کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص :1

المجلد 1

اشارة

ص:2

ص :3

ص :4

المدخل

أمّا المقدمة ففی بیان أُمور[1] .

الأوّل : أنّ موضوع کلّ علمٍ[2] ، وهو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة __ أی بلا واسطة فی العروض __ هو نفس موضوعات مسائله عیناً، وما یتّحد معها خارجاً، وإن کان یغایرها مفهوماً، تغایر الکلّی ومصادیقه، والطبیعی وأفراده،

الشَرح:

[1] قد جرت سیرة المصنّفین علی ذکر مقدمة قبل الشروع فی مباحث العلم ومسائله ویتعرضون فیها لأُمور ترتبط بالعلم ولا تکون من مسائله ، کبیان موضوع العلم وتعریفه وبیان الغرض والغایة منه ، وتبعهم علی ذلک الماتن قدس سره وجعل لکتابه هذا مقدّمة وبیّن فیها أُمورا کلّها خارجة عن مسائل علم الأُصول ولکنّها ترتبط بها بنحوٍ من الإرتباط ، کما ستعرف إن شاء اللّه تعالی .

موضوع العلم ومسائله

:

[2] المعروف عند القوم أن_ّه لابدّ لکلّ علم من موضوع یبحث فی مسائل العلم عن العوارض الذاتیة لذلک الموضوع بأن تکون المحمولات المذکورة فی

ص :5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مسائل العلم عوارض ذاتیة له . وذکروا فی تعریف العرض الذاتی : إن_ّه ما یعرض الشیء بلا واسطة أو مع الواسطة المساویة داخلیّة کانت أو خارجیّة.

توضیح ذلک: أن العارض (یعنی المحمول علی الشیء بمفاد کان الناقصة) إمّا أن یکون بلا واسطة أصلاً أو یکون معها ، وعلی الثانی إمّا أن تکون الواسطة داخلیة أو خارجیة.

فالواسطة الداخلیة بالإضافة إلی ذیها تکون أعمّ أو مساویة ولا یمکن أن تکون أخص لأن_ّها جزء الشیء وجزئه لا یکون أخصّ منه ، حیث إنّه جنسه أو فصله ، فالعارض الشی ء بواسطة فصله مثل ادراک الکلّیات والعارض للانسان بواسطة الناطق، العارضة له بواسطة جنسه کالحرکة القصدیه العارضه بواسطه الحیوان. (ولایخفی أنّ الحرکة القصدیّة غیر الحرکة الإرادیّة حیث إنّ الحرکة الإرادیّة لا تکون فی غیر الإنسان من سائر الحیوانات).

الواسطة الخارجیة تکون بالإضافة إلی المعروض مساویة أو أعم أو أخصّ أو مباینة، والأوّل کعروض الضحک للإنسان بواسطة التعجب المساوی له حیث لا یوجد فی غیره من سائر الحیوان، والثانی کعروض الحرکة القصدیة للمتکلم بواسطة الحیوان، والثالث کعروض إدراک الکلّیات للحیوان بواسطة الناطق، والواسطة المباینة کالنّار فی عروض الحرارة للماء وکالسفینة فی عروض الحرکة لجالسها. فهذه أقسام سبعة.

والعرض الذاتی منها ما یعرض الشیء بلا واسطة أو مع الواسطة المساویة داخلیة کانت أو خارجیة .

والغریب منها ما یعرض له بواسطة خارجیة أعمّ أو أخصّ أو مباینة واختلفوا

ص :6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فیما کان بالواسطة الداخلیة الأعم(1). ولذلک وقعوا فی إشکال لزوم خروج کثیر من مباحث العلوم عن کونها مسائل لها فإنّ المحمولات فی مسائلها لا تکون غالبا عارضة لموضوعاتها بلا واسطة أو مع واسطة مساویة داخلیة أو خارجیة، مثلاً المبحوث عنه فی علم النحو فی مسألة الفاعل رفعه، وفی مسألة المفعول نصبه، ونحو ذلک مع أنّ شیئا من الرفع والنصب لا یعرضان الکلمة بنفسها بل یعرضانها بوساطة الفاعل والمفعول وکل منها أخص من الکلمة التی هی موضوع هذا العلم (علی ما هو المعروف)، وکذا المبحوث عنه فی علم الأُصول ظهور صیغة الأمر فی الوجوب مثلاً مع أنّ النسبة بینها وبین صیغة الأمر فی الکتاب المجید لیست هی التساوی وهکذا.

توضیحه: إنّ فی مسألة «صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب أم لا؟» یکون المبحوث عنه فیها مطلق صیغة الأمر، و موضوع المسألة خصوص «صیغة الأمر فی الکتاب» والمحمول فیها العارض له «ظاهر فی الوجوب» فیعرض لموضوع المسألة الذی هو نوع بواسطة أعمّ، أی الجنس وهو مطلق صیغة الأمر المبحوث عنها ولیس هو الموضوع فی المسألة لعدم کونه فرداً لطبیعی موضوع العلم سواء کان الأدلة الأربعة أو ما یصلح أن یکون دلیلاً علی الحکم الشرعی، کما لا یخفی علی المتأمّل، بل الموضوع فیها صیغة الأمر فی الکتاب أو السنة مثلاً.

وذکر الماتن فی المقام أمرین وکأنّه یندفع الإشکال بهما من أساسه :

أحدهما : أنّ موضوع العلم عین موضوعات مسائله خارجا ولا تغایر بینهما إلاّ

ص :7


1- (1) کتاب البرهان من الشفاء : الفصل الثانی من المقالة الثانیة ص131؛ الأسفار : 1 / 30 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تغایر الکلّی مع أفراده .

وثانیهما : أنّ کل عرض لا یکون عروضه للشیء مع الواسطة فی العروض هو عرض ذاتیّ له سواء لم یکن فی عروضه له واسطة أصلاً أو کانت بنحو الواسطة فی الثبوت ، ولا یخفی أنّ الواسطة فی العروض نظیر ما فی نسبة الحرکة إلی جالس السفینة حیث إن المتحرک خارجا حقیقة هی السفینة ونسبتها إلی الجالس فیها بنحو من العنایة وعلی ما ذکره قدس سره تکون تمام المحمولات فی مسائل العلوم عوارض ذاتیة لموضوعاتها فإنّه بعد کون الموضوع فی علم النحو مثلاً هی الکلمة (یعنی اللفظ الموضوع لمعنی) وهی عین الفاعل فی الکلام ، یکون الرفع المحمول علی الفاعل محمولاً علی الکلمة بلا واسطة فی العروض .

ثمّ إنّ المراد بالعارض هو المحمول لا العرض فی مقابل الجوهر حیث إنّه ربّما لا یکون المحمول فی المسألة عرضا کما فی بعض مسائل علم الکلام «کقولهم «واجب الوجود عالم، قادر، بسیط» وکقولهم فی الفقه «الماء طاهر» و«الخمر نجس» إلی غیر ذلک.

وعلی ما ذکر یکون قوله رحمه الله (1) «هو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة» جملة معترضة لبیان تعریف موضوعات العلوم ، وقوله رحمه الله (2) : «بلا واسطة فی العروض» تفسیر للعرض الذاتی وإشارة إلی الخلل فیما ذکروه فی تعریفه من تقسیمهم العارض إلی سبعة أقسام وقولهم بأنّ أربعة منها عرض غریب .

ص :8


1- (1) کفایة الأصول : ص7 .
2- (2) کفایة الأصول : ص7 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وقوله رحمه الله (1) : «نفس موضوعات مسائله» خبر «إنّ» یعنی موضوع کل علم هو نفس موضوعات مسائله .

وقوله رحمه الله (2) : «ما یتحد معها خارجا» معطوف علی «موضوعات مسائله» یعنی موضوع کل علم ما یتحد مع نفس موضوعات مسائله خارجا .

وقوله رحمه الله (3) : «والطبیعی وأفراده» معطوف علی «الکلّی ومصادیقه» والمراد من المعطوف والمعطوف علیه واحد .

وقد اتضح بما تقدّم أنّ ما یذکر موضوعا لبعض العلوم مما لا تکون نسبته إلی موضوعات مسائله من قبیل الکلّی والفرد خطأ فی تشخیص الموضوع إذ لا تغایر بین موضوع العلم وموضوعات مسائله إلاّ تغایر الکلی مع فرده کما مرّ (ویقتضیه البرهان المدّعی لإثبات لزوم الموضوع لکلّ علم) . وعلیه فما یقال مِن أنّ موضوع علم الطب مثلاً هو بدن الإنسان وموضوعات مسائله الأعضاء المخصوصة لیس بصحیح لأن نسبة البدن إلی العضو نسبة الکلّ إلی الجزء لا الکلّی إلی الفرد فیکون الموضوع فی علم الطب ما یعرضه المرض لا خصوص البدن .

ثمّ إنّ المعروف أنّ وجه التزام الماتن رحمه الله ومن تبعه بلزوم الموضوع للعلوم ، هو عدم إمکان صدور الواحد عن الکثیر بدعوی أنّ الغرض من العلم واحد فاللازم صدوره عن واحد وهو الجامع بین موضوعات المسائل حیث إنّ الجامع بین

ص :9


1- (1) کفایة الأصول : ص7 .
2- (2) کفایة الأصول : ص7 .
3- (3) کفایة الأصول : ص7 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

محمولاتها ینتهی إلیه کما هو مقتضی قولهم کل ما بالعرض لابدّ من أن ینتهی إلی ما بالذات .

أقول: لیس فی کلامه قدس سره فی المقام ما یشیر إلی الموجب لالتزامه بذلک بل فی کلامه ما ینافی الموجب المزبور حیث صرح فی تداخل العلوم بإمکان غرضین متلازمین فیدوَّن لأجلهما علم واحدٌ ، ومقتضی القاعدة المزبورة عدم إمکان غرضین فی علم واحد بل ولا إمکان ترتب غرضین علی بعض مسائل العلم حیث إنّه من صدور الکثیر عن واحد .

ثمّ إنّه قدس سره أضاف إلی تعریف علم الأُصول «أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل»(1) وذکر فی وجهه أنّه لا موجب لخروج مباحث الأُصول العلمیة وحجیّة الظن الإنسدادی علی الحکومة من مسائل علم الأُصول ، ولو کان المهم الأُصول هو التمکن من الاستنباط فقط لکان مقتضاه الالتزام بالاستطراد فی تلک المباحث والحاصل إنّ لعلم الأُصول غرضین ومع ذلک لا یخرج عن کونه علما واحدا وإرجاعهما إلی غرض واحد غیر سدید ، لإمکان إرجاع الأغراض فی جملة من العلوم إلی غرض واحد ککمال النفس مثلاً .

والذی یخطر بالبال أنّ تعیین الموضوع للعلوم ، کذکر التعریف لمسائلها وبیان الغرض منها ، إنّما هو لتبصرة طالب تلک العلوم علی ما یظهر بعد ذلک.

وکیف ما کان فإنّ أُرید بالکلّی ، الجامع العنوانی لموضوعات مسائله نظیر سائر العناوین الانتزاعیة حتّی من المتباینات فی تمام ذواتها ببعض الاعتبارات فهذا

ص :10


1- (1) کفایة الأصول : ص9 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الجامع کالحجر فی جنب الإنسان فی عدم دخله فی کون تلک المسائل من العلم ، نعم لو بیّن بنحو حصل فیه الاطراد والانعکاس فهو یوجب معرفة موضوعات المسائل لطالب تلک المسائل .

وإن أُرید به الجامع الذاتی ، بأن یکون الموضوع للعلم کالجنس أو النوع لموضوعات المسائل ، فلم یعلم وجه لزوم هذا الجامع ، والاستناد فی لزومه إلی قاعدة عدم صدور الواحد عن کثیر ، غیر صحیح ؛ لما ظهر مما تقدم أنّ الغرض من العلم یمکن أن یکون واحدا عنوانیا أو واحدا مقولیاً له حصص متعدّدة یصدر عن بعض المسائل حصة منه وعن بعض آخر حصته الاخری من غیر أن یکون فیما یصدر عنهما جامع ذاتیّ ، مثلاً التمکن المترتب علی العلم بمسألة من مسائل علم النحو ، غیر التمکن المترتب علی العلم بمسألة أُخری من مسائله فیکون العلم بمسألة رفع الفاعل موجبا للتمکن من حفظ اللسان عن الخطأ فی التکلم بالفاعل، وبمسألة نصب المفعول التمکن من حفظه عن الخطأ فی التکلم بالمفعول وهکذا ، فیکون الغرض من علم النحو مستنداً إلی مسائله بخصوصیاتها .

ولا یخفی أنّ القاعدة المشار إلیها بأصلها وعکسها (أصل القاعدة : «الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد» . وعکس القاعدة : «الواحد لا یصدر إلاّ عن الواحد» .) أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل من المبدأ الأعلی .

وقد ذکر فی محلّه أنها علی تقدیر تمامیّتها لا تجری فی الفعل بالإرادة ، بل موردها الفعل بالایجاب ، لإمکان صدور فعلین عن فاعل بالإرادة مع کونهما من مقولتین ، وبما أنّ الصادر من المبدأ الأعلی یعدُّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الأوّل .

ص :11

والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشتّتة جمعها اشتراکها فی الداخل فی الغرض الذی لأجله دُوِّن هذا العلم[1] . فلذا قد یتداخل بعض العلوم فی بعض المسائل، ممّا کان له دخل فی مهمّین، لأجل کلّ منهما دوِّن علم علی حدة، فیصیر من مسائل العلمین.

الشَرح:

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنه لا وجه للالتزام بلزوم الموضوع للعلم کما ذکر ، کما لا وجه للالتزام بأنّه لابدّ فی مسائل العلم من البحث عن العوارض الذاتیّة لموضوعه فإنّه یصحّ جعل مسألة من مسائل العلم مع ترتب الغرض منه علیها حتّی ولو کان المحمول فیها من العوارض الغریبة لموضوع المسألة فضلاً عن موضوع العلم ، أو لم یکن المحمول فیها من العوارض أصلاً ، مثلاً البحث عن الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته من مسائل علم الأُصول بلا کلام مع أنّ المبحوث فیه الذی هو ثبوت الملازمة بین الایجابین لیس بحثاً عن العوارض ، فإنّها ما یحمل علی الشیء بمفاد «کان» الناقصة، والبحث عن ثبوت الملازمة بحث عنه بمفاد «کان» التامة ، وکذا البحث عن اعتبار الإجماع مسألة أُصولیة ، مع أنّ حمل الاعتبار علیه علی مسلک الأصحاب _ بلحاظ کشفه عن قول المعصوم علیه السلام _ حمله مع الواسطة فی العروض وهو من العرض الغریب حیث یکون الاعتبار حقیقةً لقول الإمام علیه السلام ، وإسناده إلی فتوی العلماء یکون بالعنایة .

[1] فی توصیف الغرض بقوله قدس سره : «الذی لأجله دوِّن هذا العلم» إشارة إلی أنّه لیس المراد خصوص الثمرة المترتّبة علی کل مسألة من مسائل العلم کما یترتب علی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی التمکّن من استنباط حکم الصلاة فی الدار المغصوبة ، ولا یشارکها فی هذه الثمرة غیرها من مسائل علم الأُصول ، بل المراد الغرض الملحوظ للمدوِّن _ بالکسر _ إبتداءً أو ما یکون داعیا له إلی تدوین جملة من

ص :12

لا یقال: علی هذا یمکن تداخل علمین فی تمام مسائلهما، فیما کان هناک مهمان متلازمان فی الترتّب علی جملة من القضایا، لا یکاد انفکاکهما.

فإنّه یقال: مضافاً إلی بُعد ذلک، بل امتناعه عادة، لا یکاد یصحّ لذلک تدوین علمین وتسمیتهما باسمین، بل تدوین علم واحد، یبحث فیه تارة لکلا المهمّین، وأخری لأحدهما، وهذابخلاف التداخل فی بعض المسائل، فإنّ حسن تدوین علمین کانا مشترکین فی مسألة، أو أزید فی جملة مسائلهما المختلفة، لأجل مهمّین، ممّا لا یخفی.

وقد انقدح بما ذکرنا، أنّ تمایز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعیة إلی التدوین[1] لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلاّ کان کل باب، بل کلِّ مسألة من

الشَرح:

المسائل وتسمیتها باسم واحد ، وقد تقدّم أنّ هذا الغرض لیس واحدا شخصیا بل واحد عنوانی أو نوعی ذو حصص مختلفة.

تمایز العلوم

[1] وتقریره : لا ریب فی أنّ کل مسألة من مسائل العلم لها موضوع ومحمول یغایر موضوع الأُخری ومحمولها ، مثلاً مسألة ظهور صیغة إفعل فی الوجوب وعدمه ، وجواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه ، وحجّیة خبر العدل وعدمها ، کلّها من مسائل علم الأُصول والموضوع والمحمول فی کلٍّ منها یغایر الموضوع والمحمول فی الأُخری ، وهذا الاختلاف بعینه موجود بین کل مسألتین من مسائل علمین ، مثلاً مسألة رفع الفاعل غیر مسألة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب بحسب الموضوع والمحمول فیقع السؤال عن وجه کون مسألة رفع الفاعل ، من مسائل النحو وعدم کونه مسألة ظهور صیغة إفعل فی الوجوب ، منها .

ولا یصحّ الجواب ، بأنّ ذلک لاختلاف المسألتین بحسب الموضوع أو المحمول ، فإنّ لازمه کون کل مسألة من مسائل علم النحو علما علی حدة لأنّها

ص :13

کل علم، علماً علی حدة، کما هو واضح لمن کان له أدنی تأمّل، فلا یکون الإختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، کما لا یکون وحدتهما سبباً لأن یکون من الواحد.

ثم إنّه ربما لا یکون لموضوع العلم _ وهو الکلّی المتّحد مع موضوعات المسائل _ عنوان خاص واسم مخصوص، فیصحّ أن یعبّر عنه بکل ما دلّ علیه، بداهة عدم دخل ذلک فی موضوعیته أصلاً.

الشَرح:

مختلفة کذلک .

بل الصحیح هو القول بأنّ جامع مسائل علم النحو هو الغرض الملحوظ لمدوّن العلم إبتداءً ، وحیث لم یکن ذلک الغرض مترتبا علی مسألة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ، فلم تجعل من مسائل علم النحو بخلاف مسألة رفع الفاعل، وقد ظهر أنّ المراد بالتمایز هو التمایز عند تدوین العلم وأمّا تمایز العلوم عند المتعلّم ، فله طرق متعدّدة.

وبالجملة کلّ مسألةٍ من مسائل العلم ، وإن کانت لها خصوصیة واقعیة ، تکون موجبة لترتّب ثمرة مخصوصة علیها إلاّ أنّ تلک الخصوصیة لا تکون موجبة لتمایزها عن مسائل العلم الآخر فی نظر المدوّن بل المایز لها عنده هو الغرض الداعی إلی التدوین .

هذا کلّه فیما کان المهم من مسائل العلم أمرا مترتبا علیها بأن یکون العلم بتلک المسائل موجبا لحصوله وفی مثل ذلک یکون المهم المزبور المعبّر عنه بغرض التدوین جامعا لمسائل العلم وممیّزا لها عن مسائل علم آخر . وأمّا إذا لم یکن المهم کذلک بل کان المهم نفس معرفة تلک القضایا ، کما فی علم التاریخ حیث إنّ المهم فیه معرفة أحوال الملل والبلاد وحوادثها فی الماضی والحاضر ، یکون امتیاز قضایاه

ص :14

وقد انقدح بذلک أنّ موضوع علم الأُصول هو الکلّی المنطبق علی موضوعات مسائله[1] المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة، بل ولا بما هی هی، ضرورة أنّ البحث فی غیر واحد من مسائله المهمّة لیس من عوارضها، وهو واضح لو کان المراد بالسنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقریره، کما

الشَرح:

عن قضایا غیره بالموضوع ولو کان ذلک الموضوع أمرا واحدا عنوانا وجامعا مشیرا إلی موضوعات قضایاه .

موضوع علم الأُصول

:

[1] لا ینفع ما ذکره قدس سره فی دفع الاشکال فی المقام فانه یرد حتی بناء علی ان موضوع علم الاصول ما ذکر. فإنّ البحث فی مسألة مقدمة الواجب مثلاً بحثٌ فی ثبوت الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته ، وهذا بحث عن مفاد «کان» التامة ، وحیث إنّ موضوع علم الأُصول متّحد مع موضوعات مسائله خارجا یکون البحث المزبور بحثاً عن ثبوت الموضوع وعدمه ، ولیس هذا بحثاً عن العوارض فضلاً عن کونها ذاتیة.

ثمّ إنّهم جعلوا موضوع علم الأُصول الأدلّة الأربعة یعنی (الکتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل).

وأورد الماتن علیهم بأنّ ذلک یوجب خروج مبحث حجّیة الخبر والتعارض بین الخبرین من المباحث الأصولیة ، حیث إنّ خبر الواحد غیر داخل فی السنة ، یعنی قول المعصوم وفعله وتقریره ، فلا یکون البحث عن عارض الخبر بحثاً عن عوارض السنّة .

وقد أُجیب عنه بأنّ المباحث المزبورة تدخل فی مسائل علم الأُصول بناءً علی أنّ المراد بالأدلّة ذواتها لا بما هی أدلّة ، لأنّ مرجع البحث عن حجّیة الخبر إلی

ص :15

هو المصطلح فیها، لوضوح عدم البحث فی کثیر من مباحثها المهمّة، کعمدة مباحث التعادل والترجیح، بل ومسألة حجّیة خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلّة، ورجوع البحث فیهما _ فی الحقیقة _ إلی البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد، فی مسألة حجّیة الخبر _ کما أفید _ وبأی الخبرین فی باب التعارض، فإنّه أیضاً بحث فی الحقیقة عن حجّیة الخبر فی هذا الحال غیر مفید فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد کان التامّة، لیس بحثاً عن عوارضه، فإنّها مفاد کان النّاقصة.

لا یقال: هذا فی الثبوت الواقعی، وأمّا الثبوت التعبدی _ کما هو المهم فی هذه المباحث _ فهو فی الحقیقة یکون مفاد کان الناقصة.

الشَرح:

البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، أو ثبوتها بأیٍّ من الخبرین عند تعارضهما .

وقد ردّ الماتن قدس سره الجواب المزبور بأنّه غیر مفید ، فإنّ البحث عن ثبوت السنّة بالخبر أو بأحد المتعارضین بحث عن مفاد «کان» التامة أی بحث عن وجود السنّة به أو بأحدهما والبحث فی المسائل لابدّ أن یکون عن العارض لموضوع المسألة وما هو بمفاد «کان» الناقصة . هذا فی الثبوت الواقعی یعنی الحقیقی ، وأمّا الثبوت التعبدی بمعنی جعل الحجّة ، فهو وإن کان بحثاً عن العارض إلاّ أنّ الحجیّة لاتترتّب علی السنة بل علی الخبر الحاکی لها .

وبالجملة الثبوت الحقیقی لیس من العوارض ، والتعبدی بمعنی وجوب العمل به وإن کان من العوارض إلاّ أنّه عارض للخبر لا السنّة .

ولا یخفی أنه لم یظهر معنی معقول لثبوت السنة بالخبر ، بأن یکون الخبر علّة لقول المعصوم علیه السلام أو فعله أو تقریره ، فإنّ الخبر علی تقدیر صدقه ، یکون کاشفا وحاکیا عنها . ولو أُغمض عن ذلک فیمکن الجواب عن إشکال مفاد «کان» التامة بأنّ البحث عن معلولیة السنّة للخبر بحث عن العارض وما هو مفاد کان الناقصة .

ص :16

فإنّه یقال: نعم، لکنّه ممّا لا یعرض السنّة، بل الخبر الحاکی لها، فإنّ الثبوت التعبدی یرجع إلی وجوب العمل علی طبق الخبر کالسنّة المحکیة به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، کما لا یخفی.

وبالجملة: الثبوت الواقعی لیس من العوارض، والتعبدی و إن کان منها، إلاّ أنّه لیس للسنّة، بل للخبر، فتأمّل جیّداً.

الشَرح:

نعم ، لا ینبغی التأمّل فی أنّ البحث عن البراءة العقلیة أو الاحتیاط العقلی فی الشبهة الحکمیة بحثٌ عن ثبوت الموضوع وهو حکم العقل .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أمر الثبوت التعبدی ، فهو عارض للسنّة أیضاً فإنّ الثبوت التعبدی عند الماتن قدس سره لیس إیجاب العمل بالخبر علی ما ذکره فی بحث اعتبار الخبر وغیره ، بل معناه تنزیل قول المخبر منزلة الواقع، یعنی قول المعصوم وفعله وتقریره(1) ، وهذا التنزیل سنخ من الحکم یضاف إلی المنزل (أی خبر العدل) ، وإلی المنزَّل علیه (أی السنّة) ، وکما یمکن البحث فی مسألة اعتبار الخبر أن یقع فی أنّ قول المخبر العدل هل نُزّل منزلة السنّة ؟ فیکون البحث من عوارض الخبر الحاکی لها ، کذلک یمکن أن یقع البحث فی أنّ السنة هل نزل علیها خبر العدل ؟ فیکون البحث من عوارض السنّة .

نعم المعیار فی کون المسألة من مسائل العلم ، هو عنوانها المذکور فی مسائله لا ما هو لازم ذلک العنوان ، وإلاّ کانت المسألة الأُصولیة فقهیة ، والمسألة الفقهیة کلامیة ، فإنّ مرجع البحث عن ثبوت الملازمة بین الإیجابین إلی وجوب الوضوء ونحوه عند وجوب الصلاة ، ومرجع البحث عن تعلّق التکلیف الإلزامی بفعل إلی

ص :17


1- (1) الکفایة : ص279 .

وأمّا إذا کان المراد من السنّة ما یعمّ حکایتها، فلأنّ البحث فی تلک المباحث وإن کان عن أحوال السنّة بهذا المعنی، إلاّ أنّ البحث عن غیر واحد من مسائلها کمباحث الألفاظ وجملة من غیرها، لا یخصّ الأدلّة، بل یعمّ غیرها، وإن کان المهم معرفة أحوال خصوصها، کما لا یخفی] 1].

ویؤیّد ذلک تعریف الأُصول] 2] بأنّه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحکام الشّرعیة).

الشَرح:

البحث عن إیجاب المخالفة لاستحقاق العقاب ، وإلی غیر ذلک .

[1] لا یخفی أنّ البحث عن ظهور صیغة إفعل فی الوجوب ، مثلاً یکون بحثا عن العارض الغریب للکتاب والسنّة بناءً علی ما ذکروه من أنّ ما یکون عروضه بواسطة أعم فهو عرض غریب ، وأمّا بناءً علی ما ذکره رحمه الله فی العارض الغریب فالبحث المزبور بحث عن العوارض الذاتیّة للکتاب والسنّة ، فالإشکال به علیهم مبنیّ علی مسلکهم حیث یکون نظیر بحث الملازمة بین الإیجابین فی عدم اختصاصه بالواجبات الشرعیّة ، وإن کان المهم معرفة حالها .

[2] ووجه التأیید أنّ مقتضی تعریفهم کون کلّ قاعدة ممهدة لاستنباط الحکم الشرعیّ مسألة أُصولیة ولو لم یکن المحمول فیها من العارض الذاتی للأدلّة الأربعة .

ص :18

وإن کان الأولی تعریفه[1] بأنّه (صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام، أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل)، بناءً علی أنّ

الشَرح:

تعریف علم الأُصول

:

[1] ووجه العدول خروج أمرین عن التعریف المزبور :

أحدهما: مسألة حجیة الظن علی الحکومة ، فإنّ حجیّته علی المسلک المزبور لا تکون موجبة لاستنباط حکم شرعی منها ، وذلک لکون الحجیة بناءً علیها عبارة عن استقلال العقل بکفایة الاطاعة الظنیّة للتکالیف الواقعیة ، وأنّه یقبح من الشارع مطالبة العباد بأزید منها ، کما أنه لا یجوز للمکلّف الاقتصار علی ما دونها من الطاعة الاحتمالیّة والوهمیّة . وهذا الحکم من العقل ، کحکمه بلزوم الاطاعة العلمیّة حال الانفتاح لا یکون مستتبعا لحکمٍ شرعیٍّ مولویٍّ ، کما یأتی بیانه فی باب الانسداد .

ثانیهما: خروج مباحث الأُصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة من النقلیة والعقلیة ، فهی مع کونها من المسائل الأُصولیة لا تکون إلاّ وظائف عملیة بلا استنباط حکم شرعی واقعی منها بل تطبّق فی الفقه ، بتعیین مواردها ، علی صغریاتها .

وقوله قدس سره (1) : «بناءً علی أنّ مسألة حجیة الظن... إلخ» مفاده : أنّ أولویة العدول مبنیة علی کون الأمرین من المباحث الاصولیة کما هو کذلک ، حیث لا وجه للالتزام بالاستطراد فی مثلهما من المهمات . وبما أنّ التعاریف المذکورة للعلوم من قبیل شرح اللفظ لأنّ وحدتها اعتباریة علی ما تقدم من کون کل علم جملة من القضایا المتشتة التی اعتبرت الوحدة لها باعتبار دخلها فی الغرض ، فذکر قدس سره أولویة العدول

ص :19


1- (1) کفایة الأصول : ص9 .

مسألة حجّیة الظنّ علی الحکومة، ومسائل الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة من الأصول، کما هو کذلک، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد فی مثل هذه المهمّات.

الشَرح:

لا تعیّنه، وجعل التعریف السابق مؤیدا لا دلیلاً ، حیث لا یعتبر فی هذه التعاریف الإطّراد والإنعکاس.

ولا یخفی أنّ المراد بالقواعد فی تعریف علم الأُصول نتائج المباحث الأُصولیة ، وأمّا الصناعة فهی نفس مباحثها ، فیکون حاصل تعریفه : أنّ علم الأُصول مباحث ، تعرف بها القواعد التی یمکن وقوعها فی طریق استنباط الأحکام الشرعیة الکلیّة أو التّی ینتهی إلیها الأمر فی مقام العمل ، أی بعد الیأس عن الظفر بالدلیل علی الحکم الواقعی .

ولکن یرد علیه أنّ إضافة «أو التی ینتهی... إلخ» غیر مفیدٍ ، فإنّ استنباط الحکم الشرعی الفرعی ، بناءً علی ما اختاره قدس سره من أنّ المجعول فی الأمارات هو الحجیة لها ، أی المنجزیّة والمعذریّة ، یعمّ انکشاف حال الحکم الواقعی من حیث التنجز وعدمه ، ولا ینحصر بالعلم بنفس الحکم الواقعی ، وعلیه فلا فرق بین الأمارات المعتبرة والأُصول العملیة فی أن_ّه یعیّن بهما حال الحکم الواقعی من حیث تنجزّه علی تقدیر الإصابة وعدمه . نعم یکون تعیینه بالأُصول العملیة فی طول التعیین بالأمارة وهذا لا یکون فارقا فإنّ بعض الأمارات أیضاً یکون اعتبارها فی طول بعضها الآخر ، کخبر العدل ، فإنّه وإن کان معتبرا إلاّ أنّه لا اعتبار به فی مقابل الکتاب الدال علی خلافه .

فالصحیح أن یقال فی تعریفه : إنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحکم الشرعی الکلی الفرعی أو حاله من حیث التنجیز والتعذیر. ومن البدیهی أن_ّه یعتبر

ص :20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی الإستنباط تغایر الحکم المستنبَط والمستنبَط منه ، إمّا بأن لا یکون المستنبط منه حکما شرعیا ولکن یستخرج منه حکم شرعی فرعی ، کقاعدة الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته التی یستخرج منها وجوب الوضوء والغسل وتطهیر الثوب أو البدن عند وجوب الصلاة فی قیاس استثنائی فیقال مثلاً :

کلما کانت الصلاة واجبة ، کان الوضوء الذی هو مقدمة للصلاة واجباً أیضاً .

لکن الصلاة واجبة .

فالوضوء واجب .

وإمّا بأن یکون المستنبط منه حکما شرعیا طریقیّا یحرز به تارة نفس الحکم الشرعی العملی وأُخری حال الحکم الشرعی الفرعی لا نفسه .

فالأوّل کحجیة خبر الثقة بناءً علی کون مفاد أدلّة الإعتبار جعل الخبر علما تعبدیا فیقال مثلاً: العصیر العنبی بعد الغلیان مما قام خبر الثقة علی حرمته .

وکلّ ما قام خبر الثقة علی حرمته فهو معلوم الحرمة .

فینتج : أنّ العصیر العنبی بعد الغلیان مما علم حرمته ، وبعد إحراز الحرمة یفتی الفقیه بحرمة العصیر العنبی بالغلیان .

والثانی کحجیة خبر الثقة بناءً علی کون مفاد أدلة الإعتبار جعل المنجزیّة والمعذریّة ، أو جعل المؤدّی (أی جعل الحکم الطریقی علی طبق مؤدیاتها) وکمباحث الأُصول العملیة ، فالحکم الشرعی العملی لا یستنتج منها بل یستنتج من هذه المباحث حاله من المنجزیّة والمعذریة .

ص :21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

القواعد الفقهیة

:

و کیف ما کان فقد ظهر مما ذکرنا خروج القواعد الفقهیة التی لا یستنبط منها نفس الحکم الشرعی الکلّی من حیث تنجزه وعدمه عن مسائل علم الأُصول ، فإنّ تلک القواعد بأنفسها أحکام شرعیة عملیة تکلیفیّة کانت أم وضعیّة ، وضمّها إلی صغریاتها من قبیل تطبیق الکبری الشرعیة العملیة علی صغراها ، لا من الإستنباط .

وتوضیح ذلک : أنّ القواعد الفقهیة علی قسمین :

الأوّل: ما یکون مدلولها حکما فرعیا ثابتا لعنوان تندرج تحته الجزئیات الخارجیة فقط ، کما فی نجاسة الخمر وحرمة شربه ، ولا مورد لتوهّم النقض فی هذا القسم ، حیث لا یثبت بضمّها إلی صغراها إلاّ الحکم الجزئی الفرعی لا الکلّی .

الثانی: ما یکون مدلولها حکما شرعیا ثابتا لعنوان تندرج تحته العناوین الکلیة ، کقاعدة «ما یضمن وما لا یضمن» فإنّ موضوعها العقد ، ویندرج تحته البیع والإجارة والقرض والمصالحة وغیر ذلک من أنواع العقود ، فتکون النتیجة فی هذا القسم بعد تطبیقها علی صغریاتها ثبوت الحکم الکلی ، ولکن هذا من باب التطبیق لا الإستنباط فإنّ الملازمة علی تقدیر ثبوتها ، شرعیة بمعنی أنّ الشارع قد أخذ فی موضوع حکمه بالضمان فی العقد الفاسد ، ثبوت الضمان فی صحیحه ، نظیر الملازمة بین وجوب القصر علی المسافر ووجوب الإفطار ، فإنّ مرجعها إلی أنّ الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعا لوجوب الإفطار أیضاً ، إلاّ ما استثنی ، وهذا بخلاف الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته ، فإنّها أمر واقعی قد کشف عنه العقل أو هی بنفسها حکم العقل ، ولذا یکون القول بها مصححاً لاستنباط حکم

ص :22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

شرعی کلّی بقیاس استثنائی علی ما تقدم ، أو قیاس حملی تکون نتیجته الملازمة بین الأمر بالصلاة فی أوقاتها والأمر بمقدماتها .

والحاصل ، تمتاز القاعدة الفقهیة عن القاعدة الأصولیة بأنّ مفاد القاعدة الأصولیة إما أن لا یکون حکما شرعیا ولکن ینتقل منه إلی حکم شرعی کلّی ، أو یکون مفادها حکما شرعیا طریقیا ، ولکن تارةً یحرز به حکم شرعی کلی واقعی بأن تکون نتیجة قیاس الإستنباط العلم بذلک الحکم لا نفس الحکم فیتم بذلک موضوع جواز الإفتاء کما فی موارد الأمارات المعتبرة ، وأُخری یحرز به حال الحکم الکلّی الواقعی من حیث التنجّز وعدمه کما فی موارد الأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة.

بخلاف القاعدة الفقهیة فإنّ مفادها بنفسه حکم شرعی عملی کلّی لعنوان یکون تحته جزئیات حقیقیة أو إضافیة وتکون قیاساتها من قبیل تطبیق الکبری علی صغریاتها ونتیجتها ثبوت نفس ذلک الحکم فیها ، وإذا کان مفاد القاعدة حکما طریقیا فیحرز به حال الحکم الجزئی من حیث التنجز وعدمه ، کالأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة وغیرها من القواعد المجعولة عند الشک فی الموضوع .

ومما ذکر یظهر أنّ قاعدة «لا حرج» أو «لا ضرر» قاعدة فقهیة تطبّق علی صغریاتها ویکون مفادها ثبوت نفس الحکم الشرعی أو عدمه ، ولا یکون مفادها مما یستنبط منه الحکم الشرعی نفسه أو حاله من حیث التنجز وعدمه .

نعم قاعدة الطهارة الجاریة فی الشبهات الحکمیة قاعدة أُصولیة ، إذ یحرز بها حال الحکم الشرعی الواقعی الکلی من حیث التنجز وعدمه ، وإنّما لم یبحث عنها

ص :23

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی الأُصول لعدم الخلاف فیها ولاختصاصها بباب الطهارة ، فتذکر فی الفقه استطرادا بمناسبة الکلام فی قاعده الطهارة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة .

ومما ذکرنا یظهر ضعف ما عن المحقق النائینی قدس سره فی الفرق بین القاعدة الأُصولیة والقاعدة الفقهیة من أنّ الأُولی لا تنفع العامی؛ لعدم تمکّنه من تشخیص صغراها، بخلاف الثانیة فإنّها تنفعه فیما إذا أُلقیت إلیه لتمکّنه من معرفة صغریاتها(1) .

ووجه الضعف ؛ أنّ الفرق غیر جارٍ فی القسم الثانی من القواعد الفقهیة ، فإنّ العامی لا یتمکّن من تشخیص صغریاتها کما فی قاعدة «الشرط جائز ما لم یکن محلّلاً للحرام أو محرّما للحلال» و«الصلح جائز بین المسلمین ما لم یخالف الکتاب والسنّة» إلی غیر ذلک .

الضابطة فی المسألة الأُصولیة

:

ثمّ إنّه یقع الکلام فی المراد بالاستنباط من القاعدة الأُصولیة ، هل هو الاستنباط بلا ضمّها إلی قاعدة أُخری من قواعد الأُصول أو المراد به الاستنباط ولو بضمّها إلیها ، فإن کان المراد هو الأوّل فمن الظاهر أنّ المسائل الأُصولیة لیست کذلک ، وإن کان المراد هو الثانی دخل فی المسائل الأُصولیة ، مسائل علم الرجال أیضاً .

ذهب سیدنا الأستاذ قدس سره إلی الأول ولکن لا بنحو کلّی ، فذهب إلی أنّ القاعدة الأُصولیة هی التی یکون ضم صغراها إلیها کافیا فی استنباط الحکم الفرعی الکلی ولو فی موردٍ واحد ، بخلاف القواعد فی سائر العلوم فإنّها لا تکون کذلک ، بل

ص :24


1- (1) فوائد الأُصول : 4 / 309؛ أجود التقریرات : 2 / 345 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

دائماً تحتاج إلی قاعدة أصولیة لاستنباط الحکم الشرعی منها، فمثلاً مسألة «ظهور صیغة الأمر فی الوجوب» مسألة أُصولیة وإذا أُحرز الأمر بفعل بصیغته فی الکتاب المجید أو السنّة القطعیّة یستنبط منه وجوب ذلک الفعل .

لایقال : لابدّ فی الحکم بوجوب ذلک الفعل من ضمّ کبری حجیة الظواهر .

فإنّه یقال : إنّ المسألة الأُصولیة هی التی لا تحتاج لاستنباط الحکم الشرعی منها إلی ضمّ قاعدة أُخری من قواعد الأُصول إلیها ، لا أنها لا تحتاج إلی ضمّ مقدمة أُخری أصلاً ، وحجّیة الظواهر من المسلمات التی لم یقع الخلاف فیها ، وباعتبار ذلک لم تجعل من مسائل علم الأُصول ، وإن وقع الخلاف فیها فی موارد ، کحجیة ظواهر الکتاب المجید ، أو حجیة الظاهر مع الظن بالخلاف ، وحجیة الظهور لغیر من قصد إفهامه .

والحاصل أنّ استنباط الحکم من قاعدة ظهور صیغة الأمر فی الوجوب وإن کان یحتاج إلی مقدمةٍ أُخری إلاّ أنّ تلک المقدمة لیست من مسائل علم الأُصول ولا من مسائل سائر العلوم ، وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنّه یحتاج لاستنباط الحکم منها إلی ضمّ قاعدةٍ أُصولیة لا محالة .

ثمّ أردف هذا القائل الجلیل قدس سره أن_ّه لا یلزم أن تکون نتیجة المسألة الأُصولیة علی کل تقدیر کذلک ، بل یکفی فی کون المسألة أُصولیة کون نتیجتها کذلک ، ولو علی بعض التقادیر . مثلاً مسألة «إقتضاء الأمر بشیء للنهی عن ضدّه الخاصّ» وإن کانت لا تکفی بمجردها للاستنباط علی تقدیر القول بالاقتضاء ، بل نحتاج لاستنباط الحکم منها إلی ضمّ مسألة أُصولیة أُخری هی «اقتضاء النهی عن عبادة ، ولو کان

ص :25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

غیریا فسادها» إلاّ أنّه علی القول بعدم إقتضاء الأمر بشی ء النهی عن ضده الخاص یستنبط منها بضمّ صغراها صحة العبادة المضادة للواجب ، کالصلاة فی أوّل الوقت مع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد .

لایقال : نفس ثبوت الحرمة الغیریة للضد الواجب وعدم ثبوتها له حکم شرعی یستنبط من نفس مسألة «اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضدّه» فکیف لا تکون المسألة کافیة فی الاستنباط ؟

فإنّه یقال : نفس الحرمة الغیریة لشیء لا یعدّ أثرا عملیا ولا تکون المسألة _ بهذا الإعتبار _ مسألة أُصولیة ، کما یأتی توضیحه فی بحث مقدمة الواجب(1) .

أقول : الصحیح أنّه لا یستنبط من مسألة «اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه» بمجرّدها الحکم الفرعی العملی ، سواءٌ التزم فیها بالاقتضاء أو عدمه . فإنّه حتّی علی القول بعدم الاقتضاء نحتاج _ لتصحیح العبادة المضادة _ إلی ضمّ قاعدة أُصولیة أُخری هی قاعدة جواز الترتّب (أی جواز الأمر بالمتضادّین ترتّباً)، أو قاعدة عدم التزاحم بین الواجب الموسّع والمضیَّق، أو قاعدة کشف الملاک الإلزامی فی الفرد العبادی المضاد من إطلاق المتعلّق فی خطاب التکلیف، کما ذکروا تفصیل ذلک فی بحث الضدّ.

ثمّ إنّه قد تکون مسألة من سائر العلوم بنفسها کافیة فی الاستنباط بضمّ صغراها إلیها ، ولو فی بعض الموارد ، کبعض مسائل علم اللغة التی یستفاد منها معنی الوجوب والحرمة والکراهة أو معنی النجس والطاهر ، مما یدلّ علی الحکم تکلیفا أو

ص :26


1- (1) المحاضرات : 1 / 12 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وضعا ، فإنّه إذا وقعت هذه الألفاظ فی الکتاب أو فی الخبر المحفوف بقرینة موجبة للقطع بصدوره وجهته ، استنبط منه الحکم بلا ضمّ مقدمة أُصولیة أُخری.

والحاصل : یتعیّن أن یراد بالاستنباط من القواعد الأُصولیة ما هو الأعمّ من الاستنباط بضمّ قاعدة أُخری من مسائله (حتّی فی جمیع الموارد).

وإنما لم تُجعل مسائل علم الرجال وبعض مسائل علم اللغة من علم الأُصول ، باعتبار وضوحها أو باعتبار معلومیتها فی علمٍ آخر .

نعم المباحث التی تذکر فی کتب الأُصول ولکن لاتکون واسطة فی استنباط نفس الحکم بل یحرز بها الموضوع أو المتعلّق للحکم ، کمباحث المشتق والحقیقة الشرعیة والصحیح والأعم ونحوها ، لا تدخل فی مسائل علم الأُصول ، بل تعتبر من المبادئ التصوریة لعلم الفقه ، بخلاف المسائل الأُصولیة فإنّها من المبادئ التصدیقیّة لعلم الفقه . ولذا ینبغی تقسیم المسائل الأُصولیة إلی أربعة أقسام :

الأوّل: مباحث الدلالات اللّفظیة علی الأحکام وتعیین الظهورات فیها .

الثانی: مباحث الاستلزامات العقلیة ، ولو کانت غیر مستقلّة ، کبحث الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته .

الثالث: مباحث الحجج الاعتباریة والأمارات .

الرابع: مباحث الأُصول العملیة .

ص :27

ص :28

الأمر الثانی

الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنی [1]

الشَرح:

حقیقة الوضع

:

[1] مراده قدس سره ؛ إن اللّفظ یتصّف بکونه موضوعا فیما إذا عیّن بإزاء معنی لتفهیمه بذلک اللفظ فی مقام التخاطب ، ویتصّف أیضاً بکونه موضوعا فیما إذا تکرّر استعماله فی معنی بنصب القرینة ورعایة العلاقة إلی حدّ لا یحتاج تفهیم ذلک المعنی به إلی نصب القرینة بل یکون المعنی الأوّل مهجورا عن الأذهان وینسبق إلیها المعنی الثانی عند الإطلاق . واتّصاف اللّفظ بکونه موضوعا فی الصورتین یکشف عن کون الوضع فی الألفاظ أمرا یحصل بالتعیین تارةً ، وبکثرة الاستعمال أُخری ، وذلک الأمر نحو علقة وارتباط بین اللفظ والمعنی یحصل بأحد الأمرین ، وعلی ذلک فما ذکر من أنّ الوضع عبارة عن «تعیین اللفظ بازاء المعنی» غیر سدید ، فإنّه بهذا التعریف غیر قابل للتقسیم إلی التعیینی والتعیّنی .

أقول : الوضع هو تعیین اللفظ بإزاء معنی ، سواء کان إبتدائیا أو مسبوقا بالاستعمال المجازی ، إذ فی الوضع التعیّنی تلغی العنایة ولحاظ العلاقة فی الاستعمال ولو بعد شیوع ذلک الاستعمال لا محالة ، وفی أیّ زمان فرض إلغائها یحصل التعیین . وبتعبیرٍ آخر : کما یحصل التعیین بإنشائه ، کذلک یحصل بالاستعمال ، کما صرّح بذلک قدس سره فی أوائل البحث فی الحقیقة الشرعیة ، فیکون إلغاء العنایة فی الاستعمال بعد تکرّره من التعیین .

وأمّا ما ذکره قدس سره فی حقیقة الوضع من کونه نحو اختصاص وارتباط مخصوص بین اللفظ والمعنی ، فإن أراد قدس سره من الارتباط والاختصاص أُنس الأذهان من لفظ خاصّ ، بمعنی مخصوص ، بحیث ینتقل الذهن عند سماعه إلی ذلک المعنی فهذا

ص :29

وارتباط خاصّ بینهما، ناش من تخصیصه به تارة، ومن کثرة استعماله فیه أخری، وبهذا المعنی صحّ تقسیمه إلی التعیینی والتعیّنی، کما لا یخفی.

الشَرح:

الارتباط صحیح ، إلاّ أن_ّه معلول للعلم بالوضع فیکون الوضع غیر الارتباط المفروض . وإن أراد من الاختصاص أمرا آخر فلا نعرفه .

وقد یقال فی المقام کما عن المحقق الأصفهانی قدس سره : إن الارتباط بین اللفظ والمعنی مما یلازم الوضع ولیس عینه ، بل الوضع أمر اعتباری یشبه وضع العَلَم علی الأرض أو الحجر علی الحجر لغرضٍ ما ، غایة الأمر الوضع فی المثالین حقیقی ، یندرج تحت مقولة الوضع وفی اللفظ اعتباری لا یندرج تحت أیّ مقولة ، فلا یکون مما بازاءه شیء فی الخارج ، ولا ممّا له منشأ انتزاع خارجی .

ویشهد لذلک أنّ الارتباط حاصلٌ بین طبیعیّ اللفظ وطبیعیّ المعنی ، ولو مع الإغماض عن وجود اللّفظ خارجا أو ذهنا ، بحیث لو لم یتلفّظ أحد بلفظ الماء مثلاً ولم یوجد معناه فی ذهن أحد ، لکان الارتباط بین لفظه ومعناه موجوداً ، ومن ذلک یظهر أنّ الوضع لیس من الأُمور الاعتباریة الذهنیة نظیر الکلیّة والجزئیّة والنوعیة والجنسیّة ، لأن_ّه لو کان کذلک لاحتاج إلی لحاظ اللّفظ ولکان المعروض ذهنیاً مع أنّ الإختصاص الوضعی حاصل لطبیعی اللّفظ لا بما هو موجود ذهناً ولا بما هو موجود خارجاً .

ودعوی أنّ قول الواضع : (وضعت هذا اللّفظ) منشأً لانتزاع الوضع فیکون من الأُمور الانتزاعیة _ نظیر ما یقال من أنّ قول البائع : (بعت المال) منشأً لانتزاع الملکیة ، فتوجد الملکیة بمنشأ الانتزاع _ لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ الأمر الانتزاعی من منشأ یحمل العنوان الإشتقاقی المأخوذ منه ، علی منشئه مع أنّ العنوان الاشتقاق من الملکیة والوضع لا یحمل علی صیغة بعتُ ولا علی صیغة وضعتُ .

ویشهد أیضاً لعدم کون اختصاص اللّفظ بالمعنی ، معنی مقولیا ، اختلاف أنظار

ص :30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأقوام والطوائف فی ارتباط لفظ بمعنی ، فیری قومٌ ارتباط لفظ بمعنیً ، ویری آخرون ارتباطه بمعنیً آخر(1) .

أقول : ما ذکره قدس سره _ من کون الوضع بنفسه أمرا اعتباریا لا یندرج تحت مقولة _ صحیح ، والشاهد علی ذلک إمکان إلغائه ، ولو کان أمرا حقیقیا لما کان یقبل الإلغاء ، إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من کونه أمرا اعتباریا مسانخا للوضع الخارجی _ کما ذکره _ مما لایمکن المساعدة علیه ؛ إذ اللّفظ وإن کان یتّصف بأنّه موضوع ، والمعنی لایصحّ اتّصافه بالموضوع علیه ، وإنّما یتّصف بالموضوع له ، ولو کان وضع اللفظ أمرا اعتباریا من سنخ الوضع الخارجی لصحَّ اتّصاف اللفظ بالموضوع علیه .

کما أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الإرتباط والإختصاص لازم الوضع لایمکن المساعدة علیه أیضا ؛ وذلک لأنّ هذا الإرتباط والإختصاص إنّما هو أُنس الذهن بالمعنی من اللفظ ، بحیث ینسبق المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ، وهذا الأُنس یحصل من العلم بالوضع أو تکرار الإستعمال ، لا من مجرّد الوضع وإن أُرید من الإرتباط والإختصاص معنیً آخر ، فلا نعرفه .

وعن المحقق الایروانی قدس سره أنّ حقیقة الوضع فی الألفاظ عبارة عن تنزیل اللفظ منزلة المعنی وجعله عینه ادّعاءً ، وهذه العینیّة الادعائیّة یصحّحها ترتّب غرض التفهیم والتفهم علیها ، وهذا الغرض المهمّ کافٍ فی تصحیح الادّعاء فإنّه بابٌ واسع . وذکر قبل ذلک أنّ دلالة الألفاظ علی المعانی ذاتیة ، ولا یحتاج فی أصل دلالتها إلی الوضع ، وإنّما یحتاج إلی الوضع فی تعیین المعنی وتمییز المراد من

ص :31


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 44 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المعانی من غیر المراد منها ، ویشهد لذلک صحّة استعمال اللفظ وحصول دلالته علی نوعه أو مثله حتّی لو کان اللفظ مهملاً غیر موضوع لمعنیً(1) .

أقول : لم یظهر وجه الاستشهاد ، فإنّه عند إرادة النوع أو المثل لابدّ من وجود قرینة یکون اللّفظ بها دالاًّ علی إرادة نوعه أو مثله ، وإن کانت تلک القرینة المحمول المذکور فی الکلام ، کما فی قوله : (ضرب فعل ماضٍ) .

هذا مع الإغماض عمّا یأتی من عدم کون إرادة مثل اللّفظ أو نوعه أو شخصه من استعمال اللفظ فی المعنی .

وأمّا ما ذکره قدس سره من کون حقیقة الوضع هو الإدّعاء ، بأنّ هذا اللفظ عین ذلک المعنی ، فیکذّبه الوجدان عند ملاحظة الوضع فی الأعلام الشخصیة ، فإنّ حقیقته لاتختلف عن الوضع فی سائر الألفاظ ، مع أنّه لا تنزیل ولا ادّعاء فی وضعها قطعا ، فإنّ قول الوالد : (سمیت ولدی محمّدا) لیس مفاده جعلته عین لفظ «محمّد» أو أنّ صورته عین ذلک اللّفظ ، ویوضّح ذلک کمال الوضوح ، ملاحظة أسماء ذات الحق «جلّ وعلا» .

وأمّا دعوی(2) کون أصل الدلالة فی الألفاظ ذاتیة ، بتقریب أن_ّه لو سمع شخص کلاما وکان جاهلاً بوضع ألفاظه ، علم أنّ المتکلّم أراد معنیً ما ، فیردّها أنّ علم السامع بذلک لیس ناشئا من دلالة الألفاظ ذاتا ، بل من ظهور حال المتکلم العاقل بأن_ّه لا یفعل شیئا بلا غرض ، والغرض من الکلام عادةً إرادة المعانی .

ص :32


1- (1) نهایة النهایة : 1 / 7 .
2- (2) الدعوی منسوبة إلی عبّاد بن سلیمان الصیمری ، قوانین الأُصول : 1 / 194؛ والمحصول : 1 / 57 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وأمّا الإلتزام بأنّ دلالة الألفاظ لیست بذاتیة محضة بل بها وبالوضع معا _ کما عن المحقق النائینی قدس سره _ ، بدعوی أنّ کل لفظ یناسب معنی واقعا وتلک المناسبة مجهولة عندنا ، واللّه (تبارک وتعالی) عیّن کلّ لفظ لمعناه المناسب له وألهمنا بالتکلّم بذلک اللّفظ عند إرادة ذلک المعنی ، فیکون الوضع فی الألفاظ أمرا متوسطاً بین الأحکام الشرعیة التی یحتاج إبلاغها إلی الأنام إلی إرسال الرسل وإنزال الکتب ، وبین الأُمور الجبلّیّة التی جُبل الإنسان علی إدراکها من الأُمور التکوینیة کالعطش والجوع عند احتیاج البدن إلی الماء والغذاء ، ولو کانت دلالة الألفاظ ذاتیة محضة بلاتوسیط وضع لما جهل أحدٌ معنی لفظٍ ، ولو عند قوم آخرین ، واحتمال أنّ الواضع هو الإنسان غیر صحیح ؛ لأنّا نقطع بحسب التواریخ التی بأیدینا أن_ّه لم یکن شخص أو أشخاص وضعوا الألفاظ فی لغةٍ ، فضلاً عن سائر اللغات .

ومما یؤکّد ذلک أنّ جماعة لو أرادوا وضع ألفاظ جدیدة فی لغةٍ بقدر الألفاظ التی فی تلک اللّغة لما قدروا علیه ؛ لکثرة المعانی وتعذّر تصوّرها من قبل أشخاص ، فضلاً عن شخصٍ واحد . فقد ظهر أنّ حقیقة الوضع هو تعیین اللفظ لمعنی بمقتضی مناسبة له وأنّ هذا التعیین من اللّه (عز وجل)(1) ، فغیر صحیح ؛ وذلک لأنّ دعوی المناسبة الواقعیّة بین کل لفظ ومعناه ، مما لم یشهد بها شاهد ، وما یقال من أنّ الوضع یستلزم الترجیح بلامرجح لولا مناسبة واقعیة ، غیر صحیحٍ ؛ لأنّ الغرض من الوضع _ وهو التسبیب إلی تفهیم المعانی والمرادات _ بنفسه کافٍ فی تعیین أیّ لفظ لأیّ معنی ، وعدم وجود اسم شخص أو أشخاص فی التواریخ التی بأیدینا لا تدلّ

ص :33


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 11 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی أنّ واضع الألفاظ هو اللّه سبحانه ، إذ یحتمل أن یکون أصل الوضع فی أیّ لغة قد حدث قبل التاریخ ، ثمّ کملت تلک اللغة علی مرّ العصور نتیجة تطوّر الأفکار وکثرة الحاجات ، کما نری بالوجدان أنّ المصنوعات والمخترعات الجدیدة تُوضع لها الأسماء من غیر أن یذکر فی التاریخ مَن سمّاها بها ، ومما ذکر یظهر الجواب عن تعذّر وضع أشخاص لغةً جدیدة ، فضلاً عن شخصٍ واحد .

وقد ذهب سیدنا الأستاذ قدس سره إلی أنّ وضع الألفاظ فی حقیقته تعهّد وقرار من مستعمل اللفظ بأنّه کلّما أتی به أراد تفهیم المعنی الفلانی ، ولا یفرّق فی ذلک بین أن یکون التعهّد والقرار إبتدائیا ، أو کان مسبوقا بالتعهد والاستعمال من الآخرین فیکون مستعمل الألفاظ مع ذلک التعهّد واضعا ، ولو کانت استعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الآخرین ، فإنّ عدم إعراضه عن استعمال السابقین وإقرار اللفظ علی ما هو علیه إمضاءٌ للتعهّد والقرار ، فکلّ مستعمل واضع ، غایة الأمر السابق _ لسبقه فی التعهّد والاستعمال _ یطلق علیه الواضع ، وعلی ذلک فما یری من خطور المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ولو من غیر شاعر فهو لیس من الدلالة الوضعیّة ، بل منشأه أُنس الأذهان لکثرة الاستعمال(1) .

ولکن لا یخفی أنّه لو کان الأمر کذلک لکان الأُنس حاصلاً بین اللفظ وإرادة تفهیم المعنی لا نفسه .

والصحیح أنّ الوضع فی الألفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعانی ، والغرض من جعل العلامة تفهیمها بها ، فالمعنی هو الموضوع له ومسمّی اللّفظ ، لا أنّ إرادة

ص :34


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 45 .

ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن یکون معنی عامّا] 1]، فیوضع اللّفظ له تارة، ولأفراده ومصادیقه أخری، وإمّا یکون معنی خاصّاً، لا یکاد یصحّ إلاّ وضع اللفظ له دون العام، فتکون الأقسام ثلاثة، وذلک لأنّ العام یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک، فإنّه من وجوهها، ومعرفة وجه الشیء

الشَرح:

المعنی نفسها مسمّی اللّفظ ، ثمّ إنّ هذا التعیین وجعل اللفظ علامة للمعنی قد یکون إبتدائیا ، وقد یکون مسبوقا بالاستعمالات المتکررة بالعنایة وملاحظة العلاقة فیکون الوضع تعیّنیّاً .

أقسام الوضع

:

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام : أنّ وضع اللفظ لمعنی یتوقّف علی لحاظ ذلک المعنی ، فإن کان المعنی الملحوظ عامّا یعنی کلیّا یکون فی ذلک العامّ جهتان ؛ الأولی : أن_ّه معنیً من المعانی ، وبهذا الاعتبار یکون وضع اللفظ له من الوضع العامّ والموضوع له العامّ . والثانیة وجهة کونه عنوانا لأفراده ووجوداته وصورة لها ، وبهذا الاعتبار یکون وضع اللّفظ من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فإنّ الموضوع له فی الحقیقة وجوداته وأفراده غایة الأمر لم تلاحظ تلک الأفراد تفصیلاً بل إجمالاً ، یعنی بعنوانها وبالصورة المشترکة بینها .

وأمّا إذا کان المعنی الملحوظ جزئیا فبما أنّ لحاظه لیس إلاّ لحاظ نفسه لا غیره من سائر الأفراد ولا للصورة المشترکة بینها حیث إنّ الجزئی لا یکون صورة لغیره فیکون وضع اللّفظ له من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ .

نعم إذا لوحظ الجزئی فربّما ینتقل الذهن إلی أنّ له کلیّا ویوضع اللفظ لذلک الکلّی ، فهذا أمر ممکن إلاّ أنّ الوضع فی هذا الفرض کالموضوع له عامّ ، فإنّه لوحظ

ص :35

معرفته بوجه، بخلاف الخاصّ، فإنّه بما هو خاصّ، لا یکون وجهاً للعام، ولا لسائر الأفراد، فلا یکون معرفته وتصوّره معرفة له، ولا لها _ أصلاً _ ولو بوجه.

نعم ربّما یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه، فیوضع له اللفظ، فیکون الوضع عامّاً، کما کان الموضوع له عامّاً، وهذا بخلاف ما فی الوضع العام والموضوع له الخاصّ، فإنّ الموضوع له _ وهی الأفراد _ لا یکون متصوّراً إلاّ بوجهه وعنوانه، الشَرح:

المعنی العامّ ثانیا ، بعد تصور الجزئی أوّلاً ، وفرق بین تصور الشیء بعنوانه وصورته المرآتیّة کما فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وبین تصوّر الشیء بنفسه ولو بعد الانتقال إلیه من تصوّر شیء آخر کما فی حالة الانتقال إلی أنّ للجزئی کلیّا .

لا یقال: کون اللفظ موضوعا للجزئی أو استعماله فیه یلازم إدخال الخصوصیات الموجبة للجزئیة فی ذلک المعنی الموضوع له أو المستعمل فیه ، وتصور العامّ فی مقام الوضع أو الاستعمال لا یکون إلاّ تصوّرا لنفسه وهی الجهة المشترکة بین أفراده ومع حذف خصوصیات الأفراد فی الملحوظ لا یکون الموضوع له خاصا فلابدّ من جعل الموضوع له المعنونات بذلک العنوان بأن یلاحظ ما یکون إنسانا أو غیره بالحمل الشایع ویجعل الموضوع له هو المعنون ، لا العنوان ، وهذا فی الحقیقة انتقال إلی الجزئی ، و لحاظه إجمالاً بعد تصوّر العامّ ویجری ذلک فی الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ الذی ذکر قسما رابعا للوضع بأن یلاحظ الجزئی أوّلاً ویوضع اللفظ لما هو عنوان له ، وبالجملة یکون فی کلتا الصورتین تصور المعنی بنفسه ولو إجمالاً ، بعد تصور شیء آخر عامّ أو خاصّ .

فإنّه یقال : إنّ إمکان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما هو باعتبار أنّ لحاظ معنی بخارجیّته کافٍ فی جزئیّته ، فإنّ المعنی الکلی یمکن تصوّره بحیث یکون لحاظا لتلک الوجودات العینیة ، حیث إنّ الکلی عینها خارجا ، کما یمکن ملاحظته بحیث

ص :36

وهو العام، وفرق واضح بین تصوّر الشیء بوجهه، وتصوّره بنفسه، ولو کان بسبب تصوّر أمر آخر.

ولعلّ خفاء ذلک علی بعض الأعلام، وعدم تمیّزه بینهما، کان موجباً لتوهّم إمکان ثبوت قسم رابع، وهو أن یکون الوضع خاصّاً، مع کون الموضوع له عامّاً، مع أنّه واضح لمن کان له أدنی تأمّل.

الشَرح:

یقبل الاتصاف بالوجود والعدم . فإن کان اللّفظ قد وضع له مع الإغماض عن العینیّات الخارجیّة ، بحیث یکون قابلاً للاتصاف بکل من الوجود والعدم ، کان الموضوع له کالوضع عامّا ، وإن کان اللفظ قد وضع له بلحاظ العینیّات الخارجیّة بحیث لا یقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل یکون الأمر فیه نظیر ما فی الأعلام الشخصیة فی عدم اتصافها بالوجود والعدم کان الموضوع له خاصّا ، مثلاً ؛ فی العنقاء یصحّ أن یقال : إنّه معدوم ، ولا یصح أن یقال : زید معدوم ، بل یقال : إنّه غیر باق . والحاصل أنّ الطبیعیّ عین وجوداته خارجا ، فلحاظه بجهة خارجیّته کافٍ فی کون الموضوع له خاصا ، والمراد بجهة العینیّة واقعها لا مفهوم العینیّة فإنّ مفهومها هو عین مفهوم الوجود ، کما هو ظاهر .

ص :37

ثمّ إنّه لا ریب فی ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص کوضع الأعلام، وکذا الوضع العام والموضوع له العام، کوضع أسماء الأجناس وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهّم أنّه وضع الحروف، وما ألحق بها من الأسماء، کما توهّم أیضاً أنّ المستعمل فیه فیها خاصّ مع کون الموضوع له کالوضع عامّاً.

والتّحقیق _ حسبما یؤدّی إلیه النّظر الدقیق[1] _ أن حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء، وذلک لأنّ الخصوصیة المتوهمة، إن کانت هی الموجبة لکون المعنی المتخّصص بها جزئیاً خارجیاً، فمن الواضح أنّ الشَرح:

المعنی الحرفی

[1] وبتعبیرٍ آخر إنّ مثل لفظ «من» ولفظ «الابتداء» موضوعان لمعنی واحد غایة الأمر ، ذلک المعنی یلاحظ تارةً بما هو هو فیستعمل فیه لفظ «الإبتداء» ، وأُخری یلاحظ آلیّاً فیستعمل فیه لفظ «من» ولیس المراد أنّ اللّحاظ الآلی أو الاستقلالی داخل فی المستعمل فیه ، بل هما نحوان من اللّحاظ یتعلّقان بنفس المعنی فی مقام الاستعمال ، ونفس ذلک المعنی _ الذی یتعلّق به اللّحاظ الآلی تارةً والاستقلالی أُخری _ هو الموضوع له والمستعمل فیه ، فیهما.

ویدلّ علی عدم کون معانی الحروف جزئیات بل کمعانی الأسماء کلیّات ؛ أنّ القائل بالجزئیة إن أراد الخصوصیة الخارجیّة الموجبة لکون المعنی جزئیا خارجیا ، فمن الظاهر أنّ تلک الخصوصیة غیر داخلة فی معانی الحروف ، فإنّه کثیرا ما یکون معنی لفظ «من» کلّیا یصدق علی کثیرین ، کما إذا وقع تلو الأمر أو النهی ، کقوله «سر من البصرة» ولذا إلتجأ بعض الفحول إلی جعله جزئیّاً إضافیا ، وهو کماتری ؛ لأنّ ما

ص :38

کثیراً ما لا یکون المستعمل فیه فیها کذلک بل کلّیاً، ولذا التجأ بعض الفحول إلی جعله جزئیاً إضافیاً، وهو کما تری. وإن کانت هی الموجبة لکونه جزئیاً ذهنیاً، حیث إنّه لا یکاد یکون المعنی حرفیاً، إلاّ إذا لوحظ حالة لمعنی آخر، ومن خصوصیاته القائمة به، ویکون حاله کحال العرض، فکما لا یکون فی الخارج إلاّ فی الموضوع، کذلک هو لا یکون فی الذهن إلا فی مفهوم آخر، ولذا قیل فی تعریفه: بأنّه ما دلّ علی معنی فی غیره، فالمعنی، وإن کان لا محالة یصیر جزئیاً بهذا اللحاظ، بحیث یباینه إذا لوحظ ثانیاً، کما لوحظ أولاً، ولو کان اللاحظ واحداً، إلاّ أن هذا اللحاظ لا یکاد یکون مأخوذاً فی المستعمل فیه، وإلاّ فلا بدّ من لحاظ آخر، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصوّر المستعمل فیه مما

الشَرح:

یوجب کونه جزئیّا إضافیا غیر داخل فی معناها بل هو مستفاد من دالٍّ آخر ، کمدخولها کما لا یخفی .

وإن أراد جزئیّة معانی الحروف باعتبار خصوصیّة ذهنیّة مأخوذة فیها ، موجبة لکونها جزئیات ذهنیّة ، بأن یکون الموضوع له نفس الوجود العرضی الذهنی ، بأن یقال : کما أنّ الموجود الخارجیّ قد یکون قائما بنفسه فیعبّر عنه بالجوهر وقد یکون قائما بالغیر فیعبّر عنه بالعرض ، کذلک الموجود الذهنی فإنّ المعنی قد یلاحظ بنفسه ، فیکون إسمیّا ، وقد یلاحظ آلیّا ، حالة لمعنی آخر (بأن یکون الموجود ذهنا بما هو ، المعنی الآخر) فیکون حرفیا ، وعلیه یکون معنی الحرف باعتبار أخذ واقع اللحاظ الآلی فیه وتقوّمه بمعنی آخر ، جزئیا ذهنیا.

ففیه : أن هذا اللّحاظ لا یمکن أخذه فی معانی الحروف بشهادة أُمور :

الأوّل: ما أشار إلیه بقوله قدس سره : «وإلاّ فلابدّ من لحاظٍ آخر» وتوضیحه : أنّه لو کان واقع اللّحاظ الآلی داخلاً فی معنی الحرف لزم تعدد اللّحاظ فی استعماله ، ضرورة

ص :39

لا بدّ منه فی إستعمال الألفاظ، وهو کماتری. مع أنه یلزم أن لا یصدق علی الخارجیات، لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها، حیث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلاّ بالتجرید و إلغاء الخصوصیة، هذا مع أنّه لیس لحاظ المعنی حالة لغیره فی الحروف إلاّ کلحاظه فی نفسه فی الأسماء، وکما لا یکون هذا اللحاظ معتبراً فی المستعمل فیه فیها، کذلک ذاک اللحاظ فی الحروف، کما لا یخفی.

الشَرح:

أنّ الاستعمال موقوف علی لحاظ المعنی وتصوّره ، وقد فرضنا واقع اللحاظ الآلی دخیلاً فی معنی الحرف ، فلابدّ من لحاظ الابتداء آلیا أوّلاً ، ثمّ لحاظ الملحوظ باللّحاظ الأوّل ، وهذا ممّا یکذّبه الوجدان .

أقول : توقّف الاستعمال علی لحاظ المستعمل فیه ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّ لحاظ المستعمل فیه لیس إلاّ إحضاره فی أُفق النفس ، وإذا فُرض حضور المستعمل فیه عند النفس باللّحاظ الأوّل _ کما فی المعلوم بالذات _ فلا معنی لإحضاره فیها بلحاظٍ آخر وفی الجملة لو کان واقع اللّحاظ الآلی مأخوذا فی معانی الحروف لم یکن فی استعمالها حاجة إلی أزید من ذلک اللحاظ .

الثانی: ما ذکره قدس سره من أنّه لو کان اللّحاظ مأخوذا فی معانی الحروف لما صحّ أن تصدق معانیها علی الخارجیّات ؛ لأنّ الصدق علیها هو الانطباق علیها ، والانطباق هو العینیّة ، والمعنی المرکب والمقید باللحاظ أمر ذهنی لا ینطبق علی الخارج بوجه . نعم عدم الانطباق لا یمنع الحکایة عن کثیرین فإنّ الطبیعی المقیّد بالکلّی المنطقی لا یمکن حصوله فی الخارج ، مع ذلک یکون کلّیاً باعتبار حکایته عن کثیرین _ کما فی الکلی العقلی المصطلح _ وعلی ما ذکر فیمتنع امتثال قوله «سر من البصرة» إلاّ بالتجرید بإلغاء خصوصیة اللّحاظ عن متعلّق الأمر .

ص :40

وبالجملة: لیس المعنی فی کلمة (من) ولفظ الابتداء _ مثلاً _ إلاّ الإبتداء، فکما لا یعتبر فی معناه لحاظه فی نفسه ومستقلاً، کذلک لا یعتبر فی معناها لحاظه فی غیرها وآلة، وکما لا یکون لحاظه فیه موجباً لجزئیته، فلیکن کذلک فیها.

إن قلت: علی هذا لم یبق فرق بین الاسم والحرف فی المعنی، ولزم کون مثل کلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفین، صحّ استعمال کل منهما فی موضع الآخر، وهکذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانیها، وهو باطل بالضرورة، کما هو واضح.

قلت: الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلٍّ منهما بوضع [1]، حیث إنّه

الشَرح:

الثالث: ما أشار إلیه بقوله : «مع أن_ّه لیس لحاظ المعنی... إلخ» یعنی لیس اللّحاظ الآلی فی استعمالات الحروف إلاّ نظیر اللّحاظ الاستقلالی فی استعمال الأسماء ، وکما أنّ اللحاظ الاستقلالی غیر مأخوذ فی معانیها فی الوضع والاستعمال کذلک اللحاظ الآلی فی استعمالات الحروف ووضعها .

ثمّ إنّ قوله قدس سره : «لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها ، أی الخارجیات» لیس کما ینبغی ، فإنّ معنی الحرف بناءً علی تقیّده باللحاظ الآلی وإن کان کالکلّی العقلی من ح_یث حکایته عن کثیرٍ من الخارجیّات إلاّ أنّه لیس من الکلی العقلی المصطلح علیه ، و الصحیح أن یقال : لامتناع صدقه نظیر امتناع صدق الکلّی العقلیّ علی الخارجیّات .

[1] وبتعبیر آخر معنی لفظَی «من وابتداء» وإن کان أمرا واحدا یتعلّق به اللحاظ الآلی تارةً ، والاستقلالی أُخری ، وشیء من اللحاظین غیر مأخوذ فی ناحیة الموضوع له والمستعمل فیه إلاّ أنّ الوضع فی الحروف مقیّد بتعلّق اللّحاظ الآلی بمعانیها عند الاستعمال ، وفی الأسماء بتعلّق اللّحاظ الاستقلالی بها کذلک ،

ص :41

وضع الإسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک، بل بما هو حالة لغیره، کما مرّت الإشارة إلیه غیر مرّة، فالاختلاف بین الاسم والحرف فی الوضع، یکون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما فی موضع الآخر، وإن اتّفقا فیما له الوضع، وقد عرفت _ بما لا مزید علیه _ أنّ نحو إرادة المعنی لا یکاد یمکن أن یکون من خصوصیاته ومقوماته.

الشَرح:

واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع فی کلّ منهما یوجب عدم صحّة استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، ولیس المراد بالتقید وشرط الوضع ما یرادف معنی الشرط فی المعاملات ، أعنی الالتزام بشیء فی ضمن معاملة ، لیقال إنّ اتّباع شروط الوضع والعمل بها غیر لازم ، کما لو فرضنا أنّ الواضع اشترط دفع درهم علی من استعمل هذا اللفظ فی هذا المعنی ، بل المراد بالشرط هو ما فی لسان علماء الأدب من أنّ وضع الحرف لذلک المعنی معلّق علی لحاظه آلیا وفی الإسم علی لحاظه استقلالاً .

أقول : غایة ذلک عدم صحة استعمال الحرف فی موضع الإسم حقیقةً ؛ لکونه بغیر الوضع ، وأمّا عدم صحته أصلاً ولو بنحو المجاز ، فلا موجب له ، مع أنّ استعمال أحدهما موضع الآخر یعدّ غلطاً ، وهذا کاشف عن اختلاف المعنی فی الحرف والإسم ذاتاً ، وأنّ معنی الأوّل غیر الآخر ، لا أنّهما یختلفان باللّحاظ أو بتقید الوضع مع اتحاد المعنی ، فیبقی الکلام فی ذلک الاختلاف .

وعن المحقق الاصفهانی قدس سره أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط الذی ذکره بعض الفلاسفة ، فی مقابل وجود الجوهر والعرض (الذی یعبّر عنه بالوجود الرابطیّ) . وحاصل ما ذکره قدس سره فی المقام : أنّ الألفاظ الموضوعة للجواهر والأعراض _ وهی الأسماء _ تکون معانیها من قبیل الماهیّات ، سواء کانت متأصّلة (أی منتزعة

ص :42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

من نفس وجوداتها) ، أو من الاعتبارات (أی المنتزعة من الشیء باعتبار أمرٍ آخر) ، ولا یکون الوجود الخارجی أو الذهنی مأخوذا فی معانی الأسماء أصلاً ، بل تتّصف معانیها بالوجود والعدم ، وفی مقابل هذه الماهیّات من الجواهر والأعراض والانتزاعیّات وجودٌ آخر ضعیف ودقیق فی الغایة زائدا علی وجود الجوهر والعرض ، یظهر بالبرهان علی ما استدلّوا علیه فإنّه ربّما یعلم بوجود کلٍّ من الجوهر (کوجود الإنسان) والعرض (کحصول الحرکة) ، ولکن یشکّ فی قیام الحرکة بالإنسان أو بغیره ، وهذا دلیلٌ واضح علی أنّ الحصّة الخاصّة من الحرکة القائمة بالإنسان لها نحو وجود ، نعبّر عنه بالوجود الرابط زائدا علی أصل الحرکة ، ووجود الإنسان لقضاء تعلّق الشک به وتعلّق الجزم بالأخیرین وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه لا یکون له مهیّة ، لیکون وضع اللّفظ لها ، بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط ، وتلاحظ هذه الوجودات فی مقام الوضع ، وعند الاستعمال بنحو الإشارة إلیها ، فتکون معانی الحروف مباینة ذاتا لمعانی الأسماء ؛ لأنّ الأسماء توضع للصور الذهنیّة المنطبقة علی الخارج ویکون الوجود الخارجی کالوجود الذهنی ، خارجا عن الموضوع له والمستعمل فیه فیها ، بأن یکون الموضوع له والمستعمل فیه نفس الماهیّات بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لما هو رابط خارجا ، لا عنوان الرابط ، فإنّه معنیً إسمی ویلزم علی ذلک أن یکون الوضع فی الحروف عامّا والموضوع له خاصّا(1) .

أقول : یناقش فیما ذکره قدس سره :

ص :43


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 51 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أولاً: بأنّه لا سبیل إلی الجزم بأنّ فی الخارج وجودا آخر غیر وجود العرض والجوهر یسمّی بالوجود الرابط ، والدلیل علیل ، إذ تعدّد متعلقی الیقین والشک ، لایلزم أن یکون بتعدّد الوجود ، بل یکفی فیه تعدّد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجا ، فإنّه ربّما یعلم حصول الطبیعی ویشکّ فی أفراده ، ومن الظاهر أنّ الطبیعی عین أفراده خارجا ولا وجود له غیر وجودها ، وعلی ذلک لو علم بوجود الإنسان خارجا ووجود الحرکة یکون الشکّ فی إضافة ما تقوم به الحرکة من کونه معنونا بعنوان الإنسان أو غیره .

وثانیا: إنّ الوجود الرّابط _ علی فرض تسلیمه _ لا یکون الموضوع له فی الحروف ، فإنّ الحروف تستعمل فی موارد لا یکون فیها ذلک الوجود قطعا ، کما یقال «الوجود للإنسان ممکن» و«لشریک الباری ممتنع» و«لذات الحق (جل وعلا) واجب» مع أنّه لا رابط فی شیءٍ منها بالمعنی المتقدّم أصلاً .

وثالثا: یلزم _ علی ماذکر _ أن لا یکون قول المخبر : (لزیدٍ علم ، ولعمروٍ خوف ، ولبکرٍ شجاعة) کذبا ، فیما إذا لم یکن لهم شیء ممّا ذکر ، فإنّه فی الفرض لا یکون للکلام مستعمل فیه بالإضافة إلی الحرف لیقال إنّ مدلوله غیر مطابق للواقع کما هو الفرض من عدم الرابط ، المدّعی کون اللاّم مستعملة فیه ، ویتضّح ذلک أکثر بملاحظة الحروف المستعملة فی النفی وفی الجواب والإستفهام والنداء والتعجّب ، إلی غیر ذلک ، مما لا یعقل فرض الوجود الرابط فیها .

وللمحقق النائینی قدس سره فی اختلاف معنی الإسم والحرف کلامٌ ، ملخَّصه : أنّ المعنی فی الأوّل إخطاریّ ، وفی الثانی إیجادی ، سواء کان معنی الحرف نسبیّا أو

ص :44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

غیر نسبیّ ، فالثانی کحروف النداء والتشبیه والجواب ونحوها ، ممّا یتحقّق باستعمالها فرد من النداء والتشبیه والجواب أو غیرها ، بخلاف الأوّل _ یعنی الحروف النسبیّة _ فإنّه یتحقّق باستعمالها فرد من النسبة والربط بین أجزاء الکلام بحسب معانیها .

وتوضیح ذلک : أنّ الأسماء _ سواء کانت معانیها من الجواهر خارجا أو من الأعراض _ موضوعة لنفس المعانی التی تتّصف بالوجود الخارجیّ أو الذهنیّ تارةً ، وبالعدم أُخری ، وهذه المعانی کلّها مستقلّة ذاتا ، بمعنی أنّه یخطر عند سماع ألفاظها ومعانیها فی الأذهان ولو لم یکن سماعها فی ضمن ترکیب کلامیّ ، وهذا بخلاف الحروف ، فإنّه لیس لها معانٍ استقلالیّة وإخطاریة ، بحیث تخطر إلی الذهن عند سماعها منفردةً عن الترکیب الکلامی .

ثمّ لا یخفی أنّ العرض لمّا کان لا یرتبط مفهومه ومعناه _ بما هو مفهوم ومعنی _ بمعنی المعروض ومفهومه کذلک ، بل کان العرض خارجا ، مرتبط بمعروضه الخارجی وملابساته من الزمان والمکان والآلة والمفعول وغیر ذلک من الملابسات ، فدعت الحاجة إلی إیجاد الربط بین معنی اللفظ الدال علی العرض ومعنی اللّفظ الدال علی المعروض ، وکذا سائر الملابسات فی مقام المعانی لیقوم الربط بین المدالیل فی الکلام بحیث یعدّ نسبة الربط فیه إلی النسبة الخارجیة مثل الظل إلی ذی الظلّ .

ولیس المراد أنّ النسبة الخارجیّة محقّقة للنسبة الکلامیة ، نظیر فرد الإنسان خارجا ، حیث إنّه یکون تحققا لطبیعیّ الإنسان ، بل المراد أنّ قیام الحرکة مثلاً بالإنسان کافٍ فی ارتباطها به خارجا ولکن معنی لفظ الحرکة غیر مرتبط بمعنی الإنسان ، فوضعت الحروف لإیجاد الربط بینها فی مقام التکلّم ، ثمّ إنّه ربّما یکون

ص :45

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

هذا الارتباط الکلامیّ متّفقا مع الإضافة الخارجیة ، توافق الظلّ وذیه ، فیکون الکلام صادقا ، وربّما لا یوافقها ، فیکون کاذبا ، فالمستعمل فیه فی الحروف إیجادی ، لکن لا کالإیجاد فی إنشاء البیع والطلب ، بأن یوجد البیع والطلب خارجا وفی عالم الاعتبار ، بل الإیجاد فی الحروف بمعنی تحقیق الربط بین مدلول أجزاء الکلام .

نعم فی الحروف غیر النسبیّة یکون الموجود فردا خارجیا من النداء والتشبیه والجواب وغیر ذلک(1) .

أقول : یرد علیه قدس سره أنّ دعواه بأنّ المعانی الإسمیة لا یمکن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها ببعض إلاّ بالتکلّم بالحروف ، لا یمکن الالتزام بها ، حیث یمکن للإنسان لحاظ شیئین مرتبطین خارجاً بما هما علیه من الارتباط ، فکما أنّ اللّفظ الموضوع لکلٍّ منهما یحکی عنهما خارجا بصورتهما المرآتیّة ، کذلک الحرف بصورته المتدلّیة فی معناهما ، یحکی عمّا هما علیه من الارتباط خارجا ، فیمکن وضع لفظ للصورة المتدلّیة فی صورتی الشیئین المرتبطین خارجا ، ویکون اللفظ بحکایته عن تلک الصورة المتدلّیة (الحاکیة عن الخارج) موجبا لحصول الارتباط بین معنی کلٍّ من الإسمین .

وبتعبیرٍ آخر : یکون الفرق بین معانی الأسماء والحروف أنّ معانی الأسماء إخطاریة ، بمعنی أنّه ینسبق منها معانیها إلی الأذهان ولو عند التلفّظ بکلٍّ منها منفردا ، بخلاف الحروف فإنّه لا ینسبق منها المعانی إلاّ إذا تلفّظ بها فی ضمن ترکیب کلامی و مع التلفظ بمدخولها وهذا معنی کون معانی الحروف غیر إخطاریّة .

ص :46


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 16 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وممّا ذکر ظهر أنّه لا مقابلة بین إخطاریّة معنی اللّفظ وبین کونه إیجادیا حتّی یکون نفی الأول مستلزما لإثبات الثانی .

ثمّ إنّه قدس سره ذکر أنّ معانی الحروف تکون آلیّة ومغفولاً عنها ، بخلاف الأسماء .

فهذا لا یمکن المساعدة علیه أیضاً ، فإنّه إن کان المراد بالآلیّة عدم کون تفهیمها هو المقصود الأصلی للمتکلم ، فمن الظاهر أنّه کثیرا ما یکون الغرض الأصلی من التکلّم تفهیم الإرتباط بین شیئین خارجا ، لعلم السامع بحصول کلٍّ منهما وعدم علمه بالإرتباط الخاصّ بینهما ، وإن کان المراد أنّ نظر المتکلّم إلی صورها المتدلّیة فی غیرها نظر مرآتی ، فهذا النظر المرآتی حاصل فی معانی الأسماء وغیرها ، حیث إنّ المتکلّم عند التکلّم ینظر بالمعانی التی هی فی حقیقتها صور للأشیاء إلی نفس الأشیاء فی مواطنها .

إذن فالحقّ فی المقام والذی یقتضیه التأمّل فی معانی الحروف هو أنّها موضوعة لإفادة خصوصیّة فی مدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلک المدخولات ، فمثلاً لفظة «فی» موضوعة لتدخل علی الإسم وتدلّ علی أنّ مدخولها متّصفٌ بکونه ظرفا بحسب الخارج .

ولیس المراد أنّ لفظة «فی» ترادف لفظ «الظرف» لیکون معنی «فی» ظرفا بالحمل الأوّلی أو بالحمل الشائع ، بل المراد أنّ معنی لفظ «ظرف» معنی إسمی وأنّ لفظة «فی» وضعت لتکون بعد دخولها علی الإسم دالّة علی أنّ ذلک المدخول موصوف خارجا بکونه ظرفا لشیء یذکر فی الکلام أو ذکر سابقا ، کما أنّ «کاف التشبیه» موضوعة لتکون دالّة علی أنّ المعنیّ بذلک الإسم خارجا مشبّه به ، ولفظة «من» وضعت لتکون دالّة علی أنّ مدلول ذلک الإسم خارجا معنون بعنوان المبدأ ،

ص :47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وکلمة «نعم» موضوعة لتدخل علی الجملة ولتدلّ علی أنّ مضمونها هو الجواب ولفظة «لا» موضوعة لتدخل علیها فتدل علی انتفاء مضمون تلک الجملة بحسب الخارج وهکذا وهکذا ، کما هو الحال فی الاعراب والهیئات الداخلة علی الأسماء والجُمل .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ حالات الإعراب موضوعة لتدلّ علی أنّ معنی مدخولها بحسب الخارج متّصف بکونه مصداقا للفاعل أو المفعول أو غیرهما ، کذلک الحروف موضوعة لتکون بدخولها علی الإسم أو غیره دالّة علی خصوصیّة مدخولها بحسب الخارج ، فمثلاً إذا قیل : (الصلاة فی المسجد أفضل من الصلاة فی غیره) یکون لفظ «فی» دالاًّ علی أنّ المسجد متّصف بکونه ظرفا فتکون الهیئة الکلامیة دالّة علی أنّ الصلاة المفروض کون المسجد ظرفا لها محکومة بما ذُکر ، وعلیه فلفظة «فی» لم توضع لتقیید معنی الصلاة وتضییقها بالظرف .

نعم بما أنّها موضوعة للدلالة علی کون مدخولها ظرفا، تکون الصلاة المفروض لها الظرف الخاصّ أخصّ من طبیعیّ الصلاة، وأمّا إذا لم یکن فی البین شیء قابل للتضییق لم یحصل ذلک التقیید کما فی قولنا (زید کالأسد) أو (فی الدار) إلی غیر ذلک.

والحاصل ؛ أنّ الفرق بین الحروف والأسماء فی أنّ الأسماء موضوعة للعناوین (ولذا تکون معانیها إخطاریّة بالمعنی المتقدّم) بخلاف الحروف ، فإنّها موضوعة لتدل علی اتّصاف مدخولاتها بالعناوین بحسب الوعاء المناسب لتلک المدخولات (ولذا تکون معانیها فی مدالیل مدخولاتها) .

ومما ذکر یظهر ضعف القول بأنّ الحروف موضوعة لتضییق معانی الأسماء

ص :48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وتقییدها(1) . فإنّ التقیید والتضییق وإن کان یحصل فی المورد القابل له عند استعمال الحروف فی معانیها إلاّ أنّه لم یکن بموضوع لها ، بل التضییق والتقیید لازم للمعانی الحرفیة فی المورد القابل .

لا یقال : ما الفرق بین لفظ «زید» الحاکی عن مصداقٍ خاصٍّ للإنسان ، وبین لفظة «فی» الحاکیة عن مصداق الظرف ، فلو کان مجرّد الحکایة عن مصداق عنوان موجبا لکونه حرفا ، لزم کون معنی لفظ «زید» أیضاً حرفیا .

فإنّه یقال : معنی لفظ «زید» إخطاری یحکی عن نفس المصداق ولو بعنوان مشیر إلیه ولا یحکی عن جهة کونه مصداقا لعنوان الإنسان ، بل الحاکی عن هذه الجهة الهیئة الترکیبیة فی قولنا «زید إنسان» ، وهذا بخلاف لفظة «فی» حیث إنّ معناها لا یکون إخطاریا ، ولفظة «فی» لا تحکی عن نفس مصداق عنوان الظرف ، بل الحاکی عن نفس المصداق مدخولها ، وهو لفظ الدار ، فیکون مدلول لفظة «فی» اتّصاف مدخولها بکونه ظرفا . وبما ذکرناه من معنی الحروف تبیَّن صحّة تعریف الحرف بأنّه : ما دلّ علی معنیً فی غیره ، علی أن یکون المراد بالغیر مدخوله کما ذکرنا ذلک فی ناحیة وضع الإعراب .

کما تبیّن أیضاً أنّ ما اشتهر من عدم المعنی للإعراب ، غیر صحیح علی إطلاقه ، فإنّ الإعراب وإن لم یکن له معنیً إخطاریّ إلاّ أن_ّه إذا دخل علی المعرَب دلَّ علی خصوصیة فی معناه بحسب الوعاء المناسب له ، فما قیل من أنّ الحروف لو کانت کالاعراب فی عدم المعنی ، لزم أن یکون معنی مفردات الکلام مساویا لمعنی

ص :49


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 75 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکلام ، بأن یکون معنی «زید» «دار» مساویا لمعنی «زید فی الدار» غیر صحیح ؛ إذ هو یبتنی علی أن یکون الإعراب لا معنی له ، وقد عرفت خلافه .

لا یقال : ما الفرق بین معانی أسماء الأعراض ومعانی الحروف ، فکما أنّ العرض یکون خصوصیة بحسب الخارج لمعروضه ، کذلک معانی الحروف .

فإنّه یقال : إنّ أسماء الأعراض تحکی عن نفس الخصوصیة بنحو الإخطار ، ولو لم تکن فی ضمن ترکیب کلامی ، غایة الأمر تکون وجوداتها قائمة بالمعروض ، وکون وجوداتها کذلک بإدراک العقل لا بدلالة اللفظ ، بخلاف الحروف فإنّه لیس لها معانٍ إخطاریة ، بل حیث تدخل علی الأسماء تکون دالّة علی أنّ مدخولاتها متّصفة بالعناوین الإسمیّة فی الوعاء المناسب لها ، ویعبّر عن تلک العناوین الإسمیة بالأعراض والخصوصیّات .

وقد انقدح ممّا تقدّم أنّ معانی الحروف لا تتّصف بالکلّیة والجزئیة ؛ لکونها متدلّیات بمعانی مدخولاتها ، فإن کان مدخول الحروف کلّیا أو مما یصدق علی الکلّ والأبعاض ، کانت معانی الحروف الداخلة علیه کذلک ، فیکون معناها قابلاً للتقیید بتبع تقیید المدخول ، وإن کان مدخولها جزئیّا کان معنی الحرف الداخل علیه قابلاً للتعیین بحسب ما یقبله ذلک الجزئیّ من التعیین بحسب الحال والزمان .

وبتعبیرٍ آخر : الأزمنة التی توجد فیها الدار المزبورة کحالاتها متعددة فیمکن تقییدها ببعضها ، والحرف الداخل علی کلمة الدار یقبل هذا النحو من التقیید ، وإن لم یکن مدخول الحرف قابلاً حتّی لهذا النحو من التقیید ، لم یک معنی الحرف قابلاً للتقیید أصلاً ، کما فی أوّل ساعة من یوم الجمعة من الشهر الفلانی من السنة الفلانیة ، فإذا قیل : (مات زید فی أوّل ساعة من ذلک الیوم) فلا یکون المعنی الحرفی قابلاً

ص :50

ثمّ لا یبعد أن یکون الاختلاف فی الخبر والإنشاء أیضاً کذلک [1]، فیکون الخبر موضوعاً لیستعمل فی حکایة ثبوت معناه فی موطنه، والإنشاء لیستعمل فی قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا فیما استعملا فیه، فتأمّل.

الشَرح:

للتقیید . هذا کلّه فی تقیید معانی الحروف ، وأمّا تقیید معانی الهیئات فیأتی الکلام فیها فی بحث الواجب المطلق والمشروط إن شاء اللّه تعالی .

الخبر والإنشاء

:

[1] یعنی کما أنّ الفرق بین الإسم والحرف لم یکن إلاّ فی ناحیة الوضع مع کون الموضوع له والمستعمل فیه واحدا فیهما ، فلا یبعد أن یکون الفرق بین الجملة الخبریة والجملة الإنشائیّة کذلک ، بأن یکون الموضوع له والمستعمل فیه فیهما واحدا ، غایة الأمر الوضع فی الجملة الإنشائیّة مشروط بإرادة المعنی بنحوٍ خاصّ ، وفی الجملة الخبریة بإرادته بنحوٍ آخر.

توضیح ذلک أنّ ثبوت النسبة فی موطنها وانتفائها فیه علی اختلاف أنحائها لها صور عند النفس ، ولو کانت تلک الصور متدلّیة فی طرفیها ، مثلاً نسبة المحمول إلی الموضوع واقعها اتّحادهما وجودا بنحوٍ خاصّ ، أو مفهوما أیضاً ، ونسبة المبدأ إلی الفاعل عبارة عن قیام المبدأ به صدورا أو حلولاً أو غیرهما ، والصور فی جمیع ذلک هی الموضوع لها فی الهیئات وتلک الصور وإن کان لها وجودات فی أُفق النفس إلاّ أنّ الهیئات لم توضع لتلک الوجودات بل وضعت لذواتها، وإذا خاطب المتکلم شخصا بقوله : (أطلب منک ضرب زید) بنحو الإخبار ، أو (طلبت ضربه منک) ، وقال الآخر لمخاطبه : (اضرب زیدا) إنشاءا ، فالکلامان مترادفان فی المعنی ، وإنما یختلفان فی نحو إرادة ذلک المعنی ، فإنّه فی الإخبار یقصد المتکلم الحکایة عن ثبوت المضمون

ص :51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فی موطنه ، وفی الإنشاء یقصد أن یثبت ذلک المضمون ویتحقّق فی موطنه .

ومما ذکرنا یظهر أنّ فی عبارته قدس سره حیث قال : «فی حکایة ثبوت معناه» و«فی قصد تحقّقه» تسامحاً ، فإنّ المناسب تبدیل لفظة «فی» باللاّم ؛ لأنّ الحکایة أو التحقّق غایة للاستعمال فی الإخبار والإنشاء کما هو المدّعی ، لا أنّهما داخلان فی الموضوع له أو المستعمل فیه .

وبتعبیرٍ آخر : الفرق بین مثل قول المولی لعبده (أطلب خروجک إلی السفر) بنحو الإخبار ، وبین قوله لعبده الآخر : (أخرج إلی السفر) إنشاءا ، بعد اشتراکهما فی أنّ مدلول کلٍّ منهما ثبوت طلب الخروج من المولی ، هو أنّ الشرط فی وضع هیئة فعل المضارع کون الداعی للمستعمِل من نقل ثبوت الطلب إلی ذهن المخاطب ، حکایة ثبوته ، بینما الشرط فی وضع صیغة إفعل کون الداعی إرادة ثبوت الطلب بذلک الاستعمال .

وقد ظهر مما ذکرنا أن_ّه لا فرق عند الماتن قدس سره بین قول القائل : (بعت داری بکذا) إخبارا ، وبین قوله : (بعت داری بکذا) إنشاءا ، إذ الهیئة فیهما قد استُعملت فی معنیً واحد ، وهو ثبوت بیع الدار ، وکذا قوله : (إضرب زیدا) إنشاءً ، و(أطلب منک ضرب زید) إخبارا ، فإنّهما قد استُعملا فی ثبوت الطلب والبیع ، وإنّما الاختلاف فی أنّ إنشاء البیع بقوله : (بعت داری) استعمال بغیر الوضع وإنشاء الطلب فی (اضرب زیدا) استعمال بالوضع . نعم ربّما لا یکون ثبوت الشیء أو ثبوته لشیءٍ آخر قابلاً للإنشاء ، نحو : زید أسود اللون ، وهذا لا یوجب أن لا یکون المستعمل فیه ثبوت سواد اللون لزید ، بل المستعمل فیه ذاک ، فلا یکون قصد الحکایة داخلاً فی الموضوع له والمستعمل فیه .

ص :52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر المحقق الاصبهانی قدس سره أنّ الأمر فی مثل قوله «بعت داری» من الصیغ المشترکة بین الإخبار والإنشاء هو کما ذکره قدس سره من أنّ المستعمل فیه للهیئة نسبة بیع الدار إلی المتکلّم ، وهذه النسبة تکون لقصد الحکایة تارةً ، ولقصد الإنشاء أُخری . وأمّا فی مثل قوله : (اضرب زیدا) وقوله : (أطلب منک ضرب زید) ممّا لا اشتراک فیه بین الجملة الإنشائیة والجملة الخبریة لفظا وهیئةً ، فلا یتمّ ذلک ؛ لأنّ الأوّل موضوع للبعث الاعتباری لا بما هو هو ، بحیث یکون البعث ملحوظا بذاته ، بل بما هو نسبة بین المتکلّم والمادّة والمخاطب ، ولذا لا تکون لتلک النسبة واقعیة لتطابقها أو لا تطابقها.

وبتعبیرٍ آخر : کما أن_ّه إذا حرّک شخص غیره نحو الفعل تحریکاً خارجیا لایکون ذلک التحریک الخارجی ملحوظا بذاته ، بل الملحوظ هو الفعل من المحرَّک ، کذلک فی التحریک والبعث الإنشائی الاعتباری ، یکون الملحوظ بالذات نفس المادّة من المخاطب ، کما فی قوله : (اضرب زیدا) ، وأمّا إذا قال : (أبعثک نحو ضرب زید) أو (أُحرّکک نحو ضرب زید) أو (أطلب منک ضرب زید) إخبارا ، فلیس الملحوظ بالذات ضرب زید (بأن یکون البعث مفاد الهیئة وملحوظا لا بذاته) حتّی یقال لا فرق فی المعنی بین الهیئة الإنشائیّة والإخباریّة ؛ لأنّ البعث معنی واحد ، والتفاوت باللّحاظ غیر المقوّم للمستعمل فیه ، بل مضمون الهیئة ومدلولها فی موارد الإخبار نسبة نفس البعث إلی المتکلّم بنسبة صدوریّة ، وکم فرقٍ بین النسبة البعثیّة وبین نسبة البعث(1) ؟

أقول : یرد علی المصنّف قدس سره أنّه لو لم یک فرقٌ فی ناحیة المستعمل فیه

ص :53


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 61 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والموضوع له فی قوله : (اضرب زیدا) إنشاءً ، و(أطلب منک ضرب زید) إخبارا ؛ لکان استعمال الأوّل فی م_ورد الثانی صح_یحا ، غایة الأم_ر لا یکون الاستعمال علی طبق الوضع فیحتاج إلی القرینة ، کما تقدّم فی استعمال الحروف فی موضع الإسم .

ویرد علی ما ذکره المحقّق الأصفهانی قدس سره أنّ ما ذکره هو بیان للفرق بین الهیئة الداخلة علی المادّة المضاف إلیها الطلب ، کما فی قوله : (إضرب زیدا) وبین الهیئة الداخلة علی مادّة الطلب عند إرادة الحکایة عن نفس الطلب ، کقوله : (أطلب منک ضرب زید) وأن_ّه یکون الطلب فی الأوّل ملحوظا آلیّا ، وفی الثانی ملحوظا استقلالاً ، وهذا الفرق ممّا لابدّ منه علی مسلکهم ، حیث إنّ استعمال الهیئة فی الأوّل فی الطلب لا یزید علی استعمال الحروف ، بخلاف قوله : (أطلب منک ضرب زید» فإنّ دلالته علی الطلب بمادّته وبمدخول الهیئة ، ومعنی الطلب فیه لابدّ أن یکون ملحوظا بذاته ، کالمعنی الإسمی فی استعمال سائر الأسماء إلاّ أنّ هذا لیس فرقا بین الإنشاء والإخبار ، فإنّه لو قصد من قوله (أطلب منک ضرب زید) الإنشاء لکان بین مدلوله ومدلول قوله (إضرب زیداً) ذلک الفرق ، بمعنی أنّ المنتسب إلی المتکلّم فی الثانی هو الضرب بنسبة طلبیّة وبعثیّة ، وفی الأوّل المنسوب إلیه طلب الضرب بنسبة قیامیّة ، ولیس هذا محل الکلام وإنّما الکلام فی المائز بین الإنشاء والإخبار وأنّ ذلک المیز داخل فی المستعمل فیه والموضوع له ، أو أن_ّه أمرٌ خارج عنهما وأنّه شرط للوضع فی کلّ من الجملة الإنشائیّة والخبریّة .

ویشهد لما ذکرنا أن_ّه لو أراد من قوله (أطلب منک ضرب زید) الإنشاء تارةً والإخبار أُخری ، لما کان بینهما فرقٌ فی کون الطلب المتعلّق بضرب زید ملحوظا بذاته ، کما لا یخفی .

ص :54

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر سیدنا الأستاذ قدس سره أنّ الجملة الخبریّة لا یمکن وضع هیئتها للنسبة الخارجیّة _ أی وضعها لثبوت شیء لشیء خارجا _ فإنّه ربّما لا تکون فی الخارج نسبة کما فی (الإنسان موجود) أو (شریک الباری ممتنع) أو (الإنسان ممکن) والإلتزام باستعمال الهیئة فی مثل هذه الموارد بالعنایة خلاف الوجدان ، مع أن_ّه لا معنی لدلالة الهیئة علی النسبة الخارجیّة فإنّها لا تفید الظن بالثبوت الخارجی ، فضلاً عن العلم به ، ولا معنی لدلالة الهیئة علی النسبة الخارجیّة ، غیر کونها کاشفة عنها علما أو ظنا ، کما لا معنی لوضعها للنسبة الکلامیة بأن توجد النسبة بین أجزاء الکلام _ نظیر ما تقدّم فی الحروف من أنّها موضوعة لإیجاد الربط بین المعانی الإسمیّة _ .

نعم الجملة الإسمیّة یوجب سماعها انتقال الذهن إلی ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر ، ولکنّ ذلک المتصوّر لا یمکن أن یکون مستفادا من الهیئة ومدلولاً لها ، فإنّها من قبیل التصوّر ، ومفاد الهیئة فی الجملة الخبریّة تصدیقی . فالصحیح أنّ الهیئة فی الجملة الخبریة موضوعة للدلالة علی قصد المتکلم الحکایة عن الثبوت الواقعی ، أی ثبوت شیء لشیء ، ویعبّر عن ذلک بثبوت المحمول للموضوع أو ثبوت شیء فی موطنه من ذهن أو خارج.

وبتعبیرٍ آخر : تکون الهیئة بحسب وضعها کاشفة عن قصد المتکلّم الإعلام بالثبوت الواقعی ، حیث إنّ الوضع فی الألفاظ _ کما تقدم _ بمعنی التعهّد والالتزام ، والتعهّد من شخصٍ إنّما یتعلّق بفعل نفسه وعلم الغیر بثبوت شیء لشیء ، أو ظنّه به خارج عن اختیار المتکلّم ، فلا یتعلّق به التعهّد ، والذی هو فعل اختیاری له ، هو قصد الحکایة عن ثبوت شیء لشیء أو نفس ثبوته أو لا ثبوته ، وعلی ذلک فلا یکون الصدق والکذب من أوصاف نفس مدلول الجملة الخبریّة ، بل من أوصاف متعلّق

ص :55

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المدلول ، (یعنی الحکایة) . هذا بالإضافة إلی الجملة الإسمیّة المستعملة فی مقام الإخبار ، وأمّا إذا کانت فعلیّة فهیئتها أیضاً تدلّ علی قصد الحکایة عن تحقّق المبدأ بنحو المضی أو الترقّب(1) .

أمّا الإنشاء فهو عبارة عن إبراز اعتباره فیما یکون ثبوت الشیء بذلک الاعتبار ، والاعتبار وإن کان أمرا نفسانیّا إلاّ أنّه غیر قصد الحکایة .

وما اشتهر من أنّ الإنشاء عبارة عن إیجاد المعنی خارجا باستعمال اللفظ ، لا یمکن المساعدة علیه ؛ وذلک لأنه إن أُرید من المعنی فی إنشاء البیع مثلاً الملکیّة التی یعتبرها المتکلّم ، فلا یکون إیجادها باللفظ ، بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا یحتاج إلی اللفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلک الاعتبار ، وإن أُرید الملکیّة العقلائیّة أو الشرعیّة _ یعنی إمضاء العقلاء أو الشارع لتلک الملکیّة _ فمن الظاهر أنّ إمضاء العقلاء أو الشارع لا یکون من فعل المستعمل لیوجده باللفظ أو بغیره ، بل هو فعل العقلاء والشارع ، فیکون حکما مترتبا علی الإنشاء أو المنشأ لا موجودا بفعل المستعمل للجملة الإنشائیّة(2) .

أقول : أوّلاً: إنّه قد اعترف (نوّر اللّه مضجعه الشریف وجزاه عن العلم وأهله خیرا) بأنّ سماع الجملة الخبریّة الإسمیّة یوجب انتقال الذهن إلی ثبوت المحمول للموضوع ، وکذا ثبوت الشیء لشیء أو وقوعه منه ، فیما کانت الجملة الخبریة فعلیّة ، مثل ضربتُ أو قمتُ ، وحینئذٍ نقول : ما الموجب لهذا الانسباق ؟ هل هو إلاّ الوضع ، فلو کانت الهیئة موضوعة لقصد الحکایة عن النسبة الخارجیّة لکان الذهن ینتقل إلی

ص :56


1- (1) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 85 .
2- (2) محاضرات فی أُصول الفقه : 1 / 88 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

قصد الحکایة عنها ، لا إلی نفس صورة الثبوت الخارجی أو لا ثبوته ، مع أن_ّه لا یحرز قصد الحکایة إلاّ إذا أحرز أنّ المتکلّم شاعر یرید بکلامه تفهیم المعنی ، فلیست الهیئة موضوعة لقصد الحکایة کما أنّها لیست موضوعة للثبوت الخارجی _ أی نفس النسبة الخارجیّة _ لیلزم أن لا یکون فی مورد کذب المتکلّم استعمال أصلاً . بل الموضوع له والمستعمل فیه للهیئة هی صورة النسبة الخارجیّة .

ولکن هذه الصورة لیس لها استقلال بل متدلیة فی أطرافها وخصوصیة لها علی نسق ما ذکرنا فی معانی الحروف ، وقد أغمض فی وضع الهیئات عن کون تلک الصورة فی أُفق النفس ، کما هو الحال فی وضع الأسماء وغیرها ، ومعنی دلالة الهیئة علی تلک النسبة انتقال تلک الصورة إلی ذهن سامع الهیئة فی ضمن سماع أسامی الأطراف والمواد ، فإن کان غرض المتکلّم من إحضار تلک الصورة (التی تلاحظ مرآة للخارج) إرادة تفهیم فعلیّة ذی الصورة مع قطع النظر عن الاستعمال المزبور کان ذلک إخباراً وإن کان غرضه حصول ذی الصورة بذلک الاستعمال والاحضار کان إنشاءً .

وثانیاً: إنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الجملة الخبریة مفادها التصدیق ، وتلک الصورة من قبیل التصور لا التصدیق .

ففیه : أنّ الاعتقاد بثبوت شیءٍ لشیء خارجا تصدیق بالإصطلاح المنطقی ، وغیر داخل فی مدلول الجملة الخبریة بوجه ، والتصدیق فی مدلول الجملة الخبریة هو التصدیق باصطلاح علماء الأدب ، وهو الدلالة علی النسبة التی یصحّ سکوت المتکلّم علیها ، وهذا حاصل فی استعمال الجملة الخبریة لا محالة فهو تصدیق بالإصطلاح الأدبی ، وإن کان تصورا بالإصطلاح المنطقی .

ص :57

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وثالثاً: إنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الأُمور الإنشائیّة یکون حصولها بالاعتبار القائم بالنفس ولا یحتاج إلی اللّفظ ، بل اللّفظ مبرز لذلک الإعتبار ، لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ الإنشائیّات وإن کان اعتبارها بالنفس ، إلاّ أنّها أُمور إبرازیّة أیضاً ، فما لم یکن فی البین إبراز لا یحصل ذلک الأمر الإعتباری حتّی فی اعتبار المعتبر ، فلو اعتبر الدائن براءة ذمّة المدیون ، ولکن لم یبرز أصلاً ، لم یکن إبراءً بوجه ، حتّی بنظره قدس سره ، فلو سألناه عن إبرائه ذمّة زید _ مثلاً _ فلا یصحّ له أن یقول إخبارا (إنّه بریء الذمّة) ویصحّ أن یقول : (إنّه بریء الذمّة) إنشاءا ، فإبراء الذمّة لم یحصل حتّی بنظر المعتبِر قبل الإبراز ، فکیف یعتبره موجوداً قبل الإبراز ؟

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ قول المخبر (بعت داری بکذا) فی مقام الإخبار ، وقول منشیء البیع فی مقام إنشائه (بعت داری بکذا) لا یختلفان فی المستعمل فیه ، بل المستعمل فیه فی کلا المقامین هو صورة وقوع البیع خارجا ، ولکنّ الغرض من إلقاء تلک الصورة إلی ذهن المخاطب یختلف ، ففی مقام الإخبار یکون غرضه أن یُفهم السامع الوقوع الخارجی ، مع قطع النّظر عن هذا الإستعمال ، سواء کان السامع بعد إلتفاته إلی وقوعه بصورته جازما به أو ظانّا أو شاکّا أو حتّی جازما بالعدم ؛ ولذا یصحّ أن ینسب إلی المتکلّم أنّک ذکرت لنا وقوع البیع ، کما یصحّ للمتکلّم أن یقول :

ذکرت لکم وقوع البیع ، وفی مقام الإنشاء یکون غرضه من إحضار صورة وقوع البیع هو أن یتحقّق ذو الصورة خارجا بذلک الإحضار بالتکلّم أو بغیره ، فلو باع الوکیل متاعا وحین إنشاء الوکیل البیع قال المالک لشخصٍ آخر : (بعت مالی) إخبارا ببیع وکیله ، لم یکن قول المالک إنشاءا ، بل هو إخبار ، یخالف قول وکیله لمشتری المتاع : (بعت) فإنّه إنشاء .

ص :58

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وبالجملة الإنشاء هو إحضار صورة وقوع الشیء بالتکلّم أو بغیره ، لغرض تحقّق ذی الصورة خارجا بالاعتبار ، سواء کان إحضار تلک الصورة بنحو المعنی الحرفی أو بنحو المعنی الإسمی ، فقوله للمخاطب : (إضرب زیدا) وقوله : (أطلب منک ضرب زید) إنشاءا کلاهما إحضار لصورة البعث المتعلّق بضرب المخاطب إلاّ أن_ّه فی الأوّل بنحو المعنی الحرفی ، وفی الثانی بنحو المعنی الإسمی ، وبکل منهما یحصل البعث خارجا ولو بالاعتبار .

نعم مقتضی ما تقدّم هو أنّ الإنشائیة والإخباریة إنّما تنشئان من الغرض من نقل صورة وقوع الشیء خارجا إلی ذهن السامع ، لا أنّ الهیئة فی الجملات لا دلالة لها علی تعیین الغرض من الإحضار بالوضع ، فإنّ هذا أمر لا یمکن إنکاره ، فهیئة (إضرب) وإن کانت توجب انتقال صورة بعث المخاطب نحو الضرب ولو بنحو المعنی الحرفی ، إلاّ أنّها تدلّ أیضاً علی تعیین الغرض وهو إیجاد الطلب خارجا .

کما أنّ الجملة الخبریة بهیئتها تدلّ علی أنّ الغرض من الإحضار حکایة حصول ذی الصورة ، ولذا تکون إرادة الإنشاء من الجملة الخبریة محتاجة إلی القرینة ولکن لا یصحّ إرادة الإخبار من الهیئة الموضوعة للإنشاء فلا یصحّ قوله للمخاطب (بع المال) إخبارا بالبیع ؛ لأنّ الکلام الدالّ علی طلب البیع من المخاطب لا یناسب إخباره به ، فإنّ الطلب منه یستلزم عدم حصول البیع فعلاً ، والإخبار والحکایة یتوقّف علی الفراغ عن حصوله ، فالإخبار بوقوع شیء بالجملة الإنشائیّة یشبه طلب الحاصل الرکیک ، بخلاف استعمال الجملة الإخباریة لغرض إنشاء طلبه ، فإنّ التعبیر عن طلب شیء بوقوعه ولو مستقبلاً یناسب شدّة الطلب والشوق والوثوق بالفاعل ، وهذه مناسبة توجب حسن استعمال الجملة الخبریة فی مقام الإنشاء .

ص :59

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا حققناه، أنّه یمکن أن یقال: إنّ المستعمل فیه فی مثل أسماء الإشارة[1] والضّمائر أیضاً عامّ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حیث إن أسماء الإشارة وضعت لیشار بها إلی معانیها، وکذا بعض الضّمائر، وبعضها لیُخاطَب به المعنی، والإشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفی، فدع_وی أنّ المستعمل فیه فی مثل (هذا) أو (هو) أو (إیاک) إنّما هو الشَرح:

الوضع فی أسماء الإشارة

:

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنّ الموضوع له والمستعمل فیه فی أسماء الإشارة والضمائر وسائر الأسماء المبهمة کالموصولات ، هو معنی عامّ کالمفرد المذکر ، بأن یکون لفظ (هذا) مرادفاً للفظ المفرد الموصوف بالتذکیر ، غایة الأمر الإختلاف بینهما بالوضع حیث أنّ لفظ (هذا) موضوع لذلک المعنی العامّ علی أن یشار إلیه عند استعماله فیه بالإشارة الخارجیّة ، کما أنّ الضمیر الغائب کلفظ (هو) موضوع له بشرط أن یشار إلیه بالإشارة المعنویّة ، ولم یؤخذ فی ناحیة الموضوع له والمستعمل فیه قید ، وإنّما أُخذ فی ناحیة نفس الوضع ، کما تقدم فی معانی الحروف ، وعلی ذلک فضمیر المخاطب مثلاً یکون لنفس ذلک المعنی العامّ یعنی الفرد الموصوف بالتذکیر ، ویکون وضعه له مشروطا بالتخاطب معه عند استعماله فی ذلک المعنی .

وبالجملة دعوی أنّ الموضوع له والمستعمل فیه فی الأسماء المزبورة کالوضع فیها عامّ وإنّما الخصوصیة والتشخّص ناشئة من الإشارة والتخاطب ، حیث أنّ الإشارة لا تکون إلاّ إلی الشخص ، والخطاب لا یکون إلاّ مع الشخص ، غیر بعیدة .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ لفظ (هذا) لا یکون مرادفا للمفرد المذکر المشار إلیه أو معنی لفظ المفرد المذکر عند الإشارة إلیه ، نعم لو قیل : إنّ (هذا) إسم لما یصحّ إطلاق عنوان المفرد المذکّر علیه عند الإشارة إلیه ، صحّ ، سواء کان ما یطلق

ص :60

المفرد المذکّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إلیه، فإنّ الإشارة أو التّخاطب لا یکاد یکون إلاّ إلی الشّخص أو معه، غیر مجازفة.

فتلخّص ممّا حققناه: أنّ التشخّص النّاشئ من قبل الاستعمالات، لا یوجب تشخص المستعمل فیه، سواء کان تشخّصاً خارجیّاً __ کما فی مثل أسماء الإشارة _ أو ذهنیاً _ کما فی أسماء الأجناس والحروف ونحوهما _ من غیر فرق فی ذلک أصلاً بین الحروف وأسماء الأجناس، ولعمری هذا واضح. ولذا لیس فی کلام القدماء من کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصّاً فی الحرف عین ولا أثر، وإنّما ذهب إلیه بعض من تأخّر، ولعلّه لتوهم کون قصده بما هو فی غیره، من خصوصیات الموضوع له، أو المستعمل فیه، والغفلة من أنّ قصد المعنی من لفظه علی أنحائه،

الشَرح:

علیه من قبیل الموجود الخارجی أو الموجود الذهنی أو معنیً من المعانی المفردة أو الترکیبیّة .

ولا یعتبر فی استعمال (هذا) کون الإشارة خارجیة ، بل ربّما تکون الإشارة معنویة ، کما فی قولک : (الإنسان مدرک للکلیات) ، وبهذا یمتاز عن سائر الحیوانات حیث إنّ الإشارة بهذا فی المثال معنویّة ، وکما فی قولک : (الإنسان کلی یصدق علی کثیرین ، وهذه الکلیّة لیس موضعها الإنسان الخارجی).

نعم ضمیر الغائب ک«هو» تکون الإشارة فیه معنویة إلی السابق ذکرا أو ذهنا ، بخلاف ضمیر الخطاب ، فإنّه للإشارة إلی المخاطب الحاضر حقیقةً أو ما یکون بمنزلة الحاضر ، وبما أنّ خصوصیّة الإشارة مستفادة من اللفظ ، فکیف لا تکون داخلة فی معناه ولو بنحو التقید ؟ ثمّ إنّ الإشارة فی استعمال (هذا) فی الخارجیات بمثل الإصبع ونحوه إنّما هو لتعیین المشار إلیه لا لخصوصیة الإشارة، کما یظهر للمتدبر.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ الوضع فی تلک الأسماء عامّ ، والموضوع له خاصّ ،

ص :61

لا یکاد یکون من شؤونه وأطواره، وإلاّ فلیکن قصده بما هو هو وفی نفسه کذلک، فتأمّل فی المقام فإنّه دقیق، وقد زلّ فیه أقدام غیر واحد من أهل التّحقیق والتّدقیق.

الشَرح:

ولا نعنی بالخاصّ ، الجزئی الخارجی ، بل ما ینطبق علیه عنوان الفرد المذکر ولو کان فی نفسه معنی من المعانی وطبیعة من الطبائع ، کما لا یخفی .

ص :62

الثالث

صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له، هل هو بالوضع[1]، أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فیما لا یناسبه و لو مع ترخیصه، ولا معنی لصحته إلاّ حسنه، والظاهر أنّ صحة استعمال اللفظ فی نوعه أو مثله من قبیله، کما یأتی الإشارة إلی تفصیله.

الشَرح:

الاستعمال المجازی

:

[1] المراد بصحة الاستعمال حُسنه عند أهل المحاورة ، بأن لا یستهجن عندهم استعمال اللفظ فی المعنی المزبور ، وهل الصحة محتاجة إلی الوضع بمعنی ترخیص الواضع فی خصوص ذلک الإستعمال (ویسمّی بالوضع الشخصی) أو ترخیصه فی نوع ذلک الاستعمال بأن یرخص الاستعمال فیما کانت بین الموضوع له والمستعمل فیه إحدی العلاقات المعروفة، أو لا تحتاج إلی شیء من ذلک، بل کل استعمال لایکون مستهجنا عندأهل اللسان وکان استعمالاً للفظ فیما یناسب معناه عندهم فهو صحیح، حتّی مع منع الواضع عنه فضلاً عن عدم ترخیصه، وکل مایکون مستهجنا عندهم ولاتقبله الطباع فهو غیر صحیح حتّی لو رخّص الواضع فیه .

قال سیّدنا الأُستاذ قدس سره : إنّ البحث فی أنّ المجاز محتاج إلی وضع شخصی أو نوعی ، یتوقّف علی أمرین :

أحدهما: ثبوت الاستعمالات المجازیّة ، بأن یستعمل اللفظ الموضوع لمعنی فی غیر ذلک المعنی ، وأمّا بناءً علی ما ذهب إلیه السکّاکی فی باب الاستعارة من أنّ اللفظ یستعمل دائما فی معناه الموضوع له ویکون تطبیقه علی غیر مصداقه ،

ص :63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بدعوی أنّه فرده ، فلا یبقی مجال لهذا البحث ، والصحیح ما ذهب إلیه السکّاکی والوجه فیه أن_ّه یفهم الفرق بین قول القائل : (زید أسد ، أو أن_ّه قمر) وبین قوله : (زید شجاع ، أو أن_ّه حسن الوجه) حیث یفهم المبالغة من الأوّل دون الثانی ، ولو کان لفظ (أسد) أو (قمر) مستعملاً فی معنی الشجاع أو حسن الوجه لما کان بینهما فرق .

ثانیهما: الالتزام بأنّ الوضع غیر التعهّد والالتزام بإرادة المعنی الفلانی عند ذکر هذا اللفظ ، وإلاّ فبناءً علی مسلک التعهّد یکون کل مستعمل متعهّدا بإرادة ذلک المعنی منه عند ذکره بلا قرینة وإرادة مناسبه عند ذکره مع القرینة سواء کان تعیین ذلک المعنی المناسب أیضاً بالقرینة کما فی الوضع النوعی ، أو بما عیّنه أولاً ، کما فی الوضع الشخصی(1) .

أقول : ما ذهب إلیه السکاکی من الالتزام بالعنایة والمجاز فی الإسناد والتطبیق ، لا یعمّ جمیع الاستعمالات المجازیّة لیقال إنّ أمر التطبیق خارج عن شأن الواضع ، بل ذکر ذلک فی الاستعارة وهی ما یکون بعلاقة المشابهة فی أظهر الأوصاف والخواصّ ، وأمّا فی موارد سائر العلاقات فلا ینبغی إنکار استعمال اللفظ فی غیر معناه الموضوع له ، کما فی قوله : (من قتل قتیلاً) وقوله : (رأس القوم) وإرادة رئیسهم ، و(عین القوم) وإرادة حارسهم ، و(أعتق رقبة) وإرادة العبد والمملوک ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لا ینتقل ذهن السامع فیها إلی المعانی الأوّلیة للألفاظ ، وإنّما ینتقل إلی المعانی التی یستعمل فیها اللفظ (ولو بالقرینة) ، حتّی مع جهله بالمعانی الحقیقیة ، وهذا بخلاف (زید أسد) أو (أنّ وجهه قمر) .

ص :64


1- (1) المحاضرات : 1 / 92 .

الرابع

لا شبهة فی صحة إطلاق اللفظ، و إرادة نوعه به، کما إذا قیل: ضرب _ مثلاً _ فعل ماض [1]، أو صنفه کما إذا قیل: (زید) فی (ضرب زید) فاعل، إذا لم یقصد به شخص القول أو مثله ک_ (ضرب) فی المثال فیما إذا قصد.

الشَرح:

وأمّا عدم جریان النزاع علی مسلک التعهّد فلا یتمّ أیضاً ، وعلی تقدیره أیضاً یکون للبحث مجال ؛ وذلک لأنّ الوضع ینسب إلی المتعهّد الأوّل ؛ ولذا یقال فی جواب من سأل : من سمّی الولد بهذا الإسم ؟ سمّاه أبوه ، ولو لم یکن الوضع مستندا إلی السابق فی التعهّد لم یکن للسؤال والجواب مجال ، وعلی ذلک یقع الکلام فی أنّ استعمال اللفظ المزبور فی معنیً آخر یحتاج إلی رخصة الشخص المزبور شخصا أو نوعا ، أو أنّ کلّ ما تقبله الطباع من الاستعمال یصحّ ولو مع منع ذلک الشخص .

استعمال اللفظ فی اللفظ

:

[1] التزموا بصحّة استعمال اللفظ فی اللفظ ، بأن یکون اللفظ دالاًّ علی إرادة اللفظ الآخر ، فیکون اللفظ الآخر مدلولاً وصحّحوه فی استعمال اللفظ فی نوعه واستعماله فی صنفه واستعماله فی مثله .

فالأوّل کما إذا قیل : (ضرب فعل ماضٍ) إذ من الظاهر أنّ الملفوظ لیس بالفعل الماضی بل هو مبتدأ فی الکلام ، والذی هو فعل ماض ما یقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنحو التحقّق ، وإذا أراد المتکلّم بقوله (ضرب) طبیعیّ لفظ ضرب (الذی یقال عند الإخبار بوقوع الضرب بنسبة تحقیقیّة) یکون ذلک الطبیعی من قبیل المعنی لما تلفظ به ، فیکون الملفوظ دالاًّ وذلک الطبیعی مدلولاً .

والثانی فیما إذا قال : (زید فی ضرب زید ، فاعل) ولم یرد شخص ما ذکره من

ص :65

وقد أشرنا إلی أنّ صحة الإطلاق کذلک وحسنه، إنّما کان بالطبع لا بالوضع، وإلاّ کانت المهملات موضوعة لذلک، لصحة الإطلاق کذلک فیها، والالتزام بوضعها کذلک کما تری.

وأم_ّا إطلاقه وإرادة شخصه، کما إذا قیل: (زید لفظ) وأرید منه شخص نفسه، ففی صحته بدون تأویل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو ترکب القضیة من جزءین کما فی الفصول.

الشَرح:

(ضرب زید) بل کان مراده : أنّ کلما ذکر زیدٌ بعد (ضرب) فی مقام الإخبار فهو فاعل ، وعلیه فإنّ لفظ زید الذی ذکره أوّلاً دالّ وزید الثانی مدلول ، وهو من قبیل إرادة الصنف لا النوع إذ لا یشمل کل أفراد لفظ زید حتّی الواقعة غیر فاعل ، مثل (زید ضرب) ، بل خصوص أفراده الواقعة فاعلاً فی مقام الإخبار من أیّ متکلّم ، فالمراد الصنف من لفظ زید لا النوع .

والثالث نفس المثال ، فیما إذا أراد من لفظ زید الذی ذکره أوّلاً ، لفظ زید فیما تکلّم به من شخص القول وهو من قبیل استعمال لفظ زید فی مثله .

ومما ذکرنا یظهر أنّ قول المصنف قدس سره : «کضرب فی المثال فیما إذا قصد» من سهو القلم ، ولابدّ من تبدیله إلی قوله ک(زید فی المثال فیما إذا قصد شخص القول) .

ثمّ أراد قدس سره بقوله : «و قد أشرنا إلی أنّ صحّة الإطلاق... إلخ» ما تقدم منه فی الأمر الثالث من أنّ صحّة استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له بالطبع ، وزاد علیه بالاستشهاد له بوقوع هذا النحو من الاستعمال فی الألفاظ المهملة ، کما إذا قیل (ویز) مهمل . ودعوی أنّ الألفاظ المهملة إنّما یطلق علیها المهملة لعدم وضعها لمعنی علی حدّ سائر الألفاظ ، ولا ینافی ذلک کونها موضوعة للاستعمال فی نوعها أو صنفها أو

ص :66

بیان ذلک: أنّه إن اعتبر دلالته علی نفسه _ حینئذٍ _ لزم الاتحاد، و إلاّ لزم ترکّبها من جزءین، لأنّ القضیة اللفظیة _ علی هذا _ إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتکون القضیة المحکیة بها مرکبة من جزءین، مع امتناع الترکّب إلاّ من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.

الشَرح:

شخصها ، واضحة البطلان .

