت فهو أدنى قرابة للميت و أولى مني بميراثه، ثم قال هذا خالد و هو ولد الميت أو هو ولد ولده، و هو اولى بميراثه منى و من أخيه، أخذ العم بالاقرارين كليهما فعليه أن يدفع التركة نفسها لزيد أخي الميت بسبب إقراره الأول، و يدفع لخالد ابن الميت مثل التركة، إذا كانت مثلية و قيمتها إذا كانت قيمية بسبب إقراره الثاني.

و إذا كان زيد أخو

الميت قد صدق العم في إقراره بالولد دفع المال الى الولد و لا شي ء لزيد على العم بسبب إقراره الأول له.

و إذا دفعت تركة الميت لعمه في المثال الذي ذكرناه لأنه وارثه الوحيد ظاهرا، فأقر العم بزيد أخي الميت، و قال: هو أولى مني بالإرث، و لما أخبر زيد بذلك قال الأخ: هذا خالد ولد الميت، فهو أولى بميراث أبيه مني و من عمه، دفع المال الى الولد و لا شي ء على العم.

(المسألة 50):

إذا أقر الإنسان لأحد بان له في ذمته مائة دينار مثلا أخذ بإقراره، و لزمه أن

كلمة التقوى، ج 5، ص: 420

يدفع المبلغ للشخص الذي أقر له، فإذا مات المقر قبل أن يؤدي الدين وجب على ورثته أن يؤدّوا الدين من أصل تركة الميت، و إذا مات الرجل فأقر جميع الورثة بأن لزيد في ذمة مورثهم مبلغا معيّنا من المال لزمهم ذلك، و وجب عليهم أن يؤدّوا الدين الذي أقرّوا به على مورثهم من أصل تركته، فإذا بقي من التركة شي ء بعد وفاء الدين اقتسموه بينهم.

و إذا أقر بعض الورثة بالدين على الميت، و أنكره بعضهم وجب على من أقر بالدين منهم أن يؤدي المقدار الذي يصيب حصة في الميراث من ذلك الدين، فإذا كانت تركة الميت خمس مائة دينار و كان الوارثون خمسة أولاد ذكور فنصيب كلّ واحد منهم من تركة أبيه مائة دينار، و إذا فرض أن مقادر الدين المقر به مائتا دينار أصاب نصيب كل واحد منهم أربعون دينارا من الدين، فعلى كل واحد ممن أقر بالدين أن يؤدي هذا المقدار، و لا يتعين عليه ان يؤدي هذا من حصته الموروثة له و يجوز له ان يدفعه من مال

أخر.

(المسألة 51):

إذا تنازع الرجلان بينهما فقال أحدهما للثاني: انك قد أقررت لي بمبلغ مائة دينار في ذمتك، أو بالحاجة المعينة التي في يدك و أنكر الثاني أن يكون أقر له بشي ء مما ذكر، فالقول قول المنكر، و عليه أن يحلف للمدعي على عدم الإقرار، و كذلك إذا اختلفا في مقدار ما أقرّ به فقال الأول للثاني: انك أقررت لي بمائة دينار و قال الثاني: انما أقررت لك بخمسين دينارا و أنكر الزيادة على ذلك، فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه، ما لم يثبت المدعى صحة قوله بإقامة البيّنة على ما يدعيه.

و الحمد للّه رب العالمين حمدا يرضاه لنفسه، و يفوق جميع حمد الحامدين من عباده و مخلوقاته، و الصلاة و السلام على سيد خلقه، محمد

كلمة التقوى، ج 5، ص: 421

و المطهرين من آله، صلاة لا حدّ لها و لا عدّ، يبلغهم بها آمالهم، و يقر بها أعينهم و يؤمن بها خوف الخائفين و يكشف بها ضر المضطرين، و يقرن ببركتها و يمنها لنا و للمؤمنين سعادة الدنيا و الدين، و يضاعف بها لنا توفيقه و نعمته و هداه و رحمته الى منتهى آجالنا انه ارحم الراحمين.

________________________________________

بصرى بحرانى، زين الدين، محمد امين، كلمة التقوى، 7 جلد، سيد جواد وداعى، قم - ايران، سوم، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.