واختلفوا فیما إذا ذکر لفظ وأُرید منه شخصه ، کما إذا قیل : (زیدٌ لفظ) وأُرید منه شخص الملفوظ لا نوعه وصنفه ومثله ، فإنّ کون ذلک من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی محل إشکال ؛ لأنّ شخص الملفوظ إن کان دالاًّ ومدلولاً لزم اتّحاد الدال والمدلول ، وإن کان دالاًّ فقط ، لزم ترکّب القضیة المحکیة من جزئین المحمول والنسبة ، مع أنّ تلک القضیة لابدّ من ترکّبها من ثلاثة أجزاء : الموضوع ، والمحمول ، والنسبة ، فإنّه لا یمکن تحقّق النسبة بدون المنتسبین .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال بوجهین :

الأوّل: أن_ّه یکفی فی تعدّد الدالّ والمدلول ، تعدّدهما بالاعتبار ، ولا یلزم التعدّد الخارجی ، فاللفظ بما أن_ّه صادر عن لافظه دالّ وباعتبار أنّه بنفسه وبشخصه مراد ، یکون مدلولاً .

والثانی: أنّ القضیة المعقولة وإن امتنع ترکّبها إلاّ من ثلاثة أجزاء ، إلاّ أنّ القضیة الملفوظة لا یمتنع ترکّبها من جزئین ، وبیان ذلک أنّه إذا أمکن للمتکلّم إحضار الموضوع فی القضیة المعقولة فی ذهن السامع بلا توسیط استعمال اللفظ ، کانت الأجزاء فی القضیة المعقولة تامّة بلا حاجة إلی الإتیان بالحاکی عنه ، وفیما إذا تلفّظ بلفظٍ وأُرید شخصه فی ثبوت المحمول له تتمّ القضیة المعقولة ، ولا یکون فی ناحیة الموضوع استعمال للّفظ فی المعنی أصلاً .

ص :67

قلت: یمکن أن یقال: إنّه یکفی تعدد الدالّ والمدلول اعتباراً، و إن اتحدا ذاتاً، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان دالاًّ، ومن حیث إنّ نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً، مع أنّ حدیث ترکّب القضیة من جزءین _ لولا اعتبار الدلالة فی البین _ إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه، وإلاّ کان أجزاؤها الثلاثة تامّة، وکان المحمول فیها منتسباً إلی شخص اللفظ ونفسه، غایة الأمر أنّه نفس الموضوع، لا الحاکی عنه، فافهم، فإنّه لا یخلو عن دقة.

الشَرح:

أقول : أمّا الجواب الأوّل فهو لا یفید شیئا ؛ لأنّ الکلام فی المقام فی الدلالة اللفظیة واستعمال اللفظ ، بأن یکون خطور اللفظ إلی ذهن السامع أوّلاً ، وخطور معناه بتبعه ثانیا ، ولو ببرکة القرینة ، وهذه الدلالة تحتاج إلی تعدّد اللفظ والمعنی حقیقة ، وأمّا دلالة صدور اللفظ من لافظه علی إرادة اللافظ ذلک اللفظ ، فهی دلالة عقلیة ، فإنّ اللفظ فی کل موردٍ صدر من متکلّمٍ عاقل ، یکون کاشفا عقلاً عن تعلّق إرادة اللافظ ولحاظه به ، ولا یختصّ ذلک بالتلفّظ بل یجری فی کلّ فعلٍ صادر عن فاعلٍ مختار ، فیکون صدوره کاشفا عن تعلّق قصد فاعله به ولحاظه إیّاه ، وأین هذا من الدلالة اللفظیة وإحضار المعنی إلی ذهن السامع بتبع إحضار اللفظ ؟

وممّا ذکرنا یظهر أنّه لا یمکن المساعدة علی ما ذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام فی توجیه کفایة التعدّد الاعتباری بین الدالّ والمدلول ، من أنّ التضایف بین الشیئین لا یقتضی التقابل بینهما مطلقاً بأن یکون لکلّ من المتضائفین وجود مستقل ، بل التقابل ینحصر بالموارد التی یکون بین الشیئین تعاندٍ وتنافٍ فی الاتّحاد ، کما فی العلّیة والمعلولیة والأُبوّة والبنوّة ، لا فی مثل العالمیة والمعلومیة والمحبیّة والمحبوبیة ، فإنّ النفس من کلّ إنسان عالمة ومعلومة لها ، ومحبّة لها ومحبوبة لها ، والدلالة _ أی کون الشیء دالاًّ ومدلولاً _ من هذا القبیل ؛ ولذا ورد فی

ص :68

وعلی هذا، لیس من باب استعمال اللفظ بشیء، بل یمکن أن یقال: إنّه لیس إیضاً من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأرید به نوعه أو صنفه [1]، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة، لا لفظه وذاک معناه، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنی، الشَرح:

دعاء أبی حمزة الثُّمالی : «وَأَنْتَ دَلَلْتَنِی عَلَیْکَ»(1) .

ووجه الظهور أنّ الکلام فی المقام فی الدلالة اللفظیة واستعمال لفظ فی معنی ، والمراد بها ما تقدّم ، من انتقال ذلک المعنی إلی ذهن السامع بنقل اللفظ إلیه ، وهذه تکون من قبیل العلّیة والمعلولیّة فی الانتقال ، فلا یعقل اتّحاد الدالّ والمدلول خارجا ، وأمّا الدلالة فی دعاء أبی حمزة الثُّمالی «وَأَنْتَ دَلَلْتَنِی عَلَیْکَ» فهی کون شیء منشأً للعلم به .

ومن الظاهر أنّ اللّه سبحانه نفسه منشأ لعرفان الخلائق إیّاه ، فإنّه الذی هو خالق الأشیاء ومکوِّن الأجرام الفلکیة والکونیّة ومرکّب الإنسان وغیره من سائر الحیوانات ، فیکون کلّ ذلک معرّفا لقدرته وعظمته وجبروته وحکمته ، فإنّ البناء بعظمته یکشف عن مهارة بانیه وبالتالی تظهر مهارة البانی بمهارته نفسه .

وأمّا ما ذکره فی الجواب ثانیا من إحضار الموضوع وإلقائه إلی ذهن السامع بلاتوسیط استعمال اللفظ ، فهو أمرٌ صحیح ؛ لأنّ الاستعمال إنّما یحتاج إلیه فیما إذا لم یمکن إلقاء المعنی ونقله إلی ذهن السامع بلا توسیط ، وأمّا إذا کان مقصود المتکلّم ومراده نفس اللفظ والحکم علیه ، فلا موجب للاستعمال بل لا مصحّح له ، وعلیه فلا یکون من باب استعمال اللفظ فی المعنی ، کما تقدّم .

[1] ثمّ إنّه قدس سره قد أجری ما ذکره فی ذکر اللفظ وإرادة شخصه _ من عدم کون

ص :69


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 61 .

فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقی إلی المخاطب خارجاً، قد أحضر فی ذهنه بلا وساطةٍ حاکٍ، وقد حکم علیه ابتداءً، بدون واسطة أصلاً، لا لفظه، کما لا یخفی، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنی، بل فرد قد حکم فی القضیة علیه بما هو مصداق لکلی اللفظ، لا بما هو خصوص جزئیه.

الشَرح:

إرادة الشخص من قبیل استعمال اللفظ ، بل من إلقاء الموضوع بلا توسیط الاستعمال _ علی ما إذا ذکر اللفظ وأُرید به نوعه أو صنفه ، وذکر أنّه یمکن فی موارد إرادة النوع أو الصنف أن یحکم علی اللفظ _ أی الملفوط _ بما هو فردٌ ومصداقٌ من الطبیعی ، فیقال : زید ثلاثی ، أو بما هو فرد من صنف نوعه بأن یقال : زیدٌ المذکور فی أوّل الکلام مرفوعا مبتدأ ، إلی غیر ذلک .

ولکن قد التزم باستعمال اللفظ فی اللفظ فی موارد إرادة المثل کما أنّه التزم فی آخر کلامه بأنّه یمکن فی موارد إرادة النوع أو الصنف کونه بنحو إلقاء الموضوع کما تقدّم ، ویمکن کونه من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی ، کما إذا جعل اللفظ مرآة وحاکیا عن نوعه أو صنفه ، فإنّه کموارد إرادة المثل ، یکون مستعملاً فی المعنی وحاکیا عنه .

ثمّ ذکر قدس سره أنّ الاستعمالات المتعارفة فی موارد إرادة النوع لیست من قبیل إلقاء الموضوع حیث أنّ الحکم المذکور فی الکلام ربّما لا یعمّ نفس الملفوظ کما فی قولنا : (ضرب فعل ماضٍ) حیث إنّ ما تلفّظ به لیس بفعل ماضٍ ، بل هو مبتدأ فی الکلام . ومن الظاهر أنّ ما ذکره فی النوع من عدم عموم الحکم یجری فی إرادة الصنف أیضاً ، فهذه الموارد تکون من قبیل استعمال اللفظ فی اللفظ ولکن الاستعمال فیها لیس بحقیقة ؛ لعدم الوضع ، کما أن_ّه لیس بمجاز ؛ لعدم لحاظ العلاقة بین المعنی الحقیقی والمستعمل فیه ، لجریان الاستعمال فی المهملات أیضاً ، وهذا

ص :70

نعم فیما إذا أرید به فرد آخر مثله، کان من قبیل استعمال اللفظ فی المعنی، اللّهمّ إلاّ أن یقال: إنّ لفظ (ضرب) وإن کان فرداً له، إلاّ أنّه إذا قصد به حکایته، وجعل عنواناً له ومرآته، کان لفظه المستعمل فیه، وکان _ حینئذٍ _ کما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أطلق وأرید به نوعه، کما إذا أرید به فرد مثله، کان من باب الشَرح:

هو المراد من قوله قدس سره فیما یأتی فی بحث الحقیقة الشرعیة : «وقد عرفت سابقاً أنّه فی الاستعمالات الشائعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز»(1) .

لا یقال : ما الفرق بین إرادة المثل وقد التزم قدس سره فیه بالاستعمال وبین إرادة الصنف فالتزم فیه بإمکان الوجهین من الاستعمال وإلقاء الموضوع بنفسه .

فإنّه یقال : کأنّه قدس سره نظر إلی أنّ مقتضی کون شیء مثلاً للآخر هو الاثنینیّة فیهما ، ولذا یلزم اجتماع المثلین ، بخلاف موارد إرادة الصنف ، فإنّه یمکن وجود فرد من الصنف والحکم علیه بما هو فرد ، کما إذا قیل : زید فی أوّل الکلام مبتدأ ، ولذا یکون الحکم المذکور شاملاً لنفس ذلک اللفظ .

أقول : الصحیح عدم الفرق بین موارد إرادة الشخص وبین موارد إرادة المثل والصنف والنوع ، فإنّ شیئا منها لیس من قبیل استعمال اللفظ فی اللفظ ؛ وذلک لأن_ّه کما یکون المعنی کلیّا ویرد علیه التقیید بحیث لا ینطبق معه إلاّ علی واحد ، کذلک نفس اللفظ وإذا أُرید طبیعی الملفوظ یعنی زید مع هیئته وقیّد بکونه بعد شخص (ضَرَبَ) ینطبق علی الواقع بعده ولا یعمّ غیره ، فیکون الحکم فی القضیة علی فرد خاصّ لا بصورته الخاصّة ، بل بالعنوان المنطبق علیه خاصّة ، ولو ببرکة التقیید .

لا یقال : القابل للتقیید والانطباق علی الفرد هو الطبیعی ، لا الشخص ،

ص :71


1- (1) الکفایة : ص21 .

استعمال اللفظ فی المعنی، وإن کان فرداً منه، وقد حکم فی القضیة بما یعمّه، و إن أطلق لیحکم علیه بما هو فرد کلّیه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حکایته، فلیس من هذا الباب، لکن الاطلاقات المتعارفة ظاهراً لیست کذلک، کما لا یخفی، وفیها ما لا یکاد یصح أن یراد منه ذلک، مما کان الحکم فی القضیة لا یکاد یعمّ شخص اللفظ، کما فی مثل: (ضرب فعل ماض).

الشَرح:

وبالتلفّظ بلفظ زید ، یوجد الشخص لا الطبیعی القابل للتقیید ، ففی مورد إرادة المثل لابدّ من الالتزام بالاستعمال .

فإنّه یقال : تقیید الطبیعی بقید بحیث لا ینطبق معه إلاّ علی واحد یکون فی موطن النفس ، فلا ینافی ذلک کونه شخصا بالتلفّظ به ، فهو _ مع قطع النظر عن تشخّصه باللّفظ _ یکون کلّیا فی أُفق النفس ، وقد قیّد فیه وحکم علیه بما ذکر .

وبالجملة الإطلاقات المتعارفة فی موارد الحکم علی اللفظ کلّها من قبیل إلقاء الموضوع فی الخارج بنفسه لا بلفظه . وما ذکره قدس سره من أنّ الحکم فی القضیة قد لا یعمّ شخص اللفظ کما مثّل له بقوله : ضرب فعل ماضٍ ، وأنّ الملفوظ مبتدأ لا فعل ماض ، لا یمکن المساعدة علیه ، حیث إنّ (ضَرَبَ) فیما إذا استُعمل فی معناه الموضوع له یکون ماضیا ، وأمّا مع عدم استعماله فی المعنی المزبور وإرادة نفس الصیغة کما هو المفروض یمکن الحکم علیه فیکون مبتدأً . وبتعبیرٍ آخر : یکون المراد (ضرب) فی المثال السابق علی تقدیر استعماله فی معناه الموضوع له فعلاً ماضیا لا مطلقاً ، کما لا یخفی . نعم یمکن الحکم علیه بما إذا لم یقیّد بحال استعماله فی المعنی ، کما فی قولنا : (ضرب لفظٌ) .

ص :72

الخامس

لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها [1] من حیث هی، لا من حیث هی مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزید علیه، من أنّ قصد المعنی علی أنحائه من مقوّمات الإستعمال، فلا یکاد یکون من قیود المستعمل فیه.

الشَرح:

خروج القصد عن المعنی

:

[1] وبیانه أن_ّه یتحقّق الاستعمال بأمرین : الأوّل لحاظ المتکلّم المعنی ، وثانیهما کون قصده من الاستعمال الالتفات إلیه بأن یحضر ذلک المعنی إلی ذهن السامع بتبع التفاته إلی اللفظ أوّلاً ، وقد ذکر قدس سره سابقا خروج الأمر الأوّل _ یعنی لحاظ المعنی _ عن حریم الموضوع له والمستعمل فیه ، وأنّ المستعمل فیه اللفظ کالموضوع له ، نفس المعنی .

ویذکر فی المقام خروج الأمر الثانی عن حریمهما وأنّ القصد المزبور کاللحاظ غیر مأخوذ فی معانی الألفاظ ، واستشهد للخروج بأُمور :

الأوّل: أنّ القصد المزبور مقوّم للاستعمال ومحقّق له فلا یؤخذ فی الموضوع له والمستعمل فیه ، کاللحاظ .

والثانی: صحّة الحمل والإسناد فی الجمل بلا تصرف فی أطرافها ، فإنّ الألفاظ لو کانت موضوعة للمعانی بما هی مرادة ، لما صحّ الإسناد والحمل فیها بلا تجرید فی أطرافها ، مع أنّ المحمول علی زید فی (زیدٌ قائم) والمسند إلیه فی (ضَرَبَ زیدٌ) نفس القیام والضرب لا بما هما مرادان ، وکذلک الأمر فی ناحیة الموضوع والفاعل ، فإنّ الموضوع والفاعل هو زید لا بما هو مراد .

والثالث: أنّ اللازم علی تقدیر أخذ القصد المزبور فی المعانی هو کون الوضع

ص :73

هذا مضافاً إلی ضرورة صحة الحمل والاسناد فی الجمل، بلا تصرّف فی ألفاظ الأطراف، مع أنّه لو کانت موضوعة لها بما هی مرادة، لما صح بدونه، بداهة أنّ المحمول علی (زید) فی (زید قائم) والمسند إلیه فی (ضرب زید) _ مثلاً _ هو

الشَرح:

فی عامّة الألفاظ عامّا ، والموضوع له خاصّا ؛ لأنّ ما یتوقّف علیه الاستعمال بل مقوّمه لیس هو مفهوم الإرادة والقصد ، بل ما یکون بالحمل الشائع إرادةً وقصدا وأخذ واقع القصد فی معنی اللفظ یوجب جزئیته .

أقول : کلامه کما ذکرنا ناظرٌ إلی خروج قصد المعنی عن الموضوع له والمستعمل فیه ، وأمّا أنّ القصد المزبور لیس شرطا فی ناحیة الوضع نظیر ما التزم به فی المعنی الحرفی والاسمی من کون اللحاظ الآلی شرطا فی وضع الحرف ، والاستقلالی شرطا فی وضع الإسم ، فلیس فی کلامه تعرّض لإبطال ذلک . ولقائلٍ أن یقول : بما أنّ الوضع فی الألفاظ أمرٌ بنائی ، فلا محالة یختصّ بصورةٍ خاصّة ، وهی ذکر اللفظ فی مقام قصد المعنی وإرادة انتقاله إلی ذهن السامع .

وأمّا مع ذکره فی غیر هذا المقام فلم یتعلق باللفظ تعیین وقرار ، فیکون نفس الوضع مقیّدا بصورة إراده التفهیم لا الموضوع له والمستعمل فیه ، لیرد علیه لزوم التجرید فی مورد الحمل أو الإسناد أو کون الوضع فی عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّا .

وما ذکر من خطور المعنی إلی الذهن عند سماع اللفظ ولو من غیر شاعر لاینافی اشتراط الوضع بالقصد ، فإنّ الخطور المذکور لا یستند إلی الوضع ، بل إلی أُنس الأذهان بتلک المعانی من تلک الألفاظ ؛ ولذا یخطر المعنی ولو مع تصریح الواضع باختصاص وضعه بصورة قصد التفهیم ، وحیث إنّ قصد التفهم لابدّ من

ص :74

نفس القیام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنّه یلزم کون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً، لمکان اعتبار خصوص إرادة اللافظین فیما وضع له اللفظ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فیه، کما لا یخفی، وهکذا الحال فی طرف الموضوع.

الشَرح:

إحرازه بوجه ؛ فلو أُحرز تکون الألفاظ معیّنة للمعانی بمقتضی قرار الوضع والتعیین ، وقد جرت سیرة أهل المحاورات عند صدور کلام عن متکلّمٍ عاقل علی حمله علی إرادة التفهیم ما لم یکن فی البین قرینة علی الخلاف .

والحاصل أنّ الدلالة التصدیقیة التی ذکرها المصنّف فی ذیل کلام العلمین عین الدلالة الوضعیة وأنّ الدلالة التصوریّة _ یعنی خطور نفس المعنی من نفس اللفظ عند سماعه بأی نحوٍ کان _ ناشئة عن أُنس الذهن بالاستعمال ولا یکون فی اشتراط الوضع بذلک شیء من المحاذیر المتقدّمة .

ولکنّ الصحیح أنّه کما لا اشتراط فی ناحیة المستعمل فیه کذلک لا اشتراط فی ناحیة الوضع أیضاً ، وذلک لأن_ّه إن کان المأخوذ فی ناحیة الوضع مطلق إرادة التفهیم فی مقابل التلفظ غفلة وبلا إرادة ، فهذا لا یحتاج إلی الاشتراط ؛ لأنّ الاستعمال لا یکون بدون تلک الإرادة وإنّما یمکن اشتراط شیء فی الوضع إذا أمکن استعمال اللفظ بدونه لو لا الاشتراط ، وإلاّ یکون الاشتراط لغوا ، وإن کان المأخوذ إرادة خاصّة کالإرادة المتعلّقة بتفهیم المعنی الفلانی مثلاً ، فاشتراطها فی الوضع غیر معقول ؛ لأن_ّه علی ذلک یلزم علی السامع إحراز أنّ المتکلّم یرید المعنی المزبور من الخارج لأن_ّه شرط دلالة اللفظ ، وهذا فی الحقیقة إبطال لدلالة الألفاظ ، فتحصّل من جمیع ذلک أنّ اللفظ فی مقام الوضع یتعیّن لذات المعنی ، من غیر أن یؤخذ اللحاظ أو الإرادة والقصد فی ناحیة.

ص :75

وأما ما حکی عن العلمین (الشیخ الرئیس، والمحقق الطوسی) من مصیرهما إلی أنّ الدلالة تتبع الإرادة، فلیس ناظراً إلی کون الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة، کما توهمه بعض الأفاضل [1]، بل ناظر إلی أنّ دلالة الألفاظ علی معانیها بالدلالة التصدیقیة، أی دلالتها علی کونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ویتفرع علیها تبعیّة مقام الإثبات للثبوت، وتفرع الکشف علی الواقع المکشوف، فإنّه لولا الثبوت فی الواقع، لما کان للاثبات والکشف والدلالة مجال، ولذا لا بدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته علی الإرادة، وإلاّ لما کانت لکلامه هذه الدلالة، وإن کانت له الدلالة التصوریة، أی کون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو کان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختیار.

الشَرح:

تبعیة الدلالة للإرادة

[1] وحاصل التوهّم هو أنّ ما حکی عن العلمین من تبعیة الدلالة للإرادة ، ظاهره أنّ ثبوت المدلول للکلام تابع وموقوف علی إرادة المتکلّم له ، بأن یکون قصد المعنی قیدا للمعنی ، وإلاّ لم یکن المدلول موقوفا وتابعا للإرادة.

وبتعبیرٍ آخر : حیث إنّ ظاهر کلام العلمین توقّف ثبوت المدلول للکلام علی إرادة المتکلّم بحیث لا یثبت المدلول فیما لم یکن له إرادة ، یلزم أخذ الإرادة فی معانی الألفاظ.

ودفع قدس سره التوهّم بأنّ للکلام مدلولین:

الأوّل: المدلول التصوری ، وهو الناشئ من العلم بوضع الألفاظ ، بأن یکون سماع اللفظ موجبا للانتقال إلی معناه فیما کان السامع عالما بوضعه ، وهذا المدلول

ص :76

إن قلت: علی هذا، یلزم أن لا یکون هناک دلالة عند الخطأ، والقطع بما لیس بمراد، أو الإعتقاد بإرادة شیء، ولم یکن له من اللفظ مراد.

قلت: نعم لا یکون حینئذٍ دلالة، بل یکون هناک جهالة وضلالة، یحسبها الجاهل دلالة، ولعمری ما أفاده العلمان من التبعیة _ علی ما بیّنّاه _ واضح لا محیص عنه، ولا یکاد ینقضی تعجبی کیف رضی المتوهم أن یجعل کلامهما ناظراً إلی ما لا ینبغی صدوره عن فاضل، فضلاً عمن هو عَلَم فی التحقیق والتدقیق؟!.

الشَرح:

ثابت للکلام علی کلّ تقدیر ، وغیر موقوف علی قصد المتکلّم وإرادته .

والثانی: المدلول التصدیقی ، وهو کون المتکلم قاصدا لتفهیم المعانی المقررة فی وضع تلک الألفاظ ، وهذه الدلالة لا تثبت بمجرّد العلم بالوضع ؛ ولذا لابدّ فیها من إحراز کون المتکلّم فی مقام التفهیم لیحرز قصده تلک المعانی من تلک الألفاظ وکلام العلمین ناظر إلی هذه الدلالة الموقوفة والتابعة للقصد والإرادة.

لا یقال : هذه الدلالة أیضاً لا تتبع قصد المتکلم ، فإنّ المدلول التصدیقی یثبت فی موارد عدم إرادة المتکلّم ، کما فی مقام الخطأ والاعتقاد بإرادة شیء مع أن_ّه لم یکن ذلک الشیء مرادا للمتکلّم .

فإنّه یقال : لا یکون فی هذه الموارد دلالة حقیقة ، بل تخیّل دلالة یحسبها الغافل دلالة .

أقول : الدلالة التصدیقیّة أیضاً علی قسمین :

الأوّل: الدلالة التصدیقیة الاستعمالیة ، وهذه الدلالة تتبع قصد التفهیم ، فإنّه إذا قصد المتکلم تفهیم أمر وأتی بالکلام علی وفق وضع الألفاظ المقرّرة للمعانی ثمّ جزم السامع بأنّ ما أفهمه المتکلّم بکلامه أمرٌ آخر ، یکون ذلک من خطأ السامع

ص :77

السادس

لا وجه لتوهّم وضع للمرکبات، غیر وضع المفردات [1]، ضرورة عدم الحاجة إلیه، بعد وضعها بموادها، فی مثل (زید قائم) و (ضرب عمرو بکراً) شخصیّاً، وبهیئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعیاً، ومنها خصوص

الشَرح:

وتخیّله ، لا من المتکلّم.

والثانی: الدلالة التصدیقیة ، بالمراد الجدی یعنی کشف المراد الجدی بأصالة التطابق بین مراده الاستعمالی ومراده الجدّی وهذه الدلالة _ المعبّر عنها بأصالة التطابق _ تثبت ولا تتبع إرادة المتکلم جدّا ، لما أفهم بکلامه کما فی موارد الإفتاء تقیّة . وبتعبیرٍ آخر : هذه الدلالة لا تتبع إرادة المتکلم واقعا وجدا ، ولا ینافیها عدم إرادته کذلک ، وإنّما ینافیها العلم بالخلاف أو نصبه القرینة علی الخلاف ، کما لا یخفی . وعلی ذلک فإن أراد العلمان تبعیّة هذه الدلالة التصدیقیة لإرادة المتکلم ، فقد ذکرنا عدم تبعیتها لها ، وإن أراد التبعیة فی ثبوت الدلالة الاستعمالیة فلها وجهٌ ، کما تقدم .

الوضع فی المرکبات

:

[1] بأن یقال : المرکّب بما هو مرکّب _ مادّةً وهیئةً _ قد وضع لمعنی المرکب بوضع آخر زائدا علی وضع مفرداته فی ناحیة موادها شخصیا ، وفی ناحیة هیئات مفرادته نوعیا ، وقوله قدس سره : «ومنها خصوص هیئات المرکبات» عطفٌ علی قوله : «بهیئاتها المخصوصة یعنی من الهیئات الطارئة علی المواد هیئات المرکبات ، کهیئة المبتدأ والخبر ، مع أداة التأکید أو مع غیرها أو بدونهما .

ثمّ إنّ ظاهر کلامه وکلام غیره أنّ الوضع فی مثل (زید قائم) و(ضرب زید عمرواً) فی ناحیة موادهما شخصیّ وفی جهة الهیئات نوعیّ.

ص :78

هیئات المرکبات الموضوعة لخصوصیات النسب والإضافات، بمزایاها الخاصة من تأکید وحصر وغیرهما نوعیاً، بداهة أن وضعها کذلک وافٍ بتمام المقصودمنها، کما لا یخفی، من غیر حاجة إلی وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة علی

الشَرح:

ولنا أن نتسائل : کیف صار الوضع فی ناحیة المواد شخصیا ، وفی ناحیة الهیئات نوعیا ؟

فإن قیل : بأن الواضع حین وضع المواد لاحظ مادّة مخصوصة بحیث لا تعمّ سائر المواد ووضعها لمعنی ؛ ولذا صار الوضع فی ناحیة الماده شخصیا .

فیقال : بأنّ الوضع فی ناحیة الهیئات أیضاً کذلک ، فإنّ الواضع حین الوضع لاحظ هیئةً خاصّة بحیث لا تعمّ سائر الهیئات ، مثلاً لاحظ هیئة (الفاعل) بخصوصها ولم یکن الملحوظ شاملاً لهیئة (مفعول) أو غیرها .

وإن قیل : إنّ الملحوظ حین وضع هیئة (فاعل) کان شاملاً لجمیع جزئیاتها الطارئة علی المواد المختلفة بالنوع وبهذا الاعتبار سمّی وضعها نوعیّا.

فإنّه یقال : الملحوظ عند وضع المادّة أیضاً کان شاملاً لجمیع جزئیاتها الطارئة علیها الهیئات المختلفة بالنوع ، وبالجملة لم یظهر وجه لتسمیة الوضع فی ناحیة الهیئة نوعیّا وفی ناحیة المادّة شخصیّا.

واُجیب عن الإشکال : بأنّ حال الهیئات _ حتّی فی مقام اللحاظ _ حال العرض فی الخارج ، فکما أنّ العرض فی الخارج لایتحقق بلا موضوع کذلک الهیئة لاتکون ملحوظة إلاّ فی ضمن مادّة ، حیث لا یمکن حین وضعها لحاظها بنفسها بخلاف الموادّ فإنّها قابلة للتصوّر بنفسها ، بمعنی أنّه یمکن للواضع ملاحظة مادّة من المواد ، عاریة عن جمیع الهیئات المعروفة الموضوعة فی مقابل المواد ، وعلیه فاللازم فی وضع الهیئات أحد أمرین : إمّا ملاحظتها طارئة علی عنوان جعلی مشیر إلی المواد

ص :79

المعنی: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخری بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلک، هو وضع الهیئات علی حدة، غیر وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة علی وضع کل منهما.

الشَرح:

المختلفة بالنوع ، کما یعبرون عن ذلک ب_ (ف ع ل) ویجعلونه مشیرا إلی المواد المختلفة . وإمّا ملاحظتها طارئة علی مادة فتوضع هی وما یماثلها من الهیئات لمعناها .

أقول : عدم إمکان لحاظ الهیئة مستقلاً والاحتیاج عند وضعها إلی أحد الأمرین لا یکون موجبا لافتراقها عن المادة بحسب الموضوع ، حیث إنّ الموضوع فی کلٍّ منها کما ذکرنا هو النوع لا الشخص فی أحدهما والنوع فی الآخر وإمکان لحاظ المادة بلا هیئة لا یفید فیما ذکر فی الفرق ، فإنّ علماء الأدب القائلین بوضع المادة شخصیا والهیئة نوعیا قد صرّحوا بأنّ الأصل فی الکلام _ أی المشتقات _ هو المصدر أو الفعل الماضی ، ومرادهم من الأصل أنّ المادة حین وضعها لوحظت فی ضمن هیئة المصدر أو هیئة الفعل الماضی .

وعلی ذلک فالموضوع لیس خصوص المادة الملحوظة مع هیئة المصدر أو الفعل ، بل هی وما یکون منها فی ضمن سائر الهیئات فیکون وضعها أیضاً نوعیا کالوضع فی ناحیة الهیئة.

واستدلّ الماتن قدس سره علی عدم وضع آخر للمرکب بما هو مرکب بأمرین:

الأوّل: عدم الحاجة إلیه بعد وفاء الوضع فی ناحیة مواد المرکب وهیئاتها لغرض الوضع .

والثانی: بأنّ لازم ثبوت وضع آخر للمرکب بما هو مرکب تعدّد الانتقال ، فباعتبار الوضع فی مواده وهیئاته یکون الانتقال تفصیلیا ، وباعتبار وضعه بما هو

ص :80

السابع

لا یخفی أنّ تبادر المعنی من اللفظ، وانسباقه إلی الذهن من نفسه _ وبلا قرینة _ علامة کونه حقیقة فیه، بداهة أنّه لولا وضعه له، لما تبادر [1].

ولا یقال: کیف یکون علامة؟ مع توقفه علی العلم بأنّه موضوع له، کما هو واضح، فلو کان العلم به موقوفاً علیه لدار.

فإنّه یقال: الموقوف علیه غیر الموقوف علیه، فإنّ العلم التفصیلی _ بکونه موضوعاً له _ موقوف علی التبادر، وهو موقوف علی العلم الإجمالی الارتکازی به، لا التفصیلی، فلا دور.

هذا إذا کان المراد به التبادر عند المستعلم، وأمّا إذا کان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغایر أوضح من أن یخفی.

الشَرح:

مرکب یکون الانتقال إجمالیا ، کما ینتقل إلی ما یراد من لفظ الدار من المعنی إجمالاً بسماع لفظ الدار ، وینتقل إلیه تفصیلاً فیما إذا ذکر العرصة التی علیها الجدران وفیها البیوت وسائر المرافق ومدخلها من الباب .

علائم الحقیقة والمجاز

اشارة

التبادر

:

[1] بعدما ثبت بطلان الدلالة الذاتیة، بحیث یکون اللفظ دالاًّ علی معنی بلا جعل قرار ، فإنّه لو کان اللفظ بنفسه مقتضیا للانتقال إلی معناه لما کان أحد جاهلاً باللغات ، یکون التبادر والانسباق معلولاً للعلم بالوضع ، ولا ی_کفی فیه ثب_وت الوضع واقعا ، فإنّه من الواضح أنّه لو لم یکن علم بالوضع لم یکن انسباق وتبادر ، فالانسباق معلول للعلم بالوضع ، ولو کان العلم بالوضع أیضاً حاصلاً من الانسباق ، کما

ص :81

ثم إنّ هذا فیما لو علم استناد الانسباق إلی نفس اللفظ، وأمّا فیما احتمل استناده إلی قرینة، فلا یجدی أصالة عدم القرینة فی إحراز کون الاستناد إلیه، لا إلیها _ کما قیل _ لعدم الدلیل علی اعتبارها إلاّ فی إحراز المراد، لا الاستناد.

ثمّ إنّ عدم صحة سلب اللفظ _ بمعناه المعلوم المرتکز فی الذهن اجمالاً کذلک _ عن معنی تکون علامة کونه حقیقة فیه، کما أن صحة سلبه عنه علامة کونه مجازاً فی الجملة.

الشَرح:

هو مقتضی جعل التبادر علامة للوضع ، لتوقّف إحراز الوضع علی إحرازه ، وهو الدور .

وأجابوا عن ذلک کما فی المتن بأنّ العلم الحاصل من التبادر غیر العلم بالوضع الذی یتوقّف علیه التبادر ، فإنّ الأوّل علم تفصیلی ، والثانی _ یعنی ما یتوقّف علیه التبادر_ علم إجمالی ارتکازی ، والمراد بالعلم الإجمالی الإرتکازی عدم الالتفات فعلاً إلی المعنی وخصوصیاته من سعته وضیقه ، لا الجهل به رأسا ، وأهل أیّ لغةٍ واصطلاح یعلمون معانی لغتهم بالارتکاز ویلتفتون إلیها عند سماع ألفاظها .

أقول : ما یترتّب علی التبادر کما ذکر لا أهمیة له ، فإنّ تشخیص المراد الاستعمالی للمتکلم موقوف علی العلم الإجمالی الإرتکازی بأوضاع الألفاظ هیئةً ومادةً ، لا علی العلم التفصیلی ، والمفروض أنّ العلم الإجمالی لا یحصل بالتبادر ، بل التبادر یحصل به .

ثمّ إنّ هذا فیما إذا أُرید کون التبادر عند المستعلِم (بالکسر) أمارة عنده علی وضع اللفظ ، وأمّا إذا أُرید کون التبادر عند أهل المحاورة أمارة للمستعلم الجاهل بوضعه ، فلا مجال لتوهّم الدور ، فإنّ علم المستعلم موقوف علی التبادر ، والتبادر عند أهل المحاورة موقوف علی علمهم ، وفی هذا الفرض یستکشف المستعلم من التبادر عندهم وضع اللفظ ولکن فی خصوص ما أُحرز أنّ التبادر عندهم غیر مستند

ص :82

والتفصیل: إنّ عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل علیه بالحمل الأولی الذاتی، الذی کان ملاکه الاتحاد مفهوماً، علامة کونه نفس المعنی [1]، وبالحمل الشائع الصناعی، الذی ملاکه الاتحاد وجوداً، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة کونه من مصادیقه وأفراده الحقیقیّه.

الشَرح:

إلی قرینة خاصّة أو عامّة .

ولا یفید مع احتمال الاستناد إلی القرینة أصالة عدم القرینة ؛ لأنّ أصالة عدم القرینة أو الحقیقة أو غیرهما من الأُصول اللفظیّة إنّما تعتبر فیما شکّ فی مراد المتکلّم ، لا فیما أُحرز مراده وشکّ فی أن_ّه بالقرینة أم بالوضع .

مثلاً إذا أُحرز ظهور کلام الشارع أو غیره فعلاً ، ولکن شکّ فی أنّ الکلام زمان صدوره أیضاً کان ظاهرا فی هذا المعنی أو کان ظاهرا فی غیره لاحتمال النقل أو کان زمان صدوره مجملاً لاشتراک اللفظ فی ذلک الزمان ، ثمّ هجرت سائر معانیه بعد ذلک ، ففی مثل ذلک بما أنّ الشکّ فی مراد المتکلّم زمان صدور کلامه ، تجری أصالة عدم النقل أو عدم الاشتراک أو أصالة عدم القرینة إلی غیر ذلک .

صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه

:

[1] حاصل ما ذکر قدس سره فی عدم صحة السلب المعبّر عنه بصحّة الحمل وفی صحّة السلب المعبّر عنه بعدم صحّة الحمل هو أنّه لو لم یصحّ سلب معنی لفظ (والمراد المعنی المرتکز منه إجمالاً فی الأذهان علی قرار ما تقدم فی التبادر) عن معنی وصحّ حمله علیه بالحمل الأوّلی ، کان ذلک علامة کون المعنی عین معنی اللفظ المرتکز فی الأذهان ، کما أنّ عدم صحّة سلب ذلک المعنی المرتکز عن شیء ، وصحة حمله علیه بالحمل الشائع علامة لکون الشیء المزبور من مصادیق ذلک المعنی المرتکز .

ص :83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کما أنّ صحّة السلب بالسلب الأوّلی علامة لعدم کون المعنی المفروض هو المعنی المرتکز من ذلک اللفظ ، کما أنّ صحة السلب الشایع علامة عدم کون الشیء المفروض من مصادیق ذلک المعنی المرتکز من ذلک اللفظ .

وإن قلنا بأنّ إطلاق اللفظ المزبور وحمل معناه المرتکز علی ذلک الشیء لایکون من باب المجاز فی الکلمة ، بل اللفظ یستعمل فی معناه المرتکز ویطبق علیه بالادعاء والعنایة ، فیکون المجاز فی الأمر العقلی ؛ لأنّ انطباق المعنی علی مصادیقه خارج عن استعمال اللفظ فی معناه ، بل هو أمر یدرکه العقل ؛ فلذا یقال : إنّ المجاز فی هذه الموارد فی أمر عقلی کما صار إلیه السکاکی .

ومما ذکر فی التبادر ، یظهر أنّ کون صحة الحمل علامة للحقیقة أو لکون المصداق حقیقیا وکون صحة السلب علامة للمجاز أو لعدم کون الشیء مصداقا حقیقة لا یستلزم الدور للتغایر بین الموقوف والموقوف علیه بالإجمال والتفصیل ، أو أنّ أحدهما علم المستعلم ، والآخر علم أهل المحاورة .

أقول : صحة الحمل الأوّلی وإن کان یکشف عن اتّحاد المحمول مع الموضوع مفهوماً، لکنّه لا یکشف عن اتّحاد هما من جمیع الجهات، بل قد یکون بینهما تغایر بالإجمال والتفصیل (کما فی قولنا: الحیوان الناطق إنسان) أو باعتبار آخر (کما فی قولنا: الإناسن بشرٌ)، وعلیه فلا یکون صحة الحمل الأوّلی کاشفاً عن کون المعنی المحمول علیه هو بعینه المعنی المرتکز للفظ، بل غایة ما یثبت ذلک صحة الاستعمال، وهو أعمّ من الحقیقه.

وتظهر ثمرة ذلک فیما إذا کان أحد العنوانین موضوعا لحکمٍ خاصّ فی خطاب الشارع دون الآخر ، فإنّه وإن صحّ حمل الموضوع علی العنوان الآخر بالحمل الأوّلی

ص :84

کما أنّ صحة سلبه کذلک علامة أنّه لیس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه علیه من باب المجاز فی الکلمة، بل من باب الحقیقة، و إن التّصرف فیه فی أمر عقلی، کما صار إلیه السکّاکی، واستعلام حال اللفظ، وأن_ّه حقیقة أو مجاز فی هذا المعنی بهما، لیس علی وجه دائر، لما عرفت فی التّبادر من التغایر بین الموقوف والموقوف علیه، بالإجمال والتّفصیل أو الإضافة إلی المستعلم والعالم، فتأمّل جیّداً.

الشَرح:

إلاّ أنّ الحکم لا یترتب إلاّ علی العنوان الأول ، مثلاً : إذا حکم الشارع بطهارة الدم المتخلّف فی الحیوان المذبوح ، وذبح حیوان وشکّ فی دم فی جوفه أنّه من الدم المتخلّف أو أن_ّه رجع إلی جوفه لعارض کعُلوّ رأس الحیوان أو جرّ نَفَسه الدم من الخارج ، فإنّه باستصحاب عدم خروج الدم المزبور إلی الخارج لا یثبت عنوان الدم المتخلّف ، مع أنّه یحمل بالحمل الأوّلی علی عنوان (دم لم یخرج من جوفه عند ذبحه) إلاّ أنّ حکمه لم یثبت علیه ، فتدبّر .

نعم صحة السلب _ یعنی سلب المعنی المرتکز من اللفظ _ عن شیء شکّ بدوا فی کونه مصداقا له علامة عدم کون المسلوب عنه مصداقا وفردا لذلک المعنی ، فإنّ الطبیعی لا یسلب عن فرده ومصداقه فی حال ، بل یحمل علیه فی جمیع الأحوال ، ولو صحّ حمل عنوان علی شیء فی حالٍ خاصّ لثبت أنّه فرده فی ذلک الحال فقط ، فتدبّر جیّداً و ممّا ذکرنا یظهر أن تبادر المعنی من حاق اللفظ التی هی علامة للحقیقة وکشف الدلالة الوضعیة لا یغنی عن صحة السلب و عدم صحته فإن بصحة السلب و عدم صحته یعلم سعة المعنی الموضوع له وضیقة بعد العلم الإجمالی الارتکازی بأصل المعنی کما لا یخفی فإنّ من أوضح الألفاظ من حیث المعنی لفظ الماء وربّما یشک فی دخول ماء فیه و عدمه کالماء المصنوع وبعض ما السیل.

ص :85

ثم إنّه قد ذُکر الاطراد وعدمه علامة للحقیقة والمجاز أیضاً، ولعلّه بملاحظة نوع العلائق [1] المذکورة فی المجازات، حیث لا یطرد صحة استعمال اللفظ

الشَرح:

الاطّ_راد

:

[1] وحاصله أنّ القائل بکون الاطّراد فی استعمال اللفظ فی معنی علامة الحقیقة ، وعدم اطراده علامة المجاز لاحظ نوع العلائق التی ذکروها للاستعمالات المجازیة ، ورأی أنّ اللفظ لا یستعمل فی کلّ معنی یکون بینه وبین معناه الموضوع له إحدی هذه العلاقات . ولاحظ أیضاً اللفظ الموضوع لمعنی ورأی أنّه یستعمل فیه دائما ، فذکر أنّ استعمال اللفظ فی معنی مطّرداً علامة کونه حقیقة فیه وعدمه کما ذکر علامة کونه مجازا ، وإلاّ فلو لاحظ هذا القائل خصوص علاقة یصحّ بها استعمال اللفظ فی معنی بتلک العلاقة لرأی أنّه یصحّ استعماله فی ذلک المعنی مکرّرا ، فمثلاً استعمال لفظ الأسد فی الحیوان المفترس مطرّد ، وکذلک استعماله فی الرجل الشجاع ، وعلی ذلک فلا یعلم من مجرّد اطّراد الاستعمال فی لفظ بالإضافة إلی معنی من المعانی أن_ّه علی نحو الحقیقة أو المجاز .

وذکر صاحب الفصول قدس سره أنّ الاطّراد بلا تأویل علامة الحقیقة(1).

وفیه أنّ زیادة قید (بلا تأویل) أو (علی وجه الحقیقة) وإن کان موجبا لاختصاصه بالحقیقة فإنّه لابدّ فی الاستعمال المجازی من التأویل وإعمال العنایة ، إلاّ أنّ الاطّراد علی ذلک لا یکون علامة الحقیقة إلاّ بوجه دائر ؛ لتوقّف إحراز کون الاطّراد بلا تأویل علی العلم بالوضع ، فلو توقّف العلم بالوضع علیه لدار .

لا یقال : الموقوف علی الاطّراد العلم التفصیلی ، والاطّراد موقوف علی العلم

ص :86


1- (1) الفصول : ص31 س8 ، الطبعة الحجریة .

معها، وإلاّ فبملاحظة خصوص ما یصحّ معه الاستعمال، فالمجاز مطرد کالحقیقة، وزیادة قید (من غیر تأویل) أو (علی وجه الحقیقة)، وإن کان موجباً لاختصاص الاطراد کذلک بالحقیقة، إلاّ أنّه _ حینئذٍ _ لا یکون علامة لها إلاّ علی وجه دائر، الشَرح:

الإجمالی بالوضع ، کما تقدم فی الجواب عن الدور فی التبادر وعدم صحة السلب .

فإنّه یقال : الجواب المتقدّم غیر جارٍ فی المقام ، فإنّ انسباق المعنی من اللفظ إلی ذهن السامع لا یتوقّف علی علمه التفصیلی بوضع ذلک اللفظ لذلک المعنی ، فالعلم التفصیلی یحصل للسامع بالتبادر ، بخلاف المقام ، فإنّ الاطّراد هو شیوع استعمال اللفظ فی معنی بلا تأویل وعنایة ، وإحراز هذا الاطّراد یتوقّف علی حصول العلم التفصیلی بالوضع قبل إحراز الاطّراد وذلک لأنّ العلم التفصیلی یحصل بملاحظة استعمال واحد وإحراز الاطّراد یتوقّف علی ملاحظة أکثر من استعمال واحد. فیکون جعل الاطّراد علامة لغواً لحصول العلم التفصیلی بالوضع قبله باستعمال واحد. وکذلک الأمر ، بناءً علی أنّ التبادر عند العالم علامة للمستعلم ، حیث إنّه یمکن للمستعلم إحراز المعنی المتبادر من اللفظ عند أهل المحاورة قبل علمه بالوضع ، بل یحصل هذا العلم له نتیجة علمه بالتبادر عندهم .

وهذا بخلاف الاطّراد فإنّ إحراز الشخص أنّ هذا اللفظ یستعمل عند أهل المحاورة بنحو الشیوع والتکرار بلا عنایة فی معنی خاصّ فرع علمه بالوضع عندهم لذلک المعنی ، وإلاّ فکیف یحرز أنّ هذه الاستعمالات کلّها بلا لحاظ علاقة وعلی وجه الحقیقة ؟

أقول : لعلّ مراد القائل بکون الاطّراد علامة الحقیقة وعدمه علامة المجاز هو أنّه لو أراد المستعلم أن یعلم کون استعمال لفظ فی معنی خاصّ عند أهل المحاورة بنحو الحقیقة ومن قبیل استعمال اللفظ فیما وضع له أو أنه یستعمل فیه بنحو

ص :87

ولا یتأتّی التفصی عن الدور بما ذکر فی التبادر هنا، ضرورة أنّه مع العلم بکون الاستعمال علی نحو الحقیقة، لا یبقی مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغیره.

الشَرح:

المجاز ، فعلیه أن یلاحظ استعمالاتهم فإذا رأی صحّة التعبیر عندهم عن ذلک المعنی بذلک اللفظ حتّی فی استعمالاته التی لا تناسب رعایة العلاقة المحتمل رعایتها فی بعض تلک الاستعمالات ، علم بوضع اللفظ لذلک المعنی .

وإذا رأی عدم صحّة استعمال اللفظ المزبور فی ذلک المعنی فی جمیع التراکیب المتعارفة ، فیعلم بأنّ استعماله إنّما هو بلحاظ تلک العلاقة التی کان یحتمل وقوعه بلحاظها ، کما فی المرق الرقیق ، فإنّه قد یطلق علیه الماء فی موارد الطعن علی صاحبه مثلاً ، أو آکلیه ، وقد لا یطلق علیه الماء فی جمیع الموارد کما إذا لم یکن عند المکلّف ماء للوضوء والغسل وکان عنده المرق ، فإنّه لا یقول عندی ماء ، وهذا بخلاف ماء الکوز ونحوه فإنّه یطلق علیه الماء فی جمیع الموارد ، ووصفه فی بعضها بأنّه قلیل لا یقدح فیما هو المهمّ فیه .

فیکون الاطّراد علامة لاستناد فهم المعنی فی الثانی إلی حاق اللفظ بخلاف الاستعمال فی الأول فإنه یکون بلحاظ العنایة وملاحظة المناسبة.

ص :88

الثامن

أنّه للّفظ أحوال خمسة، وهی: التجوّز، والاشتراک، والتخصیص [1]، والنقل، والإضمار، لا یکاد یصار إلی أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنی الحقیقی، إلاّ بقرینة صارفة عنه إلیه.

وأمّا إذا دار الأمر بینها، فالأصولیون، وإن ذکروا لترجیح بعضها علی بعض وجوهاً، إلاّ أنّها استحسانیة، لا اعتبار بها، إلاّ إذا کانت موجبة لظهور اللفظ فی المعنی، لعدم مساعدة دلیل علی اعتبارها بدون ذلک، کما لا یخفی.

الشَرح:

أحوال اللفظ

:

[1] فإنّه إن استُعمل اللفظ فی غیر ما وضع له بلحاظ العلاقة یکون مجازا ، وإن استُعمل فی معنیً آخر باعتبار أن_ّه الموضوع له أیضاً بلا هجر معناه الأول یکون مشترکا ، ومع هجره ورعایة المناسبة یکون منقولاً ، وباعتبار عدم إرادة بعض مدلوله جدّا یکون تخصیصا ، وباعتبار تقدیر الدالّ علی المراد یکون إضمارا .

وإفراد التخصیص عن المجاز مبنیّ علی ما هو الصحیح من أنّه کالتقیید لایکون موجبا للمجاز فی استعمال العامّ ، وأمّا عدم ذکره قدس سره التقیید ، فلعلّ مراده بالتخصیص ما یعمّه ، کما أنّ عدم تعرّضه للمجاز والعنایة فی الإسناد لدخوله فی التجوّز کما هو الحال فی الاستخدام.

ثمّ إذا أُحرز ظهور اللفظ فی معنی ، واحتمل أن یکون مراد المتکلّم غیر ذلک الظاهر بأن احتمل استعماله فی غیره مجازا ، أو أنه موضوع للمعنی الآخر عنده بلا هجر معناه الأوّل ، أو مع هجره أو أنه أراد غیر ذلک الظاهر بنحو الاضمار ، أو کون مراده الجدی غیره بنحو التخصیص أو التقیید ، تکون أصالة الظهور متّبعة کما هو

ص :89

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المقرر فی مبحث حجیة الظهور .

وأمّا إذا أُحرز أنّ مراده غیر معناه الظاهر وتردّد مراده بین الأنحاء المذکورة أو بین بعضها ، فلا اعتبار بشیء ممّا قیل فی ترجیح بعضها علی بعض ما لم یکن فی البین ظهور لکلامه فی تعیین أحدها .

ص :90

التاسع

إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیة وعدمه علی أقوال، وقبل الخوض فی تحقیق الحال لا بأس بتمهید مقال، وهو: أنّ الوضع التعیینی، کما یحصل بالتصریح بإنشائه[1]، کذلک یحصل باستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، کما إذا وضع له، بأن الشَرح:

الحقیقة الشرعیة

[1] ذکر قدس سره أن الوضع التعیینی کما یکون بإنشاء الوضع وتعیین اللفظ بإزاء المعنی بالقول کذلک یکون الوضع والتعیین بنفس استعمال لفظ فی معنی غیر موضوع له ، علی نحو استعمال اللفظ فیما وضع له بأن یقصد الحکایة والدلالة علی ذلک المعنی بنفس اللفظ لا الحکایة عنه باللفظ مع القرینة ، نعم لابدّ فی البین من قرینة دالّة علی أنّ استعمال اللفظ فیه والحکایة عنه بنفس اللفظ لغایة تحقّق وضعه له _ وهذه غیر قرینة المجاز ، حیث إنّ القرینة فیه تکون علی حکایة اللفظ معها عن المعنی _ وعدم کون استعمال اللفظ فی غیر ما وضع فی مقام وضعه له ، من الاستعمال الحقیقی (حیث إنّ المفروض حصول الوضع بعد تحقّق ذلک الاستعمال) ولا من المجاز (حیث إنّ المعتبر فی الاستعمال المجازی لحاظ العلاقة بین المعنی المستعمل فیه ومعناه الموضوع له) غیر ضائر ، بعد کون هذا النحو من الاستعمال مما یقبله الطبع ولا یستهجنه ، وقد تقدّم أنّ فی الاستعمالات الشائعة ما لا یکون حقیقة ولا مجازا ، ولکن ممّا یقبله الطبع ، کاستعمال اللفظ فی اللفظ.

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکر من حصول الوضع بالاستعمال ، بأنّ الاستعمال یقتضی لحاظ اللفظ فانیا فی المعنی بحیث یکون الملحوظ استقلالاً هو المعنی ویکون اللفظ مغفولاً عنه، بخلاف الوضع فإنّه یقتضی لحاظ اللفظ استقلالاً، فلو حصل الوضع بالاستعمال لزم کون اللفظ فی ذلک الاستعمال ملحوظا آلیا

ص :91

یُقصد الحکایة عنه، والدلالة علیه بنفسه لا بالقرینة، وإن کان لا بد _ حینئذ _ من نصب قرینة، إلاّ أنّه للدلالة علی ذلک، لا علی إرادة المعنی، کما فی المجاز، فافهم.

الشَرح:

واستقلالیّا.

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّه _ کما سیأتی فی بحث استعمال اللفظ فی أکثر من معنی _ أنّ مجرد استعمال اللفظ فی معنی لا یقتضی کون اللفظ ملحوظا استقلالاً ، لا أنّه یقتضی عدم لحاظه استقلالاً ، فلو کان فی الاستعمال غرض یقتضی لحاظ اللفظ استقلالاً فلا ینافیه الاستعمال ، کما إذا کان غیر العربی یتکلّم باللغة العربیة ویعبّر عن مراداته بتلک اللغة فی مقام إظهار معرفته بها ، فیکون کمال إلتفاته إلی الألفاظ ویستعملها لتفهیم مراداته.

ولو أُغمض عن ذلک وقلنا بأنّ الاستعمال یقتضی فناء اللفظ فی المعنی وکونه مغفولاً عنه ، فإنّ مقتضی ذلک أن لا یکون اللفظ بنفسه ملحوظا استقلالاً عند إنشاء المعنی المراد من اللفظ أو الحکایة عنه ، وهذا لا ینافی کون النفس ملتفتة إلی الاستعمال المذکور فتعتبره وضعا لذلک اللفظ بإزاء ذلک المعنی المنشأ والمحکی عنه .

وأورد أیضاً علی ما ذکره الماتن قدس سره من أنّ المقصود فی مورد الوضع بالاستعمال الحکایة والدلالة علی المعنی بنفس اللفظ لا بالقرینة ، کما فی المجاز ، بأنّ دلالة اللفظ علی المعنی المزبور لا تکون بلا قرینة ؛ وذلک لعدم إمکان انتقال المعنی إلی ذهن السامع من اللفظ بدون الوضع وبدون القرینة لبطلان الدلالة الذاتیة فی الألفاظ ، وإذا لم یکن فی الفرض وضع قبل حصول الاستعمال کما هو المفروض ، فکیف یکون الانتقال من اللفظ إلی ذلک المعنی بلا قرینة ؟ غایة الأمر القرینة الدالّة علی کونه فی مقام الوضع تکون مغنیة عن قرینة مستقلّة للدلالة علیه ، ولو فرض فی مورد عدم کفایتها ، لزم نصب قرینة أُخری أیضاً للدلالة .

ص :92

وکون استعمال اللفظ فیه کذلک فی غیر ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز [1]، غیر ضائر بعد ما کان مما یقبله الطبع ولا یستنکره، وقد عرفت سابقاً، أنّه فی الاستعمالات الشایعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز.

الشَرح:

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ دلالة اللفظ علی المعنی وإن لم تکن ذاتیة ولکنها لا تتوقّف علی الوضع الحاصل من قبل أو القرینة علی الدلالة ، بل الموجب للدلالة هو العلم بالوضع ، ولو بالوضع الحاصل بالاستعمال ، فالقرینة علی الوضع بالاستعمال ، فی الحقیقة قرینة علی جعل نفس اللفظ دالاًّ علی المعنی المفروض ، فیکون ذلک اللفظ بنفسه دالاًّ ، ولذا ذکر أنّها تغنی عن القرینة الأُخری .

[1] لعلّ نظره قدس سره فی عدم کون الاستعمال المزبور حقیقةً إلی عدم تحقّق الوضع عند الاستعمال وکون الاستعمال إنشاءا للوضع مقتضاه أن لا یتّصف المعنی فی الاستعمال المزبور بکونه موضوعا له ، وأمّا عدم کونه استعمالاً مجازیا فلأنّ المفروض عدم کون الاستعمال بلحاظ العلاقة وإعمال العنایة .

أقول : ماذکره من عدم کون الاستعمال حقیقة فیما إذا أُرید تحقّق الوضع لایمکن المساعدة علیه ، فإنّ حصول الوضع بالاستعمال لکون الابراز مقوما فی الإنشائیات ومنها الوضع فی الألفاظ ، وعلی ذلک فلا یکون المعنی قبل الاستعمال متّصفا بکونه موضوعاً له ، وکذا فی مرتبة الاستعمال ، ولکن زمان حصول الاستعمال متّحد مع زمان الوضع الذی یکون اعتباره بالنفس وإبرازه بالاستعمال ، ولا ح_اجة فی کون الاستعمال حقیقة إلی أزید من ذلک ، إذ معه لا یحتاج المتکلّم إلی لحاظ العلاقة وإعمال العنایة . وقد تقدّم أنّ ما أشار إلیه المصنّف من أنّ فی الاستعمالات المتعارفة ما لا یکون بحقیقة ولا مجاز غیر صحیح ، وأنّ استعمال اللفظ فی اللفظ أمرٌ

ص :93

إذا عرفت هذا، فدعوی الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا قریبة جدّاً، ومدعی القطع به غیر مجازف قطعاً، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیة منها [1] فی محاوراته، ویؤید ذلک أنّه ربما لا یکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیة واللغویة، فأیّ علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنی

الشَرح:

لا أساس له.

[1] قد یقال : تبادر المعانی الشرعیة من ألفاظ العبادات الواردة فی محاورات الشارع أوّل الکلام ، وعلی تقدیره فلا یکون مثبتا للوضع بالاستعمال ، ولکنّ الظاهر عدم ورود الإشکال ، فإنّه لا یحتمل أن یکون مثل قوله سبحانه : «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیامُ»الآیة(1) ، عند نزولها من المجملات ، ولم تکن ظاهرة فی الصدر الأوّل فی المعانی الشرعیة ، أو کانت ظاهرة فی معانیها اللغویة .

نعم ، یبقی فی البین احتمال کون تلک الألفاظ موضوعة لتلک المعانی قبل الشریعة الإسلامیة أیضاً ، کما استشهد الماتن لذلک بغیر واحد من الآیات ، مثل قوله تعالی «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلی الّذِیْنَ مِنْ قَبْلِکُمْ» ، وقوله سبحانه : «وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالحَجِّ»(2) ، وقوله سبحانه : «وَأَوْصانِی بِالصّلاةِ وَالزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیَّاً»(3) ، فتکون ألفاظها حقیقة لغویة لا شرعیة ، واختلاف الشرائع فی تلک الحقائق جزءا أو شرطا لا یوجب تعدّد المعنی ، فإنّ الاختلاف یمکن أن یکون فی المصادیق والمحقّقات کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا .

ثمّ إنّه قدس سره أیّد ثبوت الحقیقة الشرعیة فی تلک الألفاظ ، بعدم ثبوت علاقة

ص :94


1- (1) سورة البقرة : الآیة 183 .
2- (2) سورة الحج : الآیة 27 .
3- (3) سورة مریم : الآیة 31 .

الدعاء، ومجرد إشتمال الصلاة علی الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکل بینهما، کما لا یخفی. هذا کله بناء علی کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.

الشَرح:

معتبرة بین المعانی الشرعیة وبین معانیها اللغویة ، وقد مثّل بلفظ الصلاة حیث لا علاقة بین معناها الشرعی وبین معناها اللغوی ، ومجرد اشتمال معناها الشرعی علی الدعاء لا یوجب ثبوت العلاقة المعتبرة فی استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ ، حیث إنّه لا ترکیب حقیقة ، ولیس الجزء من الأجزاء الرئیسیة .

فعدم ثبوت العلاقة المعتبرة یکشف عن عدم کون استعمال لفظ الصلاة فی معناها الشرعی فی محاورات الشارع من قبیل الاستعمال المجازی ، والوجه فی جعل ذلک مؤیّدا لا دلیلاً یمکن أن یکون أحد أمرین :

الأوّل : إنّ عدم العلاقة علی تقدیره لا یکشف عن وضع الشارع ، لإمکان کون تلک الألفاظ موضوعة للمعانی الشرعیة قبل الإسلام ، کما استشهد لذلک بالآیات .

والثانی : إمکان صحّة استعمال اللفظ فی المعنی ، ولو مع عدم العلاقة المعتبرة وبلا وضع ، کما تقدّم من وقوعه فی بعض الاستعمالات المتعارفة لحسنها بالطبع .

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکره _ من أنّ ثبوت المعانی الشرعیة فی الشرائع السابقة یوجب کون تلک الألفاظ حقائق لغویة _ بأنّ ثبوت بعض المعانی الشرعیة أو کلّها فی الشرائع السابقة لا یوجب انتفاء الحقیقة الشرعیة ؛ لأنّ ثبوتها فیها لا یکشف عن کون أسامیها المتداولة عندنا کانت موضوعة لها قبل الإسلام فی لسان العرب السابق، حیث لم تکن لغة جمیع الأنبیاء السابقین (علی نبینا وآله وعلیهم السلام) عربیة ، فیحتمل أنّ العرب فی ذلک الزمان کانوا یعبّرون عنها بغیر الألفاظ المتداولة عندنا ، بل کانوا یعبّرون بغیر اللغة العربیة کما نراهم فعلاً یعبّرون عن بعض الأشیاء

ص :95

وأما بناءً علی کونها ثابتة فی الشرائع السابقة، کما هو قضیة غیر واحد من الآیات، مثل قوله تعالی «کتب علیکم الصیام کما کتب علی الذین من قبلکم»(1) وقوله تعالی «وأذّن فی الناس بالحج»(2) وقوله تعالی «وأوصانی بالصلاة والزکاة ما دمت حیّاً»(3) إلی غی_ر ذلک، فألفاظها حقائق لغویة، لا شرعیة، واختلاف الشَرح:

المخترعة بلغات سائر الأُمم ، ووجود لفظ الصلاة فی الإنجیل المترجم بلغة العرب لا یدلّ علی سبق استعمال لفظ الصلاة أو غیره فی تلک المعانی قبل الإسلام ؛ لاحتمال حدوث الاستعمال عند ترجمة الإنجیل بلغة العرب بعد الإسلام .

وبالجملة ، ثبوت الحقیقة الشرعیة لا یتوقّف علی عدم وجود المعانی الشرعیة قبل الإسلام ، بل موقوف علی عدم کون الألفاظ المتداولة عندنا موضوعة لتلک المعانی الشرعیة قبل الاسلام ، سواء کان ذلک لعدم المعنی الشرعی سابقا أو لعدم وضع اللفظ له قبل الإسلام(4) .

أقول : المدّعی أنّ الناس قد فهموا من قوله سبحانه «کُتِبَ عَلَیْکُم الصِّیامُ»(5) عند قراءة النبی صلی الله علیه و آله لها ولغیرها من الآیات ، المعانی الشرعیة ولایکون ذلک عادةً إلاّ إذا کان تعبیرهم عن تلک المعانی الشرعیة السابقة علی الإسلام بهذه الألفاظ المتداولة .

لا یقال : کیف یمکن دعوی الجزم بأنّ المعانی الشرعیة کانت هی المتبادرة فی

ص :96


1- (1) القبرة / 183.
2- (2) الحج / 27.
3- (3) مریم / 31.
4- (4) أجود التقریرات : 1 / 34 .
5- (5) سورة البقرة : الآیة 183 .

الشرائع فیها جزءاً وشرطاً، لا یوجب اختلافها فی الحقیقة والماهیة، إذ لعلّه کان من قبیل الاختلاف فی المصادیق والمحققات، کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا، کما لا یخفی.

ثم لا یذهب علیک أنه مع هذا الإحتمال، لا مجال لدعوی الوثوق _ فضلاً عن القطع _ بکونها حقائق شرعیة، ولا لتوهم دلالة الوجوه التی ذکروها علی ثبوتها، لو سلم دلالتها علی الثبوت لولاه، ومنه قد انقدح حال دعوی الوضع التعیّنی معه، الشَرح:

محاورات الشارع وعند نزول الآیات المشار إلیها ، مع أنّ ما ورد فی الروایات المعتبرة فی قضیة تیمّم عمّار شاهد لکون المتفاهم عندهم کانت هی المعانی اللغویة ؟

فإنّه یقال : المدّعی أنّ جلّ تلک الألفاظ کانت حقیقة فی تلک المعانی لا کلّها ، بحیث لا یشذّ منه لفظ أو لفظان ، ولفظ التیمّم _ علی ما یظهر من الروایات _ لم یکن له معنیً خاصّ فی الشرائع السابقة ، کما یشیر إلیه قوله صلی الله علیه و آله : «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا»(1) .

ودعوی أنّ لفظ الصلاة أیضاً کان ظاهراً فی معناه اللغوی وإنّما کان یستعمل فی معناه الشرعی فی محاورات الشارع مجازا أو بلحاظ العلاقة ، حیث إنّ الصلاة فی اللغة بمعنی المیل والعطف ، والعطف من اللّه سبحانه الرحمة والمغفرة ، ومن العباد طلبها ، فیکون من باب استعمال اللفظ الموضوع للکلی وإرادة فرده الخاصّ ، لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّه لا یحتمل أن یکون قوله سبحانه «وَأقِیْمُوا الصَّلاةَ»(2) مرادفا عندهم لقوله «وَاسْتَغْفِرُوا اللّه»ولا مناسبا له ، کما لا یخفی .

ص :97


1- (1) الوسائل : ج2 ، باب7 من أبواب التیمّم ، الحدیث : 2 و 3 و 4 .
2- (2) سورة البقرة: الآیة 43.

ومع الغض عنه، فالإنصاف أنّ منع حصوله فی زمان الشارع فی لسانه ولسان تابعیه مکابرة [1]، نعم حصوله فی خصوص لسانه ممنوع، فتأمل.

وأمّا الثمرة بین القولین [2]، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة علی معانیها اللغویة مع عدم الثبوت، وعلی معانیها الشرعیة علی الثبوت، فیما إذا عُلم تأخر الإستعمال، وفیما إذا جهل التاریخ، ففیه إشکال، الشَرح:

[1] یعنی لو فرض الإغماض عمّا تقدّم والتسلیم بأنّ الاستعمالات فی تلک الألفاظ کانت بنحو المجاز والعنایة ، فلا ینبغی المناقشة فی أنّها صارت حقائق فی المعانی الشرعیة باستعمالات الشارع واستعمالات تابعیه ، یعنی المسلمین ، وإنکار ذلک مکابرة ، ویکفی فی الجزم بذلک تداول بعض تلک الألفاظ فی محاورات الشارع والمسلمین فی کلّ یوم مرّة أو مرّات ، نعم یمکن منع حصول الوضع بکثرة الاستعمال فی خصوص کلام الشارع واستعمالاته .

أقول : هذا مبنیّ علی حصول الوضع بکثرة الاستعمال وصیرورة اللفظ ظاهرا فی معناه الجدید بکثرة الاستعمال ، بحیث لا یحتاج فی استعماله فیه إلی تعیین ، ولکن ذکرنا أنّ التعیین یحصل لا محالة ولو بنحو إنشائه بالاستعمال .

[2] تظهر الثمرة بین القولین فیما إذا ورد من تلک الألفاظ فی کلام الشارع بلا قرینة ، فعلی القول بإنکار الحقیقة الشرعیة یحمل علی معناه اللغوی ، وبناءً علی ثبوت الحقیقة الشرعیة بنحو الوضع التعیینی یحمل علی المعنی الشرعی ، وکذا إذا قیل بالحقیقة الشرعیة بنحو الوضع التعیینی فیما إذا کان صدور الکلام بعد حصوله بخلاف ما إذا کان صدوره قبل حصوله ، ویکون الکلام مجملاً فیما إذا دار أمر صدوره بین التقدّم والتأخّر .

وعن المحقّق النائینی قدس سره أن_ّه لم یوجد فی کلام الشارع من تلک الألفاظ ما دار

ص :98

وأصالة تأخّر الاستعمال [1] مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع، لا دلیل علی اعتبارها تعبداً، إلاّ علی القول بالأصل المثبت، ولم یثبت بناء من العقلاء علی التأخر مع الشک، وأصالة عدم النقل إنما کانت معتبرة فیما إذا شک فی أصل النقل، لا فی تأخره، فتأمل.

الشَرح:

أمره بین حمله علی المعنی اللغوی أو الشرعی بأن یجهل مراد الشارع ، وعلیه فیصبح البحث فی الحقیقة الشرعیة بحثاً علمیّا محضاً(1) .

أقول : یمکن المناقشة فیه بأنّ المراد من الصلاة فی قوله سبحانه : «قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَکَّی وَذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی»(2) مردّد بین الدعاء ومعناه الشرعی ، وکذا فی قوله سبحانه «یا أیُّها الَّذِیْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیْما»(3) فإنّه یدور أمره بین الدعاء ولو بقول القائل: (اللّهم ارفع درجات النبی صلی الله علیه و آله )، وبین کونها الصلاة المتعارفة عند المتشرّعة ، وکذا ما وصل إلینا من کلام النبی صلی الله علیه و آله من غیر طرق أئمّتنا علیهم السلام فإنّه وإن وصل غالب کلامه إلینا بواسطتهم علیهم السلام وکان علیهم نقله بحیث یفهم مراده صلی الله علیه و آله لوقوع النقل فهم فی مقام بیان الأحکام الشرعیة إلاّ أنّ قلیلاً منه قد وصل بغیر واسطتهم فاستظهار المراد من کلامه یبتنی علی البحث فی الحقیقة الشرعیة .

[1] قد یقال : إنّه إذا دار أمر الاستعمال بین وقوعه قبل الوصول إلی مرتبة الوضع التعینی أو بعد وصوله ، فیحمل علی المعنی الشرعی لأصالة تأخّر الاستعمال .

ص :99


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 33 .
2- (2) سورة الأعلی : الآیة 14 .
3- (3) سورة الأحزاب : الآیة 56 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فنقول : إن کان المراد بأصالة التأخّر استصحاب عدم صدور الاستعمال المزبور إلی زمان حصول الوضع ویثبت به ظهوره فی المعنی الشرعی وهو موضوع الحجّة ، فهذا مع الغضّ عن کونه مثبتا حیث إنّ ظهوره فی المعنی الشرعی أثر عقلیّ لتأخّر الاستعمال ، معارض بأصالة تأخّر الوضع ، یعنی استصحاب عدم حصول الوضع إلی زمان ذلک الاستعمال .

وإن أُرید بأصالة تأخّر الاستعمال عدم حصول النقل فی اللفظ المزبور زمان استعماله وإنّ هذا أصل عقلائی یعبّر عنه بأصالة عدم النقل .

ففیه : أنّ أصالة عدم النقل إنّما تعتبر عند العقلاء فیما إذا شک فی مراد المتکلم من ذلک اللفظ ولم یعلم حصول النقل فیه أصلاً ، وأمّا إذا علم النقل وشک فی تقدّمه وتأخّره فلا تعتبر ولا یمکن إحراز مراد المتکلّم بها .

ص :100

العاشر

أنّه وقع الخلاف فی أن ألفاظ العبادات، أسامٍ لخصوص الصحیحة أو للأعم منها؟

وقبل الخوض فی ذکر أدلة القولین، یذکر أمور:

منها: إنه لا شبهة فی تأتّی الخلاف، علی القول بثبوت الحقیقة الشرعیة، وفی جریانه علی القول بالعدم إشکال.

وغایة ما یمکن أن یقال فی تصویره [1]: إنّ النزاع وقع _ علی هذا _ فی أنّ

الشَرح:

الصحیح والأعمّ

:

[1] ذکر قدس سره ما حاصله إنّ جریان البحث فی الصحیح والأعمّ علی القول بإنکار الحقیقة الشرعیة ، والبناء علی أنّ استعمال الشارع تلک الألفاظ فی معانیها الشرعیة کان بنحو المجاز یتوقّف علی أمرین :

الأوّل: عدم ملاحظة الشارع العلاقة بین کلٍّ من الصحیح والأعمّ وبین المعانی اللغویة لتلک الألفاظ ، بل کانت الاستعمالات فی أحدهما بملاحظة العلاقة بینه وبین المعنی اللغوی ، واستعماله فی الآخر منها بنحو سبک المجاز عن مجاز ، یعنی بملاحظة العلاقة بینه وبین المعنی المجازی الأوّل .

والثانی: إثبات أن_ّه بعد فرض وحدة المجاز المسبوک عن المعنی اللغوی جری دیدنه عند إرادة المعنی المسبوک من الحقیقة علی الاکتفاء بنصب قرینة صارفة فقط ، وأنّه عند إرادة المعنی المسبوک عن المجاز کان ملتزما بنصب قرینة معیّنة علیه ونتیجة هذین الأمرین حمل کلامه علی المسبوک من معناه اللغوی عند قیام القرینة الصارفة علی عدم إرادته ، فللملتزم بالأمرین أن یتکلّم فی المعنی الذی لاحظ

ص :101

الأصل فی هذه الألفاظ المستعملة مجازاً فی کلام الشّارع، هو استعمالها فی خصوص الصحیحة أو الأعم، بمعنی أنّ أیّهما قد اعتبرت العلاقة بینه وبین المعانی اللغویة ابتداءً، وقد استعمل فی الآخر بتبعه ومناسبته، کی ینزل کلامه علیه مع الشَرح:

الشارع العلاقة بینه وبین المعنی اللغوی ، والذی جرت عادته عند إرادته علی نصب قرینة صارفة فقط ، هل کان هو الصحیح أو الأعمّ ، ولکن لا یمکن لمنکر الحقیقة الشرعیة والقائل بمجازیة استعمالات الشارع إثبات هذین الأمرین ، إذ من المحتمل ملاحظة الشارع العلاقة بین کلٍّ من الصحیح والأعمّ ، وبین المعنی اللغوی فی عرض واحد ، أو کان دیدنه نصب قرینة معیّنة لکلٍّ منهما .

وذکر بعض الأعاظم رضی الله عنه أنّه یکفی فی جریان النزاع علی القول بمجازیة استعمالات الشارع إثبات أحد الأمرین المزبورین ، فإنّه لو ثبت سبک أحد المعنیین عن الحقیقة ، وسبک الآخر من المجاز ، کان کلامه عند قیام القرینة الصارفة عن المعنی اللغوی ظاهرا فی إرادة المسبوک من المعنی الحقیقی لا محالة ، کما أن_ّه لو قیل بأنّه کانت عادته علی عدم نصب قرینة معیّنة لأحد المعنیین ، بل کان تفهیمه بالقرینة الصارفة فقط ، کان اللفظ ظاهرا فیه عند قیام القرینة الصارفة فقط ، حتّی مع ملاحظته العلاقة بین کلٍّ من المعنیین والمعنی اللغوی فی عرض واحد(1) .

أقول : لایخفی مافیه ، فإنّه کیف یکون ظهور اللفظ فی أحد المعنیین بخصوصه بقیام القرینة الصارفة ، فیما إذا ثبت أنّ استعماله فیه کان بنحو سبک المجاز عن الحقیقة ، مع احتمال جریان عادته علی نصب القرینة لتعیین کلٍّ منهما ، نعم لو ثبت الأمر الثانی من الأمرین لکفی فی جریان النزاع ، ولا حاجة معه إلی اثبات الأمر

ص :102


1- (1) نهایة الأفکار : 1 / 73 .

القرینة الصارفة عن المعانی اللغویة، وعدم قرینة أخری معینة للآخر.

وأنت خبیر بأنّه لا یکاد یصح هذا، إلاّ إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت کذلک، وأنّ بناء الشارع فی محاوراته، استقر عند عدم نصب قرینة أخری علی إرادته، بحیث کان هذا قرینة علیه، من غیر حاجة إلی قرینة معینة أخری، وأنّی لهم بإثبات ذلک.

الشَرح:

الأوّل .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره النزاع بوجهٍ آخر _ بناءً علی کون استعمالات الشارع بنحو المجاز _ وهو أن یکون النزاع فی مقتضی الأدلّة الدالّة علی الحقیقة عند المتشرّعة من التبادر وغیره ، وفی أنّها دالّة علی کون الألفاظ حقیقة عند المتشرّعة فی خصوص الصحیح أو فی الأعم ، وحیث إنّ المعنی الحقیقی (أی المسمّی بلفظ الصلاة) عندهم کاشف عن المراد الشرعی عند الإطلاق الذی هو مجاز عنده _ حسب الفرض _ ، فإنّ منشأ هذه الحقیقة ذلک المجاز ، فیتعیّن بتعیینها(1) .

ولا یخفی ما فیه أیضاً ، فإنّه لا تکون ثمرة البحث مترتبة علی ما ذکره ، وذلک لأن_ّه لو ثبت مثلاً أنّ الحقیقة المتشرعیة هی الأعم ، وعلم أیضاً أنّ منشأ هذا استعمال الشارع اللفظ فیه مجازا ، فلا یمکن إثبات أنّ الشارع لم یکن یستعمل اللفظ فی الصحیح أصلاً ، ولو فی بعض الأحیان ؛ لیکون المعنی الأعم متعینا فی کلامه فیما إذا أحرزنا أنّه لم یرد فی الاستعمال المزبور معناه اللغوی ، فإنّا نحتمل أن یکون صیرورة اللفظ حقیقة فی الأعمّ عند المتشرّعة لشیوع استعمال اللفظ عندهم فی المعنی الأعمّ من غیر سبق هذا الشیوع فی استعمالات الشارع بل کان دیدنه نصب القرینة

ص :103


1- (1) فوائد الأُصول : 1 / 59 .

وقد انقدح بما ذکرنا تصویر النزاع _ علی ما نسب إلی الباقلاّنی [1] _ وذلک بأن یکون النزاع، فی أن قضیة القرینة المضبوطة التی لا یتعدی عنها إلاّ بالأخری _ الدالة علی أجزاء المأمور به وشرائطه _ هو تمام الأجزاء والشرائط، أو هما فی الجملة، فلا تغفل.

ومنها: أنّ الظّاهر أنّ الصحة عند الکل بمعنی واحد، وهو التمامیة، وتفسیرها بإسقاط القضاء _ کما عن الفقهاء _ أو بموافقة الشّریعة _ کما عن المتکلمین _ أو غیر ذلک، إنّما هو بالمهم من لوازمها [2]، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار، الشَرح:

علی إرادة کل منهما.

[1] وتقریره : أن_ّه بناءً علی المنسوب إلی الباقلاّنی وإن کانت تلک الألفاظ مستعملة فی کلام الشارع فی معانیها اللغویة دائما وإنّما الخصوصیات التی لها دخل فی المأمور به من الأجزاء والشرائط مستفادة من دالٍّ آخر ، إلاّ أنّه لم تکن الدلالة علیها دائما بذکرها تفصیلاً ، فلم یکن یقول دائما : صلّوا ، وارکعوا ، واسجدوا ، وکبّروا ، إلی غیر ذلک ، بل کان ینصب علی تلک الخصوصیات دالاًّ یدلّ علیها بالإجمال ، أی بنحو دلالة لفظ الدار علی أجزائها ، فیقع البحث فی أنّ ذلک الدالّ علیها بالإجمال المعبّر عنه بالقرینة المضبوطة کان دالاًّ علی عدّة منها کما فی دلالة لفظ الصلاة علیها علی القول بالأعمّ أو کان دالاًّ علی جمیعها ، کما لو قیل بوضعها للصحیح ، ولا یخفی أنّ هذا التصویر لم یعلم مما ذکره قبل ذلک ، فلا یظهر وجه لقوله قدس سره : «وقد انقدح بما ذکرنا» .

[2] لا یخفی أن إسقاط القضاء أو موافقة الشریعة وإن کانا من اللوازم ، إلاّ أنهما من لوازم صحّة المأتیّ به ، بمعنی مطابقته لمتعلّق الأمر ، وکلامنا فی المقام فی صحّة المتعلق لا المأتیّ به ، حیث إنّ صحّة المأتی به تکون بعد تعلّق الأمر ، وفی مرحلة

ص :104

وهذا لا یوجب تعدد المعنی، کما لا یوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختیار، والاضطرار إلی غیر ذلک، کما لا یخفی.

الشَرح:

الامتثال ، والبحث فی المقام فی الصحّة التی تکون مأخوذة فی المسمّی علی مسلک الصحیحی والمتأخّر عن الأمر لا یؤخذ فی متعلّقه ، فضلاً عن أخذ لوازمه . وبتعبیرٍ آخر : مثل الصلاة مرکب اعتباری وقوامه باعتبار معتبره ، فما یوجد من الأفراد یضاف إلی ذلک المرکّب ، فإن کان شاملاً لجمیع المأخوذ فیه یکون تامّا ، وإن کان فاقدا لبعضها یکون فاسدا ، فیقع الکلام فی المقام فی أنّ الموضوع له للفظ الصلاة مثلاً تمام ذلک المرکّب بحیث یکون إطلاقها علی الناقص بالعنایة ، أو أنّ الموضوع له هو أصل المرکّب الموصوف بالتمام تارةً ، وبالناقص أُخری ، والصحّة بمعنی التمام والفساد بمعنی النقص لا تکون إلاّ فی المرکّبات أو المقیّدات ، وبالجملة المحتمل اعتباره فی الموضوع له لیس عنوان الصحّة أو الصحیح ، بل علی تقدیر الأخذ یکون المأخوذ فی الموضوع له ، ما به یوصف بالصحّة والتمام .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته مناقشة أُخری فی کلام الماتن قدس سره ، وحاصلها : أنّ موافقة الأمر أو إسقاط القضاء لیسا من لوازم الصحّة ، یعنی التمامیة ، بل تکون التمامیة بهما حقیقة ، حیث لا حقیقة للتمامیة إلاّ التمامیة من جهتهما ، ولایمکن أن یکون اللازم متمّماً لمعنی ملزومه ، وتمامیة حقیقة الصحّة بهما کاشفة عن عدم کونهما بالإضافة إلیها من قبیل اللازم بالإضافة إلی ملزومه ، فتدبّر(1) .

ثمّ ذکر فی الهامش فی وجه التدبّر أنّ ما ذکر من عدم إمکان تمامیة معنی الملزوم بلازمه إنّما هو فی لوازم الوجود حیث إنّه لا یعقل فیه دخالته وتمامیة

ص :105


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 95 .

ومنه ینقدح أنّ الصحة والفساد أمران إضافیان، فیختلف شیء واحد صحة وفساداً بحسب الحالات، فیکون تاماً بحسب حالة، وفاسداً بحسب أخری، فتدبر جیّداً.

الشَرح:

ملزومه به ، وأمّا بالإضافة إلی عارض المهیّة أی محمولها الخارج عنها مفهوما ، فیمکن أن یکون الشیء خارجا عن تلک الماهیة ومع ذلک دخیلاً فی تمامیتها وحصولها ، کالناطق بالإضافة إلی الحیوان ، حیث إنّه عارض للحیوان ولکن یکون به حصول الحیوان(1) .

أقول : قد تقدّم أنّ التمامیة إذا کانت وصفا للمأتیّ به ، فالمراد بها مطابقته لمتعلّق الأمر ، فیکون سقوط القضاء أو موافقة الأمر من آثار صحّة المأتیّ به ، وإذا کانت وصفا لما تعلّق به الأمر فالمراد اشتماله علی جمیع ما یوصف معه بالصحیح بمعنی التامّ ، وسقوط القضاء أو موافقة الأمر لا یرتبط بالمتعلّق ولیسا من لوازمه ، فإنّه یوصف بالصحّة قبل تعلّق الأمر وفی مرحلة التسمیة .

وأمّا ما ذکره قدس سره من التفرقة بین لوازم الوجود والمهیة ، من أنّ عارض الوجود لا یدخل فی معنی ملزومه ، ولکن عارض المهیّة یمکن دخله فی تمامیتها ، فإن کان المراد من التمامیة صیرورة الماهیّة نوعا فهو وإن کان صحیحا إلاّ أنّ الکلام هنا فی الدخول فی معنی الملزوم ، کما لا یخفی ، وصیرورة المهیة نوعا وعدمها أجنبی عن مورد الکلام فی المقام .

ثمّ إنّه قد یقال الصحّة فی العبادة تغایر الصحّة فی المعاملة أی _ العقود والإیقاعات _ ، حیث إنّ الصحّة فی المعاملة بمعنی ترتب الأثر علیها خارجا والمعاملة الفاسدة لا یترتب علیها الأثر _ أی الأثر المترقب من تلک المعاملة _ .

ص :106


1- (1) نهایة الدرایة : ج1 ، هامش95 .

ومنها: أنه لابدّ _ علی کلا القولین _ من قدر جامع فی البین، کان هو المسمی بلفظ کذا، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة [1]، وإمکان الإشارة إلیه الشَرح:

ووجه الفرق بین الصحتین هو أنّ الحکم المجعول للمعاملة بنحو القضیة الحقیقیة یکون انحلالیّا یثبت لوجودات تلک المعاملة ، فمعنی قوله سبحانه «أحَلَّ اللّهُ البَیْعَ»(1) ثبوت الحلیة الوضعیة لکلّ ما ینطبق علیه عنوان البیع خارجا ، فالبیوع التی لا تثبت لها تلک الحلیة یعبر عنها بالفاسدة ، وهذا بخلاف التکالیف فإنّ الأمر لا یتعلّق بالوجود الخارجی للمتعلق ، فإنّه یکون من طلب الحاصل بل یتعلّق بالعنوان ومعنی الأمر به طلب صرف وجوده بالمعنی المصدری ، فالمأتی به إذا کان صرف وجوده یکون مسقطا للأمر به فینتزع الصحّة للمأتی به عن مطابقته للعنوان المتعلّق به الأمر بمعنی اشتماله علی تمام ما اعتُبر فی ذلک المتعلق من الأجزاء والقیود .

ولکنّ الظاهر أنّ ترتّب الأثر لیس بمعنی الصحّة حتّی فی المعاملة ، حیث إنّ کلامنا فی الصحّة فی مقام التسمیة ، فیکون المراد من کون الفاظ المعاملات أسامی للصحیحة أو الأعمّ کونها موضوعة لما یکون جامعا لجمیع ما یلاحظ فی إمضائها أو أنّها موضوعة لما یلاحظ فی إمضائها فی الجملة ولو لم تکن جامعة لجمیعها ، ولذا لو سُئِل أحد عن البیع الصحیح ، لأجاب بمقوماته بجمیع قیوده ، وبهذا الاعتبار تتّصف المعاملة بالصحّة قبل تحققها ، نعم لا تکون الصحّة الفعلیة إلاّ إذا حصل ذلک الجامع الملحوظ خارجا بتمام قیوده الملازم لإمضائها ، ولیس کلامنا فی المقام فی الصحّة الفعلیة بل الصحّة فی مقام التسمیة.

[1] الاشتراک اللفظی فی مثل لفظ الصلاة ، بأن یوضع اللفظ لکل ما یطلق علیه

ص :107


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .

بخواصه وآثاره، فإنّ الاشتراک فی الأثر کاشف عن الاشتراک فی جامع واحد، یؤثر الکل فیه بذاک الجامع، فیصح تصویر المسمّی بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهیة عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما.

الشَرح:

الصلاة بوضع مستقل ، أو یوضع لها بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ غیر محتمل ، کما یشهد بذلک خطور المعنی الواحد عند الاطلاق ، مع أنّ الثانی أیضاً یستدعی وجود الجامع ولو بین الأفراد الصحیحة ، والتزم المصنف قدس سره بإمکان وجود الجامع بین الأفراد الصحیحة ، بل التزم بوجود الجامع المزبور لا محالة ، اعتمادا علی قاعدة «الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد» حیث إنّ کلّ ما یطلق علیه الصلاة ویوصف بالصحّة له أثر واحد کما یفصح عن ذلک قوله سبحانه : «إنّ الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(1) ، وقوله علیه السلام _ علی ما ادّعی _ : «الصلاة معراج المؤمن»(2) ، حیث إنّ المؤثّر فی الواحد یکون واحدا ، کما هو مقتضی لزوم السنخیّة بین الشیء وعلّته ، یمکن الإشارة فی مقام الوضع إلی ذلک الجامع ولو بذلک الأثر ، فیوضع له لفظ الصلاة ، أو یستعمل فیه لفظها مجازا ، أو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول .

ثمّ أورد قدس سره علی ذلک ، بأنّ الجامع المزبور لا یمکن أن یکون مرکّبا من الأجزاء والشرائط ، فإنّ کلّ ما یفرض من المرکّب منها ، یمکن أن یکون صحیحا فی حالٍ وفاسدا فی حالٍ آخر ، لما تقدّم من اختلاف الصحیح بحسب الحالات والأشخاص ، وأنّ الصحیح فی حال أو من شخص فاسد فی حال آخر أو من شخص آخر . وکذا لا یمکن أن یکون الجامع المزبور أمرا بسیطا بحیث لا یصدق ذلک

ص :108


1- (1) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
2- (2) روضة المتقین : 2 / 6 ، لم نظفر علی مصدر یدل علی کون هذه الجملة من کلام المعصوم علیه السلام ، لعلّها من کلام المجلسی الأوّل قدس سره ، واللّه العالم .

والإشکال فیه: بأنّ الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکباً، إذ کل ما فرض جامعاً، یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً، لما عرفت، ولا أمراً بسیطاً، لأنّه لا یخلو: إما أن یکون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساویاً له، والأول غیر معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّی إلاّ من قبل الطلب فی متعلقه، مع لزوم الترادف بین لفظة الشَرح:

العنوان البسیط إلاّ علی الأفراد الصحیحة ، فإنّ البسیط إمّا عنوان المطلوب ، أو عنوان ملزوم لعنوان المطلوب ، وأما کون لفظ الصلاة موضوعا لعنوان المطلوب فغیر معقول ؛ لأنّ هذا العنوان یحصل بعد تعلق الطلب بالصلاة ، ویستحیل أن یتعلق الطلب بعنوان یتوقّف علی تعلّق الطلب به ، هذا مع عدم الترادف بین لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وأمّا کون المسمّی عنوان المطلوب أو ملزومه المساوی له فلازمه أن لا تجری البراءة عند الشک فی جزئیة شیء أو قیدیته للصلاة مثلاً ، فإنّ الشکّ فیها لا یکون شکّا فی نفس متعلّق التکلیف ، بل فیما یحصل به ذلک المتعلّق ، والشکّ والإجمال فیما یحصل به المتعلّق مجری قاعدة الاشتغال ، وبهذا یظهر أنّ المسمّی للصلاة علی الصحیحی ، کما لا یمکن أن یکون عنوان المطلوب کذلک لا یمکن أن یکون ملزومه المساوی له ، فإنّه علیه أیضاً لا یمکن أن تجری البراءة فی موارد الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لکون الشکّ فی المحصل للصلاة .

وأجاب عن الإیراد ، بالالتزام بأنّ المسمّی عنوان بسیط ، ملزوم لعنوان المطلوب بعد تعلّق الأمر به ، والمعنی البسیط المنتزع بلحاظ الأثر الواحد یمکن أن ینطبق علی المرکّب بتمام أجزائه وقیوده ، لا أن تکون الأجزاء والقیود محصّلة له کما فی عنوان (حافظ الإنسان من برودة الجوّ) فإنّ عنوان الحافظ ینطبق علی البیت المرکّب من الأجزاء بتمام شرائطه ، انطباق الکلی علی مصداقه ، والإجمال فی أجزاء المرکّب المفروض وشرائطه عین إجمال ذلک العنوان بحسب وجوده ،

ص :109

الصلاة والمطلوب، وعدم جریان البراءة مع الشک فی أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال _ حینئذ _ فی المأمور به فیها، وإنّما الإجمال فیما یتحقق به، وفی مثله لا مجال لها، کما حقق فی محله، مع أنّ المشهور القائلین بالصحیح، قائلون بها فی الشک فیها، وبهذا یشکل لو کان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً _ مدفوع، بأنّ الشَرح:

فیؤخذ عند الشکّ ، بالمقدار المتیقّن من المطلوب ، ویرجع فی المشکوک إلی أصالة البراءة کان المشکوک جزءا أو شرطا وقیدا .

وإنّما لا یؤخذ بالبراءة فیما إذا کان متعلّق الأمر واحدا خارجیّا ، مسببا وجوده عن وجود مرکّب مردّد أمره بین الأقل والأکثر ، کالطهارة من الحدث بناءً علی أنّها حالة للنفس تحصل من الغسل أو الوضوء ، وفی مثل ذلک إذا شکّ فی کون شیء جزءا أو شرطا للوضوء أو الغسل ، فلامورد للبراءة ، بل مقتضی استصحاب بقاء الأمر بالطهارة وقاعدة لزوم إحراز الامتثال بعد إحراز اشتغال الذمة بشیء ، لزوم الاحتیاط .

أقول : یستفاد من کلامه قدس سره من صدره إلی ذیله أُمور :

الأوّل: لزوم الجامع علی کل من القولین ، الصحیحیّ والأعمیّ .

الثانی: إنّ تحقّق الجامع بین الأفراد الصحیحة مقتضی البرهان ، یعنی برهان لزوم السنخیة بین الشیء وعلّته ، ویکون ذلک الجامع المستکشف بالبرهان هو الموضوع له علی الصحیحی .

الثالث: إنّ الجامع المستکشف بمقتضی البرهان بسیط یتّحد مع الأجزاء والشرائط خارجا ، وملزوم لعنوان المطلوب ولو بعد تعلّق الأمر بذلک الجامع .

الرابع: إنّه من تعلّق الأمر بذلک الجامع البسیط عنوانا ، لا یلزم الاحتیاط فی موارد الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته وإنّما یجب الاحتیاط فیما إذا کان للعنوان البسیط وجود خارجا مسبّب عن المرکّب أو تردّد أمر المرکّب بین الأقل والأکثر.

ص :110

الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکبات المختلفة زیادة ونقیصة. بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو اتحاد، وفی مثله تجری البراءة، و إنما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً، مسبباً عن مرکب مردد الشَرح:

أمّا الأمر الأوّل: فقد ناقش فیه المحقّق النائینی قدس سره ، وذکر ما حاصله أنّ للصلاة مراتب تکون أعلاها صلاة المختار ، وأدناها صلاة الغرقی ، وبینهما مراتب لها عرض عریض ، فیمکن القول بأنّ الصلاة وضعت للمرتبة الأعلی أوّلاً وهی الصلاة الاختیاریّة من جمیع الجهات ، ثمّ إنّها استُعملت وطبّقت علی سائر المراتب بالادّعاء والتنزیل، أو من باب الاکتفاء بها فی سقوط التکلیف، من غیر أن تکون فردا تنزیلیا، کما فی صلاة الغرقی ، فإنّه یمکن أن لا تکون فردا تنزیلیّا، بل یکتفی بها فی مقام الامتثال، نظیر ما ذکره الشیخ قدس سره فی نسیان بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ممّا لا یدخل فیالمستثنی من حدیث «لا تعاد»، حیث التزم بأنّ المأتی به خارجا المنسیّ بعض أجزائه أو شرائطه لا یعمّه متعلّق الأمر، ولکن مع ذلک یسقط به التکلیف بالصلاة.

نعم بالإضافة إلی صلاة المسافر والحاضر لکونهما فی مرتبة واحدة وعرض واحد ، لابدّ من فرض جامع بینهما .

والالتزام بأنّ لفظ الصلاة موضوع للمرتبة العلیا ویستعمل فیها وتطبّق تلک المرتبة علی سائرها بالادّعاء والتنزیل ، أو من باب الاکتفاء ، قریبٌ جدّا . ویؤیّده جملة من الاستعمالات المتعارفة ، حیث یوضع اللفظ ابتداءا لما اختُرع أوّلاً ، ثمّ یستعمل ذلک اللفظ فی الناقص والمشابه له ، وعلی ما ذکر ینتفی النزاع بین الصحیحی والأعمّی من أساسه ؛ لأنّ ثمرة الخلاف کما یأتی تظهر فی التمسّک بإطلاق خطابات العبادة ، فإنّه لا یجوز التمسک به عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لمتعلق الأمر علی الصحیحی لإجمال المتعلّق عندنا ، ویتمسّک بإطلاقه

ص :111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی الأعمّی مع عدم وروده بنحو الإهمال ، وتنتفی هذه الثمرة بناءً علی وضع الصلاة للمرتبة العلیا والالتزام بالتنزیل فی سائر المراتب ، ووجه الانتفاء عدم إحراز التنزیل فی الاستعمال الواقع فی الخطاب بالإضافة إلی الفاقد لیؤخذ بالاطلاق(1).

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ الصلاة الاختیاریة من جمیع الجهات لا تنحصر بالقصر والتمام ، بل الصلاة الیومیة وصلاة الآیات والجمعة والعیدین ، وغیرها من الصلوات حتّی المندوبة منها کلّها اختیاریّة ، ولا تکون بعضها فی طول الأُخری ، فلابدّ من فرض الجامع بینها ، هذا أوّلاً .

وثانیا : إنّ الوجدان شاهد صدقٍ بأنّ إطلاق الصلاة وانطباق معناها علی المراتب علی حدٍّ سواء فی عرف المتشرّعة ، وکما أنّ الصلاة مع الطهارة المائیّة صلاة ، کذلک مع الطهارة الترابیّة ، ومن هنا ینساق إلی الأذهان من مثل قوله سبحانه «إنّ الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) ومن قوله صلی الله علیه و آله : «بُنی الإسلام علی خمسٍ: علی الصلاة...» الحدیث(3) ، معنی یعمّ جمیع أفرادها ، وعلیه فاللازم تصویر الجامع بین جمیع المراتب، ولو کانت بعضها فی طول الاخری فی مقام تعلّق الأمر بها، وقد تقدّم منه قدس سره الالتزام بأنّ التبادر الفعلی کاشف عن کیفیّة وضع الشارع واستعماله فی ذلک الزمان.

وثالثا : ما ذکره قدس سره من انتفاء ثمرة الخلاف فیما إذا شکّ فی اعتبار شیء جزءا أو

ص :112


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 36 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
3- (3) الوسائل : ج1 ، الباب1 من أبواب مقدّمات العبادات .

بین الأقل والأکثر، کالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فیما إذا شک فی أجزائهما، هذا علی الصحیح.

الشَرح:

شرطا ، فهو فیما إذا شکّ فی اعتبار أحدهما فی سائر المراتب ، وأمّا إذا شکّ فی اعتبار أحدهما فی المرتبة العلیا التی تعلّق بها الأمر ، فعلی الصحیحیّ لایمکن التمسّک بإطلاق الخطابات ؛ لإجمال تلک المرتبة وعلی الأعمّی یصحّ مع عدم إهمال الخطاب .

وأمّا الأمر الثانی: فیقع الکلام فیه من جهتین ؛ الأُولی : هل للصلوات الصحیحة أثرٌ واحد یحدث بحصول کلٍّ منها ؟ والثانیة : علی تقدیر الأثر الواحد لها ، فهل یکشف ذلک الأثر عن جامعٍ ذاتیٍّ بین الصلاة الصحیحة ، بحیث یکون التأثیر لذلک الجامع لقاعدة «عدم إمکان صدور الواحد إلاّ عن واحد» أم لا ؟

أمّا الجهة الأُولی ، فتظهر حقیقة الحال فیها بالتکلّم فی معنی قوله سبحانه «الصَّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(1) فنقول : لیس المراد من النهی النهی التشریعی قطعا ، فإنّ الناهی عن الفحشاء والمنکر هو الشارع سبحانه ، یقول اللّه عزّ وجلّ : «إنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ وَإیْتاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) .

وقد یقال : إنّ إسناد النهی عن الفحشاء والمنکر باعتبار أنّ الصلاة المتعلّق بها الأمر مقیّدة بقیود _ من عدم السوء والمنکر _ ، حیث إنّها مشروطة بإباحة المکان والثوب والساتر وعدم لبس الذهب للرجال وغیر ذلک، فیکون نهی الصلاة عن السوء بمعنی أخذ عدم ذلک السوء فیها ، فلا یکون عدم الفحشاء والمنکر أثرا خارجیّا مترتبا علی الصلاة ترتّب المعلول علی علّته ، لتکشف وحدته عن وحدة المؤثّر .

ص :113


1- (1) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
2- (2) سورة النحل : الآیة 90 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ إرادة ذلک من نهی الصلاة عن الفحشاء والمنکر لا یناسب تعظیم الصلاة وحثّ المؤمنین علی المواظبة علیها لکی لا تضیع ولو فی وقتها ، بل الظاهر أنّ المراد من النهی ، المنع الخارجی المترتّب علی المواظبة علیها والإتیان بما هو حقّها ، فإنّ الإتیان بها کذلک یقتضی أن لا ینقدح للمؤمن داعٍ نفسانی إلی السوء والمنکر ، نظیر إسناد الأمر بالسوء والفحشاء إلی الشیطان فی مثل قوله سبحانه : «الشَّیْطانُ یَعِدُکُمُ الْفَقْرَ وَیَأْمُرُکُمْ بِالْفَحْشاءِ»(1) ، و«إنَّما یَأْمُرُکُمْ بِالْسُّوْءِ وَالْفَحْشاءِ وَأنْ تَقُولُوا عَلَی اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»(2) .

وبتعبیرٍ آخر: ترتّب الامتناع عن السوء علی الصلاة إنّما هو فی مرحلة امتثال الأمر بها ، حیث إنّ العبد إذا امتثل الأمر بها ، بالتدبّر بالقراءة والأدعیة والأذکار المشروعة فی أفعالها، والتعمّق فی الخشوع بها الوارد فی الروایات بأنّ ذلک روحها تحصل للنفس حالة ترتقی بها عن الانحطاط المناسب للشرور والقبائح، وبوصولها إلی بعض مراتبها الکمالیة، لا یحصل لها الداعی إلی ارتکاب الفحشاء والمنکرات الشرعیة ویختلف هذا باختلاف مراتب الارتقاء الحاصل بمراتب الامتثال فی الصلاة.

والحاصل إنّ منع الصلاة عن الفحشاء والمنکر ، إنّما هو لارتقاء النفس بها فی بعض مراتب الامتثال ، الملازم لعدم میل النفس إلی الشرور والقبائح ، أو لعدم تمامیّة الداعی له إلیها ، فیکون للصلوات الصحیحة جهة جامعة فی مقام الامتثال ، وهی کون محتوی الأفعال والأذکار والقراءة والأدعیة المشروعة فیها موجبة لتذکّر

ص :114


1- (1) سورة البقرة : الآیة 268 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 169 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

العبد ربّ العالمین والتوجّه إلی عزّه وذلّ نفسه ، وتمتاز الصلاة بذلک عن سائر العبادات ، حیث لا یکون لها هذه المرتبة من التذکّر والخشوع ؛ ولذا عبّر عن الصلاة بالذکر فی قوله سبحانه : «فَاسْعَوا إلی ذِکْرِ اللّهِ»(1) .

وأمّا الجهة الثانیة: فمن الظاهر أنّ ترتّب هذا الأثر علی الصلاة الصحیحة فی مقام الامتثال لا یلازم الجامع لها بین الأفراد الصحیحة فی مقام التسمیة بالمعنی المتقدّم ، فإنّ الناقص أیضاً لو کان مأموراً به وکان امتثال أمره ببعض مراتب الامتثال المراعی فیها الخشوع والتذکّر بمحتواها ، لحصل لها هذا المنع أیضاً .

وبالجملة فلیس المترتّب علی الصلاة فی مقام التسمیة إلاّ شأنیّتها للخشوع والتذکّر بها ، وهذا الأثر یشترک فیه فی مقام التسمیة التامّة والناقصة ، ولا تترتّب الشأنیّة علی خصوص التامّ ، کما ذکرنا .

وأما ما ذکر من کون «الصلاة معراج المؤمن» فلم یحرز وروده فی خطاب الشارع لیقال إنّ ترتّب العروج علی الصلاة الصحیحة یکشف عن جامع بینها ، وعلی تقدیر وروده أیضاً یجیء فیه ما تقدّم فی قوله سبحانه : «الصَّلاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) ، حیث إنّ عروج المؤمن عبارة أُخری عن ارتقاء نفسه إلی بعض المراتب الکمالیّة ، کما لا یخفی .

وإن شئت البرهان علی أن_ّه لا یمکن أن یکون فی البین جامعٌ ذاتی بین الأفراد الصحیحة ، فنقول : الأثر الوارد فی الکتاب المجید أو غیره یترتّب علی ما یحصل

ص :115


1- (1) سورة الجمعة : الآیة 9 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

خارجا ویوصف بالصحّة ، ومن الظاهر أنّ الموجود خارجا مرکب اعتباریّ أوّله التکبیر وآخره التسلیم ، فیعتبر فیه أفعال وأقوال من الأذکار والقراءة وسائر القیود المعبّر عنها بالشرائط ، ومن البدیهی أنّ القراءة والذکر من مقولةٍ ، والرکوع والسجود والقیام من مقولةٍ أُخری ، والطهارة من الحدث والخبث من مقولة ثالثة ، فالأثر المترتّب یترتّب علی المجموع ، ولا یعقل جامع ذاتّی بین مجموع هذه المقولات المتباینة، وإذا لم یمکن الجامع الذاتیّ بین أجزاء صلاة واحدة ، بحیث یکون هو المؤثّر ، فکیف یمکن الجامع الذاتیّ بین الصلوات المختلفة ؟ بل الجامع علی تقدیره یکون اعتباریّا ولو لوحظ خصوصیّة کلٍّ من الصلاتین ، فلا یمکن أخذ الجامع الترکیبی أصلاً فإنّ إحدی الصلاتین مشروطة بالرکعة الأُخری مثلاً والأُخری مشروطة بعدم تلک الرکعة کصلاة الصبح وصلاة المغرب ، وأخذ الجامع فرع إلغاء الخصوصیتین ومع إلغائهما یکون ذلک الجامع منطبقاً علی الصحیح والفاسد ، لما تقدّم من أنّ الصحیح فی حالٍ ، فاسد فی حالٍ آخر .

وممّا ذکرناه یظهر وجه المناقشة فیما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام ، حیث قال : إنّ تصویر الجامع فی المقام علی الصحیحیّ والأعمیّ علی نهجٍ واحد ، وذلک فإنّ الماهیة مع وجودها الحقیقی (الذی حیثیة ذاته طرد العدم) متعاکسان فی الاطلاق والسعة ؛ لأنّ الماهیّة سعتها وإطلاقها للضعف والإبهام ، وسعة الوجود الحقیقیّ لفرط الفعلیّة ، ولذا کلّما کان الضعف والإبهام فی المعنی أکثر ، کان الإطلاق والسعة والشمول فیه أکثر ، وکلمّا کان الوجود أشدّ وأقوی ، کان الإطلاق والسعة أعظم وأتمّ ، فإن کانت الماهیّة من الماهیّات الحقیقیة ، کان إبهامها وضعفها بلحاظ ذالطوارئ والعوارض ، مع حفظ نفسها کالانسان ، فإنّه لا إبهام فیه من حیث الجنس

ص :116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والفصل ، وإنّما الإبهام فیه من حیث الشکل واللون وشدّة القوی وضعفها ، وسائر عوارض النفس والبدن حتّی عوارض الوجود والماهیّة ، وإن کانت الماهیة من الأُمور المؤتلفة من عدّة أُمور بحیث تنقص وتزید کمّا وکیفا ، فمقتضی الوضع لها بحیث یعمّها مع تفرّقها وشتاتها أن تلاحظ علی نحوٍ مبهم غایة الإبهام بمعرفیّة بعض العناوین غیر المنفکّة عنها ، وکما أنّ الخمر مثلاً مائع مبهم من حیث اتّخاذه من العنب والتمر وغیرهما ، ومن حیث اللون والطعم والریح ومن حیث مرتبة الإسکار والمقدار ، ولذا لا یمکن وضعه إلاّ لمائع خاصّ ، بمعرفیّة المسکریّة من دون لحاظ الخصوصیّة تفصیلاً ، بحیث إذا أراد المتصوّر تصوّره لم یوجد فی ذهنه إلاّ مائع مبهم من جمیع الجهات إلاّ جهة مائعیّته ، بمعرفیّة المسکریّة من دون لحاظ شیء آخر ، کذلک لفظ الصلاة مع الاختلاف الشدید بین مراتبها کمّاً وکیفا ، فلابدّ من أن یوضع لفظه لعمل یکون معرّفه النهی عن الفحشاء أو غیره من المعرّفات ، بل العرف لا ینتقل من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلی سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حیث کونه مطلوبا فی الأوقات الخاصّة ، وهذا لا یدخل فی النکرة ، فإنّه لم یؤخذ فیه کما ذکرنا خصوصیّة البدلیة کما أُخذت فی النکرة ، والحاصل أنّ الإبهام فی معنی الصلاة غیر التردید المأخوذ فی معنی النکرة ، والجامع بالنحو الذی ذکرناه لا مناص منه بعد الجزم بحصول الوضع للمعنی الشرعی ولو تعیّنا وعدم إمکان الالتزام بجامع ذاتیّ وعدم صحّة الالتزام بکون الموضوع له الجامع العنوانیّ أو الاشتراک اللفظی فی مثل الصلاة.

وقال قدس سره : قد التزم بنظیر ما ذکرنا بعض أکابر فنّ المعقول فی تصحیح التشکیک فی الماهیة ، جوابا عمّا قیل بعدم إمکان شمول طبیعة واحدة لتمام مراتب الزائدة

ص :117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والناقصة والمتوسطة ، مع الإغماض عن وجودها ، حیث قال : الجمیع مشترک فی سنخ واحد مبهم غایة الإبهام ، بالقیاس إلی تمام نفس الحقیقة ونقصها زائدا عن الإبهام الناشئ فیه عن اختلاف الأفراد بحسب هویّاتها . وقال : إنّ ما ذکرناه فی المرکّب الاعتباری أولی ممّا ذکره فی الحقائق المتأصّلة ، کما لا یخفی .

أقول : لعلّ نظره فی الأولویة إلی أنّ الحقائق المتأصّلة لا یمکن فیها الإهمال بالإضافة إلی نفس الماهیة ، فالماهیّة لابدّ من کونها متعیّنة ، بخلاف المرکّبات الاعتباریة ، فإنّه یمکن فرض الإبهام فی معانیها(1) .

ووجه ظهور المناقشة : أنّ ما قرّره فی إبهام المعنی ، لا یخرج المعنی عن الجامع العنوانی البسیط (الذی اعترف قدس سره فی کلامه بأنّه لا یمکن أن یکون معنی الصلاة) حیث لو تبادر إلی أذهان المتشرّعة ذلک الجامع ولو بمعرفیّة النهی عن الفحشاء ، أو الوجوب فی أوقات خاصّة مع فرض إبهامه من سائر الجهات ، فإن کان المتبادر عنوان العمل المبهم من جمیع الجهات المعلومة ، بمعرفیّة النهی عن الفحشاء أو التکلیف به فی أوقاتٍ خاصّة ، فمن الظاهر أنّ عنوان العمل ، جامع عنوانی وإن کان المتبادر واقع العمل ومصادیقه ، المعرّفة بالنهی عن الفحشاء والمنکر ، أو بالتکلیف بها فی أوقاتٍ خاصّة ، فمن الظاهر أنّ المصادیق مختلفة متعدّدة فیکون وضع اللفظ لها من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ .

أضف إلی ذلک ، صدق الصلاة وشمول معناها للصلاة المندوبة التی لیس لها وقت ، وتبادر المعنی منها إلی أذهان المتشرّعة من غیر أن یعرفوا علامیّة النهی عن

ص :118


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 101 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الفحشاء ، وما هو المراد منه أصلاً .

وما قیل من أنّ لفظ الصلاة لیس موضوعا لجامعٍ ذاتیّ مقولیّ ، ولا لجامعٍ عنوانیّ ، وإنّما هو إسم لمرتبة من الوجود ، وتلک المرتبة سیّالة فی جمیع الصلاة الصحیحة(1) ، لا یمکن المساع_دة علیه أیضاً ؛ إذ لو أُرید أنّ الصلاة إسم للأجزاء المشروطة والمقیّدة المتحقّقة ، فمن الظاهر أنّ ما فی الخارج وجودات متعدّدة تندرج فی مقولاتٍ مختلفة ، تجمعها وحدة اعتباریّة ، ولیست مرتبة من الوجود ، وإن أُرید أنّ مع الوجودات المتعدّدة وجودا آخر یحصل بتلک المتعدّدات وتکون وحدتها بذلک الوجود ، نظیر مرتبة من قوّة جرّ الثقیل الحاصلة من العشرة رجال أو الخمس عشرة نسوة ، أو رجلین ، أو غیر ذلک .

وبتعبیرٍ آخر : الملاک الملحوظ یحصل من کلّ من الصلاة الصحیحة المختلفة بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال ، فمن الظاهر أنّ الملاک الملحوظ الواحد علی تقدیر وجوده غیر محرز عند العرف فلا یمکن أن یکون نفس ذلک الملاک موضوعا له ، کما لا یمکن أن یکون الموضوع له ، ما هو دخیل فی حصول ذلک الملاک ، فإنّه إن أُرید ممّا هو الدخیل فیه عنوانه ، فیکون جامعا عنوانیا ، ولا یتبادر إلی الأذهان من لفظ الصلاة عنوان «الدخیل فیما هو ملاک عند الشارع» ، وإن أُرید معنونه ، فقد تقدّم أنّ المعنون بذلک العنوان متعدّد ومختلف بحسب الحالات والأشخاص ، فیکون وضع اللفظ للمعنون من وضع العامّ والموضوع له الخاصّ .

وبالجملة ، لا یتصوّر معنی لا یکون من الجامع الذاتیّ ولا من الجامع العنوانیّ

ص :119


1- (1) نهایة الأفکار : 1 / 82 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بحیث یکون معنیً واحدا بسیطا ولا یتّصف بأحدهما ، وقد ذکرنا عدم معقولیة الجامع الذاتیّ بین الأفراد الصحیحة ، فیتعیّن الجامع العنوانیّ البسیط ، وذکرنا أنّ کون الموضوع للفظ الصلاة مثلاً هو العنوان البسیط خلاف المعنی المتبادر عرفا ، حیث لا یتبادر منها إلاّ المشتمل علی الأعمال الخاصّة .

وقد تحصل ممّا ذکرنا ، أنّ ما یمکن للقائل بوضع اللفظ للصحیح بحیث یساعده فهم المتشرّعة أن یدّعیه ، هو أنّ الشارع لاحظ التکبیرة والقراءة والرکوع والسجود والتشهّد والتسلیمة ، وبنی علی أنّ کلّ عمل یشرّعه فیما بعد ویشتمل علی جمیع الأعمال المزبورة أو معظمها فنفس العمل المزبور بتشریعه هو معنی لفظ الصلاة مثلاً ، سواء کان تشریعه بعد ذلک بالأمر الوجوبی أو الندبی ، فیکون التشریع شرطا لفعلیّة وضع اللفظ لذلک العمل ، ویکون فی الحقیقة لفظ الصلاة موضوعا بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإن کان العمل المؤلّف منها مشروعا فی حال أو فی حقّ شخصٍ فهو صلاة فی ذلک الحال أو من ذلک الشخص ، لا یکون صلاة فی حالٍ آخر ، أو فی حقّ شخصٍ آخر لعدم المشروعیة فیهما . ولا ینافی ذلک تعلّق الأمر فی خطاب تشریعه به بعنوان الصلاة ، فإنّ المفروض اتّحاد زمان التشریع مع الإطلاق علی ما تقدّم .

ص :120

وأما علی الأعم، فتصویر الجامع فی غایة الإشکال، فما قیل فی تصویره أو یقال: وجوه:

أحدها: أن یکون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، کالأرکان [1] فی الصلاة الشَرح:

[1] ذکر هذا الوجه صاحب القوانین قدس سره فی تصحیح الجامع علی الأعمیّ وأنّ لفظ «الصلاة» مثلاً موضوع للأرکان(1) .

وأورد علیه المصنّف قدس سره بوجهین :

الأوّل: أنّ لفظ الصلاة لو کان موضوعا لها بحیث کان کلّ من الأرکان مقوّما لمعنی الصلاة ، فلازمه دوران صدق الصلاة مدار تحقّق الأرکان ، مع أنّ الوجدان شاهد علی خلافه ، فإنّ الصلاة تصدق مع الإخلال ببعضها کالصلاة قبل الوقت ، ومع نسیان الرکوع فیها ، ولا تصدق علی الأرکان مع فقد سائر الأجزاء والشرائط .

الثانی: أنّه یلزم من وضعها للأرکان کون استعمالها فی المشتملة علی تمام ما یعتبر فی المأمور به ، مجازیا ومن قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکلّ ، لا من باب إطلاق الکلّی وإرادة الفرد ، ولا یلتزم القائل بالأعمّ بذلک .

لا یقال : لو أخذت الأرکان لا بشرط ، بالإضافة إلی بقیة الأجزاء والشرائط ، یکون إطلاق اللفظ الموضوع للمعنی لا بشرط علی المشتملة لسائر الأجزاء والشرائط من قبیل إطلاق الکلّی علی الفرد .

فإنّه یقال : إنمّا یتمّ ذلک فیما کان المأخوذ لا بشرط متّحدا مع ما فی الخارج وجودا کاتّحاد الحیوان مع الإنسان والإنسان مع أشخاصه ، بأن یکون الاختلاف بین المعنی لا بشرط ، والمشروط ، فی العنوان والمفهوم ، وأمّا إذا کان المعنی المشروط

ص :121


1- (1) قوانین الأُصول : 1 / 43 و 44 .

مثلاً، وکان الزائد علیها معتبراً فی المأمور به لا فی المسمّی.

وفیه ما لا یخفی، فإنّ التسمیة بها حقیقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأرکان، بل وعدم الصدق علیها مع الإخلال بسائر الشَرح:

بشیء مجموع الوجودات والمأخوذ لا بشرط ، بعض تلک الوجودات ، یکون إطلاق اللفظ الموضوع للثانی علی الأوّل من قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکلّ ، ولعله قدس سره أشار إلی ذلک بالأمر بالفهم .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا یمکن للأعمی أن یلتزم بأنّ تامّ الأجزاء والشرائط ، الشامل للأرکان وغیرها صلاة والناقص یعنی المشتمل علی الأرکان فقط أیضاً صلاة ، فإنّ لازم ذلک کون غیر الأرکان علی تقدیر وجوده داخلاً فی حقیقة الشیء، وعلی تقدیر عدمه خارجا عنها ، ولا یمکن ذلک فی جزء الحقیقة ، فإنّ الشیء إذا کان مقوّما للحقیقة یکون دخیلاً فیها مطلقاً ، وإذا لم یکن مقوّما لا یکون دخیلاً فیها أصلاً(1) .

وما قیل فی تصحیح ذلک بالتشکیک وأنه کما یحمل الشیء علی مرتبته الأخیرة وتکون الشدّة فی تلک المرتبة داخلة فی الحقیقة وعلی المرتبة الضعیفة الفاقدة للشدّة وتکون الشدّة فی هذه المرتبة خارجة عن الحقیقة ، کذلک الصلاة بالإضافة إلی التامّ والناقص(2) ، لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ التشکیک لا یتحقّق إلاّ فی موردین :

أحدهما: أن تکون الماهیّة من البسائط ، بأن یکون ما به الامتیاز عن سائر

ص :122


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 42 .
2- (2) نهایة الأُصول : ص40 و 50 .

الأجزاء والشرائط عند الأعمیّ، مع أنّه یلزم أن یکون الاستعمال فیما هو المأمور به _ بأجزائه وشرائطه _ مجازاً عنده، وکان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکل، لا من باب إطلاق الکلّی علی الفرد والجزئی، کما هو واضح، ولا یلتزم به القائل بالأعم، فافهم.

الشَرح:

مراتبها عین ما به الاشتراک فیها کالسواد والبیاض .

وثانیهما: أن یکون التشکیک فی حقیقة الوجود وإدراک هذا النحو من التشکیک أمرٌ صعب فوق إدراکنا ، وعلی تقدیره ، فإنّ حقیقة الوجود بنفسه أشدّ بساطة من الماهیّات البسیطة وما نحن فیه خارج عن الموردین ، فإنّ الصلاة فی حقیقتها مرکّبة من الأجزاء التی لها وجودات مستقلّة مقیّدة بقیود ودخول بعض تلک الوجودات فی حقیقتها تارةً ، وخروجها عنها أُخری ، غیر ممکن .

ثمّ أورد قدس سره علی ما فی القوانین بوجه ثالث ، وهو أنّ الأرکان تختلف بحسب المکلّف وحالاته ، فإنّ الرکوع له مراتب تبدء من الانحناء عن قیام بحیث یتمکّن من إیصال الیدین إلی الرکبتین بقصد الرکوع ، وتنتهی إلی القصد المجرد ، فلابدّ من تصویر الجامع بین مراتبه ، فیعود المحذور المتقدّم من عدم الجامع بین المراتب ، فإنّه کیف یتصوّر الجامع بین الأنحناء المفروض فی المرتبة الأُولی ، وبین القصد المجرّد فی المرتبة الأخیرة ، مع أنّهما داخلتان تحت مقولتین .

أقول : حاصل ما تقدّم أنّ الالتزام بکون مسمّی لفظ الصلاة هو الأرکان ، فیه محاذیر ثلاثة :

الأوّل : عدم دوران صدق الصلاة مدار الأرکان .

والثانی : لزوم العنایة فی إطلاق الصلاة علی التامّ من حیث الأجزاء والشرائط .

ص :123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والثالث : عدم الجامع بین مراتب الأرکان لیؤخذ ذلک الجامع فی المسمّی .

ولکن هذه المحاذیر إنّما تتّجه لو التزمنا بأنّ الأجزاء المسمّاة بالصلاة محدودة بالأرکان فی ناحیتی القلّة والکثرة ، وأمّا مع الالتزام بعدم کونها محدودة فی ناحیة الکثرة فلا یرد شیء من المحاذیر ، والوجه فی ذلک ما تقدّم من أنّ الصلاة مرکّب اعتباریّ تکون وحدتها کترکیبها بالاعتبار ، ولیست من المرکّبات الحقیقیة کالنوع المرکّب من الجنس والفصل عقلاً ، ومن المادة والصورة خارجا ، لیقال إنّه لا یمکن فی المرکّب الحقیقی التردید فی أجزائه العقلیة والخارجیة بأن یکون شیء فصلاً للنوع فی حال دون حال ، أو صورة له فی زمان دون زمان ، وهذا بخلاف المرکّب الاعتباریّ الذی یکون لکلٍّ من أجزائه وجود مستقلّ خارجا ، وتکون وحدتها برعایة الجهة الخارجة عن الأجزاء ، فإنّ أجزاء هذا المرکّب قلّةً وکثرةً وتعیینا وتخییرا بید معتبره ، فإنّه قد یعتبر الحدّ لأجزائه فی ناحیة قلّتها فقط ، ویأخذه فی ناحیة کثرتها لا بشرط بالإضافة إلی أُمور ، مثل الکلام عند النحویین فإنّ المعتبَر عندهم أن لایکون أجزاء الکلام أقلّ من الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر ، وأمّا فی طرف الکثرة فأخذوه لا بشرط بالإضافة إلی الملابسات لکلّ منهما ، فیصدق الکلام علی قول القائل (ضرب زید) وکذا علی قوله ثانیاً (ضرب زید عمروا) وعلی قوله ثالثاً (ضرب زید عمروا یوم الجمعة) وعلی قوله رابعاً (ضرب زید عمروا یوم الجمعة فی المسجد) إلی غیر ذلک ، فإنّه ما لم یحصل مصداق آخر للکلام بالتکلّم بفعل وفاعل آخَرَین أو مبتدأ وخبر کذلک ، یصدق الکلام علی الفعل والفاعل المزبورین بجمیع ملابساتهما ، ولأن یطمئن قلبک لاحظ صیغ الجمع ، فإنّه اعتبر فی الموضوع له فیها أن لا یکون أقلّ من ثلاثة ، ولم یعتبر حد فی ناحیة الزیادة ، فإذا قال المخبر : (جائنی

ص :124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علماء) وأراد الإخبار بمجیء من جائه من العلماء من عشرین أو أقلّ أو أکثر فلا یکون ذلک من استعمال صیغة الجمع فی غیر الموضوع له .

وعلی ذلک فیمکن أن یکون لفظ (الصلاة) موضوعا لعدّة أجزاء تکون فی ناحیة قلّتها محدودة بها ، وتؤخذ فی ناحیة کثرتها لا بشرط ، نظیر المرکّبات الاعتباریّة التی أشرنا إلیها ، فیکون إطلاق الصلاة علی التامّ والناقص علی حدٍّ سواء من غیر أن یکون فی البین مجاز ، وهذه المرکّبات تمتاز عن المرکّبات الحقیقیة بأنّه لا یمکن الإبهام والتردّد فی المرکّب الحقیقیّ بحسب أجزائه فإنّ الجنس والفصل أو الهیولی والصورة لا یکون شیء منها مبهما أو مردّدا ، غایة الأمر یمکن کونه مجهولاً لنا وله واقع معیّن بخلاف المرکّبات الاعتباریة فإنّه یمکن أن یکون الجزء مبهما لا یکون له واقع معیّن أصلاً ، کما لو أخذ أحد الأشیاء لا بعینه جزءا ، ولا یخفی أنّ تبادل المسمّی بهذا النحو ممکن بل واقع .

والحاصل أنّه یمکن للشارع لحاظ مراتب الرکوع والسجود وغیرهما من الأرکان ، فیأخذ فی المسمّی إحدی تلک المراتب لا بعینها وعدم إمکان الجامع الذاتی بین المراتب لا یضرّ بما ذکر ، فلا یکون ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره من اختلاف المراتب فی الأرکان موجبا للمحذور فی التسمیة ، کما لا یرد الإشکال بلزوم محذور المجاز فی الاطلاق علی التامّ .

نعم ربّما یناقش فی کلام صاحب القوانین قدس سره بعدم دوران صحّة الإطلاق مدار الأرکان ، وهذه المناقشة علی تقدیر صحّتها تدفع بتصویر الجامع بمعظم الأجزاء ، فإنّه لا فرق بینه وبین ما ذکره صاحب القوانین قدس سره إلاّ فی تعیین الحدّ الأقل فإنّه علی

ص :125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ما ذکره یکون الأرکان ، وعلی الوجه الثانی یکون معظم الأجزاء .

وربّما یقال : المستفاد من الروایات کون المأخوذ فی الصلاة فی ناحیة القلّة هو الأرکان ، وأنّه کیف لا یصدق الصلاة علیها ، فإنّها ربّما تکون الصلاة معها صحیحة فضلاً عن صدق إسم الصلاة ، کما إذا کبّر لصلاة الوتر ونسی القراءة فیها ورکع ثمّ سجد ونسی السجدة الثانیة وتشهد وسلّم وانصرف ، أو انصرف قبل التشهّد والتسلیمة نسیانا ، وفی صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث رکوع ، وثلث سجود»(1) .

نعم لابدّ من رفع الید عن إطلاقها وحملها علی کون المراد بالأثلاث أثلاثها بعد الدخول فیها ، بما دلّ علی کون تکبیرة الإحرام رکنا وأنّه لا یتحقّق الدخول فیها بترکها ولو نسیانا ، ولعل عدم ذکر التکبیرة فی حدیث «لا تعاد» باعتبار أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بالدخول فیها بالتکبیرة وأنّ الحدیث ناظر إلی بیان حکم الخلل فیما یعتبر فی الصلاة بعد الدخول فیها . وأیضاً المراد بالتکبیر ما یکون بقصد الدخول فی الصلاة لا مطلق التکبیر ، وبالرکوع الانحناء الخاصّ المعتبر وقوعه قبل السجود ، کما أنّ المراد بالسجود الواقع بعد الرکوع ، وبهذا یدخل الترتیب فی المسمّی .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ التحدید الوارد فی الروایات تحدید للصلاة فی مقام تعلّق الأمر بها ، لا فی مقام التسمیة ، وقد ورد فی حدیث «لا تعاد»(2) ذکر الوقت فی المستثنی، مع أنّه غیر داخل فی المسمّی قطعا؛ لعدم اعتبار الوقت فی

ص :126


1- (1) الوسائل : ج4 ، باب28 من أبواب السجود ، الحدیث2 .
2- (2) الوسائل : ج4 ، باب28 من أبواب السجود ، الحدیث1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بعض الصلوات کصلاة القضاء، وبعض المندوبة، کالهدیة للموتی والصلاة الابتدائیّة المندوبة.

ولا یمکن استفادة المسمّی بالصلاة من الروایات المشار إلیها لعدم اعتبار الظهور بعد العلم بالمراد ، والشکّ فی کیفیة الإرادة مع اختلاف الصلوات المتعلق بها الأمر ، بالإضافة إلی الأوقات والموجبات وحالات المکلّفین ، وکلامنا فی المقام علی الأعمیّ فی الجامع بینها المأخوذ محدودا فی ناحیة الأقلّ فی المسمّی ، وبعد ما نری بالوجدان صدق الصلاة علی فاقد بعض الأرکان کالصلاة مع نسیان الطهارة ، کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سُئِل عن رجل صلّی بغیر طهور ، أو نسی صلوات لم یصلِّها ، أو نام عنها ؟ فقال علیه السلام : «یقضیها إذا ذکرها فی أیّ ساعة ذکرها من لیلٍ أو نهار» الحدیث(1) .

وکذا إطلاقه علی الصلاة قبل الوقت ، وإلی غیر القبلة أو مع نسیان الرکوع حتّی فی کل من رکعتی الفجر إلی غیر ذلک ، وهذا الصدق والإطلاق لم ینشأ فی الأزمنة المتأخّرة عن زمان الشارع ، بل نشأ وصدر من الشارع فی ذلک الزمان ، فلا سبیل إلاّ إلی الالتزام بأنّ المسمّی هو معظم الأجزاء مع قیوده فی الجملة ، علی ما ذکر من عدم التحدید فی ناحیة الکثرة وأنّ المعظم قد أخذ فی ناحیة الکثرة لا بشرط .

ولیس المراد من لا بشرط أنّ وجود الأجزاء الأُخری خارجاً لا تضرّ بصدق الصلاة علی المعظم ، کعدم قدح وجود حیوان آخر مع الإنسان فی صدق الإنسان علی ذلک الإنسان ، لیقال إنّ إرادة المجموع من الإنسان وغیره من لفظ الإنسان

ص :127


1- (1) الوسائل : ج5 ، باب2 من أبواب قضاء الصلوات ، الحدیث3 .

ثانیها: أن تکون موضوعة لمعظم الأجزاء التی تدور مدارها التسمیة عرفاً، فصدق الإسم کذلک یکشف عن وجود المسمی، وعدم صدقه عن عدمه.

وفیه _ مضافاً إلی ما أورد علی الأوّل أخیراً [1] _ أنه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمی، فکان شیء واحد داخلاً فیه تارة، وخارجاً عنه أخری، بل مردداً بین الشَرح:

تجوّز ، کما أنّه لیس المراد من لا بشرط ، کون استعمال لفظ الصلاة دائماً فی معظم الأجزاء، حتّی عند إرادة تمام الأجزاء والشرائط ، لیرد علیه أنّ المستعمل فیه خارجاً، یتردّد بین بعض تلک الأجزاء ویکون استعماله وإرادة تمام الأجزاء والشرائط من الاستعمال فی غیر الموضوع له ، فیصیر مجازاً کما ذکر المصنف قدس سره هذین الأمرین فی الإیراد علی کون الجامع هو المعظم ، وأضاف إلیهما اختلاف العبادات بحسب اختلاف الحالات من العجز والنسیان والحرج والضرر إلی غیر ذلک ، فلا یمکن تعیین المعظم ، لاختلافه بحسب تلک الحالات ، بل المراد لا بشرط بالإضافة إلی ضمّ بقیة الأجزاء والقیود إلی المستعمل فیه عند الإستعمال ، نظیر إطلاق الکلام فی مقام استعماله علی الفعل والفاعل مع جمیع ملابساتهما أو بعضها علی ما تقدّم ، فلا یکون إرادة التامّ منها مجازا ، ولا یتردّد معه الخارج عن المستعمل فیه .

وأمّا تبادل الجزء أو الشرط واختلافهما بحسب الحالات ، فقد تقدّم أخذ الجامع بین الحالات ، ولو کان الجامع المزبور عنوانا اعتباریّا کعنوان أحدها ، والحاصل یلاحظ المعظم بالإضافة إلی أقلّ الأفراد کمّا والجامع بین أجزائه وشرائطه کیفا ، فلا محذور فی ذلک أصلاً .

[1] المراد ممّا أورد علی الأوّل أخیرا ، هو لزوم المجاز فی إطلاق لفظ الصلاة وإرادة التامّ من حیث الأجزاء والشرائط ، فإنّه یکون من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء _ أی المعظم _ فی الکل .

ص :128

أن یکون هو الخارج أو غیره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو کما تری، سیّما إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها: أن یکون وضعها کوضع الأعلام الشخصیّة [1] ک (زید) فکما لا یضر الشَرح:

وقوله قدس سره : «یتبادل» ، إشکال ثانٍ علی الالتزام بکون الموضوع له معظم الأجزاء والشرائط ، وتوضیحه: أن_ّا إذا استعملنا لفظ الصلاة فی مجموعة من أجزائها ثمّ استعملناه فی مجموعة أُخری وکانت کلتا المجموعتین معظم الأجزاء إلاّ أنّ بعض أجزاء الثانیة خارجة عن الأُولی، لزم أن تکون هذه الأجزاء داخلة فی المسمّی فی الاستعمال الثانی، وخارجة عنه فی الاستعمال الأوّل. وهذا هو التبادل کما انه عند اجتماع تمام الاجزاء فی الاستعمال یتردد الشیء الواحد بین ان یکون هو الخارج عن المستعمل فیه أو غیره، وقد ظهر ممّا ذکرناه فی التعلیقة السابقة، الجواب عن إشکالات لزوم المجازیّة والتبادل والتردّد، فلا نعید.

وقوله قدس سره فیما بعد هذا : «مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات» راجعٌ إلی الإشکال فی تعیین المعظم ، کما تقدّم فی التعلیقة السابقة .

[1] قیل إنّ الوضع فی أسامی العبادات کالوضع فی الأعلام الشخصیّة ، وکما أنّ تبادل الحالات المختلفة کالصغر والکبر والسمن والنحافة وتغیّر اللون إلی لونٍ آخر ونقص بعض الأجزاء وزیادته لا یضرّ فی الأعلام الشخصیّة کذلک فی العبادات .

وبتعبیرٍ آخر : کما یطلق إسم زید علی ما فی الخارج من الشخص مع التبادل واختلاف الأحوال فیه ، کذلک إسم الصلاة یطلق علی العبادة المخصوصة فی جمیع حالاتها . وأجاب الماتن قدس سره بأنّ الموضوع له فی الأعلام هو الشخص الذی یکون بالوجود الخاصّ ، وتغیّر عوارض ذلک الوجود لا ینافی بقاء الوجود الذی یکون بقائه بقاء الشخص ، وکما لا یضرّ اختلاف أحوال الشخص ببقائه کذلک لا یضرّ ببقاء

ص :129

فی التسمیة فیها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والکبر، ونقص بعض الاجزاء وزیادته، کذلک فیها.

وفیه: أنّ الأعلام إنما تکون موضوعة للأشخاص، والتشخص إنما یکون بالوجود الخاص، ویکون الشخص حقیقة باقیاً ما دام وجوده باقیاً، وإن تغیرت الشَرح:

تسمیته ، وهذا بخلاف الموضوع له فی مثل لفظ الصلاة ، فإنّه من قبیل المفهوم والکلیّ ، وعلیه فاللاّزم تعیین ذلک المعنی الکلیّ بحیث یکون حاویا لمتفرّقاته وجامعا لأفراده ، کما تقدّم ذلک فی الجامع علی قول الصحیحی .

لا یقال : الشخص هو الوجود الخارجی ، ومن الظاهر عدم وضع اللفظ له أصلاً حتّی فی الأعلام الشخصیة ، حیث إنّ الموضوع له لابدّ من کونه قابلاً للتصوّر واللحاظ فی الوضع والاستعمال ، والوجود الخارجی لا موطن له إلاّ الخارج .

فإنّه یقال : الوجود الخارجی قابل للحاظه ولو بعنوان مشیر إلیه وإمکان لحاظه کذلک یکفی فی صحّة وضع اللفظ له ، کما تقدّم فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ؛ ولذلک لا توصف الأعلام الشخصیّة بالوجود والعدم ، بأن یقال زید موجود أو معدوم ، بل یقال إنّه حیّ یرزق ، أو غیر باقٍ ومیت ، بخلاف الکلّیات فإنّها توصف بالوجود والعدم .

ثمّ لا بأس للتعرّض فی المقام لما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی بیان المسمّی فی الأعلام الشخصیّة ، لدفع الوهم عن کون مسمّاها من المجرّدات .

فإنّه ذکر أوّلاً ما حاصله : إنّ زیدا مثلاً مرکّب من نفس وبدن ، والبدن مرکّب من عظم ولحم وجلد وأعصاب ، فیکون زید مرکّباً طبیعیّا فی مقابل الصناعی کالسریر والبناء ، ووحدة جسم زید باتصال الأعضاء التی لکلٍّ منها وجود . والاتصال لا یخرجه إلی الوحدة إلاّ من جهة الذبول والنموّ ، لا من جهة نقص یده أو رجله أو

ص :130

عوارضه من الزیادة والنقصان، وغیرهما من الحالات والکیفیات، فکما لا یضرّ اختلافها فی التشخص، لا یضرّ اختلافها فی التسمیة، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما کانت موضوعة للمرکبات والمقیّدات، ولا یکاد یکون موضوعاً له، إلا ما کان جامعاً لشتاتها وحاویاً لمتفرقاتها، کما عرفت فی الصحیح منها.

الشَرح:

إصبعه إلی غیر ذلک ، والالتزام بأنّه ملحوظ لا بشرط ، بالإضافة إلی أعضائه مشکل ، فإنّه لو کان الملحوظ بنحو اللابشرط نفس زید یلزم کون المسمّی من المجرّدات ، وإن کان الملحوظ کذلک نفسه مع بدنه یجیء الکلام فی أنّ أیّ مقدار من البدن ملحوظ مع النفس بنحو لا بشرط .

وذکر ثانیا بأنّ المراد من البدن الملحوظ مع النفس المسمّی بلفظ زید ، لیس هو الأعضاء من اللحم أو الشحم والأعصاب وغیرها ، بل الروح البخاری الذی یکون مادّة للنفس ویعبّر عن الروح البخاری الذی هو فی حقیقته جنس طبیعی بالحیوان ، وتکون فعلیة النفس بذلک الروح ویتّحد معها اتّحاد المادّة بصورته ، کما أنّ الروح البخاری متّحد مع الأعضاء لأن_ّها مادّة إعدادیة للروح البخاری ، فتحصّل أنّ الموضوع له للفظ زید نفسه المتعلّقة بالبدن ، وتشخّص البدن ووحدته بوحدة النفس وتشخصّها ، إذ المعتبر مع النفس مطلق البدن .

وذکر ثالثا أنّ ما ذکر خلاف المتفاهم العرفی من اللفظ ، فإنّ ما ذکر لا یدرکه إلاّ الأوحدی من الأعلام، والصحیح أن یقال: إنّ المسمّی عندهم الهویّة الخارجیّة التی لا یلاحظ الممیّز فیها إلاّ کونها غیر الهویّات الأُخر، من کونها مبهمة من سائر الجهات(1).

ص :131


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 117 .

رابعها: إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحیح التام [1] الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، إلا أن العرف یتسامحون _ کما هو دیدنهم _ ویطلقون تلک الألفاظ علی الفاقد للبعض، تنزیلاً له منزلة الواجد، فلا یکون مجازاً فی الکلمة _ علی ما ذهب إلیه السکاکی فی الاستعارة _ بل یمکن دعوی صیرورته حقیقة فیه، الشَرح:

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ الأعضاء الخارجیّة الرئیسیة حال اتصال بعضها ببعض ، بحیث تکون الروح توأما معها ، هو الشخص ویکون لا بشرط بالإضافة إلی کمال الأعضاء ونقصها وما یعرض علیها ، سواء کان فی الخارج هویّة أُخری مثلها أو لم تکن ، فلا یفرق فی وضع العلم الشخصی بین وضع لفظ آدم لأوّل مخلوقٍ من الإنسان وبین وضع لفظ زید لمن یتولّد من أُمّه فعلاً ، والملحوظ عند وضع کلّ منها الشخص الذی هو البدن التوأم مع الروح .

[1] کأنّ مراد هذا القائل أنّ اللفظ فی إبتداء الأمر ، قد وضع _ کسائر المرکّبات _ للصحیح التامّ ، ثمّ استعمل فی الناقص بالتنزیل بلحاظ الأثر ، یعنی سقوط التکلیف بالناقص لاشتماله علی الملاک ولو فی حالٍ مخصوص ، أو عنایة للمشابهة فی الصورة ، کما فی الناقص المحکوم بالفساد حتّی صار اللفظ حقیقة فی الناقص أیضاً .

وقد أورد قدس سره علی هذا التصویر بأنّه یمکن فی مثل أسامی المعاجین الموضوعة إبتداءا للمرکّب من أجزاء خاصّة ، حیث یصحّ فیها إطلاقها علی الناقص منها للمشابهة صورة أو للمشارکة فی الأثر ، ولا یتمّ فی مثل الصلاة من العبادات التی تکون أفرادها التامّة مختلفة ومتعدّدة بحسب اختلاف الحالات واختلاف المکلّفین ، بحیث یکون الصحیح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة أُخری .

أقول : هذا التصویر بظاهره لا یرجع إلی محصّل ، فإنّه إذا فرض وضع اللفظ للصحیح التامّ ، ثمّ فرض استعماله فی الناقص بلحاظ الأثر أو المشابهة فی الصورة ،

ص :132

بعد الاستعمال فیه کذلک دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلی الکثرة والشهرة، للانس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة، أو المشارکة فی التأثیر، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکبات واجدة لأجزاء خاصة، حیث یصح إطلاقها علی الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة، والمشارک فی المهم أثراً تنزیلاً أو حقیقة.

وفیه: إنه إنما یتم فی مثل أسامی المعاجین، وسائر المرکبات الخارجیة مما یکون الموضوع له فیها ابتداءً مرکباً، خاصاً، ولا یکاد یتم فی مثل العبادات، التی عرفت أن الصحیح منها یختلف حسب إختلاف الحالات، وکون الصحیح بحسب حالة فاسداً بحسب حالة أخری، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

الشَرح:

والمفروض أنّ الناقص بالإضافة إلی التامّ متعدّد ومتکثّر ، یکون اللفظ المفروض بعد صیرورته حقیقة فی الناقص أیضاً من قبیل متکثّر المعنی ، فأین الجامع الشامل للصحیح والفاسد کما هو قول الأعمیّ ، اللهمّ إلاّ أن یراد صیرورته حقیقة فی الجامع کما یأتی تقریره فی الوجه الخامس .

ص :133

خامسها: أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان، مثل المثقال، والحقة، والوزنة إلی غیر ذلک، مما لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة[1]، فإن الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصاً، إلاّ أنه لم یضع له بخصوصه، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به أولاً، إلا أنه بالإستعمال کثیراً فیهما بعنایة أنهما منه، قد صار حقیقة فی الأعم ثانیاً.

وفیه: إن الصحیح _ کما عرفت فی الوجه السابق _ یختلف زیادة ونقیصة، فلا یکون هناک ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه، کی یوضع اللفظ لما هو الأعم، فتدبر جیداً.

الشَرح:

[1] والفرق بین هذا الوجه والوجه الرابع المتقدّم هو أنّ اللفظ علی هذا الوجه ، یکون فی النتیجة حقیقة فی الجامع ؛ وذلک لأن اللفظ الموضوع للمقدار والوزن وإن لوحظ عند وضعه مقداراً خاصّاً معیّناً ، ووضع بإزائه إلاّ أنّ مع استعماله فی الزائد وفی الناقص عنه _ ولو بدعوی أنّهما ذلک المقدار _ صار اللفظ المزبور حقیقة فی الأعمّ من ذلک المقدار ، بحیث یشمل معناه الزائد والناقص فی الجملة .

وقد أشرنا فی الوجه السابق ، أنّه یمکن إرجاعه إلی هذا الوجه ، ولعل الماتن قدس سره قد فهم ذلک ، حیث لم یورد علی الوجه السابق بأنّه یوجب کون اللفظ من متکثّر المعنی ، بل أورد علیه بأنّ اختلاف الصحیح وتعدّده بحسب الحالات ، یمنع الالتزام فیه بما یلتزم فی أسامی المعاجین ، کما أن_ّه أورد بذلک أیضاً علی هذا الوجه ، وقال : إنّ تعدّد الصحیح فی العبادة واختلافهما بحسب الحالات یمنع عن الالتزام فیها بما یلتزم فی أسامی المقادیر والأوزان ، ولکنّ العجب هو ما ذکر فی أسامی المقادیر والأوزان ، والتزم به الماتن قدس سره أیضاً ، فإنّه لو کانت هناک ألفاظ ذات معانٍ محدودة فی ناحیة قلّتها وکثرتها وسعتها وضیقها فأوّلها أسامی المقادیر والأوزان ، فکیف یمکن

ص :134

ومنها: إن الظاهر أن یکون الوضع والموضوع له _ فی ألفاظ العبادات _ عامین، واحتمال کون الموضوع له خاصاً بعید جدّاً، لاستلزامه کون استعمالها فی الجامع، فی مثل: (الصلاة تنهی عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود الدین) و (الصوم جنّة من النار) مجازاً، أو منع استعمالها فیه فی مثلها، وکل منهما بعید إلی الغایة [1]، کما لا یخفی علی أولی النهایة.

الشَرح:

دعوی أنّها صارت حقائق فی الأعمّ ، بحیث تشمل الزائد والناقص فی الجملة ؟ مع أن_ّه لا یترتّب شیء من الأحکام المترتّبة علی تلک المقادیر والأوزان علی الناقص منها ولو بیسیر ، فلا یحکم باعتصام الماء ولو نقص من مقدار الکرّ مثقالاً ، ولا تتعلق الزکاة بالغلّة إذا نقصت عن النصاب بمثقال ، ولا تقصر الصلاة فی سفر إذا نقص من مقدار المسافة ولو بشبر ، إلی غیر ذلک . ولذا یصحّ سلب ذلک المقدار عن الناقص بل عن الزائد ، کما لا یخفی .

[1] یعنی الالتزام بأنّ لفظ الصلاة استعمل فی تلک الاستعمالات فی الجامع مجازا، أو أنّه لم یستعمل فی الجامع بل فی بعض الأفراد بخصوصه، بعید إلی الغایة.

أقول : قد تقدّم عدم تصویر الجامع علی الصحیحی ، فعلیه أن یلتزم فی تلک التراکیب إمّا باستعمال اللفظ فی بعض الأفراد أو فی جمیعها علی نحو استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ، أو فی الجامع الاعتباری من الأفراد الصحیحة ، ولو کان ذلک الجامع غیر موضوع له ، وأمّا القائل بالأعمّ فهو فی فسحة من ذلک ، فهو لا یلتزم بالمجاز فیها ، بل باستعمال اللفظ فیها فی الجامع الموضوع له کما تقدّم .

لا یقال الآثار المذکورة فی تلک الاستعمالات لا تترتّب إلاّ علی خصوص الصحیحة من الصلاة لا علی الجامع المتقدّم الذی یتحقّق بالصحیح والفاسد .

فإنّه یقال : قد تقدّم أن الآثار الواردة تترتّب علی الصلاة ، أی علی الجامع

ص :135

ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب علی القول الصحیحی [1]، وعدم جواز الرجوع إلی إطلاقه، فی رفع ما إذا شک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته أصلاً، لاحتمال دخوله فی المسمی، کما لا یخفی، وجواز الرجوع إلیه فی ذلک الشَرح:

المتقدّم فی مقام الامتثال ، وإذا اتّصف الجامع المفروض بأن_ّه امتثال یکون صحیحا لا محالة ، فإرادة الامتثال فیها بدالٍّ آخر ، ودلالة الخطاب علی إرادة الصلاة الممتثلة إنّما هو بتعدّد الدالّ والمدلول فلا مجازیّة ، کما لا یخفی .

وبالجملة ، الآثار الواردة لا تترتّب حتّی علی الصحیح فی مقام التسمیة ، کما تقدّم ، فالمراد الصحیح فی مقام الامتثال لا محالة .

[1] وبیان ذلک : أن_ّه لا یمکن التمسّک بالإطلاق الوارد فی الخطاب إلاّ بعد إحراز انطباق المعنی المطلق علی مورد الشکّ مع تمامیّة مقدمات الحکمة ، حیث یحرز بعد الانطباق وتمامیتها بأنّه لولا ثبوت الحکم لمورد الشکّ ؛ لکان فی البین دالّ علی التقیید ، ومع عدم ما یدلّ علیه ، یکون المتکلّم مظهرا لعدم دخالة المشکوک ، وأمّا إذا لم یحرز ذلک الانطباق ، کما إذا ورد فی الخطاب (جعل اللّه الماء لکم طهورا) وشکّ فی صدق الماء علی الجلاّب لیصحّ الوضوء وسائر الطهارات به ، فلا یمکن الحکم بکونه طهورا تمسّکاً بإطلاق الماء فی الخطاب المزبور ، إذ لو لم یکن مطهّرا فإنّما هو لعدم کونه ماء لا لتقیید الماء بغیره .

وعلی ذلک فإذا شکّ فی کون شیء جزءا للصلاة مثلاً ، لا یمکن إحراز عدم کونه جزءا أو شرطا بمثل قوله سبحانه «أَقِیْمُوا الصَّلاةَ» علی القول بالصحیح¨ لعدم إحراز معنی الصلاة حتّی ینطبق علی الفاقد لذلک الجزء ، وهذا بخلاف القول بالأعمّ ، فإنّه بناءً علیه یمکن نفی جزئیّة المشکوک أو شرطیّته به ، مع تمامیّة مقدّمات الحکمة لإحراز کون الفاقد له صلاة .

ص :136

علی القول الأعمّی، فی غیر ما احتمل دخوله فیه، مما شک فی جزئیته أو شرطیته، نعم لا بدّ فی الرجوع إلیه فیما ذکر من کونه وارداً مورد البیان، کما لا بد الشَرح:

نعم یتحقّق إجمال الخطاب بناءً علی الأعمیّ أیضاً ، فیما إذا احتمل کون المشکوک مقوّما للمسمّی .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ الخطابات من الکتاب والسنّة غیر واردة فی مقام بیان الأجزاء والشرائط لمتعلّقات الأحکام ، یعنی العبادات ، بل کلّها فی مقام تشریع تلک المتعلّقات ، فلا یمکن التمسّک بها علی القولین ، غایة الأمر عدم جواز التمسّک بها علی الصحیحیّ ، لإجمالها فی ناحیة المراد من المتعلّقات ، وعلی الأعمیّ لإهمالها من جهتها ، هذا بالإضافة إلی الاطلاق اللفظی .

وأمّا بالإضافة إلی الاطلاق المقامیّ، کما إذا أُحرز فی مورد، أنّ الشارع فی مقام بیان ما یعتبر فی العبادة جزءا أو شرطا کصحیحة حماد(1) الواردة فی کیفیة الصلاة، وکصحیحة زرارة(2)، وغیرها الواردة فی بیان غسل الجنابة، فیمکن نفی جزئیّة المشکوک أو شرطیّته بإطلاقها یعنی عدم ذکر دخالة المشکوک فی ذلک المقام، فإنّه لو کان معتبرا فی العبادة لکان عدم ذکره فیه خلاف الغرض، بلا فرقٍ القول بالصحیح أو الأعمّ.

ثمّ قال قدس سره : ولکنّ الصحیح عدم جواز التمسّک بصحیحة حماد المشار إلیها ، لإثبات وجوب المذکورات فیها ، وذلک للعلم الإجمالی باشتمالها علی أُمور مستحبّة أیضاً ، فیکون ظهورها فی الوجوب والجزئیّة ساقطا ، ونظیرها التمسّک

ص :137


1- (1) الوسائل : ج4 ، باب 1 من أبواب أفعال الصلاة ، الحدیث : 1 / 673 .
2- (2) الوسائل : ج1 ، باب26 من أبواب الجنابة ، الحدیث : 2 / 502 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بقوله صلی الله علیه و آله : «صَلُّوا کما رأیتمونی أُصلِّی»(1) .

فإنّه بعد القطع والیقین بعدم اقتصار النبی صلی الله علیه و آله علی الأجزاء الواجبة والشرائط اللازمة ، بل کان یأتی بالمستحبّات فی صلاته ، یکون المراد بالأمر بالاتباع مطلق الطلب ، فلا یمکن الحکم بالجزئیّة والشرطیّة بمجرّد ورود روایة بأنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یقرأ فی صلاته بکذا أو یفعل کذا(2) .

وفیه العلم الاجمالی باشتمال الصحیحة علی بعض الأُمور المستحبّة ینحلّ بالظفر خارجا بالدلیل علی استحباب بعض تلک الأُمور ، وبتعبیرٍ آخر : إنّ قیام الدلیل علی الترخیص فی ترک بعض تلک الأُمور لا یکون موجبا لرفع الید عن ظهورها بالإضافة إلی غیر ذلک البعض ، وأیضاً العلم الاجمالی المزبور لا یمنع عن الحکم بعدم الجزئیّة والشرطیّة فی المشکوک الذی لم یذکر فی تلک الصحیحة ، وإنّما یمنع مع عدم انحلاله أو مع المناقشة فی أصل ظهور الصحیحة فی الوجوب بالإضافة إلی المذکورات فیها .

وممّا ذکرنا یظهر الحال بالإضافة إلی قوله صلی الله علیه و آله : «صلُّوا کما رأیتمونی أُصلّی» بل لا یبعد صحّة التمسّک بالإطلاق اللفظی لأدلّة العبادات ، علی الأعمیّ فیما إذا أُحرز عدم دخول المشکوک فی المسمّی بمثل قوله سبحانه «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلی اللَّیْلِ»(3) ، بعد قوله «وَکُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطَ الأَبْیَضَ» فإنّه لا بأس

ص :138


1- (1) غوالی اللئالی : 1 / 198 ، الفصل التاسع ، الحدیث 8 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 45 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 187 .

منه فی الرجوع إلی سائر المطلقات، وبدونه لا مرجع أیضاً إلاّ البراءة أو الاشتغال، علی الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیین.

الشَرح:

بالأخذ به فیما إذا شکّ فی کون الارتماس مفطرا .

ودعوی إهمال الخطاب فی ناحیة المتعلّق لا یمکن المساعدة علیها بعد ظهور الآیة التی قبلها وبعدها فی أنّ ما یمسک عنه هو الأکل والشرب والنساء ، والأصل فی الخطاب کون المتکلّم فی مقام بیان الحکم والمتعلّق والموضوع ، کما لا یخفی .

لا یقال : التمسّک بالإطلاق فی آیة الصوم ، یجری علی الصحیحیّ أیضاً ، فإنّه من التمسّک بالإطلاق المقامیّ .

فإنّه یقال : لم یظهر معنی الصوم من قوله سبحانه «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلی اللَّیْلِ» بناءً علی الصحیحیّ لیتمسّک بإطلاقه ، بخلافه علی الأعمیّ لصدقه علی الإمساک عن المذکورات فی عرف المتشرّعة ، لاتّصافه بالبطلان مع تجرّده عن الإمساک عن سائر المفطرات ، کما لا یخفی .

وقد یقال بإجمال الخطابات علی القولین ، أمّا بناءً علی القول بالصحیح ، فلما تقدّم ، وأمّا بناءً علی الأعمیّ فللعلم بأنّه لیس المراد من الخطابات المسمّیات ؛ لأنّ المسمّی یصدق علی الصحیح والفاسد ، بل المأخوذ فی متعلق الأمر مقید بالصحّة لا محالة ، ولا فرق فی عدم جواز التمسک بالخطاب بین کونه مجملاً بنفسه أو بالقید المجمل المعلوم أخذه فیه ، فیکون متعلّق الأمر مجملاً بالذات علی القول بالصحیح ، ومجملاً بالعرض علی القول بالأعمّ .

واُجیب بأنّ الصحّة متأخّرة عن الأمر بالعبادة ، ولا یمکن أخذها فی متعلّق الأمر .

ص :139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ هذا لا یدفع المناقشة ، فإنّ هذه الصحّة کما أنّها متأخّرة عن الأمر بالعبادة ، کذلک متأخّرة عن التسمیة حتّی علی القول بالصحیح ، ولا تکون مأخوذة فی متعلّق الأمر ، ولا فی التسمیة علی القولین ، والذی کان موجبا لإجمال المعنی علی مسلک الصحیحیّ هو عدم معلومیة تمام ما له دخل فی الملاک الملحوظ ، ولو بالعنوان الملازم ، وهذا المعنی المأخوذ فی متعلّق الأمر علی الصحیحیّ مأخوذ فی متعلّق الأمر فی الخطابات علی الأعمیّ ، فیکون متعلّق الأمر مجملاً حتّی بناءً علی الأعمیّ أیضاً .

والصحیح فی الجواب هو أن یقال : إن المناقشة بإجمال الخطاب علی الأعمیّ مبتنیة علی استعمال لفظ الصلاة ، مثلاً عند الأمر بها ، فیما هو الموضوع له عند الصحیحی ، ولکنّ الأمر لیس کذلک بل ورود القید علی متعلق التکلیف فی المقام کورود القید علی سائر المطلقات لا یکشف عن استعمال اللفظ الموضوع للمطلق فی المقید إلاّ بنحو تعدّد الدال والمدلول ، کما ذکر فی بحث المطلق والمقیّد ، فظاهر الخطاب علی الأعمیّ تعلّق التکلیف بنفس المسمّی ، غایة الأمر یعلم بورود القید علی ذلک الطبیعی المسمّی ، وإذا دار أمرالقید بین الأقل والأکثر ، فما ثبت تقیید المتعلق به یؤخذ به ، ویتمسّک فی غیره بالإطلاق علی حدّ سائر الموارد التی یکون ورود الأمر فیها بشیء مطلقاً ، ثمّ یعلم بورود القید علیه ولو بخطابٍ آخر ، فإنّه یؤخذ فی القید المشکوک بإطلاق المطلق .

وبتعبیرٍ آخر : المراد الجدّی من تعلق التکلیف هو المراد الاستعمالی من المتعلّق علی مسلک الصحیحی ، وأمّا علی مسلک الأعمیّ فالمستعمل فیه للفظ الصلاة حتّی فیما ذکر فی خطاب التکلیف هو الجامع الوسیع ، غایة الأمر یعلم بورود

ص :140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

القید علی ذلک المتعلّق ، فإذا دار القید بین کونه أقلّ أو أکثر یؤخذ بالمقدار الثابت من التقیید ویؤخذ فی غیره بالإطلاق .

وما تقدّم سابقا من تحدید الصلاة بالأرکان أو بمعظم الأجزاء والشرائط فی ناحیة الأقلّ وأن_ّه لا یوجب المجاز عند إرادة الکل فلیس المراد منه استعمال لفظ الصلاة بمجرّده فی المجموع التامّ ، بل المراد استعماله فیه بنحو تعدّد الدال والمدلول ، ولکن مع ذلک یکون تطبیق المسمّی علی التامّ کتطبیق الکلام علی ما ذکر معه من متعلّقات الفعل والفاعل حقیقة .

لا یقال : نفس العلم الإجمالی بورود القیود علی المطلق ودورانها بین القلیلة والکثیرة یوجب إجمال الخطاب ، حتّی لو بُنی علی إرادة المقیّد من المطلق بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، وأن_ّه لا یوجب استعمال نفس اللفظ الدالّ علی المطلق فی المقید .

فإنه یقال : العلم الإجمالی لا یوجب الإجمال فیما إذا کان المعلوم بالإجمال معلوما بوجهٍ آخر ، کما إذا علم أنّ المطلق قد ورد علیه التقیید بخطابات مستقلّة ، بحیث نحتمل أن لا یکون فی البین قید آخر غیر ما فی تلک الخطابات ، وفی مثله یرجع عند الشکّ فی قیدٍ آخر لم یقم علیه خطاب مستقلّ ، إلی إطلاق الخطاب ، ولذا یتمسّک بخطاب «أحلّ البیع» فی موارد الشکّ فی شرطیّة شیء للبیع ، مع العلم بأنّ البیع قد ورد علیه فی الشرع قیود .

وأمّا إذا لم یکن للمعلوم بالإجمال وجها معلوما ، فمجرّد العلم ببعض القیود لا یکفی لخروج الخطاب عن الإجمال ، بل عن الإهمال ، حیث إنّه مع العلم بعدم

ص :141

وقد انقدح بذلک: إنّ الرجوع إلی البراءة أو الاشتغال [1] فی موارد إجمال الخطاب أو إهماله علی القولین، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلی البراءة علی الشَرح:

إرادة الإطلاق وعدم نصب خطاب للقید یعلم أنّ المتکلّم لم یکن فی مقام البیان من جهة القیود ، وهذا التفصیل یختصّ بباب الإطلاق ولا یجری فی العامّ الوضعی ، حیث إنّ ظهوره فی إرادة کلّ فرد بالوضع ولا یرفع الید عن ظهور العامّ إلاّ فی الأفراد التی یعلم بعدم إرادتها ثبوتا ویؤخذ بالظهور فی غیرها .

وأمّا دعوی الإجمال فی الخطابات حتّی علی الأعمیّ ، بدعوی العلم بأنّ للشارع غرضاً واحدا من الصلاة وغیرها من العبادات ، ولا یعلم حصوله بالاکتفاء بالمتیقّن من القیود ، فواضحة الفساد فإنّ علی المتکلّم التکلّم بنحو یحصل الغرض بالإتیان بمتعلّق أمره ، ومع الإطلاق یدفع دخالة المشکوک فی غرضه ، نعم ربّما یناقش بمسألة الغرض الواحد فی الرجوع إلی أصالة البراءة فی موارد الشکّ فی الجزئیّة والشرطیّة، وهذا غیر المفروض فی المقام، فإنّ الکلام فی المقام فی التمسّک بالإطلاق ویأتی فی بحث الأقلّ والأکثر الارتباطیین عدم صحّة المناقشة المزبورة وأنّ العلم بالغرض من تعلّق الأمر لا یمنع عن الرجوع إلی أصالة البراءة الشرعیّة .

[1] یعنی بما أنّ موارد إجمال الخطاب فی ناحیة متعلّق التکلیف أو إهماله داخلة فی الشکّ فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، یکون المرجع فیها أصالة البراءة أو الاشتغال علی القولین ، وأنّه لا أساس لما ذکره صاحب القوانین قدس سره من أنّ ثمرة النزاع هو الرجوع إلی البراءة علی الأعمّ وإلی الاشتغال علی الصحیح(1) .

والوجه فی ذلک ، أنّه لو قیل بانحلال التکلیف المعلوم بالإجمال فی مقام

ص :142


1- (1) قوانین الأُصول : 40 .

الأعم، والاشتغال علی الصحیح، ولذا ذهب المشهور إلی البراءة، مع ذهابهم إلی الصحیح.

وربما قیل بظهور الثمرة فی النذر أیضاً.

الشَرح:

الثبوت إمّا انحلالاً وجدانیّا أو حکمیّا یکون المرجع عند دوران أمر المتعلّق بین الأقل والأکثر هی البراءة وإذا بنی علی عدم الانحلال حقیقةً ولا حکما یکون المرجع قاعدة الاشتغال بلا فرق بین القولین .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره انتصارا لصاحب القوانین أنّ الصحیحیّ لا یمکنه الرجوع إلی البراءة عند الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لمتعلّق التکلیف ، بل علیه الالتزام بالاشتغال ، وذلک لأنّ الصحیحی لابدّ له من الالتزام بأخذ جامع بسیط خارج عن نفس الأجزاء والشرائط یکون ذلک الجامع معنی لفظ الصلاة مثلاً ، والجامع المزبور إمّا مأخوذ من ناحیة الأثر للأفراد الصحیحة ، أو من ناحیة عللها ، ومع أخذ ذلک الجامع فی متعلّق التکلیف یکون صدق المعنی علی الفاقد للمشکوک غیر محرز ، فلابدّ من إحراز صدق ذلک العنوان علیه لرجوع الشکّ فیه إلی الشکّ فی المحصّل _ بالکسر _ ، وما حکی عن المشهور من ذهابهم إلی البراءة فی تلک المسألة مع ذهابهم إلی القول بالصحیح فی المقام ، یحمل علی الغفلة منهم أو تخیّلهم عدم أخذ العنوان البسیط معنی ، للفظ الصلاة(1) .

أقول : لا یمکن المساعدة علی الانتصار فإنّ مجرّد کون العنوان البسیط معنی للفظ الصلاة لا یجعل المورد من موارد الشکّ فی المحصّل لیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حصول المحصَّل _ بالفتح _ بالاکتفاء بالأقلّ ، أو تجری قاعدة الاشتغال

ص :143


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 45 .

قلت: وإن کان تظهر فیما لو نذر لمن صلی إعطاء درهم فی البرء فیما لو أعطاه لمن صلی، ولو علم بفساد صلاته، لإخلاله بما لا یعتبر فی الاسم علی الأعم، وعدم الشَرح:

فی ناحیة التکلیف المتعلق به .

وبتعبیرٍ آخر : الموجب لجریان الاستصحاب أو قاعدة الإشتغال اختلاف متعلّق التکلیف مع المشکوک فیه وجودا ، بحیث یکون متعلّق الشکّ وجودا آخر ، مغایرا لمتعلّق التکلیف ، وإذا فرض أنّ العنوان المتعلّق به التکلیف ینطبق علی نفس المرکّب المشکوک انطباق العنوان علی معنونه والأمر الانتزاعی علی منشأه ، ففی مثل ذلک یکون المطلوب حقیقة هو ذلک المعنون لا العنوان ، کما هو الحال فی تمام موارد العنوان الانتزاعیّ ، والمعنون بما أن_ّه مردّد بین الأقل والأکثر ، فیجری الکلام فی انحلال التکلیف المتعلّق به ثبوتا ولو بعنوان انتزاعی ، وتفصیل الکلام فی بحث الأقلّ والأکثر الارتباطیّین إن شاء اللّه تعالی .

ثمّ إنّ ما تقدّم من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی المحصِّل _ بالکسر _ قد یقال باختصاصه بغیر المحصِّلات الشرعیّة ، وأمّا المحصِّلات الشرعیّة ، فیمکن أن یقال فیها بجواز الاقتصار علی الأقلّ المحرز من أجزائها وشرائطها فی موافقة التکلیف المتعلّق بالمحصَّل _ بالفتح _ وذلک لأنّ المحصَّل _ بالفتح _ فی حقیقته حکم شرعیّ واعتبار للشارع ، فالتکلیف لایتعلّق به وإنّما یتعلّق بما هو فعل المکلّف ، فمثلاً إذا فرض أنّ الطهارة من الخبث أمر یوجد بغسل الثوب والبدن ، ففیما إذا شکّ فی حصولها بالغسل مرّة أو مرّتین ، حیث أنّ التکلیف فی الحقیقة متعلّق بما هو الموضوع لها ، یعنی الغسل _ فلا بأس بجریان البراءة عن وجوب الغسل مرّة ثانیة ، وهذا بخلاف المحصّلات الخارجیة ، فإنّ متعلّق التکلیف فیها یعنی المسبّب _ بالفتح _ غیر مشکوک فیه والمشکوک سببه .

ص :144

البرء علی الصحیح، إلاّ أن_ّه لیس بثمرة لمثل هذه المسألة [1]، لما عرفت من أنّ ثمرة المسألة الأصولیة، هی أن تکون نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة، فافهم.

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ لهذا الکلام وجهاً إذا أُرید بالمحصّل الشرعی _ بالفتح _ مجرّد الحکم الشرعی الداخل فی الحکم الوضعی ، وکان ذلک متعلّق التکلیف الإلزامی ، وأمّا إذا أُرید منه الأمر الواقعیّ الذی کشف عنه الشارع أو کان ذلک المعتبر قیدا لما هو متعلّق التکلیف الإلزامی ، کما فی الأمر بالصلاة المقیّدة بالطهارة ، فلا مجال إلاّ للاشتغال وللکلام فی ذلک مقام آخر .

[1] کأنّ نظره قدس سره إلی أنّ المسألة الأُصولیّة هی التی یستنبط منها الحکم الشرعیّ الکلیّ بواسطة مسألة من المسائل، لا یوجب دخولها فی علم الأُصول إذا کان الحکم معلوماً من الخارج لا مستنبطاً من تلک المسألة، و ما نحن فیه من هذا القبیل، لأنّ وجوب الوفاء علی من نذر إعطاء درهم لمن صلّی، حکمٌ شرعیٌ فرعیّ معلوم من الخارج، و بمسألة الصحیح والأعمّ یعیّن مصداق موضوع وجوب الوفاء بهذا النذر، إذ الصلاة الباطلة صلاة علی الأعمّ، و من أتی بها فقد صلّی، فیجب علی الناذر إعطاء درهم، و لکنّ ترتّب مثل هذه الثمرة علی مسألة الصحیح والأعمّ لا یدخلها فی علم الأُصول.

ونظیر ذلک ما ورد فی الخطاب الشرعی من النهی عن صلاة الرجل وأمامه إمرأة تصلّی ، فعلی الأعمّ یحکم ببطلان صلاة الرجل أو کراهتها ، حتّی فیما کانت صلاة المرأة غیر تامّة من حیث الأجزاء والشرائط ، بخلافه علی الصحیح حیث لا یحکم ببطلان صلاته أو کراهتها ، إلاّ إذا کانت صلاتها صحیحة .

ص :145

وکیف کان، فقد استدل للصحیحی بوجوهٍ:

أحدها: التبادر، ودعوی أن المنسبق إلی الأذهان منها هو الصحیح، ولا منافاة بین دعوی ذلک [1]، وبین کون الألفاظ علی هذا القول مجملات، فإن المنافاة إنّما تکون فیما إذا لم تکن معانیها علی هذا مبیّنة بوجه، وقد عرفت کونها مبینة بغیر وجه.

ثانیها: صحة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه بالمداقّة، وإن صح الإطلاق علیه بالعنایة.

الشَرح:

ولکنّ المناقشة لیست فی محلّها فإنّ مسألة الصحیح والأعمّ ، لا تکون من المسائل الأُصولیّة ؛ ولذا لم تجعل من مسائل علم الأُصول ، بل ذکرت فی مقدمة مسائل علم الأُصول ، فتکون هذه المسألة من المبادئ التصوریّة لمسائله .

بیان ذلک : أنّ مسألة التمسّک بالإطلاق فی استنباط الأحکام الشرعیّة سواء کان الشکّ فی أصل التقیید أو فی التقیید الزائد ، مسألة أُصولیّة بلا فرق بین القول بأنّ مقدّمات الحکمة توجب ظهور المطلق فی الاطلاق ، والقول بأنّ الاطلاق بحکم العقل ، وکلامنا فی المقام فی تعیین أنّ ألفاظ العبادات تعدّ من المطلق لیمکن التمسّک بإطلاقها فیما إذا وردت فی الخطاب الشرعیّ وتمّت فیه مقدّمات الحکمة ، کما هو مقتضی قول بالأعمّ أو أنّها مجملة لا تدخل فی المطلق .

فالمناسب أن یناقش بأنّ ثمرة النذر أو ثمرة صلاة الرجل لا تجعل المسألة من مبادئ المسائل الأُصولیّة ، بل تجعلها من مبادئ المسائل الفقهیّة فلاحظ وتدبر ، ولعلّ الماتن رحمه الله أشار إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

[1] وبتعبیرٍ آخر : معنی لفظ الصلاة وإن کان مجملاً علی القول بالصحیح وغیر مبیّن من جهة أجزائها وشرائطها إلاّ أنّ هذا الإجمال لا ینافی کون معناها مبیّنا من

ص :146

ثالثها: الأخبار الظاهرة فی إثبات بعض الخواص [1] والآثار للمسمّیات مثل (الصلاة عمود الدین) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جُنّة من النار) إلی غیر ذلک، أو نفی ماهیّتها وطبائعها، مثل (لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب) ونحوه، مما کان ظاهراً فی نفی الحقیقة، بمجرد فقد ما یعتبر فی الصحة شطراً أو شرطاً، وإرادة خصوص الصحیح من الطائفة الأولی، ونفی الصحة من الثانیة، لشیوع استعمال هذا الترکیب فی نفی مثل الصحة أو الکمال خلاف الظاهر، لا یصار إلیه مع عدم نصب قرینة علیه، واستعمال هذا الترکیب فی نفی الصفة ممکن المنع، حتی فی مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا فی المسجد) مما یعلم أنّ المراد نفی الکمال، بدعوی استعماله فی نفی الحقیقة، فی مثله أیضاً بنحو من العنایة، لا علی الحقیقة، و إلاّ لما دل علی الشَرح:

جهة أثرها ، ویکفی فی الانسباق من اللفظ کون المعنی مبیّنا ولو من جهة ، هذا بالإضافة إلی التبادر ، وأمّا صحّة السلب ، فیکون مقتضاها عدم السعة فی معنی مثل لفظ الصلاة ، بحیث یعمّ الأفراد الفاسدة .

أقول : للمناقشة فی کلّ من التبادر وصحّة السلب مجالٌ واسعٌ کما سیأتی إن شاء الله تعالی .

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ الآثار المحمولة علی العبادات لا تعمّ الأفراد الفاسدة ، إلاّ أنّ عدم شمولها إمّا لکون مسمّیاتها المعانی الصحیحة ، کما هو مقتضی القول بالصحیح ، أو بتقیید مسمّیاتها بالقیود ، کما هو مقتضی القول بالأعمّ ، فیکون المقام من صغریات ما إذا علم المراد وأُحرز أنّ الحکم الجاری علی المطلق لا یعمّ شیئا ، ودار الأمر بین خروجه عن الاطلاق بالتقیید وبین عدم کون المطلق شاملاً له بحسب معناه الوضعی ، ففی أمثال ذلک لا تجری أصالة الإطلاق أو الحقیقه وغیرها ، کما أنّ الأخبار النافیة للحقیقة عند فقدان جزءٍ أو شرط مثل قوله صلی الله علیه و آله : «لا صلاةَ إلاّ

ص :147

المبالغة، فافهم.

رابعها: دعوی القطع بأنّ طریقة الواضعین ودیدنهم، وضع الألفاظ للمرکبات التامة، کما هو قضیة الحکمة الداعیة إلیه، والحاجة وإن دعت أحیاناً إلی استعمالها فی الناقص أیضاً، إلا أن_ّه لا یقتضی أن یکون بنحو الحقیقة، بل ولو کان مسامحة، تنزیلاً للفاقد منزلة الواجد.

والظاهر أنّ الشارع غیر متخط عن هذه الطریقة.

ولا یخفی أن هذه الدعوی وإن کانت غیر بعیدة، إلا أنّها قابلة للمنع [1]، فتأمل.

الشَرح:

بفاتحة الکتاب»(1) إرشاد إلی جزئیّة القراءة فی الصلاة المأمور بها ، والأمر دائر بین کون أخذها فی متعلّق الأمر بالتقیید _ ونفی الصلاة عن فاقدها بحسب مقام الامتثال فقط _ کما هو مقتضی القول بالأعمّ وکون النفی بحسب مقام الامتثال والتسمیة کما هو مقتضی القول بالصحیح ، ولا مجال لأصالة الإطلاق أو الحقیقة أو لغیرهما من الأُصول مع العلم بالمراد ، ولعله قدس سره یشیر إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

هذا مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ مثل قوله سبحانه «الصّلاة تَنْهَی عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْکَرِ»(2) أو قوله صلی الله علیه و آله : «إنّ عمود الدین الصلاة»(3) یراد به الصحیح فی مقام الامتثال لا الصحیح فی مقام التسمیة .

[1] ووجه کونها قابلة للمنع، أنّه لم یثبت أنّ الواضع یضع اللفظ ابتداءا بإزاء ذلک التامّ، بل یضع اللفظ للأعمّ منه وممّا یختلف معه فی الجملة کما تقدّم سابقا، هذا أوّلاً.

ص :148


1- (1) غوالی اللئالی : 1 / 196 ، الفصل التاسع ، الحدیث 2 .
2- (2) سورة العنکبوت : الآیة 45 .
3- (3) الوسائل : ج3 ، باب8 من أبواب أعداد الفرائض ، الحدیث : 13 / 23 .

وقد استدل للأعمّی أیضاً، بوجوه:

منها: تبادر الأعم، وفیه: أنّه قد عرفت الإشکال فی تصویر الجامع [1] الذی لابد منه، فکیف یصح معه دعوی التبادر.

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد، وفیه منع، لما عرفت.

ومنها: صحة التقسیم إلی الصحیح والسقیم.

وفیه أن_ّه إنّما یشهد علی أن_ّها للأعم، لو لم تکن هناک دلالة علی کونها موضوعة للصحیح، وقد عرفتها، فلا بد أن یکون التقسیم بملاحظة ما یستعمل فیه الشَرح:

وثانیا إنّ ما ذکر إنّما یصحّ إذا کان المرکّب التامّ واحدا ، فالحکمة فی وضع الألفاظ تقتضی وضع اللفظ لذلک التامّ ؛ لکون غرض التفهیم یتعلق به غالبا ، بخلاف التامّ فی المقام ، فإنّه یختلف بحسب الحالات والأشخاص والازمان وغیرها ، وإذا أمکن وضع اللفظ للجامع المرکّب بین الأفراد فلا محالة یکون ذلک الجامع أعمّ یصدق علی التامّ والناقص ، علی ما تقدّم .

[1] قد تقدّم عدم الإشکال فی تصویر الجامع المرکّب علی الأعمّ ، فلیس فی دعوی التبادر محذور من جهة الجامع ولا من سائر الجهات ، وکذا فی دعوی عدم صحّة سلب المسمّی عن الفاسد . والمراد من صحّة التقسیم إلی الصحیح وغیره صحّته بحسب مسمّی اللفظ ، لا المسمی الذی تعلّق به التکلیف ثبوتا ، أو الذی یقوم به الغرض ، فإنّ الصحیح بمعنی ما یقوم به الملاک والغرض یصحّ سلبه حتّی عن التامّ بحسب مقام التسمیة ، والفاسد فی مقام الامتثال ، ولو لعدم قصد التقرّب فیه ، وبالجملة معنی صحّة تقسیم المسمّی إلی الصحیح والفاسد هو أنّ المعنی المتفاهم من لفظ الصلاة مثلاً إذا تحقّق فی الخارج قد یتّصف بأنّه تامّ وقد یتّصف بأنّه ناقص، فیقال: إنّ الصلاة إذا وقعت قبل وقتها تکون فاسدةً، وإذا وقعت بعده تکون صحیحة.

ص :149

اللفظ، ولو بالعنایة.

ومنها: استعمال الصلاة وغیرها فی غیر واحد من الأخبار فی الفاسدة [1]، کقوله علیه الصلاة والسلام (بنی الاسلام علی خمس: الصلاة، والزکاة، والحج، والصوم، والولایة، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة، فأخذ الناس بأربع، وترکوا هذه، فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام لیله، ومات بغیر ولایة، لم یقبل له صوم ولا صلاة)، فإنّ الأخذ بالأربع، لا یکون بناءً علی بطلان عبادات تارکی الولایة، إلاّ إذا کانت أسامی للأعم. وقوله علیه السلام : (دعی الصلاة أیام أقرائک) ضرورة أنّه لو لم یکن المراد منها الفاسدة، لزم عدم صحة النهی عنها، لعدم قدرة الحائض علی الصحیحة منها.

وفیه: أن الاستعمال أعم من الحقیقة، مع أنّ المراد فی الروایة الأولی، هو خصوص الصحیح بقرینة أنّها مما بنی علیها الإسلام، ولا ینافی ذلک بطلان عبادة الشَرح:

[1] قد یقال : ظاهر جملة من الأخبار ، ومنها الخبر المنقول(1) إنّ الولایة شرط لقبول العمل فی مقام إعطاء الأجر والثواب لا شرط لصحّته ، وعلیه فلا یمکن الاستدلال بالخبر لکون عبادة المخالف صلاة علی القولین .

أقول : یمکن الاستدلال بالخبر بتقریبٍ آخر وهو أنّ الصلاة التی یأتی بها المخالف محکومة بالفساد للنقص فی بعض أجزائها وشرائطها ، فإطلاق الإمام علیه السلام ذالصلاة علی عمل المخالف لایکون إلاّ بإرادة الأعمّ ، فینحصر الجواب عن ذلک بما ذکره الماتن قدس سره أخیرا ، ویمکن أن یقال : المراد بالأخذ ، الأخذ باعتقادهم فلا موجب للإلتزام باستعمال الألفاظ فی غیر الصحیح أو فی الأعمّ ، هذا مع الإغماض عمّا

ص :150


1- (1) الوسائل : ج 1 ، باب 1 من أبواب مقدمة العبادات ، الحدیث : 1 / 7 .

منکری الولایة، إذ لعل أخذهم بها إنّما کان بحسب اعتقادهم لا حقیقة، وذلک لا یقتضی استعمالها فی الفاسد أو الأعم، والاستعمال فی قوله: (فلو أن أحداً صام نهاره) إلی آخره، کان کذلک _ أی بحسب اعتقادهم _ أو للمشابهة والمشاکلة.

وفی الروایة الثانیة، الإرشاد إلی عدم القدرة علی الصلاة، وإلا کان الإتیان بالأرکان، وسائر ما یعتبر فی الصلاة، بل بما یسمی فی العرف بها، ولو أخلّ بما لایضر الإخلال به بالتسمیة عرفاً. محرماً علی الحائض ذاتاً، وإن لم تقصد به القربة.

ولا أظن أن یلتزم به المستدل بالروایة، فتأمل جیداً.

ومنها: أن_ّه لا شبهة فی صحّة تعلق النذر وشبهه بترک الصلاة فی مکان تکره الشَرح:

ذکرناه من أنّ الاستدلال بأصالة الإطلاق وأصالة الحقیقة لکشف کیفیّة الاستعمال لا یصحّ بعد معلومیة المراد .

وأمّا الاستدلال علی قول الاعمیّ بنهی الحائض عن الصلاة أیّام أقراءها(1) بدعوی أنّ النهی کالأمر لا یتعلّق بغیر المقدور ، والصلاة الصحیحة لا تتمکن منها الحائض ، لاشتراطها بالخلوّ من الحیض ، فنهیها عنها أیّام حیضها کاشف عن کون المراد بالصلاة الأعمّ ، فهو کما تری ، إذ غایة الأمر یعلم بأنّ لفظ الصلاة فی خطاب نهی الحائض مستعمل فی الأعمّ بقرینة عدم إمکان نهیها عن الصحیحة ، ولا دلالة لها علی کون الاستعمال علی نحو الحقیقة ، هذا أوّلاً .

وثانیا أنّ النهی المزبور لیس بتکلیفی لیقال إنّه لا یتعلّق بغیر المقدور ، بل إرشاد إلی عجزها عن الصلاة لاشتراطها بالخلوّ من الحیض ، ونتیجة ذلک أنّ حرمة الصلاة علی الحائض تشریعیّة ، فإذا أتت بها تعلیما لبنتها ، أو لغیر ذلک من غیر قصد

ص :151


1- (1) الوسائل : ج2 ، باب 14 من أبواب الحیض ، 1 و2 و3 .

فیه] 1]. وحصول الحنث بفعلها، ولو کانت الصلاة المنذور ترکها خصوص الصحیحة، لا یکاد یحصل به الحنث أصلاً، لفساد الصلاة المأتی بها لحرمتها، کما لا یخفی، بل یلزم المحال، فإنّ النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحیح منها، ولا یکاد یکون معه صحیحة، وما یلزم من فرض وجوده عدمه محال.

الشَرح:

الامتثال به لم تفعل حراما .

ودعوی کون النهی الإرشادی أیضا کالأمر الإرشادی لا یتعلّق بغیر المقدور ، لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ الإرشادی لا یتعلّق بما أُحرز عدم إمکانه لکونه لغوا محضاً ، وأمّا تعلّقه بغیر المقدور واقعا ، إرشادا إلی عدم قدرة من یتوجّه إلیه النهی علی متعلّقه ، فهو لیس بلغوٍ ، کما فی النواهی الارشادیّة العرفیّة .

[1] لا یخفی أنّ مرادهم نذر ترک صلاة النافلة ، أو الصلاة التی تکون من قبیل الواجب الموسع ، بحیث أمکن امتثال الأمر بها بإتیانها فی غیر الحمّام ، وأمّا نذر ترک الصلاة الواجبة التی ینحصر امتثال الأمر بها بالصلاة فی الحمّام ولو کان الانحصار بسوء الاختیار ، فلا ینعقد ؛ لأنّ النذر المفروض مساوٍ لنذر ترک الواجب ، فلاینعقد .

وبتعبیرٍ آخر : نذر ترک الصلاة فی الحمّام کنذر ترک الصوم فی یوم عاشوراء یصحّ ویحصل الحنث بالصلاة فیه ، کحنث نذر ترک صوم یوم عاشوراء بالصوم فیه .

فالمذکور فی کلامهم أمران : صحّة النذر المفروض ، وحصول الحنث بالفعل ، ویستدلّ علی القول بالأعمّ بهذین الأمرین ، فإنّه علی قول الصحیحیّ لا یمکن أن یحکم بانعقاد النذر المزبور ؛ وذلک لأنّ متعلّق النذر علی ذلک القول ترک الصلاة الصحیحة فی الحمّام ، والصلاة الصحیحة من جمیع الجهات غیر مقدورة مع نذر ترکها ، فیلزم انتفاء النذر ، لأن_ّه یعتبر فی انعقاد النذر کون متعلّقه مقدورا ، کما أنّه علی قول الصحیحیّ لا یمکن الالتزام بحصول الحنث بالصلاة فی الحمّام لکون تلک

ص :152

قلت: لا یخفی أن_ّه لو صح ذلک، لا یقتضی إلاّ عدم صحة تعلق النذر بالصحیح، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً، مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ینافی صحة متعلقة، فلا یلزم من فرض وجودها عدمها.

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنّما یکون لأجل الصحة، لولا تعلقه، نعم لو فرض تعلّقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل [1]، لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الإمکان.

الشَرح:

الصلاة فاسدةً ، لتعلّق النهی بها ولو بعنوان حنث النذر ویلزم من حصول الحنث بها عدم حصوله ، لأنّ المنذور ترک الصلاة الصحیحة وما یلزم من وجوده عدمه محال سواء کان نذرا أو حنثا .

والجواب عن هذا الاستدلال بأمرین :

الأوّل: أنّ ما ذکر من المحذور لا یثبت کون لفظ «الصلاة» وغیره من ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ ، بل غایته أنّ ما ذکر من المحذور قرینة علی أنّ الناذر یرید بالصلاة فی نذره ، معناها الأعمّ .

وهذا الجواب غیر صحیح ؛ لأنّ للمستدلّ أن یدّعی أنّ من المقطوع به أنّ الناذر یستعمل لفظ «الصلاة» فی المعنی الذی یستعمل اللفظ فیه فی غیر النذر .

والثانی: أنّ المراد بالصحیح عند الصحیحیّ ، هو التامّ من حیث الأجزاء والشرائط التی قرّرها الشارع لنفس الصلاة ، وأمّا فسادها من قبل النهی عنها ولو بعنوانٍ آخر ، فلا یضرّ بالصحّة المأخوذة فی مسمّی الصلاة ، فالمراد بالتامّ من الصلاة فی قول الناذر هو الصحیح لولا النذر ، ولذا لو صلّی الناذر فی الحمّام وأبطل صلاته فی الأثناء بالحدث أو بغیره لا یحصل الحنث بها .

[1] وحاصله ، أن_ّه إذا تعلّق النذر بترک الصلاة المطلوبة ، لتکون مطلوبة للشارع

ص :153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بعد نذر ترکها ، فیمکن أن یقال بعدم حصول الحنث بالصلاة فی الحمّام ؛ لأنّ الصلاة الفاسدة لا تکون حنثا لذلک النذر .

وذکر فی هامش الکتاب أنّ صحّة النذر المفروض مشکل ؛ لعدم إمکان الصلاة الصحیحة المطلقة ، بأن تکون مطلوبة بعد نذر ترکها ، ویلزم من ذلک صحّة الصلاة فی الحمّام لعدم انعقاد النذر وبقاء الصلاة فی الحمّام علی حکمها الأصلی .

أقول : لا ینبغی التأمّل فی أنّ النذر یتعلّق بفعل الناذر أو ترکه ، ولا یدخل فعل الغیر فی نذره _ سواء کان فعل الشارع أو غیره _ ولو نذر ترک الصلاة فی الحمّام ، بحیث تکون تلک الصلاة مطلوبة وصحیحة حتّی بعد نذره ، بأن کان الوصف تقییدا فی الصلاة المنذور ترکها ، فالنذر محکوم بالبطلان ؛ لعدم تحقّق مثل تلک الصلاة ، نعم إذا کان وصفها بالصحّة والمطلوبیة حتّی بعد النذر بتخیّل أنّ الصلاة فی الحمّام لا تسقط عن المطلوبیة والصحّة حتّی بعد النذر المفروض ، فالنذر صحیح ویحصل الحنث بصلاته فی الحمّام ، فتدبّر .

ص :154

بقی أمور:

الأول: إنّ أسامی المعاملات، إن کانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة [1] للصحیحة أو للأعم، لعدم اتصافها بهما، کما لا یخفی، بل بالوجود تارة وبالعدم أخری، وأما إن کانت موضوعة للأسباب، فللنزاع فیه مجال، الشَرح:

الصحیح والأعم فی المعاملات

:

[1] ذکر قدس سره أن_ّه لا یجری نزاع الصحیحیّ والأعمیّ فی ألفاظ المعاملات من العقود والإیقاعات بناءً علی کونها أسامی للمسبّبات حیث أنّ المسبّب لا یکون تامّا تارةً وناقصا أُخری ، لیقع البحث فی أنّ أسامی المعاملات موضوعة لخصوص التامّ أو القدر الجامع بینه وبین الناقص ، بل المسبّب أمر بسیط یتّصف بالوجود تارةً ، وبالعدم أُخری .

نعم لو کانت الألفاظ موضوعة للأسباب ، فللنزاع المزبور مجال ، فإنّ الأسباب مرکّبات لها أجزاء وقیود تکون بمجموعها موجبة لحصول المسبّب ، فیقع النزاع فی ناحیة الموضوع له بأنّه التامّ أو القدر الجامع .

وقد یقال بأنّه لا فرق فی صحّة النزاع بین القول بأنّها موضوعة للأسباب أو المسبّبات ، فإنّ المسبّب هو الذی ینشئه الموجب أو الموجب والقابل ، ویقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع تارةً ، ولا یقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع أُخری ، أو من الشرع خاصّة ثالثةً ، فمثلاً ملکیّة المبیع للمشتری بإزاء الثمن أمر ینشئه البائع ویقع مورد الإمضاء فیما کان البائع مالکا عاقلاً رشیدا وکذا المشتری ، ولا یقع مورد الإمضاء حتّی عند العقلاء فیما کان البائع سکرانا أو صبیّا غیر ممیّز . وعلی ذلک فیمکن البحث فی أنّ الملکیة المنشأة الموضوع لها لفظ البیع هی الواقعة مورد الإمضاء من العقلاء والشرع ، أو أنّه موضوع لنفس الملکیة المزبورة التی ینشئها

ص :155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

العاقد ولو لم تقع مورد الإمضاء ، أو أن_ّه موضوع لما تکون مورد الإمضاء من العقلاء خاصّة ، والحاصل الصحّة فی المعاملات عبارة عن التمامیّة بحسب الإمضاء ، لا من حیث الأجزاء أو الشرائط ، کما کان الأمر علیه فی العبادات ، نعم لو کانت أسامی المعاملات موضوعة للأسباب فیمکن أن تکون الصحّة فیها بمعنی التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط.

أقول : لا یخفی أنّه لا یمکن أن یکون الإمضاء الشرعی قیدا لمعنی البیع ، بل الإمضاء شرعا حکم شرعیّ یترتّب علی البیع بمعناه العرفی وإلاّ یکون قوله سبحانه «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» بمعنی إمضائه لغوا ، ولذا ذکرنا أنّه لا تحتمل الحقیقة الشرعیّة فی ألفاظ المعاملات المتداولة عند العرف والعقلاء ، نعم ربّما یکون الموضوع للحکم الشرعی البیع الممضی شرعا کما فی قوله علیه السلام : «البیّعان بالخیار حتّی یفترقا وصاحب الحیوان بالخیار ثلاثة أیام»(1) ، وهذا لا یکون استعمالاً للفظ البیع فی الممضی شرعا ، بل إرادته بنحو تعدّد الدال والمدلول ، نظیر ما تقدّم فی أسامی العبادات فیما إذا ورد فی الخطابات الأمر بها علی قول الأعمیّ .

وبالجملة الخطابات المزبورة لبیان حکم البیع بعد فرض إمضائه ، والنزاع المعقول فی المعاملات _ علی تقدیر کونها أسامی للمسبّبات _ هو أنّ الموضوع له فیها المسبب فی نظر العاقد مطلقاً ولو لم یلحق به إمضاء العقلاء ؟ أو أنّ الموضوع له خصوص ما یکون ممضی عند العقلاء ؟ نظیر ما ذکرنا فی بحث البیع من أنّ إطلاق البیع بالمعنی المصدری ینطبق علی فعل البائع إلاّ أنّ انطباقه علیه فی صورة تحقّق

ص :156


1- (1) الوسائل : ج12 ، باب 1 من أبواب الخیار ، الحدیث : 1 / 345 .

لکنّه لا یبعد دعوی کونها موضوعة للصحیحة أیضاً [1]، وإنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر لأثر کذا شرعاً وعرفاً. والاختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر

الشَرح:

القبول من المشتری ، لا مطلقاً .

وذکرنا أیضاً أنّ إطلاق السبب والمسبّب فی المعاملات أمر لا أساس له ، ولیس فی المعاملات سبب ولا مسبّب ، وإنّما یکون فیها الإنشاء بالمعنی المتقدّم ؛ لأنّ الإنشاء مقوّم لعنوان المعاملة فلا یطلق البیع علی مجرّد الاعتبار النفسانی بتملیک شیءٍ بإزاء مال ، مالم یبرز ، فالإبراز مقوّم للمعاملة سواء کان عقدا أو إیقاعا ، غایة الأمر کونه معاملة فی العقود مشروط بقبول الطرف الآخر دون الإیقاع ، نعم هذا ما یسمّی عندهم بالمعاملة بمعناها المصدریّ ، وأمّا بمعناها الإسم المصدریّ فهو المعتبر المنشأ .

وعلی ذلک فلو کان فی ناحیة الإنشاء نقص فلا یکون فی البین لا معاملة بمعناها المصدری ولا بمعناها الإسم المصدریّ ، هذا بناءً علی الصحیح ، وأمّا بناءا علی أنّ ألفاظها أسامی للأعمّ فیکون فی البین مُنشأ ، ولکن فیه نقص ولو فی ناحیة إنشائه ، کما لا یخفی .

[1] ذکر قدس سره أنّه بناءً علی کون أسامی المعاملات موضوعة للأسباب ، فالموضوع له فیها _ کالموضوع له فی أسامی العبادات _ هو العقد الصحیح ، أی المؤثّر للأثر المترقّب من تلک المعاملة، بلا فرق بین استعمالات العرف والشرع، واختلاف الشرع مع العرف فی بعض القیود المعتبرة فی العقد لا یوجب اختلاف المعنی، بل المستعمل فیه عند کلّ من العرف والشرع العقد المؤثر لذلک الأثر، غایة الأمر یمکن أن یری أهل العرف العقد _ ولو مع فقد بعض القیود _ مؤثّرا، ولا یری الشرع ذلک، فیکون الاختلاف بینهما فی المحقّقات ومصادیق المعنی، ویکون نظر

ص :157

العقد، لا یوجب الإختلاف بینهما فی المعنی، بل الاختلاف فی المحققات والمصادیق، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره، محققاً لما هو المؤثّر، کما لا یخفی فافهم.

الشَرح:

الشارع من قبیل تخطئته العرف فی المصداق، حیث یری الموجود مع فقد ما یعتبر فی تأثیره شرعا مؤثّرا.

وبیان ذلک : کما أنّ لفظ الخمر موضوع لمائع خاصّ یعرف بمسکریّته ، وإذا اعتقد أحد أنّ المائع الفلانی خمر ، واعتقد الآخر أنّه خلّ فاسد ، فلا یکون اختلافهما فی معنی لفظ الخمر بل اختلافهما فی مصداقه ، حیث إنّ الموجود الخارجی مصداق للخمر عند أحدهما ولیس کذلک عند الآخر ، کذلک لفظ البیع مثلاً ، فإنّه موضوع عند العرف والشرع للعقد المؤثّر فی ملکیّة عین بعوض ، وعلیه فمثلاً الإیجاب من الصبیّ الممیّز المراهق مع القبول من الطرف الآخر لو رآه العرف بیعاً وحکم الشارع بفساده ، فمعناه أنّ الشارع لا یری عقده مصداقا للبیع وحکمه بالفساد تخطئة للعرف .

وبالجملة فألفاظ المعاملات علی تقدیر کونها أسامی للأسباب ، موضوعة للتامّ أی المؤثّر فی الأثر المترقّب عند العرف والشرع ، حیث إنّ الشارع لم یخترع للفظ البیع معنی واختلافهما من جهة بعض القیود ، إنّما هو فی المصادیق لا فی أصل المعنی .

أقول : التخطئة بمعناها المعروف لا یکون إلاّ فیما کان للشیء مصداق واقعیّ بحیث یکون انطباقه علیه قهریّا وفی مثل ذلک یمکن أن یری أحد أنّ الشیء الخارجیّ مصداق واقعیّ له ، ولا یراه الآخر کذلک ، کما مثّلنا لذلک بالخمر ، وأمّا الاعتباریّات التی یکون فیها الشیء مصداقا للمعنی بالاعتبار فمصداقیّته دائرة مدار

ص :158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

اعتبار المعتبر ، ولا معنی لتخطئة المعتبر فیها ، حیث إنّه یمکن أن یعتبر أحد شیئا مصداقا له ولایعتبره الآخرون مصداقا له، فمثلاً یری طائفة الفعل الخاصّ تعظیماً ولا یراه الآخرون تعظیما ، ولا یکون فی الفرض اعتبار إحداهما تخطئة للأُخری ، إذ لیس فی البین واقع معیّن لیکون نظر إحداهما بالإضافة إلیه خطأً ونظر الأُخری صوابا .

لا یقال : إذا ورد فی خطاب الشارع «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» یحرز بعد تمامیّة مقدّمات الإطلاق أنّ ما هو مصداق للبیع عند العرف هو تمام المؤثّر عند الشارع أیضاً ، حیث إنّ الاستعمالات الشرعیّة فی المعاملات جاریة علی المعانی العرفیة ، کما یأتی ، فلو ورد بعد ذلک فی خطاب «لا بَیْعَ فِی المَکِیلِ إلاّ بِالْکَیْلِ» یکون هذا تخطئة ؛ لانکشاف أنّ المؤثّر عند العرف لا یکون مؤثّرا عند الشارع .

فإنّه یقال : التخطئة بهذا المعنی الذی مرجعه إلی الأخذ بالإطلاق قبل ورود خطاب التقیید ، وإلی رفع الید عنه بعد وروده ، لا یکون مختصّا بباب المعاملات ، بل یجری فی جمیع الاطلاقات ، ولعلّه قدس سره یشیر إلی ذلک فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

وعن المحقّق الاصفهانی قدس سره إنّ التخطئة لیست بلحاظ نفس الأمر الاعتباری لیرد أنّها لا تکون فی الاعتباریّات ، بل بلحاظ الملاک والصلاح الموجب للاعتبار ، بحیث لو انکشف الواقع یری العرف عدم الصلاح فی اعتبارهم(1) .

ولا یخفی ما فیه ، فإنّ الصلاح فی الاعتباریّات (یعنی ما کان من قبیل الوضع لا التکلیف بالفعل الخارجی) یکون فی نفس الأمر الاعتباریّ ، وهو حفظ نظام

ص :159


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 137 .

الثانی: إنّ کون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة، لا یوجب إجمالها [1]،

الشَرح:

المعاش بین الناس ، ولکنّ الشارع قد یضیف إلی ذلک الصلاح فی لحاظه أمرا آخر ، فیضیف قیدا آخر فی اعتبار المعاملة لتمییز من یطیعه عمّن یعصیه ، أو لعلمه بعدم الصلاح فی اعتبار المعاملة بدونه ، فعلیه لا یکون اختلافه مع العرف فی کلّ مورد تخطئة ولو بلحاظ الملاک ، کما لا یخفی.

[1] لا ینبغی الرّیب فی عدم ثبوت الحقیقة الشرعیّة فی ألفاظ المعاملات وأنّ الشارع لم یخترع فیها اصطلاحا ، بل جعل لها بمعانیها العرفیة ، أحکاما امضاءً کما فی قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) ، أو تأسیساً ، مثل قوله علیه السلام «والخیار فی الحیوان ثلاثة أیام للمشتری» الحدیث(2) ، وأضاف إلیها قیودا فی إمضائها أو فی ترتّب الحکم التأسیسی علیها ، وبعد البناء علی ذلک وکون استعمالات الشارع تتبع الاستعمالات العرفیّة فیمکن التمسّک بخطاباتها عند الشکّ فی اعتبار أمرٍ آخر فی إمضاء المعاملة ، أو بیان الحکم لها ، حتّی بناءً علی کونها أسامی للصحیحة ، وذلک لعدم إجمال الصحیح عند العرف کما کانت أسماء العبادات عندهم علی الصحیحی ، وعلی ذلک فبعد إحراز مقدّمات الإطلاق کما هو الفرض ، یحرز أنّ الموضوع للإمضاء أو الحکم التأسیسیّ ، نفس تلک المعاملة عند العرف ، وإلاّ کان علی الشارع بیان القید .

ولکن مع ذلک ، قد یناقش فی التمسّک بإطلاق المعاملات عند الشکّ فی کون شیء قیدا فی إمضائها ، بدعوی عدم ورود الخطابات فی مقام إمضاء الأسباب ، بل

ص :160


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) الوسائل : ج12 ، باب1 من أبواب الخیار ، الحدیث : 5 / 346 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مفادها إمضاء المسبّبات ، فقوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) ناظر إلی إمضاء المسبّب ، وأمّا أنّ سببه أیّ شیء ، فلا إطلاق له من هذه الجهة ، نعم یمکن أن یقال : إنّ قوله سبحانه «أوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) دالّ علی إمضاء الأسباب إلاّ أنّ التدبّر فی حکمه یقتضی صرفه إلی المسبّبات أیضاً ؛ لأنّ اعتبار البقاء یکون فی المسبّب ، وأمّا السبب فلا بقاء له لیجب الوفاء به.

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(3) من القضایا الحقیقیّة الانحلالیّة ، فیکون مفاده إمضاء کلّ مسبّب فی الخارج یتعنون ویتّصف بکونه بیعا . ومن الظاهر أنّ إمضاء المسبّب کذلک ، لا ینفکّ من إمضاء السبب ، ولا یخفی أنّ هذا بناءً علی مسلک الأسباب والمسبّبات فی المعاملات وهو مسلک سخیف کما تقدّم فی بحث الإخبار والإنشاء ، ونتعرّض لذلک فی المقام بوجه أخصر.

وأمّا ما ذکر من رجوع خطاب الإمضاء إلی المسبّب ، حتّی فی مثل قوله سبحانه «أوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4) بقرینة أنّ العقد بما هو إیجاب وقبول ، لا بقاء له لیجب الوفاء به ، بل الباقی هو المسبّب ، فیکون الوفاء به لا بالسبب ، ففیه أیضاً ما لایخفی ، فإنّ العقد له بقاء اعتبارا ولذا یتعلّق به الفسخ والإقالة ، حیث إنّ الفسخ حلّ ذلک العقد ، فیعود الملک إلی مالکه الأوّل بالسبب الناقل قبل العقد المفسوخ ، والإقالة

ص :161


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) سورة المائدة : الآیة 1 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 275 .
4- (4) سورة المائدة: الآیة 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

اجتماع طرفی العقد علی فسخه ، کما فی البیعة وحلّها ، وبالجملة البقاء الاعتباریّ للعقد کإلغائه واضح لا یحتاج إلی تطویل الکلام ، وعلیه فلو کانت أسامی المعاملات للتامّ من الأسباب فلا موجب لحمل الحکم الجاری علیها فی الخطابات علی الحکم للمسببات .

وأجاب المحقّق النائینی قدس سره عن المناقشة السابقة فی التمسک بالإطلاقات عند الشکّ فی قیود الأسباب بما حاصله : أنّ الإیجاب والقبول فی العقود والإیجاب فی الإیقاعات لا تکون من قبیل الأسباب ، والأمر الاعتباری المترتّب علیها لیس من قبیل المسبّب لیکون للمسبّب وجود آخر غیر وجود السبب ، حتّی لایمکن التمسّک بخطاب الأوّل عند الشکّ فی اعتبار قید للثانی بدعوی أنّ إمضاء الأوّل لا یستلزم إمضاء الثانی ، بل العقود والإیقاعات بالإضافة إلی الأمر الاعتباری من قبیل الآلة إلی ذیها ، فکما أنّ المفتاح آلة الفتح والمؤثّر فی الفتح هو حرکة ید الفاعل ، فکذلک للمعاملات ، عند العقلاء والشرع ما هو کالآلة لها ویعبّر عنه بصیغ العقود من الإیجاب والقبول وما هو بمنزلة ذی الآلة ویعبّر عنه بالمعاملة من البیع وغیره ، فالمعاملة بمعناها الاسم المصدری وإن کانت تباین المعنی المصدری إلاّ أنّ الظاهر تعلّق الامضاء فی مثل قوله تعالی «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» بالجهة الصدوریة ، فیکون إمضاء البیع بمعناه المصدریّ إمضاءً للآلة التی یقصدها العاقد بتلک الآلة(1) .

وفیه ماتقدّم من أنّ الإمضاء لو کان بنحو الانحلال کماهو مفاد القضیة الحقیقیّة ، فیکون إمضاء المسبّب وذی الآلة إمضاءا للسبب والآلة لا محالة ، حیث لا یمکن

ص :162


1- (1) أجود التقریرات 1 / 49 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحکم بحصول المسبّب وذی الآلة فی موردٍ ، مع عدم تحقّق السبب والآلة ، وإن کان مفاد الخطابات علی نحو لم یکن فیها انحلال ، لا یکون إمضاء المسبّب أو ذی الآلة مفیدا فی مورد الشکّ فی السبب أو الآلة ؛ لأنّ للآلة أیضاً وجودا غیر وجود ذی الآلة ، کما فی السبب ومسبّبه .

وقد یقال : إنّ المناقشة فی التمسّک بإطلاقات المعاملات مبنیة علی کونها من قبیل الأسباب والمسبّبات أو الآلة وذیهما ، ولکنّهما ضعیفان ، وأمّا علی المسلک الصحیح ، من کون البیع مثلاً فی حقیقته أمرا اعتباریّا یحصل بالقصد والاعتبار ، من غیر تأثیر للّفظ وبلا دخل له فی حصول ذلک بنحو السببیة أو الآلة ، بل اللفظ أو غیره یکون مبرزا ، ویطلق علی المجموع من المبرز _ بالفتح _ ومبرزه _ بالکسر _ عنوان البیع ، فیجوز التمسّک بإطلاقاتها إذ علی هذا المسلک لا یصدق البیع ولا غیره من عناوین المعاملات فی العقود والإیقاعات ، بمجرّد الاعتبار من دون الإبراز بقول أو فعل ، وعلی ذلک فمثل قوله سبحانه : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) یکون إمضاءا للمرکّب من الأمر الاعتباریّ ومبرزه _ بالکسر_ فیکون دلالته علی ما سمّوه بالسبب أو الآلة بالدلالة التضمّنیة ویکون إمضاء البیع إمضاء المجموع المرکّب من المبرز _ بالکسر _ والمبرز _ بالفتح _ ومعه لا مانع من التمسّک بالإطلاق(2) .

وفیه : أنّ ما ذکر من کون الإیجاب والقبول مبرزا للمعتبَر الذی یکون إبرازه بقصد اعتباره ، ولا یکون الإبراز من قبیل السبب والآلة کما ذکرنا فی بحث الإنشاء

ص :163


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- (2) المحاضرات : 1 / 192 .

کألفاظ العبادات، کی لا یصح التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبار شیء فی تأثیرها شرعاً، وذلک لأنّ إطلاقها _ لو کان مسوقاً فی مقام البیان [1] _ ینزل علی أن المؤثر عند الشارع، هو المؤثّر عند أهل العرف، ولم یعتبر فی تأثیره عنده. غیر الشَرح:

والخبر ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّ المأخوذ فی معنی البیع بمعناه الإسم المصدریّ ، هو المبرز _ بالفتح _ بما هو مبرز بحیث یکون وصف المبرزیة محقّقا ومقوّما له ، وأمّا نفس المبرز _ بالکسر _ فهو غیر داخل فی معناه علی وجه الجزئیّة ، فیرد الإشکال بأنّ إمضاء المبرز _ بالفتح _ لا یلازم إمضاء مبرزه _ بالکسر _ مطلقاً ، إلاّ بنحو انحلال الخطاب ، کما تقدّم .

[1] لا یخفی أنّ التمسک بالاطلاق اللفظی فی خطابات إمضاء المعاملات ، یبتنی علی کون المراد من ألفاظ المعاملات فی تلک الخطابات الشرعیه معانیها العرفیة ، _ أی ما یعتبره العرف معاملة _ ، لما تقدّم من أنّ معانیها لیست من الأُمور الواقعیّة ، ولا من المخترعات الشرعیة ، فیکون مفاد الخطاب المتضمّن للحکم بنحو القضیة الحقیقیة ، شمول الامضاء والحکم لکلّ ما یصدق علیه عنوان المعاملة عرفا ، وعلی الشارع فی موارد إضافة قید فی إمضاء معاملة أو عدم إمضاء فرد ، بیان القید لتلک المعاملة ، أو تقییدها بغیر ذلک الفرد ، فی خطاب إمضائها ، أو بخطاب منفصل ولذلک تمسّک العلماء بخطابات المعاملات فی أبوابها .

وأما إذا بنی علی أنّ المراد من أسامی المعاملات المعانی الواقعیة منها ، کسائر الخطابات التی تتضمّن الحکم التکلیفی أو الوضعی لعنوان واقعیّ ولو بنحو القضیة الحقیقیّة ، بحیث لا توجب التخطئة فی بعض مصادیقها تقییدا فی خطاب الحکم ، کما التزم به الماتن قدس سره قبل ذلک ، فلا موجب للتمسّک بتلک الخطابات فی موارد احتمال التخطئة فی بعض المصادیق والمحقّقات لها بل لابدّ لدفع احتمال التخطئة

ص :164

ما اعتبر فیه عندهم، کما ینزل علیه إطلاق کلام غیره، حیث إن_ّه منهم، ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره، کان علیه البیان ونصب القرینة علیه، وحیث لم ینصب، بان عدم اعتباره عنده أیضاً. ولذا یتمسکون بالإطلاق فی أبواب المعاملات، مع ذهابهم إلی کون ألفاظها موضوعة للصحیح.

نعم لو شک فی اعتبار شیء فیها عرفاً، فلا مجال للتمسک بإطلاقها فی عدم اعتباره، بل لا بد من اعتباره، لأصالة عدم الأثر بدونه، فتأمل جیداً.

الشَرح:

فیها من التشبث بالاطلاق المقامی ، ویُشکل إحراز هذا الاطلاق فی المعاملات التی تکون لها مصادیق متیقنة توضیحه : أنّه لو کان لمعاملةٍ _ بناءً علی کون معانیها واقعیة _ مصادیق متیقّنة ولم یحرز کون الشارع فی مقام بیان جمیع أفراد تلک المعاملة ومحقّقاتها وشکّ فی فردٍ منها فلا یجوز التمسّک بالإطلاق المقامی أیضاً ، وذلک لأنّ شرطه إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان .

نعم إذا اُحرز ذلک فلا مانع منه ، وأمّا إذا لم یکن لها مصادیق متیقّنة فعلی هذا المبنی یصیر الخطاب مجملاً غیر قابل للتمسّک به ، کما لا یخفی .

نعم لو اُحرز فی مقام خاصّ بکون الشارع فیه متصدّیا لبیان جمیع ما یقع من أفراد المعاملة ومحقّقاتها وکان مصداق منه مورد التخطئة ، یتمسّک بالاطلاق المقامی فیه ، کما تقدّم نظیره فی العبادات علی قول الصحیحی ، بل علی الأعمیّ ، بناءً علی الإجمال فی خطابات التشریع .

وبالجملة فظاهر عبارة الماتن قدس سره جواز التمسّک بالاطلاق اللفظی فی المعاملات حیث قال: «ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره کان علیه البیان ونصب القرینة علیه (أی علی اعتباره فی المعاملة) وحیث لم ینصب بأنّ عدم اعتباره عنده أیضاً ، ولذا یتمسّکون بالاطلاق فی أبواب المعاملات مع ذهابهم إلی کون ألفاظها

ص :165

الثالث: إنّ دخل شیء وجودی أو عدمی فی المأمور به [1]:

الشَرح:

موضوعة للصحیح»(1) وأنت تری أنّ هذا التمسّک لا یناسب مسلک التخطئة فی المصداق ، حیث إنّ اعتبار القید لا یکون تقییدا لإطلاق المعاملة الواقعیة ، فلاحظ وتدبّر لیس مراد صاحب الکفایة قدس سره فی المقام هو جواز التمسّک بالإطلاق اللفظی ، بل غرضه (ره) انّ استشهاد صاحب الکفایة بتمسّک المشهور فی أبواب المعاملات بالإطلاق مع ذهابهم إلی الصحیح استشهاد للإطلاق اللفظی کما لا یخفی علی المتأمل . وقوله «لو اعتبر فی تأثیره ما شکّ ... وحیث لم ینصب بانَ عدم اعتباره» ظاهر فی الإطلاق المقامی الذی هو علی القاعدة فی المقام ، فبینهما تهافت واضح ، مع أن_ّه قدس سره تمسّک بالإطلاق اللفظی فی «أحلّ اللّه البیع» و«أوفوا بالعقود» فی حاشیته علی مکاسب الشیخ قدس سره .

وعلیه ، فإن أراد قدس سره من عبارته هذه الإطلاق اللفظی واستشهد له بتمسّک المشهور فهو غیر صحیح ، إذ المقام لیس مجال الإطلاق اللفظی بل هو مجال الإطلاق المقامی لکون أسامی المعاملات المعانی الواقعیة واعتبار قید فی خطاب الشارع لا یکون تقییداً لها ، بل بیانٌ للمعاملة الواقعیة وقیودها ، وإن أراد قدس سره منها الإطلاق المقامی فلا مجال للاستشهاد بالمشهور المتمسّکین بالإطلاق اللفظی ، فتأمّل .

أنحاء الدخل فی المأمور به

:

[1] وحاصله أنّ دخل أمر وجودی أو عدمی فی متعلّق الأمر علی أنحاء :

الأوّل: أن یکون الشیء بنفسه داخلاً فی متعلّقه ، بأن یتعلق الأمر بالمرکّب منه

ص :166


1- (1) الکفایة : ص33 .

تارة: بأن یکون داخلاً فیما یأتلف منه ومن غیره، وجعل جملته متعلقاً للأمر، فیکون جزءاً له وداخلاً فی قوامه.

الشَرح:

ومن غیره ، کما فی تعلّق الأمر بالصلاة التی منها السورة ، وعلی ذلک تکون السورة جزءا منها ودخیلة فی قوامها ، بمعنی أنّ الصلاة الفاقدة لها لا تکون مصداقا لمتعلّق الأمر ، بل لا تکون صلاة علی القول بالصحیح ، ولا فرق فی ذلک بین کون الشیء أمرا وجودیا أو عدمیا .

الثانی: أن یکون نفس الشیء خارجا عن متعلّق الأمر ، ولکن تؤخذ فی متعلّقه خصوصیّة لا تحصل بدون ذلک الشیء ، کما إذا تعلّق الأمر بالصلاة المقیّدة بسبق الإقامة علیها ، أو بمقارنتها بالطهارة ، أو بتأخّر شیء عنها ، فلا تکون الإقامة أو الطهارة أو غیرهما بنفسها داخلة فی الصلاة المأمور بها ، بل یکون الداخل فیها تقیّدها بها ، ولذا یمکن أن یکون نفس ذلک الشیء أمرا غیر اختیاری للمکلف کالوقت فإنّه یکفی فی الأمر بالمقید به کون الخصوصیة اختیاریة .

وبالجملة نفس الشیء فی هذا الفرض من مقدمات المأمور به لا من مقوّماته ، ویعبّر عنه بالشرط مقابل الجزء ، هذا فی الشرط الشرعی ، وأمّا العقلی فیأتی الکلام فیه فی بحث مقدّمة الواجب وأنّ الشرط المزبور من أجزاء العلّة التامّة .

ولا یخفی أنّه یمکن أن یختصّ دخالة شیء فی متعلّق الأمر بأحد النحوین بحالة دون أُخری ، کما فی جلّ أجزاء الصلاة وشرائطها ، حیث إنّ اعتبارها مختص بحال الاختیار ، ویسقط عند الاضطرار وسائر الأعذار ، کما هو مقرّر فی محلّه .

الثالث: أن لا یکون الشّیء داخلاً فی متعلّق الأمر بنفسه ولا یتقیّد به متعلّق الأمر ، کما فی الصلاة بالإضافة إلی وقوعها فی المسجد أو أوّل الوقت ، بل تتشخّص

ص :167

وأخری: بأن یکون خارجاً عنه، لکنه کان مما لا یحصل الخصوصیة المأخوذة فیه بدونه، کما إذا أخذ شیء مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له، متعلقاً للأمر، فیکون من مقدماته لا مقوّماته.

الشَرح:

به الصلاة ، حیث لابدّ من وقوعها فی مکان أو زمان ، وربما یکون الشیء کذلک موجبا لمزیّة أو نقص فی الملاک الملحوظ فی متعلق الأمر ، وتکون دخالته فی المزیّة إمّا بنحو الشرطیّة کما فی مثال المسجد ، وإمّا بنحو الجزئیة بأن یکون الشیء بنفسه موجبا لمزیة الملاک فی متعلّق الأمر، کما فی القنوت علی أحد الوجهین، وتکرار ذکر الرکوع والسجود، فإنّ القنوت أو الذکر المکرّر بنفسه یوجب کمال الصلاة ومزیّتها، وممّا ذکر یظهر أنّ الاخلال بالشیء فی هذا النحو بکلا فرضیه لا یکون إخلالاً بالمأمور به ، إذ المفروض أنّه لم یؤخذ فی متعلّق الأمر لا جزءا ولا شرطا، بخلاف النحوین الأوّلین.

ثمّ إنّه قد لا یکون لشیء دخل فی متعلّق الأمر بأحد النحوین الأوّلین، ولا فی مزیّة ملاکه کما فی النحو الثالث، بل یکون الصلاح مترتّبا علی الإتیان به أثناء الواجب والمستحب أو قبلهماأو بعدهما فیکون الإتیان بالواجب أو المستحب ظرفا لامتثال الأمر به ، کما فی الأمر بالأذان أو التعقیب بعد الصلاة ، والقنوت علی ثانی الوجهین ، والأدعیة المأثورة فی نهار شهر رمضان للصائم فیه ، حیث لا یتفاوت الحال فی ناحیة الصوم وملاکه بها ، کما أنّ النوافل للفرائض الیومیة کذلک ، فإنّ لها مصالح تترتب علی الإتیان بها فیما إذا وقعت قبل الفریضة أو بعدها .

أقول : إنّ مجرّد ترتّب زیادة ملاک المأمور به علی الشیء لا یوجب کونه جزءا استحبابیا أو شرطا استحبابیا ولا ما یتشخّص متعلّق الأمر به ، فیما إذا کان له وجود ممتاز خارجا وغیر مأخوذ فی متعلّق الأمر بالمرکّب، لا بنفسه ولا بخصوصیته، کما

ص :168

وثالثة: بأن یکون مما یتشخص به المأمور به، بحیث یصدق علی المتشخص به عنوانه، وربما یحصل له بسببه مزیة أو نقیصة، ودخل هذا فیه أیضاً، طوراً بنحو الشطریّة وآخر بنحو الشرطیة، فیکون الإخلال بما له دخل بأحد النحوین فی حقیقة المأمور به وماهیته، موجباً لفساده لا محالة، بخلاف ماله الدخل فی تشخصه وتحققه مطلقاً. شطراً کان أو شرطاً، حیث لا یکون الإخلال به إلاّ إخلالاً الشَرح:

هو المفروض، فإنّه مع عدم أخذه فی متعلّق الأمر یکون الأمر به عند الإتیان بالمرکّب أمرا استحبابیا مستقلاًّ ویکون وجوده خارجا غیر متحد مع وجود متعلّق الأمر لا محالة.

والحاصل کما یأتی فی الواجب التخییری ، أنّ الوجوب التخییری بین الأقل والأکثر غیر معقول ، بل یکون الواجب هو المقدار الأقل والزائد مستحبّا ، نعم إذا کان ما یسمّی بالشرط الاستحبابی متحدا مع المأمور به خارجا وتشخصا، کما فی الصلاة فی المسجد وفی أوّل الوقت، بحیث ینطبق عنوان متعلّق الأمر علی المأتی به انطباق الکلی علی فرده، یکون الأمر بذلک الفرد إرشادا إلی کونه أفضل الأفراد، بخلاف ما إذا کان للشرط وجود آخر کالتحنّک فی الصلاة، فإنّها صلاة بضمّ عمل آخر معها فیکون الأمر بالتحنّک فیالصلاة استحبابیا نفسیا وإن کان الملاک فی الأمر به زیادة فضل الصلاة، ویترتّب علی ذلک عدم بطلان الصلاة بالریاء فی الجزء المستحبی لها أو الشرط المستحبی ممّا یکون وجودهما منحازا ولا یتّحد مع الصلاة خارجا لیکون من تشخّص الصلاة بهما، حیث إنّ الریاء فیهما لا یکون ریاءا فی طبیعیّ الصلاة المأمور بها، کما أنّ زیادتهما فی صورة الریاء فیهما لا تکون زیادة فی الصلاة؛ لأنّ المفروض عدم الإتیان بهما بقصد أنّهما جزء الطبیعی أو شرطه، وهذا بخلاف الریاء فی الجزء الواجب أو الشرط الواجب أو فی الخصوصیة التی تتحد مع الطبیعیّ

ص :169

بتلک الخصوصیة، مع تحقق الماهیة بخصوصیة أخری، غیر موجبة لتلک المزیة، بل کانت موجبة لنقصانها، کما أشرنا إلیه، کالصلاة فی الحمام.

ثمّ إنّه ربّما یکون الشیء مما یندب إلیه فیه، بلا دخل له أصلاً _ لا شطراً ولا شرطاً _ فی حقیقته، ولا فی خصوصیته وتشخصه، بل له دخل ظرفاً فی مطلوبیته، بحیث لا یکون مطلوباً إلاّ إذا وقع فی أثنائه، فیکون مطلوباً نفسیاً فی واجب أو مستحب، کما إذا کان مطلوباً کذلک، قبل أحدهما أو بعده، فلا یکون الإخلال به موجباً للإخلال به ماهیة ولا تشخصاً وخصوصیة أصلاً.

إذا عرفت هذا کلّه، فلا شبهة فی عدم دخل ما ندب إلیه فی العبادات نفسیاً فی

الشَرح:

خارجا، کالصلاة فی المسجد أو أوّل الوقت، حیث یصدق معها الریاء فی الصلاة فتبطل الصلاة. نعم الإتیان بالخصوصیة المتحدة، بداع آخر نفسانی غیر الریاء لا یبطل الصلاة، حیث لم تؤخذ فی متعلّق الأمر لیعتبر فیها قصد التقرّب ، کما لا یخفی.

ثمّ إنّ الریاء فی جزء العبادة أو شرطها _ یعنی فی التقید المأخوذ فیها _ یبطلها ولا یفید تدارکه بقصد القربة ، وهذا إنّما هو فیما کانت الزیادة مبطلة للعبادة کالصلاة، وأمّا فیما لا تبطلها الزیادة فلصحّة العمل مع التدارک وجه تعرّضنا له فی مباحث الفقه.

ص :170

التسمیة بأسامیها، وکذا فیما له دخل فی تشخصها مطلقاً، وأما ماله الدخل شرطاً فی أصل ماهیتها، فیمکن الذهاب أیضاً [1] إلی عدم دخله فی التسمیة بها، مع الذهاب إلی دخل ما له الدخل جزءاً فیها، فیکون الإخلال بالجزء مخلاً بها، دون الإخلال بالشرط، لکنک عرفت أنّ الصحیح اعتبارهما فیها.

الشَرح:

[1] یعنی کما أنّ ما له الدخل فی کمال طبیعی العبادة غیر مأخوذ فی ناحیة المسمّی ، کذلک ما له الدخل شرطا فی أصل ماهیّتها ، بأن یمکن أن یقال بعدم أخذه فی ناحیة المسمّی أیضاً ، وینبغی أن یراد بالشرط تقیّد الأجزاء بما یسمّی شرطا وإلاّ

فنفس ما یطلق علیه الشرط کالوضوء والغسل والتیمّم بالإضافة إلی الصلاة ، فخروجه عن المسمّی مقطوع به وإلاّ لانقلب جزءا .

والوجه فی خروج التقید عن المسمّی ووضع اسم العبادة لنفس الأجزاء أو بعنوان ینطبق علیها خاصّة غیر ظاهر، بناءً علی وضع أسامیها للصحیحة.

نعم، قیل: إن أخذ الشرط فی المسمّی مستحیل؛ لأنّ الشرط متأخّر عن الأجزاء رتبة، حیث إنّ الأجزاء هی المؤثّرة فی الملاک والشروط دخیلة فی فعلیّة تأثیرها.

لکن ضعفه ظاهر فإنّ تأخّر رتبة الشرط لا یوجب امتناع وضع لفظ للمجموع ولو کان بعضه متقدّما علی البعض الآخر رتبة أو زمانا ، أضف إلی ذلک ما ذکرناه من أنّ المراد بالشرط فی العبادة أو المعاملة ما یکون التقیّد به داخلاً فی متعلّق الأمر أو الموضوع للإمضاء ، ولا یرتبط بالشرط من أجزاء العلّة التامّة الذی یکون به فعلیّة تأثیر السّبب وحصول أثره.

ص :171

الحادی عشر

الحق وقوع الاشتراک، للنقل والتبادر [1]، وعدم صحة السّلب، بالنّسبة إلی

الشَرح:

الاشتراک

:

[1] الاشتراک فی اللفظ عبارة عن کونه موضوعا لأکثر من معنی واحد ، بحیث لا یکون وضعه لمعنی موجبا لهجر المعنی الآخر ، ولذا یکون عند إطلاقه مجملاً یحتاج تعیین أحد معانیه إلی القرینة المعیّنة . والمراد بالنقل فی قوله «للنقل» نقل اللغویین فإنّهم ذکروا فی بعض الألفاظ أن_ّه مشترک وأنّه من الأضداد ، کما أنّ المراد بالتبادر هو أن_ّه عند إطلاق مثل «قرء» یعلم أنّ مراد المتکلّم أحد معنییه الحیض أو الطهر ، وذلک علامة کونه حقیقة فی کلّ منهما.

أقول : لعلّ المراد بنقل اللغویین ، النقل علی نحو یوجب العلم بالصدق وإلاّ فلا دلیل علی اعتبار نقل اللغوی بالإضافة إلی ثبوت الوضع.

وقد یُنکر الاشتراک فی الألفاظ ویقال إنّه غیر جائز ، بمعنی خلاف الغرض من الوضع ، فلا یقع من الواضع الحکیم ، حیث إنّ الغرض من الوضع الدلالة علی المعنی بنفس اللفظ ومع الاشتراک لا یحصل هذا الغرض.

وفیه أنّ الدلالة علی المعنی بنفس اللفظ لا تنافی الاشتراک، غایة الأمر یحصل فی تلک الدلالة الإجمال الخاصّ؛ ولذا یحتاج استعماله إلی القرینة المعیّنة علی أنّ الإجمال فی المدلول یتعلّق به غرض المتکلم أحیانا فیذکر بلا قرینة من غیر لزوم محذور.

وممّا ذکر ، یظهر فساد ما قیل من استحالة استعمال المشترک فی القرآن المجید بدعوی أنّ الکلام مع عدم القرینة اللفظیة یکون مجملاً ومعها یکون تطویلاً بلا طائل.

ص :172

معنیین أو أکثر للفظ واحد. وإن أحاله بعض [1]، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الإخلال أولاً، لإمکان الاتکال علی القرائن الواضحة، ومنع کونه مخلاًّ بالحکمة ثانیاً، لتعلق الغرض بالاجمال أحیاناً، کما أن استعمال الشَرح:

وأما ما ذکر الماتن من الاتکال علی قرینة حال فلا یخفی ما فیه فإن القرآن معجزة خالدة والقرینة الحالیة تزول بزوال ذلک الحال والصحیح فی الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص او الاتیان بقرینة أتت لإفادة أمر آخر کالنهی للمرأة بترک صلاتها أیام اقرائها ولا یلیق شیء منهما بکلامه (جل شأنه).

وجه الفساد : إمکان تعلّق غرضه (سبحانه) فی بعض الموارد بالإجمال والاتکال علی القرینة اللفظیّة ، فیما إذا کانت تلک القرینة لإفادة أمرٍ آخر أیضاً ، یتعلّق غرضه ببیانه فلا یکون تطویلاً بلا طائل . وأمّا ما ذکر الماتن من الاتکال علی قرینة حال فلا یخفی ما فیه فإن القرآن معجزة خالدة والقرینة الحالیة تزول بزوال ذلک الحال والصحیح فی الجواب تعلق الغرض بالاجمال الخاص أو الاتیان بقرینة أتت لإفادة أمر آخر کالنهی للمرأة بترک صلاتها أیام اقرائها.

وکیف لا یتعلّق غرض الحکیم بالإجمال وقد أخبر سبحانه بوقوع المشتبه فی کتابه العزیز ، حیث قال سبحانه : «فِیْهِ آیاتٌ مُحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمِّ الْکِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ»(1).

[1] ذهب بعضٌ إلی امتناع الاشتراک اللفظی واستدلّ له بأنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بین اللفظ والمعنی ، بحیث ینتقل الذهن إلی المعنی من سماع اللفظ ، وعلیه فإن کان الوضع الثانی متمّما للوضع الأوّل ، بأن یحصل عند سماع اللفظ

ص :173


1- (1) سورة آل عمران : الآیة 7 .

المشترک فی القرآن لیس بمحال کما توهم، لأجل لزوم التطویل بلا طائل، مع الاتکال علی القرائن والإجمال فی المقال، لولا الإتکال علیها. وکلاهما غیر لائق بکلامه (تعالی جلّ شأنه)، کما لا یخفی، وذلک لعدم لزوم التطویل، فیما کان الاتکال علی حال أو مقال أتی به لغرض آخر، ومنع کون الاجمال غیر لائق بکلامه تعالی، مع کونه مما یتعلق به الغرض، وإلا لما وقع المشتبه فی کلامه، وقد أخبر فی کتابه الکریم، بوقوعه فیه قال اللّه تعالی «فیه آیات محکمات هن أم الکتاب واخر متشابهات».

الشَرح:

الانتقال إلی مجموع المعنیین فهو خلاف المفروض فی الاشتراک ، وکذا إن کان موجبا للانتقال إلی أحد المعنیین أو المعانی بلا تعیین ، بأن یکون الموضوع له هو الجامع الاعتباریّ فهو خلاف المفروض أیضاً ، وإن کان یوجب الانتقال إلی کلّ من المعنیین أو المعانی بخصوصه ، بانتقال مستقل ، فهذا لا یمکن من غیر ترتّب . فلا محالة یکون أحد الانتقالین فی طول الآخر .

وفیه أنّ : الوضع لیس عبارة عن جعل الملازمة بین اللفظ والمعنی ؛ لأنّ الملازمة بین سماع اللفظ والانتقال إلی المعنی تحصل بسبب العلم بالوضع ، فلابدّ أن یکون الوضع غیر الملازمة الحاصلة من العلم به ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : مع الغضّ عن ذلک ، فلا ینحصر الأمر فیما ذکره من الشقوق ، فإنّه یمکن أن یکون جعل الملازمة فی موارد ذکر القرینة المعیّنة لأحد المعانی ، فمثلاً إذا لم یکن لفظ القرء موضوعاً للحیض لم ینتقل الذهن إلیه من سماع لفظ القرء ولو مع ذکر «ثلاثة أیام» ، بخلاف ما إذا کان ذکرها بعد وضعه له فیحصل الانتقال بها ، وهذا المقدار یکفی فی حصول الغرض من الوضع وخروجه عن اللغویة ، کما هو ظاهر ، وما ذکره من عدم إمکان تعدّد الانتقال المستقلّ من لفظ واحد یأتی ما فیه فی البحث

ص :174

وربّما توهم وجوب وقوع الاشتراک [1] فی اللغات، لأجل عدم تناهی المعانی، وتناهی الألفاظ المرکبات، فلا بدّ من الاشتراک فیها، وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراک فی هذه المعانی، لاستدعائه الأوضاع الغیر المتناهیة، ولو سلم الشَرح:

الآتی من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی إن شاء اللّه تعالی .

[1] قیل بوجوب وقوع الاشتراک فی اللّغات ، ولو فی بعض الألفاظ المتداولة فی کلّ لغة ، بدعوی أنّ ألفاظ کل لغة متناهیة بخلاف المعانی فإنّها غیر متناهیة .

وأجاب المصنف قدس سره عن ذلک بوجهین :

الأوّل: أنّه لا یمکن الوضع لکلّ المعانی غیر المتناهیة؛ لاستلزامه أوضاعا غیر متناهیة. ولو فرض إمکان صدور الأوضاع غیر المتناهیة بفرض الواضع واجب الوجود فلا یترک علی الأوضاع غیر المتناهیة أثر فیکون لغواً وانما یجدی الوضع فی مقدار الأوضاع المتناهیة.

الثانی : أنّ المعانی الکلّیة متناهیة ، فیمکن وضع ألفاظ لتلک المعانی الکلیة بحیث لا یحصل الاشتراک فیها ، وأمّا جزئیّاتها وإن کانت غیر متناهیة ، إلاّ أنّه لا ضرورة لوضع لفظ لکلّ منها کما فی الاعلام الشخصیة ، بل یمکن فی مقام الاستعمال تفهیم الجزئیّ بالقرینة ، بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ، أو بنحو المجاز فی الاستعمال ، فإنّ باب المجاز واسع .

أقول : ظاهر کلامه تسلیم تناهی الألفاظ ، ولکنّ الواقع لیس کذلک ، بل الألفاظ کالمعانی غیر متناهیة ، وذلک لأنّ الحروف الهجائیة وإن کانت متناهیة إلاّ أنّ المرکّب منها غیر متناه ، غایة الأمر تکون بعض الألفاظ کثیرة الحروف .

وأمّا ما ذکره قدس سره من تناهی المعانی الکلیة فإن أراد بها نظیر مفهوم الشیء

ص :175

لم یکد یجدی إلاّ فی مقدار متناه، مضافاً إلی تناهی المعانی الکلیة، وجزئیاتها وإن کانت غیر متناهیة، إلاّ أنّ وضع الألفاظ بإزاء کلیاتها، یغنی عن وضع لفظ بإزائها، کما لا یخفی، مع أنّ المجاز باب واسع، فافهم.

الشَرح:

والممکن من الکلّیات الوسیعة ، فالأمر کما ذکره وان أراد الکلّیات الضیّقة مفهوماً (أی الجزئی الإضافی بالنسبة إلی ما هو أوسع منه) التی یتعلّق الغرض بتفهیمها فی مقام التخاطب فهذه الکلّیات غیر متناهیة ویکفی فی الإذعان بذلک ملاحظة مراتب الأعداد فإنّها غیر متناهیة .

ویظهر عن سیّدنا الأُستاذ قدس سره أنّ الامتناع فی المقام بمعنی عدم الوقوع ، حیث قال ما حاصله : أن_ّه لیس فی الألفاظ ما یکون مشترکا لفظیا بل اللفظ فی الموارد المعروفة بالاشتراک یوضع للجامع بین الأمرین أو أکثر ، فمثلاً لفظ «قرء» موضوع لحالة المرأة الجامعة بین الطهر والحیض ، ولفظ «جون» موضوع للجامع بین السواد والبیاض، وخفاء الجامع أوجب الوهم بأنّ اللفظ من الأضداد، ولو لم یکن بینهما جامع لما کان بینها تقابل ، فإنّ التقابل لا یحصل من غیر جامع ، ولذا لایکون بین العلم والحجر تقابل ، فإنّ أحدهما جوهر والآخر عرض ، هذا بناءً علی عدم تفسیر الوضع فی الألفاظ بالتعهّد ، وإلاّ فکون اللفظ موضوعا للجامع لا یحتاج إلی الاستدلال(1) .

أقول : غایة ما ذکر عدم التقابل بین أمرین لا جامع بینهما ، لا أنّ اللفظ فی موارد التقابل موضوع للجامع مع أنّ لزوم الجامع فی موارد التقابل غیر صحیح ، فإنّ من التقابل تقابل الإیجاب والسلب والعدم والملکة والتضایف ، ولا یمکن الجامع فی

ص :176


1- (1) المحاضرات : 1 / 202 .

الثانی عشر

إنه قد اختلفوا فی جواز استعمال اللفظ، فی أکثر من معنی علی سبیل الانفراد والاستقلال [1]، بأن یراد منه کل واحد، کما إذا لم یستعمل إلاّ فیه، علی أقوال:

أظهرها عدم جواز الاستعمال فی الأکثر عقلاً.

الشَرح:

الأوّل وکذا فی الثانی ، حیث إنّ التقابل بین الملکة وعدمها ، هو تقابل الوجود والعدم مع اعتبار القابلیة للوجود ولو بحسب الجنس ، والتضایف اتّصاف کلّ من الأمرین بما یقتضی النسبة بینهما ، بل لا جامع فی موارد تقابل التضاد إلاّ کون الضدّین من مقولة واحدة ، ومن الظاهر أنّ اللفظ فیهما لم یوضع للمقولة وإلاّ لصحّ استعمال اللفظ فی غیرهما ، ممّا یدخل فی تلک المقولة .

استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

:

[1] المراد باستعمال اللفظ فی أکثر من معنی، إرادة کلّ من المعنیین أو المعانی منه کما إذا لم یستعمل إلاّ فی أحدهما أو أحدها ، وقد اختار قدس سره عدم إمکان استعمال اللفظ کذلک فی أکثر من معنی ، وذکر فی وجه امتناعه لزوم الخلف أو اجتماع المتنافیین .

وتقریره : أنّ الاستعمال لیس مجرّد الإتیان بعلامة للمعنی ، بحیث یکون مبرزا لإرادته لیقال بإمکان کون شیء علامة لأُمور متعدّدة فضلاً عن أمرین ، بل هو عبارة عن جعل اللفظ باللحاظ وجها وعنوانا للمعنی ، فانیا فیه فناء الوجه فی ذی الوجه ، بل وکأنّ اللفظ عین المعنی ، وکأنّه الملقی خارجا ، کما عبّر عن ذلک بقوله «بوجهٍ ، نفسه» یعنی جعل اللفظ ولحاظه بنحو یکون عین المعنی ، والشاهد علی ذلک سرایة الحسن والقبح من المعانی إلی الألفاظ ، فیکون اللفظ مقبولاً للطباع بمقبولیّة معناه

ص :177

وبیانه: إنّ حقیقة الإستعمال لیس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنی، بل جعله وجهاً وعنواناً له، بل بوجه نفسه کأنّه الملقی، ولذا یسری إلیه قبحه وحسنه کما لا یخفی، ولا یکاد یمکن جعل اللفظ کذلک، إلاّ لمعنی واحد، ضرورة أنّ الشَرح:

ومنفورا عندها بالتنفّر عن معناه .

وعلی ذلک یکون لحاظ اللفظ فانیا فی معنی کذلک منافیا للحاظه فی نفس الوقت فانیا فی معنیً آخر ، إذ لحاظه فانیا فی معنیً آخر یوجب عدم لحاظه فی المعنی الأوّل ، إلاّ أن یکون اللاحظ أحول العینین فیری اللفظ لفظین یمکن له لحاظ أحدهما فانیا فی أحد المعنیین والآخر فانیا فی الآخر منهما .

أقول : لا أری محذورا فی لحاظ اللفظ فانیا فی کل من المعنیین وکأنّ کلاًّ منهما وجود لذلک اللفظ ، وقد تسلّم قدس سره فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بإمکان لحاظ العامّ بحیث یکون وجها وعنوانا لکلّ من أفراده وکأنّه عین کلّ منها ، وفیما نحن فیه یلاحظ اللفظ کأنّه عین کلّ من المعنیین وکلّ من المعنیین وجود له . ولذا یشار إلی النقد الرائج فی عصرنا ویقال : إنّه الدرهم والدینار اللّذان أهلکا الناس فی العصور المتتالیة .

وأمّا ما ذکر _ من أنّ لحاظ اللفظ فانیاً فی المعنی الثانی بحیث کأنّه هو الثانی ، ولازمه عدم لحاظه عین الأوّل فی ذلک الآن إذ لحاظه عین الأول فرض لاجتماع المتنافیین _ فلا یمکن المساعدة علیه ؛ وذلک لأنّ لحاظه عین الثانی یلازم عدم لحاظه فی ذلک الآن عین الأوّل ، إذا لم یمکن الجمع فی تنزیل اللفظ منزلة کلّ من الشیئین فی آنٍ واحد ومع إمکان التنزیل فلا مانع منه.

والسرّ فی ذلک أنّ التنزیل لیس من جعل الشیء شیئا آخر حقیقةً ، بل هو قسم من الوهم والخیال ولا واقعیة له لیقال إنّ الواحد حقیقة لا یکون اثنین ، وبالجملة

ص :178

لحاظه هکذا فی إرادة معنی، ینافی لحاظه کذلک فی إرادة الآخر، حیث إنّ لحاظه کذلک، لا یکاد یکون إلاّ بتبع لحاظ المعنی فانیاً فیه، فناء الوجه فی ذی الوجه، والعنوان فی المعنون، ومعه کیف یمکن إرادة معنی آخر معه کذلک فی استعمال الشَرح:

اللفظ وإن کان له وجود واحد ، وذلک الوجود وجود للفظ حقیقة ووجود للمعنی بالتنزیل ، إلاّ أنّه لا مانع من کونه وجودا تنزیلیا للمعنی الآخر أیضاً فی حین کونه وجوداً تنزیلیاً للمعنی الأوّل ، غایة الأمر أنّ ما ذکره فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ من أنّ العامّ یصلح وجها وعنوانا لکلّ من أفراده ، یراد به الوجهیّة والعنوانیّة الحقیقیّة ، بخلاف وجهیّة اللفظ وعنوانیّته لمعانیه ، فإنّها اعتباریة وجعلیة ، فالعنوانیة لا تنافی لحاظ المتعدّد بالعنوان الواحد ، وعلیه فلا محذور فی لحاظ معنیین بلفظٍ واحد ، فإنّه لحاظ تنزیلی ولیس من قبیل إخراج الواحد إلی المتعدّد حقیقة ، هذا أوّلاً .

وثانیا : أنّ حقیقة الاستعمال لیس ما ذکره قدس سره لحاظ اللفظ عین المعنی أو کأنّه نفس المعنی حتی یکون اللحاظ مقوّما للاستعمال ، بل الاستعمال هو الإتیان بعلامة المعنی عند إرادة تفهیمه بحیث یکون اللفظ مبرزا له ، وغفلة المتکلّم عن نفس اللفظ فی مرحلة الاستعمال بلحاظه کأنّه المعنی ناشٍ عن الأُنس بالاستعمال وعدم غرض له إلاّ فی نفس تفهیم المعنی ونقله إلی ذهن السامع ، ولذا لا یکون الاستعمال علی هذا الاسلوب فی بدایة تعلّم الإنسان لغات غیر لسانه ، وکذا فی موارد یکون المتکلّم فیها فی مقام إظهار کمال فصاحته وبلاغته .

أفلا تری أنّ غیر العربی فی أوائل تعلّمه اللسان العربیّ أو المتکلّم المتصدی لإلقاء خطبة یظهر بها بلاغته وفصاحته ملتفت إلی الألفاظ کمال الالتفات ، وهذا شاهد صدق علی کون حقیقة الاستعمال إبراز المعانی بالألفاظ وجعلها کاشفة عن

ص :179

واحد، ومع استلزامه للحاظ آخر غیر لحاظه کذلک فی هذا الحال.

وبالجملة: لا یکاد یمکن فی حال استعمال واحد، لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین، إلاّ أن یکون اللاحظ أحول العینین.

الشَرح:

مراداته .

وأمّا حدیث سرایة الحسن والقبح إلی الألفاظ فلا یشهد لما ذکره ، فإنّ سرایتهما من ذی العلامة إلی علامته ، ممکن وواقع ، فإنّ بعض الناس یکرهون بعض الطیور لکونها عندهم علامة الابتلاء وخراب البیوت وتشتّت الأهل ، ویحبّون بعضها الآخر بحیث یفرحون برؤیتها حیث إنّها عندهم علامة الرخاء والنعمة والرحمة .

والمتحصّل أنّه لا محذور فی استعمال اللفظ وإرادة معانٍ متعدّدة منه فی استعمال واحد وجعله علامة لإرادة کلّ منها بنحو الاستقلال ، إلاّ أنّه علی خلاف الاستعمالات المتعارفة فلا یحمل کلام المتکلّم علیه إلاّ مع القرینة علیه .

ولو ورد فی کلامه لفظ مشترک ولم تکن فی البین قرینة علی تعیین المراد من معانیه یکون الکلام مجملاً ، فلا یحمل علی إرادة جمیع المعانی لا بنحو الاشتراک المعنوی ولا بنحو استعمال العشرة فی مجموع آحادها ولا علی الاستعمال فی أکثر من معنی حتّی بناءً علی جوازه کما هو المختار .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ممتنع ولو قیل بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتیان بالمبرز والعلامة للمعنی ووجه الاستحالة: أنّ استعمال اللفظ فی کلّ من المعنیین یتوقف علی لحاظ کل منهما فی آن واحد بالاستقلال بأن تلاحظ النفس کلاًّ منهما بلحاظ مستقلّ فی آن واحد، وهو غیر مقدور للنفس(1).

ص :180


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 51 .

فانقدح بذلک امتناع استعمال اللفظ مطلقاً _ مفرداً کان أو غیره _ فی أکثر من معنی بنحو الحقیقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه [1] فإنّ اعتبار الوحدة فی الموضوع له واضح المنع، وکون الوضع فی حال وحدة المعنی، وتوقیفیته لا یقتضی عدم الجواز، بعد ما لم تکن الوحدة قیداً للوضع، ولا للموضوع له، کما لا یخفی.

الشَرح:

وفیه : أن_ّه لا محذور فی اجتماع اللحاظات المتعددّة من النفس فی زمان واحد وشاهده صدور أفعال مختلفة من الإنسان فی زمان واحد مع أنّ کلاًّ من الأفعال مسبوق بالإرادة ومن مبادیها اللحاظ ، وکذا یشهد لذلک صدور الحکم فإنّ الحکم یتوقّف علی لحاظ الموضوع والمحمول والنسبة فی آن الحکم .

نعم الشیء الواحد لا یلاحظ فی آن واحد بلحاظین فیما إذا لم یکن بین اللحاظین اختلاف أصلاً بأن یحضر ذلک الشیء مرّتین عند النفس فی آن واحد ، فإنّه من قبیل إحضار الحاضر بخلاف ما إذا کان اختلاف فی نحوی اللحاظ کما تقدّم فی التنزیل وجعل اللفظ عین المعنی ، وإذا قلنا بأنّ الاستعمال عبارة عن الإتیان بالمبرز فلا یحتاج إلی تعدّد اللحاظ فی ناحیة اللفظ أصلاً فإنّ کون شیء واحد علامة للمتعدّد لا مجال للمناقشة فیه ، کما تقدّم .

[1] إشارة إلی ما ذهب إلیه صاحب القوانین قدس سره من عدم جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی مفردا أو غیره ، بمعنی عدم صحته من غیر أن یکون امتناع فی البین ، وذکر فی وجه عدم الجواز لغة ، أنّ الوضع فی الألفاظ توقیفی فلابدّ من رعایة الأمر الحاصل حال الوضع وهو وحدة المعنی یعنی أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لم یلاحظ مع المعنی المفروض شیئاً من سائر المعانی ، فاللازم أن یکون استعماله فیه أیضاً علی طبق الوضع ، وعلی ذلک فلا یجوز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

ص :181

ثمّ لو تنزلنا عن ذلک، فلا وجه للتفصیل بالجواز علی نحو الحقیقة فی التثنیة والجمع، وعلی نحو المجاز فی المفرد [1]، مستدلاًّ علی کونه بنحو الحقیقة فیهما، لکونهما بمنزلة تکرار اللفظ وبنحو المجاز فیه، لکونه موضوعاً للمعنی بقید الوحدة، فإذا استعمل فی الأکثر لزم إلغاء قید الوحدة، فیکون مستعملاً فی جزء المعنی، بعلاقة الکلّ والجزء، فیکون مجازاً، وذلک لوضوح أن الألفاظ لا تکون

الشَرح:

حتّی فی التثنیة والجمع ، فإنّ الوضع فیهما أیضاً کان کالمفرد حال انفراد المعنی أی عدم إرادة طبیعة أُخری مع المعنی الذی تکون هیئتهما موضوعة لإفادة التعدّد من ذلک المعنی . ولا یخفی ضعف ما ذکره ، فإنّه لا اعتبار بحال الوضع فیما إذا لم یکن ذلک الحال مأخوذا فی ناحیة الموضوع له أو فی نفس الوضع ، والمفروض أنّ وحدة المعنی لم تلاحظ قیدا فی شیء منهما ولو لزم رعایة الحال حتّی مع عدم أخذه فی ناحیة شیء منهما لکان رعایة سائر الحالات أیضاً لازما بأن یستعمل اللفظ فی المعنی فی اللیل خاصة فیما إذا کان الوضع باللیل مثلاً وإلی هذا یرجع ما ذکره الماتن قدس سره من أنّ وحدة المعنی وتوقیفیة الوضع لا تقتضی عدم الجواز .

[1] یعنی لو تنزّلنا عن الإلتزام بامتناع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی وبنینا علی جوازه ، فلا وجه للتفصیل بین التثنیة والجمع ، وبین المفرد ، وأنّ الاستعمال فیالتثنیة والجمع بنحو الحقیقة ، وفی المفرد بنحو المجاز ، کما اختار ذلک فی المعالم بدعوی أنّ المفرد موضوع للمعنی المأخوذ فیه الوحدة واستعماله فی أکثر من معنی یوجب إلغاء قید الوحدة عنه ، فیکون اللفظ الموضوع للکلّ مستعملاً فی الجزء فیکون مجازا ، بخلاف التثنیة والجمع فإنّهما بمنزلة تکرار اللفظ ، وکما أن_ّه مع تکرار اللفظ یجوز إرادة معنی من کل لفظ غیر المعنی المراد من لفظ آخر ، کذلک الحال فیما هو بمنزلته .

ص :182

موضوعة إلاّ لنفس المعانی، بلا ملاحظة قید الوحدة، وإلاّ لما جاز الاستعمال فی الأکثر، لأنّ الأکثر لیس جزء المقید بالوحدة، بل یباینه مباینة الشیء بشرط شیء، والشیء بشرط لا، کما لا یخفی، والتثنیة والجمع وإن کانا بمنزلة التکرار فی اللفظ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ اللفظ فیهما کأنه کُرّر وأرید من کل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أن_ّه أرید منه معنی من معانیه، فإذا قیل مثلاً: (جئنی بعینین) أرید فردان من العین الجاریة، لا العین الجاریة والعین الباکیة، والتثنیة والجمع فی الأعلام، إنما هو الشَرح:

وأجاب قدس سره بأنّ الوحدة لیست جزءا من الموضوع له، فإنّه لا معنی لوحدة المعنی إلاّ انفراده وعدم انضمام معنی آخر إلیه، فیؤخذ المعنی بشرط لا بالإضافة إلی سائر المعانی واستعماله فی الأکثر استعمال للفظ فیه بشرط معنی آخر، فیکون المعنی بشرط لا، مع المعنی بشرط بشیء، متباینین لا من استعمال اللفظ الموضوع للکلّ فی جزئه.

وأمّا التثنیة والجمع فکلّ منهما یتضمّن مادة وهیئة ، فالهیئة فیهما موضوعة لإفادة التعدّد من معنی المادة ، بأن یکون معنی هیئة التثنیة فردین من الطبیعة ، وهیئة الجمع ثلاثة أو أکثر منها والجمع فی الأعلام یؤول کما فی التثنیة فیها ، بأن یراد من زید فیهما المسمّی به .

ومع الإغماض عن ذلک بأن یقال إنّ الهیئة فیهما موضوعة لإفادة مطلق التعدّد ، سواء کان بإرادة الأفراد أو المعانی الأُخر ، فلا یکون استعمال لفظ عینین فی الذهب والفضة مثلاً من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ، نعم لو أُرید فردان من الذهب وفردان من الفضّة لکان منه ، ولکن لا وجه معه ، للتفصیل بین المفرد وبین التثنیة والجمع بالتزام المجاز فی الأوّل ، والحقیقة فی الثانی لاستلزام الاستعمال فی کلّ منه ومنهما إلغاء قید الوحدة .

ثمّ إنّه ربّما یقال بجواز استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنی ، بخلاف

ص :183

بتأویل المفرد إلی المسمی بها، مع أن_ّه لو قیل بعدم التأویل، وکفایة الاتحاد فی اللفظ، فی استعمالهما حقیقة، بحیث جاز إرادة عین جاریة وعین باکیة من تثنیة العین حقیقة، لما کان هذا من باب استعمال اللفظ فی الأکثر، لأنّ هیئتهما إنّما تدلّ علی إرادة المتعدد مما یراد من مفردهما، فیکون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانیه، استعمالهما فی معنی واحد، کما إذا استعملا وأرید المتعدد من معنی واحد منهما، کما لا یخفی.

نعم لو أرید مثلاً من عینین، فردان من الجاریة، وفردان من الباکیة، کان من استعمال العینین فی المعنیین، إلاّ أنّ حدیث التکرار لا یکاد یجدی فی ذلک أصلاً، فإنّ فیه إلغاء قید الوحدة المعتبرة أیضاً، ضرورة أن التثنیة عنده إنّما یکون لمعنیین، أو لفردین بقید الوحدة، والفرق بینهما وبین المفرد إنّما یکون فی أن_ّه موضوع للطبیعة، وهی موضوعة لفردین منها أو معنیین، کما هو أوضح من أن یخفی.

الشَرح:

اللفظ الموضوع لمعنی واحد ، فإنّه لا یجوز استعماله فیه وفی معناه المجازی ؛ لأنّ استعماله فی معناه المجازی یقتضی نصب القرینة واستعماله فی معناه الحقیقی یقتضی عدمها ، فلا یمکن الجمع بینهما فی استعمال واحد .

والجواب أنّ عدم الحاجة إلی القرینة فی استعماله فی معناه الحقیقی إنّما هو فی حال استعماله فیه فقط ، وأمّا مع استعماله فی معناه المجازی أیضاً کما هو المفروض ، فلابدّ من نصب القرینة علی الجمع فی الاستعمال .

ص :184

وهم ودفع:

لعلّک تتوهم أنّ الأخبار الدالّة علی أن للقرآن بطوناً _ سبعة أو سبعین _ تدلّ علی وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد [1]، فضلاً عن جوازه، ولکنک الشَرح:

[1] ربّما یختلج بالبال أنّ الأخبار(1) الواردة فی ثبوت البطون للقرآن یمکن أن یستظهر منها وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد ووجه الاستظهار ظهور تلک الأخبار فی إرادة کلّ من البطون السبعة أو السبعین من القرآن بارادة مستقلّة ولو لم یجز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد لم یکن یراد من الآیة الواحدة إلاّ معنیً واحداً ولم تکن سائر المعانی المعبّر عنها بالبطن والبطون داخلة فی مدلولها لتکون بطنا لها ، والوجه فی التعبیر عنها بالبطن والبطون خفاء تلک المعانی عن غیر أولیائه الذین نزل الکتاب فی بیوتهم ، وأُمر الناس بولایتهم ، وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ، صلوات اللّه وسلامه علیهم أجمعین .

وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بوجهین :

الأوّل: أنّه لا دلالة فی تلک الأخبار علی إرادة تلک المعانی المعبّر عنها بالبطون بنحو إرادة المعنی من اللفظ عند استعماله فیه ، بل لعلّ تلک المعانی کانت مرادة بأنفسها عند استعمال الآیة فی معناها الظاهر فیها ، وبتعبیرٍ آخر لم یستعمل کلمات الآیة فی تلک المعانی استعمال اللفظ فی المعنی ، بل کانت تلک المعانی منظورة من الآیة ومرادة منها بلا استعمال اللفظ فیها .

أقول وفیه : أنّ إرادة أمر بنفسه عند استعمال لفظ فی معنی لا یوجب کون الأوّل بطنا للثانی ، مثلاً إذا قال والد فی مقام وعده أحد أولاده : أُعطیک غدا دینارا ،

ص :185


1- (1) البحار : 92 / 78 ، الباب 8 من کتاب القرآن .

غفلت عن أن_ّه لا دلالة لها أصلاً علی أن إرادتها کان من باب إرادة المعنی من اللفظ، فلعلّه کان بإرادتها فی أنفسها حال الاستعمال فی المعنی، لا من اللفظ، کما إذا استعمل فیها، أو کان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فیه اللفظ، وإن کان أفهامنا قاصرة عن إدراکها.

الشَرح:

وکان من قصده اتفاقا إعطاء الدینار لسائر أولاده أیضاً ، فلا یکون إعطائه لهم بطنا لکلامه .

الثانی: أنّ المراد بالبطون لوازم معانیالقرآن وأنّ اللفظ یستعمل فی معنی یعبّر عنه بالمعنی الظاهر ، إلاّ أنّ لإرادة ذلک المعنی من اللفظ أو لنفس ذلک المعنی لوازم ، لخفائها وقصور أذهاننا عن الوصول إلیها أطلق علیها البواطن ، ومن البدیهی أنّ الدلالة علی اللازم أجنبیّ عن استعمال اللفظ فی أکثر من معنی بحیث یکون کلّ معنی مراداً مستقلاًّ من اللفظ .

وقد یستدلّ لهذا الوجه الثانی بروایات متواترة إجمالاً ، منها ما عن أبی جعفر علیه السلام قال : «یا خیثمة القرآن نزل أثلاثا... ولو أنّ الآیة إذا نزلت فی قوم ثمّ مات أُولئک القوم ماتت الآیة لما بقی من القرآن شیء ، ولکنّ القرآن یجری أوّله علی آخره ما دامت السموات والأرض» الحدیث(1) .

أقول : لا دلالة لهذه الطائفة من الأخبار علی أنّ بطن القرآن یکون من قبیل لازم المعنی أو من قبیل الملزوم له ، بل یحتمل أن یکون المراد بالبطن أنّ المذکور فی الآیة وإن کان من قبیل حکایة واقعة خاصّة ماضیة أو حاضرة أو بیان حکم لواقعة إلاّ أنّ واقع الآیة قضیّة ساریة کلیّة .

ص :186


1- (1) البحار : 92 / 115 ، الباب 12 من کتاب القرآن ، الحدیث 4 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مثلاً قوله سبحانه «فَاسْئَلُوا أهْلَ الذِّکْرِ إنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ»(1) فی واقعها بیان لعدم عذریة الجهل بترک الفحص ومخالفة الحقّ اعتقادا أو عملاً فی الأُصول والفروع ، وأنّ الشخص مع تمکّنه من الوصول إلی الحقّ _ ولو بالسؤال عمن یعلم ذلک الحقّ _ إذا ترکه ، یؤاخذه اللّه به ، وأنّ ترک السؤال ممن یعلم الحقّ _ ولو لعدم إحرازه أنّه یعلم الحقّ ، مع تمکّنه من إحراز أنّه یعلمه ولو بالفحص _ لا یکون عذرا ، ومن أظهر مصادیق هذا المعنی عدم الرجوع فی تعلّم الأحکام الشرعیة إلی الائمة (صلوات اللّه علیهم أجمعین) کما ورد فی عدّة من الروایات «نحن أهل الذکر ونحن المسؤلون أمر الناس بسؤالنا»(2) .

مع أنّ ظاهر الآیة الأمر بسؤال علماء الأدیان الأُخری عمّا یردّد علی أسماع الناس من أنّ النبوّة تناسب المَلَک لا البشر ، فینبغی أن یکون رسول ربّ العالمین ملکا لا یأکل الطعام ، وقد ذکر سبحانه(3) أنّ هذه الوسوسة لا تکون عذرا لهم فی ترک الإیمان بالنبی صلی الله علیه و آله ؛ لأنّ أنبیاء السلف کانوا رجالاً ، ویمکن تحصیل العلم بذلک بسؤال علماء الأدیان السابقة .

وبالجملة لا ینحصر البطن للقرآن بما ذکره ثانیا من لوازم معناه المستعمل فیه .

ثمّ إنّ ثبوت البطون للقرآن وقصور أذهاننا نوعا عن الوصول إلیها من غیر ورود حجّة معتبرة عن الأئمّة علیهم السلام لا یمنع عن اعتبار الکتاب المجید بالإضافة إلی

ص :187


1- (1) سورة النحل : الآیة 43؛ وسورة الأنبیاء : الآیة 7 .
2- (2) الأُصول من الکافی : 1 / 210 .
3- (3) سورة الفرقان : الآیات 7 _ 20 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ظواهره ، کیف وقد أُمرنا بالتمسّک بالکتاب العزیز والعترة الطاهرة علیهم السلام کما أُمرنا بعرض الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام علی الکتاب وردّ ما ینافیه مما لا یعدّ قرینة عرفیة علی ظواهره ، وکذا عرض الحدیثین المتعارضین علی الکتاب والأخذ بما یوافقه ، ولو لم یکن لظاهر الکتاب اعتبار لما صحّ الإرجاع المزبور والأمر بالعرض علیه .

وأمّا الأخذ بالبواطن فیما لا یساعده الظاهر فهو دائر مدار ورود النصّ عنهم علیهم السلام فإنّهم هم الأعرفون بظواهر الکتاب والعاملون ببواطنه ، وأمّا بیان باطنه بما لا یعدّ الظاهر قرینة علیه داخل فی تفسیر القرآن بالرأی ، وإسناد الشیء إلی اللّه سبحانه من غیر علم به ، فیکون من اتباع الظنّ وإنّ الظنّ لا یغنی من الحقِّ شیئا .

ثمّ إنّه ربّما یذکر ثمرة لهذا البحث حکم قصد المصلی فی قرأته سورة الحمد أن ینشأ الحمد بما یقرأه من قوله تعالی: «الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِیْنَ»(1) وأن ینشأ الدعاء بإدخال نفسه فی قوله تعالی: «إهْدِنا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیْمَ»(2) حیث إنّ قصده القراءة من قبیل استعمال الألفاظ فی الألفاظ النازلة إلی الرسول الأعظم من ربّ العالمین بقصد حکایتها، فتکون قراءته بقصد إنشاء الحمد بها أو بقصد الدعاء من استعمال ما یتلفّظ به فی معنی آخر أیضاً علی نحو الاستقلال. ولکن لا یخفی ما فیه.

فإنّه قد تقدّم فی بحث استعمال اللفظ فی اللفظ أنّ اللفظ لا یستعمل فیاللفظ أصلاً بل یلقی بنفسه خارجا فیکون الملقی خارجا نفس اللفظ الملحوظ إبتداءا ، فإذا لاحظ القارئ سورة الحمد وأراد قراءتها فیوجد بما یتلفّظ به عین ما لاحظه من

ص :188


1- (1) سورة الحمد : الآیة 1 .
2- (2) سورة الحمد : الآیة 6 .

الثالث عشر

إنه اختلفوا فی أن المشتق حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال، أو فیما یعمه وما انقضی عنه [1] علی أقوال، بعد الاتفاق علی کونه مجازاً فیما یتلبس به فی الاستقبال، وقبل الخوض فی المسألة، وتفصیل الأقوال فیها، وبیان الاستدلال الشَرح:

السورة فتکون قراءة .

ولا ینافی ذلک أن یرید من ألفاظها المعانی التی کانت للسورة عند نزولها ، وأن یقصد ما تقتضی تلک المعانی عند قراءتها من إدخال نفسه فی مدلول الضمیر ونحو ذلک ، کما لا یخفی .

المشتق

[1] الخلاف فی المشتقّ نظیر الخلاف المتقدّم فی الصحیح والأعمّ إنّما هو فی سعة معنی المشتقّ وعدم سعته بأن تکون هیئات المشتقّات موضوعة لمعانی تنطبق علی ما له المبدأ فعلاً ولا تنطبق علی ما لا یکون تلبّسه بالمبدأ حین الانطباق فعلیّا، أو أنها موضوعة للأعم بحیث تنطبق علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ عند الانطباق فعلیا أو منقضیا.

وبتعبیر آخر: لا خلاف فی عدم سعة معنی المشتقّ بحیث ینطبق فعلاً علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ فی المستقبل ولو اُطلق وانطبق علیه معنی المشتقّ فعلاً یکون ذلک بنحو من العنایة وإنّما الخلاف فی سعة معناه بالإضافة إلی ما انقضی عنه المبدأ وعدم سعته.

والمراد بالمشتقّ فی المقام خصوص ما یحمل معناه علی الذوات ، فالأفعال والمصادر المزید فیها وإن کان یطلق علیها المشتقّ فی اصطلاح علماء الأدب ، إلاّ أنّ

ص :189

علیها، ینبغی تقدیم أمور:

أحدها: إنّ المراد بالمشتق هاهنا لیس مطلق المشتقات، بل خصوص ما یجری منها علی الذوات، مما یکون مفهومه منتزعاً عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، کان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والایجاد، کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبّهات، بل وصیغ المبالغة،

الشَرح:

النزاع فی المقام لا یعمّهما ؛ لعدم صحّة جری معانیها علی الذوات ، والمراد بالذات کل ما یتلبّس بالمبدأ بأحد أنحاء التلبّس والاتّحاد ، سواء کان بنحو الحلول کما فی الأسود والأبیض ، أو الانتزاع کما فی المالک والمملوک ، أو الصدور والإیجاد کالضارب والقاتل.

وبتعبیر آخر : لا یراد بالذات ما یقابل العرض ، بل یعم ما یکون عرضا ، کقوله : سواده شدید أو ضعیف .

وزعم صاحب الفصول قدس سره أنّ النزاع فی المقام یختصّ باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبّهة وما یلحق بها من النسب ، کالکوفیّ والبصریّ ، والوجه فیما زعمه أن_ّه ذکر لکلّ من سائر المشتقّات معنی واعتقد أن_ّه متّفق علیه عند الکلّ ، قال : «أمّا اسم المفعول فیکون بعض صیغه لخصوص المتلبّس ، کالمملوک فإنّه إذا قیل : (هذا مملوک زید) یراد أن_ّه ملکه فعلاً ، لا أن_ّه کان ملکا له سابقا ولو صار ملک شخص آخر بالفعل ، وبعض صیغه یکون للأعمّ کما فی المکتوب ، فإنّه إذا قیل : (هذا مکتوب زید) فلا یراد أنّه یکتبه فعلاً ، وکذا غیره من المشتقّات»(1) .

وفیه أنّ المبادئ المأخوذة فی المشتقّات تختلف بحسب الفعلیة والشأنیة

ص :190


1- (1) الفصول الغرویة : ص48 .

وأسماء الأزمنة والأمکنة والآلات، کما هو ظاهر العنوانات، وصریح بعض المحقّقین، مع عدم صلاحیة ما یوجب اختصاص النزاع بالبعض إلاّ التمثیل به، وهو غیر صالح، کما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من

الشَرح:

والصناعة والملکة واختلافها کذلک یوجب اختلاف فعلیة التلبّس بالمبادئ ، فإن کان المبدأ أمرا فعلیا کما فی المالک والمملوک ، یکون المتلبّس بالمبدأ هو المتلبس بالمبدأ الفعلی ، وإن کان المبدأ صنعة کما فی المکتوب ، یکون المتلبّس بنحو الصنعة متلبّسا بالمبدأ ، ویلاحظ الانقضاء بالإضافة إلی الأمر الفعلی فی الأوّل وبالإضافة إلی الصنعة فی الثانی ، وهذا الاختلاف الناشئ من ناحیة المادّة لا یوجب اختلافاً فی ناحیة هیئة المشتقّ التی یبحث عن مفادها فی المقام .

وعن المحقّق النائینی قدس سره خروج أسماء الآلة عن مورد النزاع ؛ لکونها موضوعة للاستعداد والقابلیة ، ولا یعتبر فیها تلبّس الذات بالمبدأ أصلاً ، فضلاً عن اعتبار بقائه وعدم انقضائه ، مثلاً لفظ مفتاح موضوع بهیئته لما فیه استعداد الفتح به وإن لم یتلبّس بالفتح أصلاً ، وکذا لا نزاع فی المقام فی إسم المفعول ، فإنّ صیغة «مفعول» موضوعة لما یقع علیه الفعل ، والذات بعد وقوع الفعل علیها لا تنقلب إلی غیره ، والمقتول من وقع علیه القتل والشخص بعد وقوع القتل علیه لا یتصف بغیره ، وکذا مثل الممکن والممتنع والواجب والعلّة والمعلول ؛ لعدم انقضاء المبدأ عن الذات فی أمثالها ، فإنّ المبدأ فی مثل ما ذکروا إن لم یکن عین الذات إلاّ أنّه کالذاتیّات ، غیر قابل للانفکاک والانقضاء(1) .

ص :191


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 83 .

الصفات المشبهة وما یلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل منشأه توهم کون ما ذکره لکل منها من المعنی، مما اتفق علیه الکل، وهو کما تری، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادی المشتقات، بحسب الفعلیة والشأنیة والصناعة والملکة _ حسبما نشیر إلیه _ لا یوجب تفاوتاً فی المهم من محل النزاع ها هنا، کما لا یخفی.

الشَرح:

ولکن لا یخفی أنّ شیئا مما ذکره قدس سره لا یصلح لخروج المذکورات عن مورد الخلاف فی المقام ؛ وذلک لأنّ غایة ما أفاده أنّ المبدأ فی أسماء الآلات أُخذ بنحو الاستعداد والقابلیة لا الفعلیّة ، ولکن هذا لا یقتضی عدم وضع الهیئة للمتلبّس بالمبدأ بالمعنی المزبور ، بل الهیئة تکون موضوعة له بالفعل ، ویکون الانقضاء فیه بلحاظ انقضاء الاستعداد والقابلیة ، کما إذا انکسر بعض أسنان المفتاح بحیث لا یصلح للفتح به ، فیکون من الذات المنقضی عنها المبدأ ، وکون المبدأ فی ضمن هیئة أمرا فعلیا وعملاً خاصا لا ینافی کونه فی ضمن هیئة أُخری بمعنی استعداد ذلک الأمر والشأنیة لذلک العمل ، فلا یقال إنّ معنی لفظ (فتح) بهیئة المصدر أمر فعلی فکیف یکون فی إسم الآلة استعدادیا وأم_ّا إسم المفعول فلم یحرز أنّ الموضوع لهیئته ما وقع علیه المبدأ ، بل من المحتمل وضعه لما یقوم به المبدأ قیاما وقوعیّا ، فبعد انقضاء القیام بالوقوع علیه لا ینطبق معناه علیه إلاّ بلحاظ حال القیام وإلاّ فیجری ما ذکره فی صیغ إسم الفاعل أیضاً ، فیقال : إنّ هیئته موضوعة لذات صدر عنها الفعل ، والذات بعد صدور الفعل عنها لا تنقلب إلی غیره .

وأمّا مثل الممکن والواجب والمعلول مما لا یتصوّر فی مبدئه الانقضاء ، فقد تقدّم أنّ النزاع فی المقام فی ناحیة هیئة المشتقّات ، والهیئة فیما ذکر لم توضع مستقلّة ، بل وضعت فی ضمن وضع هیئة إسم الفاعل أو المفعول أو الصفة المشبّهة،

ص :192

ثم إنّه لا یبعد أن یراد بالمشتق فی محل النزاع، مطلق ما کان مفهومه ومعناه جاریاً علی الذات [1] ومنتزعاً عنها، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضی ولو کان جامداً، کالزوج والزوجة والرقّ والحرّ، وإن أبیت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، کما هو قضیة الجمود علی ظاهر لفظه، فهذا القسم من الجوامد الشَرح:

وعلیه فعدم تحقّق الانقضاء فی بعض المبادئ لاینافی وضع الهیئة الداخلة علی المبدأ مطلقاً لمعنی وسیع ینطبق علی المنقضی أیضاً فی موارد إمکان الانقضاء ، کما یمکن وضعها لمعنی أضیق لا ینطبق إلاّ علی الذات المتلبّسة بالمبدأ .

[1] یجری الخلاف فی المقام فی بعض الأسماء الجامدة التی لا یصحّ إطلاق المشتقّ علیها فی اصطلاح علماء الأدب؛ لأنّ اللفظ فیها بهیئته ومادته موضوع بوضع واحد، بخلاف المشتقات بحسب اصطلاحهم التی یکون فیها لکل من الهیئة والمادة وضعا، وتلک الأسماء هی الجاریة علی الذوات ممّا تکون معانیها منتزعة عنها بملاحظة اتّصافها بأمرٍ عرضی أی اعتباری کالزوج والزوجة، والرق والحر ونحوها.

وعلی ذلک فلا یبعد أن یراد بالمشتق فی المقام ما یعمّ مثل هذه الأسماء بأن یکون المراد منه کلّ لفظ یکون معناه مأخوذا من الذات بملاحظة اتّصافها بعرض أی بمبدأ متأصّل ، کالضرب والقتل ، أو بملاحظة اتّصافها بعرضی (أی بأمر اعتباری) فتکون النسبة بین المشتق بحسب اصطلاح علماء الأدب وبین المراد فیالمقام العموم من وجه ؛ لخروج بعض ما یطلق علیه المشتق بحسب اصطلاحهم عن محلّ الکلام کالأفعال والمصادر المزید فیها ، ودخول بعض ما لا یطلق علیه المشتق بحسبه فیه کالجوامد المشار إلیها ، ولو لم یکن المراد بالمشتق ما یعم تلک الأسماء الجامدة کما هو مقتضی الجمود علی ظاهر لفظ المشتق الوارد فی عنوان الخلاف ، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ النزاع الجاری فیه ، جار فیها أیضاً کما یشهد لذلک ما عن

ص :193

أیضاً محل النزاع.

کما یشهد به ما عن الایضاح فی باب الرضاع، فی مسألة من کانت له زوجتان کبیرتان، أرضعتا زوجته الصغیرة، ما هذا لفظه: (تحرم المرضعة الأولی والصغیرة مع الدخول بالکبیرتین، وأمّا المرضعة الأخری، ففی تحریمها خلاف، فاختار الشَرح:

الإیضاح(1) وغیره فی المسألة المعروفة فی کون المراد من الزوجة فی حرمة أمّ الزوجة ، خصوص المتلبّس بالزوجیّة أم یعمّ المنقضی عنها .

أقول : لا بأس بالتکلّم فی تلک المسألة بما یناسب المقام ، ولها صور :

الصورة الأُولی: فیما إذا أرضعت الکبیرتان زوجته الصغیرة مع الدخول بالمرضعة الأُولی فقط ، ففی هذه الصورة تحرم المرتضعة علی زوجها مؤبدا ؛ لأنّها إمّا بنته إذا کان اللبن منه ، أو ربیبته من المرضعة الأُولی المدخول بها ، إذا لم یکن اللبن منه .

وهل تحرّم المرضعة الأُولی أیضاً ؟ المشهور أنّها تحرم مؤبّدا کالمرتضعة ؛ لکونها أُمّاً لزوجته الصغیرة ، فیشملها قوله سبحانه : «وَأُمَّهاتُ نِسائِکُمْ» الآیة(2) .

ولکن قد یناقش فی حرمتها بأنّ ظاهر الآیة المبارکة حرمة من تکون أُمّاً لزوجته حال اتّصافها بالزوجیة ، بأن یجتمع کونها أُمّاً وکون بنتها زوجة فی زمانٍ واحد ، ولیس الأمر فی الفرض کذلک ، فإنّه فی زمان تحقّق أُمومة المرضعة ترتفع زوجیة المرتضعة ، فلا یجتمعان .

وقد أُجیب عن المناقشة بما حاصله : إنّ مقتضی التضایف بین الأُمومة والبنوّة

ص :194


1- (1) الإیضاح : 3 / 52 .
2- (2) سورة النساء : الآیة 23 .

والدی المصنّف رحمه الله وابن إدریس تحریمها لأنّ هذه یصدق علیها أم زوجته، لأن_ّه لا یشترط فی المشتق بقاء المشتق منه هکذا هاهنا)، وما عن المسالک فی هذه المسألة، من ابتناء الحکم فیها علی الخلاف فی مسألة المشتق.

الشَرح:

أن یکون تحقّق الأُمومة للمرضعة ، مساویا لحصول البنوّة للمرتضعة ، وبما أنّ حصول البنوّة للصغیرة علّة لارتفاع الزوجیة عنها ، فیتأخّر ارتفاع الزوجیّة رتبة عن حصول البنوّة لها وعن الأُمومة للمرضعة ، کما هو مقتضی التضایف بین الأُمومة والبنوّة وتأخّر کلّ معلول عن علّته ، وعلی ذلک تکون الصغیرة متّصفة بالزوجیة فی رتبة حصول الأُمومة للمرضعة ، فتجمع أُمومة المرضعة مع زوجیة المرتضعة فی الرتبة ، وهذا المقدار یکفی فی صدق أنّ المرضعة أُمُّ زوجته .

وفیه: أنّ ما ذکر لا یصحّح اجتماع الأُمومة للمرضعة وزوجیّة الصغیرة فی زمانٍ واحد. والمدّعی فی المناقشة ظهور الآیة المبارکة فی اجتماعهما فی الزمان، وبتعبیرٍ آخر: ارتفاع الزوجیة عن الصغیرة لصیرورتها بنتا أو ربیبة للزوج یتوقّف علی تمام الإرضاع الموجب لصیرورتها بنتا للمرضعة وصیرورة المرضعة أُمّا لها، وبتمامه ترتفع الزوجیة، فیکون حصول الأُمومة مقارنا لانحلال الزوجیة، فلا یجتمعان فی الزمان.

وأمّا ما رواه الکلینی قدس سره ، عن علی بن محمد ، عن صالح بن أبی حماد ، عن علی بن مهزیار ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : قیل له إنّ رجلاً تزوّج بجاریة صغیرة ، فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها إمرأة له أُخری ، فقال ابن شبرمة : حرمت علیه الجاریة وامرأتاه ، فقال أبو جعفر علیه السلام : «أخطأ ابن شبرمة ، تحرم علیه الجاریة وامرأته التی أرضعتها أوّلاً ، وأمّا الأخیرة فلم تحرم علیه ، کأنّها أرضعت ابنته»(1) ، فهو وإن کان

ص :195


1- (1) الوسائل : ج14 ، باب 14 من أبواب ما یحرم بالرضاع ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ظاهرا فی حرمة المرضعة الأُولی ، إلاّ أنّه قد یناقش فیه بوجهین :

الأوّل: أنّ الروایة مرسلة ، فإنّ ظاهر نقل فتوی ابن شبرمة أنّ المراد بأبی جعفر هو الباقر علیه السلام ، وعلیّ بن مهزیار لم یدرک الباقر علیه السلام ، فتکون الروایة مرسلة .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ علی بن مهزیار ظاهر نقله أنّه بالحسّ ، وهذا یکون قرینة علی أنّ المراد بأبی جعفر هو الجواد علیه السلام ، ونقل فتوی ابن شبرمة إلیه علیه السلام لا یکون قرینة علی خلاف ذلک . ولعلّ ناقل الفتوی شخص آخر قد سمعها منه مباشرة أو مع الواسطة نقلها إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام .

الثانی: أنّ فی سند الروایة صالح بن أبی حمّاد ، ولم یثبت له توثیق لو لم نقل بثبوت ضعفه ؛ لقول النجاشی «وکان أمره ملتبسا یعرف وینکر»(1) .

أقول : هذا أیضاً لا یصلح لسقوط الروایة عن الاعتماد علیها، لا لدعوی انجبار ضعفها بعمل المشهور، لیقال أن_ّه لم یظهر استناد المشهور إلیها، بل لعلّهم استفادوا الحکم من ظاهر الآیة الشریفة کما تقدّم، بل لأنّ الروایة رواها الشیخ فی التهذیب(2) عن الکلینی قدس سره بالسند المزبور، ولکن ذکر فی فهرسته أنّ له إلی کتب علی بن مهزیار وروایاته طریقا صحیحا إلاّ نصف کتاب مثالبه(3)، وهذه تدخل فی روایات علی بن مهزیار، ویبعد کونها من روایات کتاب المثالب، مع أنّ طریقه إلی نصفه الآخر فیه إبراهیم بن مهزیار الذی قد یناقش فی ثبوت التوثیق له، لکن لا یبعد عدّه من المعاریف الذین لم

ص :196


1- (1) رجال النجاشی : ص198 ، رقم 526 ، ط جماعة المدرسین .
2- (2) التهذیب : 7 / 293 ، روایة 1232 .
3- (3) الفهرست : ص232 ، ط جامعة مشهد .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

یرد فیهم قدح، فالروایة لتبدیل أمر سندها لا مجال للمناقشة فی سندها.

وقد یقال فی المقام : إنّ تفریق فخرالمحقّقین قدس سره بین المرضعتین ، لیس لفارق بینهما فیالابتناء علی وضع المشتق لیقال بأنّ الإلتزام بحرمة المرضعة الأُولی والخلاف فی الثانیة بلا وجه ، بل الالتزام بحرمة الأُولی للإجماع والنصّ الصحیح فی موردها ، دون الثانیة ، ولذلک بنی حرمة الثانیة علی مسألة المشتق ، وأوضح الحکم فیها من طریق القاعدة . والنصّ هو صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام «لو أنّ رجلاً تزوّج بجاریةٍ رضیعة فأرضعتها امرأته فسد النکاح»(1) . وظاهرها فساد نکاح الرضیعة ، ویحتمل فساد نکاح المرضعة .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ الکلام فی المقام فی حرمة المرضعة الأُولی مؤبّدا ولا دلالة للصحیحة علی فساد نکاحها ، فضلاً عن حرمتها ، بل ظاهرها فساد نکاح الرضیعة وحرمتها مؤبّدا ، وهذا لا کلام فیه ، کما تقدّم .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ من المحتمل أن یکون صدق الزوجة علی الرضیعة فی زمان کافیا فی حرمة أُمّها حتّی لو کان حصول الأُمومة بعد انقضاء الزوجیة ، حیث لم یقیّد حرمة أُمّ الزوجة فی الآیة بکونها أُمّاً للزوجة الفعلیة ، بل إطلاقها یعمّ من تکون أُمّاً للزوجة الفعلیة، ومن تکون أُمّاً للزوجة السابقة ، نظیر حرمة الربیبة ، حیث لا یعتبر فی حرمة بنت الزوجة المدخول بها کونها بنتا لها حال کونها زوجة . والحاصل أنّ ما نحن فیه نظیر ما یأتی من قوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی

ص :197


1- (1) الوسائل : ج 14 ، باب 10 من أبواب ما یحرم بالرضاع ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الظّالِمِیْنَ»(1) من کون الظالم فی زمان لا ینال العهد إلی الأبد(2) .

وفیه أنّ ظاهر الخطاب دوران الحکم مدار بقاء العنوان ، وکون حدوث عنوان موجبا للحکم فی المعنون إلی الأبد ولو مع عدم بقاء العنوان یحتاج إلی قرینة ، مع أنّ الموضوع للحکم فی المقام أُمّهات نسائکم ، لا أُمّهات من کانت من نسائکم ، وظاهر الأوّل تحقّق الأمومة فی زمان انتساب المرأة إلی الإنسان بالزوجیة ، ولا یقاس المقام بمسألة بنت الزوجة ، فإنّ الحرمة فی الخطاب لم تتعلّق بعنوان بنت الزوجة لیقال فیه ما تقدّم فی أُمّ الزوجة ، بل تعلّقت بعنوان الربیبة ، والربیبة بنت من تزوّج بها سواء کانت بنتیّتها قبل الزواج أو بعد انقضائه .

والمتحصل أنّ العمدة فی المقام هو أنّ دلیل الحکم _ بحرمة المرضعة الأُولی کالصغیرة مؤبّدا _ ما تقدّم من الروایة التی صحّحنا سندها .

الصورة الثانیة: ما إذا أرضعت الکبیرتان الصغیرة ، مع الدخول بالمرضعة الثانیة فقط ، فتکون المرتضعة محرّمة علیه مؤبّداً بعد إرضاع الکبیرتان ؛ لما تقدّم فی الصورة الأُولی ، ویحکم بفساد نکاح المرضعة الأُولی من غیر حرمة ، ووجهه أنّها قبل تحقّق الرضاع من المرضعة الثانیة تکون أُمّا للصغیرة ، والصغیرة بنتاً لها ، وبما أنّه لا یمکن الجمع بین الأُمّ والبنت فی النکاح فیبطل نکاحهما ؛ لأنّ تعیین البطلان فی أحدهما بلا معین إلاّ أن یدعی بأن مجرّد النکاح علی البنت کافٍ فی تحریم أُمّها ، بخلاف العکس ، وعلیه تحرم المرضعة الأُولی مؤبّدا لکونها أُمّاً لزوجته .

ص :198


1- (1) سورة البقرة : الآیة 124 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 55 .

فعلیه کلما کان مفهومه منتزعاً من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتیات _ کانت عرضاً أو عرضیاً _ کالزوجیة والرقّیّة والحریة وغیرها من الاعتبارات والإضافات، کان محل النزاع وإن کان جامداً، وهذا بخلاف ما کان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتیات [1]، فإنه لا نزاع فی کونه حقیقة فی خصوص ما إذا کانت الذات باقیة بذاتیاتها.

ثانیها: قدعرفت أنه لا وجه لتخصیص النزاع ببعض المشتقات الجاریة علی الذوات، إلاّ أنه ربما یشکل بعدم إمکان جریانه فی اسم الزمان، لأن الذات فیه وهی الزمان بنفسه ینقضی وینصرم، فکیف یمکن أن یقع النزاع فی أن الوصف الجاری علیه حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال، أو فیما یعم المتلبس به فی المضی؟

الشَرح:

الصورة الثالثة:ما إذا أرضعت الکبیرتان زوجته الصغیرة مع الدخول بالکبیرتین وقد نقل الماتن قدس سره هذا الفرع عن الإیضاح، والحکم فیها بعینه ما تقدّم فی الصورة الأُولی .

الصورة الرابعة: ما إذا أرضعتاها بلا دخول بهما، وفی هذه الصورة لا تحرم الصغیرة ولا الکبیرتان. نعم یکون نکاح الصغیرة والمرضعة الأُولی باطلاً؛ لما تقدّم من عدم إمکان جمعهما فی النکاح، وتعیین البطلان فی أحدهما بلا معیّن، وعلی الاحتمال الآخر یبقی نکاح الصغیرة وتحرم المرضعتان مؤبّدا؛ لکون کلّ منهما أُمّاً لزوجته.

[1] المنتزع عن مقام الذات کالأنواع ، والمنتزع عن الذاتیّات کالجنس والفصل خارجان عن مورد النزاع ، فإنّه لا یطلق علی الملح المتبدّل إلیه الکلب ، أن_ّه کلب ، وعلی التراب المتبدّل إلیه الإنسان ، أنّه إنسان ، بل کان کلبا أو إنسانا ، والوجه فی ذلک أنّ شیئیة الأشیاء إنّما هی بصورها لا بالهیولی والقوة القابلة لها حتّی بنظر العرف أیضاً ، وإذا زالت الصورة انعدم الشیء ولا یمکن انطباق الشیء علی عدمه .

ص :199

ویمکن حل الإشکال بأن انحصار مفهوم عام [1] بفرد _ کما فی المقام _ لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلاّ لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فیه تبارک وتعالی.

الشَرح:

[1] وقد یناقش فی جریان النزاع فی أسماء الزمان ، بأنّ زمان الفعل ینقضی وینصرم بنفسه ، فلا یکون له بقاء بعد انقضاء المبدأ لیبحث فی انطباق عنوان إسم الزمان علیه بعد انقضاء المبدأ أو عدم انطباقه .

وذکر قدس سره أنّه یمکن حلّ الإشکال بأنّ زمان الفعل وإن کان متصرّما ینقضی بنفسه ولا یمکن أن یکون له بقاء بعد انقضاء المبدأ ، إلاّ أنّ هذا لا ینافی النزاع فی أسماء الأزمنة باعتبار ما تقدّم سابقا من أنّ النزاع فی المقام یقع فی ناحیة هیئة المشتقّات ویکون البحث فی أنّها موضوعة لخصوص المتلبّس ، أو أنّ معناها عامّ شامل له وللمنقضی ، وهذا بعینه قابل لأن یجری فی اسم الزمان أیضاً بأن یکون البحث فی أنّه موضوع لخصوص المتلبس أو للأعمّ ، ولو کان وضعه للأعمّ لکان إطلاقه علی المتلبّس من قبیل إطلاق اللفظ الموضوع للکلّی علی أحد فردیه ، وامتناع فرده الآخر خارجا لا یوجب اختصاص الوضع بفرده الممکن ، کما أن_ّه وقع الخلاف فی لفظ الجلالة بأنّه علم شخصی لذات الحقّ (جلّ وعلا) أو أن_ّه إسم للکلّی وإطلاقه علیه سبحانه من إطلاق اللفظ الموضوع للکلّی علی فرده الممکن فقط ، ولو کان امتناع فرد آخر من الکلی موجبا لعدم وضع اللفظ إلاّ لخصوص فرده الممکن لما تحقّق هذا الخلاف بینهم ، وأیضاً لما کان اتفاق علی أنّ الموضوع له فی لفظ الواجب هو الکلی مع انحصار فرده بواحد .

أقول : ما ذکره قدس سره من أنّ امتناع فرد آخر من الکلی لا یوجب وضع اللفظ لفرده

ص :200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الممکن متینٌ ، بل وضع اللفظ بإزاء کلّی لا یمکن منه حتّی فرد واحد کمعنی شریک الباری بمکان من الإمکان ، فإنّ الغرض من الوضع تفهیم المعنی ومن الظاهر أنّ قصد التفهیم کما یکون فیالمفاهیم والمعانی الممکنة ، کذلک یکون فیالممتنعة أیضاً إلاّ أنّ ما ذکره من أنّ لفظ الواجب موضوع لکلّی لا یمکن منه إلاّ فرده الواحد ، غیر تامّ ؛ وذلک لأنّ الواجب وإن کان یقیّد ویقال «الواجب بذاته وبلا علّة» ویراد منه ما لا یمکن انطباقه إلاّ علی ذات الحقّ (جلّ وعلا) وهو ما لا یمکن فرض عدمه أو فرض العلّة له ، إلاّ أنّه لم یوضع لهذا المعنی .

والذی أظنّه أنّ الإشکال فی أسماء الأزمنة لا یکون راجعا إلی امتناع وضعها للأعمّ لیجاب عنه بما ذکر ، بل یرجع إلی أنّ البحث فیها فی المقام لغو لا یترتّب علیه ثمرة ، إذ الأحکام الشرعیة الثابتة لعناوین الأسماء المذکورة ترتفع بارتفاع الزمان الواقع فیه المبدأ _ سواء قیل بوضعها لخصوص المتلبّس أو للأعمّ _ وهذا بخلاف سائر المشتقّات کاسم الفاعل ، فإنّه إذا ورد الأمر بإکرام العالم مثلاً ، فبناءً علی وضعه لخصوص المتلبّس لا یحکم باستحباب إکرام من زال عنه العلم بنسیان أو غیره ، وبناءً علی القول بوضعه للأعمّ یحکم باستحبابه أیضاً ، وهذا بخلاف إسم الزمان فإنّ الذات فیه وهو الزمان ینقضی بانقضاء المبدأ ، فلا یکون فی الخارج ذات انقضی عنها المبدأ لیثبت لها الحکم بناءً علی القول بوضعه للأعمّ .

نعم لو قیل بأنّ هیئة (مفعل) لم توضع بإزاء زمان الفعل تارة ولمکانه أُخری ، بل وضعت لمعنی واحد لهما _ ویؤیّد ذلک عدم اختلاف أسماء الزمان والمکان فی الهیئة ، بل لهما هیئة واحدة _ لکان جریان النزاع فیها بلا کلام ، حیث تترتّب الثمرة علی البحث فی معناها کما لا یخفی .

ص :201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وقد یقال إنّ الإلتزام بأنّ هیئة مفعل ، موضوعة لمعنی ینطبق علی الزمان والمکان غیر مفید ، ووجهه أنّ تلبّس المکان بالمبدأ نحو تلبّس ، وتلبّس الزّمان به نحو آخر ، وعنوان الظرفیة والوعائیة وإن کان یطلق علی کلا التلبسین إلاّ أنّه جامع عرضیّ انتزاعیّ ، لا یمکن أخذه فی معنی إسم الزمان والمکان ، فإنّه لا یکون معنی المقتل عنوان وعاء القتل ، کما أنّ الإلتزام بأخذ ما یکون وعاءً بالحمل الشائع ، مضافاً إلی أن_ّه غیر مفید ، یوجب أن یکون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، فإنّ الموضوع له أشخاصه .

أقول : الوضع فی ناحیة المشتقّات أی هیئاتها یکون عامّا والموضوع له خاصّا لا محالة ؛ لأنّ الهیئة تتضمّن معنیً حرفیّاً لا محالة ، فالکلام فی أنّ هیئتی إسم الزمان وإسم المکان ، هل وضعتا لمعنی یشار إلیه ویعبّر عنه بعنوان «ما یقع فیه المبدأ» بالخصوص ، أو وضعتا لما یعبّر عنه بعنوان «ما خرج فیه ، المبدأ إلی الفعلیة» سواء بقیت فیه الفعلیة أو انقضت ؟

فإذا وضعتا بوضع واحد للأوّل ، یکون الوضع فیهما مختصّاً بالمتلبّس الفعلی ، وإذا وضعتا کذلک للثانی ، یکون الوضع للأعمّ ، وبهذا اللحاظ یجری النزاع . هذا مع أنّ للتأمّل فی اختلاف تلبّس الزمان بالمبدأ عن تلبّس المکان به مجالاً واسعا .

وأجاب المحقّق النائینی قدس سره عن الإشکال فی أسماء الزمان بأنّ الذات المأخوذة فیها یمکن أن تکون کلیة ، کالیوم العاشر من المحرّم ، وما وقع فیه الفعل کالقتل وإن کان الموجود منه فردا من أفراده وینقضی بانقضاء القتل فیه ، إلاّ أنّ الذات وهو المعنی الکلّی یکون باقیا حسب أفراده المتجدّدة بعده(1) .

ص :202


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 56 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وفیه : أنّ العامّ یعنی الکلی ، وإن کان یتکثّر بتکثّر أفراده وتسری إلیه أوصاف أفراده فیتّصف بوصف کلّ منها ، إلاّ أنّ حدوث فرد من الکلّی وارتفاعه ، وحدوث فردٍ آخر منه بعد ذلک ، لا یصحّح بقاء العامّ بذلک الوجود ، فإنّ الحادث وجود آخر والمأخوذ فی معنی إسم الزمان ولو کان عامّاً إلاّ أنّ ما هو ظرف للمبدأ وجود واحد لا بقاء له علی الفرض وحدوث فرد آخر لا یصحّح کون الکلّی بذلک الوجود متّصفا بالمبدأ ، ویتّضح ذلک بملاحظة المأخوذ من الذات فی معنی لفظ المجتهد ، فإنّه لیس خصوص زید ، بل المأخوذ فیه مطلق الذات المتّصفة بالاجتهاد ، وقیام مبدأ الاجتهاد بزید یوجب اتّصاف الإنسان بالمبدأ المفروض ، ولکن لا یوجب ذلک صدق المجتهد علی سائر أفراد الإنسان بدعوی أنّ المأخوذ فی معنی المجتهد کلی الذات المتصفة بالاجتهاد لا خصوص زید الموصوف بمبدأ الاجتهاد .

والسرّ فی ذلک أنّ لکل فرد من أفراد الإنسان وجودا ، قد یتّصف الطبیعی بوصف بعض وجوداته وینطبق علیه عنوان باعتبار بعض أفراده ولکن هذا لا یوجب بقاء الطبیعی الموصوف بوصفٍ ما ، بوجود فرده الآخر . وقد ذکر هذا الوجه لعدم جریان الاستصحاب فیالقسم الثالث من الکلی .

وربّما یقال : إنّ للزمان بقاءا اعتبارا ، فإنّ الیوم باقٍ مادام لم تغرب الشمس ، واللیل باقٍ مادام لم تطلع الشمس أو الفجر ؛ ولذا یجری استصحاب بقاء الشهر أو الیوم أو اللیل ونحو ذلک ، وهذا النحو من البقاء کافٍ فی جریان النزاع فی اسماء الزمان ، حیث إنّ الیوم العاشر من کلّ سنة وإن لم یکن مقتلاً للحسین علیه السلام إلاّ أنّ الیوم العاشر من سنة إحدی وستین یصدق علیه مقتله علیه السلام حتّی بعد الزوال أیضاً ،علی أنّ

ص :203

ثالثها: إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزید فیها عن حریم النّزاع [1]، لکونها غیر جاریة علی الذوات، ضرورة أن المصادر المزید فیها الشَرح:

المشتقّ حقیقة فی مطلق ما تلبّس بالمبدأ وإن انقضی تلبّسه .

أقول : ما ذکر من الاعتبار فی النهار واللیل والشهر ونحوها لا ینکر ، کما فی بحث جریان الاستصحاب فی ناحیة الزّمان ، ولکن هذا لا یثمر فی جریان النزاع فی أسماء الزمان ، والوجه فی ذلک أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق أو الملازم لمعناه _ کما یأتی _ مبهمة من جمیع الجهات غیر تلبّسها بالمبدأ، والعناوین الاعتباریة کالنهار واللیل ، لم یؤخذ شیء منها فی معنی إسم الزمان ، وما أُخذ فیه من المعنی المبهم إنّما ینطبق علی نفس القطعة الزمانیة التی وقع فیها الفعل ، والمفروض أنّها لا تبقی بعد انقضاء التلبّس .

نعم ، فی المقام أمرٌ ، وهو أن_ّه لو أُخذ فی بعض الخطابات الشرعیة مقتل الحسین علیه السلام ونحوه موضوعا لآداب ، یکون ذکر الآداب قرینة علی أنّ المراد به مثل ذلک الزمان لا نفسه ، ومثله وإن کان فردا آخر حقیقة إلاّ أنّ إطلاق مقتله علیه السلام علیه باعتبار أنّ أهل العرف یرون المثل عودا لنفس ذلک الزمان ولو تسامحا .

[1] المصادر المزید فیها وإن کان یطلق علیها المشتق باصطلاح علماء الأدب إلاّ أنّها کالمصادر المجرّدة لاتحمل علی الذوات ، فإنّ معانیها عبارة عن المبادئ وما تتّصف به الذوات وما یقوم بها ، ومع انقضاء التلبّس عن الذوات لا یمکن انطباقها علی عدمها ، وهکذا الأفعال فإنّها مرکبة من المبادئ والهیئات ، أمّا مبادیها فالحال فیها کالحال فی المصادر لا یمکن أن تنطبق علی عدمها ، وأمّا هیئاتها فلأنّها دالّة علی قیام تلک المبادئ بالذوات قیام صدور أو حلول أو غیر ذلک ، ومع انقضاء المبدأ عن الذات لا قیام للمبدأ بها .

ص :204

کالمجردة، فیالدّلالة علی ما یتصف به الذوات ویقوم بها _ کما لا یخفی _ وإنّ الأفعال إنّما تدلّ علی قیام المبادی بها قیام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو ترکها منها، علی اختلافها.

إزاحة شبهة:

قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل علی الزمان، حتی أخذوا الإقتران به فی تعریفه [1]. وهو اشتباه، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهی علیه، بل علی إنشاء الشَرح:

[1] ذکر النحاة فی الفرق بین الإسم والفعل بعد اشتراکهما فی الدلالة علی معنیً مستقل _ أی مستقل فی اللحاظ _ أنّ ذلک المعنی المستقل بمجرده مدلول الإسم ولا یدلّ الإسم علی اقترانه بأحد الأزمنة ، بخلاف الفعل فإنّه یدلّ علی معنیً مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، وعباراتهم فی التفرقة بین الإسم والفعل توهم دخول الزمان فی مدلول الأفعال بخلاف الأسماء ، حیث إنّ الزمان خارج عن مدالیلها فهذا الوهم فاسد جدّاً _ سواء کان مراد علماء الأدب فی تعریف الإسم والفعل هذا أو غیره _ ، فإنّ من الأفعال عندهم الأمر والنهی ولیس لهما دلالة علی الزمان ، فإنّ الأمر یدلّ علی إنشاء طلب الفعل ، والنهی علی إنشاء الزجر عنه أو طلب الترک ، غایة الأمر یکون الإنشاء حال التکلّم لا محالة ، کما هو الحال فی الإخبار ولو بالجملة الإسمیّة ، کقوله زید ابن عمرو ، أو بالجملة الفعلیة کضرب زید أو یضرب عمرو ، بل لا دلالة للفعل الماضی أو المضارع علی الزمان ؛ ولذا لا یکون عنایة وتجرید عند إسنادهما إلی الزمان والمجردات .

وبالجملة لا ینبغی التأمّل فی أنّ الزمان غیر مأخوذ فی معنی الفعل لا فی ناحیة معنی المادة ولا فی ناحیة معنی الهیئة ، نعم لمعنی هیئة الماضی والمضارع عند

ص :205

طلب الفعل أو الترک، غایة الأمر نفس الإنشاء بهما فی الحال، کما هو الحال فی الإخبار بالماضی أو المستقبل أو بغیرهما، کما لا یخفی، بل یمکن منع دلالة غیرهما من الأفعال علی الزمان إلاّ بالإطلاق والإسناد إلی الزمانیات، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجرید، عند الإسناد إلی غیرها من نفس الزمان والمجردات.

نعم لا یبعد أن یکون لکل من الماضی والمضارع _ بحسب المعنی _ خصوصیة أخری موجبة للدلالة علی وقوع النسبة، فی الزمان الماضی فی الماضی، وفی الحال أو الاستقبال فی المضارع، فیما کان الفاعل من الزمانیات، ویؤیده أن المضارع یکون مشترکاً معنویاً [1] بین الحال والاستقبال، ولا معنی له الشَرح:

دخولها علی المادة خصوصیة ، وتلک الخصوصیة تقتضی زمان الماضی أو الحال والاستقبال فیما کان الإسناد إلی الزمانی ، فإنّ الماضی یدلّ علی انتساب المبدأ بنحو التحقّق والمضارع علی انتسابه بغیره من الفعلیّة أو الترقّب ودلالة هیئتهما علی ذلک بنحو ما تقدّم فی معانیالحروف ، لا علی عنوان الانتساب الموصوف بالتحقّق أو الترقّب .

ثمّ إنّه لو کان فی البین قرینة علی لحاظ الترقّب أو التحقّق بالإضافة إلی زمان فلا کلام ، کما فی قوله : (یجیئنی زید بعد عامّ وقد ضرب قبله بثلاثة أیام) وکما فی قوله : (جائنی زید فی شهر کذا وهو یضحک) حیث لوحظ تحقّق الضرب فی الأوّل بالإضافة إلی زمان المجیء ، والفعلیة أو الترقّب فی الضحک بالإضافة إلی زمانه أیضاً فی الثانی ، وإلاّ یحمل التحقّق والترقّب علی أنّهما بالإضافة إلی زمان الاخبار ، وهذا هو المراد بالاطلاق فی قول الماتن قدس سره : «بل یمکن منع دلالة غیرهما علی الزمان إلاّ بالاطلاق والإسناد إلی الزمانیات» .

[1] هذا تأیید لعدم دخول الزمان فی مدلول الأفعال وأنّ الداخل فی مدلولها

ص :206

إلا أن یکون له خصوص معنی صح انطباقه علی کل منهما، إلا أنه یدل علی مفهوم زمان یعمهما، کما أنّ الجملة الاسمیة ک_ (زید ضارب) یکون لها معنی صح انطباقه علی کل واحد من الأزمنة، مع عدم دلالتها علی واحد منها أصلاً، فکانت الجملة الفعلیة مثلها.

وربما یؤید ذلک أن الزمان الماضی فی فعله، وزمان الحال أو الإستقبال فی المضارع، لا یکون ماضیاً أو مستقبلاً حقیقة لا محالة، بل ربّما یکون فی الماضی مستقبلاً حقیقة، وفی المضارع ماضیاً کذلک، وإنّما یکون ماضیاً أو مستقبلاً فی الشَرح:

خصوصیة انتساب المبدأ إلی الذات ، وتقتضی تلک الخصوصیة فیما کان الفاعل من الزمانیات أحد الأزمنة . ووجه التأیید أن_ّه لا جامع بین زمانی الحال والاستقبال إلاّ معنی لفظ الزمان ، ومفهوم الزمان معنی إسمی غیر داخل فی معنی هیئة الأفعال حتّی عند النحویین ، فإنّ ظاهر کلامهم دلالة الفعل علی معنی مقترن بمصداق الزمان ، فلابدّ من أن یکون مرادهم أیضاً أن للهیئة فی فعل المضارع خصوصیة تقتضی زمان الحال أو الاستقبال .

أقول : لم یثبت من النحویین التزامهم بالاشتراک المعنوی فی هیئة فعل المضارع بمعناه المعهود لیشکل علیهم بأنّ الهیئات لیس لها معانٍ إسمیّة حتّی یتصوّر فیها الاشتراک المعنوی، بل لعلّ مرادهم أنّ صیغة فعل المضارع تدلّ علی ما یوصف به انتساب المبدأ إلی الفاعل بکونه فی غیر الزمان الماضی من الحال أو الاستقبال، فالمراد بالاشتراک الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، کما فی الحروف وهیئات سائر الأفعال.

وغایة ما یرد علیهم أنّ خصوصیة النسبة المستفادة من هیئة الفعل الماضی أو الفعل المضارع وإن کانت تقتضی الاقتران بالأزمنة فیما کان الفاعل من الزمانیّات إلاّ أنّ اقتضاء الخصوصیة لا یوجب دخول الزمان وأخذه فی مدلوله لیلزم العنایة أو

ص :207

فعلهما بالإضافة، کما یظهر من مثل قوله: یجیئنی زید بعد عام، وقد ضرب قبله بأیّام، وقوله: جاء زید فی شهر کذا، وهو یضرب فی ذلک الوقت، أو فیما بعده مما مضی، فتأمل جیدّاً.

ثم لا بأس بصرف عنان الکلام إلی بیان ما به یمتاز الحرف عما عداه، بما یناسب المقام؛ لأجل الاطراد فی الاستطراد فی تمام الأقسام.

فاعلم أنّه وإن اشتهر بین الأعلام، أن الحرف ما دلّ علی معنی فی غیره، وقد بیناه فی الفوائد بما لا مزید علیه، إلاّ أنک عرفت فیما تقدم، عدم الفرق بینه وبین الاسم [1] الشَرح:

التجرید فی موارد الإسناد إلی الزمان أو المجرادت .

فیکون الحال فی الفعل الماضی أو المضارع مثل الجملة الإسمیّة ک_(زید ضارب) ، حیث إنّه نسب (ضارب) إلی (زید) بنسبة تحقّقیة أو بنسبة ترقّبیة ، وهذه النسبة تقتضی أحد الأزمنة الثلاثة لا محالة ؛ لکون (زید) من الزمانیّات ، والفرق أنّ تعیین کون النسبة فی (زید ضارب) تحقّقیة أو ترقّبیة یکون بالقرینة العامة أو الخاصة ، بخلاف تعیینها فی الفعل فإنّه یکون بالوضع ، حیث إنّ هیئة الفعل الماضی تدلّ علی نسبة تحقّقیة وهیئة المضارع علی نسبة ترقّبیة .

وممّا ذکر یظهر أنّ فی عبارة الماتن قدس سره تسامحا، فإنّه قدس سره ذکر أنّ للمضارع معنیً یصحّ انطباقه علی الحال والاستقبال ووجه التسامح أنّ معنی الفعل _ سواء کان ماضیا أو مضارعا _ لا ینطبق علی الزمان، بل ینطبق علی النسبة الخارجیة المقتضیة للزمان فیما کان الفاعل من الزمانیات، وکذلک الحال فی الجملة الإسمیّة ک_ (زید ضارب)، فتدبّر.

[1] ذکر قدس سره فیما تقدّم أن_ّه لیس الاختلاف بین الحرف والإسم فی نفس الموضوع له والمستعمل فیه لا بالذات ولا بالاعتبار ، بل الموضوع له والمستعمل فیه فیهما واحد وهو ما یتعلّق به اللحاظ الآلی تارة والاستقلالی أُخری ، من غیر دخل

ص :208

بحسب المعنی، وأنّه فیهما ما لم یلحظ فیه الإستقلال بالمفهومیة، ولاعدم الإستقلال بها، وإنّما الفرق هو أن_ّه وضع لیستعمل وأرید منه معناه حالة لغیره وبما هو فی الغیر، ووضع غیره لیستعمل وأرید منه معناه بما هو هو وعلیه یکون الشَرح:

للحاظین فی الموضوع له والمستعمل فیه ، والاختلاف فی کیفیة اللحاظ عند استعمالهما معتبر فی وضعهما حیث إنّ الإسم وضع لذلک المعنی الذی یکون من قبیل الکلی الطبیعی؛ لیلاحظ عند الاستعمال بما هو هو، والحرف وضع له لیستعمل فیه عند لحاظه آلیا، فالمعنی الموضوع له والمستعمل فیه فی نفسه فی کلّ منهما کلی طبیعی، وکیفیة اللحاظ عند الاستعمال لا تدخل فی المستعمل فیه لا فی الاسماء ولا فی الحروف، ولذا تکون معانی الأسماء والحروف کلّیات تنطبق علی الخارجیات، وتصدق علی کثیرین.

ولو قیّد المعنی باللحاظ ، بأن یکون واقع اللحاظ الآلی أو الاستقلالی داخلاً فی المعنی ، یکون المستعمل فیه جزئیّا ذهنیا وکلیّا عقلیا ، حیث إنّ الوجود الذهنی کالخارجی یکون شخصا لا محالة ، بحیث لو لوحظ المعنی المفروض ثانیا ، یکون اللحاظ الثانی وجودا ذهنیا آخر مثل الأوّل ، ویکون المعنی مع أنّه جزئی ذهنی _ حیث أن المقیّد بأمر ذهنی یکون ذهنیاً لا ینطبق علی الخارج _ کلیّاً عقلیّاً ، وقد ذکرنا أنّ المراد بالکلی العقلی ، مرآتیّة الملحوظ وحکایته عن کثیرین فی الخارج من غیر أن ینطبق علیها لیکون عین ما فی الخارج ، ویمکن تشبیهه بالصورة المنقوشة علی الجدار من إنسان أو غیره ، فإنّها تحکی الخارج وتشیر إلیه من غیر أن تکون عین الخارج ، وأضاف هنا إلی ما تقدّم ، التوفیق بین جزئیة المعنی الحرفی بل الإسمی وبین کلیّته _ أی کونه کلّیا طبیعیا یصدق علی کثیرین فی الخارج _ بأنّ المعنی الموضوع له والمستعمل فیه إذا قیّد بواقع اللحاظ ، یعنی الوجود الذهنی ، یکون

ص :209

کل من الاستقلال بالمفهومیة، وعدم الاستقلال بها، إنّما اعتبر فی جانب الاستعمال، لا فی المستعمل فیه، لیکون بینهما تفاوت بحسب المعنی، فلفظ (الابتداء) لو استعمل فی المعنی الآلی، ولفظة (من) فی المعنی الاستقلالی، لما کان مجازاً واستعمالاً له فی غیر ما وضع له، وإن کان بغیر ما وضع له، فالمعنی فی کلیهما فی نفسه کلّی طبیعی یصدق علی کثیرین، ومقیداً باللحاظ الاستقلالی أو الآلی کلّی عقلی، وإن کان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهناً کان جزئیاً ذهنیاً، فإنّ الشّیء ما لم یتشخص لم یوجد، وإن کان بالوجود الذهنی، فافهم وتأمل فیما وقع فی المقام من الأعلام، من الخلط والاشتباه، وتوهم کون الموضوع له أو المستعمل فیه فی الحروف خاصاً، بخلاف ما عداه فإنّه عام.

الشَرح:

جزئیاً ذهنیا وکلیا عقلیا ، وإذا أُغمض عن اللحاظ الذی هو من کیفیّات الاستعمال ومقدّماته یکون نفس المستعمل فیه کلّیا طبیعیا یصدق علی الخارجیات .

أقول : قد تقدّم أنّ المعنی الحرفی یختلف عن المعنی الإسمی ولا اتحاد بینهما أصلاً وأنّ الاختلاف لیس بحسب اللحاظ فقط لیقال إنّ اللحاظ غیر داخل فی المستعمل فیه فیهما ، بل قد ذکرنا فی الفرق ما ملخّصه : أنّ الحرف إذا ذکر مجرّدا لا یکون له معنی ، وإذا دخل علی الإسم أو غیره دلّ علی خصوصیّة فی معنی المدخول بحسب الخارج ، فتکون تلک الخصوصیة ، نسبیة وغیر نسبیة ، مثلاً إذا قیل (سرت من البصرة إلی الکوفة) فکلمة (من) الداخلة علی (البصرة) تدلّ علی أنّها فی نسبة السیر إلیها معنونة بعنوان المبدئیة له ، بخلاف ما إذا قلنا (ابتداء السیر) ، فإنّ لفظ (الابتداء) یضاف إلی (السیر) لا إلی (المکان) فلا یدلّ علی خصوصیة المبدئیة فی النسبة لیقال إنّ المستعمل فیه فیهما أمر واحد ، وقلنا : إنّ هذا هو السرّ فی عدم استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، لا أنّ الاختلاف بینهما یکون بمجرد اللحاظ

ص :210

ولیت شعری إن کان قصد الآلیة فیها موجباً لکون المعنی جزئیاً، فَلِمَ لا یکون قصد الاستقلالیة فیه موجباً له؟ وهل یکون ذلک إلاّ لکون هذا القصد، لیس مما یعتبر فی الموضوع له، ولا المستعمل فیه بل فی الاستعمال، فَلِمَ لا یکون فیها کذلک؟ کیف، وإلاّ لزم أن یکون معانی المتعلقات غیر منطبقة علی الجزئیات الخارجیة، لکونها علی هذا کلیات عقلیة، والکلّی العقلی لا موطن له إلاّ الذهن، فالسیر والبصرة والکوفة، فی (سرت من البصرة إلی الکوفة) لا یکاد یصدق علی السیر والبصرة والکوفة، لتقیّدها بما اعتبر فیه القصد فتصیر عقلیة، فیستحیل انطباقها علی الأمور الخارجیة.

وبما حققناه یوفق بین جزئیة المعنی الحرفی بل الاسمی، والصدق علی الکثیرین، وإنّ الجزئیة باعتبار تقیّد المعنی باللحاظ فی موارد الإستعمالات آلیاً أو استقلالیاً، وکلیته بلحاظ نفس المعنی، ومنه ظهر عدم اختصاص الإشکال والدفع بالحرف، بل یعمّ غیره، فتأمل فی المقام فإنّه دقیق ومزالّ الأقدام للأعلام، وقد سبق فی بعض الأمور بعض الکلام، والإعادة مع ذلک لما فیها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها: إن اختلاف المشتقات فی المبادئ [1]، وکون المبدأ فی بعضها حرفة الشَرح:

فراجع وتأمّل . وقد ذکرنا هناک أیضاً أنّ نفس الخصوصیة الخارجیة فی مدلول المدخول لیست هی معنی الحرف لیقال إنّ الحرف لم یستعمل فی شیء ، فی صورة الکذب فی الاخبار ، بل مدلول الحرف تلک الخصوصیة بصورتها المندکّة فی معنی المدخول ؛ ولذا لا یکون للحروف معانٍ إخطاریة ، فالاسم یدلّ علی معنیً فی نفسه ، والحرف یدلّ علی معنیً فی غیره ، والخصوصیة المدلول علیها بالحرف فی معنی الغیر ، تصحّح اتصاف معنی المدخول بعنوان إسمی کالمبدئیة .

[1] قد تقدّم أنّ النزاع فی المقام فی ما وضع له هیئات المشتقّات وأن_ّه ینطبق

ص :211

وصناعة، وفی بعضها قوة وملکة، وفی بعضها فعلیّاً، لا یوجب اختلافاً فی دلالتها بحسب الهیئة أصلاً، ولا تفاوتاً فی الجهة المبحوث عنها، کما لا یخفی، غایة الأمر إنّه یختلف التلبس به فی المضی أو الحال، فیکون التلبس به فعلاً، لو أخذ حرفة أو ملکة، ولو لم یتلبس به إلی الحال، أو انقضی عنه، ویکون مما مضی أو یأتی لو أخذ فعلیاً، فلا یتفاوت فیها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات، کما أشرنا إلیه.

الشَرح:

علی ما انقضی عنه المبدأ ، أو لا ینطبق إلاّ علی ما یکون تلبّسه بالمبدأ فعلیا ، ولکنّ المراد بالمبدأ فی المشتقات یختلف ، فیکون المراد بالمبدأ فی بعضها بنحو الحرفة ، وفی بعضها بنحو الصنعة ، وفی بعضها بنحو الملکة ، وفی بعضها بنحو الشأنیة أو الاستعداد ، وفی بعضها بنحو الفعلیة ، وهذا الاختلاف فی المبادئ لا یوجب اختلافا فی دلالة الهیئات ، ولا تفاوتا فی محلّ النزاع ، والفرق بین الحرفة والصناعة أنّ الأُولی لا تحتاج إلی التعلّم بخلاف الثانیة .

ثمّ إنّ اختلاف المشتقّات بحسب المبادئ لا یوجب الاشتراک اللفظی فی ناحیة المبادئ ، لإمکان إرادة الملکة أو الاستعداد أو غیرهما من المبدأ ولو بنحو المجاز .

وبذلک یظهر أنّ ما ذکر من عدم کون المبدأ موضوعا للاستعداد فلا یمکن أن یکون مستفاداً من مشتقّاته أیضاً ، کما فی الفتح والمفتاح ، فإذا لم یستعمل الفتح فی الاستعداد ، فکیف یستعمل المفتاح فی استعداد الفتح ، لا یمکن المساعدة علیه إذ الاستعداد للفتح غیر داخل فی مدلول الهیئة ، بل الهیئة قرینة علی إرادة الاستعداد من المبدأ ولو مجازا ، حیث إنّ الآلیة لشیء لا تستلزم إیجاد ذلک الشیء بها فعلاً.

ص :212

خامسها: إنّ المراد بالحال فی عنوان المسألة، هو حال التلبس [1 [لا حال النطق ضرورة أن مثل (کان زید ضارباً أمس) أو (سیکون غداً ضارباً) حقیقة إذا کان متلبساً بالضرب فی الأمس، فی المثال الأول، ومتلبساً به فی الغد فی الثانی، فجری المشتق حیث کان بلحاظ حال التلبس، وإن مضی زمانه فی أحدهما، ولم یأت بعد فی آخر، کان حقیقة بلا خلاف، ولا ینافیه الاتفاق علی أن مثل (زید ضارب غداً) مجاز، فإنّ الظاهر أنّه فیما إذا کان الجری فی الحال، کما هو قضیة الإطلاق، والغد إنّما یکون لبیان زمان التلبس، فیکون الجری والاتصاف فی الحال، والتلبس فی الاستقبال.

الشَرح:

[1] تعرّض قدس سره فی هذا الأمر لبیان المراد من الحال الوارد فی عنوان المسألة ، وظاهر کلامه أنّ المراد به فعلیّة المبدأ للذات ، حیث إنّ انطباق معنی المشتق علی الذات مع فعلیة تلبّسها بالمبدأ لیس محلّ کلام ، وإنّما الکلام فیانطباق معناه علیها مع انقضاء تلبّسها بالمبدأ ، وعلی ذلک فإن کان حمل معنی المشتق علی الذات وتطبیقه علیها مع فعلیة المبدأ لها ، کان الحمل والتطبیق حقیقیین ، سواء کانا فی الزمان الماضی أو الحال (أی زمان النطق) أو المستقبل . وأمّا لو کان حمله علیها وتطبیقه بلحاظ انقضاء الفعلیة ، فکونهما حقیقیین مبنیّ علی سعة معنی المشتق ، وعلی کل تقدیر ، فلا عبرة بزمان النطق المعبّر عنه بالزمان الحال ، نعم یحمل علیه حال الفعلیة فیما إذا لم تکن فی البین قرینة علی تعیینها فی غیره .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ الحال یطلق علی معان ثلاثة ؛ الأوّل : زمان النطق الذی تقدّم عدم دخله فی معنی المشتق . والثانی : زمان التلبّس یعنی زمان تلبّس الذات بالمبدأ . والثالث : فعلیّة التلبّس بالمبدأ وأنّ المراد بالحال فی عنوان المسألة هو المعنی الثالث لا الثانی ، و نسب إلی کثیر من الأعلام ، منهم صاحب الکفایة قدس سره ،

ص :213

ومن هنا ظهر الحال فی مثل (زید ضارب أمس) وأن_ّه داخل فی محل الخلاف والاشکال. ولو کانت لفظة (أمس) أو (غد) قرینة علی تعیین زمان النسبة والجری أیضاً کان المثالان حقیقة.

وبالجملة: لا ینبغی الإشکال فی کون المشتق حقیقة، فیما إذا جری علی الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو کان فی المضی أو الاستقبال، وإنّما الخلاف فی کونه حقیقة فی خصوصه، أو فیما یعم ما إذا جری علیها فی الحال بعد ما انقضی عنه التلبس، بعد الفراغ عن کونه مجازاً فیما إذا جری علیها فعلاً بلحاظ التلبس فی الإستقبال، ویؤید ذلک اتفاق أهل العربیة علی عدم دلالة الاسم علی الزمان، ومنه الصفات الجاریة علی الذوات، ولا ینافیه اشتراط العمل فی بعضها بکونه بمعنی الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة علی أحدهما بقرینة، کیف لا؟ وقد اتفقوا علی کونه مجازاً فی الاستقبال.

لا یقال: یمکن أن یکون المراد بالحال فی العنوان زمانه، کما هو الظاهر منه الشَرح:

حیث ذکروا أنّ المراد به هو المعنی الثانی یعنی زمان التلبس(1) .

أقول : لیس فی عبارة الماتن قدس سره دلالة علی ما ذکره، بل ظاهرها أنّ المراد بالحال فعلیة المبدأ، بمعنی أنّ حمل المشتق علی ذات _ یکون تلبسها بالمبدأ فعلیّاً _ حقیقی، وحمله علی ذات _ یکون تلبّسها بالمبدأ منقضیا فی ظرف الحمل _ محلّ النزاع، ویشهد لذلک قوله قدس سره : «ویؤید ذلک اتّفاق أهل العربیة علی عدم دلالة الإسم علی الزمان»(2)، فإنّ مقتضاه خروج الزمان عن مدلول المشتق سواء کان المراد به خصوص أحد الأزمنة الثلاثة، أم زمان التلبّس الذی یعمّ الماضی والحال والاستقبال.

ص :214


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 57 .
2- (2) کفایة الأُصول : ص44 .

عند إطلاقه، وادعی أن_ّه الظاهر فی المشتقات، إما لدعوی الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرینة الحکمة.

لأنا نقول: هذا الانسباق، وإن کان مما لا ینکر، إلاّ أنهم فی هذا العنوان بصدد تعیین ما وضع له المشتق، لا تعیین ما یراد بالقرینة منه.

سادسها: إنّه لا أصل فی نفس هذه المسألة یعوّل علیه [1] عند الشک، وأصالة الشَرح:

[1] إن کان المراد بالأصل ، الأصل اللفظی ، فلا ینبغی التأمّل فی أن_ّه لا بناء من العقلاء ولا من أبناء المحاورات علی کون المعنی عامّا أو خاصّا فیما إذا دار أمر الموضوع له بینهما .

نعم قد یقال : إنّ اللفظ فیما إذا استعمل فی موردین ودار أمره بین کون اللفظ موضوعا للجامع بینهما ، لیکون استعماله فی کلّ من الموردین حقیقة أو کان موضوعا لخصوص أحدهما ، لیکون استعماله فی المورد الآخر مجازا ، یرجّح الاشتراک المعنویّ لأجل غلبة الاشتراک المعنوی علی المجاز .

ولکن لا یخفی أنّ غلبة الاشتراک المعنوی علی الحقیقة والمجاز غیر محرزة ، وعلی تقدیر الغلبة ، فلا دلیل علی الترجیح بها .

ونظیر ذلک ما یدّعی من أنّ المشتقّ یستعمل کثیرا فی موارد الانقضاء، فلو لم یکن مشترکا معنویا وکان موضوعا لخصوص المتلبّس لزم المجاز فی غالب موارد استعمالاته، فلا محالة یکون مشترکا معنویا، حذرا من غلبة المجاز فی موارد استعماله.

وفیه أیضاً کما یأتی أنّ استعماله فی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس حقیقة مع أنّ غلبة المجازیة لا توجب الإلتزام بالاشتراک المعنوی أو اللفظی ، فإنّ باب المجاز فی الاستعمالات واسع .

وإن کان المراد بالأصل الأصل الشرعی _ یعنی الاستصحاب _ فلا ینبغی التأمّل فی

ص :215

عدم ملاحظة الخصوصیة، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دلیل علی اعتبارها فی تعیین الموضوع له، وأما ترجیح الاشتراک المعنوی علی الحقیقة والمجاز. إذا دار الأمر بینهما لأجل الغلبة، فممنوع، لمنع الغلبة أولاً، ومنع نهوض حجة علی الترجیح بها ثانیاً.

الشَرح:

عدم الأصل الشرعی أیضاً؛ لأنّ استصحاب عدم لحاظ الخصوصیة فی الموضوع له _ مع عدم إثباته ظهور المشتق ووضعه للمعموم ، لعدم کون ظهوره فی العموم أمرا شرعیا مترتبا علی عدم لحاظ الخصوصیة _ معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم والإطلاق.

وذکر الماتن قدس سره أن_ّه إذا انقضی تلبّس الذات بالمبدأ ، ثمّ جعل التکلیف للموضوع بعنوان المشتق ، سواء کان بمفاد القضیة الخارجیة أو بمفاد القضیة الحقیقیة ، فیرجع إلی البراءة عنه بالإضافة إلی الذات المذکورة ، وأمّا لو جعل الحکم قبل انقضاء التلبّس عنه ، ثمّ انقضی عنه المبدأ ، فیستصحب الحکم فیه .

وبالجملة مقتضی الأصل العملی البراءة عن التکلیف فی الأوّل، وبقاء التکلیف فی الثانی.

أقول : قد یقال بعدم الفرق بین الفرضین ، ففی کلٍّ منهما یجری استصحاب بقاء الموضوع ، وبإحراز بقائه یثبت الحکم ، بأن یقال فی الفرض الأوّل إنّ زیدا کان فی السابق عالما وبعد انقضاء تلبّسه بالمبدأ یشکّ فی بقائه عالما ؛ لاحتمال کون المشتق حقیقة فی الأعمّ ، وإذا ثبت بالاستصحاب کونه عالما یترتّب علیه الحکم الوارد فی خطاب أکرم العلماء ، فإنّه یکفی فی جریان الاستصحاب کون المستصحب موضوعا للحکم ولو فی زمان الاستصحاب (أی فی بقائه) ، وکذا الحال فیما إذا ورد الخطاب فی زمان تلبّس زید بالمبدأ ثمّ انقضی عنه المبدأ ، فإنّه یستصحب کونه عالما ، فیترتب علیه الحکم الوارد فی الخطاب .

ص :216

وأما الأصل العملی فیختلف فی الموارد، فأصالة البراءة فی مثل (أکرم کل عالم) یقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضی عنه المبدأ قبل الإیجاب، کما أن قضیة الاستصحاب وجوبه لو کان الإیجاب قبل الانقضاء.

الشَرح:

ولکن لا یمکن المساعدة علی هذا القول المذکور ، وذلک لعدم جریان الاستصحاب فی ناحیة الموضوع فی موارد الشبهة المفهومیة ، کما هو المفروض فی المقام ، وقد تعرّضنا لذلک فی مبحث الاستصحاب ، وبیّنا أنّ ظاهر خطاب النهی عن نقض الیقین بالشکّ أن یحتمل الشخص بقاء ذلک المتیقّن الحاصل خارجا ، بأن یکون المحتمل بقاء نفس ذلک الموجود الذی علم به ، وفی الشبهات المفهومیة لا مشکوک کذلک ، فإنّه فی المثال کان یعلم أنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ (عالم) وبقاء تلک الذات محرز ، وعدم بقاء تلبّسها بالمبدأ أیضاً محرز ، فلا یکون شیء فی الخارج مشکوکا، بل المشکوک صدق عنوان (العالم) علی الذات المزبوره مع عدم بقاء تلبّسها بالمبدأ، والاستصحاب لا یتکفّل لإثبات الإسم ومعنی اللفظ، کما هو الحال فی مسألة استصحاب بقاء النهار فیما إذا شک بانتهائه بغیبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقیة، فإنّه مع عدم الشکّ فی الخارج لا مجال للاستصحاب.

وأمّا إجراء الاستصحاب فی ناحیة الحکم ، الذی یظهر من الماتن الإلتزام به فی الفرض الثانی ، فبناءا علی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة یختصّ جریانه بما إذا شکّ فی سعة الحکم المجهول وضیقه من حیث تخلّف بعض الحالات التی یکون ثبوت الحکم للموضوع فی تلک الحالات متیقنا ، کما إذا شکّ فی تنجّس الماء الکثیر بعد زوال تغیّره بنفسه ، حیث إنّ التغیّر فی الماء یعدّ عرفا من حالات الماء ، وإنّ الموضوع للتنجس عرفا هو الماء ، فیجری استصحاب بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغیّره ؛ لکون التغیّر عرفا من حالات الماء لا من مقوماته .

ص :217

فإذا عرفت ما تلونا علیک، فاعلم أنّ الأقوال فی المسألة وإن کثرت، إلاّ أن_ّها حدثت بین المتأخرین، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدّمین، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادیه فی المعنی، أو بتفاوت ما یعتریه من الأحوال [1]، وقد مرت الإشارة إلی أن_ّه لا یوجب التفاوت فیما نح_ن بصدده، ویأتی له مزید بیان الشَرح:

وأمّا فی الموارد التی لا یحرز فیها بقاء العنوان المقوّم للموضوع عرفاً ، کصوم نهار شهر رمضان ، فلا یجری استصحاب الحکم فیها ، إذ الموضوع لوجوب الصوم هو نهار شهر رمضان ، والنهار مقوّم لموضوع الحکم عرفا ، فإذا شکّ فی بقاء النهار بالشبهة المفهومیة ، فلا یحرز اتّحاد القضیة المتیقّنة والمشکوکة لیجری الاستصحاب فی وجوبه والأمر فی أکرم العالم کذلک فإنّ عنوان (العالم) مقوّم لموضوع استحباب الإکرام ، والذی کنّا علی یقین منه ، استحباب إکرام زید بما هو إکرام عالم ، ثمّ شککنا فی أنّ إکرامه بعد انقضاء علمه إکرام للعالم لیجب ، أم لا ؟ فالشکّ یکون فیما هو مقوّم للموضوع ، ومعه لا یجری الاستصحاب .

وبتبعیرٍ آخر : لا یجری الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة إلاّ فیما إذا کان انطباق العنوان موجبا لحدوث الحکم بنظر العرف ، ویحتمل دخالة بقائه فی بقاء الحکم ، أو کان المتخلّف من قبیل حالات الشیء عرفا ، فالأول کما فی قوله سبحانه : «لا یَنَالَ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(1) ، والثانی کما فی تغیّر الماء الکثیر فی أحد أوصافه .

[1] کان الاختلاف فی معانی المشتقات بین المتقدّمین علی قولین :

أحدهما: أنّها حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ ، ومجاز فی غیره ، بمعنی أنّ معانی هیئات المشتقات ضیقة لا تنطبق إلاّ علی الذات المتلبّسة بالمبدأ ، وهذا

ص :218


1- (1) سورة البقرة : الآیة 124 .

فی أثناء الإستدلال علی ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس فی الحال، وفاقاً لمتأخری الأصحاب والأشاعرة، وخلافاً لمتقدمیهم والمعتزلة، ویدلّ علیه الشَرح:

القول کان لمتأخّری الأصحاب والأشاعرة .

وثانیهما: أنّ معانی المشتقات وسیعة تنطبق علی المتلبّس والمنقضی ، وکان علی هذا متقدّمی الأصحاب و المعتزلة ، ثمّ حدثت الأقوال الأُخر کالتفصیل بین ما إذا کان مبدأ المشتق لازما أو متعدّیا والإلتزام بسعة المعنی علی الثانی دون الأوّل ، کما فصّل بین تلبّس الذات بضدّ المبدأ وعدم تلبّسها به ، ففی الأوّل یعتبر عدم الانقضاء بخلاف الثانی ، وکالتفصیل بین کون المشتق محکوماً علیه فلا یعتبر التلبّس بخلاف ما إذا کان محکوما به فیعتبر التلبّس ، والأخیر تفصیل باعتبار ما یعتری المشتق من الحالات ، بخلاف الأولین فإنّهما تفصیل فی المشتق بحسب المبادئ .

وقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا معنی للنزاع فی المشتق بناءً علی بساطة مفهومه ، وأنّ هیئته موضوعة للدلالة علی اتّحاد المبدأ مع الذات خارجا ، بخلاف نفس المبدأ ، فإنّه لوحظ فی مقابل الذات ولذا لا یحمل علیها .

وبتعبیرٍ آخر بعد انقضاء المبدأ عن الذات وارتفاع معنی المشتق لا معنی لانطباقه علی عدمه ، بل یکون المشتق أوضح خروجا عن النزاع ، من الجوامد التی ذکر خروجها عن محلّ الکلام کالأنواع ، ووجه الأولویّة أن_ّه مع ارتفاع الصورة النوعیة فی تلک الجوامد تبقی الهیولی والمادّة القابلة للصور ، بخلاف المشتقات بناءً علی بساطة مفاهیمها .

لا یقال : کیف یستعمل المشتق ولو مجازا فی موارد الانقضاء ، أو فی موارد التلبّس فیما بعد ؟

فإنّه یقال: بما أنّ الموضوع له اتّحاد المبدأ مع الذات والذات الموصوفة بمعنی

ص :219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المشتق باقیة، فیکون إطلاق المشتق (الموضوع لجهة الاتحاد) علی موصوفه بنحو من المجاز والعنایة، وهذا النحو من العنایة یمکن فی معنی المبدأ أیضاً، فإنّه مع عدم إمکان انطباقه علی عدمه یمکن إطلاقه علی الذات بنحو من العنایة کقولنا: (زید عدل).

نعم، لو قیل بدخول الذات فی معنی المشتق، فللنزاع فی أنّه موضوع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ مجال؛ إذ الرکن الوطید والثابت بناءً علی ترکّب معناه مفروض، ویمکن أن یکون تلبّسه بالمبدأ کالحیثیة التعلیلیة فی صدق المشتق بأن تکون فعلیة التلبّس فی الذات موجبة لصدق معنی المشتق علیها، ولو بعد انقضاء المبدأ عنها.

ثمّ إنّه قدس سره عدل عن هذا أیضاً وبنی علی عدم إمکان وضع المشتق للأعمّ ، حتّی بناءً علی ترکّب مفهومه ، وذکر فی وجه ذلک : أنّ الموضوع له لا یمکن أن یکون الذات بإطلاقها ، ضرورة أنّ من اللازم أخذ قید فیها ، وهذا القید لا یکون هو المبدأ ، فإنّه _ بما هو مبدأ _ أجنبی عن الذات ، بل لابدّ من لحاظ نسبة ما _ ولو کانت ناقصة _ بین المبدأ والذات ، وتکون تلک النسبة جهة اتّحاد المبدأ مع الذات ، ومن الظاهر أنّ جهة الاتّحاد لا تکون إلاّ فی مورد فعلیة التلبّس ، والذات المنقضی عنها المبدأ لا تتحد مع المبدأ إلاّ بلحاظ التلبّس وفعلیة المبدأ .

وإن شئت قلت : الذات _ بعد انقضاء المبدأ عنها _ خالیة عن المبدأ ، فکیف تتّحد معه والمبدأ فی مورد التلبّس موجود ومتحد مع الذات ، ولا یمکن وضع المشتق للجامع بینهما ، حیث لا جامع بین الوجود والعدم ، نعم یمکن تصوّر الجامع بینهما بإدخال الزمان فی معنی المشتق ، بأن یکون الموضوع له هی الذات المتحدة مع المبدأ فی غیر الزمان المستقبل ، وهذا یوجب دلالة الأسماء علی الزمان ، مع أنّ

ص :220

تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال [1]، وصحّة السلب مطلقاً عما انقضی الشَرح:

الزمان غیر داخل فی مدالیل الأفعال فضلاً عن الأسماء(1) .

أقول : لو أراد القائل ببساطة مفهوم المشتق ، ما ذکره قدس سره فالأمر کما ذکره ، من أن_ّه علیها لا یمکن وضعه للأعمّ ، وأمّا لو أُرید بها ما سیأتی بیانه فی البحث عن بساطة مفهومه أو ترکّبه ، فلا منافاة بین البساطة بذلک المعنی ووضعه للأعمّ .

وما ذکره ثانیا من أنّ وضع المشتق للأعمّ غیر ممکن حتّی بناءً علی ترکّب معناه لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّه بناءً علی الترکّب یمکن أخذ قید «للذات»، بحیث ینطبق معه علی المتلبّس والمنقضی ، من غیر أخذ مفهوم الزمان أو مصداقه أصلاً ، بأن توضع هیئة فاعل مثلاً للذات الخاصّة وهی ما انتسب إلیها المبدأ بانتساب تحققی بقی الانتساب أم لا ، وهذا المعنی کما ینطبق علی المتلبّس ینطبق علی المنقضی ، وإذا لم یمکن ذلک فیمکن وضعها لإحدی الذاتین من المتلبّس والمنقضی ، فیکون الموضوع له جامعا اعتباریّا وهو عنوان أحدهما، القابل للانطباق علی المتلبّس والمنقضی ، فإنّ وضع اللفظ للجامع الاعتباری ممکن ، بل واقع ، ویزیدک وضوحاً ملاحظة الواجب التخییری علی ما ذکرنا فی محلّه.

حجیّة القول بوضع المشتق للمتلبس بالحال

:

[1] ولعلّ مراده من الحال فی المقام حال التطبیق وحمل معنی المشتق علی الذات، بحیث لو قال مخبرٌ: (زید قائم) ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ إسناد (قائم) إلی (زید) وحمله علیه بلحاظ زمانٍ آخر ، ینصرف الکلام إلی أنّ حال الإسناد والحمل زمان النطق کما تقدّم سابقا ، ویتبادر أنّ تلبّس زید بالقیام فی حال حمل قائم وتطبیقه علیه.

ص :221


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 74؛ وفوائد الأُصول : 1 / 120 .

عنه [1]، کالمتلبس به فی الاستقبال، وذلک لوضوح أنّ مثل: القائم والضارب

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر لا یتبادر من المشتق معنی وسیع فحمله علی ذات لا یدلّ علی أنّ تلک الذات فی حال الحمل والتطبیق متلبس فی المبدء بأن یحتمل إنقضائه عنها فی الحال المذکور.

ویمکن أن یکون مراده بالحال فعلیة المبدأ کما ذکرنا سابقا ، ویقال إنّ المتبادر من المشتق ، ما یکون تلبّسه بالمبدأ فعلیّا فی مقابل ما یکون تلبّسه بالمبدأ منقضیا وما یکون تلبّسه بالمبدأ فیما بعد ، وکما أنّ إطلاقه علی ما یکون تلبّسه فیما بعد بنحو من العنایة ، کذلک إطلاقه علی ما انقضی عنه المبدأ یکون بالعنایة .

[1] المراد بالإطلاق _ کما یأتی بیانه _ إطلاق المسلوب ، والمراد من السلب نفی ما ارتکز فی الأذهان من معنی المشتق عن فاقد المبدأ ، وإن کان واجدا له ومتلبّسا به فیما انقضی ، ویشهد لصحّة هذا السلب أنّ الذات إذا انقضی عنها المبدأ یصدق وینطبق علیها المشتق المضاد للمشتق الذی انقضی عنها مبدئه ، کما فی صدق القاعد علی ذاتٍ انقضی عنها القیام ، مع أنّ القاعد والقائم بحسب ما ارتکز فی الأذهان من معناهما متضادان ، کما هو الحال فی مبدئهما .

وربما یقرّر تقابل التضادّ بین المشتقات التی مبادئها متضادّة دلیلاً مستقلاًّ علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال ، بأن یقال : لو لم یکن المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال لما کان بین معنی قاعد ومعنی قائم مثلاً تضاد ، بل یکونان من المتخالفین فی المعنی یصدقان علی الذات معا کما فی سائر المتخالفات فی المعنی ، فإنّه یصدق علی (زید) أن_ّه عالم وأن_ّه قاعد ، وکما لا یکون بین معنی عالم ومعنی قاعد إلاّ التخالف ، کذلک بین معنی قاعد ومعنی قائم ، بناءً علی عدم وضع المشتق لخصوص المتلبّس بالمبدأ فی

ص :222

والعالم، وما یرادفها من سائر اللغات، لا یصدق علی من لم یکن متلبساً بالمبادئ، وإن کان متلبساً بها قبل الجری والانتساب، ویصح سلبها عنه، کیف؟ وما یضادها

الشَرح:

الحال ، ضرورة أنّ التضاد علی هذا الفرض یکون بین مبدئهما فقط ، فارتکاز التقابل بینهما بنحو التضاد کما هو الحال فی مبدئهما ، یکون دلیلاً علی أنّ المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال .

ولا یرد علی هذا التقریر بأن الاستدلال علی التضاد بین مثل معنی قاعد ومعنی قائم مصادرة ؛ لتوقّف التضاد بینهما علی إحراز کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، ولو توقّف إحراز کونه حقیقة فی ذلک علی ثبوت التضاد لدار.

والوجه فی عدم الورود هو أنّ التضاد بین معنی قاعد وقائم ثبت بارتکاز أهل المحاورة، فلا یتوقّف علی إحراز کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال.

لا یقال مجرد ارتکاز التضاد بین معنی قاعد وقائم لایکون دلیلاً علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ؛ إذ من المحتمل أن یکون ارتکاز المضادّة لأجل الانسباق الحاصل من اللفظ المطلق ، حیث إنّ اللفظ إذا کان له معنی کلی و کان لذلک المعنی فردان بحیث استعمل اللفظ فی أحدهما کثیرا إلی أن لا یحتاج تعیینه فی الإرادة إلی ذکر قید له ، بخلاف الآخر حیث یکون تعیینه محتاجاً إلی ذکر القید له ، فمثل هذا الانسباق لا یدلّ علی کون اللفظ حقیقة فی خصوص فرد لا یحتاج تفهیمه إلی ذکر القید له .

أقول : لو تمّ هذا الإشکال لأبطل الاستدلال علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال بتقریر التضادّ بین المشتقات التی بین مبادیها تضادّ ، وکذا الاستدلال بتبادر المتلبّس بالمبدأ فی الحال ، فإنّ التبادر الاطلاقی

ص :223

بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان یصدق علیه، ضرورة صدق القاعد علیه فی حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقیام، مع وضوح التضاد بین القاعد والقائم بحسب ما ارتکز لهما من المعنی، کما لا یخفی.

الشَرح:

لا یثبت الوضع لخصوص الفرد المتبادر من الاطلاق وعدم ذکر القید له وإنّما یثبت الوضع بالتبادر الحاقّی (أی المستند إلی نفس اللفظ) ، ولکن لا یبطل الاستدلال بصحّة السلب ، فإنّ اللفظ لو کان موضوعا لمعنی عامّ ؛ لما أمکن سلب معناه عن فرده ، ولو کان ذلک الفرد من أفراده التی لا یستعمل فیها إلاّ نادرا ومع ذکر القید عند إرادته مثلاً لا یقال (ماء السیل لیس بماء) وإن کان المتبادر من الماء عند إطلاقه فی الاستعمالات المتعارفة غیره ، کما لا یخفی .

وبالجملة جعل المنقضی عنه موضوعا فی السالبة ، یدلّ علی عدم وضع المحمول لما یعمّه .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال: بأنّه لا مجال فی المقام لدعوی احتمال الانسباق من الإطلاق؛ وذلک لأن_ّه لو استعمل لفظ فی موردین وکان استعماله فی أحدهما نادرا وفی الآخر غالبا، فیمکن أن یدّعی أنّ تبادر المورد الثانی دون الأوّل، مستند إلی کثرة الاستعمال وإطلاقه، وأمّا إذا کان استعماله فی کلّ منهما کثیرا، أو کان استعماله فی الأوّل أکثر، کما فی المقام، حیث إنّ استعمال المشتق فی موارد الانقضاء أکثر، فلا یحتمل فیه استناد تبادر المعنی الثانی إلی الاطلاق وغیر حاق اللفظ، وعلیه فتبادر خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال لا منشأ له إلاّ کون المشتق موضوعا له دون غیره.

وهمٌ ودفعٌ:

أمّا الوهم، فلعلّک تقول: لا ینحصر الانسباق الإطلاقی بما ذکر؛ إذ ربّما یکون

ص :224

وقد یقرر هذا وجهاً علی حدة، ویقال: لا ریب فی مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، علی ما ارتکز لها من المعانی، فلو کان المشتق حقیقة فی الأعم، لما کان بینها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فیما انقضی عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.

ولا یرد علی هذا التقریر ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرین، من عدم التضاد علی القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتکازه بینها، کما فی مبادئها.

إن قلت: لعل ارتکازها لأجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط.

الشَرح:

اللفظ موضوعا للجامع ویستعمل فی کلا الموردین، من غیر أن یکون استعماله فی أحدهما نادرا ومع ذلک ینسبق أحدهما بخصوصه إلی الأذهان عند الاطلاق، ولیکن المقام من هذا القبیل مثلاً صیغة الأمر تستعمل فی مورد الوجوب النفسی وفی مورد الوجوب الغیری، ولا یکون استعمالها فی موارد الوجوب النفسی أکثر من موارد الوجوب الغیری، مع أن_ّه ینسبق إلی الأذهان عند إطلاقها الوجوب النفسی، فلا یکون الانسباق الاطلاقی مختصّا بموارد ندرة استعمال اللفظ فی أحد الموردین وشیوعه فی المورد الآخر.

أمّا الدفع ، فلأنّ تمایز الوجوب النفسی عن الوجوب الغیری بالإطلاق والتقیید ثبوتا ، فیکون فهم الوجوب الغیری فی مقام الإثبات أیضاً بالتقیید ، وأمّا الوجوب النفسی فیکفی فی تفهیمه إطلاق الطلب فی مقام الإثبات مع تمامیّة مقدّمات الإطلاق ولا یقاس ذلک بما إذا لم یکن امتیاز فرد من الجامع عن فرده الآخر إلاّ بالخصوصیّة الخارجیّة لکلّ منهما ، مع تباین تلک الخصوصیّتین ، کما فی امتیاز المتلبّس بالمبدأ فی الحال عن المنقضی عنه المبدأ ، فلا یکون انسباق المتلبّس من المشتقّ مع کثرة استعماله فی موارد الانقضاء من الانسباق الاطلاقی .

ص :225

قلت: لا یکاد یکون لذلک، لکثرة استعمال المشتق فی موارد الانقضاء، لو لم یکن بأکثر.

إن قلت: علی هذا یلزم أن یکون فی الغالب أو الأغلب مجازاً [1]، وهذا بعید، ربّما لا یلائمه حکمة الوضع.

لا یقال: کیف؟ وقد قیل: بأنّ أکثر المحاورات مجازات. فإنّ ذلک لو سلم، فإنّما هو لأجل تعدد المعانی المجازیة بالنسبة إلی المعنی الحقیقی الواحد. نعم ربما یتفق ذلک بالنسبة إلی معنی مجازی، لکثرة الحاجة إلی التعبیر عنه. لکن أین هذا مما إذا کان دائماً کذلک؟ فافهم.

الشَرح:

[1] هذا تعرّض لما یرد علی الإلتزام بأنّ المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال مع الإلتزام بأنّه یستعمل فی موارد الانقضاء کثیرا أو أنّ استعماله فیها أکثر من استعماله فی موارد التلبّس، فإنّه لابدّ من الإلتزام بأنّ غالب الاستعمالات أو أغلبها فی المشتقات بنحو المجاز ، وهذا أمر بعید لا تساعده حکمة الوضع .

لا یقال: لابأس بالإلتزام بأنّ أکثر استعمالات المشتقات تقع علی نحو المجاز ، وقد قیل بأنّ أکثر الاستعمالات فی المحاورات تقع مجازا.

فإنّه یقال : لو سلم بأنّ أکثر المحاورات مجازات ، فالمراد بذلک أنّ المعانی المجازیة بالنسبة إلی المعنی الحقیقی متعدّدة ، لا أنّ أغلب الاستعمالات اللفظیة مجازات ، نعم ربّما یتفق فی لفظ واحد أن یستعمل فی معناه المجازی کثیرا لکثرة الحاجة إلی تفهیمه ولکن من المستبعد وقوع ذلک فی تمام الألفاظ ، کما هو الحال فی المشتقات حیث إنّ استعمال کلّ منها فی موارد الانقضاء کثیر أو أکثر .

ص :226

قلت: مضافاً إلی أن مجرد الاستبعاد غیر ضائر [1] بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة علیه، إنّ ذلک إنّما یلزم لو لم یکن استعماله فیما انقضی بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمکان من الإمکان، فیراد من جاء الضارب أو الشارب _ وقد انقضی عنه الضرب والشرب _ جاء الذی کان ضارباً وشارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدأ، لا حینه بعد الانقضاء، کی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجیئه، ضرورة أن_ّه لو کان للأعم لصح استعماله بلحاظ کلا الحالین.

الشَرح:

[1] أجاب قدس سره عن الاعتراض بلزوم کثرة الاستعمالات المجازیه بوجهین ؛

أحدهما : أن_ّه لا بأس بالالتزام بها بعد مساعدة ما تقدّم من الأدلة علی أنّ المشتق موضوع للمتلبّس فی الحال.

وثانیهما : أنّه یمکن أن تکون تلک الاستعمالات بنحو لا یلزم منها التجوّز بأن یطبّق معنی المشتق علی المنقضی عنه لا بلحاظ انقضاء المبدأ ، بل بلحاظ حال تلبّسه به ، فیراد من (جاء الضارب) جاء الذی کان ضاربا قبل مجیئه ، لا الضارب حال المجیء وبعد انقضائه ، کی یکون الاستعمال مجازا .

وربّما یتوهّم أن_ّه لو کان الاستعمال فی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس ، لا یمکن إثبات أنّ انسباق خصوص المتلبّس بالمبدأ فی الحال ناشٍ من حاقّ اللفظ ؛ لاحتمال کون تبادره ناشئا من استعماله المتلبّس فی الحال غالبا أو دائما .

وقد دفع قدس سره هذا التوهّم بأنّه لو کان وضع المشتق للأعمّ لما کان وجه لجعل استعماله فی خصوص المتلبّس وتطبیقه علی موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبّس ، فإنّ ذلک یکون من قبیل الأکل من القفا ؛ إذ مع إمکان استعماله فی معناه الأعمّ وتطبیقه علی الذات المنقضی عنها المبدأ بلا محذور ، لا موجب لاستعماله فی

ص :227

وبالجملة: کثرة الاستعمال فی حال الانقضاء یمنع عن دعوی انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق، إذ مع عموم المعنی وقابلیة کونه حقیقة فی المورد _ ولو بالانطباق _ لا وجه لملاحظة حالة أخری، کما لا یخفی، بخلاف ما إذا لم یکن له العموم، فإن استعماله _ حینئذ _ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وإن کان ممکناً، إلاّ أن_ّه لما کان بلحاظ حال التلبس علی نحو الحقیقة بمکان من الإمکان، فلا وجه لاستعماله وجریه علی الذات مجازاً وبالعنایة وملاحظة العلاقة، وهذا غیر استعمال اللفظ فیما لا یصح استعماله فیه حقیقة، کما لا یخفی، فافهم.

ثمّ إنّه ربّما أورد علی الاستدلال بصحة السلب [1]، بما حاصله: إنّه إن أرید الشَرح:

المعنی الأخصّ وتطبیقه علی الذات المزبورة بلحاظ حال تلبّسها .

وبالجملة بناءً علی کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، یمکن استعماله فی موارد الانقضاء بنحو الحقیقة أیضاً ، کمااذا أُرید من الذات المزبورة حال تلبّسها ، فیکون تطبیق معنی المشتق علیها بلحاظ ذلک الحال حقیقة ، ویمکن أن یکون استعماله فی تلک الموارد بنحو المجاز ، بأن یطبق معنی المشتق علی الذات المزبورة بلحاظ حال انقضاء المبدأ عنه مجازا ، فمع إمکان الحقیقة ، لا موجب للعدول إلی الاستعمال المجازی ، بخلاف الموارد التی لا یمکن استعمال اللفظ فیها حقیقة ، فإنّه یتعیّن فیها الالتزام بالمجاز.

[1] ذکروا أنّ علامة المجاز صحّة السلب المطلق وأمّا صحّة السلب المقیّد فلا تکون علامة المجاز ، مثلاً سلب الحیوان المقید بکونه ناطقاً عن البقر صحیح ولا یدلّ علی أنّ استعمال الحیوان وتطبیقه علی البقر مجاز ، وعلی ذلک فقد أورد علی صحّة السلب فی المقام بأنّه إن أُرید من صحته سلب المشتق عن المنقضی مطلقاً ، فالصحّة غیر محرزة ، وإن أُرید سلبه مقیّدا فلا تدلّ صحته علی المجازیة .

ص :228

بصحة السلب صحته مطلقاً، فغیر سدید، وإن أرید مقیداً، فغیر مفید، لأن علامة المجاز هی صحة السلب المطلق.

وفیه: إنّه إن أرید بالتقیید، تقیید المسلوب الذی یکون سلبه أعم من سلب المطلق _ کما هو واضح _ فصحة سلبه وإن لم تکن علامة علی کون المطلق مجازاً فیه، إلاّ أن تقییده ممنوع، وإن أرید تقیید السلب، فغیر ضائر بکونها علامة، ضرورة صدق المطلق علی أفراده علی کل حال، مع إمکان منع تقییده أیضاً، بأن یلحظ حال الانقضاء فی طرف الذات الجاری علیها المشتق، فیصح سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال، کما لا یصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدّاً.

الشَرح:

وقد أجاب الماتن قدس سره بأنّه إن أُرید من التقیید ، التقیید فی ناحیة المسلوب (أی المشتق) بأن یقیّد المشتق بفعلیة المبدأ ویقال إنّ المنقضی عنه الضرب مثلاً لیس هو ضارب بالضرب الفعلی ، فهذا التقیید فی ناحیة المشتق غیر مراد فی الاستدلال ، بل المسلوب هو المشتق بمعناه المرتکز عند الأذهان عند إطلاقه .

وبتعبیرٍ آخر : نسلّم بأنّ صحّة السلب بالمسلوب المقیّد أعمّ من صحة سلب المسلوب مطلقا ، فإنّه قد یصحّ سلب الشیء المقیّد عن شیء ، ولا یصحّ سلب ذلک الشیء مطلقا عنه ، کما فی مثال سلب الحیوان المقیّد عن البقر ، فلا یصحّ سلب مطلق الحیوان عنه ، وإن کان المراد من التقیید ، تقیید نفس السلب بأن یقال : إنّ زیدا لیس فی حال عدم تلبّسه بالضرب بضارب ، فصحّة هذا السلب دلیل علی أنّ المشتق حقیقة فی المتلبّس فی الحال فقط ، فإنّه لا یصح سلب الطبیعی عن فرده فی حال ، ولکنّ هذا التقیید أیضاً غیر مفروض فی الاستدلال بل المفروض هو التقیید فی ناحیة الذات المسلوب عنها المبدأ حال انقضائه فیقال إنّ زیدا حال انقضاء الضرب عنه لیس بضارب ، فإنّه لو کان معنی المشتق أعمّ لما أمکن سلبه عنه .

ص :229

ثم لا یخفی أنّه لا یتفاوت فی صحة السلب عما انقضی عنه المبدأ، بین کون المشتق لازماً وکونه متعدیاً، لصحة سلب الضارب عمن یکون فعلاً غیر متلبس بالضرب، وکان متلبساً به سابقاً، وأم_ّا إطلاقه علیه فی الحال، فإن کان بلحاظ حال التلبس، فلا إشکال کما عرفت، وإن کان بلحاظ الحال، فهو وإن کان صحیحاً إلاّ أنّه لا دلالة علی کونه بنحو الحقیقة، لکون الإستعمال أعم منها کما لا یخفی، کما لا یتفاوت فی صحة السلب عنه، بین تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس _ أیضاً _ وإن کان معه أوضح، وممّا ذکرنا ظهر حال کثیر من التفاصیل، فلا نطیل بذکرها علی التفصیل.

حجة القول بعدم الإشتراط وجوه:

الأول: التبادر، وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التلبس.

الثّانی: عدم صحة السلب فی مضروب ومقتول، عمن انقضی عنه المبدأ [1].

الشَرح:

[1] قد یستدلّ علی کون المشتق حقیقة فی المعنی الأعمّ بحیث ینطبق علی الذات المتلبّسة بالمبدأ فی الحال وعلی المنقضی عنها بعدم صحّة سلب معنی المضروب والمقتول ، عمن ضُرِبَ أو قُتِل مع فرض انتفاء الضرب والقتل ، ونحوهما غیرهما من المحدود والمخلوق والمختار إلی غیر ذلک .

وقد أجاب الماتن قدس سره عن جمیع ذلک بما تقدّم فی بعض الأُمور من أنّ الکلام فی المقام فی معانی هیئهات المشتقات لا فی مبادئها، وأنّه قد یراد من المبادئ فی بعض المشتقات معنیً مجازی تبقی الذات متصفة به ولو بعد انقضاء المعنی الحقیقی، فتصدق تلک المشتقات علی الذوات بعد انقضاء المبدأ عنها بمعناها ما یبقی الذات علیها ولو کان الباقی المزبور من المعنی المجاز للمبدأ الحقیقی، ولکنّ هذا لا یدلّ علی أنّ هیئة المشتق موضوعة للأعمّ من المتلبّس فی الحال.

ص :230

وفیه: إن عدم صحته فی مثلهما، إنّما هو لأجل أنّه أرید من المبدأ معنی یکون التلبس به باقیاً فی الحال، ولو مجازاً.

وقد انقدح من بعض المقدمات أن_ّه لا یتفاوت الحال فیما هو المهم فی محل البحث والکلام ومورد النقض والإبرام، اختلاف ما یراد من المبدأ فی کونه حقیقة أو مجازاً، وأما لو أرید منه نفس ما وقع علی الذات، مما صدر عن الفاعل، فإنّما لا یصح السلب فیما لو کان بلحاظ حال التلبس والوقوع _ کما عرفت _ لا بلحاظ الحال أیضاً، لوضوح صحة أن یقال: إنّه لیس بمضروب الآن بل کان.

الشَرح:

وقد یناق_ش فی هذا الجواب بأنّه لا یتصوّر لمثل مبدأ الضرب معنی یقبل البقاء بعد انقضاء معناه الحقیقی، مع صحّة دعوی الجزم بأنّ ما أُرید من المبدأ فی ضمن هیئة الضارب والقاتل، هو المراد من المبدأ فی ضمن هیئة المضروب والمقتول.

وفیه أنّه قد یراد فی مثل هذه الاستعمالات المتلبّس بالمعنی الحقیقی ، وینطبق علی الذات المنقضی عنها المبدأ بلحاظ حال تلبسّها به ، فیراد من قوله (هذا هو المضروب) المضروب عند فعلیة الضرب ، وقد یراد المبدأ بنحو العلامیّة للذات ، فیراد من المضروب الذات المتلبّسة بعلامیّة الضرب أو القتل واستعمال المبدأ فی العلامیّة للذات مجاز ، کما فی قوله : (هذا المال مسروق ، وقد سُرق من فلان قبل سنوات) ، فلاحظ وتدبّر .

ص :231

الثالث: استدلال الإمام علیه السلام تأسیاً بالنبی _ صلوات اللّه علیه _ [1] کما عن غیر واحد من الأخبار بقوله (لا ینال عهدی الظالمین) علی عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة، تعریضاً بمن تصدی لها ممن عبد الصنم مدة مدیدة، ومن الواضح توقف ذلک علی کون المشتق موضوعاً للأعم، وإلا لما صح التعریض، لإنقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حین التصدی للخلافة، والجواب منع التوقف علی ذلک، بل یتم الإستدلال ولو کان موضوعاً لخصوص المتلبس.

الشَرح:

[1] استدلّ علی کون المشتق حقیقة فی المعنی الأعمّ باستدلال الامام علیه السلام فی عدة أخبار(1) بقوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(2) علی عدم لیاقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ، تعریضا بمن تربّع علی کرسیّ الزعامة وادّعی لنفسه خلافة النبی صلی الله علیه و آله ، وکان ممّن عبدالصنم مدّة مدیدة ، فإن التعریض المزبور إنّما یتمّ بناءً علی کون المشتق حقیقة فی الأعمّ لینطبق علی من تربّع علی کرسیها ، عنوان الظالم عند تربّعه ، وإلاّ لما صحّ الاستدلال لإنقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم عند تصدّیهم للخلافة .

وما فی عبارة الماتن قدس سره : «تأسّیا بالنبی صلوات اللّه علیه وآله» إشارة إلی ما رواه الخاصة(3) والعامة(4) بأنّ النبی صلی الله علیه و آله قال : «أنا دعوة أبی إبراهیم علیه السلام » ، حیث لم یعبد هو وعلیّ صنما ووثنا .

ص :232


1- (1) تفسیر نور الثقلین : 1 / 121 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 124 .
3- (3) البحار: ج 25، 200 / 12؛ وتفسیر نور الثقلین: 1 / 130.
4- (4) المناقب لابن المغازلی : ص276 و322 ؛ کنز الدقائق : 2 / 139 ؛ تفسیر اللوامع : 1 / 629 ، ط لاهور .

وتوضیح ذلک یتوقف علی تمهید مقدمة، وهی: إن الأوصاف العنوانیة التی تؤخذ فی موضوعات الأحکام، تکون علی أقسام:

أحدها: أن یکون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلی ما هو فی الحقیقة موضوعاً للحکم، لمعهودیته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به فی الحکم أصلاً.

ثانیها: أن یکون لأجل الإشارة إلی علیّة المبدأ للحکم، مع کفایة مجرد صحة جری المشتق علیه، ولو فیما مضی.

الشَرح:

وقال صلی الله علیه و آله : «فانتهت الدعوة إلیّ وإلی أخی علی علیه السلام ، لم یسجد أحد منّا لصنمٍ قطّ ، فاتخذنی اللّه نبیّا وعلیّا وصیّا» . وفیه تعریض لغیر علیّ علیه السلام وأنّهم لعبادتهم الصنم والوثن لا ینالون الوصیة والخلافة .

وکیف کان ، فقد أجاب قدس سره عن الاستدلال المزبور بأنّ أخذ عنوان المشتق فی الموضوع علی أنحاء :

الأوّل: أن یکون المشتق لمجرّد الإشارة والمعرفیّة للموضوع ، کقول الصادق علیه السلام : «فإذا أردت حدیثنا فعلیک بهذا الجالس»(1) مشیرا إلی زرارة ، فإنّه لا دخل لجلوسه فی جواز الرجوع وتعلّم الحکم وأخذه منه .

الثانی: أن یکون لعلّیة المبدأ لثبوت الحکم وبقائه ، بأن یکون انطباق عنوان المشتق علی ذاتٍ عند تلبسها بالمبدأ ، علّة لثبوت الحکم وبقائه ، کما فی قوله علیه السلام «لا یصلّین أحدکم خلف المجذوم و... المحدود»(2) ، وقوله سبحانه : «وَحَلائِلُ أَبْنائَکُمْ»(3) .

ص :233


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 19 .
2- (2) الوسائل : ج 5 ، باب 15 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 6 .
3- (3) سورة النساء : الآیة 23 .

ثالثها: أن یکون لذلک مع عدم الکفایة، بل کان الحکم دائراً مدار صحة الجری علیه، واتصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنّما یتم، لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة علی النحو الأخیر، ضرورة أن_ّه لو لم یکن المشتق للأعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حین التصدی، فلا بد أن یکون للأعم، لیکون حین التصدی حقیقة من الظالمین، ولو انقضی عنهم التلبس بالظلم.

الشَرح:

والثالث: أن یکون الحکم دائرا مدار انطباق المشتق علی الذات وجریه علیها حدوثا وبقاءا ، کما فی قوله علیه السلام : «لا أقبل شهادة فاسق»(1) ، وقوله علیه السلام : «اشهد شاهدین عدلین»(2) .

والاستدلال المزبور مبنیّ علی کون عنوان الظالم فی قوله سبحانه «لا یَنَالُ عَهْدِی الظّالِمِیْنَ»(3) من قبیل الثالث ، وأمّا إذا کان من قبیل الثانی ، کما یقتضیه عظم منصب الإمامة والخلافة ، فیتمّ تعریض الإمام علیه السلام مع کون المشتق حقیقة فی خصوص المتلبّس فی الحال ، حیث یکون مفاد الآیة أنّ المتقمّص بالخلافة یلزم أن لا یکون متلبّسا بالظلم ولو علی نحو الانقضاء ، بل ولو علی النحو الترقّب والاستقبال أیضاً ، ولا یتوهّم أنّ الحمل علی الوجه الثانی یوجب استعمال المشتق فی معناه الأعمّ لینطبق علی المنقضی عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء أیضاً ، فإنّه کما یستعمل المشتق فی النحو الثالث فی المتلبس بالحال ، کذلک فی النحو الثانی ، وإنّما الاختلاف بینهما فی بقاء الحکم بعد زوال عنوان المشتق ، حیث إنّ موضوع

ص :234


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 30 من أبواب الشهادات ، الحدیث 4 .
2- (2) الفروع من الکافی : ص 6 ، باب المراجعة لا تکون إلاّ بالمواقعة ، الحدیث 3 .
3- (3) سورة البقرة : الآیة 124 .

وأمّا إذا کان علی النحو الثانی، فلا، کما لا یخفی، ولا قرینة علی أن_ّه علی النحو الأول، لو لم نقل بنهوضها علی النحو الثانی، فإنّ الآیة الشریفة فی مقام بیان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها، ورفعة محلها، وإنّ لها خصوصیة من بین المناصب الإلهیة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلک، هو أن لا یکون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

الحکم فی النحو الثانی ما انطبق علیه عنوان المشتق ولو فیما مضی ، فإنّ انطباقه علیه یکون علّة لثبوت الحکم وبقائه ، بخلاف النحو الثالث ، فإنّ بقاء الحکم فیما انطبق علیه عنوان المشتق ، دائرٌ مدار بقاء الانطباق ببقاء المبدأ فیه .

وعلی النحو الثانی یکون معنی الآیة من کان ظالما ولو آناً ما لاینال عهدی أبدا ، وإرادة هذا المعنی من الآیة لا یستلزم الاستعمال بلحاظ الانقضاء ، بل یصحّ مع إرادة خصوص المتلبّس بالمبدأ من عنوان المشتق ، کما لا یخفی .

والمتحصّل أنّه إذا أخذ عنوان المشتق فی خطاب موضوعا لحکم ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ ذکره علی النحو الأوّل أو علی النحو الثانی ، فظاهر الخطاب أنّ حدوث عنوان المشتق، موضوع لحدوث الحکم وبقائه موضوع لبقاء الحکم، فیکون الحکم فیما انطبق علیه عنوان المشتق دائرا مدار الانطباق ، وأمّا إذا قامت قرینة عرفیة علی أن_ّه علی أحد النحوین ، یؤخذ بمقتضی القرینة ، والقرینة فی مورد الآیة المبارکة هی عظم منصب الإمامة والخلافة من اللّه (تعالی جلّ شأنه) ، فإنّ کلّ شخص لا ینال هذا المنصب، فیکون انطباق عنوان الظالم علی شخص __ ولو فی زمانٍ ما __ موجبا لعدم نیله هذا المنصب ، وهذا لا یکون استحسانا کما توهّمه بعض ، بل قرینة عرفیة ، حیث لم یرضَ الشّارع بإمامة ولد الزّنا والمحدود فی الصلاة ولو مع عدالتهما ، فکیف یعطی اللّه (سبحانه) منصب الإمامة والخلافة لمن تلبّس بالشرک

ص :235

إن قلت: نعم، ولکن الظّاهر أنّ الإمام علیه السلام إنّما استدلّ بما هو قضیة ظاهر العنوان وضعاً، لا بقرینة المقام مجازاً، فلا بد أن یکون للأعم، وإلاّ لما تم.

قلت: لو سلم، لم یکن یستلزم جری المشتق علی النحو الثانی کونه مجازاً، بل یکون حقیقة لو کان بلحاظ حال التلبس _ کما عرفت _ فیکون معنی الآیة، واللّه العالم: من کان ظالماً ولو آناً فی زمان سابق لا ینال عهدی أبداً، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنی لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس.

ومنه قد انقدح ما فی الاستدلال علی التفصیل بین المحکوم علیه والمحکوم به، باختیار عدم الاشتراط فی الأول، بآیة حد السارق والسارقة، والزانی والزانیة، وذلک حیث ظهر أنه لا ینافی إرادة خصوص حال التلبس دلالتها علی ثبوت القطع والجلد مطلقاً، ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافاً إلی وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محکوماً علیه أو به، کما لا یخفی.

الشَرح:

أو بغیره من الفواحش مدّة من حیاته ؟

وقد یؤیّد کون عنوان الظالم فی الآیة المبارکة مأخوذا علی النحو الثانی نفس التعبیر عن الحکم بصیغة المضارع ، الظاهر فی البقاء والاستمرار ، مع عدم تقییده بزمان ، وبفحوی ما ورد فی عدم جواز الاقتداء فی الصلاة بالمحدود وولد الزنا .

ص :236

ومن مطاوی ما ذکرنا _ ها هنا وفی المقدمات _ ظهر حال سائر الأقوال، وما ذکر لها من الاستدلال، ولا یسع المجال لتفصیلها، ومن أراد الاطلاع علیها فعلیه بالمطولات.

بقی أمور:

الأوّل: إنّ مفهوم المشتق [1]

الشَرح:

بساطة معنی المشتق

:

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ معنی المشتق کما أنّ مادّته موضوعة لمعنی ، کذلک هیئته موضوعة لمعنی ، وإذا کان کذلک فاللازم فرض معنی للهیئة غیر معنی المادة الساریة فی جمیع المشتقات ، ولا یمکن أن یکون معنی الهیئة مجرد أنحاء التلبّسات ، بأن تکون کلّ هیئة من هیئات المشتقات موضوعة لنحو من أنحائها ، کما هو الحال فی هیئة الفعل الماضی المعلوم أو المجهول ، وکذا فی هیئة الفعل المضارع، وإلاّ لم یصحّ جعله محکوما علیه فی مثل قوله سبحانه «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»(1) ممّا لا یکون علی موصوف ، بل لا جعله محمولاً علی الذات فی مثل قوله زید ضارب ، فإنّ ملاک الحمل فی مثله الاتحاد الخارجی ، ومن الظاهر أنّ واقع التلبّس بالضرب صدورا غیر (زید) خارجا ، لا أنّه هو هو .

وبتعبیرٍ آخر : تحقّق المبدأ فیما کان عرضا وإن کان بعین وجود موضوعه ، إلاّ أنّ وجود موضوعه غیر وجوده ، فلا وجه لما هو المعروف من أنّ الفرق بین المبدأ والمشتق هو الفرق بین بشرط لا ولا بشرط ، بمعنی أنّ المبدأ فیما إذا لوحظ فی مقابل الذات یکون مدلولاً للمصدر ، وإذا لوحظ بما أن_ّه متحد مع الذات وأن_ّه شأن

ص :237


1- (1) سورة المائدة : الآیة 38 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

من شؤونها ، یکون مدلولاً للمشتق ، فإنّ مقتضی التفرقة بین المعنیین کذلک مع قطع النظر عن الاعتبارین هو اتحادهما فی اصل المعنی مع أنّه لیس الأمر کذلک ، فإنّ المبدأ _ بأیّ نحوٍ لوحظ _ لا یتّحد مع الذات خارجا ، فلو کان المراد ببساطة معنی المشتق هذا المعنی ، لما أمکن للقائل بها أن یلتزم بوضع المشتق للمتلبس فی الحال أو للأعمّ کما ذکرنا سابقا(1) . مع أن_ّه لا مجال لدعوی الاتحاد المزبور فی ما هو غیر عرض بالإضافة إلی معروضه ، کما إذا کان المبدأ من المعقولات الثانویة الفلسفیة کالإمکان والامتناع ، أو کان عرضا ولکن لوحظ بالإضافة إلی غیر معروضه من سائر الملابسات ، کالزمان والمکان وغیرهما ، فلا محیص عن الالتزام بدخول الذات فی معنی المشتق لیکون دخولها مصحّحا لحمل معناه علی الذوات ، ولکن الذات المأخوذة فی معناه فی غایة الإبهام ، حیث لم یلاحظ فیها أیّ خصوصیة إلاّ خصوصیة التلبّس بالمبدأ .

ولیس المراد أیضاً أنّ معنی المشتق عند الإطلاق مرکّب من مفهوم الذات وتلبّسها بالمبدأ وأنّ المشتق من المرکّبات الناقصة لیدفع بأنّ ما یتبادر من المشتق لیس إلاّ معنیً واحدا وصورةً واحدة .

بل المراد أنّ المفهوم من المشتق صورة واحدة ، وتلک الصورة تنطبق علی الذات لا علی المبدأ ، وتلک الذات مبهمة من جمیع الجهات غیر جهة التلبّس بالمبدأ، وحینئذٍ فیقع الکلام فی أنّ الجهة المعیّنة فعلیة التلبّس بالمبدأ ، أو مجرد تحقّقه، وهذا یوجب انحلال تلک الصورة الواحدة إلی ما الموصولة وتعیّنها بفعلیة

ص :238


1- (1) ص 191 من هذا الکتاب .

_ علی ما حققه المحقق الشریف فی بعض حواشیه [1] _: بسیط منتزع عن الذات _ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به _ غیر مرکب. وقد أفاد فی وجه ذلک: أن مفهوم الشیء لا یعتبر فی مفهوم الناطق مثلاً، وإلاّ لکان العرض العام داخلاً فی الفصل، ولو اعتبر فیه ما صدق علیه الشیء، انقلبت مادة الإمکان الخاص ضرورة،

الشَرح:

التلبّس فی الحال أو مطلقاً.

ودعوی أنّ الذات المبهمة المزبورة لا یمکن أن تکون مدلولاً للهیئة الطارئة علی المبدأ، باعتبار أنّ مدلول هیئة المشتق معنی حرفیّ، فلا یتضمّن معنیً إسمیا(1)، مدفوعة بأنّه لا دلیل علی کون معنی الهیئة فی المشتق الذی یطلق علیه الإسم فی الاصطلاح غیر متضمّن لمعنی الذات، وإنّما یطلق علی الهیئة أنّ معناها حرفیّ، باعتبار أنّ الحرف کما لا معنی له عند تجرّده عن المدخول، کذلک الهیئة من المشتقات التی یطلق علیها الإسم. ولعلّ ما ذکره الماتن قدس سره من تفسیر بساطة معنی المشتق بأنّه منتزع عن الذات باعتبار تلبّسها بالمبدأ، هو ما ذکرناه، وحمل قدس سره کلام المحقّق الشریف علیه، فیکون الترکّب المنفی، هو أن یتبادر من المشتق عند إطلاقه الصورة المرکّبة.

ولکنّ ظاهر کلام المحقّق الشریف یأبی هذا الحمل کما سیأتی ، فإنّ مقتضی استدلاله عدم إمکان دخول الذات فی معنی المشتق حتّی بالنحو الذی ذکرنا .

[1] ذکروا فی تعریف الفکر بأن_ّه ترتیب أُمور معلومة لتحصیل أمر مجهول ، وأورد علیه بالتعریف بالمفرد کالتعریف بالفصل وحده أو العرض الخاصّ ، فإنّه لیس فی التعریف بهما ترتیب أُمور .

وأجاب عن ذلک فی شرح المطالع : بأنّ المعرّف _ بالکسر _ إذا کان من قبیل

ص :239


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 78 .

فإنّ الشیء الذی له الضحک هو الإنسان، وثبوت الشیء لنفسه ضروری. هذا ملخص ما أفاده الشّریف، علی ما لخصه بعض الأعاظم.

وقد أورد علیه فی الفصول، بأنّه یمکن أن یختار الشق الأول، ویدفع الإشکال بأن کون الناطق _ مثلاً _ فصلاً، مبنی علی عرف المنطقیین، حیث اعتبروه مجرداً عن مفهوم الذات، وذلک لا یوجب وضعه لغة کذلک.

الشَرح:

المشتق ، کالناطق والضاحک ، یکون التعریف بأُمور ، فإنّ الناطق شیء له النطق والضاحک شیء له الضحک(1) .

وناقش فی ذلک السید الشریف بأنّه لا یکون مفهوم المشتق مرکبا ، فإنّه علی تقدیر کون معنی الناطق شیء له النطق لزم دخول العرض العامّ فی الفصل وهو ممتنع، فإنّ العرض لایکون مقوّما للذات هذا فیما لو أُرید بالشیء مفهومه وإن أُرید به مصداقه، لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة، فإنّ الجهة فی قولنا (الإنسان کاتب) هی الإمکان، وعلی تقدیر دخول مصداق الشیء فی معنی الکاتب یکون

مفاد القضیة (الإنسان، إنسان له الکتابة) وهذه قضیة ضروریّة؛ لأنّ ثبوت الشیء لنفسه یکون ضروریّا(2).

أقول : لازم ما ذکره المحقّق الشریف عدم دخول الذات فی معنی المشتق ، حتّی بنحو الانحلال ، حیث إنّه لو انحل إلی الذات والشیء یلزم أحد المحذورین ، إمّا دخول العرض العامّ فی الفصل ، أو انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة ، فلیس السید الشریف فی تحقیقه ناظرا إلی أنّ مفهوم المشتق فی بدو الانتقال إلیه ، بسیط

ص :240


1- (1) شرح المطالع : ص11 ط کتبی ، و ص8 ط مکتبة مسجد أعظم .
2- (2) حاشیته علی شرح المطالع : ص11 .

وفیه: إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف فی معناه أصلاً، بل بماله من المعنی، کما لا یخفی.

والتحقیق أن یقال: إن مثل الناطق لیس بفصل حقیقی، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه، وإنّما یکون فصلاً مشهوریاً منطقیاً یوضع مکانه إذا لم یعلم

الشَرح:

لا یدخل فیه الشیء والذات ، کما اختاره الماتن قدس سره فیما یأتی ، لیوافق ما التزم به السید الشریف ، من بساطة معنی المشتق ، وقد فسر قدس سره «البشرط لا واللابشرط» المذکورین فی الفرق بین المبدأ والمشتق بشرط لا ولا بشرط الذاتیّین .

وقد اُجیب عن مناقشة السید الشریف بوجوه :

منها ما ذکره الماتن قدس سره عن صاحب الفصول قدس سره ، وهو عدم لزوم شیء من المحذورین من دخول الذات فی معنی المشتق ، فإنّ معنی الشیء الذی یعدّ من العرض العامّ ، داخل فی معنی الناطق لغة ، وما جعل فصلاً للإنسان هو معناه الاصطلاحی ، ولزوم المحذور من دخول العرض العامّ فی معناه الاصطلاحی لا یوجب محذورا من دخوله فی معناه اللغوی الذی هو المبحوث عنه فی المقام ، وأنّه لو قیل بدخول مصداق الشیء فی معنی المشتق لا یلزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة ، فإنّ ثبوت الإنسان للإنسان وإن کان ضروریا إلاّ أنّ الإنسان مقیّدا بأنّ له الکتابة ، لا یکون ثبوته له ضروریا ؛ لجواز أن لا یکون القید ضروریا(1) .

وقد أورد المصنف رحمه الله علی الشقّ الأوّل من الجواب المزبور ، بأنّه غیر صحیح ، سواء قیل بدخول معنی الشیء فی معنی المشتق ، أو قیل بدخول مصداقه فیه ، فانّ المقطوع به هو أنّ الناطق فی عرف المنطقیین قد اعتبر فصلاً للإنسان بما له من

ص :241


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

نفسه، بل لا یکاد یعلم، کما حقق فی محله، ولذا ربما یجعل لازمان مکانه إذا کانا متساوی النسبة إلیه، کالحساس والمتحرک بالإرادة فی الحیوان، وعلیه فلا بأس بأخذ مفهوم الشیء فی مثل الناطق، فإنّه وإن کان عرضاً عاماً، لا فصلاً مقوّماً للانسان، إلاّ أنّه بعد تقییده بالنطق واتصافه به کان من أظهر خواصه.

الشَرح:

المعنی اللغوی وبلا تصرف فی معناه أصلاً .

کما أورد علی استدلال المحقّق الشریف لعدم دخول معنی الذات فی معنی المشتق ، بلزوم دخول العرض العامّ فی الفصل ، بأنّ مثل الناطق لیس بفصل حقیقی ، بل لازم الفصل وأظهر خواصّه ، فیکون فصلاً مشهوریّا منطقیا یوضع مکان الفصل الحقیقی إذا لم یعرف الحقیقی ، ولذا یجعل مکانه لازمان ، إذا کانا متساویی النسبة ، کما یذکر الحساس والمتحرک بالإرادة ، فصلاً للحیوان ، فلا یلزم من دخول معنی الشیء فی معنی الناطق إلاّ دخول العرض العامّ ، وأخذه فی خاصة الشیء التی هی من العرضیات لا فی فصله المعدود من الذاتیات فی باب الکلّیات.

وأمّا مسألة انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة فهو ممّا لا محیص عنه، کما ذکر المحقّق الشریف، وذلک لأن قید «له الکتابة» لا یمکن أخذه فی المحمول إلاّ بأحد نحوین:

الأوّل: أن یکون لمجرد الإشارة إلی المحمول بلا دخل فیه أصلاً بأن یکون المحمول علی الإنسان فی قولنا (الإنسان کاتب) هو الإنسان فقط ، وقید (له الکتابة) إشارة إلی الإنسان ، وعلیه فالانقلاب ظاهر ؛ لأنّ ثبوت الإنسان للإنسان ضروری .

والثانی: أن یکون القید داخلاً فی المحمول ، بأن یکون المحمول فی قوله (الإنسان کاتب) کل من الأمرین (الإنسان) وقید (له الکتابة) فتنحلّ القضیة الواحدة وهی (الإنسان کاتب) إلی قضیتین إحداهما (الإنسان إنسان) والأُخری (الإنسان له

ص :242

وبالجملة لا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی معنی المشتق، إلاّ دخول العرض فی الخاصة التی هی من العرضی، لا فی الفصل الحقیقی الذی هو من الذاتی، فتدبر جیداً.

ثم قال: إنّه یمکن أن یختار الوجه الثانی أیضاً، ویجاب بأنّ المحمول لیس مصداق الشیء والذات مطلقاً، بل مقیداً بالوصف، ولیس ثبوته للموضوع حینئذ

الشَرح:

الکتابة) فالأُولی ضروریة والثانیة ممکنة .

وأمّا عدم جعل القید محمولاً مستقلاًّ ولا وصفا توضیحیّا لنفس المحمول ، بل جعله تقییدا لمصداق الذات ، بأن یضیّق دائرة معنی الإنسان فی المثال علی حدّ سائر التقییدات ، فغیر ممکن ، لأنّ معنی الإنسان وإن کان وسیعا قابلاً للتقیید والتضییق کما یقال : الإنسان الأبیض ، أو الکبیر ، أو غیر ذلک ، إلاّ أنّ المفهوم الوسیع یقبل التضییق بالإضافة إلی معنی آخر ، لا بالإضافة إلی نفسه ، مثلاً یصح أن یقال (البقر حیوان خاصّ) ولا یمکن أن یقال (الحیوان حیوان خاصّ) .

وبالجملة إذا کان الموضوع فی القضیة نفس المحمول ، أو مرادفا له ، فلا یمکن تضییق دائرة المحمول بالقید ، بل لابدّ من جعل القید وصفا توضیحیا مشیرا إلی المحمول أو محمولاً آخر بأن یؤخذ التقیید معنیً حرفیا غیر مقصود ، والمقصود بالحمل حمل ذات المقید .

وممّا ذکرنا یظهر وجه تخصیص السید الشریف الانقلاب بصورة أخذ مصداق الشیء فی معنی المشتق ، فإنّه لو کان المأخوذ مفهوم الشیء فهو باعتبار قبوله التقیید لا یکون ثبوته بعد التقیید ضروریا .

وکأنّ الماتن قدس سره أراد بقوله : «وکان القید خارجاً» عن المحمول «وإن کان التقیید داخلاً بما هو معنیً حرفیّ» ما ذکرناه من کون القید لمجرّد الإشارة إلی نفس

ص :243

بالضرورة، لجواز أن لا یکون ثبوت القید ضروریاً. انتهی.

ویمکن أن یقال: إن عدم کون ثبوت القید ضروریاً لا یضر بدعوی الإنقلاب، فإنّ المحمول إن کان ذات المقید وکان القید خارجاً، وإن کان التقیید داخلاً بما هو معنی حرفی، فالقضیة لا محالة تکون ضروریة، ضرورة ضروریة ثبوت الإنسان الشَرح:

المحمول، وعبارته فی تقریر الانحلال إلی قضیتین، بقوله: «وذلک لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، کما أنّ الأخبار بعد العلم بها تکون أوصافاً» تشیر إلی ما ذکرنا من امکان جعل قید (له الکتابة) جزء فی الخبر عن الإنسان حیث یکون قبل العلم به خبرا.

وما ذکره من انحلال عقد الحمل وأنّ الانحلال إلی القضیتین مبنی علی ذلک أی لحاظ له النطق قبل العلم به لیکون الاخبار عن الإنسان بالناطق منحلاً إلی قضیتین احداهما الإنسان إنسان والثانی الإنسان له النطق ولا یخفی أنّ هذا مع غضّ النظر عن محذور لزوم أخذ العرض فی الفصل فیما لو کان المحمول فصلاً کما مثّل به صاحب الکفایة قدس سره ، ولکن لو مثّل بدله بالإنسان ضاحک کما مثّل به المحقق الشریف لکان أفضل وأولی ، ولعلّ تمثیله بالناطق من باب ما تبناه من عدم کون الناطق فصلاً حقیقیاً بل هو فصل مشهوری منطقی.

وکیف ما کان ، فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ مراد المحقّق الشریف من بساطة معنی المشتق خروج الذات عن معنی المشتق مفهوما ومصداقا ، بل لا یمکن انحلال معنی المشتق إلی أحدهما .

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی ما ذکره السید الشریف من أنّ أخذ معنی الشیء فی مفهوم المشتق یوجب دخول العرض العامّ فی الفصل ، بأنّ الشیء بمعناه العامّ لا یکون عرضا عامّا لیلزم من دخوله فی معنی المشتق ما ذکر ، بل الشیء جنس

ص :244

الذی یکون مقیداً بالنطق للإنسان وإن کان المقید به بما هو مقید علی أن یکون القید داخلاً، فقضیة (الإنسان ناطق) تنحل فی الحقیقة إلی قضیتین إحداهما قضیة

الشَرح:

الأجناس لجمیع الماهیّات جهة جامعة بینها لا عرض عامّ لها ، حیث إنّ العرض ما یکون خاصة للجنس البعید أو للجنس القریب ، والشیئیة تکون فی جمیع الماهیّات ، ولیس ورائها أمر آخر لتکون الشیئیة خاصة ذلک الأمر وعرضا عامّا لجمیع الماهیّات .

وما یقال من أنّ الشیئیة مساویة للوجود وبما أنّه لا یکون مفهوم الوجود جنساً فیکون مفهوم الشیء الذی مرادف له کذلک ، لا یمکن المساعدة علیه فإنّ الوجود یحمل علی الشیء کما یحمل علی سائر الماهیات ، فالمراد من المساوقة مساوقتهما فی الصدق لا اتّحادهما فی المفهوم ، لیکون مفهوم الشیء کمفهوم الوجود عارضا لجمیع الماهیات.

والحاصل أنّه یلزم من دخول مفهوم الشیء فی المشتق دخول الجنس فی الفصل ، لا دخول العرض العامّ فی الفصل ، وإن کان دخول الجنس فی الفصل أیضاً باطلاً(1).

وذکر قدس سره : _ فی جواب صاحب الکفایة الذی ذهب إلی أنّ الناطق فصلٌ مشهوری لا حقیقی فیلزم من ترکّب المشتق دخول العرض العامّ فی الخاصة _ أنّ الناطق بمعنی المتکلّم ، أو المدرک للکلیات ، وان لم یکن فصلاً للانسان اذا التکلم والادراک من العرض لکن المراد به صاحب النفس الناطقة فیلزم من ترکب المشتق دخول العرض العام فی الفصل لا دخول العرض العام فی الخاصة کما ذکر قدس سره.

ص :245


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 69 .

(الإنسان انسان) وهی ضروریة، والأخری قضیة (الإنسان له النطق) وهی ممکنة، وذلک لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار کما أنّ الاخبار بعد العلم تکون أوصافاً، فعقد الحمل ینحل إلی القضیة، کما أن عقد الوضع ینحل إلی قضیة مطلقة عامة الشَرح:

أقول : عنوان الشیء والذات کما یحمل علی ممکن الوجود ، کذلک یحمل علی واجب الوجود بالذات ، ومن الواضح أن الواجب بالذات لا ماهیّة له لیکون له جنس الأجناس ، وحمل الوجود علی الشیء کحمله علی الجواهر والأعراض لایدلّ علی کونه جنس الأجناس للأعراض والجواهر ، فإنّ العنوان الانتزاعیّ الاعتباریّ من کل الموجودات خارجا أو الملحوظة ذهنا ، لا یدخل فی الماهیّات المتأصّلة ، لیکون جنسا أو فصلاً أو نوعا أو یکون جوهرا أو عرضا وذلک ظاهر ، ولذلک یصدق الشیء علی المستحیلات أیضا باعتبار لحاظها وعلی الجواهر والأعراض وغیرهما .

وبالجملة ما ذکر من أنّ العرض العامّ یکون خاصّة للجنس البعید کالتحیّز بالإضافة إلی الجسم، أو خاصة للجنس القریب ، کالماشی بالإضافة إلی الحیوان ذکر المنطقیون أنّ العرض العام أمر نسبی فهو بالنسبة إلی الأجناس السافلة عام ولکن بالنسبة إلی الأجناس العالیة خاصة وتوهم المحقق النائینی قدس سره أنّها قاعدة عامّة وبها استدلّ علی کون الشیء جنساً لا عرض عام إذ لیس خاصة لا للجنس البعید ولا للجنس القریب وبما أن_ّه جهة جامعة بین الماهیات فیکون جنساً .

ولکن الظاهر أنّ ما ذکره المنطقیون إنما هو بحسب الغالب إذ الملاک فیه (أی عمومیة العرض) کونه خارجاً عن الموضوع وغیر مختص بموضوعه فربّما یوجد عرض عام ولا یکون خاصة لجنس أصلاً کالموجود فإنّه عرض عام لجمیع المقولات العشر وغیر مختص بإحدها حتّی یکون خاصة وعلیه فیکون إیراد شیخنا الاُستاذ قدس سره فی محلّه أو ذلک لا یثبت کون الشیء جنساً. والشیئیة لیست خاصّة

ص :246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فتکون جنساً لأنّها جهة جامعة بین الماهیات ، لا یثبت أنّ عنوان الشیء جنس بمجرد کونها جهة جامعة ، کما لا یثبت أن_ّه عرضی فی باب الکلّیات الخمس ؛ لأنّ العنوان الانتزاعی الاعتباری خارج عن قسم الجوهر والعرض فی باب الکلّیات لا یخفی أنّ الذاتی والعرضی فی باب الکلیات الخمس إنما هو باعتبار الکلیات النفس الأمر به وأمّا الاُمور الاعتباریة الانتزاعیة فلیست مندرجة فی الذاتی ولا العرضی إذ هی لا من الجواهر ولا من الأعراض ، وعلیه فلو أطلق علیه العرضی فهو من باب إطلاق العرضی علی المشتقات المنتزعة الاعتباریة کالزوج والحر ونحوها لا من باب العرضی المصطلح عند المنطقیین فی باب الکلیات الخمس. فلا یکون جنساً ، وما یقال من أنّ الشیئیة مساوقة للوجود لایراد به الوجود الخارجی فحسب ؛ ولذا یحمل الوجود علی الشیء ، فالشیء عنوان انتزاعیّ اعتباریّ ، کما لا یخفی .

وأمّا ماذکر قدس سره من أنّ المراد بالناطق الذی یذکر فصلاً للإنسان هو صاحب النفس الناطقة ، فلا یمکن المساعدة علیه ، ویا لیت اقتصر علی «النفس الناطقة» فإنّ صاحب نفس الناطقة هو الإنسان ، وخصوصیات الأفراد لا دخل لها ، فیکون صاحبها هو النوع ولا یمکن دخول النوع فی الفصل ، وأمّا النفس الناطقة فلم یذکر المراد منها لیعرف کیف تکون فصلاً .

ثمّ إنّه قدس سره استدلّ علی بساطة معنی المشتق وخروج مفهوم الشیء والذات عنه بأمرین:

الأوّل: أنّه علی تقدیر دخوله ، تکون النسبة الناقصة أیضاً داخلة فیه ، حیث لا یرتبط المبدأ بالذات بدونها ، وإذا دخلت النسبة فی معناه ، لزم کون المشتقات

ص :247

عند الشیخ، وقضیة ممکنة عند الفارابی، فتأمل.

لکنه قدس سره تنظر فیما أفاده بقوله: وفیه نظر لأنّ الذات المأخوذة [1] مقیدة الشَرح:

کسائر الأسماء المتضمّنة لمعانی الحروف مبنیّات(1) .

وفیه: أنّ الموجب للبناء فی الأسماء وضعها بمادّتها وهیئتها لمعنی یتضمّن المعنی الحرفی، ولا یجری فی مثل المشتق الذی یکون لمادّته وضع ومعنی ولهیئته معنی آخر، مع أنّا لا نسلّم الملازمة بین تضمّن لفظ للمعنی الحرفی وبین کونه مبنیا دائماً.

الثانی: أنّ معنی المشتق بعینه معنی المبدأ إلاّ أنّ الهیئة فی المشتق موضوعة لقلب المبدأ عن بشرط لا ، إلی اللابشرط ، ومعه یتّحد المبدأ مع الذات ، فإنّ وجود العرض بما هو عرض عین وجود المعروض ، لا وجود آخر(2) .

وفیه : أوّلاً: أنّ وجودالمبدأ زائد علی وجود الذات ، فکیف یتّحد معها ؟

وثانیا: إنّ المبدأ قد لا یکون عرضا ، بل حکما شرعیا کالحلال والحرام ، أو اعتبارا عقلیا کالواجب والممکن، أو عقلائیا کالحسن والقبیح إلی غیر ذلک، فلا یمکن الالتزام باتحاد الموضوع والحکم ، وقد لا یکون المبدأ عرضا بالإضافة إلی الذات المتلبّسة به ، کما فی إسم الزمان والمکان والآلة وغیر ذلک مما لا یمکن الإلتزام فیها بالاتحاد ، بل فی صحّة الحکم علی عنوان المشتق فی الخطاب بلا اعتماده علی موصوف کفایة للجزم بأنّ معنی الهیئة فی جمیع المشتقات یتضمّن الذات المبهمة علی ما تقدّم .

[1] هذا تقریب من صاحب الفصول قدس سره لدعوی انقلاب القضیة الممکنة إلی

ص :248


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 65 .
2- (2) أجود التقریرات : 1 / 66 .

بالوصف قوة أو فعلاً، إن کانت مقیدة به واقعاً صدق الإیجاب بالضرورة وإلاّ صدق السلب بالضرورة، مثلاً: لا یصدق زید کاتب بالضرورة لکن یصدق زید الکاتب بالقوة أو بالفعل کاتب بالضرورة. انتهی.

ولا یذهب علیک أنّ صدق الإیجاب بالضرورة، بشرط کونه مقیداً به واقعاً لا یصحح دعوی الإنقلاب إلی الضروریة، ضرورة صدق الإیجاب بالضرورة بشرط المحمول فی کل قضیة ولو کانت ممکنة، کما لا یکاد یضر بها صدق السلب کذلک، بشرط عدم کونه مقیداً به واقعاً، لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلک لوضوح أنّ المناط فی الجهات ومواد القضایا، إنّما هو بملاحظة أنّ نسبة هذا المحمول إلی ذلک الموضوع موجهة بأیّ جهة منها، ومع أیة منها فی نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له کذلک، وإلاّ کانت الجهة الشَرح:

الضروریة ، وحاصل تقریبه : أنّه لو کان معنی قولنا : الإنسان کاتب ، الإنسان إنسان له الکتابة، بأن کانت الذات المأخوذة فی المحمول عین الموضوع، فإن کان الموضوع فی القضیة مقیّدا بقید الکتابة واقعا وفی نفس الأمر ، صدق الإیجاب بالضرورة ، فإنّ ثبوت إنسان له الکتابة للإنسان المفروض له الکتابة ضروری ، وإن لم یکن الموضوع مقیّدا بها بحسب الواقع، بأن کان فاقدا لها، صدق السلب بالضرورة ، فلا تکون فی البین قضیة ممکنة ، فتتمّ دعوی انقلاب النسبة(1) .

وقد أورد الماتن قدس سره علی هذا التقریب بأنّ القضیة إنّما تکون موجّهة بإحدی الجهات من الإمکان والضرورة والدوام وغیرها ، فیما إذا لوحظت نسبة المحمول إلی الموضوع المفروض فی القضیة ، لا ذلک الموضوع مقیّدا بثبوت المحمول له

ص :249


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

منحصرة بالضرورة، ضرورة صیرورة الإیجاب أو السلب _ بلحاظ الثبوت وعدمه _ واقعاً ضروریاً، ویکون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدعوی هو انقلاب مادة الإمکان بالضرورة، فیما لیست مادته واقعاً فی نفسه وبلا شرط غیر الإمکان.

وقد انقدح بذلک عدم نهوض ما أفاده رحمه الله [1] بإبطال الوجه الأول، کما زعمه قدس سره ، فإن لحوق مفهوم الشیء والذات لمصادیقهما، إنما یکون ضروریاً مع الشَرح:

واقعا ، أو عدم ثبوته له کذلک .

وإن شئت قلت : ثبوت المحمول للموضوع واقعا ، أو عدم ثبوته له واقعا ، مناط صدق القضیة وکذبها وهو غیر مأخوذ فی موضوع القضیة قیدا ، وإلاّ لانحصرت القضایا بالضروریة ؛ إذ الموضوع بشرط المحمول أی مع أخذ المحمول فیه قیدا ، یستلزم ضروریّة ثبوت المحمول له ، حتّی فی القضیة الممکنه ، سواء قیل بعدم دخول الذات فی معنی المشتق وبساطته ، أو قیل بترکبّه .

وأمّا دعوی السید الشریف فهی لزوم انقلاب القضیة الملحوظ فیها نسبة المحمول إلی نفس الموضوع ، من الممکنة إلی الضروریة ، لا انقلاب القضیة إلی الضروریة بشرط تقیّد الموضوع بالمحمول ، فإنّه أجنبی عن دعواه ، ولا یمکن توجیه دعواه بما تنظّر به .

[1] زعم صاحب الفصول قدس سره أنّه یمکن إبطال الوجه الأوّل _ أی احتمال دخول مفهوم الشیء فی معنی المشتق _ بلزوم الانقلاب أیضاً ، بأن یقال : لو أخذ مفهوم الشیء فی معنی المشتق لزم انقلاب القضیة الممکنة إلی الضروریة(1) .

ص :250


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

إطلاقهما، لا مطلقاً، ولو مع التقید إلاّ بشرط تقید المصادیق به أیضاً، وقد عرفت حال الشرط، فافهم.

ثم إنّه لو جعل التالی فی الشرطیة الثانیة لزوم أخذ النوع فی الفصل، ضرورة أن مصداق الشیء الذی له النطق هو الإنسان، کان ألیق بالشرطیة الأولی، بل کان أولی لفساده مطلقاً، ولو لم یکن مثل الناطق بفصل حقیقی، ضرورة بطلان أخذ الشیء فی لازمه وخاصته، فتأمل جیداً.

ثم إنّه یمکن أن یستدلّ علی البساطة، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل زید الکاتب، ولزومه من الترکب، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه.

الشَرح:

وأجاب عنه الماتن قدس سره بعدم لزوم الانقلاب من ذلک ؛ لأنّ صدق عنوان الشیء علی مصداقه وإن کان ضروریا ، إلاّ أنّ الضرورة إنّما هی مع إطلاق مفهومه وعدم تقییده _ أی تضییقه بقید _ وأمّا مع التضییق فلا ، حیث یمکن أن یکون ثبوته مع التقیید ممتنعا فضلاً عن الضرورة ، کما إذا قیل : الإنسان شیء یتمکّن من الجمع بین النقیضین . نعم لو کان أخذ القید ولحاظه فی ناحیة الموضوع أیضاً ، بأن کانت القضیة بشرط المحمول ، لکانت ضروریة ، ولکن قد تقدّم أنّ القید لا یؤخذ فی طرف الموضوع أصلاً .

ثمّ إنّ الماتن قدس سره استدلّ علی بساطة المشتق وعدم دخول مصداق الشیء فی معناه ، بلزوم أخذ النوع فی الفصل ، وقال إنّ السید الشریف لو جعل التالی فی الشرطیة الثانیة «لزوم دخول النوع فیالفصل» کان ألیق بالشرطیة الأُولی ، وکان الاستدلال تامّا ، سواء جعل الناطق فصلاً حقیقیا أو عرضا خاصا أُقیم مقام الفصل ، أمّا علی تقدیر کونه فصلاً حقیقیا ، فللزوم دخول النوع فی الفصل فیما إذا قیل : (الإنسان ناطق) ، ومن المعلوم أنّ الناطق جزءالنوع ، فکیف یکون النوع جزءا منه ؟

ص :251

إرشاد:

لا یخفی أن معنی البساطة _ بحسب المفهوم _ وحدته إدراکاً وتصوراً [1]، بحیث لا یتصور عند تصوره إلاّ شیء واحد لا شیئان، وإن انحل بتعمّل من العقل إلی شیئین، کانحلال مفهوم الشجر والحجر إلی شیء له الحجریة أو الشجریة، مع وضوح بساطة مفهومهما.

وبالجملة: لا ینثلم بالانحلال إلی الاثنینیة _ بالتعمّل العقلی _ وحدة المعنی وبساطة المفهوم کما لا یخفی، وإلی ذلک یرجع الإجمال والتفصیل الفارقان بین المحدود والحد، مع ما هما علیه من الاتحاد ذاتاً، فالعقل بالتعمّل یحلل النوع، الشَرح:

وأمّا علی تقدیر کونه خاصّة ؛ فلأنّ الخاصّة خارجة عن الذات وذاتیاتها کما فی سائر العرضیّات ، فکیف تکون الذات بذاتیاتها داخلة فیها ؟

واستدل أیضاً علی بساطة معنی المشتق بمعنی عدم دخول الشیء فی معناه مفهوما ومصداقا ، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل زید الکاتب ، مع أن_ّه یلزم التکرار من دخول الشیء فی معنی الکاتب مفهوما أو مصداقا ، ولکن لا یخفی أنّ لزوم التکرار فی المثال وما شابهه إنّما هو علی تقدیر أخذ مصداق الشیء فی معنی المشتق ، وأمّا بناءً علی أخذ مفهومه فیه ، فالشیء المقید بأنّ له الکتابة لیس تکرارا للإنسان ، نعم یلزم التکرار فی مثل قول القائل «الماء شیء بارد بالطبع» کما لا یخفی .

[1] أقول : لا ریب فی إمکان انحلال معنی المشتق بحسب التحلیل العقلی ، فإنّه لا یقلّ عن مبدئه وعن سائر الجوامد کالانسان والحجر وغیرهما ممّا هو قابل للتحلیل العقلی ، وإنّما الکلام فی انحلال معنی المشتق إلی مفهوم الشیء أو مصداقه ، بحیث یکون مفهومه أو مصداقه جزءا لما ینحلّ إلیه معناه . وأمّا من ذهب إلی بساطة معناه واستدلّ علیه بما تقدّم من المحقّق الشریف ، أو بأنّ الشیء معنیً

ص :252

ویفصله إلی جنس وفصل، بعد ما کان أمراً واحداً إدراکاً، وشیئاً فارداً تصوراً، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه من الجمع والرتق.

الثانی: الفرق بین المشتق ومبدئه مفهوماً، أن_ّه بمفهومه لا یأبی عن الحمل علی ما تلبس بالمبدأ [1]، ولا یعصی عن الجری علیه، لما هما علیه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنّه بمعناه یأبی عن ذلک، بل إذا قیس ونسب إلیه کان الشَرح:

إسمی فلا یدخل فی معنی الهیئة لأن معناها حرفی وقد تقدّم التصریح عن المحقّق النائینی قدس سره بأنّ الفرق بین المشتق ومبدئه أنّ معنی المشتق بعینه معنی المبدأ ، إلاّ أنّ الهیئة فی المشتق تدلّ علی جهة اتّحاده مع الذات فهو لا یمکنه الالتزام بانحلال معناه البسیط إلی الذات مفهوما ومصداقا ، فکیف ینحلّ معناه بالتحلیل العقلی إلیه ؟ مع أنّ الانحلال عبارة عن : فتق معنی اللفظ ، کانحلال الإنسان إلی حیوان ناطق ، وکذا انحلال سائر الأنواع إلی الجنس والفصل .

لا یقال: کیف ینحلّ الإنسان إلی ما له الإنسانیة ، والحجر إلی ما له الحجریة ، وکذا غیرهما من الأنواع ، مع أنّ مفهوم ما والشیء واحد ؟

فإنّه یقال : لو أُرید بالشیء الإشارة الی الهیولی والمادّة القابلة للصور فهو صحیح ، فإنّ الأنواع من الجواهر ، لها أجزاء خارجیة هی الهیولی والصورة ، وأجزاء عقلیة هی الجنس والفصل ، ولو أُرید أنّ مفهوم الشیء بنفسه یدخل فی معنی الأنواع، فهو غیر ممکن؛ لأنّ المفهوم والعنوان العرضی لا یکون مقوما للذات .

نعم معنی المشتق عنوان عرضی فلا مانع من دخول مفهوم الشیء والذات فیه ، وذلک هو المصحّح لحمل المشتق علی الذات .

[1] کأنّ مراده قدس سره أنّ للمشتق معنیً ، وذلک المعنی باعتبار اتّحاده مع الذات

ص :253

غیره، لا هو هو، وملاک الحمل والجری إنما هو نحو من الاتحاد والهوهویة، وإلی هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما، من أنّ المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا، أی یکون مفهوم المشتق غیر آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ یکون آبیاً عنه، وصاحب الفصول رحمه الله _ حیث توهم أن مرادهم إنّما هو بیان الشَرح:

بنحو من الاتّحاد ، لا یأبی عن الحمل علیها ، بخلاف المبدأ ، فإنّ له معنیً غیر معنی المشتق ، ویکون فی نفسه آبیا عن حمله علی الذات ؛ لعدم اتّحاده معها بوجهٍ ، بل إذا قیس معناه إلی الذات یری أنه غیرها مفهوما وخارجا ، وملاک الحمل هو الاتّحاد فی موطنٍ ما ، من ذهنٍ أو خارجٍ .

وهذا هو مراد أهل المعقول ممّا ذکروه فی مقام التفرقة بین المشتق ومبدئه ، من أنّ المشتق مفهومه لا بشرط ، بخلاف المبدأ فإنّه بشرط لا ، ومرادهم لا بشرط وبشرط لا بالإضافة إلی الحمل ، لا أنّ کلیهما موضوع لمعنیً واحد ، غایة الأمر لوحظ ذلک المعنی فی أحدهما لا بشرط وفی الآخر بشرط لا لیکون تغایر المعنیین بالعرض لا بالذات .

ولکن زعم صاحب الفصول قدس سره أنّ أهل المعقول یرون اتّحاد المشتق ومبدئه بالذات ویفرّقون بینهما بلا بشرط وبشرط لا بالعرض ، فالتفرقة بینهما عرضی وأنّهم یقولون بأنّ مفهوم المشتق بعینه مفهوم المبدأ لا أن_ّه مفهوم آخر ، فأورد علیهم بأنّ مفهوم العلم مثلاً غیر قابل للحمل علی الذوات حتّی وإن لوحظ لا بشرط بالإضافة إلی ما هو خارج عنه(1).

ولم یتفطّن إلی أنّ مرادهم هو عین ما ذکره من أنّ معنی المشتق فی نفسه، غیر

ص :254


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

التفرقة بهذین الاعتبارین، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجیة مع حفظ مفهوم واحد _ أورد علیهم بعدم استقامة الفرق بذلک، لأجل امتناع حمل العلم والحرکة علی الذات، وإن اعتبرا لا بشرط، وغفل عن أن المراد ما ذکرنا، کما یظهر منهم من بیان الفرق بین الجنس والفصل، وبین المادة والصورة، فراجع.

الشَرح:

معنی المبدأ، وذلک المعنی قابل للحمل علی الذوات بخلاف معنی المبدأ فإنّه معنی آخر فی نفسه وعاص عن الحمل، فاعتبار اللابشرطیة الذاتیة فی معنی المشتق والبشرط لا الذاتیة فی معنی الذات إنّما هو بالإضافة إلی الحمل علی الذات کما لا یخفی. ویتّضح ذلک بملاحظة کلام أهل المعقول فی الفرق بین الجنس والمادة وبین الفصل والصورة، بأنّ الجنس والفصل لا بشرط، فیحمل أحدهما علی الآخر وعلی النوع، بخلاف الهیولی والصورة فإنّهما بشرط لا، فلا یحمل أحدهما علی الآخر.

وبیان ذلک علی الاختصار أنّ العقل یلاحظ الشیء تارةً ویقایسه إلی سائر الأشیاء ، فیری أنّ له معها جهة اشتراک یکشفها اشتراکها فی بعض الآثار فتکون الجهة المشترکة بینها جنسا ، کما یری أنّ له جهة امتیاز عن غیره ، فیکون ذلک فصلاً ، وأُخری یلاحظ الشیء بحسب مراتب وجوده وسیره بصوره النوعیة ، فیری أنّ فی جمیع المراتب جهة باقیة إلی المرتبة التالیة ، لا أنّ الشیء ینعدم من أصله وتحصل المرتبة التالیة من العدم المحض ، فتلک الجهة الباقیة یعبّر عنها بالهیولی والقوّة القابلة وتکون فعلیّتها بأمرٍ آخر یعبّر عنه بالصورة ، فالصورة والهیولی جزءان خارجیان للجسم بحسب ملاحظة مراتب وجوده .

والجنس والفصل جزءان له _ بحسب التحلیل العقلی _ فی مقام مقایسته إلی سائر الأشیاء ، ویصح حمل الجنس علی الفصل وبالعکس ، وحمل کلّ منهما علی النوع ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الحمل لا بشرط ، بخلاف الهیولی والصورة ،

ص :255

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فإنّه لا یصحّ حمل أحدهما علی الآخر ، بل وحتّی حمل کلّ منهما علی الجسم الخارجی ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الحمل بشرط لا ، ولیس مراد أهل المعقول أنّ الجنس بعینه هو الهیولی والفرق بینهما بالاعتبار ، وکذلک الفصل مع الصورة .

والحاصل أنّ کلاًّ من الهیولی _ أی المادة القابلة _ والصورة متقابلان بالذات ، فلایحمل أحدهما علی الآخر ، بخلاف الجنس والفصل ، فإنّ کلاًّ منهما أخذ للشیء بلحاظ مقابلته مع سائر الأنواع ، فیکون کلّ منهما بالإضافة إلی الآخر لا بشرط ذاتا ، فیحمل أحدهما علی الآخر لاتّحادهما خارجا .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره بعد قوله «فإن قلت : فما وجه حمل الجنس علی الفصل والفصل علی الجنس ، مع أنّ طبیعة الجنس فی الخارج غیر طبیعة الفصل ؟ وهل المصحّح إلاّ الاعتبار اللابشرطی» ، ما حاصله : أنّ الترکیب بین الجنس والفصل اتحادی لا انضمامی ؛ لأنّ المرکبات الحقیقیة لابدّ لها من جهة وحدة حقیقیة ، وإلاّ کان المرکّب اعتباریا والوحدة الحقیقیة لا تکون الاّ إذا کان أحد الجزئین بالقوة والآخر بالفعل ، فإنّه لو کان کلّ منهما فعلیا ، لکانت کلّ فعلیّة تأبی عن الأُخری .

وإذا کان أحد الجزئین بالفعل والآخر بالقوة لم یکن فی البین إلاّ جعل واحد ، فیکون الجزئین بجعل واحد ، فإنّه لو فرض أنّ کلاًّ من الجزئین مجعول مستقلّ لما کان فی المرکّب وحدة حقیقیة ، وإذا کان الجزءان مجعولین بجعلٍ واحد ، لکان أحد الجزئین _ أی الأصل _ مجعولاً بالذات والآخر بالتبع ، حتّی تصحّ نسبة الجعل إلی الجزئین مع فرض وحدة الجعل حقیقة ، وعلی ذلک یکون مرور الفیض _ أی فیض الوجود _ من الأصل إلی التابع _ أی من الصورة إلی المادة أو من الفصل إلی الجنس _ .

ثمّ ذکر قدس سره أنّه بذلک تبیّن الفرق بین الجنس والفصل ، وبین العرض ومعروضه ،

ص :256

الثالث: ملاک الحمل _ کما أشرنا إلیه _ هو الهوهویة والاتحاد [1] من وجه، الشَرح:

فإنّ الترکیب فی الثانی اعتباری فیکون کل من العرض والمعروض بالإضافة إلی الآخر بشرط لا ذاتا ، بخلاف الجنس والفصل ، کما تبیّن معنی اتحاد الجنس والمادة واتحاد الفصل والصورة ذاتا واختلافهما بالاعتبار ، حیث إنّ مبدأ الجنس الطبیعی إذا لوحظ بما له من الوجود الساری یکون مادة ولم یحمل علی الفصل ، وإذا لوحظ اتّحادهما فی الوجود الساری یکون جنسا ویصح الحمل علیه . انتهی ما أردنا إیراده من کلامه قدس سره فی المقام(1) .

أقول : ظاهر کلامه اتّحاد الجنس مع المادة ذاتا ، وکذا اتّحاد الفصل مع الصورة ، وإنّما یکون الاختلاف بینهما بالاعتبار ، فإنّه إذا لوحظ مبدأ الجنس الطبیعی بما له من الوجود الساری ، یکون مادّة لا یحمل علیه الفصل ، کما أن_ّه إذا لوحظ اتّحادهما فیالوجود الساری صحّ الحمل وکان جنسا ، ولکن قد تقدّم أنّ کون شیء جنسا لطبیعیّ وشیء آخر فصلاً له ، أمر یدرکه العقل بالإضافة إلی الطبائع الأُخر ، بخلاف کون شیء مادة له خارجا ، وشیء آخر صورة له ، فإنّه بملاحظة مراتب وجود الطبیعی ، فکلّ منهما غیر الآخر ذاتا ، ولکن مع ذلک ظاهر کلام أهل المعقول فی المشتق ، وکذا فی التفرقة بین الجنس والمادة ، والفصل والصورة ، هو عدم الاختلاف الذاتی ، وکلام بعضهم کالصریح فی أنّ الجنس هو المادة عیناً والاختلاف بالاعتبار ، کما تقدّم فی کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره .

[1] ذکر صاحب الفصول قدس سره أنّ مصحّح الحمل إما اتّحاد الموضوع والمحمول حقیقة وتغایرهما اعتبارا ، کما فی (الإنسان حیوان ناطق) ، وإمّا تغایرهما حقیقة

ص :257


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 228 .

والمغایرة من وجه آخر، کما یکون بین المشتقات والذوات، ولا یعتبر معه ملاحظة الترکیب بین المتغایرین، واعتبار کون مجموعهما _ بما هو کذلک _ واحداً، بل یکون لحاظ ذلک مخلاً، لاستلزامه المغایرة بالجزئیة والکلّیة.

الشَرح:

واتّحادهما اعتبارا ، کما فی قولنا : (الإنسان ناطق) أو (الإنسان جسم) فإنّ الإنسان لایتّحد مع الجسم أو الناطق مفهوما کما هو واضح ، ولا وجودا فلابدّ فی مثل ذلک من ملاحظة الترکیب واعتباره فی ناحیة الموضوع ، بأن یراد من الموضوع مجموع أمرین یصدق علی ذلک المجموع ، المحمول الملحوظ بنحو لا بشرط(1) .

وأورد علی ذلک الماتن قدس سره بأنّه فی موارد الحمل یکون الموضوع والمحمول متّحدین حقیقة ، ومختلفین بالاعتبار ، کما فی المشتقات بالإضافة إلی الذوات ، وحتّی فی مثل (الإنسان جسم) أو (ناطق) حیث إنّ الإنسان خارجا هو الجسم أو الناطق کما تقدّم فی الأمر السابق ، ومع هذا الاتحاد لا موجب لملاحظة الترکیب فی ناحیة الموضوع ، بل یکون لحاظه مخلاًّ بالحمل ؛ لأن_ّه یوجب المغایرة بین الموضوع ومحموله بالکلّ والجزء ، بأن یکون الموضوع مثلاً مجموع الجسم والروح ویحمل علیه الناطق لا بشرط ، مع أنّ من الواضح عدم ملاحظة الترکیب فی موضوعات القضایا المستعملة فی مقام التحدید بالفصل أو الخاصة وغیرها ، ضرورة أنّه لا یلاحظ فی القضایا فی طرف الموضوعات إلاّ مفاهیمها ، کما هو الحال فی ناحیة المحمولات ، وإنّما یحمل المحمول علی الموضوع لاتّحادهما من وجه مع تغایرهما بنحو من الاعتبار .

وبعبارةٍ أُخری : یعتبر فی حمل شیءٍ علی شیء أمران :

ص :258


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

ومن الواضح أنّ ملاک الحمل لحاظ نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلک فی التحدیدات وسائر القضایا فی طرف الموضوعات، بل لا یلحظ فی طرفها إلاّ نفس معانیها، کما هو الحال فی طرف المحمولات، ولا یکون حملها علیها إلاّ بملاحظة ما هما علیه من نحو من الاتحاد، مع ما هما علیه من المغایرة ولو بنحو من الاعتبار.

الشَرح:

الاوّل: أن یکون بین الموضوع والمحمول مغایرة ما ، لئلاّ یلزم حمل الشیء علی نفسه أو قیام النسبة بین الشیء ونفسه ، فالحمل یقتضی التغایر بین الموضوع والمحمول لیکون هذا موضوعا وذاک محمولاً .

والثانی: أن یکون بینهما نحو من الاتّحاد لیصحّ حمل الثانی علی الأوّل ، وعلی ذلک فقد یکون الاتحاد والتغایر کلاهما فی مقام الذات والمفهوم ، کتحدید الإنسان بأنّه حیوان ناطق ، حیث إنّ التغایر بین الموضوع والمحمول بالإجمال والتفصیل مع اتّحادهما ذاتا ومفهوما ، فیکون الحمل أولیّا ذاتیّا ، وقد یکون التغایر بالمفهوم ، والاتحاد بحسب الوجود ، فالحمل فیه شائع صناعی ، کما فی حمل الناطق أو الجسم علی الإنسان الخارجی ، ومن هذا القبیل حمل المشتق علی الذات ، مثل (الإنسان کاتب) أو (زید ضارب) ، فلو کان بین الشیئین تغایر بحسب الذات والمفهوم ، وبحسب الوجود مطلقا ، ذهنا وخارجا ، لم یکن للحمل مصحّحٌ ، کما فی قولنا : (زید علم) أو (أن_ّه ضرب) أو غیر ذلک .

وقد أضاف صاحب الفصول قدس سره علی ملاک الحمل أمرا آخر، وهو أن یکون بین الموضوع والمحمول تغایر ذاتا ووجودا، واتّحاد اعتبارا، ومثّل لذلک بقوله (الإنسان ناطق) أو (جسم)(1)، وعبارة الماتن قدس سره فی الأمر الثالث: «ولا یعتبر معه ملاحظة

ص :259


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

فانقدح بذلک فساد ما جعله فی الفصول تحقیقاً للمقام. وفی کلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.

الرابع: لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً [1]، الشَرح:

الترکیب بین المتغایرین واعتبار کون مجموعهما بما هو کذلک واحدا»(1) ناظرة إلی الجواب عنه، وأنّه بعد ما ثبت أنّ اتّحاد الفصل مع الجنس فی الخارج حقیقی لا انضمامی، فلا موجب لملاحظة الترکیب فی مثل (الإنسان ناطق) أو (جسم) أو غیر ذلک.

[1] الصفات الجاریة علی الواجب (جلّ وعلا) المسمّاة بصفات الذات ، فیها جهتان من الإشکال :

الأُولی: أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق علی القول بالترکیب ، والخارجة عنه علی القول الآخر ، زائدة علی المبدأ ، فیلزم کون المبدأ زائدا علی ما یحمل علیه معنی المشتق ، لینطبق علیه معنی المشتق باعتبار المبدأ ، مع أنّ عنوانی العالم والقادر یحملان علی ذات الحق (جلّ وعلا) ومبادئها لیست زائدة علی ذاته المقدّسة علی مذهب الحق .

والثانیة: أنّ المعتبر فی معنی المشتق، انتساب المبدأ إلی الذات وقیامه بها، والعلم والقدرة لیسا کذلک فی ذاته المقدّسة، فإنّهما لیسا بعرضین لیقوما به، وعلی ذلک یقع الکلام فی أن_ّه کیف تحمل هذه العناوین المشتقّة علی ذاته تعالی؟

وأجاب الماتن قدس سره عن الجهة الاولی فی هذا الأمر، وعن الجهة الثانیة فی الأمر الآتی، وحاصل ما ذکره فی الجهة الأُولی: أنّه لا یعتبر فیما یجری علیه عنوان المشتق، إلاّ تغایره مع المبدأ مفهوما لا تغایره معه وجودا، وبما أنّ مفهوم العلم

ص :260


1- (1) الکفایة : ص56 .

وإن اتحدا عیناً وخارجاً، فصدق الصفات _ مثل: العالم، والقادر، والرحیم، والکریم، إلی غیر ذلک من صفات الکمال والجلال _ علیه تعالی، علی ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیة صفاته، یکون علی الحقیقة، فإنّ المبدأ فیها وإن کان عین ذاته تعالی خارجاً، إلاّ أنّه غیر ذاته تعالی مفهوماً.

ومنه قد انقدح ما فی الفصول، من الإلتزام بالنقل أو التجوز فی ألفاظ الصفات الشَرح:

والقدرة مغایر لذات الحق (جل وعلا) فلا إشکال فی حمل عنوان العالم والقادر علیه سبحانه.

وما فی الفصول من أنّ الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة عن معانیها الأوّلیّة ، أو مستعملة فی غیرها مجازا ، وبتلک المعانی المنقولة إلیها أو المجازیة تحمل علیه (سبحانه)(1) لا یمکن المساعدة علیه ، حیث لا ملزم لما التزم به ، بعد عدم مغایرة المبدأ مع الذات وجودا .

أقول : لا یعتبر فی صدق المشتق وحمله علی الذات مغایرتها مع المبدأ حتّی مفهوما، وآیة ذلک صدق المنیر علی النور، والموجود علی الوجود ونحوهما، والوجه فی ذلک أنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق أمرٌ مبهم سیّال حتّی فی نفس المبدأ.

والحاصل : أنّه لا یعتبر فی حمل المشتق تغایر المبدأ مع الذات المحمول علیها حتّی مفهوما ، بل ولا تغایره مع معنی المشتق ولو اعتبارا .

وقد یورد علی ما ذکرنا _ من عدم اعتبار المغایرة وأنّ الذات المأخوذة فی معنی المشتق مبهمة تصدق علی نفس المبدأ _ بأنّه یلزم صدق الضارب علی الضرب ، والقاتل علی القتل ، إلی غیر ذلک ، مع أنّ قول القائل (الضرب ضارب)

ص :261


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

الجاریة علیه تعالی، بناءً علی الحق من العینیة، لعدم المغایرة المعتبرة بالإتفاق، وذلک لما عرفت من کفایة المغایرة مفهوماً، ولا اتفاق علی اعتبار غیرها، إن لم نقل بحصول الإتفاق علی عدم اعتباره، کمالا یخفی، وقد عرفت ثبوت المغایرة کذلک بین الذات ومبادئ الصفات.

الشَرح:

غلط فاحش ، ولکن لا یخفی أنّ الذات المبهمة لیست تمام المدلول بحیث ینطبق معناه علی نفس المبدأ فی کلّ مورد ، بل یعتبر فی بعض المشتقات _ بمقتضی مبادئها _ التلبّس بنحوٍ خاصّ ، أی صدورا أو نحوه ، والذات المأخوذة بهذه الخصوصیة لا تنطبق علی الضرب والقتل ونحوهما .

ولکن یرد علی الماتن قدس سره بأنّ ما ذکره فی هذا الأمر إبطال لما تقدّم منه سابقا فی الفرق بین المشتق ومبدئه ، من کون الأوّل لا بشرط بالإضافة إلی الحمل ، والثانی بشرط لا ، فإنّ مقتضی ذلک عدم صحّة حمل العلم والقدرة والح_یاة علی ذات الح_ق (جلّ علا) ، مع أن_ّه قد ذکر فی هذا الأمر أنّ اتّحاد المبدأ فی القادر والعالم مع ذات الحق (عزّ وجلّ) حقیقی ، والتغایر اعتباری ، ولازم ذلک صحّة حمل ذات المبدأ علی ذاته سبحانه ، وهذا یتنافی مع کونه بشرط لا بالإضافة إلی الحمل علی الذات .

اللهم إلاّ أنّ یراد من بشرط لا ، عدم أخذ الذات فی معنی المبدأ ، فلا یتّحد مع الذات فی کلّ مورد یتّحد معه مفهوم المشتق مع الذات .

ثمّ لا یخفی أنّ الإشکال فی المقام والجواب عنه یجریان فی خصوص صفات الذات ، ولا یعمّان مثل الرحیم والکریم ونحوهما من صفات الأفعال ، فلا موجب فیها بالالتزام باتّحاد المبدأ مع الذات عینا وتغایرهما مفهوما ، کما هو ظاهر الماتن قدس سره ، حیث جعل صفات الذات (المعبّر عنها بصفات الکمال) مع صفات

ص :262

الخامس: إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق علی اعتبار المغایرة [1] _ کما عرفت _ بین المبدأ وما یجری علیه المشتق، فی اعتبار قیام المبدأ به، فی صدقه علی نحو الحقیقة، وقد استدلّ من قال بعدم الإعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع قیام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم _ بالفتح _ .

الشَرح:

الأفعال (المعبّر عنها بصفات الجمال) سواء فی الإشکال والجواب .

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام أنّه بعد الاتفاق علی لزوم المغایرة بین المبدأ وما یحمل علیه المشتق مفهوما، یقع الکلام فی أنّه هل یعتبر فی حمل المشتق علی الذات قیام المبدأ بها، لیکون صدق المشتق علیها علی نحو الحقیقة، أو لا یعتبر ذلک؟

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم علی الذات مع قیام الضرب والألم بالمضروب .

ولکن لا ینبغی التأمّل فی اعتبار تلبّس الذات بالمبدأ فی صدق المشتق علیها حقیقة ، إلاّ أنّ التلبّس لا ینحصر بقیام المبدأ بالذات قیام العرض بمعروضه ، بل للتلبّس أنحاءٌ ، والقیام بها أحد أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً ، واختلاف الهیئات أُخری من القیام صدورا ، أو حلولاً ، أو وقوعا علیه ، أو فیه ، وانتزاع المبدأ عن الذات مفهوما مع اتّحاده معها خارجا من أحد أنحاء التلبّس ، حیث إنّ العینیة الخارجیّة نحو من أنحاء التلبّس ، ضرورة أنّ کون الشیء واجدا لنفسه أقوی من کونه واجدا لغیره ، وأیضاً من أنحاء التلبّس ما إذا کانت الذات متّصفة بالمبدأ خارجا ، ولکن لم یکن فی الخارج بإزاء المبدأ وجود ، بأن یکون المبدأ أمرا اعتباریا عقلیا أو عقلائیا، کما فی حمل الواجب والممکن علی الذات خارجا أو حمل الزوج والزوجة علیها ، فیکون من خارج المحمول فی مقابل المحمول بالضمیمة الذی یکون بإزاءه وجود ، کما فی حمل الأبیض أو الأحمر علی الجسم الخارجی .

ص :263

والتحقیق: إنّه لا ینبغی أن یرتاب من کان من أولی الألباب، فی أنّه یعتبر فی صدق المشتق علی الذات وجریه علیها، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص، علی اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهیئات أخری، من القیام صدوراً أو حلولاً أو وقوعاً علیه أو فیه، أو انتزاعه عنه مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً، کما فی صفاته تعالی، علی ما أشرنا إلیه آنفاً، أو مع عدم تحققٍ إلاّ للمنتزع عنه، کما فی الإضافات والإعتبارات التی لا تحقق لها، ولا یکون بحذائها فی الشَرح:

وعلی ذلک فلا یبقی إشکال فی صفات الذات الجاریة علی ذات الحق (جلّ وعلا) ، حیث یکون المبدأ مغایرا له (سبحانه) مفهوما ، ومتحدا معه عینا ، وقد تقدّم أنّ هذا أحد أنحاء التلبّس ، فیکون حمل العالم والقادر علیه (سبحانه) حقیقة ، حیث لم یعتبر فی صدقها إلاّ التلبّس بمبدأ العلم والقدرة ، لا التلبّس بهما بنحو قیام العرض بمعروضه ، وعدم اطلاع العرف علی التلبّس العینی لا یضرّ بکون انطباقهما علیه (تعالی) بنحو الحقیقة ، فإنّ نظر العرف متبع فی تشخیص معنی اللفظ ، وأمّا أنّ انطباقه علی مورد بنحو الحقیقة ، بعد وضوح المفهوم ، فالمتبع فیه نظر العقل .

أقول : کان ینبغی للماتن قدس سره أن یضیف إلی اختلاف أنحاء التلبّس اختلاف الذوات ، فإنّ اختلافها کاختلاف المبادئ والهیئات .

ثمّ ذکر قدس سره أن_ّه لا مجال لدعوی صاحب الفصول قدس سره أنّ الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة فی غیر معانیها اللغویة مجازا ؛ ولذا لا تصدق علی غیره (سبحانه) وتکون أسمائه تعالی توقیفیة .

والوجه فیه ، مضافا إلی ما ذکر من صدقها علیه (سبحانه) بما لها من المعانی لغة ، أنّ النقل أو التجوّز یوجب کون تلک الألفاظ مجرّد لقلقة وألفاظا بلا إرادة المعنی ، فإنّ معانیها المنقولة إلیها ، أو المستعملة فیها مجازا ، مجهولة لنا .

ص :264

الخارج شیء، وتکون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضمیمة، ففی صفاته الجاریة علیه تعالی یکون المبدأ مغایراً له تعالی مفهوماً، وقائماً به عیناً، لکنه بنحو من القیام، لا بأن یکون هناک اثنینیة، وکان ما بحذائه غیر الذات، بل بنحو الاتحاد والعینیة، وکان ما بحذائه عین الذات، وعدم اطلاع العرف علی مثل هذا التلبس من الأمور الخفیة لا یضر بصدقها علیه تعالی علی نحو الحقیقة، إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالی حقیقة، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم، لا فی تطبیقها علی مصادیقها.

وبالجملة: یکون مثل العالم، والعادل، وغیرهما _ من الصفات الجاریة علیه تعالی وعلی غیره _ جاریة علیهما بمفهوم واحد ومعنی فارد، وإن اختلفا فیما یعتبر فی الجری من الاتحاد، وکیفیة التلبس بالمبدأ، حیث إن_ّه بنحو العینیة فیه الشَرح:

والعجب أنّه جعل نقل الصفات أو التجوّز فیها علّة لعدم جواز إطلاقها علی غیره (سبحانه) ، مع أنّ إطلاق عالم وقادر وحیّ علی غیره (سبحانه) شائع .

أقول : قد تقدّم فی الأمر السابق عدم اعتبار مغایرة المبدأ مع الذات المحمول علیها عنوان المشتق حتّی مفهوما ، ولو کانت العینیة الخارجیة مصحّحة للتلبّس المعتبر فی معنی العالم والقادر لانطبق معناهما علی نفس القدرة والعلم ، ولصحّ قول القائل (علمه عالم) و(قدرته قادرة) وعدم مقبولیة هذا الحمل فی أذهان العامة لم ینشأ إلاّ من عدم التفاتهم إلی التلبّس بنحو العینیة .

ولا نرید بذلک أنّ عنوانا من العناوین إذا کان محکوما بحکم شرعی یثبت ذلک الحکم لکلّ ما یراه العقل مصداقا له ، وإن لم یکن مصداقا بنظر العرف ، فإنّ الخطابات الشرعیة متوجّهة إلی العرف ، فما یفهمه العرف من الموضوعات الواردة فیها یکون هو المراد منها .

ص :265

تعالی، وبنحو الحلول أو الصدور فی غیره، فلا وجه لما التزم به فی الفصول، من نقل الصفات الجاریة علیه تعالی عما هی علیها من المعنی، کما لا یخفی، کیف؟ ولو کانت بغیر معانیها العامة جاریة علیه تعالی کانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنی، فإن غیر تلک المفاهیم العامة الجاریة علی غیره تعالی غیر مفهوم ولا معلوم إلاّ بما یقابلها، ففی مثل ما إذا قلنا: إنّه تعالی عالم، إما أن نعنی أنّه من ینکشف لدیه الشیء فهو ذاک المعنی العام، أو أنّه مصداق لما یقابل ذاک المعنی، فتعالی عن ذلک علواً کبیراً، وإمّا أن لا نعنی شیئاً، فتکون کما قلناه من کونها صرف اللقلقة، وکونها بلا معنی، کما لا یخفی.

والعجب أنّه جعل ذلک علة لعدم صدقها فی حق غیره، وهو کما تری، وبالتأمل فیما ذکرنا، ظهر الخلل فیما استدلّ من الجانبین والمحاکمة بین الطرفین، فتأمل.

السادس: الظاهر أن_ّه لا یعتبر فی صدق المشتق وجریه علی الذات حقیقة، التلبس بالمبدأ [1]

الشَرح:

وأمّا ما ذکره الماتن قدس سره _ من الاستدلال علی عدم النقل والتجوّز من أن_ّه لو کانت الصفات الجاریة علیه (سبحانه) منقولة ، أو مستعملة فی غیر معانیها الأصلیة لکانت لقلقة اللسان وألفاظا بلا معنی _ فلا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ کون تلک المعانی معلومة بالإجمال یکفی فی خروجها عن مجرد لقلقة اللسان ، وکون تلک الصفات عین ذات الواجب (جلّ وعلا) مما یوجب الإشارة إلی معانیها ولو بالإجمال .

[1] وحاصله أنّ استعمال المشتق فی معناه أمرٌ ، وتطبیق ذلک المعنی علی شیء أمرٌ آخر ، وفیما کان الشیء غیر متلبّس بالمبدأ حقیقة ، بل کان التلبّس فی غیره حقیقة یکون المجاز فی تطبیق معنی المشتق وإسناده إلی الشیء الأوّل لا فی

ص :266

حقیقة وبلا واسطة فی العروض، کما فی الماء الجاری، بل یکفی التلبس به ولو مجازاً، ومع هذه الواسطة، کما فی المیزاب الجاری، فاسناد الجریان إلی المیزاب، وإن کان إسناداً إلی غیر ما هو له وبالمجاز، إلاّ أن_ّه فی الاسناد، لا فی الکلمة، فالمشتق فی مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل فی معناه الحقیقی، وإن کان مبدؤه مسنداً إلی المیزاب بالإسناد المجازی، ولا منافاة بینهما أصلاً، کما لا یخفی، ولکن ظاهر الفصول بل صریحه، اعتبار الإسناد الحقیقی فی صدق المشتق حقیقة، وکأنّه من باب الخلط بین المجاز فی الإسناد والمجاز فی الکلمة، وهذا _ هاهنا _ محل الکلام بین الأعلام، والحمد للّه، وهو خیر ختام.

الشَرح:

استعمال المشتق فی معناه ، کما فی قوله (المیزاب جارٍ) .

وبتعبیرٍ آخر : یکون المجاز فی الإسناد لا فی الکلمة ، فإنّ المجاز فی الکلمة عبارة عن استعمالها فی غیر ما وضعت له ، والمشتق فی موارد المجاز فی الإسناد لا یستعمل فی غیر معناه الموضوع له ، بل یکون تطبیق ذلک المعنی الموضوع له علیه بالعنایة ، فما عن صاحب الفصول قدس سره من اشتراط تلبّس الذات بالمبدأ فی استعمال المشتق حقیقة(1) غیر صحیح .

أقول : عبارة الماتن لا تخلو عن التعقید والاضطراب ، والمراد ما ذکرنا ، فإنّ المراد من قوله «حقیقة» لیس قیدا للصدق والجری ، بل قید للمشتق ، أی لا یعتبر فی حمل المشتق بمعناه الحقیقی علی الذات ، تلبّس تلک الذات بالمبدأ حقیقة ، بل یکفی تلبّسها بالعنایة ، فیکون الإسناد مجازیا .

ص :267


1- (1) الفصول الغرویة : ص50 .

ص :268

المقصد الأوّل: فی الأوامر

اشارة

ص :269

الفصل الأوّل: مادة الأوامر

اشارة

وفیه فصول:

الأول: فیما یتعلّق بمادة الأمر من الجهات، وهی عدیدة:

الأولی: إنّه قد ذکر للفظ الأمر معانٍ متعددة [1]، منها الطلب، کما یقال، أمره بکذا.

ومنها الشأن، کما یقال: شغله أمر کذا.

ومنها الفعل، کما فی قوله تعالی: «وما أمر فرعون برشید».

ومنها الفعل العجیب، کما فی قوله تعالی: «فلما جاء أمرنا».

ومنها الشیء، کما تقول: رأیت الیوم أمراً عجیباً.

ومنها الحادثة، ومنها الغرض، کما تقول: جاء زید لأمر کذا.

الشَرح:

معنی مادة الأمر

[1] ذکر للفظ «الأمر» معانٍ عدیدة :

منها : الطلب ، فیقال : أمره فلان بکذا.

ومنها : الشأن والمراد به الحال مطلقاً، أو فیما کان خطیرا فیقال: (شغله أمر کذا).

ومنها : الفعل ، کما فی قوله سبحانه «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیْدٍ»(1) .

ص :270


1- (1) سورة هود : الآیة 97 .

ولا یخفی أن عدّ بعضها من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة أنّ الأمر فی (جاء زید لأمر) ما استعمل فی معنی الغرض، بل اللام قد دلّ علی الغرض، نعم یکون مدخوله مصداقه، فافهم، وهکذا الحال فی قوله تعالی «فلما جاء

الشَرح:

ومنها : الفعل العجیب ، کما فی قوله سبحانه «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنا»(1) .

ومنها : الشیء ، کقولک : (رأیت أمرا عجیبا).

ومنها : الحادثة ، کقوله : (فلما وقع الأمر).

ومنها : الغرض ، کقوله (جئتک لأمرٍ).

وذکر الماتن قدس سره أنّ الظاهر عدم استعمال لفظ «أمر» فی جمیع هذه المعانی، بل عدّ بعضها من معانیه من قبیل اشتباه المصداق بالمفهوم؛ وذلک لأنّ لفظ «أمر» فی قولک (جاء زید لأمر کذا) استعمل فی معنی الشیء، واللاّم الداخلة علیه تدلّ علی أنّ الشیء المزبور مصداق للغرض، لا أنّ مدخول اللام استعمل فی معنی الغرض ومفهومه، وکذا استعمل فی قوله سبحانه «فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا» فی معنی الشیء، لا فی معنی التعجّب. غایة الأمر أنّ الشیء المزبور مصداق للعجیب، وکذا الحال فی الحادثة والشأن.

فما عن صاحب الفصول قدس سره من أنّ لفظ «أمر» حقیقة فی المعنیین الأوّلین یعنی الطلب والشأن(2) غیر سدید ، حیث إنّ عدّ الشأن من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم أیضاً ، فلا یبعد أن یکون مشترکا لفظا بین الطلب فی الجملة _ علی تفصیل یأتی _ وبین معنی الشیء .

ص :271


1- (1) سورة هود : الآیة 58 .
2- (2) الفصول الغرویة : ص51 .

أمرنا» یکون مصداقاً للتعجب، لا مستعملاً فی مفهومه، وکذا فی الحادثة والشأن.

وبذلک ظهر ما فی دعوی الفصول، من کون لفظ الأمر حقیقة فی المعنیین الأولین، ولا یبعد دعوی کونه حقیقة فی الطلب فی الجملة والشیء، هذا بحسب العرف واللغة.

الشَرح:

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه لا إشکال فی کون لفظ «أمر» حقیقة فی الطلب ، وأمّا بقیة المعانی فکلّها راجعة إلی معنیً واحد ، وهی الواقعة التی لها أهمیة ، وهذا المعنی ینطبق علی الحادثة والغرض وغیرهما من المعانی(1).

ولکن فیه ؛ أوّلاً : أن_ّه لم یؤخذ فی معناه الأهمیة ، بل قد یوصف بعدم الأهمیة ، فیقال : (لا یهمّه الأمر الفلانی ، أو إن الأمر الفلانی لا أهمیّة له) ، ولو کان قید الأهمیة مأخوذا فی معناه ؛ لکان توصیفه بعدمها من توصیف الشیء بعدمه.

وثانیاً : أنّ الأمر یجمع علی نحوین ، فیصح إطلاق أحدهما علی الطلب ، ولا یصح إطلاق الآخر علیه، فمثلاً یطلق علی الطلب المتعدّد أوامر، ولا یطلق علیه الأمور، وکذا العکس. وأیضاً یصح الاشتقاق منه بمعنی الطلب، ولا یصح منه الاشتقاق بمعناه الآخر فلا یمکن أن یقال إنّ جمیع معانیه ترجع إلی معنیً واحد ، حتّی یکون مشترکا معنویا.

وعن السیّد الأُستاذ (رضوان اللّه تعالی علیه) أن_ّه مشترک بین الطلب فی الجملة وبین الفعل، الذی یعبّر عنه باللغة الفارسیة بلفظ (کار)، واختلاف جمعه باعتبار المعنیین، فإنّه بمعنی الطلب یجمع علی أوامر، وبمعنی الفعل یج_مع علی أُمور(2).

ص :272


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 86 .
2- (2) نهایة الأُصول : 1 / 75 .

وأما بحسب الإصطلاح، فقد نقل الإتفاق علی أنه حقیقة فی القول المخصوص [1]، ومجاز فی غیره، ولا یخفی أنه علیه لا یمکن منه الإشتقاق، فإن معناه _ حینئذ _ لا یکون معنی حدثیاً، مع أن الإشتقاقات منه _ ظاهراً _ تکون بذلک المعنی المصطلح علیه بینهم، لا بالمعنی الآخر، فتدبر.

الشَرح:

أقول : هذا الکلام أیضاً لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ لفظ «أمر» قد یستعمل فی موارد لا یصلح لشیء ممّا ذُکر ، کما یقال (البیاض أمر خارجی ، بخلاف الإمکان فإنّه أمر عقلی) کما أنّ ما ذکر فی الکفایة أیضاً غیر تامّ ، فإنّه لا یصحّ فی مثل قوله (سبحانه) «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیْدٍ» وضع لفظ الشیء مکانه.

فالحق فی المقام هو أنّه لایبعد کونه مشترکا فی کلّ من الطلب ، والشیء ، والعمل ، بنحو الاشتراک اللفظی ویعیّن المراد بالقرائن فی موارد الاستعمال.

وما یقال من أنّ الأمر لا یطلق علی الجواهر کما عن السید الاُستاذ (رضوان اللّه تعالی علیه)(1) ، لا یمکن المساعدة علیه أیضاً ؛ فإنّه یقال : (مفهوم الإنسان أمر ذهنی وواقعه أمر خارجی) .

[1] وحاصله أنّ لفظ «أمر» بحسب اصطلاح الاصولیین ، حقیقة فی المعنی الأوّل من المعانی المتقدّمة ، وهو الطلب فی الجملة ، وما ذکروا فی تعریفه بیان للمعنی الأوّل ، وعلیه فیرد علیهم أنّ القول المخصوص لعدم کونه معنی حدثیّا غیر قابل للاشتقاق منه، مع أنّ الاشتقاقات منه بلحاظ معناه الاصطلاحی (أی بلحاظ المعنی الأوّل من المعانی المتقدمة)، فلا یبعد أن یکون مرادهم فی التعریف _ من القول المخصوص _ الطلب بالقول المخصوص، لیمکن الاشتقاق منه . نعم لو ثبت أنّ

ص :273


1- (1) نهایة الاُصول : 1 / 75 .

ویمکن أن یکون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبیراً عنه بما یدل علیه، نعم القول المخصوص _ أی صیغة الأمر [1] _ إذا أراد العالی بها الطلب یکون من مصادیق الأمر، لکنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

الشَرح:

لهم فیه اصطلاح خاصّ، بأن یکون لفظ الأمر فی اصطلاحهم منقولاً عن المعنی اللغوی وموضوعا للقول المخصوص، فلا مشاحّة فیه، وعلیه فتکون الاشتقاقات منه بلحاظ المعنی اللغوی، أی الطلب فی الجملة، لا معناه الاصطلاحی، أی القول المخصوص.

أقول : لم یظهر وجه اشتقاق المشتقات من المعنی الاصطلاحی لتتمّ المناقشة فی تعریفهم ، وظاهر القول المخصوص فی کلامهم هو المقول المخصوص ، کصیغة إفعل ، حیث لا خصوصیة للقول بمعناه المصدری إلاّ الجهر والإخفات ، وأمّا سائر الخصوصیات _ ککونه صیغة الأمر ونحوها _ فهی أوصاف المقول ، والمقول _ باعتبار جموده _ غیر قابل للاشتقاق منه .

لا یقال : ما ذکره قدس سره من أنّ مرادهم بالقول المخصوص الطلب لیکون قابلاً للاشتقاق منه ، غیر تامّ ، فإنّ الأمر بهذا المعنی أیضاً غیر قابل للإنشاء ، والقابل للإنشاء هو نفس الطلب ، لا الطلب بالقول .

فإنّه یقال : تقیید الطلب بالقول المخصوص للإشارة إلی الحصة الخاصة منه ، حیث إنّ فی الطلب المنشأ ضیق ذاتی ، نظیر ضیق المعلول من ناحیة علّته ، ویکون المدلول بمادة الأمر أو بصیغته هی الحصّة من الطلب فی مقابل حصّته الأُخری ، یعنی الطلب الحقیقی الذی لا یکون قابلاً للإنشاء .

[1] هذا بیان أنّ تعریف الأمر فی کلماتهم بالقول المخصوص غیر صحیح ، فإنّ القول المخصوص لا یکون مساویا لمعنی الأمر والطلب .

نعم القول المخصوص کصیغة الأمر عند استعمالها ، یکون باعتبار مدلوله

ص :274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مصداقا لعنوان الطلب ، لا بما هو قول مخصوص ، بل من حیث مدلوله من کونه طلبا مطلقا أو مخصوصا کما فی صیغة (بعت) ، فإنّها باعتبار المنشأ بها (أی الملکیة) تکون مصداقا للبیع ، لا بما هی لفظ وقول مخصوص وکما لا یصحّ تعریف البیع بأنّه القول المخصوص فکذلک الأمر کما لا یخفی .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره أنّ القول المخصوص بنفسه قابل للاشتقاق منه ، حیث إنّ القول المخصوص صنف من الکیف المسموع وعرض قائم بالإنسان ، وعلیه فإن لوحظ بنفسه من دون لحاظ صدوره وقیامه بالإنسان _ مثلاً _ فهو المبدأ الساری فی جمیع المشتقات ، وإن لوحظ قیامه به بنحو الحدوث فهو المعنی المصدری ، وإن لوحظ انتسابه إلیه فی الحال أو الاستقبال فهو المعنی المضارعی ، وإن لوحظ انتسابه إلیه فی الماضی فهو المعنی الماضوی إلی غیر ذلک .

والحاصل أنّ هیئة «إفعل» لا تکون من الجواهر کالحجر الذی لا یکون له قیام بالغیر ولا یمکن فیه اللحاظ بالأنحاء المتقدمة لیکون مبدأً أو مصدرا أو ماضیا أو مستقبلاً إلی غیر ذلک . وعلیه فلفظ (أمَرَ) بصیغة الماضی ، موضوع للصیغة المنتسبة إلی الفاعل بانتساب تحقّقی فی الماضی ولفظ (یأمر) موضوع لها بالانتساب المتحقّق فی الحال أو الاستقبال ، وصیغة الأمر موضوعة للدلالة علی طلب إیجاد الفعل من الفاعل(1) .

أقول : مجرّد کون شیء عرضا خارجا لا یصحّح جعله مبدأ اشتقاق ، إذ معنی العرض ومعنی الجوهر فی ذلک علی حدٍّ سواء ، بل لابدّ فی الاشتقاق من تضمّن

ص :275


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 254 .

وکیف کان، فالأمر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة فی الاصطلاح، وإنما المهم بیان ما هو معناه عرفاً ولغة، لیحمل علیه فیما إذا ورد بلا قرینة، وقد استعمل فی غیر واحد من المعانی فی الکتاب والسنّة [1]، ولا حجة علی أن_ّه علی نحو الاشتراک اللفظی أو المعنوی أو الحقیقة والمجاز.

وما ذکر فی الترجیح، عند تعارض هذه الأحوال، لو سلم، ولم یعارض بمثله، الشَرح:

معنی حدثی لیکون إظهار فعلیّته علی نحو التحقّق ماضیا وعلی نحو الترقّب مضارعا إلی غیر ذلک ، ولیس وجه عدم الاشتقاق من معنی الجوهر کونه جوهرا وعدم قیامه بالغیر خارجا ، بل الوجه عدم تضمّنه المعنی الحدثی .

والحاصل أنّ القول المخصوص بمعناه المصدری (أی التلفّظ به) قابل للاشتقاق منه ولکن مادة (أ _ م _ ر) لم توضع له، ولا یقال لمن تلفّظ بمادة الأمر أو بصیغة الطلب بدون قصد إنشاء الطلب: إنّه قد أمر، بل الأمر من مقولة المعنی (أی المعنی الانشائی) علی نسق ما ذکر فی البیع والوکالة والوضع وغیرها من الإنشائیات.

وعلیه ، فاللازم فی صدق الأمر من فرض الطلب وإنشائه بصیغة (إفعل) أو غیرها من فعل أو قول لیقال علی المنشأ بلحاظ إنشائه أمرا ، وأمّا القول المخصوص (أی ما هو ملفوظ) مع قطع النظر عن الإنشاء به ، فغیر قابل للاشتقاق .

[1] لا أری وجها تامّا لهذا الکلام بعد اختیاره قدس سره أنّ لفظ الأمر حقیقة فی الطلب فی الجملة والشّیء ، فإنّه مع فرض کونه حقیقة فیهما علی نحو الاشتراک اللفظی ، لم یکن مورد لقوله إنّ لفظ الأمر قد استعمل فی الکتاب والسنّة فی معانٍ ، ولا حجّة علی کونه من الاشتراک لفظا أو معنیً ، أو أنّه بالحقیقة والمجاز ، کما لا وجه لما ذکر فی آخر کلامه من ظهوره فی المعنی الأوّل (أی الطلب) ، للانسباق من الإطلاق ، فإنّ مفهوم الشیء مع مفهوم الطلب لا یشتبه ، ولیس استعماله فی أحدهما کثیرا وفی

ص :276

فلا دلیل علی الترجیح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلی الأصل فی مقام العمل، نعم لو علم ظهوره فی أحد معانیة، ولو احتمل أنه کان للإنسباق من الإطلاق، فلیحمل علیه، وإن لم یعلم أنه حقیقة فیه بالخصوص أو فیما یعمه، کما لا یبعد أن یکون کذلک فی المعنی الأول.

الجهة الثانیة: الظاهر اعتبار العلو فی معنی الأمر[1] فلا یکون الطلب من السافل أو المساوی أمراً، ولو أطلق علیه کان بنحو من العنایة، کما أن الظاهر عدم اعتبار الإستعلاء فیکون الطلب من العالی أمراً ولو کان مستخفضاً لجناحه.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما فضعیف، وتقبیح الطالب السافل من العالی المستعلی علیه، وتوبیخه بمثل: إنک لِمَ تأمره، إنّما هو علی استعلائه، لا علی

الشَرح:

الآخر نادرا حتّی یحمل فی موارد الدوران علی المعنی الغالب ، باعتبار أنّ إرادة المعنی النادر یحتاج إلی القرینة دون المعنی الغالبی .

اعتبار العلوّ فی الآمر

:

[1] قیل یعتبر فی معنی الأمر وصدقه علی الطلب علوّ الطالب ، أو استعلائه ، ویستدلّ علیه بتقبیح طلب السافل المستعلی فإنّ توبیخه بمثل (لیس لک أن تأمره) دلیلٌ علی أنّ الصادر من المستعلی أمر ، ولو کان المعتبر هو العلوّ فقط ، لما أمکن صدوره من السافل لیتوجّه علیه التوبیخ .

والجواب : أنّ التوبیخ لا یکون لطلبه حقیقة ، بل لاستعلائه ورؤیة نفسه عالیا ، وإطلاق الأمر علی طلبه بلحاظ نظر المستعلی حیث یری نفسه عالیا وطلبه أمرا ، ولذا یمکن سلب الأمر عن طلبه فیقال : إنّه لیس بأمر ، ولکنّه لغروره یری نفسه عالیا ، ولو کان الاستعلاء کافیا فی کون الطلب أمرا لما صحّ هذا السلب .

ص :277

أمره حقیقة بعد استعلائه، وإنّما یکون إطلاق الأمر علی طلبه بحسب ما هو قضیة استعلائه، وکیف کان، ففی صحة سلب الأمر عن طلب السافل، ولو کان مستعلیاً کفایة.

الجهة الثالثة: لا یبعد کون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب [1]، لإنسباقه عنه

الشَرح:

دلالة مادة الأمر علی الطلب الوجوبی

:

[1] لا یخفی أنّ لزوم الحذر یختص بمحالفة الأمر الوجوبی ، والطلب الندبی خارج عن المراد من الأمر فی الآیة الکریمة یقینا ، ولکن یدور الأمر بین أن یکون خروجه عنه بالتخصّص کما إذا کان الأمر حقیقة فی الطلب الوجوبی فقط ، أو یکون خروجه عنه بالتقیید ، کما إذا کان حقیقة فی الأعمّ ، ولا معیّن للخروج بالنحو الأوّل ، فإنّ أصالة عدم التقیید غیر جاریة فی موارد العلم بالمراد ، من ثَمّ جعل قدس سره الآیة مؤیّدة لا دلیلاً .

وممّا ذکر یظهر وجه المناقشة فی الاستدلال بقوله صلی الله علیه و آله : «لولا أشقّ علی أُمّتی لأمرتهم بالسواک مع کلّ صلاة»(1) فإنّه لو لم یکن الأمر حقیقة فی خصوص الطلب الوجوبی ، لزم التقیید فی الروایة بأن یراد لأمرتهم وجوبا بالسواک ، وقد تقدّم أنّه لا اعتبار بأصالة الإطلاق فی مثل ذلک مما علم المراد .

وأما روایة بریرة(2) فلم یظهر أنّها سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الطلب الوجوبی لیستظهر أنّ لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب ، بل لعلّ السؤال عن أصل الطلب المولوی ، فلا وجه لعدّ الروایة مؤیّدة أیضاً .

ص :278


1- (1) الوسائل : 1 / 355 ، باب 5 من أبواب السواک ، الحدیث 3 .
2- (2) الفروع من الکافی : 5 / 485 ، باب الامة تکون تحت المملوک ، الحدیث 1 .

عند إطلاقه، ویؤید قوله تعال «فلیحذر الذین یخالفون عن أمره» وقوله صلی الله علیه و آله : (لولا أن أشق علی أمتی لأمرتهم بالسواک) وقوله صلی الله علیه و آله : _ لبریرة بعد قولها: أتأمرنی یا رسول اللّه؟ _ : (لا، بل إنّما أنا شافع) إلی غیر ذلک، وصحة الإحتجاج علی العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره، وتوبیخه علی مجرد مخالفته، کما فی قوله تعالی

الشَرح:

نعم، صحّة الاحتجاج علی العبد، ومؤاخذته علی مخالفته وتوبیخه علیها، فیما إذا قال إنی آمرک بکذا فخالف، دلیل قطعیّ علی ظهور مادة الأمر فی الطلب الوجوبی.

لکن یبقی الکلام فی أنّ هذا الظهور وضعی أو إطلاقی یثبت مع عدم ثبوت الترخیص فی الترک.

فنقول : الصحیح أنّ مادة الأمر بنفسها دالة علی الطلب الوجوبی ، بخلاف صیغة الأمر ، فإنّ دلالتها علی الطلب الوجوبی بالإطلاق ؛ وذلک لأنّه لا فرق فی المستعمل فیه للصیغة ، بین کون الطالب عالیا أم لا ، مثلاً نفرض أنّ أحد الموالی طلب من عبده وعبد غیره قراءة القرآن ، بأن قال لکلٍّ منهما : (إقرء القرآن) فإنّا لا نجد فی أنفسنا فرقا فی المستعمل فیه للصیغة بین الموردین ، ولکن یصدق الأمر علی الطلب من العبد الأوّل ، ولا یصدق علی الطلب من العبد الثانی ، فتکون خصوصیة علوّ الطالب مأخوذةً فی صدق الأمر علی الطلب ، وهذا العلوّ غیر مأخوذ فی معنی صیغة (إفعل) .

المائز بین الوجوب والندب

:

وکذلک فی موارد کون الطلب وجوبیا أو استحبابیا ، فإنّا لا نجد فرقاً بین المستعمل فیه للصیغة ، فی موارد کون الطلب وجوبیا أو استحبابیا ، کما لو ورد فی قول الشارع (إغتسل للجمعة ومِن مسّ المیت) وإن کان الطلب بالإضافة إلی الأوّل

ص :279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

استحبابیا وبالإضافة إلی الثانی وجوبیا ، فإنّ افتراق الوجوب عن الندب ، بثبوت الترخیص فی الثانی دون الأوّل.

وبتعبیرٍ آخر : أنّه إذا لم یکن فی البین ترخیص فی الترک ، ینتزع عنوان الوجوب ، وفیما إذا ثبت ، ینتزع عنوان الندب ، فإنّ المنشأ _ بالفتح _ بصیغة (إفعل) هوالنسبة الطلبیة ، فمع کون المنشاَء _ بالکسر _ فی مقام البیان وعدم ترخیصه فی الترک ، یستفاد الوجوب ، وهذا بخلاف مادة الأمر ، فإنّها _ بمقتضی وضعها _ تنفی الترخیص فی الترک ، کما یجد ذلک کلّ من لاحظ مرادف مادة الأمر بمعنی الطلب فی سائر اللغات کلفظة (فرمان) فی اللغة الفارسیة وصحّة سلب عنوان الأمر و(فرمان) عن الطلب الاستحبابی .

وبالجملة دلالة صیغة الأمر علی الوجوب إنّما هو بمقتضی إطلاقها الوارد فی مقام البیان، بخلاف مادة الأمر، فإنّه بمقتضی وضعها له، وذلک لأنّ الفرق بین الوجوب والاستحباب لا یکون بشدّة الطلب وضعفه ، کما علیه الماتن قدس سره.

لکن لا من أجل أنّ الوجوب والندب أمران اعتباریّان والشدّة والضعف لا یکونان فی الأُمور الاعتباریة ، وذلک لثبوتهما فی بعض الأُمور الاعتباریة کالتعظیم والتحقیر وغیرهما ، فیکون الفعل الفلانی أقوی تعظیما من الفعل الآخر.

بل لأنّا نری بالوجدان أنّ الطلب لا یکون شدیداً فی موارد الوجوب وضعیفاً فی موارد الاستحباب . وأمّا شدّة الشوق وضعفه ، فهو خارج عن الحکم ومدلول صیغة الأمر ومادّته.

کما أنّ الفرق بین الوجوب والاستحباب لا یکون بترکّب الوجوب من طلب

ص :280

«ما منعک ألا تسجد إذ أمرتک».

وتقسیمه إلی الإیجاب والإستحباب، إنّما یکون قرینة علی إرادة المعنی الأعم منه فی مقام تقسیمه، وصحة الإستعمال فی معنی أعمّ من کونه علی نحو الحقیقة، کما لا یخفی، وأمّا ما أفید من أن الإستعمال فیهما ثابت، فلو لم یکن الشَرح:

الفعل والمنع عن ترکه ، والاستحباب طلب الفعل مع الترخیص فی ترکه کما علیه القدماء ، بل الفرق بینهما فی إطلاق الطلب ، فإنّه لا یکون فی موارد الوجوب ترخیص فی ترک الفعل ، بخلاف موارد الندب فإنّ الطلب فیها موصوف بثبوت الترخیص فی الترک ، ولذا یکون مجرد الطلب مع عدم الترخیص کافیا فی استقلال العقل بلزوم اتّباعه ولا یحتاج إلی إحراز المنع عن ترکه .

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما یذکر فی امتیاز الوجوب عن الندب بکون مصلحة الفعل فی الأوّل تامّة وفی الثانی ناقصة لا یمکن المساعدة علیه ، فإنّ المائز بین الطلب الوجوبی والندبی هو ما ذکرناه ، حتّی بناءً علی إنکار المصالح والمفاسد فی المتعلقات ، نعم المصلحة غیر الملزمة توجب الترخیص فی الترک بخلاف الملزمة .

ولا یخفی أنّ الطلب لو کان مستفادا من مادة الأمر ، فجمیع مشتقاتها تدلّ علی الطلب بلا فرق بینها ، دون ما إذا کان مستفادا من صیغة الأمر فحسب ، حیث إنّ الهیئة تکون دالّة علی الطلب ، والمادة تدلّ علی متعلق النسبة الطلبیة .

وعن المحقّق النائینی قدس سره أنّ کلاًّ من الوجوب والندب من حکم العقل ولیسا من المدالیل اللفظیة ، فإنّ العقل یری بمقتضی العبودیة والرقّیة لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولی ، ولا معنی للوجوب إلاّ إدراک العقل لابدّیة الخروج عن عهدة الفعل ، وذکر أیضاً أنّ المنشأ بمادة الأمر أو بصیغته کون المادة فی عالم التشریع علی

ص :281

موضوعاً للقدر المشترک بینهما لزم الإشتراک أو المجاز، فهو غیر مفید، لما مرت الإشارة إلیه فی الجهة الأولی، وفی تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة، وکل طاعة فهو فعل المأمور به، فیه ما لا یخفی من منع الکبری، لو أرید من المأمور به معناه الحقیقی، وإلاّ لا یفید المدعی.

الشَرح:

المکلف وإیقاعها علیه(1) .

أقول : لا أظن أنّ أحدا لا یلتزم بحکم العقل فی موارد طلب الفعل وإیجابه علی المکلّف ، ولکنّ حکم العقل بلا بدّیة الفعل یختص بصورة وصول التکلیف المجعول علی المکلف مع عدم وصول الترخیص فی الترک ، کما أنّ العقل مع وصول الطلب وترخیص المولی فی الترک لا یحکم باللابدّیة ، بل یحکم بکون المکلّف علی خیار ، إلاّ أنّ الکلام فی المقام فی منشأ هذا الحکم .

وقد ذکرنا أنّ منشأه إطلاق الطلب أو اقترانه بالترخیص کما ذکرنا أنّ مادة الأمر بمقتضی وضعها تثبت الطلب المطلق بلا حاجة إلی ضمّ مقدّمات الاطلاق ، بخلاف صیغة (إفعل) فإنّ ظهورها فی الطلب المطلق بمقدمات الحکمة لا بالوضع ، وهذا کما یقال فی الفرق بین العامّ الوضعی والاطلاق الشمولی أو غیره .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أنّ المنشأ والمعتبر ، فی موارد استعمال الصیغة أو مادة الأمر ، کون المادة علی المکلّف ، کما هو ظاهر الإیقاع علیه ، فیدفعه شهادة الوجدان علی أنّ السامع لا یجد فرقا فی المستعمل فیه للصیغة بین موارد الطلب الوجوبی والطلب الندبی ، فلو کان المستعمل فیه لصیغة الأمر إیقاع المادة علی المکلّف ،

ص :282


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 95 .

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذی یکون هو معنی الأمر [1]، لیس هو الطلب الحقیقی الذی یکون طلباً بالحمل الشائع الصناعی، بل الطلب الإنشائی الذی

الشَرح:

لکان هو المستعمل فیه فی کلا الموردین ، والحال أنّه لم یکن مستعملاً فیه فی الندب بالضرورة ، فلم یکن فی الوجوب أیضاً کذلک . نعم اعتبار المولی الفعل علی عهدة المکلف داخل فی عنوان الإیجاب ، فیما إذا کان بداعی صدور الفعل من المکلف ، إلاّ أنّ هذا لیس بالمعنی الموضوع له والمستعمل فیه للصیغة ، بل المتبادر منها فی موارد استعمالها ، البعث إلی المادة وتحریک المخاطب نحو صدور الفعل عنه ، غایة الأمر البعث والتحریک اعتباری ، فإذا کان مطلقا اتّصف بالإیجاب ، وإذا کان مقترنا بالترخیص فی الترک ، اتّصف بالندب ، کما ذُکر .

وأمّا ما فی الکلمات من أنّ الوجوب بمعنی الثبوت ، فلا یدلّ علی أنّ معنی الثبوت هو الثبوت علی الذمة ، بل الثبوت بالمعنی اللغوی یعمّ الندب أیضاً ، لثبوت الطلب بالإضافة إلی المندوبات أیضاً .

الطلب والإرادة

[1] حاصله أنّ للطلب نحوین من التحقّق:

النحو الأول: الطلب الاعتباری الذی یوجد وینشأ باستعمال اللفظ ویحمل علیه الطلب بالحمل الأوّلی ، بناءً علی انحصار الحمل الشائع الصناعی بحمل الطبیعی علی فرده العینی ، علی ما ذکره بعض فی بحث الوجود الذهنی ، ولفظ الأمر موضوع لهذا النحو من الطلب سواء کان إنشائه بصیغة الأمر أو بمادّته أو بمادة الطلب، فإنّه إذا قیل: أمر فلان فلانا، یفهم منه أنّه طلب منه طلبا إنشائیا.

والنحو الثانی: الطلب الحقیقی الذی هو أمر نفسانی یحمل علیه عنوان الطلب

ص :283

لا یکون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائیاً، سواء أنشئ بصیغة إفعل، أو بمادّة الطلب، أو بمادّة الأمر، أو بغیرها، ولو أبیت إلاّ عن کونه موضوعاً للطلب فلا أقل من کونه منصرفاً إلی الإنشائی منه عند إطلاقه کما هو الحال فی لفظ الطلب أیضاً، وذلک لکثرة الإستعمال فی الطلب الإنشائی، کما أنّ الأمر فی لفظ الإرادة علی عکس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقیقیة واختلافهما فی ذلک ألجأ بعض أصحابنا إلی المیل إلی ما ذهب إلیه الأشاعرة، من المغایرة بین الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الکلام إلی بیان ما هو الحق فی المقام، وإن حققناه فی بعض فوائدنا إلاّ أنّ الحوالة لمّا لم تکن عن المحذور خالیة، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة، کان المناسب هو التعرض ها هنا أیضاً.

الشَرح:

بالحمل الشائع ، وإن أبیت إلاّ عن کون لفظ الأمر موضوعا لمطلق الطلب ، فلا أقلّ من کونه منصرفا عند إطلاقه إلی الانشائی منه ، لما ذکرنا من تبادره منه ، فیکون لفظ الأمر حاله حال لفظ الطلب ، فإنّ لفظ الطلب مع کونه موضوعا لمطلق الطلب ینصرف عند إطلاقه إلی الإنشائی منه ، وکذلک للإرادة نحوین من الوجود : حقیقی واعتباری ، وعند إطلاقها تنصرف إلی الحقیقی منهما الذی هو عین الطلب الحقیقی ، عکس لفظ الأمر والطلب ، فلفظ الإرادة ولفظ الطلب مترادفان ومتحدان مفهوما ومصداقا ، ومختلفان فی المعنی المنصرف إلیه ، حیث إنّ الأوّل ینصرف إلی الحقیقی منه ، والثانی إلی الإنشائی منه .

ولا یبقی مجال لتوهم أنّ فی النفس غیر الإرادة ومقدّماتها صفة أُخری قائمة بها تکون طلبا ، کما التزم به أبوالحسن الأشعری ، وسمّاه بالکلام النفسی ، الذی یکون فی موارد الأمر ، والوجه فی عدم المجال لذلک أنّ مراجعة الإنسان وجدانه کافیة فی

ص :284

فاعلم، أنّ الحق کما علیه أهله _ وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة _ هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنی أن لفظیهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما فی الخارج یکون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغیره عین الإرادة الإنشائیة، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطلب الإنشائی الذی هو المنصرف إلیه إطلاقه _ کما عرفت _ متحد مع الإرادة الحقیقیة التی ینصرف إلیها إطلاقها أیضاً، ضرورة أن المغایرة بینهما أظهر من الشمس وأبین من الأمس. فإذا عرفت المراد من حدیث العینیة والاتحاد، ففی مراجعة الوجدان عند طلب شیء والأمر به حقیقة کفایة، فلا یحتاج إلی مزید بیان وإقامة برهان، فإن الإنسان لا یجد غیر الإرادة القائمة بالنفس صفة أخری قائمة بها، یکون هو الطلب غیرها، سوی ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشیء والمیل وهیجان الرغبة إلیه، والتصدیق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما یوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

الشَرح:

أن یحصل له الیقین بأنّه عند طلب الفعل ولو من الغیر لا یجد من نفسه شیئاً غیر الإرادة ، أی الشوق المؤکّد المستتبع لتحریک عضلاته فی موارد إرادة الفعل بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبده فی موارد إرادته لا بالمباشرة ، ولا توجد صفة أُخری لتکون حقیقة الطلب ، بل لا توجد فی النفس مع الإرادة إلاّ مقدّماتها التی تتحقّق عند خطور الشیء علی قلبه والمیل إلیه أی هیجان رغبته إلیه ، والتصدیق بفائدته ، وهی الجزم بدفع ما یوجب توقّفه عن طلب الفعل وإرادته لأجل تلک الفائدة . وبتعبیرٍ آخر : الجزم المزبور فی الحقیقة هو الجزء الأخیر من مبادئ الإرادة ، وتحصل الإرادة عندخطور الفعل _ أی حضوره فی الذهن _ والمیل إلیه والتصدیق لفائدته والجزم بعدم المانع عن إرادته .

ثمّ إنّه قدس سره قد تعرّض لحال سائر الصیغ الإنشائیة والجمل الخبریة ، وذکر أنّ فی

ص :285

وبالجملة: لا یکاد یکون غیر الصفات المعروفة والإرادة هناک صفة أخری قائمة بها یکون هو الطلب، فلا محیص عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن یکون ذلک الشوق المؤکد المستتبع لتحریک العضلات فی إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبیده به فیما لو أراده لا کذلک، مسمّی بالطلب والإرادة کما یعبر به تارة وبها أخری، کما لا یخفی.

وکذا الحال فی سائر الصیغ الانشائیة، والجمل الخبریة، فإنّه لا یکون غیر الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجی والتمنی والعلم إلی غیر ذلک، صفة أخری کانت قائمة بالنفس، وقد دلّ اللفظ علیها، کما قیل:

إنّ الکلام لفی الفؤاد وإنّما جعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً

وقد انقدح بما حققناه، ما فی استدلال الأشاعرة علی المغایرة بالأمر مع عدم الإرادة، کما فی صورتی الاختبار والاعتذار من الخلل، فإنّه کما لا إرادة حقیقة فی الصورتین، لا طلب کذلک فیهما، والذی یکون فیهما إنّما هو الطلب الإنشائی الإیقاعی، الذی هو مدلول الصیغة أو المادة، ولم یکن بیّناً ولا مبیّناً فی الإستدلال مغایرته مع الإرادة الإنشائیة.

الشَرح:

موارد إنشاء الترجّی والتمنّی مثلاً لا یکون فی النفس غیر الترجّی وغیر التمنّی وفی مورد الإخبار غیر العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، صفات أُخری تکون تلک الصفات حقیقة التمنّی والترجی وحقیقة الإخبار ، کما التزم به الأشعری وسمّاها بالکلام النفسی ، وزعم أنّ الکلام اللفظی دالّ علیه ، کما یشیر إلیه ما قیل :

«إنّ الکلام لفی الفؤاد وإنّما جُعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً»

وعمدة ما استدلّ به الأشاعرة علی مغایرة الطلب مع الإرادة هو أمر المولی عبده بفعلٍ لا یریده منه ، کما فی موارد الاختبار والاعتذار _ والمراد بالاعتذار أن

ص :286

وبالجملة: الذی یتکفّله الدلیل، لیس إلاّ الانفکاک بین الإرادة الحقیقیة، والطلب المنشأ بالصیغة الکاشف عن مغایرتهما. وهو ممّا لا محیص عن الإلتزام به، کما عرفت، ولکنه لا یضرّ بدعوی الاتحاد أصلاً، لمکان هذه المغایرة والانفکاک بین الطلب الحقیقی والإنشائی، کما لا یخفی.

ثمّ إنّه یمکن _ مما حققناه _ أن یقع الصلح بین الطرفین، ولم یکن نزاع فی البین، بأن یکون المراد بحدیث الاتحاد ما عرفت من العینیة مفهوماً ووجوداً حقیقیاً وإنشائیاً، ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیة هو اثنینیة الإنشائی من الطلب، کما هو کثیراً ما یراد من إطلاق لفظه، والحقیقی من الإرادة، کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها، فیرجع النزاع لفظیاً، فافهم.

الشَرح:

یکون غرض المولی من أمره عصیان العبد ، لیعتذر عن توبیخه وعقابه علی مخالفته _ ففی موردهما یجد الآمر من نفسه حقیقة أمره وطلبه ، مع أن_ّه لا یرید فعله ، وهذا شاهد لکون الطلب غیر الإرادة کما استدلّ علی ثبوت الکلام النفسی بثبوت المدلول فی مقامات الاخبار کذبا أو تردّدا(1) .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّه کما لا إرادة فی موارد الاختبار والاعتذار ، کذلک لا طلب حقیقیّ فی مواردهما ، بل الموجود الطلب الإنشائی ، وقد یعبّر عنه بالإرادة الإنشائیة ، وإنّما الاختلاف بین الإرادة والطلب ، کما تقدّم فی المعنی المنصرف إلیه منهما .

وذکر قدس سره أنّه یمکن أن یقع التصالح بین الطرفین ویرتفع النزاع فی البین بأن یکون مراد الأشعری من المغایرة مغایرة الطلب الإنشائی مع الإرادة الحقیقیة ، ومراد معظم

ص :287


1- (1) شرح تجرید الاعتقاد للقوشجی : ص246 .

دفع وهم: لا یخفی أنّه لیس غرض الأصحاب والمعتزلة، من نفی غیر الصّفات المشهورة، وأنّه لیس صفة أخری قائمة بالنفس کانت کلاماً نفسیاً مدلولاً للکلام اللفظی، کما یقول به الأشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للکلام.

إن قلت: فماذا یکون مدلولاً علیه عند الأصحاب والمعتزلة؟

الشَرح:

الأصحاب والمعتزلة من الاتحاد اتّحاد الطلب الحقیقی مع الإرادة الحقیقیة .

أقول : لا یمکن ان یکون النزاع بین الطرفین لفظیا ، فإنّ الأشعری یلتزم بالکلام النفسی ، ویجعله من صفات الحقّ (جلّ وعلا) وأن_ّه غیر العلم والإرادة ، ویقول بأنّ الکلام اللفظی کاشف عنه وطریق الوصول إلیه ، وعلیه فلابدّ من فرض صفة زائدة علی العلم والإرادة ، حیث إنّه سبحانه کما یوصف بأنّه عالم ومرید ، یوصف بأنّه متکلّم ، ولعلّه إلی ذلک أشار فی آخر کلامه بقوله «فافهم» .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : أنّ قضیة الکلام النفسی علی ما التزم به الأشعری وإن کان أمرا موهوما _ إذ لیس فی النفس غیر الإرادة ومبادئها ، وغیر العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وغیر تصور النسبة بأطرافها ، أمر آخر یکون کلاماً نفسیاً ، والإرادة الخارجیة وإن لم تکن مدلولاً للأمر لا بمادّته ولا بصیغته ولا بغیرهما ، کما لا یکون مدلول الجملة الخبریة العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ؛ إذ دلالتها علی تصوّر المتکلم لمدلول الکلام عقلیة ، والعلم بتحقّق النسبة خارجا یستفاد من أمرٍ آخر غیر نفس الکلام _ إلاّ أنّه مع ذلک کلّه لا یکون الطلب حقیقة عین الإرادة ، فإنّ الطلب هو الاشتغال بتحقیق المطلوب والوصول إلیه بالشروع فی فعل أو أفعال یترتّب علیه أو علیها ذلک المقصود جزما أو احتمالاً ، ولذا یطلق علی من یجتهد فی تحصیل متاع الدنیا وغرورها أن_ّه طالبها ، وللحاضر فی المجالس العلمیة بغرض التعلّم أن_ّه طالب العلم ، وعلی السائر فی مظانّ الوصول إلی الضالّة بغرض الوصول إلیها أن_ّه طالبها ،

ص :288

قلت: أم_ّا الجمل الخبریة، فهی دالّة علی ثبوت النسبة بین طرفیها، أو نفیها فی نفس الأمر من ذهن أو خارج، کالإنسان نوع أو کاتب.

وأمّا الصیغ الإنشائیة، فهی _ علی ما حققناه فی بعض فوائدنا _ موجدة لمعانیها فی نفس الأمر، أی قصد ثبوت معانیها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود، وربّما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً وعرفاً آثار، کما هو الحال فی صیغ العقود والإیقاعات.

الشَرح:

والطلب فی هذه الموارد حقیقی ، وهو کما تری غیر الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو الفعل ، فلا یکون مجرّد الاشتیاق طلبا مهما کان بالغا وشدیدا ، وإنّما الطلب هو التصدّی لتحصیل المطلوب بالاشتغال بالفعل والشروع فیه .

وبالجلمة إن کان المدّعی أنّ المفهوم من لفظ الطلب عین المفهوم من لفظ الإرادة ، فلم یقم علی ذلک دلیل ، إلاّ مجرّد دعوی الوجدان ، ولعلّه لم یذهب إلیه غیر صاحب الکفایة قدس سره ، والقائلون بالاتّحاد یریدون الاتّحاد عینا ، واستشهدوا بالوجدان علی هذا الاتحاد ، مع أنّ صدق الإرادة دون الطلب فیما إذا لم یتصدّ لتحصیل المطلوب کافٍ فی الإذعان باختلافهما مفهوما وخارجا ، حیث إنّ الإرادة من الکیف النفسانی ، والطلب من مقولة الفعل .

وعلی ذلک فتصدّی المولی لتحصیل مقصوده بأمر الغیر بإتیان المطلوب یکون طلبا ، فیکون الأمر بمادة الأمر أو بصیغته أو بغیرهما مصداقا للطلب ، لا أنّ المستعمل فیه فی الموارد المذکورة معنی لفظ الطلب ومفهومه ، کما هو ظاهر الکفایة ، بل المستعمل فیه فی جمیع ذلک إیقاع المادة علی الغیر تشریعا واعتبار کون الفعل علی عهدته ، کما تقدّم (1) .

ص :289


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 88 .

نعم لا مضایقة فی دلالة مثل صیغة الطلب والإستفهام والترجی والتمنی _ بالدلالة الإلتزامیة _ علی ثبوت هذه الصفات حقیقة، إمّا لأجل وضعها لإیقاعها، فیما إذا کان الداعی إلیه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلی هذه الصورة، فلو لم تکن هناک قرینة، کان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غیرهما بصیغتها، لأجل کون الطلب والإستفهام وغیرهما قائمة بالنفس، وضعاً أو إطلاقاً.

الشَرح:

أقول : ما ذکره قدس سره من أنّ الطلب غیر الإرادة فهو صحیحٌ ، سواء قیل بأنّ الإرادة هی الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو الفعل ، أو قیل بأنّ الإرادة غیر الشوق المزبور، کما سیأتی ، بل هی عبارة عن اختیار أحد طرفی الشیء من الفعل أو الترک ، فإنّ الطلب لا یطلق علی شیءٍ منهما ، بل هو عنوان للحرکة نحو الفعل والتصدّی لحصوله .

إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ المُنشأ بمادة الأمر وبصیغته أو بغیرهما هو النسبة الإیقاعیة، ویکون المُنشأ بعد إنشائه واعتباره مصداقا للطلب، حیث إنّ الطلب تصدّی المولی للوصول إلی مقصوده وهو فعل العبد، لا یمکن المساعدة علیه؛ إذ تقدّم أنّ الوجدان فی موارد إیجاب الفعل وندبه شاهدٌ علی أنّ المستعمل فیه للصیغة أمرٌ واحد، مع أنّه لا یکون للمکلّف عهدة فی موارد الندب، فلابدّ من أن یکون «کون الفعل علی العهدة» خارجا عن المستعمل فیه، ولا منافاة بین أن یکون المنشأ فیها عنوان الطلب، ویکون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للطلب، فلاحظ قول البائع: بعت مالی بکذا، فإنّه إنشاء لعنوان البیع، ویکون المنشأ بعد إنشائه مصداقا للبیع.

نعم لا ینحصر مصداق الطلب بإنشاء عنوانه ، بل یحصل ذلک العنوان باعتبار الفعل علی عهدة العبد وإبرازه بمبرزٍ ، مثل قوله : علیک أو علیه هذا العمل ، فیما إذا کان القصد انبعاثه إلی ذلک العمل أو لرجاء الانبعاث ، إلاّ أنّ ذلک لیس معنی

ص :290

إشکال ودفع: أمّا الإشکال [1]، فهو إنّه یلزم بناءً علی اتحاد الطلب والإرادة، فی تکلیف الکفار بالایمان، بل مطلق أهل العصیان فی العمل بالأرکان، إمّا أن لا یکون هناک تکلیف جدّی، إن لم یکن هناک إرادة، حیث إن_ّه لا یکون حینئذ طلب حقیقی، واعتباره فی الطلب الجدّی ربما یکون من البدیهی، وإن کان هناک إرادة، فکیف تتخلف عن المراد؟ ولا تکاد تتخلف، إذا أراد اللّه شیئاً یقول له: کن فیکون.

الشَرح:

الصیغة ، کما تقدّم .

ثمّ إنّه قد یراد من الإرادة معنی الطلب ، أی التصدّی لتحصیل الشیء والوصول إلیه ، کما یقال لمن یفحص عن ضالّته بالمشی أو بغیره : إنّه یرید ضالّته ، أی یطلبها ، ویقال : یرید اللّه (عزّ وجلّ) من العباد ، یعنی یطلب منهم ، إلی غیر ذلک . إلاّ أنّ الکلام فی ظهور الإرادة ومعناها الانسباقی وهو غیر الطلب ، لا فی جواز استعمال کلّ منهما فی الآخر مع القرینة .

بیان مسلک الجبر وشبه الجبر وإبطالهما

:

[1] یعنی بناءً علی أنّ الإرادة عین الطلب الحقیقی ، ففی موارد تکلیف الکفّار بالإیمان بل فی تکلیف العصاة بالواجبات وترک المحرّمات إمّا أن لا یکون تکلیف جدّی بأن یکون التکلیف بالإضافة إلیهم صوریا وإنشائیا محضا بأن لا تکون فی البین إرادة من اللّه سبحانه بالإضافة إلی عملهم ، وإمّا أن یلزم تخلّف إرادته تعالی عن مراده فیما إذا کان التکلیف جدّیا ، وهذا کما ذکرنا مبنیّ علی اتّحاد الطلب الحقیقی والإرادة ، وأمّا بناءً علی تغایرهما وتعدّدهما خارجا فالتکلیف والطلب الحقیقی یثبت فی حقّ الکفار والعصاة کما یثبت فی حقّ أهل الإیمان والطاعة ، فلا یلزم محذور عدم ثبوت التکلیف الجدّی .

ص :291

وأمّا الدفع، فهو أن استحالة التخلف إنّما تکون فی الإرادة التکوینیة وهی العلم بالنظام علی النحو الکامل التام، دون الإرادة التشریعیة، وهی العلم بالمصلحة فی فعل المکلّف. وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیة لا التکوینیة، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والایمان، وإذا تخالفتا، فلا محیص عن أن یختار الکفر والعصیان.

إن قلت: إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإیمان، بإرادته تعالی التی الشَرح:

وأجاب قدس سره بثبوت التکلیف الجدّی فی حقّ الکفار والعصاة بثبوت الإرادة فی موارد التکلیف ، حتّی بالإضافة إلیهما ، ولا یلزم تخلّف إرادة اللّه (عزّ وجلّ) عن مراده ؛ لأنّ الثابت فی موارد التکلیف هی الإرادة التشریعیة ، وتخلّف هذه الإرادة لا محذور فیه ، وإنّما المحذور فی تخلّف الإرادة التکوینیة عن المراد ، ولا یلزم فی موارد التکالیف ثبوت الإرادة التکوینیة علی وفاق الإرادة التشریعیة .

وتوضیح ذلک علی ما ذکره قدس سره أنّ الإرادة التکوینیة التی هی من صفات الذات للّه (جلّ وعلا) هی العلم بالنظام علی النحو الکامل التام(1) ، وهذه الإرادة لا یمکن أن تتخلّف عن المراد . وأمّا الإرادة التشریعیة فهی العلم بالصلاح فی فعل العبد وهذه الإرادة التی لابدّ منها فی التکلیف یمکن أن تتخلّف ، وعلی ذلک فإن توافقت الإرادة التشریعیة والتکوینیة بأن کان العلم بالصلاح داخلاً فی العلم بالنظام علی النحو الکامل التامّ ، فلابدّ من الإطاعة والإیمان ، وإذا لم یدخل فیه فلابدّ من أن یختار العبد الکفر والعصیان حیث إنّ ما لم یرد بالإرادة التکوینیة لا یکاد یوجد .

ص :292


1- (1) کشف المراد : 314؛ الأسفار : 6 / 360؛ شرح المنظومة : 184 . هذا التفسیر للإرادة هو المعروف والمشهور عند الفلاسفة وعندهم أنّها من صفات الذات لا من صفات الأفعال .

لا تکاد تتخلف عن المراد، فلا یصح أن یتعلق بها التکلیف، لکونها خارجة عن الاختیار المعتبر فیه عقلاً.

قلت: إن_ّما یخرج بذلک عن الاختیار، لو لم یکن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختیاریة، وإلاّ فلا بد من صدورها بالاختیار، وإلاّ لَزِم تخلف إرادته عن مراده، تعالی عن ذلک علواً کبیراً.

الشَرح:

ومن هنا ینفتح باب المناقشة فی اختیار العباد فی أفعالهم بأنّه إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإیمان بإرادته (تعالی) التی لا یمکن تخلّفها عن المراد ، فکیف یمکن تعلّق التکلیف بأفعالهم الخارجة عن اختیارهم ؟ مع أنّ الاختیار یعتبر فی التکلیف عقلاً .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال بما حاصله : أنّ الإرادة التکوینیة تعلّقت بالکفر والعصیان أو الإیمان والطاعة الناشئ کلّ منها عن إرادة العبد واختیاره ، وهذا التعلّق لا یوجب خروج أفعالهم عن اختیارهم لئلاّ یصحّ التکلیف بها ، ولو خرجت بذلک عن اختیارهم لزم تخلّف إرادة اللّه (تعالی) عن مراده ، حیث إنّ المراد هو الکفر والعصیان والإیمان والطاعة الصادرة من العباد عن اختیارهم ، وما تقدّم من أن_ّه إذا توافقتا فلا محیص عن الطاعة والإیمان فالمراد أنّه لا محیص عن الطاعة والإیمان الاختیاریین ، کما أنّ المراد من قولنا : (فلا محیص عن الکفر والعصیان) هو أنّه لا محیص عن اختیارهما .

ولکن لا یخفی أنّ المناقشة فی کون أفعال العباد اختیاریة لهم ، لا تنتهی بما ذکره ، وإلی ذلک أشار بقوله «إن قلت : إنّ الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین... إلخ» وحاصلها أنّ الکفر والعصیان وإن کانا ناشئین عن إرادة العبد واختیاره ، إلاّ أنّ إرادة العبد واختیاره ناشٍ عن مبادٍ غیر اختیاریّة وحاصلة بإرادة اللّه

ص :293

إن قلت: إنّ الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین بإرادتهما، إلاّ أنّهما منتهیان إلی ما لا بالاختیار، کیف؟ وقد سبقهما الإرادة الأزلیّة والمشیّة الإلهیّة، ومعه کیف تصح المؤاخذة علی ما یکون بالآخرة بلا اختیار؟.

قلت: العقاب إنّما بتبعة الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشئ عن الشَرح:

(تعالی) ومشیّته ، حیث إنّ خطور الفعل والتصدیق بفائدته والمیل (أی هیجان الرغبة) والجزم بعدم المانع لا یکون من واجب الوجود حتّی لا یحتاج إلی علّة ، ولا یکون حصولها بإرادة العبد وإلاّ لزم التسلسل ، فلابدّ من أن یؤثّر فیها إرادة اللّه (تعالی) ومشیّته ، فتکون النتیجة أنّ العقاب والمؤاخذه تکون علی ما یکون بالمآل بلا اختیار ، وهذا فی الحقیقة مذهب الجبریة ، وهو أنّ المؤثّر فی فعل العبد إرادة اللّه (تعالی) ومشیّته .

وأجاب عن ذلک أنّ العقاب یکون علی الکفر والعصیان ، وبتعبیرٍ آخر : استحقاق العقاب یتبع الکفر والعصیان (أی یلزمهما) والکفر والعصیان یتبعان إرادتهما ، وإرادتهما ناشئة عن مبادئها الناشئة عن الشقاوة الذاتیة للکافر والعاصی ، واللازم الذاتی لایحتاج إلی الجعل والعلّة ، فإنّ «السعید سعید فی بطن أُمّه ، والشقیّ شقیّ فی بطن أُمّه»(1) ، و«النّاس معادن کمعادن الذهب والفضة»(2) کما فی الخبر . وعلیه فالإطاعة والإیمان من المؤمن والمطیع تتبع إرادتهما الناشئة من مبادئها الناشئة عن السعادة الذاتیة اللازمة لخصوص الذات ، ونتیجة کلّ ذلک ، بما أنّ لوازم الذات لا یتعلق بها الجعل ، فلا تکون مبادئ إرادة الطاعة والإیمان أو الکفر والعصیان

ص :294


1- (1) التوحید للصدوق رحمه الله : ص356 ، الباب 58 ، الحدیث 3 .
2- (2) الروضة من الکافی : 8 / 177 ، الحدیث 197؛ مسند أحمد بن حنبل : 2 / 539 .

مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن (السعید سعید فی بطن أمه، والشقی شقی فی بطن أمه) و (الناس معادن کمعادن الذهب والفضة)، کما فی الخبر، والذاتی لا یعلّل، فانقطع سؤال: إنّه لِمَ جعل السعید سعیداً الشَرح:

حاصلة بإرادة الحقّ (جلّ وعلا) ، کما هو مقتضی مذهب الجبریة . وقوله : «قلم اینجا رسید سر بشکست» کنایة عن انقطاع السؤال بلم .

حقیقة الإرادة من اللّه (سبحانه) ومن العبد

:

أقول : ما ذکره فی المقام وإن کان غیر مذهب الجبریة الملتزمین بأنّ تعلّق الإرادة الازلیة بفعل العبد ، هو الموجب لحصول الفعل منه بالإرادة ، وأنّ إرادة العبد مغلوبة لإرادة اللّه (تعالی) وإرادة اللّه هو الموجب للفعل ، إلاّ أنّ ما ذکره شبه الجبر فی نفی الاختیار حقیقة عن العباد فی أفعالهم ، فإنّ أفعالهم وإن کانت بإرادتهم ، وإرادتهم هی الموجبة لحصولها ، إلاّ أنّ سلسلة صدور الفعل ینتهی إلی ما لا یکون باختیار العباد ، وهی المبادئ المنتهیة إلی شقاوة الذوات وسعادتها.

فینبغی فی المقام التعرّض لما یظهر من کلام الماتن قدس سره وجوابه ، وبسط الکلام عن إرادة اللّه (عزّ وجل) وإرادة العبد بما یسع المجال فی هذا المختصر ، فنقول وعلیه التکلان:

إنّه یمکن تلخیص ما ذکره ضمن أُمور:

الأوّل: إن المنشأ بالأمر حتّی فی الخطابات الإلهیة هو الطلب الإنشائی ، والطلب الإنشائی یکون منبعثا من الطلب الحقیقی ، والطلب الحقیقی من اللّه (سبحانه) هو علمه بصلاح الفعل الصادر عن المکلف دون الإرادة التکوینیة منه (تعالی) التی هی العلم بالنظام الکامل التامّ . نعم ربّما توافقت الإرادة التکوینیة

ص :295

والشقی شقیاً؟ فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک، وإنّما أوجدهما اللّه تعالی (قلم اینجا رسید سر بشکست)، قد إنتهی الکلام فی المقام إلی ما ربّما لا یسعه کثیر من الافهام، ومن اللّه الرّشد والهدایة وبه الإعتصام.

وهم ودفع: لعلّک تقول: إذا کانت الإرادة التشریعیة منه تعالی عین علمه بصلاح الفعل، لزم _ بناءً علی أن تکون عین الطلب _ کون المنشأ بالصیغة فی الشَرح:

والطلب الحقیقی المعبّر عنه بالإرادة التشریعیة ، فلا محیص عن اختیار الطاعة والإیمان ، وربّما تخالفتا فلا محیص عن اختیار الکفر والعصیان .

الثانی: أنّ لزوم الطاعة والإیمان عند توافق الإرادتین واختیار الکفر والإیمان عند تخالفهما لا یوجب خروج الفعل عن اختیار العبد وصدوره عنه بإرادته ، وأنّ المؤثّر فی حصول الفعل هی إرادة العبد التی فسّرها فی کلماته _ تبعا للقوم _ بالشوق المؤکّد المحرّک للعضلات .

الثالث: أنّ إرادة العبد المتعلّقة بالطاعة والإیمان أو بالکفر والعصیان ، وإن افتقرت فی تحقّقها إلی المؤثّر لعدم کونها ضروریة وواجبة حتّی تستغنی عن العلّة وإنّ مبادئها عند اجتماعها هی المؤثّرة فی تحقّق الارادة ، إلاّ أنّ حصول تلک المبادئ غیر مستندٍ إلی إرادة اللّه (سبحانه) ، بل تستند إلی ما هو لازم الذات من السعادة والشقاوة ، وشیء منهما لا یعلّل ، حیث إنّ اللازم للذات لا یحتاج إلی علّة ، بل یوجد بتبع وجود الشیء لا محالة .

وأساس هذه الأُمور الثلاثة ، هو الالتزام بأمرین :

أحدهما: إنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات ، وعلیه تکون إرادته تعالی عین علمه ، سواء کانت الإرادة تکوینیة أو تشریعیة ، وبذلک صرّح فی کلامه قدس سره فی

ص :296

الخطابات الإلهیة هو العلم، وهو بمکان من البطلان.

لکنّک غفلت عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنّما یکون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت أن المنشأ لیس إلاّ المفهوم، لا الطلب الخارجی، ولا غرو أصلاً فی اتحاد الإرادة والعلم عیناً وخارجاً، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته تعالی، لرجوع الصفات إلی ذاته المقدسة، قال أمیر المؤمنین (صلوات اللّه وسلامه علیه): (وکمال توحیده الإخلاص له، وکمال الإخلاص له نفی الصفات عنه).

الشَرح:

«وهمٌ ودفعٌ» فذکر أنّ المنشأ فی الخطابات الإلهیة لیس هو العلم ، إذ العلم بالصلاح یتحد مع الارادة خارجا ، لا مفهوما . وقد عرفت أنّ المنشأ لیس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجی ، ولا غرو أصلاً فی اتّحاد الإرادة والعلم عینا وخارجا ، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته (تعالی) لرجوع الصفات إلی ذاته المقدّسة ، قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : «وکمال توحیده الاخلاص له ، وکمال الاخلاص له نفی الصفات عنه»(1) .

ثانیهما: أنّ الممکن لا یوجد إلاّ مع تمامیّة علّته علی ما هو المعروف بینهم من «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد»(2)، بلا فرق بین الأفعال وغیرها، إرادیة کانت أو غیر إرادیة.

أقول : أمّا الأمر الأوّل وهو ما ذکره قدس سره من أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات وعین العلم بالنظام علی النحو التامّ الکامل ، وإرادته التشریعیة عین العلم بمصلحة الفعل ، فقد أورد علیه المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته بأنّ صفات الذات تختلف کلّ منها مع الصفات الأُخری مفهوماً ، وإنّما یکون مطابقها _ بالفتح _ واحداً

ص :297


1- (1) نهج البلاغة : الخطبة 1 / 39 .
2- (2) الأسفار : 1 / 221 ، الفصل 15 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

خارجاً ؛ لأن_ّه تعالی بذاته صرف القدرة وصرف العلم وصرف الإرادة ، ولکن کلّ منها غیر الآخر مفهوما ، وعلی ذلک فلا یصحّ تحدید إرادته (سبحانه) بالعلم بالنظام الکامل التامّ والعلم بالصلاح ؛ ولذا قال أکابر القوم(1) : إنّ الإرادة فی ذات الحق (جلّ وعلا) هو الابتهاج والرضا وما یقاربهما فی المعنی ، لا العلم بالنظام أو الصلاح فی الفعل . نعم الإرادة فینا هی الشوق المؤکّد .

والسرّ فی الاختلاف وتحدید الإرادة منّا بالشوق المؤکّد وفی ذات الحق (جلّ وعلا) بصرف الابتهاج الذاتی والرضا هو إنّا لمکان إمکاننا وقصور فاعلیّتنا حیث نحتاج _ فی ظهور هذه الفاعلیة إلی الفعلیة _ إلی مقدماتٍ زائدة علی ذاتنا من تصور الفعل والتصدیق بالفائدة ، فبالشوق الأکید تصیر القوة الفاعلیة فعلیّة ومحرّکة للعضلات ، بخلاف ذات الحقّ (جلّ وعلا) ، فإنّه خالٍ عن جهات القوّة والنقص وعدم الفعلیة ، فإنّه فاعل بذاته المریدة ، حیث إنّ ذاته بذاته مبتهجة أتمّ الابتهاج وینبعث عن الابتهاج الذاتی الإرادة الفعلیة ، کما وردت الأخبار بذلک عن الأئمّة الأطهار (صلوات اللّه وسلامه علیهم) ، إنتهی ما أردنا إیراده من کلامه قدس سره (2) .

ولکن لا یخفی أنّ الشوق المؤکّد منّا لا یطلق علیه الإرادة ، فإنّ الإرادة تطلق علی أحد أمرین :

أحدهما: القصد إلی الفعل والعزم والبناء علی العمل .

ثانیهما: بمعنی الاختیار ، وهو صَرف القدرة فی أحد طرفی الشیء من الفعل

ص :298


1- (1) القبسات للسید میرداماد : ص 322 .
2- (2) نهایة الدرایة : 1 / 278 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أو إبقائه علی عدمه ، والشوق المؤکّد غیر هذین الأمرین ، والشاهد علی عدم کون الشوق المؤکّد علّة لصدور الفعل منّا فضلاً عن کونه علّة تامّة هو صدور بعض الأفعال عن الإنسان باختیاره بلا اشتیاق منه إلی الفعل المفروض ، فضلاً عن کونه مؤکّدا ، کما إذا أصابت عضو الإنسان آفة ، یتوقّف دفع سرایتها إلی سائر بدنه والتحفّظ علی حیاته علی قطع ذلک العضو، فإنّ تصدّیه لقطعه بالمباشرة أو بغیرها یکون بلا اشتیاق منه إلی القطع ، بل ربّما لا یحبّ الحیاة بدون ذلک العضو المقطوع ، ولکن یقطعه امتثالاً لما هو الواجب علیه شرعا تخلّصاً من عذاب مخالفة التکلیف ، وأیضاً الشوق المؤکّد قد یتعلّق بفعل لا یتمکّن منه ویعلم بعدم الوصول إلیه ، مع أنّ العاقل لا یرید غیر المقدور له ، وکلّ من الأمرین شاهد قطعی علی أنّ الشوق المؤکّد غیر الإرادة التی لا تتعلّق بغیر المقدور مع الالتفات إلی أن_ّه غیر مقدور ، نعم قد یکون الاشتیاق _ مؤکّدا أو غیر مؤکّد _ داعیا له إلی إرادة المشتاق إلیه أو إرادة الإتیان بأعمال یترتّب علیها ذلک المشتاق إلیه جزما أو احتمالاً ، وهذا أمر نتعرّض له إن شاء اللّه تعالی .

هذا بالإضافة إلینا ، وأمّا بالإضافة إلی ذات الحق (جلّ وعلا) فلا دلیل علی أنّ إرادة اللّه (سبحانه) من صفات الذات حتّی تفسّر بالعلم أو بالابتهاج الذاتی والرضا ، بل قام الدلیل علی أنّها من صفات الأفعال ، کما أنّ الرضا والسخط أیضاً من صفات الأفعال ، ولا یرتبطان بصفات الذات ، کالقدرة والعلم والحیاة .

فقد ورد فی صحیحة عاصم بن حمید عن أبی عبداللّه علیه السلام قال قلت : لم یزل اللّه مریدا ، قال : لا یکون المرید إلاّ لمراد معه ، لم یزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد(1) .

ص :299


1- (1) الکافی : 1 / 109 ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحدیث 1 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وفی صحیحة صفوان بن یحیی قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : أخبرنی عن الإرادة من اللّه ومن الخلق ؟ فقال : الإرادة من الخلق الضمیر وما یبدو لهم بعد ذلک من الفعل ، وأمّا من اللّه تعالی فإرادته إحداثه لا غیر ذلک ؛ لأن_ّه لا یروّی ولا یهمّ ولا یتفکّر ، وهذه الصفات منفیة عنه وهی صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لا غیر ، یقول له کن فیکون ، بلا لفظٍ ولا نطقٍ بلسان ، ولا همّةٍ ولا تفکّر ، ولا کیف لذلک ، کما أن_ّه لا کیف له(1) ، وظاهر نفی الکیف نفی الابتهاج .

والوجدان أکبر شاهدٍ علی أنّ أفعال العباد من الطاعة والعصیان والإیمان والکفر ، کلّها خارجة عن إرادة اللّه ومشیتّه ، بل إرادته ومشیّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بتشریع تلک الأفعال علی العباد ، وجعل الدنیا دار الابتلاء والامتحان لهم ؛ لیتمیّز الخبیث من الطیّب ، ومن یستمع قول الحقّ ویتّبعه عمّن یعرض عنه وینسی ربَّه ویومَ الحساب ، ویشتغل بالدنیا وغرورها . نعم بما أنّ أفعال العباد تصدر عنهم بحول اللّه وقوّته ، یعنی بالقدرة التی أعطاها ربّ العباد إیّاهم ، وأرشدهم إلی ما فیه الرشد والهدایة وسعادة دنیاهم وعقباهم ، یصحّ أن یسند اللّه (سبحانه) أفعال الخیر إلی نفسه ، کما فی قوله سبحانه : «وَما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلکِنَّ اللّهَ رَمَی» الآیة(2) ، وقوله سبحانه : «وَما تَشاءُوْنَ إِلاّ أنْ یَشاءَ اللّهُ»(3) ، حیث إنّ کلّ ما یصدر عنّا هو من قبیل تحریک العضلات ، ولکن معطی قوة الحرکة ونفس العضلات هو اللّه (سبحانه) ، وإذا أمسک قوّتها فلا نتمکّن من الفعل ، فیکون صدور الفعل عنّا باختیارنا وإرادتنا ،

ص :300


1- (1) الکافی : 1 / 109 ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ، الحدیث 3 .
2- (2) سورة الأنفال : الآیة 17 .
3- (3) سورة الإنسان : الآیة 30 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علی تقدیر إعطاء اللّه وعدم إنهاء ما بذله ، فیصحّ أن یقول اللّه (سبحانه) : لا یصدر عنک فعل إلاّ بمشیّتی ، وإذا لاحظت مثل هذه الأُمور کما إذا أوجد شخص أمراً تکون تمام آلاته ومعدّاته بید الغیر وکانت بإعطائه ، تجد من نفسک أنّه یصحّ للغیر أن یقول : أنا أوجدت الأمر وفعلک ذلک کان بمشیّتی ، فکذلک یصحّ أن یقال إنّ أفعال العباد تکون بمشیّة اللّه (عزّ وجلّ) ، وربما یضاف إلی صحّة الإسناد إلی اللّه (عزّ وجلّ) ملاحظة لطفه وتأییده وعنایته (سبحانه) إلی العبد .

فی قاعدة «الشیء ما لم یجب لم یوجد» وموردها

:

وأمّا الأمر الثانی إنّ ما بنی علیه الماتن قدس سره _ تبعا لأهل المعقول من «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد»(1) وأنّ فعل العبد ما لم یکن بالغا حدّ الوجوب لم یتحقّق خارجا ، بدعوی أنّ هذا لازم إمکان الشیء بلا فرق بین الأفعال وغیرها ، ولذلک التزموا بأنّ الإرادة بالمعنی الذی فسّروها به من الشوق المؤکّد علّة للفعل ، وذلک الشوق أیضاً یوجد بمبادئه المترتّبة علی حسن الذات وسعادتها أو خبثها وشقاوتها ، والسعادة والشقاوة من لوازم الذات لا تحتاج إلی علّة ؛ لأن_ّها توجد بالعلّة الموجدة لنفس الذات _ فممّا لا یمکن المساعدة علیه، إذ لو کان الأمر کما ذکره، فکون أفعال العباد اختیاریة لهم، مجرد تسمیة لا واقع لها، ولا یکون فی البین من حقیقة الاختیار شیء.

کما أنّ ما تقدّم منه قدس سره ، من تعلّق إرادة اللّه (عزّ وجل) التکوینیة بالأفعال الصادرة عن العباد باختیارهم ، إن کان المراد منه أن_ّه علی تقدیر صدور الفعل عن العباد بإرادتهم ، فذلک الفعل متعلق إرادة اللّه (عزّ وجلّ) ، فهذا من قبیل إرادة ما هو

ص :301


1- (1) الأسفار : 1 / 221 ، الفصل 15 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحاصل . وإن کان المراد أن_ّه لا محیص عن صدور الفعل المذکور ، فیکون مقتضی إرادة اللّه حصول مبادئ الإرادة للعبد ، وهو یقتضی لابدّیة صدور الفعل ، فهذا أیضاً یساوی مسلک الجبر ؛ إذ مع حصول مبادئ الإرادة تکون إرادة العبد واجبة الوجود والمفروض أنّ إرادة العبد علّة تامّة لصدور الفعل عنه ، فأین الاختیار ، وکیف یصحّ التکلیف ، وکیف یصحّ عقابه علی مخالفة التکلیف ؟ مع أنّ العبد البائس المسکین لا یتمکّن من ترک المخالفة مع حصول مبادئ الإرادة بتبع شقاوة ذاته ، أو بإرادة اللّه (عزّ وجل) ، ومعه کیف یصحّ التوبیخ بمثل قوله سبحانه «قُلْ هُوَ الَّذِی أنْشَأَکُمْ وَجَعَلَ لَکُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِیْلاً مّا تَشْکُرُوْنَ»(1) .

مع أنّ للعبد المسکین أن یجیب بأنّی لا أتمکّن من الشکر لک ، فأنت الذی أوجدت مبادئ إرادة الکفر والطغیان فی نفسی ، أو إنّ لی ذاتا لازمها الشقاوة المستتبعة لمبادئ الکفر والنفاق والطغیان ، ولا حیلة لی بغیرها ، فکیف یصح عقابه ؟ وفی الصحیح عن یونس بن عبدالرحمن ، عن عدة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال له رجل : جعلت فداک أجَبَرَ اللّه العباد علی المعاصی ؟ فقال : اللّه أعدل من أن یجبرهم علی المعاصی ، ثمّ یعذبهم علیها ، فقال له : جعلت فداک ، ففوّض اللّه إلی العباد ؟ فقال : لو فوّض إلیهم لم یحصرهم بالأمر والنهی ، فقال له : جعلت فداک ، فبینهما منزلة ؟ قال فقال : نعم ، أوسع ما بین السماء والأرض(2) .

ص :302


1- (1) سورة الملک : الآیة 23 .
2- (2) الأُصول من الکافی : 1 / 159 باب الجبر والقدر ، الحدیث 11 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الملاک فی اختیاریة افعال العباد

:

وبالجملة ما ذکروه من قاعدة «عدم إمکان حدوث شیء إلاّ عن علّة تامّة» و«أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» لا تجری فی الأفعال الاختیاریة ، حیث إنّ المعلول وجوده ترشحی، أو انفعال بالخاصیّة ، بخلاف الفعل الاختیاری ، فإنّ قدرة الفاعل علی أمر لا تتحقّق إلاّ إذا تساوی طرفاه من الفعل أو الترک بالإضافة إلی الفاعل ، فلو لم یکن الفاعل متمکّناً علی کلّ من إیجاده وترکه قبل أن یصدر منه الفعل ، لما کان فی البین قدرة ، بل کان جبر واضطرار ، حتّی بالإضافة إلی الواجب (جلّ علا) ، حیث إنّه بقدرته الذاتیة یختار کون الشیء فیوجد ، بلا فرق بین تعلّق إرادته بالوجود عن طریق المقدمات الإعدادیة أو بدونها .

والحاصل إمکان صدور الفعل عن الفاعل بالاختیار لا یحتاج إلی غیر قدرته علیه ، نعم العاقل لا یصرف قدرته فیما لا یعنیه و ما لیس له فیه صلاح ، بل یصرفها علی أحد طرفی الشیء لغرض ، من غیر أن یکون ترتّب الغرض علی ذلک الطرف موجبا لسلب قدرته عن الطرف الآخر ، وبتعبیرٍ آخر : یکون ترتّب الغرض علی أحد طرفی الشیء مرجّحا لذلک الطرف علی الآخر ؛ ولذا یسمّی إعمال القدرة وصرفها فی أحد طرفی الشیء اختیارا؛ لأنّ الإنسان یأخذ بما فیه الخیر، وقد اعترف الماتن قدس سره فی بحث التجرّی(1) ببعض ما ذکرناه _ من کون اختیاریة الفعل بالتمکّن من عدمه _ حیث ذکر أنّ بعض مبادئ اختیار الفعل اختیاریة ، لتمکّنه من عدمه بالتأمّل فیما یترتّب علیه ، فراجع .

ص :303


1- (1) کفایة الأُصول: ص260.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

إن قلت : أفلا یکون مقتضی التوحید والاعتراف بوحدانیة الخالق ، هو الالتزام بأنّ ما یحصل فی الکون _ ومنها أفعال العباد _ مخلوقة للّه (سبحانه) ، لئلاّ یکون مؤثّراً فی الوجود وخالقاً للکون إلاّ هو وإنّما یصحّ العقاب حینئذٍ علی فعل العبد ، فلأجل أنّ الفعل فی الحقیقة وإن کان بإرادة اللّه ، إلاّ أنّ اللّه تعالی یرید فعل العبد ، إذا تعلّقت إرادة العبد به ، فیکون المؤثّر فی ذلک إرادة اللّه ، والعبد أیضاً أراد تحقیقه وإیجاده ، ولکن إرادته لا تؤثّر فی الواقع شیئا ، ویعبّر عن إرادة العبد کذلک بالکسب ، فیکون العقاب علی کسب العبد ، وإن شئت فلاحظ من أراد رفع حجر عن مکان ، باعتقاد أنّه متمکّن من رفعه ، ولکن عند تصدّیه للرفع یظهر عدم تمکّنه منه ، فیضع شخص آخر أقوی منه یده تحت ذلک الحجر ویرفعه ، فارتفاع الحجر عن مکانه یکون برفع هذا الشخص الثانی خاصّة ، ویستند الرفع إلیه دون الأوّل ، إلاّ أنّ سبب رفع الثانی للحجر هو تعلّق إرادة الأوّل برفعه ، ولأجله لا مانع من إسناد الرفع إلی المرید خاصّة .

قلت : إنّ ما ذکر لا فی تصحیح العقاب یجدی ولا فی التحفّظ علی وحدة الخالق والمؤثّر فی الکون ومنه أفعال العباد .

أمّا الأوّل؛ فلأنّه لا یصحّ عند العقل أن یذمّ رافع الحجر حقیقة، مریدَ الرفع خاصّة ویوبّخه علی الرفع؛ لأنّه لم یرفعه، بل أراد رفعه فحسب، فالتوبیخ والذمّ یرد علی رافع الحجر حقیقة الذی هو الشخص الثانی. نعم یصحّ توبیخ الأوّل علی إرادة الرفع لا علی نفس الرفع، وإذا فرض أنّ إرادته أیضاً فعل مخلوق یکون المؤثّر فیه إرادة اللّه (سبحانه) فلا یصحّ عقابه ولا توبیخه علی الإرادة المخلوقة، وإن قیل بأنّ إرادة المرید ناشئة عن مبادیها، ومبادیها ناشئة عن خبث السریرة والشقاوة الذاتیّة

ص :304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کما تقدّم فی کلام الماتن قدس سره ثبت أیضاً أنّه لا مصحّح للعقوبة علی ارادته ولا علی فعله.

وأمّا الثانی فیظهر جوابه ممّا أجبنا آنفا عن مقالة الفلاسفة فی قاعدة «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» فراجع.

فتحصّل أنّ ما ذکره الفلاسفة من قاعدة «أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد» لا یجری فی الفاعل بالاختیار ، فإنّه بعد لحاظ الشیء والتصدیق بفائدته والمیل إلیه والجزم بعدم المانع ، یبقی الفاعل المختار قادرا علی اختیار کلّ من الفعل والترک ، والمبادی لا تجعل الفعل من قبیل واجب الوجود ، بل إنّها مرجّحة لاختیاره طرف الفعل ، حیث إنّ الفاعل الحکیم لا یختار الفعل إلاّ مع الصلاح فی شخصه أو المزیة فی الجامع بینه وبین فعلٍ آخر ، کما إذا لم تکن مزیّة فی خصوص أحد الفعلین بالإضافة إلی الآخر ، فإنّ قیام المزیّة فی الجامع کافٍ فی کون اختیار الفعل بالحکمة ، ویدلّک علی ذلک أنّ الهارب یختار أحد الطریقین مع عدم المزیة لأحدهما بالإضافة إلی الآخر .

وحکی عن الفخر الرازی(1) استدلاله علی ذلک بأنّه لا مرجّح لحرکة الشمس من المشرق إلی المغرب ، وقد طعن علیه صدرالمتألّهین فی شرحه علی أُصول الکافی(2) ، ولم یأت فی الردّ علیه إلاّ بالطعن والشتم .

ولکن لا یخفی ما فی المحکی ، حیث إنّ حرکة الأرض حول نفسها ، أو حرکتها

ص :305


1- (1) المباحث المشرقیة .
2- (2) شرح أُصول الکافی لصدرالمتألهین .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

حول الشمس ، لیست من الأفعال الاختیاریة لها ، فلابدّ من خصوصیة خارجیة تقتضی تعین تلک الحرکة . نعم خلق الشمس أو الأرض بتلک الخصوصیة من فعل اللّه (سبحانه) ، ولا سبیل لنا إلی الجزم بأنّ الخلق بتلک الخصوصیة کان لمرجّح فی الجامع بین الخصوصتین.

ونظیر ما ذکره الفلاسفة بالإضافة إلی الأفعال _ من دعوی اقتضاء التوحید ونفی الشرک فی الخلق _ الالتزام بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه (سبحانه) تمسّکا ببعض الآیات:

مثل قوله (سبحانه) : «وَاللّهُ خَلَقَکُمْ وَما تَعْمَلُوْنَ»(1) .

وقوله (سبحانه) : «وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ»(2) .

وقوله (سبحانه) : «وَلاتَقُولَنَّ لِشَیْءٍ إِنِّی فَاعِلٌ ذلِکَ غَدَا إِلاّ أَنْ یَشَاءَ اللّهُ»(3) .

وقوله (سبحانه) : «وَما کانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ»(4) .

وقوله (سبحانه) : «الَّذِی لَهُ مُلْکُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ یَتَّخِذَ وَلَدَا وَلَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیْکٌ فِی المُلْکِ»(5) أی الخلق . إلی غیر ذلک .

والجواب عنها : أنّ الآیات المذکورة ونحوها إذا لوحظت فی مقابل مثل قوله (سبحانه) : «إِنَّ اللّهَ لا یَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإنْ تَکُ حَسَنَةً یُضاعِفُها وَیُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً

ص :306


1- (1) سورة الصافات : الآیة 96 .
2- (2) سورة الإنسان : الآیة 30 .
3- (3) سورة الکهف : الآیة 23 .
4- (4) سورة یونس : الآیة 100 .
5- (5) سورة الفرقان : الآیة 2 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

عَظِیْماً»(1) .

وقوله (سبحانه) : «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرا وَلا یَظْلِمُ رَبُّکَ أَحَدَا»(2) .

وقوله (سبحانه) : «إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیْلَ إِمّا شاکِرا وَإِمَّا کَفُوْرَاً»(3) .

ومثل قوله (سبحانه) حکایة عن أهل النار : «قالُوا بَلی قَدْ جائَنَا نَذِیْرٌ فَکَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَیْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إلاّ فِی ضَلالٍ کَبِیْرٍ وَقالُوا لَوْ کُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما کُنَّا فِی أَصْحابِ السَّعِیْرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَا لأَصْحابِ السَّعِیْرِ»(4) ونحوها ، یتّضح کمال الوضوح أنّ إسناد الأفعال إلی اللّه (سبحانه) فی مثل الحسنات والأفعال الحسنة ، إنّما هو باعتبار أنّ القدرة علی العمل والمعدات التی یتوقّف علیها العمل کلّها من اللّه (سبحانه) ، ولذا لن تجد موردا فی کتاب اللّه (سبحانه) أو غیره أُسند فیه العمل القبیح الصادر عن العبد إلیه (تعالی) ؛ ولذا ذکرنا أنّ التوحید لا یقتضی إسناد الظلم إلی اللّه (تعالی) بأن تکون إرادته المشار إلیها فی قوله تعالی : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئَا»(5) متعلّقة بأفعال العباد الاختیاریة التی یتعلق بها التشریع ، بل تلک الإرادة تعلّقت بکونهم مختارین ، حیث إنّ الدنیا دار الفتنة والامتحان . وأمّا قولنا : أراد اللّه أن نصلّی ونصوم ، فمعناه أن_ّه سبحانه طلب منّا العمل وأمرنا أن نفعل .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا أن_ّه إذا لوحظ صحّة تکلیف العباد وجواز

ص :307


1- (1) سورة النساء : الآیة 40 .
2- (2) سورة الکهف : الآیة 49 .
3- (3) سورة الإنسان : الآیة 3 .
4- (4) سورة الملک : الآیة 9 _ 11 .
5- (5) سورة یس : الآیة 82 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مؤاخذتهم علی ما ارتکبوا من المعاصی ، ولوحظت الآیات الواردة فی أمر العاصین بالتوبة والاستغفار وأمر المؤمنین بالاستقامة فی الدین، ولوحظ ما ورد من الآیات من کون العاصین ظالمی أنفسهم ، تجد أنّ إسناد بعض الأفعال إلی اللّه (سبحانه) لیس بمعنی نفی اختیار العبد فیها ، بل بمعنی أنّ القدرة علیها بمشیّة اللّه وإرادته ، وربما یلقی (سبحانه) حبّ العمل والشوق إلیه فی أنفسهم ، فیکون ذلک تأییدا للعبد علی الاستقامة ونیل الثواب ، بعد علمه (سبحانه) أنّ العبد یهمّ بالطاعة والاجتناب عن السیّئات ما أمکن .

ویظهر من ذلک بطلان توهّم علّیّة سوء السریرة ، أو حسنها لحصول المبادی التی من قبیل العلّة التامّة لحصول الإرادة _ یعنی الشوق المؤکّد المحرّک للعضلات _ ، وکذا بطلان توهّم أنّ اختیاریة فعل العبد ینافی مسلک التوحید الأفعالی ، والالتزام بالملک المطلق للّه (سبحانه) .

إبطال مسلک التفویض

:

وأمّا مسلک التفویض المقابل للجبر ، فقد یقال إنّه مبنی علی مسلک استغناء الممکن فی بقائه عن العلة .

ولکن لا یخفی سخافة هذا البناء والمبنی ، وذلک لأنّ بقاء الممکن بلا علّة ، کحدوثه بلا علة فی الامتناع ، حیث إنّ اختلاف الأشیاء الممکنة فی البقاء والزوال ، واختلافها فی طول البقاء وقصره ، یکون مستندا إلی أمر لا محالة ، ولو کان مجرّد العلّة لحدوث شیء کافیا فی بقائه مع استواء البقاء والزوال بالإضافة إلیه لأمکن تحققه کذلک فی الآن الأوّل أیضاً بعین وجه تحقّقه فی الآن الثانی . وبالجملة فما فی

ص :308

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکون من الممکنات تحتاج فی بقائها ، کحدوثها إلی الموجب .

وینبغی أن یُبتنی مسلک التفویض علی أمرٍ آخر، وهو أنّ الممکن وإن کان محتاجا فی بقائه إلی العلّة ، إلاّ أنّ حاجة الکائنات ومنها الإنسان إلی ذات الباری (عزّ وجلّ) من قبیل حاجة المنفعل والمصنوع إلی الفاعل والصانع ، فتکوین الإنسان وسائر الکائنات وإن حصل بإرادة اللّه (عزّ وجلّ) ومشیّته التی بها تکوّنت الأشیاء وظهرت من ظلمات الماهیات إلی نور الوجود إلاّ أنّ بقائها مستند إلی موجبات البقاء فیها من الخصوصیات والاستعدادات المکنونة فی بعض الأشیاء واستمداد بعضها من البعض الآخر نظیر البناء ، فإنّه وإن احتاج فی حدوثه إلی البنّاء ، ولکن بقائه مستند إلی القوة والاستعداد فی الأجزاء المستعملة فی البناء .

واللّه (سبحانه) خلق الأشیاء وکوّنها بإرادته ومشیّته، بما فیها من الخصوصیّات والاستعدادات ، ولکن تلک الخصوصیّات والاستعدادات الحادثة بعد حدوث المَثَل أو قبله تنتهی وتفنی ، وإذا انتهی بعض ما فی الکون الظاهر لنا من الخصوصیّات والاستعدادات یظهر أنّ کلّ شیء منه فان ویبقی وجه ربک ذو الجلال والإکرام ، وعلی ذلک فالإنسان المخلوق فی الکون والباقی منه الموجود بتولید المثل یکون کلّ ما یفعله بإرادته واختیاره من نفسه ، ولا یستند شیء منها إلی الخالق (سبحانه) لعدم استناده فی البقاء إلیه .

ولکن لا یخفی سخافة هذا الوجه أیضاً ، فإنّ الکائنات فی العالم لا تقاس بالبناء الحاصل من فعل البنّاء ، فإنّ خالق الکائنات حیّ قیّوم له ملک السموات والأرض ، إذا أراد شیئا یکون ، وإذا أراد عدمه فلا یکون ، بلا فرق فی ذلک بین الأشیاء الحاصلة بالعلل المادیة أو من أفعال الإنسان أو غیره .

ص :309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولیس المراد أنّ العلّیة بین المعلولات وعللها باطلة وإنّما جرت عادة اللّه (سبحانه) أن یخلق بعض الأشیاء بعد خلق بعضها الآخر کما یقول به القائل بالجبر تحفّظا علی التوحید .

بل المراد أنّ بقاء الشیء المستند إلی علّته المبقیة _ لیصیر علّة لوجود شیء آخر إنّما ینشأ من عدم تعلّق إرادة اللّه بإفنائه کما أنّ حصول شیء من شیء آخر موقوف علی تعلّق إرادة اللّه بحصوله منه ، وإلاّ فإن تعلّقت إرادته (جلّت قدرته) بأن لا یوجد فلا یوجد ، إمّا بإرادة زوال العلّة أو بخلق المزاحم للتأثیر والعلّیة «وَکانَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ مُحِیْطا»(1) .

وقد تقدّم أنّ مشیّته (جلّت عظمته) قد تعلّقت بکون الإنسان قادرا متمکّنا من الأفعال ، ومنها الأفعال التی تعلّق بها طلبه وإرادته بمعنی الإیجاب والندب ، وما تعلّق به زجره ومنعه ، کی یتمیّز المطیع من العاصی ، والکافر من المؤمن ، والصالح من الطالح ، «وَاللّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِیْطٌ»(2) ، «وَاللّهُ بِما یَعْمَلُوْنَ مُحِیْطٌ»(3) ، «وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَما یَفْتَرُوْنَ»(4) ، «وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لاَآمَنَ مَنْ فِی الأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیْعا»(5) ، «وَلَوْ شِئْنا لاَآتَیْنا کُلُّ نَفْسٍ هُداها»(6) .

ص :310


1- (1) سورة النساء : الآیة 126 .
2- (2) سورة البروج : الآیة 20 .
3- (3) سورة الأنفال : الآیة 47 .
4- (4) سورة الأنعام : الآیة 137 .
5- (5) سورة یونس : الآیة 99 .
6- (6) سورة السجدة : الآیة 13 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ومع کون العباد وأفعالهم محاطاً بهم «وَکانَ اللّهُ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ رَقِیْبا»(1) قد تصیب رحمته ورأفته العبد ویؤیّده حتّی یجتنب الحرام ، أو یفعل الطاعة ، قال (عزّ من قائل) : «وَمَنْ یُؤْمِنْ بِاللّهِ یَهْدِ قَلْبَهُ»(2) ، «فَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ یَحُوْلُ بَیْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(3) ، وقال سبحانه : «اللّهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ وَکِیْلٍ»(4) ، «قَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قَالُوا»(5) ، إلی غیر ذلک من الآیات الواضحة فی أنّه (تعالی) هو القاهر فوق کلّ شیء ، وأنّه یحیی ویمیت ، وینزل الغیث ، ویرزقکم من السماء، وبیده ملکوت کلّ شیء.

والبرهان العقلی علی ذات الحقّ (جلّ وعلا) مقتضاه أیضاً ما ذکر ، والتعرّض له لا یناسب المقام ، ومن اللّه الهدایة والرشاد .

ص :311


1- (1) سورة الأحزاب : الآیة 52 .
2- (2) سورة التغابن : الآیة 11 .
3- (3) سورة الأنفال : الآیة 24 .
4- (4) سورة الزمر : الآیة 62 .
5- (5) سورة المائدة : الآیة 64 .

ص :312

الفصل الثانی فیما یتعلق بصیغة الأمر

اشارة

وفیه مباحث:

الأول: إنّه ربّما یذکر للصیغة معان قد استعملت فیها [1]، وقد عدّ منها: الترجی، والتمنی، والتهدید، والإنذار، والإهانة، والإحتقار، والتعجیز، والتسخیر، إلی غیر ذلک، وهذا کما تری، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحد منها، بل لم الشَرح:

معنی صیغة الأمر

:

[1] ذکر قدس سره أن_ّه قد یذکر لصیغة الأمر معانٍ استعملت فیها ویعد منها الترجّی والتمنّی والتهدید والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجیز والتسخیر ، إلی غیر ذلک ممّا أنهاها بعضهم إلی خمسة عشر معنی ، فیقع الکلام فی أنّ استعمال صیغة الأمر فی الموارد المزبورة هل هو من قبیل استعمال اللفظ فی معانیه المتعدّدة کما ذکر ، فمثلاً أنّ قول القائل : (یا ربّ تب علی) مرادف لقوله : (لعل اللّه یغفر لی) ، وقوله : (لیت ربّی یرجعنی) مرادف لقوله : (یاربّ ارجعنی) إلی غیر ذلک ، أو أنّ المستعمل فیه للصیغة فی جمیع الموارد أمرٌ واحد وهو إنشاء الطلب المتعلّق بالمادة، إلاّ أنّ الداعی

ص :313

یستعمل إلا فی إنشاء الطلب، إلاّ أن الداعی إلی ذلک، کما یکون تارة هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعی، یکون أخری أحد هذه الأمور، کما لا یخفی.

قصاری ما یمکن أن یدعی، أن تکون الصیغة موضوعة لإنشاء الطلب، فیما إذا کان بداعی البعث والتحریک، لا بداعٍ آخر منها، فیکون إنشاء الطلب بها بعثاً حقیقة، وإنشاؤه بها تهدیداً مجازاً، وهذا غیر کونها مستعملة فی التهدید وغیره، فلا تغفل.

الشَرح:

إلی إنشائه یختلف ، فتارة یکون الغرض إرادة حصول داعی الإنبعاث لدی المطلوب منه فیکون الطلب المنشأ بعثا وتکلیفا ، وأُخری یکون الداعی إلی إنشائه ترجی المادّة أو تمنّیها ، وثالثة إظهار عجز المطلوب منه ، ورابعة إظهار وهنه فیکون تحقیرا ، وإلی غیر ذلک .

والذی یشهد به الوجدان فی موارد استعمالات الصیغة ، هو أن المستعمل فیه إنشاء طلب المادّة ممّن یتوجه إلیه الطلب ، والاختلاف إنّما هو فی ناحیة الدواعی إلی إنشائه .

وغایة ما یمکن أن یقال إنه اشترط فی وضع صیغة الأمر لإنشاء الطلب ، کون الداعی والغرض حصول ما یمکن أن ینبعث به المطلوب منه نحو الفعل وإیجاد المادة ، وهذا نظیر اشتراط قصد الإنشاء والإخبار ، أو قصد اللحاظ الآلی والاستقلالی فی وضع الحروف والأسماء .

وبالجملة فاختلاف الدواعی فی إنشاء الطلب أمر واختلاف المستعمل فیه لصیغة الأمر أمر آخر، وقد اشتبه أحدهما بالآخر، وعلی ما ذکرنا یکون استعمالها فی غیر موارد البعث والتحریک من استعمال اللفظ فی معناه، ولکن بغیر الوضع، فیکون مجازا.

وقد یقال : إنّ الصیغة فی موارد الطلب تستعمل لإبراز کون المادة علی عهدة

ص :314

إیقاظ: لا یخفی أن ما ذکرناه فی صیغة الأمر، جار فی سائر الصیغ الإنشائیة [1]، فکما یکون الداعی إلی إنشاء التمنی أو الترجی أو الإستفهام بصیغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقیقة، یکون الداعی غیرها أخری، فلا وجه للإلتزام بانسلاخ صیغها عنها، واستعمالها فی غیرها، إذا وقعت فی کلامه تعالی، لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقه تبارک وتعالی، ممّا لازمه العجز أو الجهل، وأنّه الشَرح:

الغیر ، وأمّا إذا استعملت فی غیر مقام الطلب ، یکون المستعمل فیه أمرا آخر ، وکون استعمالها فی معنی واحد فی جمیع المقامات _ مع الإختلاف فی الدواعی کما ذکر _ مبنی علی کون الإنشاء إیجادا للمعنی باللفظ لا إبرازا للاعتبار الحاصل بالنفس .

أقول : الظاهر عدم الفرق بین القول بأنّ الإنشاء عبارة عن قصد إیجاد عنوان اعتباری بالتلفّظ، أو أنّه إبراز لأمرٍ اعتباری حاصل من النفس مع قطع النظر عن الإبراز بالتلفّظ ، حیث إنّ اعتبار الفعل علی عهدة الغیر وإبرازه قد یکون لغرض التصدّی إلی حصول الفعل منه خارجا، وأُخری لغرض إظهار عجزه عنه أو وهنه وحقارته، إلی غیر ذلک، هذا وقد تقدّم عدم کون مدلول الصیغة اعتبار الفعل علی العهدة.

نعم هذا الاعتبار إذا حصل وأُبرز ممّن له ولایة الطلب علی الغیر فهو یعتبر إیجابا وطلبا منه ، إلاّ أنّ الصیغة لم توضع له ، ویشهد له عدم اختلاف معنی الصیغة فی موارد استعمال العالی والدانی ، وموارد الإیجاب والاستحباب ، علی ما تقدّم .

[1] مراده : کما أنّ صیغة الأمر تستعمل فی إنشاء الطلب ویکون الاختلاف فی الدواعی لإنشائه ، کذلک فی التمنّی والترجّی والاستفهام ، فإنّ صیغة کلّ واحدة منها وضعت لإنشاء الترجّی أو غیره ، غایة الأمر تارةً یکون الداعی إلی إنشاء الترجّی مثلاً ثبوت الترجّی الحقیقی فی النفس ، وأُخری یکون الداعی إلی إنشائه حصول طلب الفعل والبعث إلیه ، وفی أداة الاستفهام یکون المستعمل فیه إنشاء طلب الفهم ،

ص :315

لا وجه له، فإنّ المستحیل إنّما هو الحقیقی منها لا الإنشائی الإیقاعی، الذی یکون بمجرد قصد حصوله بالصیغة، کما عرفت، ففی کلامه تعالی قد استعملت فی معانیها الإیقاعیة الإنشائیة أیضاً، لا لإظهار ثبوتها حقیقة، بل لأمر آخر حسب ما یقتضیه الحال من إظهار المحبة أو الإنکار أو التقریر إلی غیر ذلک، ومنه ظهر أن ما ذکر من المعانی الکثیرة لصیغة الإستفهام لیس کما ینبغی أیضاً.

الشَرح:

والداعی إلی إنشائه قد یکون قصد الفهم ، فیکون استفهاما حقیقیا ، وقد یکون حصول الإقرار ممّن توجّه إلیه طلبه أو الإنکار أو غیر ذلک ، فیکون إقرارا أو استفهاما إنکاریا أو غیر ذاک ، وعلیه فلا وجه للإلتزام بأنّ هذه الصیغ إذا استعملت فی کلامه (تعالی) تنسلخ عن معانیها الموضوعة لها ؛ لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقّه (تبارک وتعالی) التی تستلزم العجز والجهل ؛ وذلک لأنّ الصیغ لم توضع للحقیقی من معانیها ، بل الموضوع له فیها الإنشائی منها ، غایة الأمر الداعی إلی إنشائها قد یکون غیر ثبوتها حقیقة حسب ما یقتضیه الحال .

أقول: یمکن أن یقال: إنّ أداة التمنّی والترجّی وُضعت لإظهار الصفة النفسانیة (أی إظهار ثبوتها) وأنّ التمنّی یطلق علی هذا الإظهار، إلاّ أنّ إبراز ثبوتها قد یکون لثبوتها واقعا، فیکون تمنّیا وترجّیا حقیقة، وقد یکون الإظهار لغرضٍ آخر من طلب الفعل ونحوه.

وإن شئت التوضیح فلاحظ الجمل الخبریة فی موارد الکنایات، فإنّها موضوعة لإظهار ثبوت محمولاتها لموضوعاتها ولکنّ الإظهار تارة یکون لحکایة الثبوت الواقعی، وأُخری لثبوت أمرٍ آخر، حیث إنّ قول القائل (زید کثیر الرماد) لا یکون لغرض الحکایة عن ثبوت مدلول الجملة واقعا، بل لغرض ثبوت ما یلازم مدلولها.

ص :316

المبحث الثانی: فی أنّ الصیغة حقیقة فی الوجوب [1]، أو فی الندب، أو فیهما، أو فی المشترک بینهما، وجوه بل أقوال، لا یبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرینة، ویؤیده عدم صحة الإعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة

الشَرح:

وبالجملة الممتنع فی حقّ الباری (جلّ وعلا) الثبوت الواقعی للتمنّی أو الترجّی أو الاستفهام لا إظهار ثبوتها لغرضٍ آخر غیر ثبوت معانیها الحقیقیة المستحیلة فی حقّه (تعالی).

دلالة صیغة الأمر علی الوجوب

[1] المراد بالوجوب کما تقدّم إطلاق الطلب ، ویقابله اقتران الطلب واتصافه بثبوت الترخیص فی ترک الفعل ، وأمّا حکم العقل بلزوم الإتیان بالمأمور به ، بمعنی استحقاق العقوبة علی المخالفة ، فهو یترتّب علی وصول الطلب إلی المطلوب منه صغری وکبری ، ولکن اتّصاف الطلب بالوجوب والندب إنّما هو قبل ملاحظة الوصول إلیه ، کما تقدّم.

والحاصل أنّ إطلاق الطلب أو اتّصافه بثبوت الترخیص فی الترک خارجان عن المدلول الوضعی للصیغة وهما وصفان للطلب الصادر عمّن له ولایة الحکم وإذا تمّت مقدّمات الاطلاق فی ناحیة الطلب، یکون ظهور الصیغة بملاحظة حال منشأ الطلب ظهورا إطلاقیا فی وجوب الفعل، ومع ثبوت الترخیص ینتفی عنها الظهور فی الوجوب، ویشهد لخروج الوصفین عن المدلول الوضعی للصیغة عدم الفرق فی المعنی المتفاهم عرفا من نفس الصیغة بین موردی الوجوب والندب، وهذا بخلاف ما تقدّم فی مادة الأمر، فإنّها بنفسها دالّة علی تعنون الطلب بعنوان الوجوب، ولذا یصحّ أن نقول ما أمرنا بصلاة اللیل وأمرنا بالصلوات الیومیة. وبالجملة إطلاق الطلب من العالی یکون وجوبا،

ص :317

الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته علیه بحال أو مقال، وکثرة الإستعمال فیه[1] فی الکتاب والسنة وغیرهما لا یوجب نقله إلیه أو حمله علیه، لکثرة استعماله فیالوجوب أیضاً، مع أن الاستعمال وإن کثر فیه، إلاّ أن_ّه کان مع القرینة المصحوبة، وکثرة الاستعمال کذلک فی المعنی المجازی لا یوجب صیرورته مشهوراً فیه، لیرجح أو یتوقف، علی الخلاف فی المجاز المشهور، کیف؟ وقد کثر استعمال العام فی الخاص، حتّی قیل: (ما من عام إلاّ وقد خص) ولم ینثلم به ظهوره فی العموم، بل یحمل علیه ما لم تقم قرینة بالخصوص علی إرادة الخصوص.

الشَرح:

ومع ثبوت ترخیصه یکون ندبا، وإذا لم یؤخذ فی مدلول الصیغة خصوصیة الطالب، فکیف یکون الوجوب أو الندب داخلاً فی المدلول الوضعی للصغیة مع أنّهما فرع علوّ الطالب، وما ذکره قدس سره من عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، لا یکون دلیلاً علی أنّ الظهور وضعی لا إطلاقی، ولعله لذلک عدّه مؤیّدا.

[1] هذا شروع فی الردّ علی صاحب المعالم قدس سره ، حیث ذکر عدم ظهور الصیغة فی الوجوب ، معلّلاً بکثرة استعمالها فیالندب فی الأخبار المرویة عن الأئمّة علیهم السلام فیشکل الحکم بوجوب فعلٍ بمجرّد ورود الأمر به بالصیغة .

وحاصل الدفع أنّ استعمال الصیغة فی الاستحباب وإن کان کثیرا، إلاّ أنّ کثرة الاستعمال إذا کانت بالقرینة المتصلة فی أکثر الموارد لا توجب انقلاب ظهور اللفظ أو إجماله، وإنّما توجب ذلک إذا کانت مع القرینة المنفصلة، فإنّه فی هذه الصورة یحصل للذهن أُنس بین اللفظ ومعناه المجازی، فیوجب انقلابه أو إجماله، ألا تری أنّ صیغ العموم الوضعی أو أداته قد استعملت فی الخصوص عند صاحب المعالم قدس سره کثیرا، بحیث قیل: ما من عامّ إلاّ وقد خصّ، إلاّ أنّ الکثرة بما أنهّا تکون مع المخصّص المتصل، لا توجب انقلاب ظهورها.

ص :318

المبحث الثالث: هل الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب والبعث _ مثل: یغتسل، ویتوضأ، ویعید _ ظاهرة فی الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات [1[ فیها، ولیس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها علی معناها من الأخبار، بثبوت النسبة والحکایة عن وقوعها.

الظاهر الأول، بل تکون أظهر من الصیغة، ولکنّه لا یخفی أن_ّه لیست الجمل الخبریة الواقعة فی ذلک المقام __ أی الطلب __ مستعملة فی غیر معناها، بل تکون مستعملة فیه، إلاّ أن_ّه لیس بداعی الإعلام، بل بداعی البعث بنحو آکد، حیث إن_ّه أخبر بوقوع مطلوبه فی مقام طلبه، إظهاراً بأن_ّه لا یرضی إلاّ بوقوعه، فیکون آکد فی البعث من الصیغة، کما هو الحال فی الصیغ الإنشائیة، علی ما عرفت من أن_ّها أبداً تستعمل فی معانیها الإیقاعیة لکن بدواعی أخر، کما مر.

الشَرح:

مدلول الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الإنشاء

:

[1] وجه لعدم ظهور تلک الجمل فی الوجوب ، والظاهر أنّ المراد بالمجازات الوجوب والندب ومطلق الطلب ، فیقال إنّه بعد قیام القرینة علی عدم استعمال الجملة الخبریة فی الاخبار والحکایة ، لا یکون لها ظهور فی خصوص الوجوب لتعدّد المجازات وعدم کون الوجوب أظهر المعانی المجازیّة وأقواها .

وذکر الماتن قدس سره بأنّ الجملة الخبریة المستعملة فی مقام الطلب ، تکون ظاهرة فی وجوب الفعل ، بل تکون دلالتها علیه أظهر وأقوی من دلالة الصیغة علیه ، والوجه فی ذلک أنّ الجملة الخبریة فی ذلک المقام لا تستعمل فی غیر معناها ، بل تکون مستعملة فی حکایة حصول الشیء خارجا فی المستقبل ، إلاّ أنّ الداعی إلی الحکایة لیس ثبوت الشیء خارجا ، بل بداعی البعث والطلب بنحوٍ آکد ، حیث إنّ

ص :319

لا یقال: کیف؟ ویلزم الکذب کثیراً، لکثرة عدم وقوع المطلوب کذلک فی الخارج، تعالی اللّه وأولیاؤه عن ذلک علواً کبیراً.

فإنّه یقال: إنّما یلزم الکذب، إذا أتی بها بداعی الإخبار والإعلام، لا لداعی البعث، کیف؟ وإلاّ یلزم الکذب فی غالب الکنایات، فمثل (زید کثیر الرماد) أو (مهزول الفصیل) لا یکون کذباً، إذا قیل کنایة عن جوده، ولو لم یکن له رماد أو فصیل أصلاً، وإنما یکون کذباً إذا لم یکن بجواد، فیکون الطلب بالخبر فی مقام التأکید أبلغ، فإنّه مقال بمقتضی الحال.

هذا مع أن_ّه إذا أتی بها فی مقام البیان، فمقدمات الحکمة [1] مقتضیة لحملها علی الوجوب، فإن تلک النکتة إن لم تکن موجبة لظهورها فیه، فلا أقل من کونها موجبة لتعینه من بین محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعیّن إرادته إذا کان بصدد البیان، مع عدم نصب قرینة خاصة علی غیره، فافهم.

الشَرح:

المستعمل حکی وقوع الشیء خارجا فی مقام طلبه لإظهار أنّه لا یرضی بعدم وقوعه ، فالجمل الخبریّة تستعمل فی قصد الحکایة عن ثبوت الشیء أو لا ثبوت ، ولکن بداعی الطلب ، وهذا نظیر ما تقدّم فی الصیغ الإنشائیّة من أنّها تستعمل دائما فی معانیها الإنشائیّة ، ولکن بدواعٍ مختلفة .

[1] یعنی لو نوقش فیما ذکره من أنّ الإخبار بوقوع شیء مستقبلاً بداعی البعث والطلب یدلّ علی شدّة الطلب وعدم الرضا إلاّ بوقوع الفعل فلا ینبغی التأمّل فی أنّه لو کان الطالب فی مقام البیان وأخبر بوقوع الفعل مستقبلاً بداعی الطلب یکون الطلب بالإخبار المزبور متعیّنا فی الوجوب بمقتضی مقدّمات الحکمة ؛ لأنّ شدّة مناسبة الإخبار بوقوع الفعل مع الطلب الوجوبی موجبة لتعیّن إرادته إذا کان الطالب

ص :320

المبحث الرابع: إن_ّه إذا سلم أنّ الصیغة لا تکون حقیقة فی الوجوب، هل لا تکون ظاهرة فیه أیضاً أو تکون؟ قیل بظهورها فیه، إمّا لغلبة الاستعمال فیه، أو لغلبة وجوده أو أکملیته، والکلّ کما تری، ضرورة أنّ الاستعمال فی الندب وکذا وجوده، لیس بأقل لو لم یکن بأکثر. وأم_ّا الأکملیة فغیر موجبة للظهور، إذ الظهور لا یکاد یکون إلاّ لشدة أنس اللفظ بالمعنی، بحیث یصیر وجهاً له، ومجرد الأکملیة لا یوجبه، کما لا یخفی، نعم فیما کان الأمر بصدد البیان، فقضیة مقدمات الحکمة هو الحمل علی الوجوب، فإنّ الندب کأن_ّه یحتاج إلی مؤونة بیان التحدید والتقیید بعدم المنع من الترک، بخلاف الوجوب، فإنّه لا تحدید فیه للطلب ولا تقیید، الشَرح:

فی مقام الطلب ولم ینصب قرینة علی غیر الطلب الوجوبی .

والفرق بین هذه الدعوی ودعوی الظهور المتقدّم هو أنّ هذا الظهور إطلاقی موقوف علی جریان مقدّمات الحکمة ، بخلاف الظهور السابق ، فإنّه ظهور انصرافی ولا حاجة فی الظهور الإنصرافی إلی إجراء مقدّمات الحکمة .

أقول : الصحیح عدم الفرق بین الظهور فی صیغة الأمر ، والظهور فی الجملة الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب ، فی أنّ کلاًّ من الظهورین إطلاقی ، حیث إنّ تفهیم المولی عبدَه طلب الفعل _ سواء کان بإنشائه بالصغیة أو بغیره _ مع عدم ثبوت الترخیص منه فی ترکه ، مصحّح لمؤاخذته علی المخالفة ، کما تقدّم فی بیان دلالة الصیغة علی الطلب الوجوبی .

ویؤید ذلک استعمال الجملة الخبریة فی موردی الوجوب والاستحباب ، وعدم الفرق فی المستعمل فیه بینهما ، کما فی قوله علیه السلام فیمن وجد فی إنائه فأرة وتوضّأ منه مراراً وصلّی : «یعید وضوئه وصلاته»(1) ، فإنّ الإعادة بالإضافة إلی

ص :321


1- (1) الوسائل : ج 1 ، الباب 4 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 1 .

فإطلاق اللفظ وعدم تقییده مع کون المطلق فی مقام البیان، کافٍ فی بیانه، فافهم.

المبحث الخامس: إنّ إطلاق الصیغة هل یقتضی کون الوجوب توصلیاً [1]، فیجزی إتیانه مطلقاً، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فیما شک فی تعبدیته وتوصلیته إلی الأصل.

لابدّ فی تحقیق ذلک من تمهید مقدمات:

الشَرح:

الوضوء استحبابی ، وبالإضافة إلی الصلاة وجوبی ، وکذا نظائره .

التعبدی والتوصلی

[1] لا یخفی أنّ قصد التقرب بأیّ معنی فُرض لا یکون قیدا للوجوب ، بأن یکون الوجوب بالإضافة إلیه مطلقاً أو مشروطا ، بل القصد المزبور علی تقدیر کونه قیدا فهو قید للواجب ، یعنی مأخوذا فیه ، فالمبحوث عنه فی المقام إطلاق المادة وعدم إطلاقها بالإضافة إلیه ، لا إطلاق الهیئة ، وحینئذٍ یبحث فی أنّ إطلاق المادّة هل یدلّ علی کون الواجب توصّلیا أو أنّ إطلاقها لا یکشف عن ذلک.

نعم قد یطلق التعبّدی والتوصّلی علی الواجب بمعنی آخر علی ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره وهو أنّ التکلیف التعبدی ما لا یسقط عن المکلف بفعل غیره ، أو بفرد غیر اختیاری صادر بلا قصد والتفات ، أو بفرد محرّم لا یعمّه الترخیص فی التطبیق ، والتکلیف التوصلی یسقط عن المکلّف به بفعل غیره أو بالفرد غیر الاختیاری أو بالفرد المحرّم والتوصلی بهذا المعنی ربما یکون تعبّدیا بالمعنی الأوّل ، نظیر سقوط التکلیف بقضاء ما علی المیت من الصلاة والصوم عن الولد الأکبر بفعل الآخرین ، ومقتضی إطلاق الهیئة ثبوت التکلیف وعدم سقوطه بفعل الغیر أو الإتیان بالفرد غیر الاختیاری أو المحرّم ، کما یأتی.

ص :322

إحداها: الوجوب التوصلی، هو ما کان الغرض منه یحصل بمجرد حصول الواجب، ویسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدی، فإنّ الغرض منه لا یکاد یحصل بذلک، بل لابدّ _ فی سقوطه وحصول غرضه _ من الاتیان به متقرباً به منه تعالی.

ثانیتها: إن التقرب المعتبر فی التعبدی [1]، إن کان بمعنی قصد الإمتثال والإتیان بالواجب بداعی أمره، کان ممّا یعتبر فی الطاعة عقلاً، لا ممّا أخذ فی نفس العبادة شرعاً، وذلک لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتی إلاّ من قبل الأمر بشیء فی متعلق ذاک الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً، فما لم تکن نفس الصلاة متعلقة للأمر، لا یکاد یمکن إتیانها بقصد امتثال أمرها.

الشَرح:

أنحاء قیود المتعلّق

:

[1] القیود المأخوذة فی صحّة العمل بحیث لا یسقط التکلیف إلاّ مع الإتیان بالمتعلق معها علی نحوین :

الأوّل: ما لا یمکن تحقیق ذلک القید فی الخارج ولحاظه تفصیلاً إلاّ بعد الأمر بالعمل وتعلّق الطلب بالفعل .

الثانی: ما یمکن تحقیقه خارجا ولحاظه تفصیلاً قبل الأمر بالعمل ، کما فی الطهارة من الحدث المأخوذة فی الصلاة ، فإنّ التوضّئ ولحاظه التفصیلی قبل الأمر بالصلاة المشروطة به أمرٌ ممکن ، وهذا النحو من القید یمکن للآمر أخذه فی متعلق الوجوب ثبوتا وإثباتا ، ومع عدم أخذه فی متعلّق التکلیف فی خطابه وعدم وروده فی خطابٍ آخر أیضاً یؤخذ بإطلاق متعلّق التکلیف فی الخطاب مع تمامیة مقدمات الإطلاق ، فیثبت عدم اعتباره فی متعلق التکلیف ثبوتا أیضاً .

أمّا القسم الأوّل من القیود ، فلا یمکن للآمر أخذها فی متعلّق التکلیف بالعمل لا ثبوتا ولا إثباتا ، فإنّ أخذها فی متعلق التکلیف یکون بلحاظها حین لحاظ المتعلق

ص :323

وتوهم إمکان تعلّق الأمر [1] بفعل الصلاة بداعی الأمر، وإمکان الاتیان بها بهذا الداعی، ضرورة إمکان تصور الأمر بها مقیدة، والتمکن من إتیانها کذلک، بعد تعلّق الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً فی صحة الأمر إنّما هو فی حال الإمتثال لا حال الأمر، واضح الفساد؛ ضرورة أن_ّه وإن کان تصورها کذلک بمکان من الإمکان، إلاّ أنّه لا یکاد یمکن الإتیان بها بداعی أمرها، لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقیدة بداعی الأمر، ولا یکاد یدعو الأمر إلاّ إلی ما تعلّق به، لا إلی غیره.

الشَرح:

عند اعتبار الوجوب ، والمفروض عدم إمکان لحاظها إلاّ بعد الأمر ، وعلی ذلک فلا یکون عدم أخذها فی المتعلق فی خطاب التکلیف کاشفا ودلیلاً علی صحّة العمل بدونه ، وکذلک عدم ذکرها فی الخطاب المتکفّل لبیان متعلّق ذلک الوجوب من حیث أجزائه وقیوده المتعلق بها التکلیف لا یکون کاشفاً .

ثمّ إنّ قصد التقرّب والامتثال بمعنی داعویة الأمر للمکلّف إلی الإتیان بمتعلقه من القسم الأول ، حیث إنّ داعویة الأمر إنّما تکون بعد تحقّق الأمر ، کما أنّ لحاظ داعویة شخص ذلک الأمر إلی الإتیان بمتعلقه یکون بعد الأمر به ، وقوله قدس سره : «لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتّی إلاّ من قبل الأمر» إشارةٌ إلی القسم الأوّل من القیود ، وإلی کون قصد الامتثال منها ، فیکون قصد الامتثال مما یعتبر فی صحّة العمل عقلاً فیما إذا کان الغرض والملاک ممّا لا یحصل بمجرّد الإتیان بذات متعلق الأمر خارجا ، حیث إنّ العقل مستقلّ بلزوم الإتیان بالعمل بنحو یحصل غرض المولی من الأمر .

[1] وقد یقال إنّ قصد الامتثال یمکن أخذه فی متعلق الأمر ، حیث یمکن للشارع أن یأمر ثبوتا بالصلاة الخاصة مثلاً ، وهی الصلاة التی أُرید بها امتثال الأمر ، وبعد الأمر بالصلاة الخاصة یمکن للمکلف الإتیان بها کذلک ؛ لأنّ القدرة المعتبرة فی

ص :324

إن قلت: نعم، ولکن نفس الصلاة أیضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقیدة [1].

قلت: کلاّ، لأنّ ذات المقید لا یکون مأموراً بها، فإن الجزء التحلیلی العقلی لا یتصف بالوجوب أصلاً، فإنّه لیس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسی، کما ربما یأتی فی باب المقدمة.

الشَرح:

التکلیف هی القدرة علی متعلقه فی ظرف الامتثال ، لا القدرة حال الأمر ، فإنّ الموجب لخروج التکلیف عن اللغویة هو الأوّل دون الثانی ، وتوقّف لحاظ قصد شخص الأمر وتصوّره تفصیلاً علی تحقّق الأمر ، لا یوجب عدم إمکان لحاظه بنحو الکلی أو بالعنوان المشیر إلی الشخص الموجود بالأمر فیما بعد ، فلا محذور فی أخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر لا للمولی ولا للعبد فی ظرف الامتثال .

ودَفَع قدس سره هذا التوهّم : بأنّ تصوّر الصلاة الخاصة فی مقام الأمر وإن کان ممکنا ، إلاّ أن_ّه مع تعلّق الأمر بتلک الصلاة لا یتمکّن المکلف من الصلاة بداعویة الأمر بها حتّی فی ظرف الامتثال ، حیث إنّ قصد الامتثال عبارة عن الإتیان بالعمل بداعویة الأمر بذلک العمل ، والمفروض أنّ الأمر لم یتعلّق بنفس الصلاة (أی بذات العمل) لیمکن للمکلّف الإتیان به بداعویته إلی الإتیان ، بل تعلّق بالصلاة الخاصّة ، ومن الظاهر أنّ الأمر لا یکاد یدعو إلاّ إلی متعلّقه لا إلی غیره ، وداعویة الأمر المفروض إلی نفس الصلاة من داعویة الأمر إلی غیر متعلّقه .

[1] وحاصل الإشکال أنّ تعلّق الأمر بالصلاة المقیدة بقصد امتثال الأمر لا یوجب عدم تمکّن المکلف من الإتیان بها بداعویة الأمر بها ، فإنّ ذات المقیّد _ یعنی نفس الصلاة _ تکون متعلّقة للأمر المتعلّق بالصلاة المقیدة .

ص :325

إن قلت: نعم، لکنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً، وأما إذا أخذ شطراً، فلا محالة نفس الفعل الذی تعلق الوجوب به مع هذا القصد، یکون متعلقاً للوجوب، إذ المرکب لیس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ویکون تعلقه بکل بعین تعلقه بالکل، ویصح أن یؤتی به بداعی ذاک الوجوب، ضرورة صحة الإتیان بأجزاء الواجب بداعی وجوبه.

قلت: مع امتناع اعتباره کذلک، فإنّه یوجب تعلّق الوجوب بأمر غیر اختیاری، فإن الفعل وإن کان بالإرادة اختیاریاً، إلاّ أن إرادته _ حیث لا تکون بإرادة أخری، وإلاّ لتسلسلت _ لیست باختیاریة، کما لا یخفی. إنّما یصح الإتیان بجزء الواجب بداعی وجوبه فی ضمن إتیانه بهذا الداعی، ولا یکاد یمکن الإتیان بالمرکب عن قصد الإمتثال، بداعی امتثال أمره.

الشَرح:

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ الأمر المتعلّق بالمقید لا یکون أمرا بذات المقید ، حیث إنّ انحلال المقید إلی الذات والتقیید عقلی ، فإنّ المقیّد بما هو مقیّد له وجود واحد تعلّق به وجوب نفسی واحد .

لکن قد یقال : إنّ عدم تعلّق الأمر بنفس الصلاة مثلاً إنّما یصحّ فیما إذا أُخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر بنحو القید والاشتراط ، وأمّا إذا أُخذ فی متعلّق التکلیف جزءا بأن یکون متعلّق الأمر الکلّ المرکّب من ذات العمل وقصد امتثال أمره ، کانت نفس الصلاة متعلّقا للأمر الضمنی لا محالة ، إذ لیس الکلّ إلاّ نفس الأجزاء ، فیمکن للمکلّف الإتیان بنفس الصلاة بداعویة الأمر المتعلّق بها ضمنا .

وأجاب قدس سره عن ذلک بوجهین :

الوجه الأوّل: إنّ الفعل وإن کان بالإرادة والقصد اختیاریّا ، إلاّ أنّ نفس الإرادة والقصد غیر اختیاری لعدم کونه بإرادةٍ أُخری وإلاّ تسلسل ، فالقصد بما أن_ّه غیر اختیاری لا یتعلّق به التکلیف ، وعلیه فلا یکون قصد الامتثال جزءا من متعلّق الأمر .

ص :326

إن قلت: نعم، لکن هذا کلّه إذا کان اعتباره فی المأمور به بأمر واحد [1]، وأم_ّا إذا کان بأمرین: تعلّق أحدهما بذات الفعل، وثانیهما بإتیانه بداعی أمره، فلا محذور أصلاً، کما لا یخفی. فللآمر أن یتوسل بذلک فی الوصلة إلی تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت: _ مضافاً إلی القطع بأنه لیس فی العبادات إلاّ أمر واحد، کغیرها من الشَرح:

الوجه الثانی: أنّ داعویة الأمر الضمنی إلی الإتیان بالجزء إنّما هی فی ضمن داعویة الأمر بالکلّ إلی الإتیان بالکلّ ، وفیما نحن فیه لابدّ من افتراض داعویة الأمر الضمنی بالصلاة داعویة مستقلّة ؛ إذ لا یحصل المرکّب من قصد الإمتثال وغیره ، بقصد امتثال الأمر بذلک المرکّب ، فإنّ لازمه أن یتعلّق الأمر بقصد الامتثال نفسه، ومن الواضح أنّ الأمر یحدث منه الداعویة لا أنّه یتعلّق بداعویة نفسه.

[1] وتقریره أنّ لزوم المحذور من أخذ قصد الامتثال فی متعلّق التکلیف إنّما هو فیما إذا کان التکلیف واحدا وقد أُخذ فی متعلّقه قصد الامتثال جزءا ، وأمّا إذا کان فی البین تکلیفان مولویان ، أحدهما یتعلّق بنفس الصلاة ، وثانیهما بالإتیان بها بقصد امتثال الأوّل ، فلا یلزم محذور أصلاً ، غایة الأمر تفترق الواجبات التعبدیة عن التوصلیة ، بأنّ التکلیف المولوی فی التوصلیات واحد یتعلّق بنفس العمل ، وفی التعبدیات یثبت فی کلّ منها تکلیفان یتعلّق أحدهما بذات العمل ، والآخر بالإتیان به بداعویة الأمر الأوّل ، فلا یدعو شیء من التکلیفین إلاّ إلی الإتیان بمتعلّقة ، لا إلی قصد امتثال نفسه ، کما کان علیه الحال مع فرض وحدة التکلیف فان لزوم قصد الإمتثال فی الأمر لا یکون بتعلق ذلک الأمر بقصد امتثال نفسه.

وأجاب قدس سره عن ذلک : بأنّ من المقطوع به عدم الفرق بین التعبدی والتوصلی بثبوت تکلیفین مولویین فی الأوّل وتکلیف مولوی واحد فی الثانی ، هذا أوّلاً .

ص :327

الواجبات والمستحبات، غایة الأمر یدور مدار الإمتثال وجوداً وعدماً فیها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فیدور فیه خصوص المثوبات، وأم_ّا العقوبة فمترتبة علی ترک الطاعة ومطلق الموافقة _ أنّ الأمر الأوّل إن کان الشَرح:

وثانیا : إذا فُرض کون الأمر الأوّل المتعلّق بنفس العمل مولویا ، کما هو الفرض ، فإن کان یسقط بمجرّد الإتیان بذات العمل ولو لم یقصد به الامتثال الذی یقتضیه الأمر الثانی ، فلا یبقی مجال لموافقة الأمر الثانی ؛ لانتفاء موضوعه فلم یصل المولی إلی غرضه بجعل تکلیفین ، وإن لم یسقط التکلیف الأوّل بالإتیان بنفس المتعلّق ، فلابدّ من أن یکون عدم سقوطه لعدم حصول غرضه من أمره ، ولو سقط التکلیف بلا حصول غرضه لم یکن الغرض موجبا لحدوثه ، ومع عدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، لا حاجة إلی التکلیف الثانی ، لاستقلال العقل بلزوم الإتیان بالمتعلّق علی نحو یحصل غرض المولی والآمر ، فلا یکون فی التکلیف المولوی الثانی ملاک .

والحاصل : إنّ تعلّق أمر بفعل وتعلّق أمر آخر باستناد ذلک الفعل إلی داعویة الأمر الأوّل _ فیما إذا کانا من قبیل الأمرین النفسیین _ یوجب أحد المحذورین : إمّا سقوط الأمرین معا بالإتیان بذات الفعل ؛ لسقوط أحدهما بهذا الإتیان ، والثانی لارتفاع موضوعه ، وإمّا أن لا یکون للأمر الثانی ملاک المولویة ، کما إذا لم یسقط الأمر الأوّل بالإتیان بذات الفعل .

أقول : یمکن إفتراض أمر واحد یکون لمتعلّقه جزئان ، أحدهما ذات الفعل ، والآخر استناد ذلک الفعل إلی داعویة أمره الضمنی بأن یکون أحد الضمنیین متعلّقاً بذات الفعل ، والضمنی الآخر متعلّقاً بداعویة الضمنی الأوّل إلی متعلّقه ، ولا یلزم من ذلک محذور ؛ لأنّ داعویة الأمر الضمنی بذات الفعل ، بداعویة الضمنی الآخر الذی دعی إلی متعلّقه ، وهو استناد الفعل إلی الأمر الضمنی به .

ص :328

یسقط بمجرد موافقته، ولو لم یقصد به الإمتثال، کما هو قضیة الأمر الثانی، فلا یبقی مجال لموافقة الثانی مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا یتوسل الآمر إلی غرضه بهذه الحیلة والوسیلة، وإن لم یکد یسقط بذلک، فلا یکاد یکون له وجه، الشَرح:

وما تقدّم فی کلامه من أنّ داعویة الأمر الضمنی إلی متعلقه إنّما هی فی ضمن داعویة الأمر بالمرکب إلی المرکّب ولا تکون داعویته مستقلة ، فإنّما یصحّ لو کان کلّ من جزئی المرکّب تعبدیا ، أو لم یحصل الجزء الآخر بمجرّد امتثال الأمر الضمنی ، وبما أنّ المفروض فی المقام أنّ الضمنی الآخر قد تعلّق باستناد الفعل إلی داعویة الضمنی الأوّل ، فبقصد امتثال الأمر الضمنی الأوّل یحصل کلا جزئی المرکّب .

والحاصل : أنّه لم یتعلّق شیء من الأمرین الضمنیین بداعویة نفسه إلی متعلّقه لیقال إنّ الأمر لا یتعلّق بداعویة نفسه لأنه من قبیل کون الشیء علّة لعلّیّة نفسه ، بل تعلّق أحدهما بذات العمل والثانی بداعویة الأوّل إلی متعلّقه .

وممّا ذکرنا ظهر أن_ّه لا موجب للالتزام بثبوت أمرین مستقلّین فی التعبدیات یتعلّق أحدهما بذات العمل والثانی بداعویة الأمر الأوّل إلی متعلّقه لیقال إنّ من المقطوع به عدم الفرق بین التوصلیات والتعبدیات بثبوت الأمر المولوی الواحد فی الأوّل وثبوت أمرین مولویین فی الثانی .

لا یقال : لا یمکن التبعیض فی الأمر الواحد المتعلّق بالمرکب فی الجعل إذ لو کان استناد الفعل إلی الأمر الضمنی المتعلّق بذاته ، متعلّقاً للأمر الضمنی الآخر ، لزم فرض حصول الأمر الضمنی بذات العمل قبل حصول الأمر الضمنی المتعلّق بقصد التقرب ، مع أنّ التبعیض فی حصول الأمرین الضمنیین غیر ممکن .

فإنّه یقال : الملحوظ فی متعلّق الأمر الضمنی الثانی ، طبیعی الأمر الضمنی المتعلّق بذات العمل ، لا الضمنی الموجود وذلک الطبیعی یحصل بالأمر الواحد

ص :329

إلاّ عدم حصول غرضه بذلک من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه، وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلی غرضه إلی وسیلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة علی نحو یحصل به غرضه، فیسقط أمره.

هذا کلّه إذا کان التقرب المعتبر فی العبادة بمعنی قصد الامتثال.

الشَرح:

بالمرکب .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره فی استحالة أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر وجها آخر وهو أن_ّه لابدّ فی تقیید المتعلّق بقصد الأمر من أخذ الأمر بالفعل مفروض الوجود کما هو مقتضی کلّ قید غیر اختیاری مأخوذ فی الواجب ، فإنّه یؤخذ فی الواجب مفروض الوجود ، ولذا لا یکون الأمر بالواجب المزبور إلاّ علی هذا التقدیر ، وبما أنّ الأمر بالفعل الذی یتمکّن المکلّف من الإتیان به بقصد امتثال أمره ، خارج عن اختیار المکلف فلا بد فی الأمر بالفعل ، من فرض وجود ذلک الأمر بعینه ، وهذا معنی اتحاد الحکم والموضوع فی مرحلة الجعل ، بل لا یمکن فعلیة ذلک الأمر أیضاً ، إلاّ بوجه دائر لأنّ فعلیة الحکم بفعلیة موضوعة ، وحیث إنّ الحکم مأخوذ فی ناحیة الموضوع ومفروض وجوده ، تکون فعلیّة الحکم موقوفة علی فعلیة نفسه ، کما هو مقتضی کون الموضوع هو نفس حکمه(1) .

وقال قدس سره إنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة فیعتبر فی الاطلاق إمکان التقیید ، وإذا لم یمکن تقیید متعلّق الأمر بقصد التقرب (بمعنی العمل بداعویة الأمر به) لما تقدّم من المحذور _ یعنی اتحاد الحکم والموضوع _

ص :330


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 108؛ وفوائد الأُصول : 1 / 149 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فلا یکون لمتعلق الأمر إطلاق لیثبت به کونه توصلیا ، ویتبع مقام الإثبات مقام الثبوت(1) .

وقد ظهر أنّ المحذور فی أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر غیر ناشٍ من ناحیة عدم تمکّن المکلف من الإتیان به بداعویة الأمر به کما ذکر صاحب الکفایة قدس سره ، بل الامتناع من ناحیة عدم إمکان الأمر بالنحو المذکور ، فیکون جعل الحکم وفعلیته دوریا .

وذکر أیضاً أنّ العمل بقصد التقرّب (أی الإتیان بمتعلّق الأمر بداعویته) من الانقسامات اللاحقة لمتعلّق الأمر ، بعد الأمر به ، کما أنّ کون المکلف عالما أو جاهلاً بالحکم من الانقسامات اللاحقة لموضوع الحکم بعد جعله ، ولو کان الغرض المفروض فی البین فی متعلّق الأمر علی نحو یعمّ العالم بالحکم والجاهل به ، فعلی الآمر أن یُنشأ خطابا آخر یکون مفاده تعمیم الحکم فی حقّهما ، کما أن_ّه لو کان غرضه فی خصوص العالم به فاللازم أن یکون مفاد الخطاب الآخر نفی البأس عن الجاهل فی ترک العمل بالخطاب الأوّل ، کما دلّ علی ذلک ما ورد فیالتمام فی موضع القصر ، أو الجهر فی موضع الإخفات وبالعکس ، وورد فی غیر ذلک ما یقتضی اشتراک العالمین والجاهلین فی أحکام الشرع ، کالأدلّة الدالّة علی وجوب تعلّم الأحکام ، وعدم کون الجهل بها عذرا ، وکذلک فیما یکون الغرض مختصّا بصورة الإتیان بمتعلّق الأمر بقصد التقرّب ، فإنّه لابدّ من خطابٍ آخر یتضمن الأمر بذلک الفعل مع قصد التقرّب (أی الإتیان بمتعلق الأمر الأوّل بداعویته) بخلاف ما لو

ص :331


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 113 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کان توصلیا ، فإنّه لا یحتاج إلی الخطاب الآخر ، بل یکون عدم ورود الخطاب الثانی مع إحراز أنّ المولی فی مقام إظهار تمام ما له الدخل فی غرضه ، من الإطلاق المقامی المقتضی للتوصلیة .

والحاصل ، تمتاز التعبدیات عن التوصلیات بثبوت أمرین فی التعبدی ، وأمر واحد فی التوصلی ، وما فیالکفایة من ثبوت أمر واحد _ بلا فرق بین التعبدی والتوصلی ، بدعوی أنّ العقل یستقلّ بلزوم رعایة قصد التقرّب مع إحراز دخله أو احتمال دخله فی حصول الغرض _ غیر صحیح ، فإنّ شأن العقل الإدراک لا الإلزام والحکم فی مقابل حکومة الشرع ، فإلزام المکلف بقصد التقرب لا یکون إلاّ من قبل الشارع ، ولکن کلا الأمرین فی التعبدی لا یکونان من الأمرین النفسیین ، کوجوب صلاة الظهر ونذر الإتیان بها جماعة ، أو فی المسجد ، بأن یکون لکلّ منهما ملاک ملزم وإن لم یکن لامتثال وجوب الوفاء بالنذر مجال بعد الإتیان بالصلاة فرادی أو فی غیر المسجد بل کلا الأمرین فی المقام ناشئان عن ملاک ملزم واحد ، قائم بالفعل القربی ویحتال الآمر وبجعل الأمرین وسیلة إلی بعث المکلف إلی ما فیه غرضه ، فیکونان متساویین فی الثبوت والسقوط ، ونظیر ذلک ، الأمر باغتسال الجنب لیلاً والأمر بالصوم بناءً علی أنّ وجوب الصوم مقیَّد بطلوع الفجر فإنّ الأمرین فی حکم أمر واحد ، ولهما ملاک واحد ، وإنّما جُعلا وسیلة لبعث المکلف إلی ما فیه الغرض ، یعنی الصوم المقید بالطهارة(1) .

أقول : یستفاد من کلامه أُمور ثلاثة :

ص :332


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 105 ؛ وفوائد الأُصول : 1 / 161 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأوّل: أنّ أخذ قصد التقرب _ بمعنی الإتیان بالمتعلّق بداعویة الأمر _ فی متعلّق ذلک الأمر ، یوجب اتّحاد الموضوع والحکم فی مقام الجعل وکون فعلیته دوریّا .

الثانی: أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید فی مقام الثبوت کالاطلاق والتقیید فی مقام الإثبات ، تقابل العدم والملکة ، ولا یتحقّق إطلاق فیما لم یمکن تقییده ؛ ولذا لا یکون فی ناحیة الموضوع للحکم ، أو المتعلّق للأمر ، إطلاق بالإضافة إلی الانقسامات المترتّبة علی جعل الحکم وثبوت الأمر .

الثالث: أنّه لابدّ فی موارد الانقسامات اللاحقة من متمّم الجعل ، وفی مورد الأمر التعبّدی لابدّ من ثبوت أمرٍ آخر بإتیان العمل بداعویة الأمر الأوّل ، وفی مورد التوصلی لا حاجة إلی ذلک ؛ للإطلاق المقامی _ أی عدم الأمر بالفعل بقصد التقرّب _ علی ما تقدّم .

لا یقال : الوجدان حاکم بأنّ الشارع لو أخبر بعد الأمر بفعل ، أنّ الغرض الملحوظ عندی لا یحصل بغیر قصد التقرب ، یکفی هذا الإخبار فی تعبدیة الأمر الأوّل ، فلا یحتاج إلی الحکم المولوی الثانی .

فإنّه یقال : الإخبار بعدم حصول الغرض ، بداعی البعث إلی الإتیان بالفعل بقصد التقرّب ، بنفسه یعتبر أمرا آخر .

أمّا الأمر الأوّل ففیه: أنّ الوجه فیأخذ قیود الواجب غیر الاختیاریة مفروضة الوجود فی مقام الجعل هو عدم إمکان التکلیف فی فرض عدم تلک القیود، حیث یکون التکلیف مع فرض عدمها من قبیل التکلیف بغیر المقدور، ویختص ذلک بماکان فی البین صورتان صورة وجود القید وصورة عدمه، وحیث إنّ التکلیف فی

ص :333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

إحدی الصورتین من قبیل التکلیف بما لا یطاق، فاللازم تقیید موضوع التکلیف بصورة أُخری، وهی صورة حصول القید، وأمّا إذا کان القید غیر الاختیاری یحصل بنفس اعتبار التکلیف، کما هو الفرض فی المقام، حیث إنّ قصد التقرب یکون بالأمر وهذا الأمر غیر الاختیاری یحصل بنفس اعتبار التکلیف فلا موجب لفرض وجوده.

ثمّ إنّ فرض وجود القید لا ینحصر بما إذا کان القید أمرا غیر اختیاری ، بل یمکن فرض وجود أمر اختیاری أیضاً إذا کان الملاک الملزم فی متعلّق التکلیف متوقّفا علی اتّفاق وجوده ، فیعتبر فی التکلیف مفروض الوجود ، کما یأتی توضیحه فی بحث الواجب المعلّق والمشروط ، هذا فی التکالیف الوجوبیة .

وأمّا التکالیف التحریمیة التی یکون الملاک فیها مفسدة الفعل ، فلا موجب لأخذ قیود الموضوع بتمامها مفروضة الوجود بحیث لا تکون الحرمة فعلیة قبل حصول القید ، کما فی تحریم شرب الخمر والمیتة وغیرهما ، فإنّ مثل هذه التکالیف مما یتمکّن المکلف من إیجاد الموضوع لها ، کصنع الخمر أو جعل الحیوان میتة ونحوهما ، فیکون التحریم فعلیا ، حیث یمکن للمکلف ترک شرب الخمر ولو بترک صنع الخمر ، ویمکن له ترک أکل المیتة ولو بعدم جعل الحیوان میتة ونحو ذلک .

وأمّا الأمر الثانی: یعنی کون التقابل بین الإطلاق والتقیید بحسب مقام الثبوت، تقابل العدم والملکة، وإذا لم یمکن التقیید فی متعلّق الحکم أو موضوعه یکون الإطلاق أیضاً ممتنعا ، فلا یمکن المساعدة علیه ، فإنّه إذا لم یمکن أخذ قید فی الموضوع أو المتعلّق یکون إطلاقه الذاتی (أی عدم أخذ ذلک القید فی الموضوع أو المتعلّق) ضروریا ؛ ولذا التزم قدس سره بأنّ متعلّق الأمر الأوّل فی الواجبات التعبدیة هو

ص :334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ذات الفعل ، ویتعلّق الأمر الثانی بالإتیان به بداعویة الأمر المتعلّق بنفس الفعل ، وإذا لم یکن ذلک المتعلّق مطلقا ، فکیف یقصد الإتیان بالعمل بداعویة الأمر المتعلّق بنفس ذلک العمل؟

ومن هنا ظهر أن_ّه لو لم یمکن تقیید موضوع الحکم بالعالم به ، یکون الإطلاق الذاتی فی موضوع ذلک الحکم ضروریا ، وبالجملة الإطلاق الذاتی فی متعلّق الأمر مما لابدّ من الالتزام به .

غایة الأمر لا یستفاد منه أنّ الغرض الملزم لجعل التکلیف قائم بذات المتعلّق ، أو قائم بالفعل بقصد التقرب ، وإذا لم یرد بعد الأمر الأوّل أمر ثان بالإتیان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعویته ، یکون الطلب الأوّل متّصفا بالتوصلیة ، نظیر ما ذکرنا من أنّ إطلاق صیغة الأمر (أی طلب فعل) وعدم ورود الترخیص فی الترک یوجب اتّصاف الطلب بالوجوب ، وکما أنّ إطلاق الصیغة هناک _ بمعنی عدم ورود الترخیص فی الفعل _ یکون مقتضیا لکون الطلب وجوبیا ، کذلک إطلاق الأمر بمعنی عدم ورود أمر ثان بالإتیان بالعمل بداعویة الأمر الأوّل یقتضی کونه توصلّیاً ، وکما أنّ الإطلاق الأوّل لفظی ، کذلک الإطلاق فیما نحن فیه ، غایة الأمر أنّ الإطلاق لیس فی ناحیة المتعلّق ، بل فی ناحیة نفس الأمر والطلب .

وأمّا ما ذکره ثالثا: من جعل الأمرین فی مورد کون الوجوب تعبّدیا، فقد تقدّم إمکان قصد التقرّب فی متعلّق الأمر الأوّل، ومعه لا تصل النوبة إلی الاحتیال بأمرین.

لا یقال: ما الفرق بین ما ذکره صاحب الکفایة قدس سره من عدم إمکان أخذ التقرب فی متعلّق الأمر الأوّل وأنّ دخله فی حصول الغرض یکون موجبا لحکم العقل

ص :335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

برعایته فی امتثال الأمر المتعلّق بذات العمل، وبین ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره من أنّ شأن العقل الإدراک لا التشریع والإلزام وفی موارد دخله فی الغرض، علی الشارع أن یأمر ثانیا بالإتیان بمتعلّق الأمر الأوّل بداعویته، مع أنّ إخبار الشارع بعدم حصول غرضه بالإتیان بذات العمل کافٍ فی لزوم قصد التقرّب بلا حاجة الی الأمر المولوی الثانی؟

فإنّه یقال : نفس الإخبار بعدم حصول غرضه ، بداعی البعث إلی قصد التقرب أمر ثان بالإتیان به بداعویة الأمر الأوّل ، ویظهر الفرق بین المسلکین فی الرجوع إلی الأصل العملی ، فإنّه علی ما سلکه المصنف قدس سره یکون المورد من موارد الاشتغال ، للشکّ فی سقوط التکلیف بخلاف ما سلکه المحقّق النائینی قدس سره ، فإنّ مقتضی البراءة الشرعیة عن الوجوب الثانی هو الاکتفاء بذات العمل ، نظیر البراءة الشرعیة فی موارد دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر ، وکما أنّه مع جریان البراءة عن تعلّق الوجوب بالأکثر تکون أصالة البراءة واردة علی قاعدة الاشتغال ، من جهة العلم بأصل التکلیف والشک فی سقوطه مع الاقتصار علی الأقل ، کذلک جریان البراءة فی ناحیة الوجوب الثانی تکون واردة علی قاعدة الاشتغال من جهة احتمال بقاء الأمر الأوّل ، وعدم سقوطه بالإتیان بذات العمل ، فتدبّر جیّداً .

ص :336

وأما إذا کان بمعنی الاتیان بالفعل بداعی حسنه، أو کونه ذا مصلحة أو له تعالی [1]، فاعتباره فی متعلق الأمر وإن کان بمکان من الإمکان، إلاّ أنه غیر معتبر فیه قطعاً، لکفایة الإقتصار علی قصد الإمتثال، الذی عرفت عدم إمکان أخذه فیه بدیهة.

الشَرح:

أنحاء قصد التقرب

:

[1] قد یقال : إنّ قصد التقرب فی العبادة لا ینحصر بالإتیان بالعمل بداعویة الأمر بذلک العمل ، لیقال إنّ قصد التقرب بهذا المعنی لا یمکن أخذه فی متعلّق الأمر لما تقدّم من المحاذیر ، بل یکون قصد التقرب فی العمل بالإتیان به بداعویة حسنه أو بداعویة مصلحته أو قصد کونه للّه (سبحانه) ، فیمکن للشارع الأمر بالصلاة أو غیرها بشرط أن یُؤتی بها للّه أو لحسنها ومصلحتها ، ولا یلزم من أخذ شیء من ذلک فی متعلّق الأمر أیّ محذور.

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ أخذ ما ذکر فی متعلّق الأمر وإن کان ممکنا إلاّ أنّ شیئا منها غیر معتبر فی متعلّق الأمر فی العبادات قطعا ، لأن_ّه یکفی فی صحّة العمل عبادةً الإتیان بقصد التقرب بالمعنی المتقدّم ، ولازم صحّة العمل بقصد التقرب _ بالمعنی المتقدّم _ أن یتعلّق الأمر بذات العمل ، بأن لا یؤخذ فی متعلّق الأمر شیء ممّا ذکر .

أقول : یمکن ان یؤخذ جامع قصد التقرب فی متعلّق الأمر بالصلاة وغیرها من العبادات جزءا ، ففی هذه الصورة ، کفایة قصد التقرّب بالمعنی المتقدّم یکشف عن عدم اعتبار خصوص غیره، ولا ینافی اعتبار الجامع بین أنحاء التقرّب وهو أن یکون عند العمل قصد یکون معه العمل للّه ، نظیر قوله (سبحانه) : «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ لِلّهِ»(1) .

ص :337


1- (1) سورة البقرة : الآیة 196 .

تأمل فیما ذکرناه فی المقام، تعرف حقیقة المرام، کیلا تقع فیما وقع فیه من الاشتباه بعض الأعلام.

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : لا یکون ذلک الجامع قیدا لمتعلّق التکلیف بنحو الشرطیة ، لیقال إنّ متعلّق الأمر یصیر حصة من الصلاة لا نفس الصلاة ، وإنّ الأجزاء التحلیلیة لا تتصف بالوجوب ، بل یکون الجامع جزءا من المرکّب علی نحو ما تقدّم ، فیمکن للمکلف الإتیان بذات العمل بداعویة الأمر الضمنی المتعلّق بنفس العمل ، کما یمکن له الإتیان بالمرکب من الصلاة وقصد الإتیان بها ، لصلاحها أو لتحصیل رضا الربّ بها .

لا یقال : إذا فرض أخذ الجامع بین أنحاء التقرّب فذلک الجامع لا یمکن أن یعمّ الإتیان بداعویة الأمر بالعمل .

فإنّه یقال : إذا فرض حصول فرد للتقرب المأخوذ فی متعلّق الأمر ، یصح الإتیان بذات الفعل مع ذلک الفرد من التقرب ، حیث إنّ الفعل مع ذلک الفرد من التقرب یکون مصداقا للمجموع المتعلّق به الأمر ، وسرایة الحکم إلی الفرد ، من الطبیعی الحاصل بعد الحکم لا محذور فیه ، نظیر قولک : (خیر الکلام ما قلّ ودلّ) فإنّ الحکم المذکور فیه یشمل نفسه .

وبالجملة لو فرض امتناع أخذ التقرب _ بمعنی داعویة الأمر إلی العمل _ فی متعلّق الأمر بذلک العمل ، لما تقدّم من لزوم اتحاد الحکم والموضوع ، فهذا الوجه یختصّ بأخذ خصوص التقرب المزبور لا جامع التقرب ، فإنّ أخذ جامع التقرب لا یتوقف علی فرض وجود الأمر بالفعل فی مقام جعل الحکم ، حیث إنّ الإطلاق _ کما تقدّم _ عبارة عن رفض القیود وعدم دخالتها فی متعلّق الحکم ، ولا یکون شیء من خصوصیات أنحاء التقرب مأخوذا فی متعلّق الأمر ، فلا یلزم من أخذ الجامع لها

ص :338

ثالثتها: إنّه إذا عرفت بما لا مزید علیه، عدم إمکان أخذ قصد الإمتثال فی المأمور به أصلاً، فلا مجال للإستدلال بإطلاقه _ ولو کان مسوقاً فی مقام البیان _

الشَرح:

محذور اتّحاد الحکم والموضوع .

نعم قد یقال _ کما عن المحقّق النائینی قدس سره _ : أن_ّه کما لا یمکن أخذ قصد التقرب _ بمعنی قصد الفعل بداعی الأمر المتعلّق به _ فی المتعلّق ، کذلک لا یمکن أخذ سائر وجوه القربة فی متعلّق الأمر ؛ وذلک لأنّ الدواعی کلّها فی عرضٍ واحد ، بمعنی کونها فی مرتبة سابقة علی إرادة الفعل وتنشأ منها إرادة الفعل ، وإذا کان الأمر کذلک ، فیستحیل تعلّق الأمر بالفعل بداعٍ خاصّ منها ، أو بالجامع بینها ، وذلک لأنّ إرادة العبد الناشئة من داعٍ ما تتعلّق بالفعل ولا تتعلّق بالداعی ، وإذا استحال تعلّق الإرادة التکوینیة بشیءٍ ، استحال تعلّق الإرادة التشریعیة به ، فإنّ ما تتعلّق به الإرادة التکوینیة من العبد یتعلّق به أمر المولی ، ومن الظاهر أنّ إرادة العبد تتعلق بنفس العمل لا بالداعی الموجب لإرادة العمل ، حیث إنّ الإرادة متأخّرة عن الداعی ، فکیف تتعلّق الإرادة المتأخّرة بالداعی المتقدم علیها ؟ وإذا کان الأمر فی الإرادة التکوینیة کذلک ، فالإرادة التشریعیة _ یعنی أمر المولی _ أیضاً کذلک فإنّها تتعلّق بنفس ما تتعلّق به إرادة العبد لا بالداعی الموجب لإرادته(1) .

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّ الداعی الموجب لإرادة الفعل واختیاره لا یدخل فی متعلّق تلک الإرادة والاختیار ، وأمّا تعلّق إرادة واختیار أُخری بذلک الداعی فلا محذور فیه ، ولو کان فی ذلک محذور لما أمکن للمحقّق النائینی قدس سره الإلتزام بتعلّق الأمر الثانی فی العبادات باستناد الإتیان بالعمل إلی داعویة الأمر الأوّل المتعلّق

ص :339


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 109 .

علی عدم اعتباره [1]، کما هو أوضح من أن یخفی، فلا یکاد یصح التمسک به إلاّ فیما یمکن اعتباره فیه.

الشَرح:

بذات العمل ، فإنّه من تعلّق الأمر الثانی بالداعی الموجب لإرادة الفعل . وبتعبیرٍ آخر : یمکن للعبد أن یختار ویرید الداعی الموجب لإرادته العمل .

ثمّ إنّه لو أُغمض عن کلّ ما ذکرنا إلی الآن ، فنقول : لا مانع عن تعلّق أمر الشارع بالصلاة الخالیة عن إرادتها بالدواعی النفسانیة ولو بنحو التقیید ، بأن یکون متعلّق الأمر الصلاة الخاصّة وهی الصلاة التی تعلّقت بها إرادة غیر ناشئة عن الدواعی النفسانیة ، وهذا الوصف یستلزم قصد التقرب ، فقصد التقرب بنفسه غیر مأخوذ فی متعلّق الأمر بالصلاة لا شرطا و لا جزءا ، بل متعلّق الأمر نفس الصلاة الخالیة عن الإرادة الناشئة من الدواعی النفسانیة ، وعلیه یتمکّن المکلّف من الإتیان بالصلاة المتعلّق بها الأمر ، فإنّه مع فرض الإتیان بها بداعویة الأمر بها تکون تلک الصلاة هی الصلاة التی تعلّق بها الأمر ، فتدبر . ولعلّ هذا هو المراد ممّا حکی عن بعض تقریرات العلاّمة الشیرازی قدس سره ، فلا یرد علیه شیء ممّا ذکر حوله(1) .

استظهار التوصلیة من إطلاق صیغة الأمر

:

[1] قد تقدّم أن_ّه قدس سره بنی علی عدم إمکان أخذ التقرب فی مقام الثبوت فی متعلّق الوجوب وأنّ الوجوب ثبوتا یتعلّق بذات الفعل ، سواء کان من قبیل الواجب التعبدی أو التوصلّی ، وإنّما الفرق بینهما فی ناحیة الغرض والملاک الملحوظ بنظر الشارع ، فإن کان ذلک الملاک والغرض فی ذات الفعل ، یسقط الوجوب المتعلّق به بالإتیان بنفس المتعلّق ، بخلاف التعبدی فإنّ الملاک والغرض لایحصل إلاّ بوقوع

ص :340


1- (1) حکی عنه قدس سره فی أجود التقریرات : 1 / 111 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المتعلّق علی نحو العبادة وقصد التقرب بالعمل ، وحیث إنّ سقوط التکلیف تابع لحصول الملاک وتأمین الغرض فلا یسقط التکلیف فی التعبدیات بمجرد الإتیان بنفس متعلّق الوجوب ، وعلی ذلک فإن تعلّق التکلیف فی خطابه بفعل وکان المولی فی مقام بیان متعلّق التکلیف فی مقام الثبوت ، فلا یمکن التشبّث بإطلاق ذلک المتعلّق فی مقام الإثبات (یعنی الخطاب) وإثبات أنّ الوجوب ثبوتا توصلی ، لما تقدّم من عدم الفرق فی مقام الثبوت بین متعلّق التکلیف فی التوصلیات والتعبدیات ، وأنّ المتعلّق علی کلا التقدیرین نفس الفعل ، والمفروض أنّ الخطاب یکون کاشفا عن التکلیف ومتعلقه وموضوعه فی مقام الثبوت .

هذا کلّه _ کما ذکرنا _ مبنی علی عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق التکلیف ولو بجعل وجوبین علی ما سلکه وأمّا بناءً علی إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق التکلیف وأنّ الواجب التعبدی والتوصلی یفترقان ثبوتا فی ناحیة متعلّق الوجوب فیؤخذ قصد التقرب فی متعلّق الوجوب الواقعی جزءا أو وصفاً بنحو التخلیة عن الدواعی النفسانیة کما ذکرناه أخیرا ، فلا مانع عن التمسّک بإطلاق المتعلّق فی مقام الإثبات ، وکشف أنّ الواجب ثبوتا توصلی بمقتضی تطابق مقام الإثبات مع الثبوت ، فیکون الإطلاق المتمسّک به إطلاقا فی ناحیة المتعلّق بخلاف ما إذا بنینا علی تعین أخذ قصد التقرب فی المتعلّق بالأمر المولوی الثانی کما التزم به المحقّق النائینی قدس سره فلا یمکن التمسّک بإطلاق المتعلّق وإنّما جواز التمسک بإطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل فی الأمر الأوّل ، حیث إنّ عدم تعقّبه بالأمر الثانی المتعلّق بالإتیان بالأوّل بنحو التعبّد یقتضی التوصلیة ، نظیر عدم تعقب الترخیص فی الترک للطلب فکما أن الإطلاق المستفاد من صیغة الأمر أو غیرها یقتضی کون

ص :341

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الطلب وجوبیا ، کذلک إطلاق الوجوب المتعلّق بذات الفعل وعدم تعقّبه بالوجوب الثانی یقتضی التوصلیة ، فلا یحتاج فی إثبات التوصلیة إلی إحراز الإطلاق المقامی ، لیقال إنّ إحراز الإطلاق المقامی بالإضافة إلی قصد التقرب غیر ممکن ؛ لأنّ احتمال التعبدیة فی الواجبات الشرعیة لیس ممّا یغفل عنه العامة حتّی یحتاج إلی التنبیه ، کما سیأتی ذلک فی اعتبار قصد الوجه والتمییز فی التعلیقة اللاحقة .

وبالجملة فإن أُحرز فی مورد أنّ الشارع فی مقام بیان تمام ما له الدخل فی متعلّق التکلیف جزءا أو شرطا أو مانعا فلا یصحّ للمصنّف قدس سره التمسک بهذا الاطلاق المقامی ، حیث إنّ قصد التقرّب لیس ممّا یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف ، بخلاف ما إذا بنینا علی إمکان أخذه فی متعلّق التکلیف ولو بأمرین ، فإنّه یجوز التمسک بهذا الاطلاق المقامی ؛ لأنّ قصد التقرب مثل سائر الأجزاء والشروط .

نعم إذا کان الشارع فی مقام بیان تمام ما له الدخل فی حصول غرضه لا تکلیفه ومع ذلک سکت فیه عن بیان اعتبار قصد التقرب یستکشف من هذا الاطلاق المقامی التوصلیة حتّی بناءً علی مسلک الماتن قدس سره .

وإذا فرض عدم الإطلاق اللفظی وعدم الاطلاق المقامی ووصلت النوبة إلی الأصل العملی یکون مقتضی أدلّة البراءة الشرعیة عدم جزئیة قصد التقرب وعدم شرطیته بناءً علی إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر ولو بأمرین ، حیث إنّ تعلّق الأمر بقصد التقرّب أو ثبوت الأمر الثانی مما لا یعلمون ، فهو مرفوع کالرفع فی سائر الأجزاء والشرائط ، ومعها لا تصل النوبة إلی قاعدة الاشتغال کما هو مقرر فی بحث دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین .

ص :342

فانقدح بذلک أنّه لا وجه لاستظهار التوصلیة من إطلاق الصیغة بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشیء من قبل الآمر، من إطلاق المادة فی العبادة [1] لو شک فی اعتباره فیها، نعم إذا کان الأمر فی مقام بصدد بیان تمام ماله دخل فی حصول غرضه، وإن لم یکن له دخل فی متعلّق أمره، ومعه سکت فی المقام، ولم ینصب دلالة علی دخل قصد الإمتثال فی حصوله، کان هذا قرینة علی عدم دخله فی غرضه، وإلاّ لکان سکوته نقضاً له وخلاف الحکمة، فلا بدّ عند الشک وعدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلی ما یقتضیه الأصل ویستقل به العقل.

الشَرح:

نعم بناءً علی ما اختاره الماتن قدس سره لا یکون المورد إلاّ من موارد قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ لزوم قصد التقرب لیس مجعولاً شرعیا حتّی تجری البراءة فی ناحیته لمکان الجهل بذلک المجعول الشرعی ، بل یکون عقلیا ، والمفروض استقلال العقل بلزوم الطاعة بنحو یحصل الغرض ویسقط التکلیف المتعلّق بالفعل ، کما لا یخفی .

قصد الوجه والتمییز

:

[1] ما ذکره قدس سره فی ناحیة عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر أجراه فی ناحیة أخذ قصد الوجه والتمییز أیضاً والتزم بأنّ کلّ قصد ناشٍ من قبل الأمر بفعل ، لا یمکن أخذه فی متعلّق ذلک الأمر لعینِ ما تقدّم فی وجه امتناع أخذ قصد التقرب ، وعلیه فلو شکّ عند الأمر بفعلٍ فی لزوم قصد الوجه والتمییز فی حصول الغرض وسقوط التکلیف به ، فالعقل یستقل بالرعایة حتّی یحرز سقوط التکلیف وحصول الغرض ، إلاّ أنّ الإطلاق المقامی المشار إلیه فی التعلیقة السابقة بالإضافة إلی قصد الوجه والتمییز ثابت ، حیث إنّ احتمال دخلهما فی سقوط التکلیف وحصول الغرض ممّا یغفل عنه عامة الناس ، ولو کان شیء منهما أو کلاهما دخیلاً فی غرض الشارع فی العبادات لتعرّض إلی اعتبارهما فی المتعلّق ولو فی بعض

ص :343

فاعلم: أنّه لا مجال _ ها هنا _ إلاّ لأصالة الإشتغال، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیین، وذلک لان الشک ها هنا فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا یکون العقاب _ مع الشک وعدم إحراز الخروج _ عقاباً بلا بیان، والمؤاخذة علیه بلا برهان،

الشَرح:

الخطابات ، مع أنّه لم یرد التعرّض لهما فی شیء منها ، ومن ذلک یعلم عدم دخلهما وإلاّ کان سکوت الشارع والتعویل علی حکم العقل فیها من نقض الغرض .

أقول : أخذ قصد التمییز فی موارد الشبهات الموضوعیة فی متعلّق التکلیف لا محذور فیه بأن یأمر الشارع بالصلاة إلی جهة یعلم عند الإتیان بأنّها القبلة ، أو یأمر بصلاة یعلم أنّها مع الطهارة ونحو ذلک ، فلا یرد فیه شیء من محذور أخذ قصد التقرب . وکذا الحال فی قصد الوجه والتمییز إذا أُرید بهما توصیف العمل بالوجوب والندب عند الإتیان.

نعم إذا أُرید من قصد الوجه الإتیان بالعمل بداعویة وجوبه أو ندبه ومن قصد التمییز کون وجوبه داعیا إلی الإتیان به لا احتمال وجوبه ، لجری فیها ما تقدّم فی قصد التقرب.

فی التعبدی بمعنی عدم سقوط التکلیف بفعل الغیر

:

ثمّ إنّه یبقی الکلام فی کون الواجب تعبدیا أو توصلیا بالمعنی الآخر کما أشرنا إلیه فی أوّل البحث ، وهو أنّ التکلیف المتوجّه إلی المکلف إن کان یسقط بفعل الغیر یکون التکلیف توصلیا ، وإن لم یسقط یکون تعبدیا ، وکذا إن کان یسقط بالإتیان بالفرد غیر الاختیاری أو حتّی بالفرد المحرّم یکون توصلیا ، ومع عدم سقوطه کذلک یکون تعبدیّا ، فالکلام یقع فی مقامات ثلاثة :

ص :344

ضرورة أنّه بالعلم بالتکلیف تصح المؤاخذة علی المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، وهکذا الحال فی کل ماشک دخله فی الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا یمکن اعتباره فی المأمور الشَرح:

المقام الأوّل: ما إذا شک فی سقوط التکلیف بفعل الغیر ، فنقول : مقتضی إطلاق إیجاب فعل علی مکلّف ، هو مباشرته فی الإتیان به ، حیث إنّ مقتضی إطلاق الوجوب ثبوته حتّی علی تقدیر إتیان الغیر به أیضاً ، کما یأتی فی بیان أنّ إطلاق الوجوب یقتضی کونه عینیا لا کفائیا ، ثمّ لو لم یکن فی البین إطلاق ووصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فإن کان إتیان الغیر بالفعل قبل توجّه التکلیف إلی المکلف فالمرجع هی البراءة عن التکلیف به، إلاّ إذا کان فی البین أصل محرز لبقاء موضوع التکلیف، کما إذا کان الولد الأکبر حین فوت أبیه صغیرا، أو قد قضی ما علی أبیه صغیر آخر وبعد البلوغ شکّ فی إجزاء فعل ذلک الصبی أو بقاء ما کان علی أبیه علی عهدته، ففی مثل ذلک لا بأس باستصحاب بقاء ما کان علی أبیه، ویثبت وجوب القضاء علیه فیکون مقتضاه التعبدیة، وکذا فیما کان توجه التکلیف بالفعل إلیه قبل فعل الغیر، ولا یخفی أنّ هذا کله فیما کان الفعل بحیث لا یستند عرفا إلاّ إلی المباشر.

وأمّا إذا کان بحیث یستند إلی المباشر وغیر المباشر مع تسبیبه ، کما إذا شکّ فی أنّ التقصیر أو الذبح الواجب فی الحج یعمّ ما کان بالتسبیب أو یعتبر فیه المباشرة ، فقد یقال : إنّ مثل ذلک یدخل فی دوران التکلیف بین التعیین والتخییر ، ویکون مقتضی الأصل التخییر ، حیث إنّ ما دلّ علی البراءة من حدیث الرفع ینفی خصوصیة التعیین .

ویورد علیه بأنّ التکلیف لا یکاد یتعلّق بفعل الغیر ، حیث إنّ فعل الغیر خارج عن قدرة المکلّف واختیاره ، وإذا لم یمکن تعلّق التکلیف بفعل الغیر ، فلا یتعلّق

ص :345

به کالوجه والتمییز.

نعم: یمکن أن یقال: إنّ کل ما ربما یحتمل بدواً دخله فی الإمتثال، أمراً کان ممّا یغفل عنه غالباً العامة، کان علی الآمر بیانه، ونصب قرینة علی دخله واقعاً، الشَرح:

بالجامع بین فعل نفسه وفعل الغیر .

نعم یمکن تعلّقه بالجامع بین فعلیه من المباشرة أو نفس التسبیب ، إلاّ أنّ لازم ذلک سقوط التکلیف بنفس التسبیب ، وعلی ذلک فمرجع الشک فی کفایة صدور الفعل تسبیبا إلی الشک فی اشتراط التکلیف بعدم حصوله من الغیر أیضاً ، ومقتضی الاستصحاب بقاء التکلیف وعدم سقوطه بفعل الآخر ، بل لو أُغمض النظر عن الاستصحاب لکون الشبهة حکمیة وقلنا بعدم جریانه فی تلک الشبهة ، یتعیّن الرجوع إلی قاعدة الاشتغال ولا مجری لأدلّة البراءة الشرعیة فی مثل المقام ، فإنّه لا مجال لدعوی أنّ ثبوت التکلیف بعد صدور الفعل عن الآخر تسبیبا فی هذا الفرض وبغیر تسبیب فی الفرض السابق ، غیر محرز ، ومقتضی حدیث الرفع عدم وضعه .

والوجه فی عدم المجال انصراف حدیث الرفع إلی الجهل بثبوت التکلیف فلا یجری فی موارد الشکّ فی سقوطه بعد حدوثه، نظیر انصرافه عن موارد الجهل بالتکلیف للشکّ فی القدرة علی المتعلّق.

والحاصل أنّ کلّ ما تقدّم فی الشکّ فی سقوط التکلیف بفعل الغیر مع عدم استناده إلی المکلف بتسبیبه یجری فی الشکّ فی سقوطه بفعل الغیر مع استناده إلیه بالتسبیب.

أقول : الصحیح التفرقة بین ما إذا کان فعل الغیر لا یستند إلی المکلف ولو مع تسبیبه ، کما إذا استأجر الولد الأکبر لقضاء ما علی أبیه من الصیام ، فإنّ فعل الأجیر لا یستند إلی المستأجر فلا یقال صام الولد عن أبیه ، وبین ما إذا استند الفعل الصادر

ص :346

وإلاّ لأخل بما هو همّه وغرضه، أم_ّا إذا لم ینصب دلالة علی دخله، کشف عن عدم دخله، وبذلک یمکن القطع بعدم دخل الوجه والتمییز فی الطاعة بالعبادة، حیث لیس منهما عین ولا أثر فی الأخبار والآثار، وکانا مما یغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جیّداً.

الشَرح:

عن الغیر إلیه مع التسبیب ، ففی موارد عدم الاستناد یکون سقوط التکلیف بفعل الغیر باشتراط بقاء التکلیف بعدم حصوله لا محالة ، ومع إطلاق التکلیف فی خطابه وعدم ثبوت القرینة علی الاشتراط یحکم بتعبّدیته .

ولو وصلت النوبة إلی الاصل العملی فلابدّ من التفصیل _ کما تقدّم _ بین تحقّق فعل الغیر قبل توجه التکلیف إلیه ، فیرجع إلی البراءة ، وبین ما إذا کان فعله بعد توجّه التکلیف إلیه ، فیرجع إلی الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف ، ومع الغمض عن الاستصحاب لکون الشبهة حکمیة ، یرجع إلی أصالة الاشتغال ، بناءً علی أنّ أصالة البراءة لا تجری فی موارد الشکّ فی سقوط التکلیف ، وأمّا فی موارد استناد فعل الغیر إلی المکلف بالتسبیب ، فلا بأس مع الخطاب بالتمسّک بإطلاق المتعلّق فیه ، فیحکم بکفایة تحقّق الفعل ولو تسبیبا . وبتعبیرٍ آخر : مقتضی الاطلاق فی الأمر بالتقصیر أو الحلق ونحوهما التوصیلة فی وجوبهما .

ودعوی _ أنّ الإطلاق لا یعمّ الفعل التسبیبی لأنّه من فعل الغیر وفعل الغیر خارج عن قدرة المکلّف واختیاره فلا یمکن تعلّق التکلیف به، ولو کان فعل الغیر مجزیا لکان عدم حصوله شرطا فی بقاء التکلیف لا محالة، کما فی الفرض الأوّل، وإطلاق التکلیف یدفع هذا الشرط _ لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنّ المکلّف به فی الحقیقة فی موارد الاستناد إلی الشخص ولو بالتسبیب، إیجاد استناد الفعل إلی نفسه، وهذا الإیجاد یکون بالفعل مباشرة وبالتسبیب فی فرض خصوص الفعل عن

ص :347

ثمّ إنّه لا أظنک أن تتوهم وتقول: إنّ أدلّة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الإعتبار، وإن کان قضیة الإشتغال عقلاً هو الإعتبار، لوضوح أنّه لابدّ فی عمومها من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً، ولیس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی، بل واقعی. ودخل الجزء والشرط فیه وإن کان کذلک، إلاّ أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً، فبدلیل الرفع _ ولو کان أصلاً _ یکشف أنّه لیس هناک أمر فعلی بما یعتبر فیه المشکوک، یجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلی، کما عرفت، فافهم.

الشَرح:

الآخر، نظیر نذر بیع متاعه، فإنّ متعلّق النذر یحصل بالمباشرة فی بیعه أو بالتسبیب، ولا یکون مقتضی وجوب الوفاء بنذره فیما إذا قال: (للّه علّی أن أبیع متاعی هذا) بیعه بالمباشرة ولا تخییره بین بیعه بالمباشرة أو أمر الغیر ببیعه ولو مع عدم حصول البیع.

وممّا ذکرنا یظهر أنّه مع عدم الإطلاق ووصول النوبة إلی الأصل العملی یکون المورد من موارد دوران متعلّق الوجوب بین کونه خصوص الفعل مباشرة أو إیجاد الاستناد فی تحقّقه إلی نفسه الحاصل بالفعل مباشرة أو بالتسبیب، ومقتضی أصالة البراءة عن تعین المباشرة الاکتفاء بالتسبیب؛ لأنّ الرفع فی ناحیة تعلّق التکلیف بالاستناد إلیه فی تحقّقه خلاف الامتنان، حیث إنّ فی هذا التعلّق توسعة علی المکلّف.

فی التعبدی بمعنی سقوط التکلیف بالفرد غیر العمدی

:

المقام الثانی: ما إذا شک فی سقوط التکلیف بالفرد غیر العمدی ، أی ما یکون تحقّقه مع الغفلة وعدم الالتفات ، فقد یقال بعدم السقوط لانصراف الأفعال إلی

ص :348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

صورة التعمّد والاختیار ، وتکون دعوی الانصراف فی ناحیة المواد تارة وفی ناحیة الهیئات أُخری.

وناقش المحقّق النائینی قدس سره فی دعوی الانصراف سواء کانت فی ناحیة موادّها أو هیئاتها بأنّ معنی المادة هو الطبیعی الذی یکون صدقه علی تمام افراده بالتواطی ء، والهیئات دالّة علی انتساب المواد إلی الذوات وقیامها بها ، ویشترک فی ذلک الانتساب التعمدی وغیره ، ولذا ذکر الفقهاء الضمان فی إتلاف مال الغیر غفلة وبلا التفات أخذا بعموم قاعدة «من أتلف» ، وذکروا عدم حکومة حدیث الرفع علی ما بیّن فی محلّه ، ولم ینکر ذلک أحد منهم ، بدعوی انصراف الاتلاف إلی صورة التعمّد ، نعم العناوین القصدیة التی لا تتحقّق إلاّ بالاعتبار والإنشاء تتوقّف علی قصدها ، لا لانصراف الفعل إلی التعمّد ، بل لعدم الفعل مع عدم القصد ، حیث إنّ الإنشاء والاعتبار مقوّمهما القصد .

هذا بالإضافة إلی الاختیار بمعنی التعمّد والالتفات ، وأمّا الاختیار المقابل للجبر والقهر فلا یبعد دعوی انصراف الفعل إلیه کما ذکر الشیخ قدس سره فی بحث خیار المجلس بأنّ تفریق المتبایعین بالقهر والجبر لا یوجب سقوط الخیار لانصراف الافتراق المأخوذ غایة له فی الروایات إلی ما کان بالاختیار .

ثمّ إنّه قدس سره قد ذکر وجهین للانصراف فی خصوص صیغة الأمر وما بمعناها بالإضافة إلی التعمّد بمعنی الالتفات وبالإضافة إلی الاختیار بالمعنی المقابل للقهر والجبر.

الأوّل: اعتبار الحسن الفاعلی فی تعلّق الأمر والطلب بالمادة ، ومن الظاهر أنّ

ص :349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحسن الفاعلی لا یکون من دون القصد والالتفات ، وبتعبیرٍ آخر : تعلّق الطلب بالمادة قرینة علی کون متعلّقه خصوص الحصة الاختیاریة ، ومقتضی مذهب أهل الحقّ عدم تعلّق أمر الشارع إلاّ بما فیه صلاح العباد ، وکون الفعل کذلک یوجب استحقاق فاعله المدح مع القصد والالتفات لا مطلقاً .

وبالجملة الحسن الفعلی تابع للملاک فی الفعل ولا یتوقف علی الإرادة والاختیار ، ولکنّ الحسن الفاعلی لا یکون إلاّ مع العمد والالتفات .

الثانی: أنّ مفاد الهیئة فی صیغة الأمر وما بمعناها هو البعث والتحریک ، وهذا البعث والتحریک لا یکون إلاّ نحو الفعل الإرادی .

وعلیه فسقوط التکلیف بالفرد غیر الاختیاری یکون من جهة عدم تقیید الوجوب والطلب بحصول الواجب عن التفات ، لا لشمول الطلب له أیضاً ، وإذا کان الأمر کذلک فإطلاق الوجوب وعدم ورود القید علیه مع کونه فی مقام البیان ، مقتضاه التعبدیة وعدم إجزاء الفرد غیر العمدی والاختیاری ، بل الأمر کذلک حتّی لو وصلت النوبة إلی الأصل العملی فإنّ استصحاب بقاء الموضوع أو الحکم ولا أقلّ من قاعدة الاشتغال ، مقتضاه بقاء التکلیف ولزوم إحراز سقوط التکلیف(1) .

وفیه : أمّا الوجه الأوّل ، فالحقّ أنّه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلی فی کون فرد مصداقا لمتعلّق التکلیف ، فإنّه لو کان فیه الملاک الموجود فی سائر الأفراد لعمّه الطبیعی المطلوب صرف وجوده ، نعم إذا کان الطبیعی عنوانا قصدیا فلا یکون ما هو بغیر العمد والقصد فردا للطبیعی ، کما أن_ّه لو کان الواجب تعبدیا لا یسقط إلاّ مع

ص :350


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 100 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الإتیان بقصد امتثال الأمر ، فلا یکون المغفول عنه وغیر المقصود فردا أو واقعا بنحو العبادة ، وهذا خارج عن محلّ الکلام علی أنّ الحسن الفاعلی لا یتحقّق بمجرد التعمّد والالتفات ، بل لابدّ من حصول الفعل بقصد التقرّب ، وهذا یوجب أن تکون جمیع الواجبات تعبدیة .

وأمّا الوجه الثانی ، وهو تعلّق البعث والتحریک بخصوص الحصّة المقدورة وعدم إمکان تعلّقهما بالطبیعی بجمیع وجوداته مع فرض خروج بعضها عن الاختیار ، فیرد علیه :

أوّلاً: إنّه ینافی ما ذکره قدس سره فی بحث الضد(1) من جواز التمسّک بإطلاق الطبیعی المتعلّق به التکلیف لإثبات الملاک فی فرده غیر المقدور والمزاحم ، حیث إنّه بعد فرض کون متعلّق التکلیف فی نفسه الحصة المقدورة کیف یمکن التمسّک بإطلاقه .

وثانیا: أنّ الإطلاق فی المتعلّق هو رفض القیود عنه ، فیمکن تعلّق التکلیف بطلب صرف الوجود من الطبیعی الملغی عنه القیود وخصوصیتها ، فیما کان فرد منه مقدورا ، اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ الترخیص کالبعث والطلب لا یتعلق بالحصة الخارجة عن الاختیار أو المغفول عنها ، وعلیه فلا یتمّ الإطلاق فی ناحیة المتعلّق بالإضافة إلیها ، فإنّ وجود الملاک فی کلّ فرد من الطبیعی یستفاد من الترخیص فی التطبیق علیه ، الملازم لإطلاق المتعلّق ، ومع احتمال اختصاص الملاک بفرده الاختیاری یحتمل اکتفاء الآمر فی بیان ذلک باعتماده علی التکلیف بالطبیعی ، حیث لا یعمّ معه الترخیص فی تطبیقه إلاّ أفراده المقدورة وغیر المغفول عنها .

ص :351


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 269 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما عن سیّدنا الأستاذ قدس سره فیالمقام من أنّ معنی صیغة إفعل لیس البعث والطلب ، بل معناها اعتبار المبدأ علی عهدة المکلف والاعتبار علی العهدة لا یوجب تقییدا فی المعتبر ، بأن یکون ما علی ذمته الحصة المقدورة ، لیقال إنّ إجزاء غیر المقدورة یحتاج إلی التقیید فی التکلیف ، ومع عدم ثبوته یکون مقتضی إطلاق البعث والإیجاب عدم الإجزاء ، ومع وصول النوبة إلی الأصل العملی یکون مقتضی استصحاب التکلیف أو قاعدة الاشتغال لزوم رعایة احتمال بقاء التکلیف .

وبالجملة إذا کان ما علی العهدة نفس الطبیعی بلا تقیید ، یستقل العقل بإفراغها ولو مع تمکّنه من فرد ، ولا مجال لدعوی أنّ تحریک المولی یتعلّق بما یقدر العبد علی التحرّک نحوه ، لما ذکر من عدم کون مفاد صیغة الأمر تحریکا وبعثا .

لا یقال : ما فائدة اعتبار الطبیعی علی العهدة دون الحصة المقدورة ؟

فإنّه یقال : فائدة ذلک الإعلام بوجود الملاک فی الطبیعی کیفما تحقّق ، وعلی ذلک فیکون مقتضی الأصل العملی أیضاً عند حصول الفرد غیر الاختیاری البراءة عن التکلیف(1) .

أقول : لازم هذا الکلام الإلتزام بالإجزاء حتّی فیما إذا کان الطبیعی یحصل بفعل الغیر ، فإنّ المادة موضوعة لنفس الطبیعی ، وهیئة إفعل دالّة علی کون ذلک الطبیعی علی عهدته ، فعلیه الإتیان به مباشرة أو تسبیبا .

هذا مضافاً إلی أن_ّه قدس سره قد التزم بأنّ إطلاق متعلّق التکلیف یستتبع شمول

ص :352


1- (1) المحاضرات : 2 / 149 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الترخیص فی التطبیق لجمیع أفراد الطبیعة ، ولکن لو کان الأمر کما ذهب إلیه قدس سره أی عدم إیجاب اعتبار الفعل علی الذمة للتقیید فی المتعلّق . لما کان إطلاق المتعلّق مستلزماً للإطلاق الشمولی فی التطبیق بحیث یشمل جمیع الأفراد حتّی غیر المقدورة ، إذ اعتبار الفعل علی الذمّة وإن کان لا یوجب تقیید المتعلّق إلا أنّ الترخیص فی التطبیق یقیّد لا محالة ، وعلیه فإطلاق المتعلّق لم یکن کاشفاً عن إطلاق الترخیص فی التطبیق .

وقد تقدّم أنّ المتفاهم العرفی من هیئة صیغة الأمر هو الطلب المعبّر عنه ب(فرمان) فی اللغة الفارسیة ، والاعتبار فی الذمة إذا کان بداعی الطلب یکون کنایة عن الطلب ، وإذا کان بداعٍ آخر کما فی موارد المعاملات والاجارة ، فهذا شیء آخر لا یرتبط بالأمر والتکلیف ، کما لا یخفی .

فی التعبدی بمعنی عدم سقوط التکلیف بالفرد المحرّم

:

وأمّا المقام الثالث: وهو سقوط التکلیف بالفرد المحرّم ، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ حرمة فرد توجب تقیید متعلّق التکلیف بغیره ، فالحکم بسقوط التکلیف مع الإتیان به یحتاج إلی إحراز اشتماله علی ملاک سائر الأفراد ، إذ مع خروجه عن خطاب الأمر بالتقیید _ لمنافاة حرمته مع الترخیص فی التطبیق _ لا یکون فی البین کاشفاً عن الملاک فیه ، ومقتضی إطلاق الأمر بالطبیعی المقید بغیره لزوم الإتیان بغیره حتّی لو وصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فمقتضی قاعدة الاشتغال علی ما هو المعروف عندهم لزوم إحراز سقوط التکلیف .

وإن قیل بأنّ حرمة فرد لا یوجب تقیید متعلّق التکلیف بغیره ، وأنّه یجوز

ص :353

المبحث السادس: قضیة إطلاق الصیغة، کون الوجوب نفسیاً تعیّنیاً عینیاً[1]، لکون کل واحد مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب وتضیق دائرته، فإذا کان فی مقام البیان، ولم ینصب قرینة علیه، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً، وجب هناک شیء آخر أو لا، أتی بشیء آخر أو لا، أتی به آخر أو لا، کما هو واضح لا یخفی.

الشَرح:

اجتماع الأمر والنهی، یکون الإتیان بالفرد المحرم کالإتیان بسائر الأفراد فی سقوط التکلیف به. نعم إذا کان المتعلّق مما یعتبر الإتیان به علی نحو العبادة، فربّما یحکم بفساده لعدم حصول قصد التقرّب مع حرمة الفرد ووقوعه مبغوضا، بخلاف موارد سقوط النهی، أو کونه معذورا لجهة، فیحکم بصحّته عبادةً.

ثمّ لا یخفی أنّه لا وجه لتقیید خطاب الأمر بخطاب النهی إذا کان الأمر إرشادیا ، کما فی الأمر بغسل الثوب ، فإنّه إرشاد إلی کون طهارته بالغسل ، فیعمّ الغسل بالماء المباح والمغصوب ، ولا ینافیه النهی عن الغصب .

مقتضی إطلاق صیغة الأمر

:

[1] الظاهر أنّ مراده قدس سره من الإطلاق ، إطلاق نفس الدال علی الوجوب وهو هیئة إفعل حیث إنّ الوجوب مستفاد منها ، وذکر قدس سره أنّ للوجوب فی کلّ واحدٍ ممّا یقابلها تقیّد وتضییق لدائرته ، وکأنّه فی مقابل الأوّل یتقیّد بفعلیة وجوب فعلٍ آخر ، وفی مقابل الثانی بترک الفعل الآخر ، وفی مقابل الثالث بما إذا لم یأتِ به شخص آخر ، فإذا کان الآمر بصدد البیان ولم یذکر دالاًّ علی ذلک التقیید والتضییق یکون مقتضی الاطلاق کونه نفسیا تعیینیّا عینیا .

أقول : لا یکون فی موارد الوجوب التخییری وجوب الفعل مقیدا بترک فعلٍ آخر ، حیث إنّ لازم هذا التقیید فعلیّة الوجوبین مع ترک متعلّقها بأن یعاقب المکلّف بعقابین لترکه کلاًّ من الفعلین .

ص :354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

مع أنّ الغرض الملزم إذا کان حاصلاً بأحد الفعلین ، فلا موجب لتعدّد الأمر والوجوب ، بل یصحّ الأمر بالجامع بینهما ، ولو کان ذلک الجامع أمرا انتزاعیا اعتباریا .

وعلی ذلک یکون إثبات کون الوجوب تعیینیا بإطلاق متعلّقه بمعنی عدم ذکر العدل له فإنّه لو کان تخییریا لذکر فی الخطاب تقیّد متعلّقه بفعلٍ آخر ، بعطفه علیه بلفظة «أو» لیکون کاشفا عن تعلّقه ثبوتا بالجامع بینهما .

نعم ، لا مانع فی الواجب الکفائی من تقید مدلول الهیئة بما إذا لم یتحقّق طبیعی الفعل من الآخرین ، وأنّ کلّ واحد ممن اعتبر الوجوب فی حقّه یستحقّ العقاب فیما إذا ترکوا الفعل .

وإذا کان المتکلّم فی مقام البیان ولم یذکر فی خطابه تقیید للأمر بذلک ، یکون مقتضاه کون الوجوب عینیّا .

وأمّا الوجوب النفسی ، فإنّ ظاهر الأمر بفعلٍ هو کونه بداع البعث لا الإرشاد إلی دخله فی متعلّق تکلیف آخر شرطا أو شطرا ، وهذا الظهور ناشٍ من عدم تقیّد الأمر بإرادة الإتیان بمتعلّق تکلیفٍ آخر ، کما فی آیة الوضوء ، وعلی ذلک فالصحیح أن یقال : إنّ إطلاق الأمر بفعل وعدم تقییده بإرادة الإتیان بمتعلّق تکلیف آخر ، مقتضاه کون وجوبه نفسیا .

وکذا عدم تقید وجوب فعل بما إذا وجب فعل آخر ، فإنّ إثبات الوجوب الغیری بتقیید الأمر بفعل ، بما إذا وجب فعل آخر وإن کان غیر صحیح ؛ لإمکان کونهما نفسیین فی وقتٍ واحد ، کالأمر بالإقامة عند وجوب الصلاة ، إلاّ أنّ عدم التقیید کذلک کاشف عن کون وجوب الفعل نفسیا .

ص :355

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : لا یکفی فی إثبات الغیریة مجرد تقیید وجوب الفعل بما إذا وجب الآخر ، حیث إنّ الوجوب الغیری إضافة إلی تقیّده بما إذا وجب الفعل الآخر ، لابدّ أن یکون متعلّقه مأخوذا فی ذلک الفعل الآخر فیکون شرطا له ، أو یکون الفعل الآخر ممّا یتوقّف علیه خارجا فیکون مقدمة له، ولذا یکون وجوبه غیریّا، فمجرّد التقیید کذلک لا یکفی لإثبات الغیریّة، إلاّ أنّ عدم التقیید کذلک یکشف عن نفسیة الوجوب.

ولا یخفی أن_ّه یمکن إثبات کون وجوب الفعل نفسیا بإطلاق متعلّق الوجوب الآخر ، فإنّ مقتضی إطلاقه عدم أخذ المشکوک فی نفسیّة وجوبه فی ذلک المتعلّق ، فیکون وجوب المشکوک نفسیا ، لجواز إثبات اللوازم بالأُصول اللفظیة .

وقال المحقّق الأصفهانی قدس سره فی ذیل کلام المصنف قدس سره : لا یخفی أنّ لکلٍّ من الوجوب النفسی والغیری قیدا ، ضرورة خروج الوجوب عن الإهمال بالقید ، ولکن القید فی الوجوب النفسی وما یماثله لا یخرج عن طبیعة الطلب عرفا .

ثمّ قال : التحقیق أنّ لکلٍّ من الوجوبین قیدا ، ولکن القید فی الوجوب الغیری أمر وجودی وهو نشوء وجوب فعل وانبعاثه عن وجوب فعلٍ آخر ، والوجوب النفسی قیده عدمی ، وهو عدم انبعاث وجوبه عن وجوب فعل آخر ، لا أنّ للوجوب النفسی قیدا وجودیا هو أن_ّه یجب ، وجب هناک شیء آخر أم لا ، کما هو ظاهر المصنّف قدس سره ضرورة أنّ مجرد اقتران وجوب شیء بوجوب شیء آخر لا یوجب کون وجوبه غیریا ، بل الوجوب الغیری نشوء وجوب فعل عن وجوب فعلٍ آخر ، وإذا ثبت بمقدّمات الحکمة عدم بیان هذا القید الوجودی یثبت النفسیة فی وجوبه ؛ لکون القید فیه عدمیا ولیس مقتضی الإطلاق ثبوت وجوب ، سواء کان ناشئا عن وجوب فعل آخر أم لا ، فإنّ إطلاق الوجوب بهذا المعنی غیر معقول . وکذا الحال فی

ص :356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الوجوب التعیینی والتخییری فإنّ التخییری هو الوجوب المشوب بجواز ترک الفعل إلی بدل ، والتعیینی هو الوجوب الذی لا یکون کذلک ، لا الوجوب المقترن بجواز الترک وعدمه.

ثمّ قال : وتوهّم أنّ الحکمة لا تقتضی کون الوجوب تعیینیا لا تخییریّا ، حیث لا یلزم من عدم بیان فرد آخر من الوجوب نقض الغرض فاسد ، فإنّ الغرض بیان نحو وجوب الفعل وکیفیة وجوبه وعدم ذکر القید یکون نقضا لهذا الغرض ، ولیس المراد من الغرض ، الغرض الباعث إلی التکلیف ، مع أنّه یلزم نقض هذا الغرض أیضاً فیما إذا تعذّر ما اکتفی ببیان التکلیف به(1).

وذکر بعض الأعاظم أنّ الأمر بالشیء یحمل علی کون وجوبه نفسیا تعیینیا عینیّا ، إلاّ أنّ هذا الحمل لمجرد بناء العقلاء واستمرار سیرتهم علی ذلک من غیر أن یدخل فی الدلالة اللفظیة _ وضعیّة کانت أو انصرافیة أو کشف العقلاء عن الإطلاق _ فإنّ أمر المولی وبعثه بفعل تمام الموضوع لاحتجاجه علی العبد ولا یجوز له التقاعد عن موافقة مطلق بعثه ، سواء کان باحتمال إرادة الندب أو العدول إلی الفعل الآخر باحتمال التخییر أو الترک مع إتیان شخص آخر بالفعل ، لاحتمال الکفائیة أو عدم الإتیان به عند عدم التکلیف بالفعل الآخر ، لاحتمال الغیریة ، فإنّ علی ذلک سیرتهم وبنائهم وإن لم یتبیّن لنا وجه هذا البناء ، ولیس لأمر راجع علی دلالة اللفظ ؛ ولذا یجری فی الموارد التی یکون فیها البعث بنحو الإشارة أیضاً(2).

ص :357


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 353 .
2- (2) تهذیب الأُصول : 1 / 127 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أمّا ما ذکر فی الکفایة من استفادة الوجوب النفسی والتعیینی والعینی من إطلاق الهیئة ، فلا یمکن المساعدة علیه ، کما لا یمکن المساعدة علی ما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته من أنّ القید فی کلٍّ من النفسی والتعیینی والعینی عدمی ، بخلاف الغیری والتخییری والکفائی فإنّ قیدها وجودی فیکفی فی بیان النفسیة عدم بیان قید الغیری ، وکذا الحال فی التعیینی والعینی ، أمّا الأوّل فلأنّه علی القول بوضع الهیئة لمطلق الطلب یکون نتیجة الإطلاق هو مطلق البعث المشترک بین النفسی والغیری حیث إنّ میزان الإطلاق هو أن یکون ما یؤخذ فی الخطاب ویراد بیانه تمام الموضوع للحکم ولابدّ أن یکون فی المقام هوالجامع ، ولکن الإطلاق کذلک مع کونه خلاف الغرض حیث إنّ المزبور استفادة الوجوب النفسی لا الجامع ممتنع ، لأنّ الحروف وما یشابهها ومنها صیغة إفعل لایتصوّر الجامع الحقیقی بین معانیها .

والحاصل یلزم أن یکون لکلٍّ من الوجوب النفسی والغیری قید ، إمّا وجودی أو عدمی ضرورة صحّة تقسیم الوجوب إلیها ، ویلزم أن یکون لذلک القید دالّ آخر .

وأمّا ما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره من أنّ النفسیة فی الوجوب عبارة عن عدم الوجوب للغیر ، فهذا بیّن البطلان ، فإنّه إن کان المراد عدم الوجوب للغیر بنحو السالبة المحصلة الصادقة مع انتفاء الوجوب _ کما هو ظاهر کلامه _ فهو کما تری .

وإن کان المراد العدم بنحو السالبة بانتفاء المحمول أو السلب العدولی ، فیحتاج بیان کون الوجوب لا لغیره ، إلی بیانٍ ودالٍّ آخر زائدا علی الدالّ علی أصل وجوبه ، علی أنّ الوجوب لنفسه هو الوجوب لذاته وتفسیره بلا لغیره ، تفسیر بلازمه .

ص :358

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ودعوی أنّ أحد القسمین أی الوجوب النفسی عین المقسم فی نظر العرف ، کما هو ظاهر قوله «بأن الوجوب النفسی وما یماثله لا یخرج عن طبیعة الطلب عرفا وإن کان غیره فی نظر العقل» ، لا تخرج عن صرف الادعاء ، بل الوجدان علی خلافها . فإنّه یصحّ عرفا تقسیم الطلب إلی النفسی والغیری من غیر أن یلزم بنظرهم محذور تقسیم الشیء إلی نفسه وغیره ، فکلّ من الوجوب النفسی والغیری بنظرهم نفس الطبیعة مع قید زائد وجودی أو عدمی .

أقول : یظهر ما فی کلام المحقّق وبعض الأعاظم ممّا ذکرناه فی ذیل کلام الماتن قدس سره ، فإنّه لیس الکلام فی المقام فی الفارق الثبوتی بین الوجوب النفسی والوجوب الغیری لیقال إنّ لکلٍّ منهما خصوصیة وقیدا زائدا علی أصل الطلب وأنّ الطلب فی الأوّل ینشأ عمّا فی متعلّقه من الملاک والغرض ، بخلاف الغیری فإنّ ملاک الطلب فیه ترشحی عن الملاک والغرض فی الفعل الآخر .

وقد ذکر الماتن قدس سره ذلک فی بحث الواجب النفسی والغیری ، بل الکلام فی مقام الإثبات وأنّ بیان کون الوجوب فی الواقع نفسیا یکفی فیه عدم ذکر ما یدلّ علی أنّ طلب الفعل غیری فیما إذا کان المولی فی مقام بیان کیفیة الوجوب ونحوه، وأنّ بیان کون الطلب المتعلّق بالفعل غیری یکون بتقیید الطلب بما إذا أراد الإتیان بفعلٍ آخر کما فی آیة الوضوء، أو بما إذا کان طلب الفعل الآخر فعلی، وإذا لم یذکره وکان فی مقام بیان کیفیة الوجوب بأن تعلّق الطلب فی الخطاب بالفعل یکون الإطلاق أی عدم ذکر ما یدلّ علی قید الوجوب الغیری دلیلاً علی أنّ الوجوب نفسی؛ لأنّ کون الوجوب مهملاً ثبوتا غیر ممکن من المولی الملتفت ، کما أنّ ثبوت کلا الوجوبین خلاف الفرض، حتّی لو فرض تحمّل فعل واحد لوجوبین أحدهما نفسی والآخر غیری.

ص :359

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صیغة الأمر فی الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فیما إذا وقع عقیب الحظر أو فی مقام توهمه [1] علی أقوال: نسب إلی المشهور ظهورها فی الإباحة. وإلی بعض العامة ظهورها فی الوجوب، وإلی بعضٍ تبعیته لما قبل النهی، إن عُلّق الأمر بزوال علّة النهی، إلی غیر ذلک.

والتحقیق: إنّه لا مجال للتشبث بموارد الإستعمال، فإنّه قلّ مورد منها یکون خالیاً عن قرینة علی الوجوب، أو الإباحة، أو التبعیة، ومع فرض التجرید عنها، لم

الشَرح:

وعلیه إذا أُحرز عدم الوجوب الغیری ثبوتا تعیّن کونه نفسیا ، والوجه فی إحراز عدم کونه ثبوتا غیریا عدم بیان القید اللازم فی الدلالة علی کونه غیریّا ، کما هو الفرض فی المقام ، وهذا معنی قولنا عدم الدلالة علی کون الوجوب غیریّا فی مقام بیان کیفیة الوجوب دلیل علی نفسیته ، ویعبّر عن عدم الدالّ علی غیریّة الوجوب فی مقام بیان کیفیة الوجوب بالإطلاق ، وهذا غیر الإطلاق فی موضوع الحکم المقتضی لتسریته إلی جمیع أفراده کما فی قوله سبحانه : «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» وقوله سبحانه : «َحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَیْسِرَ» إلی غیر ذلک ، ممّا یحتاج إرادة بعض الأفراد إلی قرینة دالّة علی خصوصیة الأفراد المقصودة ثبوتا .

ونظیر الإطلاق فی المقام ، ما تقدّم فی دلالة صیغة الأمر علی کون الطلب وجوبیا بالإطلاق ، وهذا الإطلاق داخل فی الدلالة اللفظیة ، حیث إنّه مدلول لعدم ذکر القید الدالّ علی الحکم الآخر کما تقدّم ، مع احتیاجه فی مقام البیان إلی ذکره لو کان هو المراد .

مدلول صیغة الأمر بعد الحظر

:

[1] قد یقال : إن ورود صیغة الأمر بعد الحظر أو فی مقام توهّم الحظر یوجب ظهورها فی الترخیص والإذن ، وقد ینسب ذلک إلی المشهور .

ص :360

یظهر بعدُ کون عقیب الحظر موجباً لظهورها فی غیر ما تکون ظاهرة فیه.

غایة الأمر یکون موجباً لإجمالها، غیر ظاهرة فی واحد منها إلاّ بقرینة أخری، کما أشرنا.

الشَرح:

ونسب إلی بعض العامّة القول بعدم الفرق بین ورود صیغة الأمر فی هذا المقام و بین ورودها فی غیره فی ظهورها فی وجوب الفعل. کما نسب إلی بعض القول بظهورها فی ما کان الفعل علیه قبل النهی عنه إذا علق الأمر بزوال موجب النهی ، کما فی قوله سبحانه : «فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکِیْنَ»(1).

وقد استدلّ کلّ فریق علی ما ذهب إلیه ببعض استعمالاتها ، ولکن القرینة فی تلک الموارد علی إرادة الترخیص والاذن أو الوجوب أو الرجوع إلی ما قبل الحظر موجودة ، ومع قطع النظر عن تلک القرائن لم یظهر أنّ وقوعها عقیب الحظر یوجب ظهورها فی غیر ما کانت ظاهرة فیه قبل الحظر ، بل وقوعها کذلک یوجب إجمالها وعدم الظهور فی شیء منها بخصوصه .

لا یقال : قد تقدّم أنّ دلالة الصیغة علی وجوب الفعل بالإطلاق وعدم الترخیص فی ترک متعلّق الطلب ، وتعلّق الطلب به مع ورود صیغة الأمر محرز ، وإذا لم یبیّن الترخیص فی ترکه یکون مقتضاه الوجوب ، کما تقدّم.

فإنّه یقال : إنّما یتمسّک بإطلاق الطلب فیما إذا کان تعلّق الطلب بالفعل بداعی البعث نحوه محرزا ، إمّا بالوضع أو بالانصراف ، وفی المقام لم یحرز کون تعلّق الطلب بالفعل بداعی البعث حتّی یحمل علی الوجوب ، لاقتران الخطاب بما یصلح قرینة علی أن_ّه بداعی الترخیص فیه ، وبیان عدم الحظر أو ارتفاعه ، کما لا یخفی.

ص :361


1- (1) سورة التوبة : الآیة 5 .

المبحث الثامن: الحق أن صیغة الأمر مطلقاً، لا دلالة لها علی المرة ولا التکرار [1]، فإن المنصرف عنها، لیس إلاّ طلب إیجاد الطبیعة المأمور بها، فلا دلالة لها علی أحدهما، لا بهیئتها ولا بمادتها، والإکتفاء بالمرّة، فإنّما هو لحصول الامتثال بها فی الأمر بالطبیعة، کما لا یخفی.

ثم لا یذهب علیک: أن الإتفاق علی أن المصدر المجرّد عن اللام والتنوین، لا

الشَرح:

دلالة صیغة الأمر علی المرة أو التکرار

:

[1] المراد أنّ صیغة الأمر لا دلالة لها بمادّتها ولا بهیئتها علی خصوصیة المرّة أو التکرار ، حیث إنّ مادّتها لا تکون دالّة إلاّ علی الطبیعی ، وهیئتها لا تکون دالّة إلاّ علی البعث نحوه وطلب وجوده .

وبتعبیرٍ آخر : یلاحظ الطبیعی تارةً فی وجوداته الانحلالیة ، وأُخری بوجوده الخاصّ ، ککونه متعقبا بوجوده الآخر أو غیر متعقّب ، أو مقترناً بوجوده الآخر أو غیر مقترن إلی غیر ذلک ، وثالثةً یلاحظ وجوده فی مقابل عدمه ، فلا یلاحظ السریان ولا وجوده الخاصّ . ولا یستفاد من صیغة الأمر إلاّ المعنی الأخیر _ أی ما یلاحظ وجوده فی مقابل عدمه _ ، فتکون المرة مسقطة للأمر به لحصوله بها وخروجه من کتم العدم إلی صفحة الوجود ، لا أنّ المطلوب فیها هو المرّة .

ثمّ إنّ صاحب الکفایة قدس سره جعل النزاع فی الهیئة والمادّة وقال : إنّ صیغة (إفعل) لا تدلّ علی خصوصیّة المرّة ولا التکرار ، لا بهیئتها ولا بمادّتها کما بیّنا .

ولکنّ صاحب الفصول قدس سره جعل النزاع فی الهیئة فقط ، وأنّه هل یستفاد من الصیغة المرّة أو التکرار ، أو لا یستفاد منها شیء من الخصوصیتین وأنّ مدلولها طلب حصول الطبیعی . فالنزاع فی المقام راجع إلی دلالة الهیئة علی أحدهما ؟ مع التسالم علی أنّ الصیغة بمادّتها لا تدلّ علی خصوصیة المرة أو التکرار ؛ وذلک لاتّفاق أهل

ص :362

یدل إلاّ علی الماهیة __ علی ما حکاه السکاکی __ لا یوجب کون النزاع ها هنا فی الهیئة _ کما فی الفصول _ فإنه غفلة وذهول عن کون المصدر کذلک، لا یوجب الإتفاق علی أن مادة الصیغة لا تدلّ إلاّ علی الماهیة، ضرورة أن المصدر لیست مادة لسائر المشتقات، بل هو صیغة مثلها، کیف؟ وقد عرفت فی باب المشتق

الشَرح:

العربیة _ کما ذکر السکاکی _ علی أنّ المصدر المجرد عن اللام والتنوین لا یدلّ إلاّ علی نفس الطبیعی(1) .

وأجاب عنه الماتن قدس سره وقال : هذا الکلام غفلة عن أنّ کون المصدر المجرد عنهما کذلک لا یوجب الاتفاق علی أنّ الصیغة بمادتها لا تدلّ علی خصوصیة المرة أو التکرار ؛ لأنّ المصدر المجرد لا یکون مادة لسائر المشتقات ومنها صیغة الأمر ، بل المصدر صیغة کسائر صیغ المشتقات له هیئة ومادّة ، وقد تقدّم فی باب المشتق مباینة المصدر مع سائر المشتقات فی المعنی ، فکیف یکون المصدر بمعناه المصدری مادة لها ؟ وعلیه فیمکن دعوی اعتبار المرة أو التکرار فی مادة صیغة الأمر ولا اتّفاق علی عدمه .

لا یقال : إذا لم یکن المصدر مادّة لسائر المشتقات ، فما معنی ما اشتهر فی الألسن من کون المصدر أصلاً فی الکلام ، والمراد بالکلام المشتق ، فإنّ إطلاق الکلام علی المشتق اصطلاح الصرفیین .

فإنه یقال : المراد بکون المصدر أصلاً فی المشتقات مع أن_ّه محلّ خلاف بین علماء الأدب ، هو أنّ المصدر سابق علی سائر المشتقات فی الوضع ، وأنّ سائرالمشتقات وضعت بتبع وضع المصدر .

ص :363


1- (1) الفصول الغرویة : 58 .

مباینة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنی، فکیف بمعناه یکون مادة لها؟ فعلیه یمکن دعوی اعتبار المرة أو التکرار فی مادتها، کما لا یخفی.

إن قلت: فما معنی ما اشتهر من کون المصدر أصلاً فی الکلام.

قلت: مع أن_ّه محلّ الخلاف، معناه أن الذی وضع أولاً بالوضع الشخصی، ثم بملاحظته وضع نوعیّاً أو شخصیّاً سائر الصیغ التی تناسبه، ممّا جمعه معه مادة لفظ متصورة فی کل منها ومنه، بصورة ومعنی کذلک، هو المصدر أو الفعل، فافهم.

ثمّ المراد بالمرة والتکرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟

الشَرح:

وبیان ذلک : أنّ من یلاحظ ألفاظا مختلفة الهئیة متحدة المادة ک(ضَرْب وضَرَبَ ویضرب وضارب ومضروب وإضرب) یری أنّها تشترک فی أمرین ؛ أحدهما : ملفوظ یتلفظ به ویعبّر عنه ب(ض ر ب) . وثانیها : معنی ذلک الملفوظ وکأنّ هیئات تلک الألفاظ صور للأمر الأوّل ، ومعانی الهیئات صور للأمر الثانی ، فیکون (ض ر ب) مادة لفظیة لتلک الهیئات ، ومعناه مادة لمعانی تلک الهیئات ، وحیث أنّ المادة اللفظیة غیر قابلة للحاظ إلاّ فی ضمن هیئة ، فالهیئة التی لاحظ الواضع المادة فی ضمنها أوّلاً کانت هی هیئة المصدر أو الفعل ، وبعد وضع المصدر أو الفعل وضع سائر المشتقات التی تشترک مع المصدر فی الأمرین المتقدّمین بأن وضع موادها شخصا ، وهیئتها نوعا ، فالوضع فی ناحیة المصدر شخصی فی هیئته ومادته ، وفی غیره نوعی بالإضافة إلی الهیئات ، وشخصی بالإضافة إلی موادّها .

وقد ذکر بعض الأعاظم قدس سره أنّ مناقشة صاحب الکفایة ضعیفة ؛ وذلک لأنّ المصدر وإن لم یکن مبدأً لسائر المشتقات ، إلاّ أنّ عدم التفاوت بین مبدأ المصدر ومبدأ سائر المشتقات فی المعنی قطعی ، وعلیه فالعلم بخروج المرة أو التکرار عن معنی المصدر مساوٍ للعلم بخروجهما عن مدلول مادة سائر المشتقات ، فینحصر

ص :364

والتحقیق: أن یقعا بکلا المعنیین محل النزاع، وإن کان لفظهما ظاهراً فی المعنی الأوّل، وتوهم أن_ّه لو أرید بالمرة الفرد، لکان الأنسب [1]، بل اللازم أن یجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتی، من أن الأمر هل یتعلق بالطبیعة أو بالفرد؟ فیقال عند ذلک وعلی تقدیر تعلقه بالفرد، هل یقتضی التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا یقتضی شیئاً منهما؟ ولم یحتج إلی افراد کل منهما بالبحث کما الشَرح:

الخلاف فی صیغة (إفعل) من ناحیة هیئتها فقط ، کما ذکر فی الفصول .

أقول : العلم بخروج المرة والتکرار عن مدلول المصدر لا یکون موجبا للعلم بخروجهما عن مادة سائر المشتقات ، فإنّه من المحتمل أن یکون مادة جمیع المشتقات حتّی المصدر موضوعة للطبیعی المقید بأحدهما ، وتکون هیئة المصدر موضوعة لإلغاء الخصوصیة من المادة وإشراب المعنی الحدثی لها مع کون الوضع فی ناحیة هیئة المصدر أیضاً شخصیا؛ ولذا یکون سماعیا بحسب المواد، وإذا أمکن ذلک یکون تخصیص الخلاف فی صیغة الأمر بمدلول الهیئة دون المادة بلا وجه .

[1] ذکر فی الفصول أنّ المراد بالمرّة الدفعة ، وبالتکرار الدفعات ، لا الفرد والأفراد ، فإنّه لو کان المراد منها الفرد أو الأفراد لکان الأنسب ، بل المتعیّن جعل هذا البحث تتمة للبحث الآتی وهو تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، فیقال : علی القول بتعلّقه بالفرد ، هل المتعلّق فرد واحد أو المتعدّد أو لا دلالة فی الأمر بشیء علی أحدهما ، وأمّا علی القول بتعلّق الأمر بالطبیعی فلا معنی لهذا البحث ، فإنّ مقتضی تعلّقه بالطبیعی عدم تعلّقه بالفرد أصلاً فضلاً عن أن یکون واحدا أو متعدّدا ، وهذا بخلاف ما إذا کان المراد منهما الدفعة والدفعات ، فإنّه بناءً علیه یصحّ جعل الدلالة علی المرة والتکرار أو عدم دلالتها علیهما بحثاً مستقلاًّ .

وبما أنّ الأصحاب أفردوا هذا البحث عن البحث الآتی وجعلوا خلاف المرة

ص :365

فعلوه، وأم_ّا لو أرید بها الدفعة، فلا علقة بین المسألتین، کما لا یخفی، فاسد، لعدم العلقة بینهما لو أرید بها الفرد أیضاً، فإن الطلب علی القول بالطبیعة إنّما یتعلق بها باعتبار وجودها فی الخارج، ضرورة أن الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی، لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة، وبهذا الإعتبار کانت مرددة بین المرة والتکرار بکلا المعنیین، فیصحّ النزاع فی دلالة الصیغة علی المرة والتکرار بالمعنیین وعدمها.

أما بالمعنی الأول فواضح، وأما بالمعنی الثانی فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد، غایة الأمر خصوصیته وتشخصه علی القول بتعلق الأمر بالطبائع یلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد، فإنّه ممّا یقوّمه.

الشَرح:

والتکرار بحثا مستقلاً یکون ذلک قرینة علی أنّ المراد بالمرة والتکرار الدفعة والدفعات .

والوجه فی عدم العلقة بین المسألتین بناءً علی أنّ المراد بالمرة الدفعة ، وبالتکرار الدفعات ، جریان النزاع علی القول بتعلق الأمر بالطبیعی ، وکذا علی القول بتعلّقه بالفرد ، فإنّ جریانه علی الأوّل معناه الإتیان بالطبیعی مرة أو مرات ، وعلی الثانی معناه الإتیان بالفرد أو الإتیان بالأفراد .

وقد ذکر الماتن قدس سره أنّه لا علقة بین مسألة الدلالة علی المرة والتکرار ومسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد ؛ وذلک لأن تعلّق الأمر بالطبیعة معناه طلب وجودها ، وإلاّ فالطبیعة _ مع قطع النظر عن وجودها _ لا یتعلّق بها الحب والبغض ولا الإرادة والکراهة ولا البعث والزجر ، فالقائل بتعلقه بالطبیعة ملتزم بأنّ مفاد الأمر بها طلب وجودها ، ولکنه ملغی عنها جمیع خصوصیات أفرادها وأنّ تلک الخصوصیات غیر داخلة فی المطلوب ، بحیث لو أمکن حصولها فی الخارج عاریة عن جمیع تلک

ص :366

تنبیه: لا إشکال بناءً علی القول بالمرة فی الإمتثال [1]، وأن_ّه لا مجال للاتیان بالمأمور به ثانیاً، علی أن یکون أیضاً به الإمتثال، فإنّه من الإمتثال بعد الإمتثال. وأم_ّا علی المختار من دلالته علی طلب الطبیعة من دون دلالة علی المرة ولا علی التکرار، فلا یخلو الحال: إمّا أن لا یکون هناک إطلاق الصیغة فی مقام البیان، بل فی الشَرح:

الخصوصیات لحصل متعلّق الطلب وسقط الأمر بالطبیعة لحصول الغرض .

ولکنّ القائل بتعلّق الأمر بالأفراد یلتزم بأنّ تلک الخصوصیات أیضاً داخلة فی المطلوب ، بحیث لو أمکن حصول الطبیعة بدونها لما حصل المطلوب ولم یحصل متعلّق الأمر، وعلی ذلک _ سواء قیل بتعلق الأمر بالطبیعی أو بالفرد _ یجری الخلاف فی الدلالة علی المرة والتکرار ، فإنّه علی القول بتعلق الأمر بالطبیعی یکون الخلاف فی أنّ المطلوب وجود واحد للطبیعی أو وجودات متعدّدة ، وعلی القول بتعلقه بالفرد یکون الخلاف فی أنّ المطلوب خصوصیات فرد واحد أو أفراد متعدّدة .

وبتعبیرٍ آخر : المراد بالفرد الواحد فی المقام هو الوجود الواحد ، کما أنّ المراد بالفرد فی ذلک البحث دخول الخصوصیات لوجود الطبیعی فی متعلّق الطلب ، فلا علقة بین المسألتین .

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنّه إن قیل بدلالة الصیغة علی المرّة فالامتثال یحصل بحصول متعلّق الطلب خارجا مرة ، ولا یبقی مجال للإتیان به ثانیا علی أن یکون الثانی أیضاً امتثالاً للطلب ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال .

وأمّا لو قیل بعدم دلالتها علی خصوصیة المرة ولا علی خصوصیة التکرار ، بل کان مفادها طلب الطبیعی وإیجاد ذلک الطبیعی فإن لم یکن الآمر بصیغة الأمر فی مقام البیان من هذه الجهة بل کان فی مقام بیان أصل الطلب المتعلّق بالمادة المعبّر

ص :367

مقام الإهمال أو الإجمال، فالمرجع هو الأصل. وإما أن یکون إطلاقها فی ذلک المقام، فلا إشکال فی الإکتفاء بالمرة فی الإمتثال، وإنما الإشکال فی جواز أن لا یقتصر علیها، فإنّ لازم إطلاق الطبیعة المأمور بها، هو الإتیان بها مرة أو مراراً لا لزوم الإقتصار علی المرّة، کما لا یخفی.

الشَرح:

عن ذلک بمقام الإهمال أو کان غرضه إخفاء خصوصیة متعلّق الطلب وأنّه الطبیعی مرة أو مرات أو بدونهما ، فالمرجع الأُصول العملیة ، وإن کان فی مقام البیان کما هو الأصل فی کلّ خطاب صادر عن المتکلم ، فمقتضی إطلاق الطبیعة المأمور بها هو الإتیان بها مرة أو مرات لا لزوم الاقتصار علی المرة ، کما لا یخفی .

ثمّ قال قدس سره : ولکنّ التحقیق أنّ مقتضی الإطلاق جواز الإتیان بالطبیعة مرة فی ضمن فردٍ أو أفراد کما إذا قال (إذا حنثت الیمین فأعتق رقبة) فیجوز له عتق عبد أو عبید دفعة امتثالاً للأمر بعتق العبد ، وأمّا إیجاد فرد بعد إیجاد الآخر امتثالاً للأمر بالعتق ثانیا فهذا غیر جائز ؛ لسقوط الأمر بالعتق بالإتیان بالفرد الأوّل لا محالة ، فلا یبقی مجال للإتیان به ثانیا بعنوان الامتثال فیما إذا کان امتثال الأمر بالفرد الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض کما فی المثال ، ولا یبقی أیضاً مجال للإتیان به ثانیا لیکون الإتیانان امتثالاً واحدا .

نعم إذا لم یکن الإتیان الأوّل علّة تامّة لحصول الغرض الأقصی وإن کان موجبا للغرض المترتّب علی الإتیان بالفعل ، کما إذا أمر المولی بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، فأتی به ، فإنّه مادام لم یشربه أو لم یتوضّأ فلا یبعد صحّة تبدیل الامتثال بالإتیان بفردٍ آخر أحسن منه ، بل وإن لم یکن أحسن منه کما کان له أن یأتی بذلک الماء قبل الإتیان بالماء المأتی به علی ما یأتی بیانه فی بحث الإجزاء .

أقول : لو کان مراد القائل بدلالة صیغة الأمر علی المرة أنّ المرة قید لمتعلّق

ص :368

والتحقیق: إن قضیة الإطلاق إنّما هو جواز الإتیان بها مرة فی ضمن فرد أو أفراد، فیکون إیجادها فی ضمنها نحواً من الإمتثال، کإیجادها فی ضمن الواحد، لا جواز الإتیان بها مرة ومرات، فإنّه مع الاتیان بها مرة لا محالة یحصل الإمتثال ویسقط به الأمر، فیما إذا کان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصی، بحیث یحصل بمجرده، فلا یبقی معه مجال لاتیانه ثانیاً بداعی امتثال آخر، أو بداعی أن الشَرح:

الطلب وأنّ مفاد الهیئة تعلّق الطلب بالمادة ومفاد مادّتها الطبیعی المقیّد بالمرة ، ففی الفرض لا یجوز الإتیان بالطبیعی مرة أُخری ، فإنّ الإتیان مرة أُخری یوجب عدم حصول متعلّق الطلب أصلاً ، کما هو الحال فی الرکوع الواجب فی کلّ رکعة من رکعات الفریضة .

وأمّا إذا کان مراده دلالة هیئة الصیغة علی أنّ الطلب المتعلّق بطبیعی الفعل واحد وأن_ّه لا تعدّد فی ناحیة الطلب المتعلّق بالطبیعی لا لزوماً ولا استحباباً ، ففی مثل ذلک وإن لم یجز الإتیان بالفرد الآخر من الطبیعی امتثالاً لطلب آخر إذ لا تعدّد فیه حسب الفرض ، إلاّ أنّه إذا أتی بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو حتّی معه فلا یضرّ بالامتثال الأوّل ، کما هو الحال فی غسل الوجه أو الید الیمنی فی الوضوء ثلاث مرات ، فإنّ المکلف فی الفرض وإن شرع بقصد الامتثال بالفرد الآخر مع علمه بالحال إلاّ أنّه لا یضر بامتثاله بالفرد الأوّل ، ویترتّب علی ذلک أن_ّه لو أعاد الجنب غسله بعد اغتساله من الجنابة أوّلاً فلا تضرّ الإعادة بصحّة اغتساله الأوّل .

وکذلک الحال فیما لو قلنا بعدم دلالة الصیغة علی المرة ولا التکرار لا بمادتها ولا بهیئتها ، بل مفادها طلب صرف وجود الطبیعی ، فإنّه بعد حصول صرف وجوده بالفرد الأوّل لا یبقی مجال للامتثال بالفرد الآخر ، ولکن إذا أتی بالفرد الآخر بلا قصد الامتثال أو معه ، فلا یضرّ بالامتثال بالفرد الأوّل .

ص :369

یکون الإتیانان امتثالاً واحداً، لما عرفت من حصول الموافقة بإتیانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا یبقی مجال لإمتثاله أصلاً، وأم_ّا إذا لم یکن الإمتثال علة تامة لحصول الغرض، کما إذا أمر بالماء لیشرب أو یتوضأ فأتی الشَرح:

وما ذکره قدس سره فی أوّل الأمر من أنّ مقتضی الإطلاق جواز عدم الاقتصار علی المرة ، لا یخفی ما فیه ، فإنّ الإتیان بذات الفعل ثانیا وثالثا جائز ، ولکن لا یجوز بقصد الامتثال ؛ لسقوط الأمر بالطبیعی بالإتیان بالفرد الأوّل ، فإنّ مقتضی إطلاق المادة عدم أخذ الخصوصیة فی المتعلّق ، کما تقدّم ، ومقتضی إطلاق الهیئة تعلّق الطلب بما لم یلاحظ فیه الخصوصیة لا تعلّقه بالخصوصیات أیضاً .

وما ذکره ثانیا من أن_ّه مع عدم حصول الغرض الأقصی فلا بأس بالامتثال ثانیا أیضاً غیر صحیح ؛ لأنّ بقاء الغرض الأقصی مع حصول الغرض من متعلّق التکلیف وهو تمکن الآمر من تناول الماء فی المثال لا یوجب بقاء التکلیف بذلک المتعلّق لیمکن الامتثال الآخر بعد الامتثال الأوّل .

ودعوی أن_ّه لو أُریق الماء الأوّل لزم علی العبد الإتیان به ثانیا ، وهذا دلیل علی بقاء التکلیف ما دام لم یحصل الغرض لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ العلم بالغرض فی نفسه ملزم للعبد بالفعل ومع إراقة الماء یعلم بعدم حصول الغرض الذی هو تمکّنه من تناول الماء وهو ملزم له بالفعل ثانیاً ، ولذا لو علم العبد بهذا الغرض وغفل المولی عن حضور عبده عنده لیأمره بالإتیان بالماء کان علیه الإتیان به وجاز للمولی أن یؤاخذه علی ترکه .

نعم ، بقی فی المقام أمر وهو أنّه قد یکون لمتعلّق الطلب مصادیق یختلف بعضها مع بعض فی الملاک ، فیکون ملاک الطلب فی بعضها أقوی وأکثر بالإضافة إلی بعضها الآخر ، کما فی الأمر بالتصدّق علی الفقیر ، فإنّه یمکن التصدّق علی فقیرٍ

ص :370

به، ولم یشرب أو لم یتوضأ فعلاً، فلا یبعد صحة تبدیل الإمتثال بإتیان فرد آخر أحسن منه، بل مطلقاً، کما کان له ذلک قبله، علی ما یأتی بیانه فی الإجزاء.

الشَرح:

بالمال الیسیر ویمکن التصدّق علیه بالمال الکثیر کما یمکن التصدّق علی فقیرٍ بعد التصدّق علی فقیرٍ آخر ، ففی مثل هذه الموارد لا بأس بعد التصدّق بالمال الیسیر التصدّق بمالٍ آخر علیه ، أو علی فقیرٍ آخر امتثالاً للأمر المتوجّه إلیه .

ولکن لا یخفی أنّ مثل ذلک لا یعدّ امتثالاً بعد الامتثال ، بل من موارد تعدّد المطلوب بمعنی أنّ الطلب بمرتبته الوجوبیّة وإن سقط بالتصدّق الأوّل ؛ ولذا لا یجوز له التصدق علی الفقیر الثانی بقصد الوجوب ، ولکنه قد بقی بمرتبته الاستحبابیة ، واستفادة تعدّد الطلب بهذا المعنی من الأدلة فی بعض الموارد ومن مناسبة الحکم والموضوع فی بعضها الأخر غیر بعید .

ثمّ إنّ هذا کلّه فیما إذا ثبت للآمر إطلاق ، سواء کان بالصیغة أو بغیرها ، وأمّا إذا لم یکن فی البین إطلاق ، کما إذا لم یصل خطاب الأمر إلینا أو وصل ولکن لم تتمّ فیه مقدّمات الحکمة وفرض وصول النوبة إلی الأصل العملی ، فمقتضی البراءة عدم کون الإتیان بالطبیعی ثانیا مانعا ، سواء أتی به بلا قصد التقرّب والامتثال ، أو لاحتمال مطلوبیته ولو ندبا ، وبناءً علی ما ذکره المصنف قدس سره یکون مقتضی استصحاب بقاء التکلیف جواز تبدیل الامتثال .

ص :371

المبحث التاسع: الحق أن_ّه لا دلالة للصیغة، لا علی الفور ولا علی التراخی[1]، نعم قضیة إطلاقها جواز التراخی، والدلیل علیه تبادر طلب إیجاد الطبیعة منها، بلا دلالة علی تقییدها بأحدهما، فلا بدّ فی التقیید من دلالة أخری، کما ادعی دلالة غیر واحد من الآیات علی الفوریة.

الشَرح:

دلالة صیغه الأمر علی الفور أو التراخی

:

[1] قد یکون الواجب مضیّقا بأن جعل الشارع للإتیان به وقتا یساوی الفعل ، کالصیام فی أیّام شهر رمضان أو غیرها ، وقد یکون موسّعا کالصلوات الیومیة ، حیث إنّ الزمان المعیّن لکلّ منها أوسع مما تقتضیه کلّ صلاة .

ولا کلام فی أن_ّه یتعیّن فی المضیّق الإتیان به فی زمانه ، کما لا ینبغی التأمّل فی أن_ّه یجوز فی الموسّع التأخیر إلی ما قبل انتهاء الوقت ممّن یدرکه ویتمکّن منه قبل انتهائه ؛ لأنّ تحدید الوقت الوسیع للفعل ظاهره الترخیص فی التأخیر المزبور .

وإنّما الکلام فیما إذا تعلّق الطلب بفعل بصیغة الأمر أو نحوها من غیر تحدید الفعل أو الطلب بالزمان فهل یکون مدلول الصیغة ونحوها طلب الإتیان به فورا أو طلب الإتیان به متراخیا أو لا دلالة لها علی شیء منهما بل مدلولها طلب ایجاد الطبیعی فیکون مقتضی إطلاقها جواز تأخیر الإتیان وعدم لزوم الإتیان فورا ، أو لزوم الإتیان متراخیا ، فلا ینافی دلالتها بالاطلاق علی جواز کل من الفور والتراخی .

ولو التزم فی مورد بتعین الإتیان بالفعل فورا فاللازم قیام دلیل وقرینة علی تلک الفوریة سواء کانت الفوریة بنحو وحدة المطلوب أو بنحو الإتیان به فورا ففورا وسواء کانت الفوریة عقلیة أو بنحو الفوریة العرفیة .

وقد یقال بقیام القرینة العامّة بالإضافة إلی جمیع موارد طلب الفعل وإیجابه ،

ص :372

وفیه منع، ضرورة أنّ سیاق آیة «وسارعوا إلی مغفرة من ربکم» وکذا آیة «فاستبقوا الخیرات» إنّما هو البعث نحو المسارعة إلی المغفرة والإستباق إلی الخیر، من دون استتباع ترکهما للغضب والشر، ضرورة أن ترکهما لو کان مستتبعاً للغضب والشر، الشَرح:

وتلک القرینة مستفادة من قوله تعالی : «سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ»(1) و«اسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ»(2) ؛ لأنّ مفادهما وجوب المبادرة إلی الخیر وموجب المغفرة ، وأمّا أنّ أیّ شیء خیر أو موجب للمغفرة فلا تعرّض فیهما لذلک ، والمستفاد من إطلاق الصیغة ونحوها کما تقدّم أنّ طبیعی الفعل _ فی أی زمان حصل _ خیر وموجب للمغفرة ، وإذا انضمّ ذلک إلی الکبری المستفادة من الآیتین تکون النتیجة وجوب الإتیان فورا ففورا ، فإنّه علی تقدیر الترک فی الآن الأوّل یکون الإتیان به فی الآن الثانی مسارعةً واستباقا بالإضافة إلی الأزمنة اللاحقة وهکذا .

وأجاب الماتن قدس سره عن دعوی هذه القرینة العامّة بجوابین :

الجواب الأوّل: أنّ طلب المسارعة إلی الخیر وموجب المغفرة استحبابی ، ولا أقلّ المستفاد منها مطلق مطلوبیّتهما لا الطلب الوجوبی ، وذلک لأنّ ظاهر الأمر بالمسارعة إلی الخیر والمبادرة إلی موجب المغفرة أن_ّه لیس فیهما (یعنی فی المسارعة والاستباق) ملاک ملزم آخر یفوت بالإتیان بالخیر وموجب المغفرة مع التأخیر ، لیکون ترک المسارعة والاستباق موجباً للغضب والسخط من جهة تفویت الملاک الملزم بالتأخیر فی إتیان موجب المغفرة وبالإتیان بالخیر فیما بعد ، ولو کان ترکهما کذلک لکان الأمر بهما بنحو التحذیر أنسب ؛ لئلاّ یکون لهما ظهور فی عدم

ص :373


1- (1) سورة آل عمران : الآیة 133 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 148 .

کان البعث بالتحذیر عنهما أنسب، کما لا یخفی، فافهم.

مع لزوم کثرة تخصیصه فی المستحبات، وکثیر من الواجبات بل أکثرها، فلا بدّ من حمل الصیغة فیهما علی خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا یبعد دعوی استقلال العقل بحسن المسارعة والإستباق، وکان ما ورد من الآیات

الشَرح:

الملاک الملزم الآخر ، وما ذکر یعیّن ظهورهما فی الاستحباب ، ومع الإغماض عن ذلک فالإلتزام بوجوب المسارعة والاستباق یوجب التخصیص المستهجن فی الآیتین بإخراج المستحبات طرّا والواجبات الموسعة ونحوهما ممّا یجوز فیها التأخیر ، وعلیه فلو لم تکونا ظاهرتین فی الاستحباب فلا أقلّ من إرادة مطلق المطلوبیة منهما .

والجواب الثانی: ما أشار إلیه بقوله «ولا یبعد دعوی استقلال العقل... إلخ» وحاصله أنّه لا یبعد أن یقال باستقلال العقل بحسن الاستباق إلی الخیر والمسارعة إلی موجب المغفرة ، ولیس المراد من حسنهما حسن الفعل ، بأن یکون فی المسارعة والاستباق ملاک مولوی آخر _ ملزم أو غیر ملزم _ غیر ما فی الإتیان بما هو خیر وموجب للمغفرة ، نظیر حکمه بحسن العدل وقبح الظلم ؛ لیتعیّن الأمر الشرعی والنهی الشرعی بقاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع ، بل المراد الحسن الامتثالی یعنی استقلال العقل بأنّ مع المسارعة یکون المکلف علی إحراز من درکه الخیر والوصول إلی المغفرة وهذا أرقی مراتب إحراز الامتثال ، وحیث إنّ الآیتین أیضاً ظاهرتان فی أن_ّه لیس فی المسارعة والاستباق غیر إحراز ملاک نفس الخیر وموجب المغفرة فیکون الأمر بهما فی الآیتین إرشادا إلی ما استقلّ به العقل ، کما هو الحال فی أمر الشارع بأصل الطاعة وترک المعصیة .

فتحصل ممّا ذکرنا أنّ مقتضی الجواب الثانی عدم کون الأمر بالمسارعة

ص :374

والروایات فی مقام البعث نحوه إرشاداً إلی ذلک، کالآیات والروایات الواردة فی الحثَّ علی أصل الإطاعة، فیکون الأمر فیها لما یترتّب علی المادة بنفسها، ولو لم یکن هناک أمر بها، کما هو الشأن فی الأوامر الإرشادیة، فافهم.

الشَرح:

والاستباق مولویا لا بنحو الایجاب ولا بنحو الاستحباب ، بل هو إرشاد ، ومقتضی الجواب الأوّل هو کون الأمر بالمسارعة والاستباق مولویا ، ولکن لا بنحو الإیجاب ، بل بنحو الاستحباب أو مطلق الطلب ومن دون دلالته علی خصوصیة الوجوب .

ولکن لا یخفی أنّ ما ذکره قدس سره فی الجواب الأوّل غیر تامّ ، حیث ذکر أنّ حمل الأمر بالمسارعة والاستباق علی الوجوب یوجب التخصیص المستهجن فی الآیتین، والوجه فی عدم التمامیة هو ما ذکرناه من أنّ الوجوب مقتضی إطلاق الطلب المستفاد من الصیغة ، والمراد من إطلاق الطلب کونه متّصفا بعدم ورود الترخیص فی الترک ، وعلیه فإذا تعلّق الطلب بأفعال ثمّ ورد الترخیص فی ترک بعضها أو أکثرها یرفع الید عن إطلاقه بالإضافة إلی ما ورد الترخیص فی ترکه فحسب ، سواء کان تعلّق الطلب بالأفعال بعناوینها ، أو بها بعنوان انحلالی ، فقیام القرینة فی المستحبّات علی الترخیص فی ترک أصلها فضلاً عن المسارعة إلیها وکذا فی الواجبات الموسّعة بالإضافة إلی المسارعة إلیها فی أوّل وقتها لا یوجب رفع الید عن إطلاق الطلب المتعلّق بالمسارعة إلی غیرهما من الخیرات وموجبات المغفرة .

وقد یقال : بأنّ ظاهر الأمر بالاستباق فی الخیر والمسارعة إلی المغفرة هو أمر المکلّفین بالمسابقة فی الخیرات والمغفرة ، ولا تکون المسابقة إلاّ فیما إذا لم یصل الشخص إلی المقصود قبل الآخرین لفات عنه ، کما فی قوله سبحانه : «وَاسْتَبَقا الْبابَ» فالاستباق والمسارعة هی المسابقة وإرادة الوصول إلی الشیء قبل الآخرین لئلاّ یفوت عنه الشیء ، وهذا یناسب الواجب الکفائی ممّا یکون المطلوب من

ص :375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

جمیع المکلّفین عمل واحد بحیث لو قام به أحدهم لسقط عن الآخرین ، ولا یجری فیما إذا وجب علی کلّ مکلّف فعله المختصّ به ، من دون أن یرتبط بعمل الآخرین کما فی الواجبات العینیة المهمّة فی المقام .

و علی ما ذکر من اختصاص الأمر بالاستباق والمسارعة بالواجبات الکفائیه یکون الأمر بهما للإرشاد إلی عدم فوت العمل من غیر السابق إلیه .

أضف إلی ذلک أن_ّه لا دلالة لآیة المسارعة إلی المغفرة علی وجوب الإتیان بکلّ ما یؤمر به فورا ، حیث لا عموم فیها .

ودعوی توصیف المغفرة ب«مِنْ رَبّکُم» یقتضی العموم ، لا دلیل علیها ، ویؤیّد عدم العموم وقوع الخلاف بین المفسّرین فی المراد من المغفرة التی أمر بالمسارعة إلیها حیث قیل المراد کلمة الشهادة ، أو أداء الفرائض ، أو تکبیرة الإحرام فی صلاة الجماعة ، أو الصفّ الأوّل ، أو التوبة ، أو غیر ذلک .

أقول : لم یؤخذ فی معنی الاستباق فوت ما یتسابق فیه إذا لم یسبق إلیه ، بل یکون الفائت ملاک السبق إلیه کما إذا شرع کلّ عامل بعمله الخاصّ واستبقوا فی أعمالهم ، یعنی فی فراغ کلّ منهم عن عمله ، لم یفت ما یتسابق فیه بسبق أحدهم فی العمل . نعم إذا لم یکن العمل قابلاً للتکرار بل کان أمراً واحدا یفوت عن غیر السابق ، کما فی قوله تعالی : «وَاسْتَبَقا الْبابَ»(1) یکون الأمر کما ذکر ، بخلاف مثل قوله سبحانه : «وَلَوْ شِئْنا لَطَمَسْنا عَلی أعْیُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ»(2) فإنّ العمل لا یفوت عن

ص :376


1- (1) سورة یوسف : الآیة 25 .
2- (2) سورة یس : الآیة 66 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الآخرین باستباقٍ واحدٍ منهم ، وعلی ما ذکر فلا یوجب اختصاص الأمر باستباق الخیرات بالواجبات الکفائیة ، حیث إنّ فوت ملاک السبق لا یلازم فوت ما یتسابق فیه ، وأمّا آیة المسارعة ، فلیس فیها دلالة علی المسابقة المعروفة ، وما اشتهر من أنّ باب المفاعلة یکون بین الاثنین أمرٌ لا أساس له ، وسارعوا إلی مصارعهم أو مضاجعهم ، یعنی أراد کلّ الوصول إلی مصرعه أو مضجعه بسرعة .

وإذا کان المراد من المغفرة فی الآیة موجب الغفران والتزم بأنّ الواجبات من موجباتها کما یستظهر من قوله سبحانه «إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السّیِّئاتِ»(1) فلا وجه لاختصاص الأمر بالمسارعة إلیها، بواجب دون واجب لحصول الملاک فی کلّ منها.

نعم لو قیل إن المراد منها التوبة عن الفواحش کما لا یبعد ، بقرینة ما ذکر بعد ذلک ، فلا ترتبط الآیة بالإتیان بالمأمور به فورا .

ثمّ إنّه _ مع الإغماض عمّا تقدّم فی تقریر کلام الماتن فی جوابه الثانی من أنّ ظاهر الآیتین کون الأمر بالاستباق فی الخیرات والمسارعة إلی المغفرة هو الإرشاد والأمن من عدم حصول الامتثال والغفران _ یمکن أن یقال إنّ الأمر بالاستباق والمسارعة فیهما لا یناسب الإلزام ، وإلاّ لخرج العمل مع التأخیر عن کونه خیرا وموجبا للمغفرة ، حیث یکون التأخیر موجبا للوزر . وإن شئت قلت یکون التأخیر وترک السبق عنوانا مزاحما لکون العمل خیرا وموجبا للغفران ، وظاهر الآیتین کون ما فی الاستباق والمسارعة من الملاک أمرا انضمامیا الی ملاک الخیر وموجب الغفران من دون أن یکون فی ترکهما مزاحمة للخیر وموجب الغفران .

ص :377


1- (1) سورة هود : الآیة 114 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وهذا نظیر ما قلناه فی مسألة وجوب التوبة من عدم کون وجوبها شرعیا ، وإنّما یکون عقلیا دفعا للضرر الحاصل من العمل السابق . نعم لا بأس بالالتزام بکونها مطلوبا نفسیا بما فیها من التضرّع والخشوع والاستغفار .

والوجه فی عدم کون وجوبها شرعیا أنّ التوبة قد فتح بابها ربّ العالمین رحمةً لعباده ، ومقتضاها أن لا یزید فتح بابها وزرا علی العبد فیما إذا توانی فیها ، وقد ذکرنا أنّ ذلک یستفاد من بعض الروایات المعتبرة(1) ، ومدلولها أنّه إذا صدرت معصیة من عبد مؤمن أجّله اللّه ساعات ، فإنّ تاب لا یکتب علیه وزر وذنب ، وإذا لم یتب یکتب علیه ذلک الذنب لا ذنبان ، فراجع .

بقی فی المقام أمر ، وهو أن_ّه قد یدّعی أنّ الصیغة وما بمعناها وإن لم تکن لها دلالة بنفسها علی لزوم الإتیان والعمل فورا وفی أوّل أزمنة الإمکان لما تقدّم من أنّ مدلول الهیئة طلب الإیجاد ، ومدلول المادة نفس طبیعی الفعل ، إلاّ أنّ فی البین قرینة عامّة علی أنّ طلب الطبیعی یراد به طلب إیجاده فی أوّل أزمنة الإمکان عرفا ما لم یکن فیالبین قرینة خاصّة علی خلافها ، والقرینة العامّة هی توجیه الخطاب إلی الشخص ، حیث إنّ التوجیه قرینة علی أنّ الغرض فی الطبیعی حین توجیه الخطاب ، لا فی الطبیعی ولو وجد بعد سنوات ، سواء کان الغرض ممّا یعود إلی الآمر أو إلی المأمور .

ولکن لا یخفی أنّ هذه الدعوی لو سُلِّمت فی الخطاب الخاصّ المتوجّه إلی شخص أو أشخاص متضمّن لتکلیفهم بفعلٍ ، فهی لا تجری فی الخطابات العامّة المتضمّنة

ص :378


1- (1) الوسائل : ج 11 ، الباب 85 من أبواب جهاد النفس .

تتمة: بناءً علی القول بالفور، فهل قضیة الأمر الإتیان فوراً ففوراً [1] بحیث لوعصی لوجب علیه الإتیان به فوراً أیضاً، فی الزمان الثانی، أو لا؟ وجهان: مبنیان علی أن مفاد الصیغة علی هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا یخفی أن_ّه لو قیل بدلالتها علی الفوریة، لما کان لها دلالة علی نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبّر جیداً.

الشَرح:

للتکالیف الانحلالیة بنحو القضیة الحقیقیة کما هو المهم فیالمقام .

نعم لا یبعد دعوی عدم جواز التوانی فی امتثال التکالیف الانحلالیّة بحیث یعدّ التأخیر من عدم الاعتناء بالتکلیف ، وهذا أمر آخر غیر مسألة الإتیان بمتعلّق التکلیف فورا .

[1] إنّ القائل بالفور إن استظهر لزومه من آیتی المسارعة والاستباق فقد تقدّم أنّ مقتضاهما الإتیان فورا ففورا ، وإن استفاد الفور من دلالة نفس صیغة الأمر کما هو ظاهر الماتن قدس سره ، فابتناء القول بالإتیان فورا ففورا أو الإتیان فی الزمان الأوّل خاصة ، علی کون مدلول الصیغة وحدة المطلوب أو تعدّده ، غیر صحیح ، فإنّه بناءً علی تعدّد المطلوب یکون مدلولها مطلوبیة ذات الطبیعی ومطلوبیة الإتیان به أوّل الأزمنة بعد الأمر ، وإذا ترک المکلف العمل فی أوّل أزمنة الإمکان یبقی الطلب المتعلّق بذات الطبیعی ، ومقتضی بقائه جواز التأخیر لا الإتیان به فورا ففورا .

نظیر ما یقال فی تبعیة القضاء للأداء من أنّ المستفاد من الأمر بالصلاة فی الوقت مثلاً أمران ؛ أحدهما : مطلوبیة نفس الصلاة ، وثانیها : مطلوبیّتها فی وقتها ، وإذا خالف المکلف التکلیف الثانی یبقی الأوّل ، وهو التکلیف بالإتیان بالطبیعی ولو خارج الوقت ومقتضاه التوسعة . هذا وقد تقدّم فی بحث المرة والتکرار أنّ المستفاد من الهیئة وجوب واحد ، وإذا تعلّق بالعمل أوّل أزمنة الإمکان أو بالصلاة فی وقت ،

ص :379

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

یسقط ذلک الوجوب بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمکان کانقضاء الطلب بانقضاء وقت الصلاة . وحدوث ملاک ملزم فی نفس الطبیعی بعد انقضاء أوّل أزمنة الإمکان أو بعد الوقت أو وجوده من الأوّل یحتاج إلی دلیلٍ وخطابٍ آخر متضمّن للتکلیف بنفس الطبیعی ؛ ولذا التزم المشهور بأنّ وجوب القضاء بأمرٍ جدیدٍ لا بالتکلیف بالفعل فی الوقت ، وإذا لم یتمّ دلیل علی التکلیف بالطبیعی ووصلت النوبة إلی الأصل العملی فالمرجع هو استصحاب عدم جعل تکلیف آخر ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الفعل ، حیث إنّ الحادث المتیقّن سابقا _ وهو الوجوب المتعلّق بالفعل المقیّد _ قد علم بارتفاعه بانقضاء أوّل أزمنة الإمکان ، أو انقضاء الوقت ، والوجوب المتعلّق بنفس الطبیعی غیر محرز من الأوّل ، فیکون الاستصحاب فی طبیعی الوجوب من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلّی ، فتدبّر .

لا یقال : إذا فرض دلالة الصیغة علی الفور یکون مدلولها طلب الفعل فی أوّل أزمنة الإمکان ، ومقتضی تقیید المتعلّق به عدم تعلّق طلبٍ بذات الفعل ، فلا تصل النوبة إلی الأصل العملی .

فإنّه یقال : یکون مدلول الصیغة تعلّق الطلب المُنشأ بالفعل المقیّد حتّی ثبوتا لا عدم إنشاء طلب آخر لذات الفعل ، فإنّ التقیید لا مفهوم له ، فاللازم عند الشک فی إنشاء طلبٍ آخر بذات العمل الرجوع إلی الأصل العملی ومقتضاه ما تقدّم ، ولا یبعد أن یکون ما ذکرنا هو مراد الماتن قدس سره من قوله «لما کان لها دلالة علی نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده»(1) .

ص :380


1- (1) الکفایة : ص 80 .

الفصل الثالث

الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء فی الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض فی تفصیل المقام وبیان النقض والإبرام، ینبغی تقدیم أمور:

أحدها: الظّاهر أنّ المراد من (وجهه) [1] _ فی العنوان _ هو النهج الذی ینبغی أن یؤتی به علی ذاک النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن یؤتی به بقصد التقرب فی العبادة، لا خصوص الکیفیة المعتبرة فی المأمور به شرعاً، فإنّه علیه یکون (علی وجهه) قیداً توضیحیاً، وهو بعید، مع أنه یلزم خروج التعبدیات عن حریم النزاع، بناءً علی المختار، کما تقدم من أن قصد القربة من کیفیات الإطاعة عقلاً، لا من قیود المأمور به شرعاً، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فإنّه _ مع عدم اعتباره عند الشَرح:

مبحث الإجزاء

[1] قد تقدّم فی بحث التعبدی والتوصلی عدم إمکان أخذ قصد التقرب فی العبادات فی متعلّق الأمر بالإتیان بالصلاة مثلاً بلا قصد التقرب ، وإن کان من الإتیان بالمأمور به بتمامه إلاّ أنّه لا یکفی فی سقوط الأمر بها ، وعلیه فاللازم فی اندراج العبادات فی عنوان البحث أن یقال المراد من «وجهه» الوارد فیه هو النحو المعتبر شرعا وعقلاً فی الإتیان بمتعلّق الأمر ، ولا یصحّ إرادة خصوص النحو المعتبر شرعا ، وإلاّ لکان ذکر «علی وجهه» توضیحیا مع لزوم خروج التعبدیات عن عنوان الخلاف بناءً علی ما هو المختار عند الماتن قدس سره وغیره من أنّ قصد التقرّب اللاّزم فی العبادات من القیود المعتبرة فی کیفیة الإطاعة عقلاً ، لا ممّا یعتبر فی متعلّق الأمر شرعا.

والوجه فی لزوم خروجها وضوح عدم الإجزاء فیها بمجرّد الإتیان بتمام متعلّق

ص :381

المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره، إلاّ فی خصوص العبادات لا مطلق الواجبات _ لا وجه لإختصاصه بالذکر علی تقدیر الإعتبار، فلا بد من إرادة ما یندرج فیه من المعنی، وهو ما ذکرناه، کما لا یخفی.

ثانیها: الظّاهر أنّ المراد من الإقتضاء __ ها هنا __ الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر[1]، لا بنحو الکشف والدلالة، ولذا نسب إلی الإتیان لا إلی الصیغة.

الشَرح:

الأمر.

ولا مجال أیضاً لتوهم أنّ المراد بالقید المزبور هو قصد الوجه الذی ذهب بعض إلی اعتباره فی العبادات ، والوجه فیه هو أنّ قید «علی وجهه» وارد فی عنوان البحث فی کلام الاصحاب کلّهم ، ولو کان المراد القصد المزبور لما ذکره إلاّ من یری اعتباره . ولا وجه أیضاً لتقیید مطلق الإتیان بالمأمور به ، بالقصد المزبور فإنّ من یعتبره لا یری اعتباره إلاّ فی خصوص العبادات .

کما لا وجه لاختصاصه بالذکر وإهمال قصد التقرّب بناءً علی ما تقدّم من عدم إمکان أخذه کقصد الوجه فی متعلّق الأمر ، فیتعیّن أن یکون المراد المعنی الجامع لیندرج فیه قصد الوجه أیضاً علی تقدیر القول باعتباره ، وهو ما تقدّم من النحو المعتبر فی الإتیان بالمأمور به عقلاً وشرعا.

وممّا ذکرنا ظهر أن_ّه بناءً علی أنّ قصد التقرّب وکذا قصد الوجه مما یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف وأن_ّه لا فرق بینهما وبین سائر القیود المأخوذة فی متعلّقه ، یکون قید «علی وجهه» فی عنوان البحث توضیحیا لا محالة .

[1] ذکر قدس سره أنّ المراد من الاقتضاء فی عنوان البحث هو التأثیر والعلیّة لا بمعنی الکشف والدلالة ؛ ولذا نسب فیه الاقتضاء إلی الإتیان بالمأمور به ، لا إلی الصیغة ونحوها ، مما یدلّ علی طلب الشیء وإیجابه .

ص :382

إن قلت: هذا إنّما یکون کذلک بالنسبة إلی أمره، وأما بالنسبة إلی أمر آخر، کالإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری بالنسبة إلی الأمر الواقعی، فالنزاع فی الحقیقة فی دلالة دلیلهما علی اعتباره، بنحو یفید الإجزاء، أو بنحو آخر لا یفیده.

الشَرح:

لا یقال : إنّ الإتیان بمتعلّق تکلیف علی وجهه یؤثّر ویوجب سقوط الأمر بذلک المتعلّق فیکون بمعنی التأثیر والعلیة ، وأمّا اقتضاء الإتیان بمتعلّق تکلیف لسقوط تکلیف آخر ، کما فی الإتیان بالمأمور به الظاهری ، حیث یسقط معه التکلیف الواقعی ، وکذا فی الإتیان بالمأمور به الاضطراری ، حیث یسقط معه التکلیف بالاختیاری ، والخلاف فیه یرجع إلی الخلاف فی دلالة خطاب الأمر بالظاهری أو بالاضطراری علی الإجزاء وعدم دلالته .

فإنّه یقال : یمکن أن یعنون مورد الخلاف فیاقتضاء الأمر الظاهری والاضطراری للإجزاء بذلک المعنی أیضاً ، بأن یقال : إنّ البحث فی أنّ الإتیان بالمأمور به الظاهری أو الاضطراری هل یؤثّر فی الإجزاء وسقوط التکلیف بالإضافة إلی التکلیف الواقعی أو الاختیاری أم لا ؟ کما کان بالإضافة إلی أمر نفسهما ، غایة الأمر البحث فی أنّ الإتیان بهما یؤثّر فی سقوط التکلیف الواقعی والاختیاری ، ینشأ عن الخلاف فی دلالة دلیل الأمر الظاهری أو الاضطراری وأنّ ذلک الدلیل یدلّ علی کون المأمور به الظاهری أو الاضطراری واجدا لتمام ملاک المأمور به الواقعی أو الاختیاری أو بالمقدار اللازم من ملاکهما أم لا ؟ بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یوجب سقوط الأمر بهما ، فإنّ البحث فی هذه الجهة لملاک آخر کما یأتی .

والمراد من قوله قدس سره «ویکون النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری أو الاضطراری بالإضافة إلی التکلیف بالواقعی والاختیاری صغرویا أیضاً ، بخلافه فی

ص :383

قلت: نعم، لکنه لا ینافی کون النزاع فیهما، کان فی الإقتضاء بالمعنی المتقدم، غایته أن العمدة فی سبب الإختلاف فیهما، إنّما هو الخلاف فی دلالة دلیلهما، هل أن_ّه الشَرح:

الإجزاء بالإضافة إلی أمره فإنّه لا یکون إلاّ کبرویّاً»(1) أی بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یجزی عن أمر نفسهما ، فإنّ البحث فیه علی تقدیره کبروی لا محالة ، هو أنّ مع الإتیان بالمأمور به علی وجهه یکون المأتی به واجدا لتمام ملاک متعلّق التکلیف ، ویبحث فی المسألة فی أنّ المأتی به کذلک یوجب سقوط التکلیف ، بحیث لا یکون مجال للامتثال ثانیا ، لا أداءً ولا قضاءا ، أو لا یوجب سقوطه مطلقاً کما یأتی ، وبما أنّ البحث فی المأتی به الظاهری أو الاضطراری یقع فی دلالة دلیلهما علی أنّهما واجدان لملاک المأمور به الواقعی والاختیاری لا محالة یکون البحث فی إجزائهما عن التکلیف الواقعی والاختیاری بحثا صغرویا ، بخلاف البحث فی أنّ الإتیان بهما یجزی عن أمر نفسهما ، فإنّ هذا البحث والخلاف علی تقدیره کما نقل عن بعض یکون کبرویا لا محالة ؛ لأنّ المزبور حصول ملاک المأمور به الظاهری أو الاضطراری فی المأتی به منهما.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره أنّ المراد بالاقتضاء فی عنوان الخلاف وإن کان هو الاقتضاء الثبوتی لا الإثباتی (أی الکشف والدلالة) ولذا نسب الاقتضاء فی العنوان إلی الإتیان لا إلی الأمر بالشیء ، إلاّ أنّ فی إسناد الاقتضاء إلی الإتیان لکونه علة لسقوط الأمر بالفعل أو لعدم الأمر بالقضاء والتدارک مسامحة ؛ لأنّ الإتیان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ، فکیف یکون الإتیان علة لعدم الأمر به ، فإنّ الشیء لا یمکن أن یکون علّة لعدم نفسه ، بل سقوط الأمر مستند إلی انتهاء أمده وعدم بقاء الغرض منه

ص :384


1- (1) الکفایة : ص 82 .

علی نحو یستقل العقل بأن الاتیان به موجب للإجزاء ویؤثر فیه، وعدم دلالته؟ ویکون النزاع فیه صغرویاً أیضاً، بخلافه فی الإجزاء بالإضافة إلی أمره، فإنّه لا یکون إلاّ کبرویاً، لو کان هناک نزاع، کما نقل عن بعض. فافهم.

الشَرح:

لانتهاء المعلول بانتهاء علّته ، وکذا الحال بالإضافة إلی الأمر بالقضاء ، حیث إنّ الأمر بالتدارک یتوقّف علی الخلل فی المتدارک ، من فوته بنفسه ، أو فوت بعض ملاکه ، ومع الإتیان بالمأمور به أو حصول ملاکه لا یکون فی البین فوت ، لا فی المأمور به ولا فی بعض ملاکه (1).

أقول : الظاهر أنّ المراد بالاقتضاء لیس الاقتضاء الإثباتی ولا الاقتضاء الثبوتی بمعنی علّیة الإتیان بالمأمور به وتأثیره فی سقوط التکلیف ، لا لما ذکره قدس سره ، بل لأنّ الطلب والبعث الاعتباری حدوثا وبقاءا یکون بالاعتبار والجعل ، فعدم الأمر بعد الإتیان بالمتعلّق خارجا إنّما هو لعدم سعة المجعول من الطلب بالإضافة إلی بقائه ، ولا یؤثر فیه شیء من الإتیان أو لعدم بقاء الغرض علی غرضیته ، فإنّه لو التزم بعدم الغرض فی أوامر الشارع أصلاً لکان الإتیان بالمتعلّق _ سواء کان علی نحو صرف وجود الطبیعی أو غیره _ مقتضیا لسقوط الأمر وعدم بقائه ، فالمراد من الاقتضاء مجرّد حکم العقل بعدم الانفکاک ، بمعنی أنّ عدم البعث نحو الفعل بقاءا المستند إلی عدم جعله ، ملازم للإتیان بمتعلّق الأمر ، وکذلک بالإضافة إلی عدم الأمر بالتدارک والقضاء . وبالجملة ، هذه المسألة نظیر مسألة اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه الخاصّ ، أو مسألة الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بحث عن حکم العقل بالملازمة وعدمها .

ص :385


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 367 .

ثالثها: الظاهر أن الإجزاء _ ها هنا _ بمعناه لغة، وهو الکفایة [1]، وإن کان یختلف ما یکفی عنه، فإنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی، فیسقط به التعبد به ثانیاً، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی، فیسقط به القضاء، لا أن_ّه یکون _ ها هنا _ اصطلاحاً، بمعنی إسقاط التعبد أو القضاء، فإنه بعید جداً.

رابعها: الفرق بین هذه المسألة، ومسألة المرة والتکرار [2]، لا یکاد یخفی، فإنّ البحث _ ها هنا _ فی أن الإتیان بما هو المأمور به یجزی عقلاً، بخلافه فی تلک المسألة، فإنّه فی تعیین ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصیغة بنفسها، أو بدلالة أخری.

الشَرح:

وما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره من أنّ الإتیان بمتعلّق الأمر معلول للأمر به ففیه أنّ الأمر لا یکون علّة ، بل یمکن أن یکون داعیا ومرجّحا لاختیار المکلف ، ولکن لا بوجوده الواقعی ، بل بوجوده الإحرازی والعلمی ، والفرق بین المرجح والداعی وبین العلّة تقدّم تفصیله فی بحث الطلب والإرادة .

[1] قد فسّر فی کلام جماعة الإجزاء بسقوط التعبّد ثانیا وبسقوط القضاء ، وعلیه یکون استعماله فیهما من استعمال اللفظ فی معنیین مختلفین ، ولکن لا یخفی أن_ّه لیس للإجزاء معنیً مصطلح ، بل المراد منه المعنی اللغوی وهو الکفایة ، ویختلف ما یکفی عنه ، فإن کان ما یکفی عنه الأمر به ، فلازم الکفایة عدم لزوم الإعادة أو عدم جواز تکرار الامتثال ، وإن کان الأمر الآخر کما فی إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری عن الواقعی وإجزاء المأمور به الاضطراری عن الاختیاری ، فلازمه عدم لزوم التدارک أو القضاء .

[2] ذکر قدس سره أنّ الفرق بین البحث السابق فی دلالة صیغة الأمر علی المرة أو التکرار ، وبین البحث فی هذه المسألة ظاهرٌ ، حیث کان البحث فی تلک المسألة فی

ص :386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تعیین متعلّق الأمر بحسب دلالة الصیغة بنفسها ، أو بالقرینة العامّة کما تقدّم ، ولکن البحث فی هذه المسألة هو أن_ّه بعد تعیین المأمور به یکون البحث فی أنّ مع الإتیان به هل یحکم العقل بالاکتفاء به وأن_ّه لا یبقی للتعبّد به ثانیا مجال ، أم لا یحکم؟

نعم لو قیل فی تلک المسألة بدلالة الصیغة بنفسها أو بالقرینة علی التکرار ، لکان التکرار عملاً موافقا لعدم الإجزاء .

وکذا الفرق بین مسألة الإجزاء ومسألة تبعیّة الأداء للقضاء ظاهر ، فإنّ البحث فی مسألة تبعیة القضاء للأداء فی دلالة الصیغة علی تعدّد المطلوب بأن یکون نفس الفعل مطلوبا والإتیان به فی الوقت مطلوبا آخر ، بحیث یتحقّق بالإتیان فی الوقت کلا المطلوبین ویجب الإتیان بالفعل خارج الوقت علی تقدیر ترکه فی الوقت ، أو أنّ المستفاد منها وحدة المطلوب ، ویحتاج لزوم الإتیان بالفعل خارج الوقت إلی تکلیفٍ وخطاب آخر .

ویکون البحث فی المقام _ بعد تعیین أنّ المطلوب هو الطبیعی أو المقید _ فی أنّ الإتیان بالمأمور به هل یوجب سقوط الأمر أم لا ؟ ولا یخفی أنّ مسألة تبعیة القضاء للأداء ترکت فی کتب المتأخّرین ؛ لوضوح عدم استفادة المطلوبین من الأمر بالفعل فی الوقت ، بل لا یبعد القول بعدم إمکان تعلّق وجوبین فی زمان ، أحدهما بطبیعی الفعل ، وثانیهما بالطبیعی المقیّد بالزمان أو بغیره ؛ لأنّ الأمر بالطبیعی فی زمان الأمر بالمقیّد یصبح لغوا لحصول الطبیعی بالمقید ، وإنّما یصحّ وجوبه معلّقاً أو مشروطا بترک المقیّد أو فوته .

ص :387

نعم کان التکرار عملاً موافقاً لعدم الإجزاء لکنه لا بملاکه، وهکذا الفرق بینها وبین مسألة تبعیة القضاء للأداء، فإن البحث فی تلک المسألة فی دلالة الصیغة علی التبعیة وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنّه _ کما عرفت _ فی أن الإتیان بالمأمور به یجزی عقلاً عن إتیانه ثانیاً أداءً أو قضاءً، أو لا یجزی، فلا علقة بین المسألة والمسألتین أصلاً.

إذا عرفت هذه الأمور، فتحقیق المقام یستدعی البحث والکلام فی موضعین:

الأول: إنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی _ بل بالأمر الإضطراری [1] أو الظّاهری أیضاً _ یجزی عن التعبد به ثانیاً، لاستقلال العقل بأن_ّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتیان المأمور به علی وجهه، لاقتضائه التعبد به ثانیاً.

الشَرح:

إجزاء الأمر عن نفسه

:

[1] یقع البحث فی مسألة الإجزاء فی موضعین :

أحدهما: إجزاء الإتیان بکلٍّ من المأمور به الاختیاری أو الاضطراری الظاهری عن الأمر المتعلّق بکلٍّ منها ، وحاصل ما ذکره قدس سره فی هذا الموضع أنّه لو کان حصول متعلّق الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصی ، کما إذا أمر المولی عبده ببیع شیء فباعه العبد ، ففی مثل ذلک لا محیص عن سقوط الأمر بحقیقته وملاکه ، ونظیره ما إذا أمره بعتق نفسه أو عتق عبد آخر فأعتقه .

وأمّا إذا لم یکن الإتیان علة تامة لحصول الغرض ، کما إذا أمره بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، ففی مثل ذلک لا یکون الأمر ساقطا بعد الإتیان بالماء ، بحقیقته وملاکه ، وإن سقطت داعویّته ، حیث إنّ الغرض الداعی إلی الأمر به لیس مجرّد تمکنّه من الماء ولو آنا ما ، بحیث لو أُهرق الماء بعد المجیء به لکان حاصلاً ، بل الغرض رفع عطشه والوضوء به ، والمفروض بقاء هذا الغرض ، فکیف یسقط الأمر

ص :388

نعم لا یبعد أن یقال: بأن_ّه یکون للعبد تبدیل الإمتثال والتعبد به ثانیاً، بدلاً عن التعبد به أولاً، لا منضماً إلیه، کما أشرنا إلیه فی المسألة السابقة، وذلک فیما علم أنّ مجرد إمتثاله لا یکون علّة تامة لحصول الغرض، وإن کان وافیاً به لو اکتفی به، کما الشَرح:

المسبّب منه ؟ نعم تسقط کما ذکرنا داعویّته مادام المأتی به قابلاً لصرفه فی عطشه أو وضوئه ، فلو أُهرق واطّلع علیه العبد تتجدّد داعویته ، فیجب الإتیان به ثانیا ، کما إذا لم یأت بالماء أوّلاً .

وعلی ذلک ، فما دام لم یصرف المولی الماء ، فللعبد تبدیل امتثاله بامتثالٍ آخر مثله أو أحسن منه .

تبدیل الامتثال

ولو لم یعلم أنّ الإتیان بالمأمور به من أی القسمین یکون له تبدیل الامتثال لاحتمال بقاء الأمر ، ویؤید جواز تبدیل الامتثال _ بل یدلّ علیه _ ما ورد فی إعادة من صلّی فرادی جماعةً ، من أنّ اللّه (سبحانه) یختار أحبّهما إلیه .

أقول : الإتیان بمتعلّق الأمر وإن لم یکن موجبا لحصول الغرض الاقصی ، ولکنّ ذلک الغرض لا یطلب حصوله من المکلف وما یکون مترتّبا علی متعلّق التکلیف یحصل بالإتیان به لا محالة ، فإذا أمر المولی بالإتیان بالماء لیشربه أو یتوضّأ به ، فما دام لم یصرفه فی شربه أو وضوئه وإن لم یحصل غرضه الأقصی ، إلاّ أنّ الغرض الداعی له إلی الأمر بالإتیان بالماء _ وهو تمکنه منه وحصول الماء تحت یده _ حاصل ، ومعه لا معنی لبقاء أمره ، إذ مع وجود الماء عنده بعد الإتیان أو قبله لایصحّ أمر العبد بالإتیان بالماء .

والحاصل أنّه مع الإتیان بالماء وتمکین المولی منه ، یکون الأمر به ساقطا بحقیقته وملاکه ، ولو کان فی الإتیان بالماء الآخر غرض آخر غیر إلزامی ، یکون

ص :389

إذا أتی بماء أمر به مولاه لیشربه، فلم یشربه بعد، فإن الأمر بحقیقته وملاکه لم یسقط بعد، ولذا لو أهریق الماء واطلع علیه العبد، وجب علیه إتیانه ثانیاً، کما إذا لم یأت به أولاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم یحصل غرضه الداعی إلیه، وإلاّ لما أوجب حدوثه، فحینئذ یکون له الإتیان بماء آخر موافق للأمر، کما کان له قبل إتیانه الأول بدلاً عنه.

الشَرح:

الإتیان ثانیا امتثالاً للطلب غیر الإلزامی ، وتحصیلاً لذلک الغرض غیر الملزم ، ولا معنی لامتثال الأمر السابق الساقط .

نعم ، لو أُهرق الماء فی المثال واطّلع علیه العبد ، یجب الإتیان به ثانیا ، لکن لا بالأمر السابق الساقط ، بل للطلب الجدید الذی هو مثل السابق ، والعلم بأنّ المولی یرید منه الإتیان ثانیا کافٍ فی لزوم ذلک علیه ، بحیث لو فرض غفلة المولی عن إراقته یکون علمه بأنّ لمولاه غرضاً فی حصول الماء عنده ، حجّة علیه.

وما ورد فی إعادة الصلاة جماعة ، فهو أمرٌ آخر استحبابی تعلّق بإعادتها ، کاستحباب إعادة صلاة الآیات ، لا أنّها امتثال للأمر الأوّل ، وما فی بعضها من أن_ّه یجعلها فریضة ، فالمراد منها قصد القضاء لا قصد فریضة الوقت ، کما صرّحت بذلک موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : «تقام الصلاة وقد صلّیت ، فقال : صلِّ واجعلها لما فات»(1) . فلا یتعیّن أن یکون المراد من جعلها فریضة قصد الفریضة بالأصل وإن کانت مستحبّة بعنوان إعادتها ، کما هو المحتمل فی صحیحة الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا صلیت وأنت فی المسجد ، وأُقیمت الصلاة ، فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فصلِّ معهم واجعلها تسبیحا»(2) . وفی موثقة عمار ،

ص :390


1- (1) الوسائل : ج 5 ، الباب 55 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 1 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 8 .

نعم فیما کان الاتیان علة تامة لحصول الغرض، فلا یبقی موقع للتبدیل، کما إذا أمر بإهراق الماء فی فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم یعلم أن_ّه من أیّ القبیل، فله التبدیل باحتمال أن لا یکون علّة، فله إلیه سبیل، ویؤید ذلک __ بل یدلّ علیه __ ما ورد من الروایات فی باب إعادة من صلّی فرادی جماعة، وأن اللّه تعالی یختار أحبّهما إلیه.

الشَرح:

قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یصلّی الفریضة ثمّ یجد قوما یصلّون جماعة ، أیجوز أن یعید الصلاة معهم ؟ قال : نعم ، وهو أفضل» الحدیث(1).

وبالجملة ، إعادة الصلاة المأتی بها ثانیاً کما فی إعادة صلاة الآیات ما لم یحصل الانجلاء ، والصلاة التی صلاّها فرادی مع الجماعة ثانیاً إنّما هو بأمر استحبابی آخر ، وکذا یجوز لمن صلّی فی جماعةٍ إماماً أن یعید تلک الصلاة إماما لقوم آخرین ، بأن یکون المأموم فی إعادتها غیر المأموم فی المأتی به أوّلاً ، کما یدلّ علی ذلک الإطلاق فی صحیحة ابن بزیع ، قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام : «إنّی أحضر المساجد مع جیرتی وغیرهم ، فیأمروننی بالصلاة بهم ، وقد صلّیت قبل أن آتیهم ، وربّما صلّی خلفی من یقتدی بصلاتی والمستضعف والجاهل ، فأکره أن أتقدّم ، وقد صلّیتُ لحال من یصلّی بصلاتی ممّن سمیّت ذلک ، فمرنی فی ذلک بأمرک أنتهی إلیه وأعمل به إن شاء اللّه تعالی ، فکتب علیه السلام : صلِّ بهم»(2) .

کل ذلک بأمرٍ آخر ، ولیس امتثالاً للأمر الأوّل.

نعم یمکن أن یکون المراد فی بعض الروایات الإتیان بصورة الصلاة لا إعادتها

ص :391


1- (1) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 9 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث : 5 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

حقیقة ، کالتی وردت فی إعادة الصلاة مع المخالفین ، وأمره علیه السلام بجعلها تسبیحة ، ولکنّ ظاهر البعض الآخر استحباب الإعادة لمن صلّی منفردا ثمّ وجد جماعة ، کصحیحة حفص البختری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام «فی الرجل یصلّی الصلاة وحده ، ثمّ یجد جماعة ، قال یصلّی معهم ویجعلها الفریضة»(1) . والمراد بجعلها فریضة فی مثلها قصد الفریضة بالأصل ، وإن کانت مستحبّة بالإعادة . وموثّقة عمّار ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یصلّی الفریضة ثمّ یجد قوما یصلّون جماعة ، أیجوز له أن یعید الصلاة معهم ؟ قال : نعم ، وهو أفضل ، قلت : فإن لم یفعل ؟ قال : لیس به بأس»(2) .

وما فی روایة أبی بصیر ، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أُصلّی ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة ، وقد صلّیت ، فقال : صلِّ معهم یختار اللّه أحبّهما إلیه»(3) ، مضافا إلی ما فی سندها من الضعف لا یدلّ علی تبدیل الامتثال بالمعنی الذی ذکره ، فإنّها ناظرة إلی مرحلة حفظ العمل لإعطاء الثواب ، ولا دلالة فیها علی وقوع الأحبّ مصداقا للواجب ، وإلاّ یکون اختیار المصداق بإرادة اللّه لا بقصد العبد ، کما هو المراد من تبدیل الامتثال ، وظاهرها أن_ّه لو کانت الجماعة المزبورة موجبة للمزیة فی الصلاة ، کما إذا کانت واجدة لشرائطها ، تحسب صلاته المنفردة التی صلاّها أوّلاً بتلک المزیة فی مقام إعطاء الثواب .

ثمّ إنّ هذا کلّه بالإضافة إلی الإتیان بالمأمور به الواقعی الاختیاری أو الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالمأمور به الاضطراری الواقعی، بالإضافة إلی أمر نفسهما وأنه لا مجال بعد الإتیان بمتعلّق الأمر فیها لإعادة الامتثال، إلاّ مع ورود الأمر الاستحبابی بإعادتهما أو مع احتمال

ص :392


1- (1) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 11 .
2- (2) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 9 .
3- (3) الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحدیث 10 .

الأمر الاستحبابی بإعادتهما، حیث یمکن الإعادة بقصد الرجاء واحتمال ذلک الأمر.

وأمّا المأمور به الظاهری، فلا مجال فیه للتفصیل المتقدّم فیکلام الماتن قدس سره من کون الإتیان علّة تامّة لحصول الغرض أو بقاء الغرض الأقصی مع الإتیان به؛ وذلک لأن المأمور به الظاهری لا یکون فیه ملاک لیقال إنّ الإتیان به علّة تامّة لحصول ذلک الملاک أو بقاء الغرض الأقصی، کما هو المقرّر فی محلّه. نعم إذا صادف المأمور به الظاهری المأمور به الواقعی یجری علیه ما تقدّم فیالإتیان بالمأمور به الواقعی. وبالجملة، التفصیل فی الاجزاء بحسب الغرض والملاک لا یجری فی المأمور به الظاهری.

ص :393

الموضع الثانی: وفیه مقامان:

المقام الأول: فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری، هل یجزی عن الاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ثانیاً، بعد رفع الاضطرار فی الوقت إعادة، وفی خارجه قضاءً، أو لا یجزی؟

تحقیق الکلام فیه یستدعی [1] التکلم فیه تارة فی بیان ما یمکن أن یقع علیه

الشَرح:

إجزاء الأمر الاضطراری عن الواقعی

:

[1] تعرض قدس سره لأقسام المأمور به الاضطراری ، وذکر له أربعة أقسام ، والتزم بالإجزاء فی القسم الأوّل والثانی والرابع ، وبعدم الإجزاء فی الثالث .

أنحاء الفعل الاضطراری

:

القسم الأوّل: ما إذا کان المأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعه الواقعی مشتملاً علی تمام ملاک الاختیاری أو المقدار اللازم منه ، وظرف التشریع یختلف ، فتارةً یکون عدم التمکّن من الاختیاری فی تمام وقته ، وأُخری یکون ظرف تشریعه عدم التمکّن من الاختیاری ، ولو فی بعض الوقت مطلقاً ، أو بشرط الیأس من التمکّن من الاختیاری إلی آخر الوقت ، وعبّر عن الفرض الأوّل بالاضطرار بشرط الانتظار، وعن الثانی بالاضطرار مطلقا ، وعن الثالث بالاضطرار مع الیأس من طروّ الاختیار، وعلی الفروض الثلاثة یکون الإتیان بالمأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعه موجبا للإجزاء فی الفرض الأوّل عن القضاء فقط ، وعن القضاء والإعادة فی الفرضین الآخرین.

الأمر الاضطراری من الانحاء، وبیان ما هو قضیة کلّ منها من الإجزاء وعدمه، وأخری فی تعیین ما وقع علیه.

فاعلم أن_ّه یمکن أن یکون التکلیف الاضطراری فی حال الاضطرار، کالتکلیف الاختیاری فی حال الاختیار، وافیاً بتمام المصلحة، وکافیاً فیما هو

الشَرح:

هذا بحسب الفروض فی القسم الأوّل ، ولکن لا یخفی أنّ ظاهر خطاب

ص :394

الاضطراری مع عدم القرینة علی الخلاف هو الفرض الأوّل ، أی اعتبار عدم التمکّن من الاختیاری فی شیء من الوقت ، وذلک لأنّ التمکّن اللازم فی الأمر بالاختیاری هو التمکّن من صرف وجوده لا علی کلّ واحدٍ من وجوداته ومصادیقه ، ومع التمکّن منه ولو فی آخر الوقت یصحّ إیجابه من أوّل الوقت ، حیث یترتّب علی إیجابه من أوّل الوقت تهیئة بعض ما یتوقّف علی تهیئته الإتیان به ولو فی آخر الوقت ، وعلی ذلک فیکون ظاهر عدم التمکّن من الاختیاری ، الموضوع للأمر بالاضطراری هو عدم التمکّن من صرف وجوده فی وقته ، نعم مع القرینة علی الخلاف تتبع تلک القرینة ، سواء کان مقتضاها اعتبار مجرّد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الیأس . وبالجملة ، ففی فروض اشتمال المأمور به الاضطراری فی ظرف تشریعة علی تمام ملاک الاختیاری لا موجب لوجوب الإعادة أو القضاء .

القسم الثانی: أن یکون الفعل الاضطراری مشتملاً علی بعض ملاک الاختیاری، ولکن لو استوفی ذلک البعض بالإتیان به لا یبقی مجال لتدارک الباقی لا بالاعادة ولا بالقضاء ، وفی مثل ذلک لا یصحّ للآمر الأمر بالفعل الاضطراری إلاّ مع استیعاب الاضطرار جمیع الوقت ، کما لا یجوز للمکلّف الإتیان به أوّل الوقت أو فی جزء منه مع تمکّنه من الاختیاری ، ولو فی آخر الوقت ؛ لأنّ فی هذه المبادرة تفویتا للغرض ولمقدار من الملاک الملزم ، لفرض تمکّنه من إدراک تمام الملاک الملزم بالإتیان المهم والغرض، ویمکن أن لا یکون وافیاً به کذلک، بل یبقی منه شیء أمکن استیفاؤه أو لا یمکن. وما أمکن کان بمقدار یجب تدارکه، أو یکون بمقدار یستحب، ولا یخفی أن_ّه إن کان وافیاً به یجزی، فلا یبقی مجال أصلاً للتدارک، لا قضاءً ولا إعادةً، وکذا لو لم یکن وافیاً، ولکن لا یمکن تدارکه، ولا یکاد یسوغ له

الشَرح:

بالاختیاری ولو فی آخر وقته ، وهذا فیما کان المقدار الفائت بالبدار ملاکاً ملزما کما هو ظاهر الفرض .

لا یقال : لا مجال فی الفرض لتشریع الاضطراری أصلاً ، بل یتعیّن الأمر بقضاء الاختیاری لإمکان الاستیفاء به .

فإنّه یقال : لا یتدارک بالقضاء مصلحة الوقت ؛ ولذا یتعیّن تشریع الاضطراری فی صورة استیعاب الاضطرار لتمام الوقت ، ومع فرض الاستیعاب یجوز للمکلف

ص :395

الإتیان بالاضطراری فی أوّل الوقت ؛ إذ مع إحرازه استیعاب الاضطرار لا تفویت فی البدار . نعم ، مع عدم إحرازه لا یجوز له ذلک لاحتمال التفویت ، والاستصحاب فی بقاء الاضطرار إلی آخر الوقت لا یثبت عدم التفویت ، ولو بادر المکلّف إلی الإتیان بالاضطراری فی هذا القسم _ ولو مع إحرازه التمکّن من الاختیاری _ فهل یمکن الحکم بصحته حتّی فی العبادات ، فلا یبعد ذلک کما هو ظاهر الماتن قدس سره أیضاً ، حیث فرض مع البدار حصول بعض الملاک وبهذا الاعتبار یمکن قصد التقرّب بالعمل ولا یکون الفعل الاضطراری المتبادر إلیه محرّما شرعا لعدم اقتضاء الأمر بالاختیاری النهی عن ضده الخاصّ ، وإنّما یحکم العقل بعدم جوازه فی الفرض لئلاّ یکون الإتیان به موجبا لفوات الملاک الملزم فی الاختیاری .

ثمّ إنّه لا وجه للاستثناء من عدم جواز البدار فی الفرض بقوله : «إلاّ لمصلحة البدار فی هذه الصورة إلاّ لمصلحة کانت فیه، لما فیه من نقض الغرض، وتفویت مقدارٍ من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فیه من الأهم، فافهم.

الشَرح:

کانت فیه»(1) وذلک لأن_ّه لو کان المراد البدار فی صورة استیعاب الاضطرار لتمام الوقت فهذا لیس من البدار المصطلح ، وإن کان المراد البدار فی صورة ارتفاع الاضطرار قبل تمام الوقت فلا یحصل بالبدار تمام الملاک الملزم ، فضلاً عن أن یکون أهمّ من ملاک الاختیاری ، ولعلّه إلی ذلک أشار بقوله «فافهم» .

القسم الثالث: أن یکون الفعل الاضطراری واجدا لبعض الملاک الملزم ، ویبقی بعضه الآخر قابلاً للتدارک بالإتیان بالاختیاری مع ارتفاع الاضطرار فی الوقت بالإعادة ومع ارتفاعه بعد خروج الوقت بالقضاء ، وفی هذا القسم یجب الإتیان بالاختیاری بالإعادة عند ارتفاع الاضطرار فی الوقت وبالقضاء عند ارتفاعه خارجه ، ویجوز البدار إلی الاضطراری ، وعلیه فیتخیّر المکلف فی فرض ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت بین الإتیان بالاضطراری حال اضطراره مع الإتیان بالاختیاری قبل خروج الوقت وبین الإتیان بالاختیاری خاصّة قبل خروج الوقت وهذا فیما إذا کان البعض الباقی من الملاک وافیا بالمقدار اللاّزم استیفاؤه ولا یقلّ عنه .

ص :396


1- (1) الکفایة : ص84 .

أقول : لا یمکن المساعدة علی ما ذکره فی هذا القسم ، فإنّ الفعل الاختیاری فی هذا القسم مع تمکّن المکلّف من صرف وجوده قبل خروج الوقت ، مأمور به من الأوّل ، کما هو مقتضی کونه واجبا موسعا ، ومعه کیف یمکن إیجاب الاضطراری حال الاضطرار ، والتکلیف التخییری بین فعل وبین ذلک الفعل مع الفعل الآخر غیر معقول ؛ لأنّ أحد الفعلین مأمور به علی کلا التقدیرین ، وإنّما الممکن الأمر لا یقال: علیه، فلا مجال لتشریعه ولو بشرط الانتظار، لإمکان استیفاء الغرض بالقضاء.

فإنّه یقال: هذا کذلک، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأم_ّا تسویغ البدار أو الشَرح:

الاستحبابی بالبدار إلی الاضطراری .

نعم ، مع استیعاب عدم التمکّن لتمام الوقت ، یمکن الأمر بکل من الاضطراری بعنوان الاداء لاستیفاء ملاک الوقت وبالاختیاری بعنوان القضاء لاستیفاء باقی الملاک الملزم ، ولا یمکن فی موارد الأمر بالقضاء اشتمال الاختیاری قضاءا علی تمام ملاک الاختیاری أداءا وإلاّ کان اشتراط الوقت بلا ملاک .

القسم الرابع: ما إذا أمکن استیفاء بعض الباقی من الملاک ، ولکن لم یکن ذلک البعض بالمقدار اللازم استیفائه ، بل کان أقلّ منه ففی هذا الفرض إن کان الإضطرار مستوعبا لتمام الوقت یتعیّن الإتیان بالاضطراری فی الوقت ویستحبّ قضاء الاختیاری خارج الوقت .

ولو کان الفعل الاضطراری مشتملاً علی بعض الملاک الملزم کذلک فبمجرّد طروّ الاضطرار وإن لم یستوعب تمام الوقت لا یتعیّن البدار ، بل یجوز للمکلّف الإتیان بالاضطراری حال الاضطرار والإتیان بالاختیاری بعد رفع الاضطرار قبل خروج الوقت .

ولا یخفی أنّ کلام الماتن قدس سره : «وفی الصورة الثانیة» أی فیما لم یکن المقدار الباقی لازم الإستیفاء یتعیّن علیه البدار ، ویستحبّ إعادته بعد زوال الاضطرار ، غیر تامّ لا فی فرض وجود الملاک مع استیعاب الاضطرار ، فإنّه خلاف مصطلح البدار وإن صحّ البدار فی هذا الفرض ولا فی فرض وجود الملاک بمجرد حدوث إیجاب الانتظار فی الصورة الأولی، فیدور مدار کون العمل _ بمجرد الاضطرار مطلقاً،

ص :397

أو بشرط الانتظار، أو مع الیأس عن طروّ الإختیار _ ذا مصلحة ووافیاً بالغرض.

الشَرح:

الاضطرار ، حیث ذکرنا أنّ المکلّف مخیّر مع ارتفاع الاضطرار قبل خروج الوقت .

وقد ظهر ممّا ذکرناه فی الأقسام أن_ّه یلزم من تشریع المأمور به الاضطراری فی القسمین الأوّلین والقسم الرابع الإجزاء بخلاف تشریعه فی القسم الثالث ، فإنّه لا یلازم الإجزاء .

ولا یخفی أنّ فیالبین قسما خامسا من المأمور به الاضطراری ، وهو أن یکون فیه ملاک ملزم آخر یحدث ذلک الملاک عند الاضطراری إلی ترک الاختیاری ولکن لا یفوت _ حتّی مع الإتیان به _ ملاک الفعل الاختیاری رأسا ، حیث إنّ الملاکین سنخان لا یرتبط أحدهما بالآخر أصلاً ، وفی هذا الفرض کما یؤمر بالاضطراری یؤمر بالاختیاری أیضاً بعد تجدّد الاختیار لاستیفاء الملاک الفائت ولو بقدر الإمکان کما فی مسألة من لا یتمکّن من إدراک الوقوف بالمشعر بعد الإحرام بالحجّ ، فإنّه مکلّف بإتمام الإحرام عمرة وبالحج فی السنة القابلة .

وقد یقال : إنّ البحث عن إجزاء المأمور به الاضطراری عن الاختیاری فی الأقسام الأربعة مبنی علی تعدّد الأمر والوجوب بأن یتعلّق وجوب بالفعل الاختیاری ووجوب آخر بالفعل الاضطراری ، ویبحث فی أنّ موافقة الثانی أو امتثاله هل یوجب سقوط الأمر بالاختیاری أو لا ؟ مع أن_ّه لو کان الأمر کذلک فکلّ تکلیف یقتضی امتثال نفسه ولا یوجب سقوط التکلیف الآخر ، بل التتبّع فیما هو الثابت فی الشرع من التکالیف الاضطراریة یرشدنا إلی أن_ّه لیس فی البین إلاّ تکلیف متعلّق بطبیعة واحدة بالإضافة إلی جمیع المکلّفین علی نحو الوجوب العینی أو الکفائی ، وتختلف أفراد وإن لم یکن وافیاً، وقد أمکن تدارک الباقی فی الوقت، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن کان الباقی مما یجب تدارکه فلا یجزی، بل لابد من إیجاب الإعادة أو القضاء، وإلاّ فیجزی، ولا مانع عن البدار فی الصورتین، غایة الأمر یتخیر الشَرح:

تلک الطبیعة بالإضافة إلی المکلّفین تارةً ، وإلی مکلّف واحد بحسب حالاته تارةً أُخری ، فمثلاً خطاب «أقیموا الصلاة» یقتضی توجّه التکلیف بالصلاة إلی کلّ واحد من المکلفین والمطلوب فی الخطاب طبیعی الصلاة من کلّ مکلف .

ص :398

غایة الأمر أنّ الطبیعی من المسافر فی الرباعیات رکعتان ومن غیره أربع رکعات کما أنّ الطبیعی من واجد الماء یکون بوضوء أو غسل ومن فاقد الماء یکون بالتیمم ، وهکذا من القادر علی القیام لا یتحقّق بالجلوس ویتحقّق به من العاجز عن القیام .

والحاصل أنّ علی کلّ مکلّف امتثال الأمر بالطبیعی، ولا یکون فرده فی حال فردا فی حالٍ آخر ، وهذا لا یوجب تعدّد الطبیعة وتعدّد الأمر، نعم یبقی فی البین تشخیص أنّ الصلاة مع التیمّم مثلاً فرد لها عند عدم وجدان الماء فی جمیع الوقت أو إنّما فرد لها بمجرّد عدم التمکّن ولو فی بعض الوقت مطلقاً أو بشرط الیأس عن وجدانه قبل خروج الوقت، فإنّ أُحرز أنّ المعتبر العجز فی تمام الوقت فلا مورد لوجوب القضاء وإن أُحرز الثانی فلا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر بالطبیعی. وعدم جواز البدار واقعا مع اعتبار العجز فی تمام الوقت ، إنّما هو لعدم کون المأتی به مع البدار فردا من الطبیعی، فتحصّل أنّه مع إحراز کون المأتی به فردا لا إعادة ولا قضاء.

لا یقال : یمکن أن یکون الفرد الاختیاری للصلاة أتمّ صلاحا وأقوی ملاکا ولبقاء الملاک بالإتیان بالفرد الاضطراری یجب الإعادة أو القضاء لتدارک الباقی من الملاک .

فإنّه یقال : اللازم عقلاً علی المکلّف امتثال أمر الشارع لا تحصیل المصالح لعدم إحاطة عقولنا بالمصالح الواقعیة لیلزم علینا تحصیلها .

فی الصورة الأولی بین البدار والإتیان بعملین: العمل الاضطراری فی هذا الحال، والعمل الاختیاری بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، والاقتصار بإتیان ما هو تکلیف المختار، وفی الصورة الثانیة یجزی البدار ویستحب الإعادة بعد طروّ الاختیار.

الشَرح:

أقول : لیس المراد فی باب الإجزاء أنّ الثابت فی حقّ کلّ مکلّف تکلیفان : أحدهما واقعی اختیاری ، والآخر واقعی اضطراری ، بل المراد أنّ مقتضی الإتیان بالمکلّف به الاضطراری ، أن لا یتوجّه إلیه ما یجب علی المکلّف المختار علی فرض ترکه الفعل الاختیاری من القضاء أو الأداء والإعادة .

ودعوی أن_ّه لا تعدّد فی ناحیة متعلّق التکلیف بالإضافة إلی المختار والعاجز ، بل کلٌّ منهما مکلّف بطبیعی واحد وإنّما الاختلاف فی ناحیة أفراد تلک الطبیعة ، لا یمکن المساعدة علیها ، لما تقدّم فی مبحث الصحیح والأعمّ أن_ّه لا یمکن فرض جامع فی الصلاة بحیث ینطبق علی الأفراد الصحیحة خاصّة ولا یعمّ الأفراد الناقصة

ص :399

المعبّر عنها بالفاسدة ، نعم فی مثل الطهارة بناء علی کونها من المسبّبات کما ذهب إلیه المشهور ، وأنّ التیمّم والوضوء والغسل موجد لها یمکن القول بأنّ الصلاة المقیّدة بالطهارة لا تختلف وأنّ المأمور به فی حقّ کلّ من واجد الماء وفاقده هی الصلاة مع الطهارة ، حیث إنّ التیمّم من واجد الماء لا یوجب طهارة ، ولکنّ هذا لا یجری بالإضافة إلی صلاة العاجز عن القیام وصلاة القادر علیه وکذا صلاة المتمکّن من استقبال القبلة وصلاة غیر المتمکّن منه ، ونحوهما بل لابدّ من الالتزام بتعدّد الوجوب لتعدّد المتعلّق ، وخطاب «أقیموا الصلاة» وإن کان یعمّ العاجز والقادر ، إلاّ أنّه بضمیمة ما دلّ علی اعتبار الاستقبال والستر والقیام مع التمکّن منها ینکشف أنّ متعلّق الوجوب ثبوتا غیر متعلّق الوجوب فی حقّ العاجز عنها .

نعم فی باب الصلاة خصوصیة وهی أنّ الإجماع والضرورة اقتضتا عدم وجوب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الأزید من خمس صلوات فی الیوم واللیلة فی حقّ کلّ مکلّف ، وإذا ثبت فی مورد تشریع الصلاة الاضطراری واقعا ولو مع التمکّن من الاختیاری فی آخر الوقت یحکم بإجزاء الاضطراری ، ولا ربط لذلک بالقول بأنّ متعلّق الوجوب فی حقّ جمیع المکلّفین طبیعة واحدة .

وأمّا ما ذکر أخیرا من أن_ّه لا یجب علی المکلّف استیفاء المصالح ورعایتها لعدم إحاطة عقولنا بها ، ففیه ما لا یخفی ، فإنّ الأقسام المتقدّمة إنّما فرضت بحسب مقام الثبوت فی علم الشارع وملاحظته ، وأنّ الشارع إذا لاحظ أنّ الملاک الموجود فی الإتیان بالفعل الاختیاری لایدرک إلاّ بالإتیان بالاضطراری فی الوقت وبالاختیاری فی خارجه ، یأمر بالاضطراری فی الوقت وبالاختیاری بعد ارتفاع الاضطرار فی خارج الوقت ، نظیر ما ذُکر فی القسم الخامس من الأمر بإتمام الإحرام للحجّ عمرة مفردة ، مع الأمر بقضاء الحجّ فی السنة القادمة والذی دلّ علیه صحیحة معاویة بن عمار ، قال أبو عبداللّه علیه السلام : «أیّما حاجّ سائق للهدی ، أو مفرد للحجّ ، أو متمتّع بالعمرة إلی الحجّ ، قدم وقد فاته الحج فلیجعلها عمرة ، وعلیه الحج من قابل»(1) .

ص :400


1- (1) الوسائل : ج 10 ، باب 27 من أبواب الوقوف بالمشعر ، الحدیث 1 .

والحاصل ، یقع البحث فیالمقام فی أن_ّه لو شرّع الفعل الاضطراری ولم یقم دلیل علی أن_ّه من قبیل تشریع الصلاة عند الاضطرار ، أو أن_ّه من قبیل الأمر بإتمام الإحرام للحج عمرة عند فوت الوقوف الاضطراری أیضاً ، فهل لازم تشریع الاضطراری الإجزاء ، أو أن_ّه لا یلازم الإجزاء ، لما تقدّم من إمکان وقوعه علی بعض الأقسام ممّا هو غیر ملازم للإجزاء ، کما إذا تیمّموا المیت لفقد الماء وکفّنوه وصلّوا هذا کلّه فیما یمکن أن یقع علیه الاضطراری من الأنحاء، وأمّا ما وقع علیه فظاهر إطلاق دلیله، مثل قوله تعالی «فلم تجدوا ماء فتیمموا صعیداً طیباً»(1)[1[ وقوله علیه السلام : (التراب أحد الطهورین) و: (یکفیک عشر سنین) هو الإجزاء، وعدم الشَرح:

علیه ودفنوه ، وبعد أیّام أُخرج المیت بجریان السیل علی مکان دفنه ، أو بفعل آدمیّ ، فهل یجب تغسیله فعلاً ؛ لأنّ المیت لم یغسّل ، أو أنّ تشریع التیمّم السابق یلازم کفایته فلا حاجة إلی تغسیله ، بل یجب دفنه خاصّة .

[1] یظهر من کلامه قدس سره أنّه یستفاد من خطاب الأمر بالاضطراری الإجزاء عن الاختیاری فی موردین :

الأوّل: أن یستفاد من خطابه کفایة الاضطرار ، ولو فی بعض الوقت فی مشروعیّته والأمر به ، ولو کان المکلّف متمکّناً من الاختیاری بعد ذلک ، کما هو ظاهر الآیة المبارکة فی أنّ التیمم وظیفة غیر الواجد للماء عند القیام إلی الصلاة حتّی لو وجد الماء بعد الصلاة ولو قبل خروج وقتها .

الثانی: أن یدلّ خطاب الاضطراری علی تساوی ملاکه مع ملاک الفعل الاختیاری ، والتساوی إمّا أن یستفاد من إطلاق خطاب الاضطراری ، کقوله علیه السلام : «إنّ التیمّم أحد الطهورین»(2) ، حیث إنّه لم یقیّد بمثل قوله «ولکنّه ناقص فی طهوریته» أو یصرّح بالتساوی أو یذکر ما ظاهره التساوی ، کقوله صلی الله علیه و آله : «یا أبا ذر ، یکفیک الصعید عشر سنین»(3) ، وفی مثل الموردین یؤخذ بمقتضی خطاب الاضطراری ویرفع الید عن إطلاق خطاب الاختیاری لو کان له إطلاق یقتضی الإتیان به عند

ص :401


1- (1) سورة النساء : الآیة 43 و سورة المائدة : الآیة : 6 .
2- (2) الوسائل : ج 2 ، باب 23 من أبواب التیمم ، الحدیث 4 و 5 .
3- (3) الوسائل : ج2 ، باب 23 من أبواب التیمم ، الحدیث : 4 و 5 .

وجوب الإعادة أو القضاء، ولا بد فی إیجاب الاتیان به ثانیاً من دلالة دلیل بالخصوص.

وبالجملة: فالمتبع هو الإطلاق لو کان، وإلاّ فالأصل، وهو یقتضی البراءة من

الشَرح:

حصول التمکّن .

ولو لم یکن لخطاب الفعل الاضطراری إطلاق _ کما ذکر _ ، وکان لخطاب الاختیاری إطلاق یقتضی الإتیان به عند التمکّن ، کما فی مثال إخراج المیت الذی ییمّموه سابقا ، یؤخذ بإطلاق الاختیاری ومقتضاه عدم الإجزاء .

وأمّا إذا لم یکن إطلاق لا فی ناحیة الخطاب الاضطراری ولا فی ناحیة خطاب الأمر بالاختیاری ، ووصلت النوبة إلی الاصل العملی ، فالمرجع هی أصالة البراءة عن وجوب الاختیاری فی الوقت أو ما هو بمنزلة الوجوب فی الوقت، لکونه شکّا فی التکلیف، کما أنّ المرجع هی أصالة البراءة عن وجوب القضاء بالأولویّة ؛ لأنّ القضاء بأمرٍ جدید.

نعم لو فرض أنّ موضوع وجوب القضاء فی خطاب الأمر به ، عدم الإتیان بالاختیاری ، ولو مع عدم وجوبه واستیفاء الغرض منه کلاًّ أو بعضا لوجب القضاء ، ولکنّ هذا مجرّد فرض ؛ لأنّ الموضوع للقضاء فوت الشیء ، أی عدم إدراک ملاکه ، ومع احتمال الإدراک بالاضطراری لا یحرز الفوت .

أقول : کما أن_ّه إذا لم تجب الإعادة لم یجب القضاء بالاولویة ، کذلک وجوب القضاء یوجب الإعادة أیضاً بالأولویة .

ثمّ بناءً علی ما ذکره قدس سره فی الصورة الثالثة من إمکان کون الاضطراری واجدا لبعض الملاک الملزم ویکون المقدار الباقی ممکن الاستیفاء بالفعل الاختیاری قبل خروج الوقت أو بعد خروجه قضاءا ، وفی فرض القدرة علی الاختیاری قبل خروجه إیجاب الإعادة، لکونه شکاً فی أصل التکلیف، وکذا عن إیجاب القضاء بطریق أولی، نعم لو دل دلیله علی أن سببه فوت الواقع، ولو لم یکن هو فریضة، کان القضاء واجباً علیه، لتحقق سببه، وإن أتی بالفرض لکنه مجرد الفرض.

الشَرح:

یکون الوجوب فی الوقت علی النحو التخییر بین الفعلین بأن یأتی بالاضطراری عند

ص :402

الاضطرار وبالاختیاری قبل خروج الوقت أو یأتی بالاختیاری فقط ، لا یمکن أن یکون تشریع الاضطراری فی بعض الوقت موجبا للحکم بالإجزاء ، ولو کان لخطاب الاضطرار إطلاق ، فإنّ مقتضی إطلاقه أنّه متعلّق للأمر ، سواء تمکّن من الاختیاری قبل خروج الوقت أو لم یتمکّن .

وهذا لا ینافی عدم الإجزاء ، واحتمال الوجوب التعیینی فی المأمور به الاضطراری مع عدم استیعاب الاضطرار لجمیع الوقت غیر موجود ، وعلیه فیمکن أن یکون تشریعه فی بعض الوقت من قبیل القسم الثالث .

نعم بناءً علی ما ذکرنا من عدم إمکان الوجوب التخییری بین الفعلین والفعل الواحد منهما یکون الأمر بالاضطراری حال الاضطرار ولو تخییرا بینه وبین ترکه إلی الإتیان بالاختیاری مقتضیا للإجزاء لا محالة، وأیضاً استظهار کفایة الاضطرار فی بعض الوقت فی الإتیان بالصلاة بالتیمّم من الآیة المبارکة علی تقدیر تمامیته، إنّما هو مع قطع النظر عن الروایات الواردة فی فاقد الماء، وأمّا بالنظر إلیها فلا تصحّ الصلاة مع التیمم مع عدم الیأس عن الظفر بالماء قبل خروج الوقت فضلاً عن العلم به، وفی صحیحة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام قال: إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب ما دام فی الوقت، فإذا خاف أن یفوته الوقت فلیتیمّم ولیصلّ(1). والتفصیل موکول إلی محلّه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولا یخفی أیضاً أنّ استفادة الاجزاء ، فیما إذا کان مدلول الخطاب أنّ القید الاضطراری لمتعلّق الأمر ولو کان الاضطرار فی بعض الوقت کالقید الاختیاری فی حال الاختیار ، وإن کان صحیحا إلاّ أنّه لا یوجب جواز إدخال المکلّف نفسه فی الاضطرار ، حیث إنّ منصرف عدم التمکّن من الاختیاری الموضوع للأمر بالاضطراری صورة عدم الإدخال فی الاضطرار عمدا فی ظرف الأمر بالاختیاری ، ولا یستفاد مما ورد فی أنّ التیمّم أحد الطهورین ، مع ملاحظة ما ورد من تفریع الأمر بالتیمم علی عدم التمکّن من الطهارة المائیة إلاّ الأمر به عند هذا الاضطرار ، کما هو الحال أیضاً بالإضافة إلی ما دلّ علی أن من أدرک اضطراری الوقوف بالمشعر فقد

ص :403


1- (1) الوسائل : ج 2 ، باب 1 من أبواب التیمم ، الحدیث 1 .

أدرک الحجّ ، بل وعدم جواز إدخال النفس فی الاضطرار فی ظرف فعلیة الأمر بالاختیاری هو مقتضی فعلیّة هذا الأمر ، فالحکم بجواز إدخال النفس فی موضوع الاضطرار بعد حصول ظرف فعلیة الأمر بالاختیاری فی موردٍ یحتاج إلی دلیلٍ خاصّ فیه ، کالحکم بجواز إدخال النفس فی التقیة الموجبة لترک بعض ما یعتبر فی الصلاة ، کترک السجود علی ما یصح السجود علیه ، کالحکم بجواز إجناب المکلّف نفسه بإتیان الزوجة مع علمه بعدم التمکّن من الاغتسال ولو أدخل المکلّف نفسه فی الاضطرار بعد فعلیة التکلیف بالاختیاری، فإن قام دلیل علی أنّ التکلیف لا یسقط حتّی مع الاضطرار، کذلک کما هو الحال بالإضافة إلی الصلاة ، تنتقل الوظیفة إلی الصلاة بالقید الاضطراری، وإن أثم بمخالفة مقتضی التکلیف بالاختیاری بإدخال نفسه فی الاضطرار بعد فعلیته .

وأمّا إذا لم یقم دلیل علی عدم سقوط التکلیف ، فلا یمکن الحکم بالإجزاء مع القید الاضطراری ، کما قد یقال بذلک بالإضافة إلی الصوم فیما إذا تعمّد المکلّف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

البقاء علی الجنابة إلی أن بقی إلی الفجر زمان لا یسع إلاّ التیمم ، حیث إنّه لا یحکم بإجزاء ذلک الصوم ، وهذا هو الحال فیمن ترک الوقوفین فی عرفة والمشعر متعمّدا وأراد أن یکتفی بالوقوف فی المشعر یوم العید قبل الظهر.

ثمّ إنّ ما ذکره قدس سره من أنّه إذا لم یتمّ الإطلاق فی ناحیة الاضطراری لیکون مقتضیا للاجزاء ، ولا فی ناحیة الاختیاری لیکون مقتضیا للإعادة ، مع فرض عدم الإطلاق فی الاضطراری ، ووصلت النوبة إلی الأصل العملی ، یکون مقتضی أصالة البراءة عن وجوب الاختیاری عدم لزوم الإعادة ، غیر خالٍ عن الإشکال ، بناءً علی ما ذکره فی القسم الثالث من التخییر بین الفعلین ، أی الإتیان بالاختیاری فی آخر الوقت والإتیان بالاضطراری فی حال الاضطرار ، مع لزوم الاختیاری آخر الوقت فإنّ احتمال عدم الإجزاء یلازم احتمال وقوع الأمر بالاضطراری علی هذا النحو ، وبناءً علی صحّة التکلیف بالاختیاری من أوّل الأمر ، لتمکّن المکلّف من صرف وجوده بین الحدین ، کان المکلّف علی یقین من حصول الأمر بالاختیاری من حین الأمر بالاضطراری ، ویحتمل عدم سقوط ذلک التکلیف بالإتیان بالاضطراری ، فیکون

ص :404

وجوب الاختیاری بعد الإتیان بالاضطراری مجری للاستصحاب بناءً علی اعتباره فی الشبهة الحکمیة ومقتضاه لزوم الإعادة فی الوقت .

والالتزام بحدوث الأمر بالاختیاری بحدوث الاختیار والتمکّن بلا موجب ، حیث إنّ التمکّن من صرف وجود الاختیاری قبل خروج الوقت کافٍ فی الأمر به فی أوّل الوقت ، فلا مجال لتوهّم أنّ المورد من موارد الرجوع إلی البراءة ؛ لاحتمال حدوث التکلیف بالاختیاری عند حدوث التمکّن علیه .

نعم بناءً علی ما ذکرنا من أنّ التخییر فی الوجوب بین فعل وفعلین أحدهما . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

عین الأوّل غیر معقول ، یکون تشریع الاضطراری عند الاضطرار فی بعض الوقت ملازما للإجزاء فیما إذا کان التشریع بنحو الإیجاب ؛ لأنّ المکلّف فی الفرض یکون مکلّفا بفعلٍ واحد ، وهو إمّا الإتیان بالاضطراری فی ظرف الاضطرار ، وإمّا الإتیان بالاختیاری قبل خروج وقته ، فیتعلّق الوجوب بأحدهما ، ومعه لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء .

وأمّا إذا احتمل تشریع الاضطراری فی ظرف الاضطرار بنحو الاستحباب ، وأنّ المکلف یتعیّن علیه الفعل الاختیاری ، یدخل المقام فی دوران أمر التکلیف بالاختیاری بین التعیین والتخییر ، فإنّ الوجوب المعلوم إمّا تعلّق بالاختیاری أو بالجامع بینه وبین الاضطراری ، فالاول کما إذا کان تشریع الاضطراری بنحو الندب ، والثانی ما إذا کان بنحو الإیجاب ، وقد ذکرنا فی محلّه أنّه مع دوران أمر التکلیف بین کونه بنحو التعیینی أو التخییری یکون مقتضی البراءة عن تعلّقه بخصوص أحدهما هو التخییر ، ولا یعارض بأصالة البراءة عن تعلّقه بالجامع ؛ لأنّ رفع الوجوب المحتمل فی الجامع خلاف الامتنان ، وهذا بعد سقوط الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل الوجوب للجامع مع عدم جعله لخصوص الاختیاری ، وتمام الکلام فی محلّه .

وکذا الحال فیما إذا لم یعلم تشریع الاضطراری بنحو البدار أصلاً، بل احتمل تشریعة بنحو الوجوب التخییری، فإنّه یکون المرجع أصالة البراءة عن تعیین الاختیاری.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته علی کلام الماتن قدس سره ما حاصله : أنّ تعلّق الوجوب بالاختیاری کالصلاة بالوضوء محرز ، کما أنّ تعلّقه بالصلاة مع التیمّم

ص :405

محرز _ کما هو فرض جواز البدار واقعا _ ولکن لم یعلم أنّ البدل بمجرّده عدل للاختیاری ، أو أنّ البدل المنضمّ الیه المبدل عدل له ، فإن کان تشریع الاضطراری . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالقسم الأوّل أو بالقسم الرابع ، فالبدل بمجرّده عدل للاختیاری ، وإن کان تشریع الاضطراری بالقسم الثالث _ الذی لازمه عدم الإجزاء _ فالعدل للاختیاری هو الاضطراری المنضمّ إلیه الاختیاری بناءً علی التخییر بین الفعلین والفعل الواحد ، وعلیه فلا مانع من جریان البراءة فی ناحیة تعلّق الوجوب بانضمام المبدل إلی البدل.

ولا یقاس المقام بدوران الأمر بین تعلّق الوجوب بالأقل أو الأکثر الارتباطیین، حیث یقال فیه بعدم انحلال العلم الإجمالی بالوجوب عقلاً ، والوجه فی عدم القیاس أنّ الأقلّ فی ذلک الباب مرتبط بالأکثر فی الصحّة ، وحصول ملاکه لو کان الوجوب متعلّقا بالأکثر بخلاف المقام ، فإنّ الوجوب لو کان متعلّقا بالبدل المنضمّ إلیه المبدل لحصل ملاک البدل وصحّ الإتیان به ، کما أنّ الأمر فی ناحیة المبدل أیضاً کذلک ، وعلیه فتعلّق الوجوب بذات البدل محرز ، وتجری البراءة فی تعلّق ذلک الوجوب بالمبدل المنضم الی البدل.

وبتعبیرٍ آخر: تعلّق الوجوب بالمبدّل المسبوق بالبدل غیر محرز، فتجری البراءة عن وجوبه، وأمّا تعلّقه بالمبدّل غیر المسبوق بالبدل، فهو محرز کما أنّ تعلّقه بأصل البدل محرز، فالمقام أشبه بموارد دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الاستقلالیین(1).

أقول : لو سلّم قدس سره فی موارد الوجوب التخییری تعلّق وجوب واحد بعنوان ینطبق علی کلٍّ من الأبدال کما هو ظاهر کلامه قدس سره ، فالأمر فی ذلک العنوان الجامع دائر بین أن یکون بحیث ینطبق علی المبدّل بانفراده وعلی البدل بانفراده ، أو أن یکون بحیث ینطبق علی المبدّل بانفراده وعلی البدل المنضمّ إلیه المبدّل ، ومقتضی . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

استصحاب عدم تعلّق وجوب بالجامع علی النحو الأوّل عدم الإکتفاء بالبدل

ص :406


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 386 .

بانفراده ، ولا یعارض هذا الاستصحاب استصحاب عدم تعلّقه بالجامع علی النحو الثانی ، فإنّ هذا الاستصحاب لا أثر له للعلم بإجزاء المبدل بانفراده والبدل المنضمّ إلیه المبدل ، فإن أُرید بهذا الاستصحاب نفی هذا الإجزاء فلا مورد له ، وإن أُرید إثبات تعلّقه بالجامع علی النحو الأوّل فهو مثبت .

الّلهم إلاّ أن یقال : مقتضی هذا الاستصحاب أن_ّه لا یتعین علی المکلّف الإتیان بالمبدل المنضمّ إلی البدل ، فیتعارضان وتصل النوبة إلی البراءة ، فتجری فی ناحیة تعلّق الوجوب بالعنوان علی النحو الثانی ولا تعارضها البراءة عن تعلّقه بالجامع بالنحو الأوّل ، فإنّها خلاف الامتنان ، کما مرّ .

وأمّا ما یقال من أنّ الأصل فی المقام هو الاشتغال کما هو مقتضی العلم بوجود الملاک الملزم فی البین ، وتمکّن المکلّف من استیفائه بالإتیان بالاختیاری قبل خروج الوقت ، وأمّا مع الاقتصار علی البدل فلا یحرز استیفائه ، فلا یخفی ما فیه ، فإنّ هذا القول ذکر وجهاً لوجوب الاحتیاط فی موارد دوران أمر الواجب بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، وکذا مورد دورانه بین التعیین والتخییر ، والجواب کما ذکر فی ذلک البحث أنّ الملاک الملزم لایزید علی التکلیف ، فمع جریان البراءة عن وجوب الأکثر ، أو وجوب ما یحتمل تعیینه ، یکون مقتضاه عقلاً معذوریة المکلّف فی ترک استیفاء الملاک لو کان موجودا فی الأکثر أو فیما یحتمل تعیینه .

ثمّ إنّ الرجوع إلی الأصل العملی _ علی ما مرّ _ یختصّ بما إذا لم یکن فی البین ما یثبت نفی تشریع الاضطراری ، وقد ذکرنا أنّ فی موارد الشک فی تشریعه یکون خطاب الأمر بالاختیاری نافیا لتشریعه ، فإنّ مقتضاه تعلّق التکلیف بالاختیاری معینا المقام الثانی: فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری وعدمه.

والتحقیق: إنّ ما کان منه یجری فی تنقیح ما هو موضوع التکلیف وتحقیق متعلقه [1]، وکان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، کقاعدة الطهارة أو الحلیة، بل واستصحابهما فی وجه قوی، ونحوها بالنسبة إلی کل ما اشترط بالطهارة أو الحلیة الشَرح:

مع التمکّن من صرف وجوده من أوّل دخول الوقت إلی آخره .

إجزاء المأمور به الظاهری عن الواقعی

:

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی المقام أنّه قد یکون مقتضی خطاب الحکم الظاهری

ص :407

جعل ما هو معتبر فی موضوع الحکم ومتعلّق التکلیف جزءا أو شرطا کقاعدة الطهارة ، فإنّ مفاد خطابها اعتبار طهارة البدن واللباس المأخوذة فی تعلّق الأمر بالصلاة ، وکاستصحابها بناءً علی ما هوالصحیح من کون الاستصحاب أصلاً عملیّا ومفاد خطاب اعتباره ثبوت حکم ظاهری مماثل للثابت سابقا .

غایة الأمر الثابت سابقا طهارة واقعیة بخلاف الثابت بالاستصحاب فإنّها طهارة ظاهریة لا محالة ، وکقاعدة الحلّیة فإنّ مقتضاها حلّیة المکان أو الحیوان المأخوذ من أجزائه اللباس وکذا استصحاب الحلّیة فیما إذا طرء علی الحیوان أو المکان ما یشک معه فی بقاء الحلّیة ، وهذا کما ذکر بناءً علی ما هو الصحیح من اعتبار الاستصحاب کسائر الأُصول العملیة لا أن_ّه معتبر کالأمارات .

وقد یکون مفاد خطاب الحکم الظاهری اعتبار کشف الشیء عن الواقع أو اعتبار منجزیته ومعذریته کما فی أدلّة اعتبار الأمارات الحاکیة عن الواقع .

ثمّ إنّه یحکم بالإجزاء فی مورد الإتیان بالمأمور به الظاهری وانکشاف مخالفته للواقعی فی القسم الأوّل ، ممّا یکون مفاد الخطاب الظاهری تحقّق الجزء أو الشرط یجزی، فإن دلیله یکون حاکماً علی دلیل الاشتراط، ومبیّناً لدائرة الشرط، وأن_ّه أعمّ من الطهارة الواقعیة والظاهریة، فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لإنکشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إلیه یکون من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الشَرح:

للمأمور به بجعلهما ، والسرّ فی الإجزاء حکومة الخطاب الظاهری علی دلیل اعتبار ذلک الشرط أو الجزء فی متعلّق التکلیف أو موضوعه ، فمثلاً تکون القاعدة والاستصحاب فی طهارة الثوب أو حلّیته موجبا للتوسعة فیما دلّ علی اعتبار الطهارة والحلّیة فی ثوب المصلّی ، وأنّها أعمّ من الطهارة أو الحلّیة الواقعیة .

أقول : ظاهر کلامه قدس سره عدم الفرق فی الصورة الثانیة التی یحکم فیها بعدم الإجزاء بین القول بجعل الحجیة للأمارة أو جعل الحکم الطریقی ، وأنه لا یحکم بالإجزاء علی کلا القولین .

وعلیه یبقی سؤال الفرق بین الطهارة والحلّیة فی موارد جریان الأُصول وبین الطهارة والحلّیة فی موارد قیام الطریق والأمارة ، فإنّه بناءً علی جعل الحکم الطریقی یکون المجعول فی مورد قیام الطرق علی قیود متعلّق التکلیف کمفاد الأُصول فیها .

ص :408

وقد ذکر المحقق الاصفهانی قدس سره فی التفرقة بین الأصل العملی الجاری فی متعلّق التکلیف وبین الأمارة القائمة علیه _ علی مسلک جعل مدلول الأمارة حکما طریقیا _ ما حاصله : أنّ الأمارة بما أنّها تحکی عن الثبوت واقعا ، یکون اعتبارها جعل الأثر المترتّب علی ذلک الواقع ، فیکون مقتضی اعتبار الأمارة القائمة علی طهارة شیء أو حلّیة حیوان جواز الصلاة فیه أو معه ، بخلاف الأصل الجاری فی طهارة شیء أو حلّیته ، فإنّ مقتضی قوله علیه السلام : «کلّ شیءٍ طاهر أو حلال» جعل نفس الطهارة للشیء من غیر نظر إلی ثبوتها أو نفیها واقعا ، وکذا فی الحلّیة .

لا یقال: علی ما ذکر یلزم أن لا یکون الاستصحاب فی طهارة الثوب أو البدن الجهل، وهذا بخلاف ما کان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعاً، کما هو لسان الأمارات، فلا یجزی، فإن دلیل حجیته حیث کان بلسان أن_ّه واجد لما هو شرطه الواقعی، فبارتفاع الجهل ینکشف أن_ّه لم یکن کذلک، بل کان لشرطه فاقداً.

الشَرح:

موجباً للتوسعة فی المتعلّق؛ لأنّ مفاد خطاب اعتباره ثبوت الطهارة السابقة وبقائها، فیکون کالأمارة القائمة علی بقائها فی أنّه إذا انکشف الخلاف وظهر عدم ثبوتها واقعا یکون مقتضی خطاب التکلیف بالمأمور به الواقعی الإتیان به، مع أنّ صحیحة زرارة قد صرّحت بخلافه.

فإنّه یقال : المدّعی قصور التعبّد بثبوت الشیء واقعا عن جعل نفس ذلک الشیء ، لا أنّه ینافیه ، وعلیه فلا بأس بالتعبّد بثبوته واقعا مع جعل نفس ذلک الشیء ، ولکن نقول التعبّد بالأمارة القائمة علی طهارة شیء لا یقتضی جعل نفس الطهارة ؛ لأنّ التعبّد فی الأمارة إنّما هو فی جهة حکایتها ، والتعبّد فیها من هذه الجهة لا یقتضی إلاّ جعل أثر المحکی عنه بخلاف الاستصحاب ، فإنّ اعتباره لیس من جهة الحکایة ، نعم هو کذلک بناءً علی أن_ّه ظنّ بالبقاء وأن_ّه اعتبر من هذه الحیثیة(1) .

أقول : قد یتبادر إلی الذهن أن نتسائل کیف حکم الماتن قدس سره بإجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری فی الموارد المشار إلیها ، مع أن_ّه قدس سره قد قسّم المأمور به الاضطراری إلی أقسامٍ أربعة ، وحکم فی بعضها بعدم الإجزاء وفی بعضها بعدم جواز

ص :409


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 392 .

البدار لتفویت الملاک ، ولکن لم یفصّل فی المأمور به الظاهری بمثل ذلک ؟

والجواب أن_ّه استفاد من خطاب اعتبار الاستصحاب وقاعدتی الطهارة والحلّیة فی موارد جریانهما فی متعلّق التکلیف ، التوسعة فی الواقع المعبّر عنها فی کلمات هذا علی ما هو الأظهر الأقوی فی الطرق والأمارات، من أن حجیتها لیست بنحو السببیة، وأم_ّا بناءً علیها، وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلی وجدان شرطه أو شطره، یصیر حقیقة صحیحاً کأن_ّه واجد له، مع کونه فاقده، فیجزی لو کان الفاقد الشَرح:

القوم بالحکومة ، ولازم التوسعة تدارک ملاک القید الواقعی مع الإتیان بالمأمور به الظاهری ، فلا نقص فیه من جهة تدارک الملاک .

ولکن لا یخفی أنّ الاستصحاب فی طهارة الثوب لو کان موجبا للتوسعة فی شرط الصلاة بأن یکون أعمّ من الطهارة الواقعیة و الظاهریه لکان الاستصحاب فی نجاسته أیضاً موجبا للتوسعة فی مانعیة النجاسة عن الصلاة ، وعلیه لو قامت أمارة علی نجاسة الثوب فصلّی فیه برجاء طهارته لاحتمال عدم إصابة الامارة للواقع وشکّ رجل آخر فی بقاء نجاسة ثوبه وصلی فیه برجاء طهارته واقعا ، ثمّ بعد الصلاة ظهر طهارة کلّ من الثوبین حال الصلاة ، فاللازم الحکم بصحة الصلاة فی مورد قیام الأمارة والبطلان فی مورد الاستصحاب ، مع أنّ الحکم بالصحة فی الأوّل والبطلان فی الثانی لم یعهد التزامه من فقیه ، وأیضاً لو کانت الحکومة فی قاعدة الطهارة واستصحابها أمرا صحیحا ؛ للزم الالتزام بطهارة المتنجس فیما إذا غسله بماءٍ شکّ فی طهارته ثمّ بعد غسله علم بأنّ الماء کان نجسا ، فإنّ الطهارة المعتبرة فی الماء المغسول به أعمّ من الواقعیة والظاهریة علی الفرض ، ولو شک فی بقاء وضوئه وصلّی ، ثمّ علم بأنّه کان محدثا ، فاللازم الحکم بعدم وجوب إعادة الصلاة لعدم الخلل بذلک فی الطهارة ، حیث إنّ الطهارة _ کما زعم الماتن قدس سره _ قد ارتفعت من حین العلم بالحدث ، وأنّ الصلاة قد وقعت مع الطهارة المعتبرة ، حیث إنّها أعمّ من الطهارة الواقعیة والظاهریة .

ولو شک فی بقاء الماء علی طهارته ولاقاه شیء طاهر، وبعد ذلک علم نجاسة معه _ فی هذا الحال _ کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض، ولا یجزی لو لم یکن کذلک، ویجب الإتیان بالواجد لإستیفاء الباقی _ إن وجب _ وإلاّ لاستحب. هذا مع

ص :410

إمکان استیفائه، وإلاّ فلا مجال لإتیانه، کما عرفت فی الأمر الاضطراری.

الشَرح:

الماء، فاللازم أن لا یحکم بنجاسة الملاقی؛ لأنّ الماء المزبور حال الملاقاة کان طاهرا.

والسرّ فی ذلک کلّه أنّه یعتبر فی الحکومة الموجبة للتوسعة والتضییق أن یکون المنفی أو المجعول المحکی بخطاب الحاکم من سنخ المجعول المحکی بخطاب المحکوم فی کونه نفسیا أو طریقیّاً ؛ لیکشف خطاب الحاکم عن السعة والضیق فی المجعول المحکی بخطاب المحکوم ، وأمّا إذا کان المجعول فی الخطاب حکما نفسیا ، وفی الخطاب الآخر _ ولو عبّر عنه بخطاب الحاکم _ طریقیا ، یکون مقتضی المجعول الطریقی عدم النفسیة وأنّه یرتّب علیه أثر الواقع النفسی ما دام الجهل لغایة التنجیز والتعذیر ، وإذا أُحرز الواقع وأن_ّه کان علی خلاف المجعول طریقا ، فاللازم رعایته، حیث إنّ ثبوت الحکم الظاهری لا یوجب الانقلاب والتغییر فی المجعول الواقعی؛ لعدم المنافاة بین أن یکون تعلّق الحکم أو موضوعه مقیّدا بالقید الواقعی ، وبین جعل ذلک القید طریقیا ، بحیث یعتبر ذلک الحکم الطریقی بترتیب أثر القید الواقعی علیه ما دام لم ینکشف الواقع لمصلحة فی جعل ذلک القید الطریقی واعتباره ، ولو کانت تلک المصلحة نوعیة ، وإذا انکشف الخلاف وجب التدارک لبقاء الواقع بحاله وعدم الإتیان بمتعلّق التکلیف الواقعی . وممّا یکشف عن بقاء قذارة الشیء ونجاسته الواقعیة بحالها الغایة الواردة فی خطاب قاعدة الطهارة من قوله علیه السلام : «کل شیءٍ نظیف حتّی تعلم أن_ّه قذر»(1) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ودعوی أنّ معنی جریان أصالة الطهارة الجاریة فی الثوب المشکوک طهارته لیس جعلاً لطهارة الثوب ضرورة ، أن_ّه لو کان نجسا فهو باقٍ علی نجاسته واقعا ، وإنّما الطهارة الظاهریة له تفید التوسعة فی الشرطیة الحاصلة من تعلّق التکلیف بالصلاة فی الثوب الطاهر ، حیث إنّ المتفاهم عرفا من خطاب أصالة الطهارة مع

ص :411


1- (1) الوسائل : ج 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4 .

لحاظ خطاب الأمر بالصلاة فی الثوب الطاهر ، هو أنّ القید أعمّ ، فإذا صلّی فی الثوب المزبور یسقط ذلک التکلیف حتّی لو انکشفت نجاسة ذلک الثوب حال الصلاة ؛ لأنّ التوسعة فی الشرطیة أوجبت سقوط التکلیف ولا ان_کشاف للخلاف بالإضافة إلی التوسعة، ومع ذلک یحکم بنج_اسة ملاقی ذلک الثوب رطبا ولو قبل ظهور الحال.

والحاصل أنّ ما دلّ علی طهارة المشکوک حاکم علی خطاب اشتراط الصلاة بطهارة الثوب لا خطاب ما دلّ علی تنجّس الشیء بملاقاة النجس ، وهذا بخلاف ما إذا قام الطریق علی طهارة ثوب وانکشف خطأه فیما بعد، فإنّ اعتبار شیء طریقا إلی القید الواقعی لا یوجب التوسعة فی الشرطیة المستفادة من مثل خطاب: صلِّ فی ثوبٍ طاهر. ویمکن استفادة هذا الإجزاء فی موارد قاعدة الطهارة واستصحابها من مثل قول علی علیه السلام : «ما أُبالی أبولٌ أصابنی أو ماء إذا لم أعلم»(1).

لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّه لم یظهر الفرق بین ما إذا کان مفاد الأصل والقاعدة اعتبار ما هو قید لمتعلّق التکلیف ، وبین ما إذا کان مفادهما اعتبار قید لموضوع الحکم الوضعی ، بأن یقال بإجزاء الصلاة مع استصحاب الطهارة ، ولا یطهر الثوب المتنجّس بماءٍ مستصحب الطهارة ، ودعوی الفرق بینهما جزاف ، وجعل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الفارق ضرورة الفقه کما تری ، فإنّ الحکم بصحّة الصلاة مع النجاسة الواقعیة جاهلاً بها إنّما هو من باب عدم کونها مانعة فی الصلاة.

نعم النقض علی کلام الماتن قدس سره بموارد قاعدة التجاوز کما إذا شکّ فی الرکوع بعد ما سجد وبنی علی الرکوع قبله وأتمّ الصلاة ، ثمّ انکشف عدم الإتیان بالرکوع ، أو بموارد بیع الشیء مع الشکّ فی کونه ملکا له ، وبعد البیع ظهر عدم کونه ملکا له ، ونحوهما لا وجه له ؛ لأنّ مفاد قاعدة التجاوز لیس جعلاً للرکوع ، ومفاد قاعدة الید لیس جعلاً للملکیة حال البیع ، بل القاعدة اعتبرت طریقا إلی الملکیة الواقعیة.

ثمّ لو فرض صحّة الالتزام فی موارد جعل الطهارة والحلّیة الظاهریتین بالإجزاء للتوسعة المزعومة ، فلا یجری ذلک فی موارد استصحاب الطهارة والحلّیة ، وإن قلنا

ص :412


1- (1) الوسائل : ج 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 .

_ کما هو الصحیح _ بکون الاستصحاب أصلاً عملیّا ؛ وذلک لما ذکرنا فی بحث الاستصحاب بأنّ مفاد دلیله لیس جعل حکم مماثل للحکم السابق ، بل مفاده اعتبار العلم بحصول السابق علماً بالبقاء ، والتفصیل موکول إلی محلّه .

بقی فی المقام أمرٌ ، وهو أن_ّه لو قیل بالإجزاء فی موارد التعبّد بالشرط أو الجزء أو عدم المانع بمفاد الأُصول باعتبار أنّها توجب التوسعة فیما هو شرط وجزء ومانع فی متعلّق التکلیف لا یفرق فی جریان الأُصول بین الشبهات الموضوعیة والحکمیة ، وهذا بخلاف موارد الأمارات ، حیث إنّ مفاد دلیل اعتبارها ثبوت الشرط الواقعی بجعل الأمارة طریقاً تامّا إلیه فلا یوجب قیامها الإجزاء بعد انکشاف الخلاف فیها ، ویکون مقتضی التکلیف بما هو مقید بالشرط امتثاله ، وهذا کلّه بناءً علی ما هو الأظهر فی اعتبار الأمارات من أنّ اعتبارها علی وجه الطریقیة لا بنحو السببیّة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الإجزاء فی الأمارات علی السببیة

:

وأمّا بناءً علی السببیة وکون قیامها موجبا لحصول الحلّیة أو الطهارة للشیء ، فیکون الإتیان بالمأمور به الظاهری موجبا لحصول الامتثال ؛ لأنّ المأمور به الذی یأتی به المکلف علی طبق الأمارة القائمة علی الطهارة _ مثلاً _ یکون مشتملاً علیها بقیام الأمارة ، ویکون کالواجد لها بالوجدان فی حصول الملاک ، کما هو مقتضی دلیل اعتبارها ، بناءً علی السببیة ، إلاّ أن یقوم دلیل خاصّ فی مورد علی فوات بعض الملاک الواقعی بحیث یلزم تدارکه ، فلا یجزی ، أو یستحب تدارکه فیجزی کصورة اشتماله علی جمیع الملاک . والوجه فی اقتضاء إطلاق دلیل اعتبارها علی السببیة هو أنّ مدلوله بناءً علیها جعل مدلول الأمارة شرطا واقعیا ، والوجه فی اقتضاء إطلاق دلیل اعتبارها علی السببیة هو أنّ مدلوله بناءً علیها جعل مدلول الأمارة شرطا واقعیا ، فلا معنی لانکشاف الخلاف فیه بعد ذلک .

ولکن لا یخفی أنّه لا یظنّ أن یلتزم أحد باعتبار الأمارة علی نحو السببیة إلاّ فی الأمارات القائمة علی الأحکام الکلیّة التکلیفیة أو الوضعیة، دون القائمة علی الموضوعات الخارجیة والأحکام الجزئیة ، کما إذا اشتری ثوبا من جلد الحیوان وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّه من المیتة ، فالإلتزام بالإجزاء من جهة اعتبار سوق

ص :413

المسلمین من باب السببیة ، وأنّ الشارع قد جعل التذکیة الواقعیة للثوب المزبور بشرائه منه مادام لم ینکشف الحال ، غیر معهود فی باب اعتبار الأمارات ، وعلیه فتنحصر ثمرة اعتبار الأمارة بنحو الکشف أو السببیة فی الأحکام الکلّیة فقط ، سواء کانت وضعیة (مثل ما إذا قامت الأمارة علی کون الدباغة فی المیتة ذکاة) ، أو تکلیفیّة (مثل ما إذا قامت علی وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة) .

ولا یخفی أنّ قضیة إطلاق دلیل الحجیة __ علی هذا __ هو الإجتزاء بموافقته أیضاً، هذا فیما إذا أحرز أن الحجیة بنحو الکشف والطریقیة، أی بنحو الموضوعیة والسببیة، وأم_ّا إذا شک فیها ولم یحرز أنها علی أیّ الوجهین، فأصالة عدم الإتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للإعادة فی الوقت [1]، واستصحاب عدم کون الشَرح:

الإجزاء عند الشکّ فی سببیّة الأمارة وطریقیتها

:

[1] بعد ملاحظة کلامه قدس سره فی المقام من صدره إلی ذیله ، یظهر أنّ مراده من قوله قدس سره : «أصالة عدم الإتیان بما یسقط...» إلخ ، أحد أمرین :

الأوّل: أن یکون مراده منها استصحاب التکلیف المحرز حدوثه بنحو القسم الثانی من الکلّی ، حیث إنّ التکلیف یختلف باختلاف متعلّقه ، ومتعلّق التکلیف المحرز إمّا المقیّد بالقید الواقعی ، کما هو مقتضی اعتبار الأمارة بنحو الطریقیة والکشف ، وإمّا المقیّد بما هو مدلول الأمارة ، کما هو مقتضی اعتبارها بنحو الموضوعیة والسببیة ، فمع عدم إحراز کیفیة اعتبار ألامارة وانکشاف الخلاف _ کما هو المفروض _ ، یحکم ببقاء ذلک التکلیف المحرز حدوثه حین قیام الأمارة ، ولا ینفع فی إحراز سقوطه أصالة عدم فعلیة التکلیف بالقید الواقعی بعد انکشاف الواقع ، حیث إنّ إحراز سقوطه یکون بإحراز تعلّق الأمر حقیقةً عند قیام الأمارة بالمأتی به وإثبات تعلّقه به بأصالة عدم الفعلیة فی ناحیة الواقعی إثبات لأحد المتلازمین بالأصل الجاری فی ناحیة نفی الملازم الآخر فیکون من الأصل المثبت.

الثانی: أن یکون مراده کما یُستفاد من ذیل کلامه ، أن_ّه مع العلم بحدوث التکلیف و وجوده حال قیام الأمارة ، یکون المورد بعد انکشاف الخلاف مجری قاعدة الاشتغال حیث یحتمل بقاء ذلک التکلیف علی ما کان فی عدم الامتثال و عدم السقوط أو استصحاب عدم الإتیان بمتعلّق التکلیف الحادث حال قیام الأمارة ،

ص :414

التکلیف بالواقع فعلیاً فی الوقت لا یجدی، ولا یثبت کون ما أتی به مسقطاً، إلاّ علی القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی.

وهذا بخلاف ما إذا علم أن_ّه مأمور به واقعاً، وشک فی أنّه یجزی عما هو الشَرح:

لیثبت به بقاء التکلیف الحادث المزبور، والاستصحاب کذلک داخل فی الشبهة المصداقیّة ، کما یأتی فی بیان إثبات وجوب القضاء به .

وأمّا تقریب قاعدة الاشتغال ، فبأنّه لو أُحرز أنّ المأتی به الظاهری متعلّق التکلیف حقیقة ، کما فی موارد الأُصول الشرعیة التی تقدّم أنّ مقتضی خطاباتها التوسعة فی الواقع ، وکما إذا أُحرز اعتبار الأمارة القائمة علی الشرط بنحو الموضوعیة والسببیة وشکّ فی إجزاء المأتی به الظاهری أو الاضطراری یکون مقتضی الأصل العملی الإجزاء حتّی بالإضافة إلی الإعادة کما تقدّم ، حیث یدور الأمر بین أن یکون عدل الواجب علی المکلف هو المأمور به الظاهری المنضمّ إلیه الواقعی بعد کشف الخلاف ، أو الاضطراری المنضمّ إلیه الاختیاری بعد ارتفاع الاضطرار ، وبین أن یکون عدل الواجب نفس المأمور به الظاهری أو الاضطراری ، فأصالة البراءة عن وجوب ضمّ الواقعی أو الاختیاری مقتضاها الإجزاء .

وهذا بخلاف ما إذا لم یحرز کون الفعل الاضطراری مأمورا به حال الاضطرار حقیقة ، أو الظاهری مأمورا به کذلک ، فإنّه مع عدم إحراز ذلک _ کما هو مقتضی تردّد اعتبار الأمارة بین السببیة والطریقیة _ یشکّ فی امتثال التکلیف المحرز حال قیام الامارة ویحکم العقل بالاشتغال ولزوم إحراز السقوط ، ولم یحرز تعلّق الأمر بالمأتی به حتّی یکون المورد مجری لأصالة البراءة ، واستصحاب عدم فعلیة التکلیف بالواقعی _ کما تقدّم _ لا یثبت تعلّق التکلیف حقیقة بالمأتی به ، إلاّ علی الأصل المثبت.

ص :415

المأمور به الواقعی الأولی، کما فی الأوامر الاضطراریة أو الظاهریة، بناءً علی أن یکون الحجیة علی نحو السببیة، فقضیة الأصل فیها _ کما أشرنا إلیه _ عدم وجوب الإعادة، للإتیان بما اشتغلت به الذمة یقیناً، وأصالة عدم فعلیة التکلیف الواقعی الشَرح:

أقول : یرد علی الماتن قدس سره :

أوّلاً: أنّه إذا لم یحرز تعلّق التکلیف بالظاهری حقیقة _ کما هو مقتضی تردّد اعتبار الأمارة القائمة بالشرط بین السببیة والطریقیة _ یکون مقتضی الإطلاق فی خطاب التکلیف الواقعی وجوب الإتیان بمتعلّقه وعدم الإجتزاء بغیره ، کما ذکرنا ذلک فی الاضطراری أیضاً ، وقلنا : إذا لم یتمّ دلیل علی تشریع الاضطراری عند الاضطرار فی بعض الوقت ، یکون مقتضی الإطلاق (أی عدم ذکر العدل للإختیاری فی خطابه) تعیّن الإتیان به ولو فی آخر الوقت ، فلا تصل النوبة إلی الأصل العملی بمجرّد تردّد أمر اعتبار الأمارة ثبوتا بین کونه علی نحو الطریقیة أو السببیة ، بل مقتضی إطلاق الأمر الواقعی نفی اعتبارها علی نحو السببیة ؛ لأنّ مثبتات الأُصول اللفظیة حجّة.

وثانیا: قد ذکرنا سابقا أنّ الوجوب التخییری بین الإتیان بفعلین وبین إتیان واحد معیّن منهما ثبوتا غیر معقول ، وما ذکره قدس سره من الرجوع إلی البراءة فی فرض إحراز تعلّق الأمر حقیقة بالمأتی به وفی غیره إلی الاشتغال أو استصحاب التکلیف مبنیّ علی إمکان فرض الوجوب التخییری المزبور ، والاّ فإن کان المأتی به مأمورا به واقعا ، فالأمر والتکلیف یتعلّق بالجامع ، وعلی فرض عدمه یتعلّق بخصوص الاختیاری أو الواقعی ، فاستصحاب عدم تعلّق التکلیف ثبوتا بالجامع معارض باستصحاب عدم تعلّقه بخصوص الاختیاری أو الواقعی ، وبعد تساقطهما یکون المقام من موارد دوران أمر الواجب بین التعیین والتخییر ، أو بین المطلق والمقید ، وتقدّم أنّ أصالة البراءة تجری فی ناحیة تعلّقه بمحتمل التعیین أو المقیّد ، لکون رفع بعد رفع الاضطرار وکشف الخلاف.

وأم_ّا القضاء فلا یجب بناءً علی أن_ّه فرض جدید[1]، وکان الفوت المعلّق

الشَرح:

التکلیف عنهما موافقا للامتنان ، بخلاف رفعه عن الجامع أو المطلق ، فإنّ تعلّق التکلیف بهما ثبوتا وإن کان غیر معلوم إلاّ أنّ رفعه عنهما خلاف الامتنان ، فلا یعمّ

ص :416

خطاب «رفع ما لا یعلمون» ذلک التکلیف المحتمل .

[1] یعنی مع دوران الأمر بین السببیة والطریقیة ، وانکشاف الخلاف فی الأمارة بعد الوقت ، فلا یجب تدارک الواقع بالقضاء ولا یفید فی وجوبه استصحاب بقاء التکلیف فی الوقت وعدم الإتیان بمتعلّقه ؛ لأنّ مجرّد إحراز عدم الإتیان بمتعلّق التکلیف فی الوقت بالأصل لا یکون إحرازا لفوته ، فإنّه من الأصل المثبت ، فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم فوته ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوب القضاء .

نعم لو قیل بأنّ وجوب القضاء مستفاد من الأمر بالأداء ، بأن یکون الإتیان بذات الفعل مطلوبا ، والإتیان به فی الوقت مطلوبا آخر ، وأنّه بانقضاء الوقت یسقط الطلب الثانی ویبقی الأوّل ، لکان (عند دوران اعتبار الأمارة بین السببیة والطریقیة) استصحاب طلب الطبیعی بعد خروج الوقت مقتضیا للقضاء ، وکذا لو کان وجوب القضاء بأمرٍ جدید ، ولکن کان موضوعه عدم الإتیان بالواجب الواقعی فی الوقت ، لا فوته ، فإنّ عدم الإتیان به فی الوقت بعد انکشاف الخلاف فی الأمارة محرز .

أقول : هذا إذا کان الموضوع لوجوب القضاء عدم الإتیان بالفریضة الأوّلیة فی وقتها ، وإلاّ فلو کان موضوعه عدم الإتیان بفریضة الوقت ، سواء کانت أولیة أو ثانویة لکانت الشبهة مصداقیّة ، وقد ذکرنا عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة ، وعلیه کان المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء ، کما لا یخفی .

ص :417

علیه وجوبه لا یثبت بأصالة عدم الإتیان، إلا علی القول بالأصل المثبت، وإلاّ فهو واجب، کما لا یخفی علی المتأمل، فتأمل جیّداً.

الشَرح:

تبدّل فتوی المجتهد

:

ثمّ إنّه لا فرق فی عدم الإجزاء _ بناءً علی الطریقیة فی موارد الأُصول والأمارات _ بین انکشاف الخلاف بالوجدان أو انکشافه بحجّة معتبرة ، کما فی موارد تبدّل رأی المجتهد أو عدول العامی بعد موت مقلّده إلی الأعلم من الأحیاء ، أو عدوله إلی من صار أعلم ممّن کان یقلّده ، وذلک لأنّ الأمارة السابقة أو الأصل السابق لا یزید فی الاعتبار علی الیقین والاعتقاد الجزمی الذی لم یکن معتبرا بعد زواله حتّی بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

فإنّ غایة دلیل اعتبار الأمارة أنّها علم بالواقع ، وغایة مفاد خطاب الأصل المحرز أنّ المکلّف عالم بالواقع ، وخطاب الأصل غیر المحرز أنّه تنجیز أو تعذیر عن الواقع ، علی ما تقرّر من أن_ّه المجعول فی مورد الأمارة أو الأصل ، ولو قلنا بأنّه الحکم المماثل أو المؤدّی لا یخرج من الطریقیة إلی النفسیة أیضاً .

لا یقال : تبدّل الرأی والاجتهاد لا یوجب إلاّ زوال الاعتبار عن الاجتهاد السابق والفتوی السابقة ، من حین زواله لا من الأوّل . وبتعبیرٍ آخر : التبدّل فی الفتوی أو التردّد فیها ، نظیر الفسخ ، لا یوجب إلغاء المعاملة إلاّ من حینه ، فیکون التبدّل أو التردّد موجبا لإلغاء الرأی السابق من حین حصولهما لا من الأصل .

فإنّه یقال : قیاس تبدّل الفتوی أو التردّد بفسخ المعاملة مع الفارق ؛ إذ فی مورد الفسخ یتغیّر الواقع من حین الفسخ ، فالملکیة الحاصلة بالبیع تنتفی من حین فسخه ، ومع انتفائها من حینه لا یمکن ترتیب آثار عدم الملکیة من الأوّل ، بخلاف موارد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تبدّل الفتوی أو التردّد ، فإنّ الزائل من حین حصولهما هو الاعتبار لا الواقع ، وإذا أُحرز الواقع بالفتوی الثانیة ، المفروض عدم اختصاص اعتبارها بالأعمال اللاحقة والموجود بعد التغیّر والتبدّل فقط، فاللازم تدارکه مع فوته أو إحراز الإتیان به ، ودعوی أن_ّه لا اعتبار للفتوی اللاحقة بالإضافة إلی الأعمال السابقة ، یدفعها مقتضی

ص :418

إطلاق دلیل اعتبارها بعد سقوط الأُولی عن الاعتبار ، حتّی بالإضافة إلی تلک الأعمال ؛ ولذا لو فات الواقع بترک العمل بها فی السابق یجب تدارکه علی طبق الحجّة الفعلیة .

وینبغی قیاس المقام بحصول التردّد وصیرورة المکلف شاکّا بزوال یقینه ، فإنّ زوال الاعتقاد وإن لم یوجب إلاّ زوال المنجزیّة والمعذریّة من حین زواله ، إلاّ أنّه بعده لا اعتبار له حتّی بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

وتوضیح ذلک : إنّ تبدّل الفتوی یکون بالظفر بأصلٍ حاکم علی الأصل الذی کان یُعتمد علیه ، أو بالظفر بالأمارة أو المخصّص أو المقیّد أو القرینة علی خلاف ما کان یعتمد علیه ، وإذا ظفر بذلک فهو یکشف بحسب المدلول عن ثبوت مقتضاها من الأوّل ، وهذا الکشف قد اعتبر علما علی ما هو مفاد دلیل اعتبار الأمارة ، ولا ینتفی بعد ذلک موضوع الحجّة والأصل الذی کان یعتمد علیه ، حتّی بالإضافة إلی الأعمال الماضیة ، ولیس المراد أنّ قیامها یکشف عن عدم الأصل من الأوّل ، بل المراد ارتفاع موضوع الأصل والحجّة بالظفر علی الأصل الحاکم أو الأمارة أو المخصّص والمقیّد ونحوهما من القرائن ، ونظیر ذلک ما إذا استظهر من روایة حکما ثمّ تردّد فی الاستظهار ، فإنّه لم یثبت عنده ظهور فعلاً لیبقی معتبرا بالإضافة إلی الأعمال السابقة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والحاصل أنّ الإجزاء فی موارد الأُصول العملیة أو الأمارة بعد انکشاف الواقع علی خلافها ولو بکاشفٍ تعبّدی یحتاج إلی دلیل خاصّ أو عامّ ، کالذی ذکرناه وجها للإجزاء فی العبادات والمعاملات ، بمعنی العقود والإیقاعات فی موارد تغیّر الفتوی أو عدول العامی ، أو مثل حدیث «لا تعاد» فی موارد الإخلال بما یعتبر فی الصلاة ممّا لا یدخل فی المستثنی الوارد فیه ، ویطلب تفصیل المقام ممّا ذکرناه فی بحث الاجتهاد والتقلید فی وجه الإجزاء .

الإجزاء عند تبدّل الفتوی أو العدول

ومجمل ما ذکرنا فی ذلک البحث أنّه یحکم علی العمل الواقع سابقا علی طبق اجتهادٍ صحیح ، أو علی طبق فتوی معتبرة فی ذلک الزمان ، بالإجزاء فی العبادات

ص :419

والمعاملات، بمعنی العقود والإیقاعات السابقة ؛ لما علم من مذاق الشارع بجعل هذه الشریعة سهلة سمحة، وأنّه لم یعهد فی الشریعة أن یأمر الائمّة علیهم السلام من کان یعمل علی طبق أخبارهم المعتبرة أن یتدارک عمله السابق بمجرّد ظهور خبر أو وروده عنهم علیهم السلام فیما بعد ، بحیث یقدّم بعد وروده علی ما کان یعمل علیه، بل ورد عنهم ما یشیر إلی إجزاء ذلک العمل، ففی موثّقة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قلت له: ما بال أقوام یروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یتّهمون بالکذب، فیجیء منکم خلافه؟ قال: إنّ الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن»(1)، فإنّ التعبیر عن الحدیث الآتی من قبلهم بالناسخ للحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتنزیله الحدیث منزلة القرآن فی وقوع النسخ فیه یشیر إلی إجزاء العمل السابق قبل ورود . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الحدیث الناسخ، فإنّ النسخ فی المقام، وإن لم یکن بمعناه المعروف بل المراد منه التقیید والتخصیص، إلاّ أنّ العمل بالکتاب قبل ورود المخصّص أو المقیّد علیه کما کان یجزی کذلک العمل بالحدیث قبل ورود الحدیث اللاحق، ویؤیّد ذلک الإجماعات المنقولة فیالمقام علی الإجزاء حیث قال فی العروة: «فإذا أفتی المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغیر الحدید مثلاً، فذبح حیوانا کذلک، فمات مجتهده، وقلّد من یقول بحرمته، فإن باعه أو أکله حکم بصحّة البیع وإباحة الأکل، وأمّا إذا کان الحیوان المذبوح موجودا فلا یجوز بیعه ولا أکله»، وقال قبل ذلک: «وکذا لو أوقع عقدا أو إیقاعا بتقلید مجتهد یحکم بصحّته، فإن مات وقلّد من یقول ببطلانه، یجوز له البناء علی الصحّة. نعم یجب علیه العمل بمقتضی فتوی المجتهد الثانی فیما یأتی»(2).

ولا یخفی أنّ ما ذکره من الفرق بین الذبح بغیر الحدید وبین العقد السابق لا یصحّ ، إلاّ بأن یقال المتیقّن من التسالم علی الإجزاء ، موارد العبادات السابقة والعقود والإیقاعات ، ویبقی غیرها تحت القاعدة المشار إلیها آنفا فی الأصل الأولی علی القول بالطریقیة فی الأمارات واعتبار الأُصول من عدم الإجزاء .

ص :420


1- (1) الوسائل : ج 18 ، باب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 4 .
2- (2) العروة الوثقی : ج 1 ، مسألة 53 ، من کتاب الاجتهاد والتقلید .

ثمّ إنّه یقع الکلام فی أن_ّه لو قلنا بإجزاء الأعمال السابقة علی طبق الفتوی السابقة ، فیما إذا انکشف خلافها بالفتوی اللاّحقة ، فهل تکون تلک الأعمال مجزیة بالإضافة إلی غیر العامل أیضاً ممّن یکون الطریق المعتبر عنده علی خلاف تلک الأعمال ، مثلاً إذا تیمّم الإمام لصلاته فی مورد ، یری الغیر أن_ّه یتعیّن فی ذلک المورد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وضوء الجبیرة ، فهل یجوز _ لمن یکون الحکم عنده کذلک _ الائتمام بصلاة هذا الإمام الذی یصلّی بالتیمّم ، بدعوی أن_ّه إذا کانت صلاة الإمام مجزیة بحیث لا یجب علیه تدارکها بالإعادة والقضاء بعد کشف الخلاف عنده بتبدّل فتواه أو رجوعه إلی المجتهد الآخر ، تکون صلاته مع التیمّم المزبور کالصلاة مع الخلل فی الموارد التی تدخل فی المستثنی منه من حدیث «لا تعاد» ، وکما أنّه یجوز الاقتداء فیها مع علم المأموم بخلل صلاة الإمام بما لا یضرّ الإخلال به فی صحّتها فی حقّه ، فکذلک الحال فی الفرض ، أو أن_ّه لا یجوز للغیر ممن یقوم الطریق المعتبر عنده علی بطلان عمله واقعا ترتّب أثر الصحیح علی تلک الأعمال ؟

الصحیح هو الثانی ، وذلک لأنّ الحکم بالإجزاء فی الأعمال السابقة بالإضافة إلی العامل ، لیس بمعنی صحّتها واقعا ، بل معنی الإجزاء إبقاء فتواه السابقة أو فتوی المجتهد السابق علی الاعتبار بالإضافة إلی تلک الأعمال فی حقّ العامل ؛ ولذا لو کان کشف الخلاف فی الفتوی السابقة مع الواقع کشفا وجدانیا لم تکن مجزیة ، ولزم تدارک الواقع الفائت ، فلا یقاس الإجزاء فیها بموارد الخلل فی الصلاة ، ممّا یدخل فی المستثنی منه من الحدیث ، فإنّ الصحّة فی تلک الموارد واقعیة ؛ ولذا لا تجب إعادة الصلاة ولا قضائها بالکشف الوجدانی للخلل .

وبالجملة غایة ما یستفاد ممّا تقدّم _ من أنّ لزوم التدارک فی موارد تبدّل الفتوی أو الرجوع الی المجتهد الآخر ینافی کون الشریعة سهلة وسمحة وقیام السیرة المتشرعة الجاریة علی عدم التدارک فیما إذا وقعت الأعمال السابقة عن تقلید أو اجتهاد صحیح فی العبادات والمعاملات من العقود والإیقاعات _ هو بقاء الفتوی السابقة أو الاجتهاد السابق علی الاعتبار بالاضافة إلی العامل فحسب ، وکذا فیما ثمّ إن هذا کلّه فیما یجری فی متعلّق التکالیف، من الأمارات الشرعیة

ص :421

والأصول العملیة [1]، وأم_ّا ما یجری فی إثبات أصل التکلیف، کما إذا قام الطریق الشَرح:

أشرنا إلیه من الروایة ، فتدبّر .

قد یقال : إنّه یستثنی ممّا ذکر من عدم ترتیب أثر الصحیح لمن یری بطلان ذلک العمل بحسب اجتهاده أو تقلیده موردان :

أحدهما: النکاح ، فإنّه إذا عقد علی امرأة بعقدٍ صحیح عندهما بحسب تقلیدهما ، فلا یجوز للغیر الذی یری بطلانه اجتهادا أو تقلیدا تزویجها بعد ذلک بلا طلاقٍ صحیح ، بدعوی أنّ المرأة من الأوّل خلیّة ؛ لبطلان العقد علی رأیه .

الثانی: الطلاق فإنّه إذا طلّق زوجته بطلاقٍ یری صحّته ، کما إذا أنشأه ببعض الصیغ مما أفتی بعض بصحّة إنشائه بها ، ویری الغیر بطلان ذلک الطلاق ، فیجوز له التزویج بتلک المرأة بعد انقضاء عدّتها .

والدلیل علی ترتیب الأثر فی الموردین _ مضافا إلی السیرة المستمرّة _ ما یستفاد ممّا ورد فی أنّ «لکلّ قومٍ نکاح» وما ورد فی قاعدة الإلزام .

ولکن لا یخفی ما فیهما ، إذ دعوی السیرة المستمرّة فی موارد الحکم الظاهری لم تثبت ، وما ورد فی أنّ لکلّ قومٍ نکاح أو فی قاعدة الإلزام لا یستفاد منهما إجزاء النکاح أو الطلاق الواقع علی طبق الحجّة المعتبرة عند العامل ، بالإضافة إلی من تکون الحجّة المعتبرة عنده علی خلافها ، وکذلک الحال فی المیراث . نعم إذا کان النکاح والطلاق أو المیراث عند قومٍ مخالفا لما عندنا ، فهو مجری السیرة وقاعدة الإلزام لا ما إذا کان عند مجتهدٍ مخالفاً لما عند مجتهدٍ آخر .

[1] کان کلامه قدس سره فی الأُصول العملیة والأمارات التی تکون مقتضاها إحراز قیود متعلّق التکلیف جزءا أو شرطا ، نفیا أو إثباتا . وأمّا التی مقتضاها إحراز التکالیف أو الأصل علی وجوب صلاة الجمعة یومها فی زمان الغیبة، فانکشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر فی زمانها، فلا وجه لإجزائها مطلقاً، غایة الأمر أن تصیر صلاة الجمعة فیها _ أیضاً _ ذات مصلحة لذلک، ولا ینافی هذا بقاء صلاة الظهر علی ما هی علیه من المصلحة، کما لا یخفی، إلاّ أن یقوم دلیل بالخصوص علی عدم وجوب صلاتین فی یوم واحد.

الشَرح:

ص :422

المستقلّة ، فلا یوجب الإلتزام بالسببیة فیها الإجزاء ، ولو قامت أمارة علی وجوب فعلٍ ، وکان الواجب فی الواقع غیره ، فلا یوجب قیامها عدم لزوم تدارک الواقع بعد انکشافه ، حیث إنّ غایة اعتبارها أنّ قیامها أوجب صلاح ذلک الفعل لا سقوط الواجب الواقعی عن صلاحه ، إلاّ فیما کانت الأمارة القائمة علی وجوب فعلٍ دالّة علی عدم وجوب ذلک الواجب الواقعی ، کما فی مثل الأمارة القائمة علی وجوب القصر أو الجمعة فی یومها ، فإنّها بالملازمة تنفی وجوب التمام أو الظهر لقیام الضرورة ، ولا أقلّ من الإجماع علی عدم وجوب الأزید من الصلوات الخمس فی الیوم واللیلة علی کلّ مکلّف ، فإنه فی الفرض یحکم بالإجزاء علی مسلک السببیة ، حتّی مع کشف الخلاف فی الوقت ، حیث إنّه لو وجب التدارک لزم وجوب الأزید من الصلوات الخمس علی المکلّف .

ص :423

تذنیبان:

الأول: لا ینبغی توهم الإجزاء فی القطع بالأمر فی صورة الخطأ [1]، فإنّه لا یکون موافقة للأمر فیها، وبقی الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن یخفی، نعم ربما یکون ما قطع بکونه مأموراً به مشتملاً علی المصلحة فی هذا الحال، أو علی مقدار منها، ولو فی غیر الحال، غیر ممکن مع استیفائه استیفاء الباقی منها، ومعه لا یبقی مجال لإمتثال الأمر الواقعی، وهکذا الحال فی الطرق، فالإجزاء لیس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعی أو الطریقی للإجزاء بل إنّما هو لخصوصیة اتفاقیة فی متعلقهما، کما فی الإتمام والقصر، والإخفات والجهر.

الشَرح:

[1] مراده قدس سره أنّه یمکن أن یکون الجزم بوجوب فعل فی موردٍ ، مع الغفلة عن الواجب الواقعی فی ذلک المورد ، موجبا لحدوث تمام مصلحة الواقع فی ذلک الفعل ، فلو أتی به حال الغفلة عن الواجب الواقعی لا یبقی مجال لتدارک الواجب الواقعی بعد زوال الجزم ؛ لأنّ المزبور تدارک مصلحته بالفعل الذی جزم بوجوبه . وکون فعل فی حال الغفلة عن الواجب الواقعی کذلک وإن کان ممکنا إلاّ أنّه لا یمکن أن تکون مصلحة الواقع فی ذلک الفعل مطلقة ، (یعنی ولو فی غیر حال الغفلة عن الواجب الواقعی) وإلاّ کان تخصیص الوجوب بذلک الفعل وعدم جعله تخییریّا بینهما بلا موجب .

نعم ، یمکن أن یکون الفعل الذی جزم بوجوبه مع کون الواجب فعلا آخر مشتملاً علی بعض ملاک الواجب مطلقاً ، ولو فی غیر حال الغفلة عن الواجب الواقعی ، ومع ذلک لا یتعلّق به الوجوب لا تعیینا ولا تخییرا بین الفعلین والفعل الواحد ؛ لأنّ مع الإتیان به أوّلاً لا یمکن تدارک الباقی بالإتیان بالفعل الآخر ؛ ولذا عمّم قدس سره الاشتمال علی مقدار من المصلحة بقوله : «ولو فی غیر هذا الحال» .

الثانی: لا یذهب علیک أنّ الإجزاء فی بعض موارد الأصول [1] والطرق والأمارات، علی ما عرفت تفصیله، لا یوجب التصویب المجمع علی بطلانه فی الشَرح:

وبالجملة اشتمال فعل علی تمام ملاک الواجب الواقعی حال الغفلة عنه أو علی بعض ملاکه مطلقاً ، مع عدم إمکان استیفاء الباقی ، أمر ممکن ، ولکن هذا لا

ص :424

یرتبط ببحث إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری عن الواقعی ؛ لأنّ القائل بالإجزاء فی المأمور به الظاهری لا یلتزم بالإجزاء بالإتیان بما اعتقد أنّه الواجب الواقعی ، کما أنّ القائل بعدم الإجزاء فی الإتیان بالمأمور به الظاهری یلتزم بالإجزاء فی موارد کون الاعتقاد بوجوب فعل موجبا لحدوث مصلحة الواقع فیه ، أو کونه واجدا لبعض ملاک الواجب الواقعی ولم یمکن مع الإتیان به تدارک الباقی فیما قام دلیل خاصّ علی ذلک ، کإجزاء کلّ من الجهر والإخفات فی موضع الآخر ، وکالتمام فی صورة الجهل بوجوب القصر .

[1] کأنّ هذا الأمر ردّ علی من ذکر أنّ الالتزام بإجزاء المأمور به الظاهری _ حتّی بعد انکشاف الخلاف _ یلازم التصویب فی الأحکام والتکالیف الواقعیة ، ویظهر من صدر کلامه قدس سره إلی ذیله أنّ التصویب الباطل هو ما کان یستتبع خلو الواقعة عن الحکم الواقعی الإنشائی فی حقّ الجاهل ، وإنّ هذا لا یلزم من الالتزام بالإجزاء ، فإنّ معنی خلو الواقعة عن الحکم الواقعی فی حقّ الجاهل هو أن لا یکون فی حقّه حکم إلاّ مؤدّی الأمارة أو مقتضی الأصل ، بحیث لو أُغمض عن تلک الأمارة أو الأصل لم یکن فی الواقع للواقعة حکم فی حق الجاهل أصلاً ، والقول بالإجزاء لا یلازم ذلک ؛ لأنّ الحکم الواقعی المشترک بین العالم والجاهل فی مرتبة الإنشاء محفوظ ، ولا یختصّ بالعالم ، ولکنّ هذا الحکم الإنشائی لا یصل إلی مرتبة الفعلیة فی ظرف قیام الأمارة أو وجود الأصل العملی علی خلافه ، بلا فرق فی ذلک بین الالتزام بالإجزاء أو عدمه ، تلک الموارد، فإنّ الحکم الواقعی بمرتبته محفوظ فیها، فإنّ الحکم المشترک بین العالم والجاهل والملتفت والغافل، لیس إلاّ الحکم الإنشائی المدلول علیه بالخطابات المشتملة علی بیان الأحکام للموضوعات بعناوینها الأولیة، بحسب ما یکون فیها من المقتضیات، وهو ثابت فی تلک الموارد کسائر موارد الامارات، وإنّما المنفی فیها لیس إلاّ الحکم الفعلیّ البعثیّ، وهو منفی فی غیر موارد الإصابة، الشَرح:

فالقائل بعدم الإجزاء متّفق مع القائل بالإجزاء علی عدم الفعلیة فی التکلیف الواقعی فی مورد الأصل أو ظرف قیام الأمارة فیما لو خالفا الواقع ، والفرق أنّ الأوّل یقول بصیرورته فعلیّا بعد انکشاف الخلاف ویلزم التدارک ، والقائل بالإجزاء یقول بأنّه لا یصیر فعلیّا ؛ إمّا لحصول الملاک ، أو لعدم إمکان استیفاء الباقی ، وعلیه فکیف

ص :425

یکون الإجزاء موجبا للتصویب ، أی خلّو الواقعة عن الحکم ، وأن لا یکون فی حقّ الجاهل حکم غیر مؤدّی الأمارة ومفاد الأصل ، مع أنّ الجهل بخصوصیة الواقعة أو بأصل حکمها موضوع لاعتبار الأمارة والأصل ، وما دام لم یفرض أنّ فیالواقعه حکما لا یتم الموضوع للأصل أو لاعتبار الأمارة .

أقول : التصویب تارة یکون باختصاص الأحکام الشرعیة والتکالیف الواقعیة بالعالمین بها ، بأن یکون المجعول الواقعی قاصرا عن الشمول للجاهلین بها ولایکون فی حقّ غیر العالمین إلاّ مقتضی الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصویب منسوب إلی الأشعری ، ولازمه أخذ العلم بالحکم فی موضوع ذلک الحکم ، وأُخری بأن یکون الحکم المجعول فی الوقائع بنحو الاقتضاء ، یعنی اعتبر التکلیف والحکم فی حقّ المکلّف مطلقا ما لم یکن مقتضی الأصل أو الأمارة علی خلافه ، ومع مخالفة مقتضاهما له یکون الحکم الثابت هو مقتضی الأصل أو مدلول الأمارة ، وهذا النحو من التصویب منسوب إلی المعتزلی ، والإجزاء المتقدّم فی بعض الأُصول العملیة وإن لم نقل بالإجزاء، فلا فرق بین الإجزاء وعدمه، إلاّ فی سقوط التکلیف بالواقع بموافقة الأمر الظاهری، وعدم سقوطه بعد انکشاف عدم الإصابة، وسقوط التکلیف بحصول غرضه، أو لعدم إمکان تحصیله غیر التصویب المجمع علی بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحکم غیر ما أدت إلیه الأمارة، کیف؟ وکان الجهل بها _ بخصوصیتها أو بحکمها _ مأخوذاً فی موضوعها، فلا بد من أن یکون الحکم الواقعی بمرتبته محفوظاً فیها، کما لا یخفی.

الشَرح:

کما التزم به الماتن قدس سره ولو مع دعوی الطریقیة فی مفادها ، یلازم هذا النحو من التصویب ، کما أنّ الالتزام بالسببیة فی الأمارات یوجبه أیضاً ، فإنّه إذا اقتضی الأصل تحقّق قید متعلّق التکلیف وقیل إنّ الأصل المزبور حاکم علی أدلّة شرائط متعلّق التکلیف ، وأن_ّه یوجب التوسعة فیه واقعا تکون الطهارة المعتبره فی الصلاة _ فی حال الشکّ فیها _ أوسع من الطهارة الواقعیة ، وکذلک القول فی الأمارة القائمة علی الشرط بناءً علی السببیة ، وکذا فیما قامت الأمارة بناءً علیها علی تکلیفٍ مستقلٍّ ، کما إذا قامت الأمارة علی وجوب القصر مع کون الحکم المجعول الأوّلی فیه هو التمام ، فإنّه لا محالة یتقیّد وجوب التمام تعیینا فی ذلک المورد ، بما إذا لم تقم

ص :426

الأمارة علی وجوب القصر ، ومع قیامها إمّا یسقط وجوب التمام رأسا ، أو یکون وجوبه حال قیام الأمارة المزبورة تخییریا .

وبالجملة الحکم المجعول أوّلاً یتبع الصلاح والملاک ومع عدم انحصار الملاک فی وجوب التمام عند قیام الأمارة علی خلافه یکون تخصیص الوجوب التعیینی بالتمام بلا ملاک .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ طریان الإکراه أو الاضطرار علی الحرام الواقعی أو ترک الواجب الواقعی یوجب انتهاء تلک الحرمة أو ذلک الوجوب ، فیکون الثابت بعد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

طریان أحدهما الحلّیة ، کذلک قیام الأمارة المخالفة للواقع بناءً علی السببیة أو کون مفاد الأصل فی مورد علی خلافه یوجبان انتهاء الحکم الواقعی . وهذا التصویب المعتزلی یلازم القول بالسببیّة فی اعتبار الأمارات والأُصول ، کما أنّ القول بالسببیة یلازم الإجزاء ، فالتزامه قدس سره بالإجزاء فی موارد بعض الأُصول العملیة یلازم القول بالسببیة فی مفادها الموجبة للتصویب لا محالة .

نعم الالتزام بالإجزاء فی موارد بعض الأمارات _ علی ما ذکره فی التذنیب الأوّل _ لا یلازم التصویب بالنحو الأوّل ولا بالنحو الثانی ؛ لأنّ المزبور فی مواردها أنّ العمل علی مفاد الأمارة هو الذی یلازم حدوث الملاک فی الفعل لا قیام الأمارة بحکم ذلک الفعل ، فقیام الأمارة علی وجوب القصر فی مورد وجوب التمام أو علی وجوب الظهر فی مورد وجوب الجمعة لا یوجب حدوث الصلاح فی القصر أو الظهر ، کما هو مقتضی القول بالسببیة فی اعتبار الأمارة ، بل القصر والظهر بعد قیام الأمارة علی وجوبهما باقیان علی ما هما علیه من عدم الملاک ، وأنّ المصلحة الملزمة تکون فی التمام أو فی الجمعة ، إلاّ أنّ الإتیان بالقصر أو الظهر یلازم حدوث مصلحة فیها تسدّ مکان صلاح التمام أو الجمعة ، ویعبّر عن هذا الأمر بالمصلحة السلوکیة ، ولکن هذا النحو من المصلحة أیضاً یوجب التقیید فی المجعول الأوّلی بأن ینشأ الوجوب فی ذلک المورد ما دام لم یأتِ المکلف بالقصر وینشأ وجوب الجمعة مادام لم یعمل بأمارة وجوب الظهر .

وذلک لأنّ إنشاء الحکم والتکلیف بفعلٍ یکون لغرض إمکان کونه داعیا

ص :427

للمکلّف إلی العمل عند وصوله إلیه ، فالإنشاء لداعٍ آخر _ کالتعجیز والاستهزاء _ لا یدخل فی الحکم والتکلیف ، وإذا فرض عدم الملاک فی التمام بعد الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بالصلاة قصرا أو فی الجمعة بعد الإتیان بالظهر ، یکون جعل الوجوب المتعلّق بهما مطلقا لغواً .

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ الإجزاء فیما إذا أتی بفعل باعتقاد وجوبه أو قیام الأمارة علی وجوبه وإن کان لا یلازم التصویب بالنحوین ، فإنّ التصویب _ کما ذکرنا _ تغییر الحکم الواقعی فی ظرف ثبوت مدلول الأمارة أو مفاد الأصل . ومن الظاهر أنّه فی الفرض یثبت الحکم الواقعی علی ما هو علیه من غیر تغییر فی ظرف قیام الأمارة علی الخلاف ، وإنّما یکون سقوط الحکم الواقعی بعد العمل بمدلول الأمارة من أجل عدم إمکان امتثاله لا لسببٍ آخر .

وعلیه فالإلتزام بعدم وجوب الإعادة علی المسافر الجاهل بالقصر بعد ما صلّی تماماً ثمّ علم بوجوب القصر علیه ، لیس التزاما بالتصویب ، وهکذا فی مسألة الجهر فی موضع الإخفات وبالعکس ، ولکن لو قلنا بالمصلحة السلوکیة المعبّر عنها بالطریقیة المخلوطة فقد یقال إنّها أیضاً توجب التصویب لا محالة (أی التبدّل فی الحکم الواقعی) فیما لو کانت المصلحة السلوکیة بحیث یتدارک بها مصلحة الواقع ، فإنّه إذا قامت الأمارة علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة ، وکان الواجب بحسب الواقع صلاة الجمعة ، وقیل بأنّ قیام الأمارة لا یوجب المصلحة فی صلاة الظهر ، بل العمل بتلک الأمارة والالتزام بأنّ مدلولها حکم من قبل الشارع ، یشتمل علی مصلحة یتدارک بها ما فات بترک الواجب الواقعی ، فإنّه مع انکشاف الخلاف قبل خروج الوقت وإن لزم الإتیان بالواجب الواقعی لعدم فوته ، إلاّ أنّه إذا لم ینکشف الخلاف إلاّ بعد الوقت لم یجب القضاء ، باعتبار أنّ مصلحة الجمعة فی الواقع متدارکة بصلاة الظهر المأتی بها بعنوان العمل بالأمارة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فاللازم أن یکون التکلیف الواقعی متعلّقا بأحد أمرین إمّا بالجمعة أو الإتیان

ص :428

بالظهر بعنوان العمل بالأمارة مع فرض عدم انکشاف خلافها ، هذا بالإضافة إلی من قامت الأمارة عنده علی وجوب صلاة الظهر ، وأمّا فی حقّ من لم تقم عنده هذه الأمارة فالواجب فی حقّه صلاة الجمعة خاصّة ، فلیس وجوب صلاة الجمعة تعیینا بمشترک بین العالم والجاهل ، کما هو مبنی القول ببطلان التصویب حتّی المنسوب إلی المعتزلی وغیره .

لا یقال : فی موارد کشف الخلاف بعد الوقت یتدارک مصلحة الفعل فی الوقت لا مصلحة نفس الفعل ؛ لئلاّ یلزم تدارکه بالقضاء .

فإنّه یقال : لا سبیل لنا إلی العلم بتعدّد الملاک الملزم فی الفعل فی الوقت لیلتزم بوجوب القضاء مع انکشاف الخلاف فی خارج الوقت ، والأمر بالقضاء علی من فاته الواقع لایکشف عن ذلک ، فلعلّ الملاک فی الفعل خارج الوقت قد حصل بعد خروج الوقت فی حقّ من لم یدرک مصلحة الفعل فی الوقت ، ولذا من تدارک مصلحة الفعل فی الوقت لا یجب علیه العمل بالأمارة ، فیلزم علی القول بالمصلحة السلوکیة الالتزام بالإجزاء بالإضافة إلی القضاء .

وبالجملة الالتزام بالمصلحة السلوکیة یوجب التغییر والتبدّل فی الحکم الواقعی بالإضافة إلی من لا ینکشف خلاف الأمارة له أصلاً ، أو حتّی فیما إذا انکشف خلافها عنده بعد خروج الوقت ، کما فی فرض وحدة الملاک الملزم فی الفعل فی الوقت وحدوث ملاک ملزمٍ آخر فی ذات الفعل بعد خروجه فی حقّ من فات عنه الملاک الملزم الذی کان فی الفعل فی الوقت لا مطلقا ، کما لا یخفی .

فقد تحصّل أنّ القول بالإجزاء یوجب التقیید فی التکلیف الواقعی بعدم الإتیان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بمؤدّی الأمارة فیما إذا لم یمکن تدارک مصلحة الواقع بعد العمل بها من غیر أن یکون فی العمل بها مصلحة شخصیة، وإلاّ لزم التبدّل والتغیّر فی الحکم الواقعی کما مرّ.

ولا یخفی أیضاً أنّه إنّما یلزم من الالتزام بالإجزاء تقیید الحکم الواقعی بعدم العمل بمدلول الأمارة المخالفة فیما إذا التُزم بالإجزاء فی مورد کشف الخلاف وجدانا، کما فی مسألة التمام فی موضع القصر والإخفات أو الجهر فی موضع الآخر.

وأمّا إذا التزمنا بالإجزاء فی خصوص کشف الخلاف بأمارة معتبرة ، کما فی

ص :429

موارد تبدّل الفتوی ، أو عدول العامی إلی مجتهدٍ آخر ، فلا یلزم من الالتزام بالإجزاء التقیید فی التکلیف الواقعی أصلاً ، فإنّ معنی الإجزاء فی هذه الموارد بقاء الأمارة السابقة علی اعتبارها بالإضافة إلی الأعمال السابقة وعدم اعتبار الأمارة الحادثة إلاّ بالإضافة إلی الأعمال الآتیة ؛ ولذا لو کان کشف الخلاف فی الأمارة السابقة وجدانا کان یجب تدارک العمل السابق والعمل علی الوظیفة الواقعیة .

لا یقال : من أین علمنا أنّ الأحکام الواقعیة فی الوقائع والتکالیف الشرعیة المجعولة فی حقّ المکلّفین لم تقیّد بعدم الإتیان بمؤدیّات الطرق والأمارات القائمة علی خلافها ، حتّی نلتزم بلزوم التدارک ، فیما إذا انکشف الخلاف مطلقاً ، أو فی خصوص الإنکشاف الوجدانی ؟

فإنّه یقال : نکتشف عدم التقیید من الأوامر الواردة بالاحتیاط فی الدین والوقائع المبتلی بها ، حتّی مع قیام الأمارة فیها علی تعیین الأحکام والتکالیف بنحو خبر العدل والثقة وغیرهما ، مما یحتمل مخالفتها مع الواقع ، کما یأتی الکلام فی ذلک فی بحث شرائط العمل بالأصل إن شاء اللّه تعالی ، کما أنّ إطلاق هذه الأخبار ینفی التصویب حتّی المنسوب منه إلی المعتزلی .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بقی فی المقام أمرٌ وهو أنّ ما ذکره الماتن قدس سره من عدم فعلیة الحکم الواقعی فی مورد قیام الأمارة علی خلافه _ سواء قیل بالإجزاء أم لا _ ینافی ما اختاره فی الجمع بین الحکم الظاهری والواقعی فی مبحث حجیة الامارات. وقد ذکرنا أنّ الفعلیة بالمعنی الذی التزم به وجعلها من مراتب الحکم أمرٌ غیر صحیح، ولیست الفعلیة فی التکلیف المجعول علی نحو القضیة الحقیقیة إلاّ تحقّق الموضوع لذلک التکلیف المجعول خارجا، وبینّا أنّ الفعلیة فی التکلیف الواقعی مع جهل المکلّف به لا ینافی الحکم الظاهری، حیث إنّ الحکم واقعیا کان أو ظاهریا ، مجعول اعتباری یکون منافاته مع المجعول الآخر، إمّا فی الملاک أو فی الغرض من الجعل، والحکم الظاهری والواقعی یختلفان فی الغرض ولا یتنافیان فی الملاک، ولتفصیل الکلام مقام آخر.

ص :430

فصل

فی مقدمة الواجب

وقبل الخوض فی المقصود، ینبغی رسم أمور:

الأول: الظّاهر أنّ المهم المبحوث عنه فی هذه المسألة، البحث عن الملازمة [1] بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته، فتکون مسألة أصولیة، لا عن نفس وجوبها، کما هو المتوهم من بعض العناوین، کی تکون فرعیة، وذلک لوضوح الشَرح:

مقدمة الواجب

:

[1] المبحوث عنه فی هذه المسألة هی الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته ، وأنّ التفکیک بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته ممتنع أم لا ، ولیس المراد من وجوب المقدّمة وجوبها المولوی التفصیلی ، بأن یکون القائل بوجوبها مدّعیا عدم تحقّق الأمر بشیء إلاّ مع الأمر بمقدّمته أیضاً ، لیقال کثیرا ما لا یکون الآمر عند أمره بشیءٍ ملتفتاً إلی مقدّمته ، فضلاً عن أمره بها أیضاً . بل المراد الوجوب المولوی الارتکازی ، بمعنی أنّ الآمر علی تقدیر لحاظ مقدّمة الشیء هل یعتبر الوجوب لها أیضاً أم لا ؟ ویعبّر عن هذا الوجوب بالتبعی وهو علی تقدیر ثبوته غیری ، بمعنی أنّ تعلّقه بما ینطبق علیه عنوان مقدّمة الواجب یکون لغرض الوصول بها إلی ذلک الواجب ، لا لتعلّق غرض بنفسها مع الإغماض عن ذیها .

وحیث إنّ نتیجة البحث عن الملازمة تقع فی طریق الاستنباط تکون المسألة أن البحث کذلک لا یناسب الأصولی، والاستطراد لا وجه له، بعد إمکان أن یکون البحث علی وجه تکون عن المسائل الأصولیة.

ثمّ الظّاهر أیضاً أنّ المسألة عقلیة، والکلام فی استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظیة کما ربّما یظهر من صاحب المعالم، حیث استدلّ علی النفی الشَرح:

أُصولیة ؛ إذ بناءً علی الملازمة یکون ثبوتها موجبا للعلم بوجوب الوضوء ونحوه فی

ص :431

قیاس استثنائی ، فیقال :

لو کان الشیء واجبا وجبت مقدّمته أیضاً، ولکنّ الصلاة تجب عند الزوال فتجب مقدّمتها أیضاً من الوضوء وتحصیل الساتر وتطهیر الثوب والبدن إلی غیر ذلک.

وظاهر بعض عبارات الأصحاب أنّ المبحوث عنه فی المسألة نفس وجوب المقدّمة لا الملازمة بین وجوب ذیها ووجوبها ، حیث ذکر فی عنوان البحث أنّ ما لا یتمّ الواجب إلاّ به ، واجب ، وعلیه لا تکون المسألة أُصولیة ، بل تکون فرعیّة ، فإنّ البحث عن وجوب المقدّمة کالبحث عن وجوب الوفاء بالنذر ، ووجوب طاعة أمر الوالد وغیرها من المسائل الفرعیة .

وقد ذهب السیّد الأُستاذ قدس سره إلی أنّ البحث فی مقدّمة الواجب من المبادئ الاحکامیّة(1) .

وفیه : أنّ المبادئ إمّا تصوّریة أو تصدیقیّة ، والأُولی هی التی یکون البحث فیها عن نفس موضوعات مسائل العلوم أو محمولاتها ، کالبحث عن المراد من الفاعل أو المفعول أو الحال أو التمییز من موضوعات مسائل علم النحو ، أو البحث عن المراد من الرفع أو النصب من محمولاتها .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والثانیة _ یعنی المبادئ التصدیقیة _ هی التی یحرز بها ثبوت المحمولات فی مسائل العلم لموضوعاتها ، وبتعبیرٍ آخر : بما أنّ مسائل العلم نظریة تحتاج إلی الواسطة فی الإثبات _ کنتائج المسائل الأُصولیة بالاضافة الی المسائل الفقهیة _ فتکون نتائج مسائل علم الأُصول وسائط فی إثبات المسائل الفقهیة .

فإن أُرید أنّ البحث فی المقدمة من المبادئ التصدیقیة لعلم الفقه فهو صحیح ، کما هوالحال فی جمیع المسائل الأُصولیة ، وإن أُرید من المبادئ الأحکام المبادئ التصوّریة لعلم الفقه ، أو معنیً آخر مستقلاًّ عنهما ، فلا یمکن المساعدة علیه ، بل لا نتصوّر للمبادئ الاحکام معنی فی مقابل المبادئ التصوریة والتصدیقیة .

نعم ، بناءً علی ما اشتهر بینهم ، والتزم به الماتن قدس سره ، من أنّ مسائل العلوم تکون

ص :432


1- (1) نهایة الأُصول : 1 / 142 .

بمفاد کان الناقصة ، حیث یبحث فی مسائل العلم عن العوارض الذاتیة لموضوع العلم المنطبق علی موضوعات مسائله ، انطباق الکلی علی مصداقه والطبیعی علی فرده ، یشکل جعل بحث الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته من مسائل علم الأُصول ، فإنّ الملازمة إن کانت بعینها حکم العقل فیکون البحث عن ثبوت الملازمة بحثا بمفاد کان التامّة ، حیث یبحث عن ثبوت موضوع علم الأُصول الذی عدّ منه حکم العقل أو عن ثبوت مصداقه وإن کانت أمراً واقعیا یکشف عنه العقل ، فیمکن أن یتکلّف فی المقام بأنّ البحث عنها بحث عن کشف العقل عن ذلک الأمر الواقعی، ولکن المذکور فی عنوان البحث الذی هو المعیار فی دخول المسألة فی مسائل العلم هو البحث عن أصل ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته.

وأمّا بناءً علی ما ذکرنا _ من أنّ المعیار فی کون مسألة من مسائل العلم هو ترتّب الغرض منه علیها ، سواء کان البحث فیها بمفاد کان التامّة أو الناقصة _ فلا کلام فی بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً إلی أن_ّه ذکرها فی مباحث الألفاظ، ضرورة أنّه إذا کان نفس الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ثبوتاً محل الاشکال، فلا مجال لتحریر النزاع فی الإثبات والدلالة علیها بإحدی الدلالات الثلاث، کما لا یخفی.

الشَرح:

کون البحث فی المقام بحثا عن مسألة أُصولیة ، وقد تقدّم ترتّب استنباط الحکم الشرعی علی نتیجة المسألة فی قیاس استثنائی .

ومنه ظهر أنّ المسألة لیست من مباحث الألفاظ من علم الأُصول ، کدلالة صیغة الأمر أو مادّته علی الوجوب أو الفور أو المرة ، بل المسألة عقلیة وأنّ الکلام فی ثبوت الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته بمعنی أنّ العقل هل یری إمکان تفکیک المولی وجوب الشیء عن وجوب مقدّمته أو لا ؟ فلا تکون المسألة من مباحث الألفاظ ، کما یظهر من کلام صاحب المعالم قدس سره ، حیث استدلّ علی نفی الملازمة بانتفاء الدلالات الثلاث ، وذکرها فی مباحث الألفاظ .

وبالجملة ، فالمهمّ فی المقام هو البحث عن الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته فإنّ ثبوتها موجب للعلم بوجوب مثل الوضوء عند وجوب الصلاة علی ما مرّ ، وأمّا الدلالة اللفظیة فلا یترتّب علی انتفائها عدم وجوب الوضوء عند

ص :433

وجوب الصلاة ؛ لإمکان ثبوت الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته من غیر دلالة لفظیة لخطاب الأمر بذی المقدّمة علی وجوب مقدّمته ، بل للملازمة ، ومعها تکون المقدّمة واجبة بوجوب ذیها . ولو کان ثبوت الملازمة بین الإیجابین محلّ مناقشةٍ ، فاللازم هو البحث عنها لترتّب المطلوب من المسألة الأُصولیة علیها ، لا البحث عن ثبوت الدلالة اللفظیة للأمر بذی المقدّمة أو عدمها ، بل عدم دلالة الأمر بشیء علی وجوب مقدّمته بالدلالة اللفظیة أمرٌ واضح لا ینبغی البحث عنه .

الأمر الثّانی: إنّه ربّما تقسم المقدمة إلی تقسیمات:

منها: تقسیمها إلی داخلیة [1] وهی الأجزاء المأخوذة فی الماهیة المأمور بها، والخارجیة وهی الأمور الخارجة عن ماهیته ممّا لا یکاد یوجد بدونه.

وربّما یشکل فی کون الأجزاء مقدمة له وسابقة علیه، بأن المرکب لیس إلا نفس الأجزاء بأسرها.

الشَرح:

المقدمة الداخلیة والخارجیة

:

[1] المراد بالمقدّمة الداخلیة هی الداخلة فی متعلّق الوجوب النفسی ، کأجزاء المرکّب المتعلّق به الوجوب . والخارجیة هی الخارجة عن ذلک المتعلّق ، کالشرائط . ویقع الکلام فی هذا الأمر من جهتین :

الأُولی: هل أجزاء المرکّب مقدّمة له ، أو أنّ الجزء بالإضافة إلی کلّه لا یتصّف بالمقدّمة ؟

والثانیة: أنّه علی تقدیر کون الجزء مقدّمة للکلّ ، فهل یتعلّق به الوجوب الغیری ، بناءً علی الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدمته ، أو أنّ المقدّمة الداخلیة لا یتعلّق بها الوجوب الغیری ، حتّی بناءً علی الملازمة ؟

وقد تعرّض قدس سره لما قیل فی الجهة الأُولی من منع کون الجزء مقدّمة للکلّ ، بأنّ کون شیءٍ مقدّمة والآخر ذا المقدّمة مقتضاه الإثنینیّة والتعدّد بینهما ، حیث تکون المقدمة سابقة فی التحقّق علی ذیها والحال أنّ الکلّ بحسب الخارج عین الإجزاء فلا إثنینیة بینهما .

وأجاب عن ذلک بأنّه لا یعتبر فی التعدّد بینهما التعدد الخارجی بأن یکون للمقدّمة وجود ولذیها وجود آخر ، بل یکفی التعدّد الاعتباری ، وهذا التعدّد متحقّق

ص :434

والحل: إن المقدمة هی نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الإجتماع، فیحصل المغایرة بینهما، وبذلک ظهر أن_ّه لابدّ فی اعتبار الجزئیة أخذ الشیء بلا شرط، کما لابد فی اعتبار الکلیة من اعتبار اشتراط الإجتماع.

وکون الأجزاء الخارجیة کالهیولی والصورة، هی الماهیة المأخوذة بشرط لا ینافی ذلک، فإنّه إنّما یکون فی مقام الفرق بین نفس الأجزاء الخارجیة والتحلیلیة، من الجنس والفصل، وأن الماهیة إذا أخذت بشرط لا تکون هیولی أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تکون جنساً أو فصلاً، لا بالإضافة إلی المرکب، فافهم.

الشَرح:

بین الجزء والکلّ ، حیث إنّ الکلّ هو الجزء بشرط سائر الأجزاء ، والمقدّمة هی الأجزاء لا بشرط ، وبما أن_ّه قد یتوهّم أنّ هذا الفرق بین الکلّ والجزء ینافی ما ذکر فی المعقول من أنّ جزء الطبیعی مع اعتباره «لا بشرط» یکون جزءا تحلیلیّا ، کالجنس والفصل ، ومع اعتباره «بشرط لا» یکون جزءا خارجیا ، کالهیولی والصورة ، تعرّض قدس سره لدفع هذا الوهم بما حاصله :

أنّ ما ذکر فی المعقول من اعتبار الجزء الخارجی «بشرط لا» إنّما هو فی مقام التفرقة بینه وبین الجزء التحلیلی للماهیة کالجنس والفصل ، وما ذکرناه من أنّ الجزء الخارجی «لا بشرط» هو فی مقام التفرقة بینه وبین الکلّ ، حیث إنّ الجزء بالإضافة إلی کلّه یکون «لا بشرط» ومع اختلاف الإضافة لا یکون فی البین تنافٍ ، وقد تقدّم فی بحث المشتقّ بیان المراد من قولهم «لا بشرط» و«بشرط لا» وأنّ مرادهم من «لا بشرط» و«بشرط لا» هناک بالإضافة إلی الحمل ، والمراد هنا بشرط سائر الأجزاء لا بشرط یکون جزءاً بالإضافة إلی الاجتماع .

أضف إلی ذلک أنّ الکلام فی المقام فی المرکّبات الاعتباریة لا الحقیقیة لینافی ما ذکروه فیالتفرقة بین الجنس والفصل وبین الهیولی والصورة «بلا شرط» ثمّ لا یخفی أنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع [1]، کما صرّح به بعض وذلک لما عرفت من کون الأجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتاً، وإنّما کانت المغایرة بینهما اعتباراً، فتکون واجبة بعین وجوبه، ومبعوثاً إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه، فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلین، ولو قیل بکفایة تعدد الشَرح:

ص :435

و«بشرط لا» . ولعلّه یشیر إلی ذلک بقوله «فافهم».

[1] ذکر قدس سره أنّ الجزء وإن کان مقدّمة للکلّ إلاّ أنّه ینبغی خروجه عن محلّ الخلاف فی بحث الملازمة بین وجوب فعل ووجوب مقدّمته ، حیث إنّه لا یتعلّق به الوجوب الغیری ولو علی الملازمة ، لما تقدّم من أنّ الأجزاء عین الکلّ ذاتا ، والاختلاف بینها وبین الکلّ بالاعتبار ، فیکون الوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ متعلّقاً بنفس الأجزاء ، فلا تکون واجبة بوجوبٍ آخر ؛ لامتناع اجتماع المثلین ، حتّی علی بناءً جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحدٍ بعنوانین.

وذلک لأنّ الجهة المصحّحة للاجتماع _ کما سیأتی _ هی الجهة التقییدیة ، فمع تعدّدها _ بأن یکون فی فعلٍ جهتان _ جاز أن یتعلّق به الأمر من جهة ، والنهی من جهةٍ أُخری ، ولیس عنوان المقدّمة عنوانا تقییدیا ؛ لأنّ الوجوب الغیری لا یتعلّق به ، حیث إنّ ذا المقدّمة لا یتوقّف علی تحقّق عنوان المقدّمة ، بل علی ما یکون بالحمل الشائع مقدّمة ، کالوضوء والغسل وتحصیل الساتر بالاضافة إلی الصلاة . وبما أنّ الجزء یتعلّق به الوجوب النفسی فی ضمن تعلّقه بالکل ، لسبقه علی الوجوب الغیری ، فلا یمکن أن یتعلّق به الوجوب الغیری للزوم اجتماع المثلین ، نعم عنوان المقدّمة جهة تعلیلیة ، یعنی انطباق عنوان المقدّمة علی شیء یوجب تعلّق الأمر الغیری به لولا المحذور .

وبالجملة وحدة تعلّق الأمر النفسی والغیری مانعة عن تعلّق الوجوبین بالجزء ، الجهة، وجواز اجتماع الأمر والنّهی معه، لعدم تعددها ها هنا، لأنّ الواجب بالوجوب الغیری، لو کان إنّما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدمیتها والتوسل بها إلی المرکب المأمور به، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما کان بالحمل الشائع مقدمة، لأن_ّه المتوقف علیه، لا عنوانها، نعم یکون هذا العنوان علة لترشح الوجوب علی المعنون.

الشَرح:

وبما أنّ الأمر النفسی سابق فی المرتبة علی الوجوب الغیری ، یتعلّق به الأمر النفسی فقط دون الغیری حتّی مع ثبوت ملاک الأمر الغیری أیضاً فیه .

أقول : محصّل کلامه فی المقام أنّ المقدّمة للکلّ نفس الأجزاء ، ولکن لم یلاحظ فیها وصف اجتماعها لا أن_ّه لا یکون لها اجتماع ، وذو المقدّمة هو الکلّ ،

ص :436

یعنی الأجزاء بلحاظ اجتماعها ، وعبّر عن فرض عدم لحاظ الاجتماع بلا بشرط ، وعن لحاظ الاجتماع بشرط شیء ، وعلیه فیکون للکلّ المتألّف من عشرة أجزاء ، عشر مقدّمات داخلیة ؛ لتوقّف الکلّ علی کلٍّ منها ، ولکن مع ذلک لا یتعلّق بها الوجوب الغیری ؛ للزوم اجتماع المثلین من تعلّقه بها .

لکن الصحیح أنّ الأجزاء لا تکون مقدّمة لحصول الکلّ ، بل الأجزاء عین الکلّ خارجا ، والمقدّمة تقتضی الاثنینیة الخارجیة ؛ وذلک لأنّ الإنسان إذا أراد فعلاً وتوقّف حصول ذلک الفعل علی أمرٍ آخر فی الخارج تتولّد من إرادته لذلک الفعل إرادة أُخری تتعلّق بذلک الأمر ، فیأتی به بداعویة الإرادة المتولدة من إرادته لذلک الفعل ، فتکون إرادة الفعل أصلاً ومنشأً للإرادة المتعلّقة بذلک الأمر ، وبناءً علی الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته ، حیث إنّ الفعل یتوقّف حصوله خارجا علی أمرٍ آخر ، تکون الإرادة الطلبیة من المولی المتعلّقة بفعل ، منشأً لإرادته الطلبیة الأُخری المتعلّقة بذلک الأمر الموقوف علیه ، وهذا التوقّف الخارجی الموجب فانقدح بذلک فساد توهم اتصاف کلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسی والغیری، باعتبارین، فباعتبار کونه فی ضمن الکل واجب نفسی، وباعتبار کونه ممّا یتوسل به إلی الکل واجب غیری، اللّهمّ إلا أن یرید أن فیه ملاک الوجوبین، وإن کان واجباً بوجوب واحد نفسی لسبقه، فتأمل.

الشَرح:

لحصول إرادةٍ أُخری من إرادة الفعل ، هو الموجب لتعدّد طلب المولی ، فهناک طلبان ؛ أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعیة ، ومن الظاهر أنّ موارد الکلّ والجزء لا تکون من هذا القبیل ؛ إذ من یرید الإتیان بالکلّ یأتی بالأجزاء بنفس تلک الإرادة المتعلّقة بالکلّ ، حیث إنّ الکلّ نفس تلک الأجزاء ، فیکون الحال فی الطلب المولوی المتعلّق بالکلّ أیضاً کذلک ، حیث لا یکون فی البین موجب لتولّد طلبٍ آخر یتعلق بالأجزاء ، فإنّ الأجزاء عین الکلّ ، ولا یؤتی بها إلاّ بإرادة الکلّ لا بإرادةٍ أُخری ، وإن شئت قلت : تکون الإرادة بالإضافة إلی کلّ جزءٍ ضمنیة لا غیریة ، فیکون طلبها أیضاً ضمنیا ، فما ذکره قدس سره من حصول ملاک الوجوب الغیری فی الأجزاء أیضاً ، لکون الجزء مقدّمة لحصول الکلّ ، لا یمکن المساعدة علیه بوجه .

والعجب أنّه قدس سره أنکر علی من زعم أنّ الإتیان بالفرد مقدّمة للإتیان بالطبیعی ،

ص :437

وذکر أنّ الطبیعی عین الفرد ولا معنی للمقدّمیة ، مع أنّ الاختلاف بین الطبیعی وفرده اعتبارا أوضح من اختلاف الأجزاء مع الکلّ ؛ لصدق الطبیعی علی غیر المأتی به ، بخلاف الکلّ فإنّه لا یکون إلاّ عین الأجزاء ولا یصدق علی غیرها ، وکما أنّ الموجد للفرد یأتی به بنفس الإرادة المتعلّق منه بالإتیان بالطبیعی ، کذلک الحال بالإضافة إلی الآتی بالمرکّب.

ولو أُغمض عن ذلک وبُنی علی أنّ الجزء مقدّمة للکلّ وفیه ملاک الوجوب الغیری أیضاً وأنّه لا یمکن اجتماع المثلین ، فلم لا یلتزم بتعلّق وجوب واحد مؤکّد ، . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

نظیر سائر الموارد التی یکون فی الفعل ملاکین لوجوبین ، فاجتماع الوجوبین بالمعنی الذی ذکره غیر لازم ، وبمعنی التأکّد لا محذور فیه ، بل هو واقع کثیرا ، کما إذا نذر المکلّف الإتیان بفریضته الیومیة ، فإنّ مع النذر یتأکّد وجوبها لا محالة .

وما قیل من أنّ التأکّد مع اختلاف الرتبة لا یمکن، فهو کما تری ، إذ اختلاف ملاک الحکمین فی الزمان _ بمعنی عدم إمکان اجتماعهما _ ینافی التأکّد ، وأمّا اختلافهما فی الرتبة فلا یمنع التأکّد.

أضف إلی ذلک أنّ الإیجاب وغیره من الأحکام أمر اعتباری لا یجری فیه مسألة اجتماع المثلین أو الضدّین ، ولا یکون من العرض بالإضافة إلی متعلّقه وموضوعه ، بل إن کان عرضا فهو من فعل المولی ، وإنّما لا یمکن اعتبار حکمین علی متعلّقٍ واحدٍ باعتبار تنافی ملاکهما ، حیث إنّ الحکم یحتاج إلی ملاک غالب أو خالص فی متعلّقه أو من ناحیة الغرض من جعلهما ؛ ولذا لا یمکن ثبوت حکمین متضادّین فی متعلّقٍ واحد یکون تضادّهما من حیث الملاک والغرض ، وأمّا إذا لم یکن فی ناحیة الملاکین تناف ، ولا فی ناحیة الغرض تضاد ، فلا مانع من اعتبارهما کما فی مسألة نذر الفریضة.

ثمّ إنّه قد یقال إنّه یترتب علی تعلّق الوجوب الغیری بالجزء _ کتعلّقه بسائر المقدّمات _ انحلال العلم الإجمالی بالتکلیف عند دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین ، کما إذا دار أمر الصلاة بین کون أجزائها تسعة أو عشرة ، فإنّه علی القول بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء ینحّل العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی

ص :438

بوجوب التسع ، إمّا نفسیّا أو غیریّا ، کما هو ظاهر کلام الشیخ الأنصاری قدس سره فی ذلک هذا کله فی المقدمة الداخلیة، وأم_ّا المقدمة الخارجیة، فهی ما کان خارجاً عن المأمور به، وکان له دخل فی تحققه، لا یکاد یتحقق بدونه، وقد ذکر لها أقسام، وأطیلَ الکلامُ فی تحدیدها [1] بالنقض والإبرام، إلاّ أن_ّه غیر مهم فی المقام.

ومنها: تقسیمها إلی العقلیة والشرعیة والعادیة:

فالعقلیة هی ما استحیل واقعاً وجود ذی المقدمة بدونه.

والشرعیة علی ما قیل: ما استحیل وجوده بدونه شرعاً، ولکنه لا یخفی

الشَرح:

البحث ویکون وجوب الزائد مشکوکا .

ولکن لا یخفی أنّ الأجزاء متعلّقة للوجوب الضمنی لا محالة ، فیکون تعلّق الوجوب بالأقلّ محرزا ؛ إذ هی إمّا نفس متعلّق الوجوب النفسی إذا کان الواجب هو الأقلّ ، أو نفس متعلّق الوجوب الضمنی إذا کان الواجب هو الأکثر ، ولو کان هذا المقدار من المعلومیة موجباً لانحلال العلم لما کان حاجة إلی ثبوت الأمر الغیری بها ، وإن لم یکن کافیا فلا یفید فی الانحلال الالتزام بتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء ؛ لما ذکروا من أنّ الوجوب الضمنی أو الغیری یکون فعلیته بفعلیة الوجوب المتعلّق بالواجب النفسی لو کان ذلک هو الأکثر ، ولو کان فعلیة الوجوب المتعلّق بالأقلّ موجبا لعدم فعلیة الوجوب النفسی إذا کان متعلّقا بالأکثر لزم الخلف .

مع أن_ّه یلزم من الانحلال المزبور عدم الانحلال ، وذلک فإنّ فعلیة وجوب الأقلّ علی کلّ تقدیرٍ یستلزم عدم فعلیة الوجوب النفسی لو کان متعلّقا بالأکثر ، وعدم فعلیته یوجب أن لا یکون وجوب الأقل فعلیّا علی کلّ تقدیر المستلزم لعدم الانحلال ، وما یلزم من وجوده عدمه محال .

[1] قد ذکر فی أقسام المقدّمة الخارجیة السبب والمقتضی والشرط وعدم المانع ، وأُطیل الکلام فی تعریف کلٍّ منها ، کما فی القوانین وغیرها ، إلاّ أنّه لا یترتّب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المهمّ _ وهو ثبوت الملازمة بین وجوب شیءٍ ووجوب مقدّمته _ علی تحقیق الفرق بین السبب والشرط والمانع .

ص :439

المقدّمة العقلیة والشرعیة والعادیّة

:

ومن تقسیمات المقدّمة ، تقسیمها إلی شرعیة وعقلیة وعادیة .

أمّا المقدّمة الشرعیة فهی ما یتوقّف الواجب علی أمرٍ لکون التقیّد به مأخوذا فی الواجب النفسی ، کالطهارة بالإضافة إلی الصلاة ، فإنّ الطهارة بنفسها وإن لم تؤخذ فی متعلّق الأمر بالصلاة إلاّ أنّ تقیّد الصلاة بها داخل فی تعلّق الأمر ، وتکون نفس الطهارة مقدّمة خارجیة شرعیة لتوقّف الصلاة المأمور بها علیها شرعا ، ولکن لا یخفی أن_ّه بعد فرض أخذ التقیّد بالطهارة فی متعلّق الأمر بالصلاة یکون توقّف الصلاة المأمور بها علیها عقلیا لانتفاء المشروط والمقیّد بانتفاء شرطه وقیده عقلاً .

وأمّا المقدّمة العقلیة فهی ما یتوقّف الواجب النفسی علی أمرٍ من غیر أن یکون مأخوذا فیه لا بنفسه ولا بتقیّده ، کتوقّف الحجّ من النائی علی السفر ، ویطلق علی السفر المقدّمة الخارجیة العقلیة .

وأمّا المقدّمة العادیّة فإن أُرید بها ما لا یتوقّف الواجب علیها عقلاً ، بأن أمکن الإتیان بالواجب فعلاً بدونها ، ولکن قد جرت العادة علی الإتیان بها قبل الواجب ، کالأکل والشرب قبل الفجر بالإضافة إلی صوم الغد ، فلا وجه لإدخالها فی محلّ الکلام فی المقام ، فإنّه لا یتعلّق به الوجوب المولوی حتّی بناءً علی القول بالملازمة ؛ لعدم کونها ممّا یتوقّف علیه الواجب .

وإن أُرید منها ما لا یکون الإتیان بالواجب بدونها ممتنعا ذاتا ، ولکنّ الواجب رجوع الشرعیة إلی العقلیة، ضرورة أن_ّه لا یکاد یکون مستحیلاً ذلک شرعاً، إلاّ إذا أخذ فیه شرطاً وقیداً، واستحالة المشروط والمقید بدون شرطه وقیده، یکون عقلیاً.

وأم_ّا العادیة، فإن کانت بمعنی أن یکون التوقف علیها بحسب العادة، بحیث یمکن تحقق ذیها بدونها، إلاّ أنّ العادة جرت علی الاتیان به بواسطتها، فهی وإن کانت غیر راجعة إلی العقلیة، إلاّ أن_ّه لا ینبغی توهم دخولها فی محل النزاع، وإن کانت بمعنی أن التوقف علیها وإن کان فعلاً واقعیاً، کنصب السلم ونحوه للصعود علی السطح، إلاّ أن_ّه لأجل عدم التمکن من الطیران الممکن عقلاً فهی أیضاً راجعة إلی العقلیة، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغیر الطائر فعلاً، وإن کان طیرانه ممکناً ذاتاً، فافهم.

ص :440

الشَرح:

موقوف علیها فعلاً ، کنصب السلّم للصعود علی السطح لغیر المتمکّن من الطیران ، وهو الإنسان الموجود المکلّف بالفعل ، فهذا القسم داخل فی المقدّمة العقلیة لامتناع تحقّق الصعود أو الکون علی السطح للإنسان فعلاً بدون نصب السلّم ، ولا فرق بین الکون علی السطح الموقوف علی نصب السلّم وبین المشی إلی الحجّ من النائی .

وبالجملة تنحصر مقدّمة الواجب بالعقلیة ، غایة الأمر کون شیء مقدّمة عقلیة له تارة ینشأ من تقیّد الواجب النفسی بذلک الشیء ، کما فی توقف الصلاة المأمور بها علی الطهارة ، وأُخری من توقّف الواجب النفسی علی ذلک الشیء خارجا من غیر أن یؤخذ فی الواجب تقیّده به ، کالحجّ بالاضافة إلی سفر النائی .

ص :441

ومنها: تقسیمها إلی مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة الوجوب، ومقدمة العلم [1].

لا یخفی رجوع مقدمة الصحة إلی مقدمة الوجود، ولو علی القول بکون الأسامی موضوعة للأعم، ضرورة أنّ الکلام فی مقدمة الواجب، لا فی مقدمة المسمی بأحدها، کما لا یخفی.

الشَرح:

المقدّمة الوجودیة والعلمیة و...

:

[1] لا یخفی أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلی مقدّمة الوجود ، ولو علی القول بأن أسامی العبادات موضوعة للأعمّ ، فإنّ الکلام فی المقام فی مقدمات الواجب لا فی مقدّمات المسمّی بأحد تلک الألفاظ .

وإذا کان التقیّد بالطهارة مأخوذا فی متعلّق الوجوب النفسی ، تکون الطهارة بنفسها من مقدّمات وجود الصلاة المأمور بها کما مرّ ، وهذا الکلام بناءً علی ما ذکرنا فی بحث التعبدی والتوصلی من إمکان أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر بالصلاة _ مثلاً _ صحیح ، فإنّه علیه تنحصر مقدّمة الواجب بمقدّمة الوجود .

وأمّا بناءً علی ما سلکه الماتن قدس سره وغیره من امتناع أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر بها تکون مقدّمة الصحّة غیر مقدّمة الوجود لا محالة ، ویتعیّن تقسیم المقدّمة إلی مقدّمة الوجود وإلی مقدّمة الصحّة ، حیث یمکن للقائل بالملازمة نفی الملازمة بین وجوب شیء ومقدّمة صحّته والإلتزام بها فی خصوص مقدّمة الوجود کما علیه الماتن قدس سره أیضاً ، فلا وجه لاعتراضه علی التقسیم المزبور . نعم ما ذکر فی کلماتهم مثالاً لمقدّمة الصحّة من الشرائط محلّ نظر ، بل منع .

وعلی کلّ حالٍ ، فمقدّمة الوجوب خارج عن مورد الکلام فی المقام ، فإنّه ولا إشکال فی خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، وکذلک المقدمة العلمیة، وإن استقل العقل بوجوبها، إلاّ أن_ّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً لیؤمن من العقوبة علی مخالفة الواجب المنجز، لا مولویاً من باب الملازمة، وترشح الوجوب علیها من قبل وجوب ذی المقدمة.

الشَرح:

ص :442

لا یمکن أن یتعلّق الوجوب الغیری بتلک المقدّمة ، حیث لا وجوب للواجب النفسی إلاّ علی تقدیر حصولها ، وتعلّق الوجوب بها بعد حصولها من طلب الحاصل .

وکذلک مقدّمة العلم بحصول الواجب ، فإنّ لزوم مقدّمة العلم لا یبتنی علی الملازمة بین وجوب شیء وجوب مقدّمته ، حیث إنّ اللزوم فی مقدّمة العلم عقلی لا شرعی ، وملاک اللزوم العقلی فیها غیر ملاک الوجوب الشرعی الغیری لمقدّمة الوجود ، فإنّ المقدّمة العلمیة لا تکون مقدّمة لوجود الواجب ضرورة أنّ الصلاة إلی القبلة _ مثلاً _ لا تتوقّف علی الإتیان بها إلی جهتین فی مورد اشتباه القبلة فیها ، بل إحراز الإتیان بالصلاة إلی القبلة موقوف علی تکرارها بالإتیان إلیهما ، وتحصیل العلم بالإتیان بالمأمور به لازم عقلاً ؛ للأمن من العقاب ، فیکون أمر الشارع به کأمره بالإطاعة لمجرّد الإرشاد إلی ما یستقلّ به العقل فی مقام الامتثال من لزوم إحراز سقوط التکلیف والفرار من العقاب المحتمل ، بخلاف الوجوب الشرعی لمقدّمة وجود الواجب ، فإنّه منبعث من وجوب الواجب النفسی علی ما تقدّم ، وملاکه المقدمیة فی الوجود والتحقّق ، کما لا یخفی .

ص :443

ومنها: تقسیمها إلی المتقدّم، والمقارن، والمتأخر، بحسب الوجود بالإضافة إلی ذی المقدمة [1]، وحیث إنّها کانت من أجزاء العلة، ولا بد من تقدمها بجمیع أجزائها علی المعلول أشکل الأمر فی المقدمة المتأخرة، کالأغسال اللیلیة المعتبرة فی صحة صوم المستحاضة عند بعض، والإجازة فی صحة العقد علی الکشف الشَرح:

المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخرة

:

[1] قد ذکروا فی تقسیمات المقدّمة تقسیمها إلی المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة، وهذا التقسیم بلحاظ زمان حصول المقدّمة بالإضافة إلی زمان حصول ذیها، وبما أنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّه لا یحصل المعلول إلاّ بحصول علته بتمام أجزائها، ضرورة أنّ المؤثر فی المعلول علّته، ففرض شیء من أجزاء العلة، وفرض حصول المعلول قبله، غیر ممکن، حیث إنّه لو لم یکن ذلک الشیء مؤثّرا ودخیلاً فی حصول المعلول لزم الخلف، وإن کان مؤثرا أو دخیلاً لزم تأثیر المعدوم فی حصول الشیء.

الشرط المتأخّر

:

وعلی ذلک، فقد أشکل الأمر فی موارد قد ثبت فیها من الشرع کون شیء شرطا للمأمور به أو التکلیف أو الوضع، مع أن_ّه متأخّر فی الوجود عن زمان وجود المأمور به، أو التکلیف، أو الوضع، کالأغسال اللیلیّة المعتبرة عند بعض فی صحّة صوم المستحاضة ، فإنّ الصوم یتحقّق فی الیوم وینتهی بدخول اللیل مع أنّ شرطه _ وهو الغسل _ یکون فی اللیل بعد انقضاء الیوم .

ومنها کون الإجازة شرطا فی العقد الفضولی بنحو الکشف ، فإنّ الملکیة تحصل من حین العقد ، مع أنّ شرط حصولها وهو الإجازة توجد بعد حین ، وکالوضوء من ماء قد وقف علی الوضوء للصلاة فی المسجد ، فإنّ جواز الوضوء منه کذلک، بل فی الشرط أو المقتضی المتقدم علی المشروط زماناً المتصرِّم حینه، کالعقد فی الوصیة والصرف والسلم، بل فی کلّ عقد بالنسبة إلی غالب أجزائه، لتصرّمها حین تأثیره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زماناً، فلیس إشکال انخرام القاعدة العقلیة مختصاً بالشرط المتأخر فی الشرعیات _ کما اشتهر فی الألسنة _ بل یعمّ الشرط والمقتضی المتقدّمین المتصرّمین حین الأثر.

الشَرح:

ص :444

یحصل من قبل مع أنّ شرط الجواز _ وهو الصلاة فی المسجد _ یحصل بعد ذلک .

والمذکور فی الکلمات وإن کان التعرّض للإشکال فی الشرط المتأخّر إلاّ أنّ الماتن قدس سره قد أجراه فی المقتضی أو الشرط المتقدّم أیضاً، فإنّ ملاک الاستحالة المزعومة فی المتقدّم والمتأخّر أمرٌ واحد، وهو تحقّق الشیء مع عدم ما یتوقّف علیه.

ولیس المراد أنّه لو کان الشیء من أجزاء العلّة فلا یمکن تحقّقه قبل وجود المعلول بزمان ، بل المراد أن_ّه لابدّ فی تأثیره ودخله من بقائه إلی زمان تحقّق سائر أجزاء العلّة ، إلاّ إذا کان السابق من قبیل المعد ، بأن یکون السابق مقدّمة لللاحق ، کالصعود علی السطح بالسلّم ، فإنّ التدرّج فی السلّم للکون علی السطح لأجل أنّ الصعود علی الدرج الأوّل مقدّمة للکون علی الدرج الثانی ، والصعود من الثانی مقدّمة للکون علی الدرج الثالث وهکذا ، والتدریجیة فی مثل ذلک لا بأس بها ، بل لابدّ منها لامتناع الطفرة .

والمراد من تقدّم العلّة علی المعلول بجمیع أجزائها هو التقدّم رتبة المصحّح لدخول الفاء علی المعلول ، بأن یقال : (وجدت فوجد) لا التقدّم بحسب الزمان ، وإلاّ تخلّف المعلول عن علّته التامّة .

والتحقیق فی رفع هذا الاشکال أن یقال [1]: إنّ الموارد التی توهم انخرام القاعدة فیها، لا یخلو إما یکون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتکلیف، أو الوضع، أو المأمور به.

الشَرح:

[1] قد قسّم قدس سره موارد توهّم إنخرام القاعدة العقلیة إلی قسمین ؛ الأوّل : أن یکون المتقدّم أو المتأخّر شرطا للتکلیف أو الوضع ، یعنی الحکم الوضعی ، والثانی : ما یکون المتقدّم والمتأخّر شرطا فی متعلّق التکلیف .

الأول؛ شرط الحکم

وحاصل ما ذکره فی دفع الإشکال فی القسم الأوّل هو أنّ الدخیل فی ثبوت التکلیف أو الوضع لحاظ ما یسمّی شرطا لا تحقّقه الخارجی ، لیقال بأنّ المتأخّر أو المتقدّم لا یؤثّر ولحاظهما کلحاظ الشرط المقارن مقارن لجعل التکلیف ، أو اعتبار الوضع وانتزاعه

ص :445

وبتعبیرٍ آخر : بما أنّ الحکم فعل اختیاری للحاکم یکون صدوره عنه موقوفا علی انقداح الداعی فی نفسه إلی جعله ، ولیس الداعی له إلیه ما یطلق علیه الشرط بوجوده الخارجی ، بل بوجوده اللحاظی ، ویکون لحاظه مقارنا لجعل الحکم ، سواء کان وجوده الخارجی متقدّما علی الحکم أو متأخّرا أو مقارنا ، بلا فرقٍ فی ذلک بین الحکم التکلیفی والوضعی.

وناقش فی هذا الدفع المحقّق النائینی قدس سره وبنی علی امتناع الشرط المتأخّر للتکلیف أو الوضع.

وحاصل مناقشته : أنّ جعل الحکم علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یجعله علی وجه الإطلاق بمفاد القضیة الخارجیة ، کما إذا أم_ّا الأوّل: فکون أحدهما شرطاً له، لیس إلا أن للحاظه دخلاً فی تکلیف الآمر، کالشرط المقارن بعینه، فکما أن اشتراطه بما یقارنه لیس إلاّ أنّ لتصوره دخلاً فی أمره، بحیث لولاه لما کاد یحصل له الداعی إلی الأمر، کذلک المتقدم أو المتأخر.

الشَرح:

أحرز المولی الصلاح فی کون عبده خارج البلد فی زمان خاصّ لاستقبال ولده من سفره ، فیأمره بالذهاب إلی خارج البلد فی ذلک الزمان من غیر تعلیق واشتراط ، فیکون الحکم فی هذه الصورة فعلیا حتّی لو فرض عدم قدوم ولده من سفره فی ذلک الزمان کما إذا کان اعتقاد المولی بقدومه مخطئاً ، لأنّ فعلیة الحکم فی هذا النحو من الجعل لا تکون مسبّبة عن تحقّق قدوم ولده خارجا ، بل یکون اعتقاده ولحاظه داعیا للمولی إلی طلبه وحکمه.

وبالجملة الدخیل فی هذا النحو من الطلب هو اللحاظ والاعتقاد بحصول الشیء ، وهذا حاصل مقارنا للجعل والطلب ، ولا عبرة بحصول نفس الملحوظ فی المستقبل ، فلا مجال لتوهّم انخرام القاعدة العقلیة فی نظائره .

وأمّا النحو الثانی: فهو أن یجعل الحکم بمفاد القضیة الحقیقیة معلّقاً علی حصول شرط ، کالمثال فیما إذا کان حکمه بالکون فی خارج البلد معلّقا علی مجیء الولد فی ذلک الزمان ، بأن کان الجعل بمفاد القضیة الحقیقیة ، وفی هذا الفرض تکون فعلیة الحکم دائرة مدار تحقّق الشرط خارجا ، ولو أحرز العبد قدوم الولد فی ذلک

ص :446

الزمان لزم علیه الکون خارج البلد ، ویکون قدومه کاشفا عن فعلیة الحکم من الأوّل ، والشرط المتأخّر بهذا المعنی غیر ممکن ؛ لأنّ الدخیل فی فعلیة الحکم وجود الشرط وتحقّقه خارجا ، وکیف یثبت الحکم ویکون فعلیا فی زمان مع عدم حصول شرطه فیه ؟

وبالجملة: حیث کان الأمر من الأفعال الإختیاریة، کان من مبادئه بما هو کذلک تصوَّر الشیء بأطرافه، لیرغب فی طلبه والأمر به، بحیث لولاه لما رغب فیه ولما أراده واختاره، فیسمی کلّ واحد من هذه الأطراف التی لتصورها دخل فی حصول الرغبة فیه و إرادته شرطاً، لأجل دخل لحاظه فی حص_وله، کان مقارناً له أو لم یکن کذلک، متقدماً أو متأخراً ، فکما فی المقارن یکون لحاظه فی الحقیقة شرطاً، کان

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : الإشکال فی المجعول بنحو القضیة الحقیقیة وشرائط فعلیة الحکم لا فی شرائط جعله ، وإلاّ فشرط الجعل _ ومنه کون الفعل الذی یعتبره واجبا ذا مصلحة _ یکون أیضاً باللحاظ واعتقاد المولی ولو بنحو الخطأ ، فما ذکره فی الکفایة خلط بین شرائط الجعل وشرط فعلیة المجعول(1) .

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإنّ فعلیة الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة تابعة لکیفیة الجعل ، ولکن الشرط بوجوده الخارجی _ کقدوم الولد فی المثال _ غیر مؤثّر فی فعلیة الحکم ؛ إذ فعلیة الحکم کانت علی تقدیر حصول الشرط فی المستقبل لکون الجعل بهذا النحو وعدم فعلیته علی تقدیر عدم حصوله إنّما هو لعدم الجعل علی تقدیر العدم فی الحال.

وبالجملة لا مانع من لحاظ المولی عند الجعل أمرا متقدّما أو متأخرا أو مقارنا لحکمه وجعل الحکم علی تقدیر حصول ذلک الأمر بمعنی أن تکون فعلیّة الحکم تابعة لحصول الشرط المزبور علی النحو الذی لاحظه ، ولو کان الوجوب المعتبر من أوّل الیوم علی تقدیر حصول ذلک الأمر فی آخره إلاّ أنّ الشرط لا یکون مؤثّرا فی فعلیة الحکم لیقال بأنّ المعدوم لا یؤثّر ، بل کما ذکرنا فعلیة الحکم علی تقدیره . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص :447


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 224 .

الشَرح:

تخضع للجعل علی ذلک التقدیر ، وعدم جعله علی تقدیر آخر .

وممّا ذکرنا یظهر الحال فی الوضع وأن_ّه لا مانع من اعتبار الملکیة _ مثلاً _ فی العقد الفضولی من حین حصول العقد علی تقدیر إجازة المالک ولو بعد حین بنحو القضیة الحقیقیة . وما یقال من أنّ الحکم لا یتقدّم علی موضوعه ، وشرائط الحکم کلّها راجعة إلی قیود الموضوع ، غیر سدید ، فإنّ الحکم لا یکون معلولاً ولا عرضا لموضوعه فیما کان أمرا إنشائیا ، کما هو الفرض فی المقام ، ولا بأس بتقدّمه علی الموضوع زمانا مع کون اعتباره وجعله علی هذا النحو .

نعم ، ظاهر خطاب الحکم فیما إذا لم یقترن بقرینة داخلیة أو خارجیة اتّحاد زمان الحکم والموضوع فی الفعلیة فیحتاج رفع الید عن هذا الظهور إلی قرینة خاصة ؛ ولذا التزمنا فی العقد الفضولی بالکشف الحکمی حیث إنّ ظاهر الأدلّة أن إمضاء المعاملة مقارن لحصول استنادها إلی المالک ورضا من یعتبر رضاه بها .

والمتحصّل أنّه لا فرق فی الحکم المجعول بنحو القضیة الخارجیة والحقیقیة من جهة توقّف الفعلیة فیهما علی ثبوت الجعل ، وإنّما الفرق بینهما فی أنّ فعلیة المجعول بنحو القضیة الخارجیة بنفس الجعل فقط ، وفی المجعول بنحو القضیة الحقیقة بحصول ما علّق الحکم علیه خارجا علی النحو الذی اعتبره فی الجعل .

وممّا یترتب علی ذلک أنّ شخصاً لو اعتقد فی جماعة أنّهم أصدقائه وأذن لهم فی دخول داره بأن قال : (ادخلوا داری) أو : (فلیدخل کل منکم داری) فیجوز لکلّ منهم الدخول ولو لم یکن فی الواقع من أصدقائه ، بخلاف ما إذا قال : (فلیدخل داری منکم من کان صدیقا لی) فإنّه لا یجوز الدخول إلاّ لمن کان صدیقا له .

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّه لیس المراد بالحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة هی فیهما کذلک، فلا إشکال، وکذا الحال فی شرائط الوضع مطلقاً ولو کان مقارناً، فإن دخل شیء فی الحکم به وصحة انتزاعه لدی الحاکم به، لیس إلا ما کان بلحاظه یصح انتزاعه، وبدونه لا یکاد یصح اختراعه عنده، فیکون دخل کل من المقارن وغیره بتصوره ولحاظه وهو مقارن، فأین انخرام القاعدة العقلیة فی غیر المقارن؟ فتأمل تعرف.

الشَرح:

ص :448

کلیة الحکم وبالمجعول بنحو القضیة الخارجیة القضیة الشخصیة بأن یوجه التکلیف بفعل إلی شخص معیّن ، فإنّه یمکن أن تکون القضیة الشخصیة حقیقیة من جهة قید التکلیف کما مثّلنا .

والمعیار فی کون القضیة حقیقیة عدم جعل الحکم بنحو الإطلاق ، بل علی تقدیر تحقّق أمر أو أُمور سواء کان الحکم کلّیا أو شخصیا ، بخلاف القضیة الخارجیة من جمیع الجهات فإنّه لا تقیید ولا تعلیق فیها بجهة من جهات الحکم ، فکلّ جهة فرضها المولی وجعل الحکم مقیدا بها ، تکون فعلیة المجعول علی تقدیر فعلیة ذلک الأمر سواء کان الحکم شخصیا أو کلیّا .

لا یقال : کلّ ما هو شرط الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة أو کلّ ما أحرزه المولی من الأمر المتأخّر بکونه شرطاً فی حکمه بنحو القضیة الخارجیة إمّا أن یکون لوجود المتأخّر دخالة فی صلاح الحکم المجعول أو لا ، بأن یکون للحاظ ذلک الأمر المتأخّر تمام الدخل فی صلاح الحکم تکلیفا أو وضعا دون وجوده ولا أظنّ أن یلتزم أحد به ؛ ولذا لو أخطأ المولی وجعل الحکم بنحو القضیة الخارجیة باعتقاد حصول ذلک المتأخّر ولم یحصل ، لم یکن لحکمه أیّ صلاح ، وإذا کان الدخیل فی صلاحه وجود ذلک الأمر المتأخّر فکیف یکون فی حکمه صلاح مع أنّ ذلک المتأخّر لم یحصل ، فیعود محذور تأثیر المعدوم فی الموجود .

وأم_ّا الثانی: فکون شیء شرطاً للمأمور به [1] لیس إلاّ ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان، به یکون حسناً أو متعلقاً للغرض، بحیث الشَرح:

فإنّه یقال : إنّما الإشکال کان فی ثبوت الحکم متقدّما أو متأخّرا مع عدم الشرط حال ثبوته ، لتقدّمه أو تأخّره ، وقد أجبنا عن ذلک بأنّ ثبوته کذلک یخضع لکیفیة جعله ، وقد فرض أنّ الدخیل فی جعله لحاظه ، فالمتأخّر أو المتقدّم بلحاظه دخیل فی جعل المولی ودخیل فی فعلیة الحکم إذا کان الجعل بنحو القضیة الحقیقة ، ودخله بهذا النحو إنّما کان لتعلیق المولی اعتباره علی حصوله متقدّما أو متأخرا ، ودخالته لیس بمعنی التأثیر ، بل بمعنی ثبوت الجعل علی ذلک التقدیر .

وأمّا مسألة صلاح الحکم ، فقد یأتی الکلام فیه فی الشرط المتقدّم أو المتأخّر للمأمور به إن شاء اللّه تعالی ، إذ الدخالة فی الصلاح لا یفرق فیه بین صلاح الحکم

ص :449

وصلاح متعلّق التکلیف ، غایة الأمر متعلّق التکلیف فعل العبد ، والحکم فعل المولی ، واتّصافهما بالصلاح وعدمه علی حدٍّ سواء ، وإذا صحّحنا دخالة المتأخّر والمتقدّم فی صلاح الفعل من غیر لزوم انخرام القاعدة العقلیة یصحّ تصویر الدخل فی صلاح الحکم أیضاً بعین الوجه المفروض .

الثانی؛ شرط المتعلّق

:

[1] وحاصله أنّ إطلاق شرط المأمور به علی أمر من فعل أو غیره لیس إلاّ باعتبار أنّه یحصل لمتعلّق التکلیف بالإضافة إلیه عنوان حسن ، ویحسن متعلّق التکلیف بتعنونه بذلک العنوان ، مثلاً ضرب الیتیم باعتبار مقارنته بقصد تأدیبه یتعنون بعنوان التأدیب ، وبه یکون حسنا ویتعلّق به الغرض ، ومع عدم مقارنته به لا یکون حسنا ، بل یکون قبیحا ، ولیس ذلک إلاّ لأجل أنّ إضافة الضرب إلی القصد المزبور یوجب تعنونه بعنوان التأدیب الذی یکون الفعل به حسنا عقلاً وشرعا ، ومن لولاها لما کان کذلک، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات، ممّا لاشبهة فیه ولا شک یعتریه، والإضافة کما تکون إلی المقارن تکون إلی المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلاً، کما لا یخفی علی المتأمل، فکما تکون إضافة شیء إلی مقارن له موجباً لکونه معنوناً بعنوان، یکون بذلک الشَرح:

الظاهر کما أنّ إضافة الفعل إلی أمرٍ مقارن یوجب تعنونه بعنوانٍ حسن ، کذلک إضافته إلی أمرٍ متأخّر أو متقدّم یوجب ذلک ، نظیر الکذب ، فإنّه یکون حسنا ویتعلّق به الغرض بالإضافة إلی نجاة النفس عن الهلاکة المتحقّقة بعده ولو فیما بعد ، فإنّ الکذب بالإضافة إلی ترتّبه علیه فیما بعد یتعنون بعنوان حسن .

وبالجملة ، إذا کان المتأخّر أو المتقدّم شرطا للمأمور به فهو باعتبار أنّ إضافة الفعل إلی المتأخّر أو المتقدّم توجب تعنون الفعل بعنوانٍ حسن من زمان الإضافة لا من زمان حصول الشرط ، ولیس نفس ما یسمی شرطا بمؤثّر فی العنوان الحسن ، بل الموجب له الإضافة الحاصلة من قبل وإنّما یتأخّر طرف الإضافة .

لا یقال: لا یمکن حصول الإضافة قبل حصول طرف الإضافة المتأخّر أو بعد انقضاء المتقدّم، فإنّه من قبیل حصول الشیء المعلّق بلا متعلّق وقیام الإضافة بالمعدوم؛ لأنّ المزبور أنّ الإضافة فعلیّة مع أنّ طرفها _ یعنی المتقدّم أو المتأخّر _ معدوم.

ص :450

وبتعبیرٍ آخر : المضاف والمضاف إلیه متضائفان ، والمتضائفان متکافئان فی الفعلیة والقوة.

فإنّه یقال: هذا غیر شبهة تأثیر المعدوم فی الموجود ، والشبهة التی توهم انخرام القاعدة العقلیة قد ارتفعت بما تقدّم من أنّ إطلاق الشرط علی قیود المأمور به لیس بحسب معناه المصطلح فی المعقول الذی هو من أجزاء العلّة التامّة لیقال إنّ المعلول لا یتقدّم علی علّته ولا یتأخّر عنها زمانا ، وما ذُکر شبهة أُخری وهی قیام العنوان حسناً ومتعلقاً للغرض، کذلک إضافته إلی متأخّر أو متقدّم، بداهة أنّ الإضافة إلی أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً، فلو لا حدوث المتأخّر فی محلّه، لما کانت للمتقدّم تلک الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، کما هو الحال فی الشَرح:

الإضافة وفعلیّتها الموجبة لصلاح الفعل ، مع أنّ أحد طرفیها غیر فعلی ، فیکون من فعلیّة العرضی بلا فعلیة معروضه وفعلیة الأمر الانتزاعی بلا فعلیة منشأ انتزاعه .

وهذه الشبهة أیضاً موهومة ؛ إذ کما أنّ أجزاء الزمان یتّصف فعلاً بعضها بالتقدّم وبعضها بالتأخّر مع أنّ الجزء الآخر منه غیر موجود ، کذلک الصوم فی النهار من المستحاضة یتّصف بأنّه یتعقّبه الغسل فی اللیل، مع أنّ الغسل فی اللیل غیر موجود فی النهار، وکما أنّ الجزء المتأخّر من الزمان لو لم یتحقّق لما کان السابق متّصفاً بالتقدّم، کذلک الغسل فی اللیل لو لم یتحقّق لما کان الصوم فی النهار متّصفاً بالتعقب بالغسل فی اللیل، فیکون معنی کون الغسل فی اللیل شرطا لصوم النهار أخذ التقید به فی متعلّق الأمر بالصوم، والتقیّد المزبور واقع التعقب لا عنوانه، وهذا بخلاف کون شیء جزءا لمتعلّق الأمر ، فإنّ ما یطلق علیه الجزء بنفسه مأخوذ فی متعلّق الأمر النفسی.

وربّما یقال کما عن المحقق الاصبهانی قدس سره أنّ ظرف اتّصاف الصوم بوصف تعقّبه الغسل هو الخارج ولیس من قبیل الاتصاف بالکلیة والجزئیة والجنسیة ونحوها، ممّا یکون ظرف الاتصاف فیها الذهن إلاّ أنّ اتصاف الصوم بالتقدّم أو اتصاف الغسل بالتأخّر لا ینشأ عن خصوصیة خارجیة زائدة علی أصل وجود موصوفه.

وتقریره أنّ الإضافة بین المتضائفین قد تحصل لخصوصیة زائدة فی کلّ من الموصوفین کما فی العاشقیة والمعشوقیة ، فإنّ للعاشق عشقاً وفی المعشوق کمالاً، وقد تحصل لخصوصیة فی أحدهما فقط ، کالعالمیة والمعلومیة ، والخصوصیة هی

ص :451

العلم للعالم ، وقد لا تکون خصوصیة زائدة فی شیء من الموصوفین کالمتیامن المقارن أیضاً، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلاً، لأن المتقدم أو المتأخر کالمقارن لیس إلاّ طرف الإضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن، وقد حقق فی محله أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنّها تکون بالإضافات.

الشَرح:

والمتیاسر وثانی الاثنین وثالث الثلاثة ، وما نحن فیه من هذا القبیل ، فإنّ نفس الصوم فی النهار لو لوحظ مع الغسل فی اللیل لاستلزم تعقّلهما تعقّل عنوانین متضائفین ، ولکنّ هذا لا یدفع الإشکال ؛ لانّ المتضائفین متکافئان فی القوة والفعلیة وأنّ ما لم یکن اتصاف المتأخّر بالتأخّر لایتصف الصوم بالتقدّم علیه .

ولا یقاس بالزمان ، فإنّ تقدّم جزء الزمان علی جزئه الآخر ذاتی ، حیث إنّ الزمان الوحدانی وجوده تدریجی ، فالتکافؤ فی أجزائه إنّما هو لاتصالها ووحدة وجودها ، بخلاف التقدّم فی الصوم والتأخّر فی الغسل ؛ إذ لیس الاتصاف بهما بالذات بل بالعرض بتبع الزمان ، فما دام لم یکن للغسل تأخّر لم یکن للصوم فی النهار تقدّم ، بمقتضی التکافؤ فی المتضائفین فی الفعلیة والقوة ، وعلی ذلک فإن کان الصلاح فی الصوم المتصفّ بالتقدّم ، یکون للمتأخّر دخل فی ذلک الصلاح ، ویعود محذور دخالة المتأخّر فی المتقدّم .

وذکر فی آخر کلامه هذا فیما إذا کان الصلاح حقیقیا ، وأمّا إذا کان اعتباریا کالاحترام والتعظیم ، فلا بأس باعتباره فعلاً علی تقدیر حصول المتأخّر فی ظرفه نظیر ما تقدّم فی اعتبار الحکم علی تقدیر حصول المتأخّر فی ظرفه(1) .

أقول : لو صحّ تقدّم الجزء من الزمان وأنّ له عند حصوله تقدّم ذاتی فیکون فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط علی المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه علیه فیه، کإطلاقه علی المقارن، إنّما یکون لأجل کونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه، الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً، کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوره فیه، کدخل تصور سائر الأطراف والحدود، التی لولا لحاظها لما حصل له

ص :452


1- (1) نهایة الدرایة : 2 / 45 .

الرغبة فی التکلیف، أو لما صح عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال فی دفع هذا الإشکال، فی بعض فوائدنا، ولم یسبقنی إلیه أحد فیما أعلم، فافهم واغتنم.

الشَرح:

الصوم المتقیّد به أیضاً کذلک بالإضافة إلی المتقیّد بجزئه الآخر ، فإنّه لا فرق بین کون الذاتی لنفس الشیء أو لقیده .

والمتحصّل أنّ الدخالة فی اتصاف الشیء بعنوان انتزاعی غیر تأثیره فی تحقّق المتصّف بذلک العنوان ، بمعنی استناد وجود المتّصف إلیه ، فمثلاً تحقّق المعلول فی رتبته ، له دخالة فی اتصاف شیء بالعلیة له بحیث لو لا المعلول لما کان الشیء متّصفا بالعلیة له ، ولکن من الظاهر أنّ العلة لا تستند فی حصولها إلی المعلول ، وإلاّ لم یحصلا ، وعلی ذلک فحصول المتأخّر فی ظرفه له دخل فی اتّصاف الصوم فی النهار بتعقّبه به ، إلاّ أنّ تحقّق الصوم فی النهار لا یستند إلی الغسل فی اللیل ، بل اللازم حصول الإضافة التی لا تحقّق لها إلاّ تحقّق طرفیها عند فعلیة کلّ منهما فی ظرفه ، لا فعلیته فی غیر ظرفه .

لا یقال: المتضائفان متکافئان فی القوة والفعلیة .

فإنّه یقال : التضائف بین الوصفین لا بین الموصوفین ، ففی فرض اتصاف الصوم بالتقدّم یکون وصف التأخّر للغسل فی اللیل فعلیا ، کما أنّ اتصاف الیوم بالتقدّم واتصاف الغد بالتأخر فعلیّان فی هذا الیوم .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وذکر النائینی قدس سره إنّ النزاع فی الشرط المتأخّر والمناقشة فیه لا یجری فی شرط المأمور به ؛ وذلک لأنّ شرط المأمور به المتأخّر زمانا کالجزء الأخیر من العمل لا یکون مورد المناقشة ، کذلک الشرط المتأخّر ، حیث إنّه فی أی زمان تحقّق الشرط یتمّ المشروط من ذلک الزمان ، کما هو الحال فی الجزء الأخیر ، فیحصل الکلّ من حین حصول ذلک الجزء لا قبله .

لا یقال : بین الجزء الأخیر والشرط الأخیر فرق ، فیمکن الأوّل دون الشرط المتأخّر ، فإنّ الجزء بنفسه یتعلّق به الأمر النفسی ، فما دام لم یتحقّق لا یتمّ العمل ،

ص :453

بخلاف الشرط فإنّ الداخل فی متعلّق الأمر النفسی هو التقیّد لا نفس القید .

وعلیه فیقع الکلام فی مورد الشرط المتأخّر فی أنّه لو کان التقیّد المأخوذ فی متعلّق الأمر النفسی حاصلاً قبل حصول الشرط یلزم دخالة الشیء وتأثیره حال عدمه ؛ إذ المزبور أنّ الشرط حین حصول التقیّد غیر موجود ، وإن حصل التقیّد بعد وجود الشرط یلزم قیام الإضافة بطرفٍ واحد ، حیث إنّ التقیّد فی حقیقته إضافة ، وأحد طرفیها الشرط وهو موجود ، والطرف الآخر وهو الفعل معدوم ؛ لانقضائه بانقضاء الیوم علی الفرض .

فإنّه یقال : التقیّد أمر انتزاعی لا یتعلّق به الأمر النفسی ، بل الأمر النفسی یتعلّق بمنشأ انتزاعه وهو الشرط ؛ ولذا یعتبر أن یکون الشرط المتأخّر للمأمور به مقدورا ؛ إذ مع خروجه عن الاختیار لا یصلح شرطا _ سواء کان حصوله قطعیا أم لا _ فإنّه مع حصوله قطعا یکون أخذه قیداً فی متعلّق الأمر لغوا ، ومع عدم حصوله یلزم توقّف الامتثال علی أمرٍ غیر اختیاری .

والحاصل أنّه لا فرق بین الجزء الأخیر والشرط المتأخّر للمأمور به، إلاّ کون الجزء ولا یخفی أن_ّها بجمیع أقسامها داخلة فی محل النزاع [1]، وبناء علی الشَرح:

بنفسه وبتقیّده دخیلاً فی متعلّق الأمر بخلاف الشرط، فإنّه دخیل فیه بتقیّده فقط(1).

وفیه أنّ المزبور فی الشرط المتأخّر للمأمور به حصول التقیّد قبل حصول ما یطلق علیه الشرط المتأخّر ، وهذا التقیّد فی حقیقته إضافة کما ذکرنا ، وحصولها للفعل إنّما هو بإضافة الفعل إلی المتأخّر ، بحیث یکون حصول المتأخّر فی ظرفه کاشفا عن حصول تلک الإضافة للفعل من الأوّل .

وما ذکر قدس سره من عدم إمکان تعلّق الأمر بالانتزاعی ، بل یتعلّق بمنشأ انتزاعه ، صحیحٌ ، ولکن منشأ انتزاع التقیّد فی باب الشروط هی الحصة التی یتعلق بها الأمر النفسی ، وتکون تلک الحصة منحلّة بنظر العقلی إلی الطبیعی وتقیّده بما یسمّی بالشرط ، ولو تعلّق الأمر النفسی بنفس الشرط بطل کونه شرطا وانقلب إلی کونه جزءا ، ولم یمکن أن یتعلّق به الأمر الغیری حتّی بناءً علی القول بالملازمة ، وقد

ص :454


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 221 .

تقدّم جواز کون الشرط خارجا عن الاختیار ، حیث یکفی فی جواز الأمر بالحصة کون الحصة مقدورة ، وإلاّ جری الحکم فی الشرط المتقدّم والمقارن أیضاً .

[1] یعنی مقدّمة الوجود للواجب بجمیع أقسامها من المتقدّم والمقارن والمتأخّر مورد الخلاف فی بحث الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته، فإنّه بناءً علی الملازمة یتعلّق بما یطلق علیه المقدّمة وشرط الواجب، الوجوب الغیری.

لا یقال : تعلّق الوجوب الغیری بما یطلق علیه الشرط المتأخّر للواجب وإن لم یکن فیه إشکال ، إلاّ أنّ الوجوب الغیری حیث یتبع الوجوب النفسی فی الحصول فبعد انقضاء ظرف الواجب النفسی _ کما فی انقضاء النهار فی صوم المستحاضة _ إمّا الملازمة یتصف اللاحق بالوجوب کالمقارن والسابق، إذ بدونه لا تکاد تحصل الموافقة، ویکون سقوط الأمر بإتیان المشروط به مراعیاً بإتیانه، فلولا اغتسالها فی اللیل __ علی القول بالإشتراط __ لما صح الصوم فی الیوم.

الشَرح:

أن یلتزم ببقاء الوجوب الغیری أو بسقوطه ، فإن التزم ببقائه فکیف یکون تبعیا وترشحیا مع سقوط الواجب النفسی ، وإن قیل بسقوطه أیضاً کالوجوب النفسی ، فکیف یثبت الوجوب الغیری من الأوّل ؟ لعدم إمکان داعویته إلی متعلّقه فی ظرف الواجب النفسی لعدم التمکّن علیه ولا بعده لسقوطه تبعا للنفسی ، ولو مع التمکّن علی الإتیان بمتعلّقه .

والإشکال فی الشرط المتقدّم آکد فیما کان لوجوب الواجب النفسی شرط لم یحصل فی ظرف الإتیان بالشرط المتقدّم ، فإنّه کیف یتعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة مع عدم فعلیة الوجوب النفسی ، کما فی وجوب الغسل علی الجنب فی اللیل مقدّمة لصوم الغد بناءً علی اشتراط فعلیة وجوب الصوم بالفجر .

ولا یجدی الالتزام ببقاء الوجوب النفسی المتعلّق بالصوم إلی أن ینقضی زمان التمکّن علی الاغتسال من اللیل أو إلی أن یغتسل فی اللیل ، فإن اغتسلت المرأة فی اللیل یسقط کلّ من الأمر النفسی والغیری بالامتثال والموافقة ، وإن لم تغتسل سقطا بالعصیان والمخالفة .

فإنّه یقال: لا یمکن الالتزام ببقاء الوجوب النفسی بعد انقضاء النهار ، لأنّه لم یتعلّق بالاغتسال فی اللیل لیعقل بقائه إلی حصول تمام متعلّقه ، بل یبقی مراعی

ص :455

إلی تحقّق شرطه ، فإنّ المرأة لو اغتسلت فی اللیل یکون اغتسالها کاشفا عن سبق تحقّق الصوم وتقدّمه علی الاغتسال عند انقضاء زمان الصوم ، فلا معنی لبقاء التکلیف بالصوم بعده ، وإن لم تغتسل فیکشف عن عدم سبق الصوم علی الغسل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وأنّ التکلیف قد سقط عند انقضاء النهار بالعصیان .

أقول : وجوب المقدّمة بناءً علی الملازمة وإن کان غیریّا تبعیّا إلاّ أنّه لیس المراد من التبعیة حصول وجوب المقدّمة بلا إنشاء بمعنی حصوله قهرا، نظیر تبعیة الحرارة للنار، بل المراد أنّ إرادة إنشاء الوجوب للمقدّمة عند التفات المولی إلی کونها مقدّمة تحصل بتبع إرادته إنشاء الوجوب لذیها، وعلیه فلا مانع من إنشاء الوجوب للمقدّمة بحیث یبقی بعد انقضاء ظرف الإتیان بذیها، لئلاّ ینطبق بالإتیان بمتعلّق الوجوب الغیری عنوان العصیان علی سقوط الأمر بذیها فی السابق، بل ینطبق علیه عنوان الامتثال، وکذلک الحال فی الشرط المتقدّم، کأمر الجنب بالاغتسال فی اللیل لئلاّ یکون التکلیف بالصوم عند طلوع الفجر من التکلیف بغیر المقدور، بل سیأتی أنّه لو صحّ جعل الوجوب الغیری من المولی، فهو فی مثل هذه الموارد، ولیس هذا من الوجوب النفسی التهیّئی، کما ذکر فی بعض الکلمات، فلاحظ.

ص :456

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص :1

اشارة

ص :2

کِفایَهُ الاصُول دُرُوس فی مَسائِلِ عِلم الاصُوُل

الجُزءُ الثَّانی

مَبَاحِثُ الالفاظِ

ص :3

ص :4

تتمة المقصد الأول

الأمر الثالث: فی تقسیمات الواجب.

منها: تقسیمه إلی المطلق والمشروط [1]، وقد ذکر لکلّ منهما تعریفات وحدود، تختلف بحسب ما أُخذ فیها من القیود، وربما أُطیل الکلام بالنقض والإبرام فی النقض علی الطرد والعکس، مع أن_ّها _ کما لا یخفی _ تعریفات لفظیة لشرح الاسم، ولیست بالحد ولا بالرسم، والظاهر أن_ّه لیس لهم اصطلاح جدید فی لفظ المطلق والمشروط، بل یطلق کل منهما بما له من معناه العرفی، الشَرح:

[1] ینقسم الواجب إلی المطلق والمشروط ، وقد ورد فی کلماتهم لکلّ منهما تعاریف تختلف بحسب القیود المأخوذة فیها ، وأُطیل الکلام فیها بالنقض والإبرام فی اطّرادها وانعکاسها بما لا فائدة فی التعرّض لها ؛ لأنّ کلاًّ من التعاریف من قبیل شرح الاسم ، ولا یدخل فی الحدّ أو الرسم ، لکون الفعل واجبا مطلقاً أو مشروطا بالاعتبار ، والأمر الاعتباری لا یقبل الحد ولا الرسم.

والظّاهر أن_ّه لیس للاصولیین _ فی کون الواجب مطلقاً أو مشروطا _ اصطلاح خاصّ ، بل یطلقان علی الواجب بما لهما من المعنی العرفی ، کما أنّ وصفی الإطلاق والتقیید لیسا بوصفین حقیقیین ، بمعنی أنّ الواجب فی نفسه مطلق أو مشروط، بل اتصافه بهما یکون بالإضافة إلی أمر ، فإن کان ذلک الأمر دخیلاً فی وجوبه بأن یکون قیدا لذلک الوجوب کان واجبا مشروطا بالإضافة إلیه ، وإن لم یکن ذلک الأمر قیدا لوجوبه کان بالإضافة إلیه واجبا مطلقاً ، ومنه یظهر ما فی اتصاف الواجب بهما من التسامح ، إذ الوجوب فی الحقیقة یکون مشروطا أو مطلقا لا الواجب ، وعلی ذلک فیمکن أن یکون الوجوب بالإضافة إلی أمر مطلقاً فیسمّی

ص :5

کما أنّ الظاهر أنّ وصفی الإطلاق والاشتراط، وصفان إضافیان لا حقیقیان، وإلاّ لم یکد یوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب کل واجب ببعض الأمور، لا أقل من الشرائط العامة، کالبلوغ والعقل.

فالحریّ أن یقال: إن الواجب مع کل شیء یلاحظ معه، إن کان وجوبه غیر مشروط به، فهو مطلق بالإضافة إلیه، وإلاّ فمشروط کذلک، وإن کانا بالقیاس إلی شیء آخر کانا بالعکس.

ثمّ الظّاهر أن الواجب المشروط کما أشرنا إلیه، أن نفس الوجوب فیه مشروط بالشرط، بحیث لا وجوب حقیقة، ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط، کما هو

الشَرح:

الواجب مطلقا ، وبالإضافة إلی أمرٍ آخر مشروطا فیسمّی الواجب مشروطا.

ولا ینبغی التأمّل فی أنّ ظاهر القضیة الشرطیة هو کون مفاد الشرط قیدا لمفاد الهیئة فی الجزاء وأنّ قول المولی مثلاً (إن جائک زید فأکرمه) کون مجیئه فی المثال قیدا لطلب إکرامه ، لا أنّ وجوبه وطلبه مطلق ، والشرط قید للواجب ، کما فی الواجب المعلّق ، ویزید ذلک وضوحا أنّ استعمال مثل قوله (إن توضأت فصلّ) فی مقام طلب الصلاة المقیّدة بالطهارة غیر صحیح ، بل یقال فی ذلک المقام : صلّ متوضأً ، أو مع الوضوء.

ولکن المنسوب إلی الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره أنّ رجوع القید إلی مفاد الهیئة صوری ولا یکون الشرط قیدا لمعنی الهیئة واقعا وحقیقة ؛ لامتناع کونه قیدا لمفاد الهیئة . وذکر فی وجه الامتناع أنّ التقیید عبارة عن تضییق دائرة المعنی وإلغاء التوسعة عنه ، ولا یکون ذلک إلاّ فی المعانی التی فی أنفسها کلّیات ، والطلب المُنشأ بالصیغة ، بل حتّی المُنشأ بالمادة جزئی وفرد من الطلب ، فلا یکون القید (أی الشرط) راجعا إلی الوجوب المُنشأ ، بل یرجع إلی الواجب ، فإنّ عنوانه إسمی قابل

ص :6

ظاهر الخطاب التعلیقی، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاءک زید فأکرمه) کون الشرط من قیود الهیئة، وأن طلب الإکرام وإیجابه معلق علی المجئ، لا أن الواجب فیه یکون مقیداً به، بحیث یکون الطلب والإیجاب فی الخطاب فعلیاً ومطلقاً، وإنّما الواجب یکون خاصاً ومقیداً، وهو الإکرام علی تقدیر المجئ، فیکون الشرط من قیود المادة لا الهیئة، کما نسب ذلک إلی شیخنا العلامة (أعلی اللّه مقامه)، مدعیاً لامتناع کون الشرط من قیود الهیئة واقعاً، ولزوم کونه من قیود المادة لبّاً، مع الاعتراف بأن قضیة القواعد العربیة أن_ّه من قیود الهیئة ظاهراً.

أم_ّا امتناع کونه من قیود الهیئة، فلانّه لا إطلاق فی الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهیئة، حتّی یصح القول بتقییده بشرط ونحوه، فکل ما یحتمل رجوعه إلی الطلب الذی یدل علیه الهیئة، فهو عند التحقیق راجع إلی نفس المادة.

الشَرح:

للتقیید والتضییق.

وبتعبیرٍ آخر: الوجوب المُنشأ بصیغة إفعل أو بغیرها یحصل بالإنشاء، وبعد فرض حصوله لا یبقی مجال لتقییده؛ لأنّ الموجود الحاصل لا یقیّد، وعلیه فإن فرض الإنشاء فالوجوب حاصل، ومعه فلابدّ من إرجاع القید إلی متعلّق الوجوب، بأن یکون الوجوب المتحقّق متعلّقا بالإکرام الخاصّ، وهو إکرامه عند مجیئه، وإن لم یحصل فهو خلاف فرض إنشائه، ولازمه تفکیک الإنشاء عن المُنشأ، وهو باطل قطعا.

ثمّ ذکر قدس سره أنّه یکون الشرط من قیود المادة لبّا أیضاً، ومراده أنّ ما تقدّم من أنّ المنشأ بصیغة إفعل فرد وجزئی ، والجزئی لا یقبل التقیید، مقتضاه رجوع الشرط فی مقام الإنشاء إلی تقیید الفعل، لا إلی مفاد الهیئة والأمر (أی الطلب الحقیقی) ، فإنّ الإرادة لا تقبل التقیید ، فإنّ العاقل عندما یلاحظ الفعل إمّا أن یریده أو لا یریده،

ص :7

وأم_ّا لزوم کونه من قیود المادة لبّاً، فلأنّ العاقل إذا توجه إلی شیء والتفت إلیه، فإمّا أن یتعلق طلبه به، أو لا یتعلق به طلبه أصلاً، لا کلام علی الثانی.

وعلی الأوّل: فإمّا أن یکون ذاک الشیء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً علی اختلاف طوارئه، أو علی تقدیر خاص، وذلک التقدیر، تارة یکون من الأمور الإختیاریة، وأُخری لا یکون کذلک، وما کان من الأمور الاختیاریة، قد یکون مأخوذاً فیه علی نحو یکون مورداً للتکلیف، وقد لا یکون کذلک، علی اختلاف الأغراض الداعیة إلی طلبه والأمر به، من غیر فرق فی ذلک بین القول بتبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعیة، کما لا یخفی، هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرر لبحثه بأدنی تفاوت، ولا یخفی ما فیه.

أم_ّا حدیث عدم الإطلاق [1] فی مفاد الهیئة، فقد حققناه سابقاً، إنّ کل واحد

الشَرح:

وعلی الأوّل فإمّا أن یریده مطلقاً أو علی تقدیرٍ خاص ومقیّداً ، وعلی الثانی فالقید مهما کان لابدّ من أن یکون راجعاً إلی المراد لا إلی نفس الإرادة ، إذ لو کان القید غیر اختیاری فلابدّ من دخله فی المراد بنحو لا یتعلّق به الطلب بأن یکون المراد الفعل المقارن لحصوله، وإذا کان اختیاریا فقد یکون دخالته فی المراد أیضاً بنحوٍ لا یتعلق به الطلب الغیری، بأن یکون المراد الفعل المقارن لوجوده الاتفاقی.

والمراد بالوجود الاتفاقی یکون المکلّف مطلق العنان بالإضافة إلی حصول القید ، بخلاف ما کان المراد الفعل المقارن له بحیث یکون علی المکلف إیجاد ذلک القید وتحصیله لیفعل ما هو المراد(1) .

[1] وحاصل ما ذکر قدس سره فی الجواب عن عدم الإطلاق فی معنی الهیئة ، هو أنّ

ص :8


1- (1) مطارح الأنظار : ص 45 و 46 .

من الموضوع له والمستعمل فیه فی الحروف یکون عاماً کوضعها، وإنّما الخصوصیة من قبل الإستعمال کالأسماء، وإنّما الفرق بینهما أن_ّها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنی بما هو هو والحروف وضعت لتستعمل. وقصد الشَرح:

مفاد الهیئة نفس الطلب وهو باعتبار کونه من الکلی الطبیعی قابل للتقیید حتّی بعد إنشائه ، فإنّ المنشأ یعمّ حال وجود الشرط وعدمه ، فیقیّد بما إذا حصل الشرط ، کالتقیید فی سائر المطلقات الواردة فی الخطابات ، وقد مرّ أنّ معنی الحرف کمعنی الاسم یکون کلیّا قابلاً للصدق علی کثیرین ، کما فی قوله (سر من البصرة) ، غایة الأمر یلاحظ المعنی فی مقام الاستعمال فی الحرف آلیاً ، وفی الاسم استقلالیا ، وهذا اللحاظ لم یؤخذ فی ناحیة المستعمل فیه ، لا فی الاسم ولا فی الحرف . وبالجملة تقیید مفاد الهیئة وتضیق دائرته بالشرط بمکان من الإمکان.

ولو سلم أنّ المنشأ فرد من الطلب ولا یقبل التقیید إذ الفردیة تحصل بالإنشاء ولا یمکن تقییده بعد الإنشاء فلا یمنع عن إنشاء الطلب من الأوّل مقیّدا وتکون الدلالة علی الطلب المقیّد بدالّین ، کما هو مفاد القضیة الشرطیة.

وبتعبیرٍ آخر : غایة ما یمکن أن یقال : هو إنّه کما لا یمکن تقیید الملکیة بعد إنشائها ولکن لا یمنع ذلک عن إنشائها من الأوّل مقیّدة بتعدّد الدالّ والمدلول ، بأن یقول إنشاءا (هذا لک إن کان کذا) ، کذلک الحال فی إنشاء الطلب المدلول علیه بالهیئة ، فإنّ الطلب المنشأ بالهیئة لا یزید فی الإنشاء علی الملکیة المنشأة باللام فی قوله (هذا لک إذا مّت).

ولا یخفی أنّ ما ذکره قدس سره فی الجواب یرجع إلی أمرین : أحدهما أنّ انتزاع الکلیة من المعنی بحیث یصدق علی کثیرین لا یتوقّف علی لحاظه استقلالاً ، وأنّ قول القائل (أطلب منک ضرب زید) وقول الآخر (إضرب زیدا) لا یختلفان فی أنّ

ص :9

بها معانیها بما هی آلة وحالة لمعانی المتعلقات، فلحاظ الآلیة کلحاظ الإستقلالیة لیس من طوارئ المعنی، بل من مشخصات الإستعمال، کما لا یخفی علی أولی الدرایة والنهی.

الشَرح:

المستفاد من لفظ الطلب فی الأوّل ومن الهیئة فی الثانی نفس الطلب المنتزع منه الکلیة ، بحیث یعمّ حال مجیء زید وعدمه ، غایة الأمر یلاحظ نفس ذلک المعنی فی موارد استعمال لفظ الطلب فیه استقلالاً ، وفی مورد استعمال الهیئة آلیّا، من غیر أن یکون اللحاظ مأخوذا فی المستعمل فیه ودخیلاً فی انتزاع الکلیة منه علی ما تقدّم فی معانی الحروف.

الثانی لو لم یمکن إنشاء طبیعی الطلب بصیغة إفعل أو بمادة الطلب مطلقاً، یعنی بلا قید، ثمّ تقییده بالشرط، بدعوی أنّ الطلب بالإنشاء یکون شخصا اعتباریا والجزئی لا یقبل التقیید، فلا ینبغی التأمّل فی أنّ تقیید طبیعی الطلب بالشرط قبل الإنشاء ثمّ إنشاء الطلب المقید بتعدّد الدالّ والمدلول أمرٌ ممکن، وعلی ذلک فعدم فعلیة الطلب قبل فعلیة الشرط لیس من تفکیک المنشأ عن إنشائه، بل حصول المنشأ قبل حصول شرطه تفکیک بینهما، لأنّ المنشأ قبل الشرط وفی فرض عدمه خارجا لم ینشأ ولو حصل قبله لکان من حصول المنشأ بلا إنشائه، والإنشاء لا یزید علی الإخبار، فإنّه کما یمکن الإخبار بشیءٍ بنحو التعلیق والتقیید، کذلک الأمر فی الإنشاء.

أقول : إن أُرید من تقیید الطلب أن_ّه إذا ورد فی الخطاب (أکرم زیدا) فی مقام إنشاء النسبة الطلبیة المتعلّقة بضرب زید ، ثمّ ورد فی خطابٍ آخر (لیس علیک إکرام زید إذا لم یجئک) فیجمع بین الخطابین فیما إذا لم یکن المتکلّم ممّن یتصوّر فی حقّه الندم عمّا أنشأه أوّلاً ، بأنّ مراده الاستعمالی من الخطاب الأوّل ولو کان طلب إکرام زید جاء أو لم یجی ء ، إلاّ أنّ مراده الجدّی کان طلب إکرامه علی تقدیر مجیئه ، فهذا

ص :10

فالطلب المفاد من الهیئة المستعملة فیه مطلق، قابل لأن یقید، مع أن_ّه لو سلم أنّه فرد، فإنّما یمنع عن التقید لو أنشئ أولاً غیر مقید، لا ما إذا أنشئ من الأول مقیداً، غایة الأمر قد دلّ علیه بدالّین، وهو غیر إنشائه أولاً ثمّ تقییده ثانیاً، فافهم.

الشَرح:

التقیید أمرٌ ممکن وهو الجاری أیضاً فی التقیید فی المعانی الإسمیة .

وإن أُرید من التقیید أن یکون مراده الاستعمالی من الخطاب الأوّل طلب إکرام زید جاء أو لم یجی ء، ثمّ أراد أن یبدّل نفس المراد الاستعمالی لا الجدّی، فهذا أمرٌ غیر ممکن، سواء فی معنی الهیئة أو المعانی الإسمیة، والممکن هو التقیید فی المراد الاستعمالی بنحو تعدّد الدالّ والمدلول من الأوّل، أو بنحو الاستعمال العنائی والمجازی حتّی فی الخطابات المتضمّنة للمعانی الإسمیة، ولا دخل فی ذلک أیضاً للالتزام بأنّ المعانی الحرفیة فی أنفسها قابلة للتقیید، أو یکون التقیید فیها بتبع مدخولاتها.

والسرّ فیه هو أنّ النسبة الطلبیة سواء أُنشأت بالهیئة أو بالمعنی الإسمی فهی أمرٌ اعتباری، ولیس أمرا تکوینیا خارجیا، فالمنشأ فی الإنشائیات غیر نفس الإنشاء ، ولا یقاس بالإیجاد والوجود ، إذ هما مختلفان بالاعتبار ومتحدان خارجا ، فینسب الوجود والتحقّق إلی الماهیة فیقال وجود ، وینسب إلی الفاعل والعلّة فیقال إیجاد .

وهذا بخلاف المنشأ والإنشاء ، إذ الإنشاء تکوینی ، والمنشأ اعتباری ، فإنّ الإنشاء عبارة عن لحاظ المعنی القابل للاعتبار والإتیان بما یدلّ علی وقوعه بقصد أن یقع ، والمنشأ خارجا وجود ذلک الأمر الاعتباری ، وبما أنّ الوجود الاعتباری إنّما یکون فی المعنی القابل للاعتبار کالملکیة ، وأنّ الوجوب غیر وجود الشیء الخارجی حیث أنّه لا یمکن فیه أن یکون الإیجاد فعلاً والوجود استقبالاً ؛ لأنّ فرق الوجود والإیجاد فی المفهوم لا فی الخارج بخلاف الإنشاء والمنشأ ، فیمکن أن

ص :11

فإن قلت: علی ذلک، یلزم تفکیک الإنشاء من المنشأ، حیث لا طلب قبل حصول الشرط.

قلت: المنشأ إذا کان هو الطلب علی تقدیر حصوله، فلا بدّ أن لا یکون قبل حصوله طلب وبعث، وإلاّ لتخلف عن إنشائه، وإنشاء أمر علی تقدیر کالإخبار به بمکان من الإمکان، کما یشهد به الوجدان، فتأمل جیداً.

الشَرح:

یعتبر فعلاً حصول الشیء فی الاستقبال أو معلّقا علی أمرٍ استقبالی کاعتبار الملکیة للموصی له معلقاً علی موته ، فهذا لا محذور فیه ، فإنّ الإنشاء کما ذکرنا متحقّق ، ولکن المنشأ بما أن_ّه أمر استقبالی أو معلّق علی الأمر الاستقبالی فهو غیر فعلی ، ولو کان المنشأ فعلیا قبل ذلک الأمر لکان حصوله بلا إنشائه .

وکذا الحال فی الإخبار ؛ لأنّ الإخبار عبارة عن التکلّم بما ینتقل الذهن إلی الصورة التی هی لحصول الشیء أو لحصول شیءٍ لشیء ، والداعی إلی نقل الصورة هو الإعلام بحصول ذیها أو عدم حصوله ، وکما یمکن الانتقال إلی الصورة التی یکون حصول ذیها فعلیا ، کذلک یمکن فیما یکون حصول ذیها استقبالاً ، وقد تقدّم فی باب الفرق بین الإنشاء والإخبار أنّهما یشترکان فی الإتیان بما یوجب الانتقال إلی صورة حصول الشیء ، ولکنّ الغرض منه فی الإنشاء حصول ذیها ، بخلاف الإخبار فإنّ الغرض من الإتیان به الإعلام بحصول ذی الصورة فی ظرفه المناسب ، ولو کان استقبالاً ، وأن_ّه لو کان ما یقصد الإخبار عنه أمرا قابلاً للإنشاء ففی موارد کون الغرض الإعلام ، یکون حصول ذی الصورة مع قطع النظر عن هذا الإعلام ، وفی الأمر غیر القابل للإنشاء لا یحتاج لإحراز کون المتکلّم فی مقام الإعلام إلی أمرٍ آخر .

وبالجملة کما أنّ فی موارد الإنشاء بمفاد القضیة الشرطیة یکون الغرض حصول ذی الصورة فی ظرف حصول الشرط ، کذلک فی موارد الاخبار بالجملة

ص :12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الشرطیة یکون الغرض الإعلام بتحقّق ذی الصورة خارجا علی تقدیر وجود الشرط .

ودعوی أنّ فی موارد الاخبار بالجملة الشرطیة یکون المحکی عنه هی الملازمة بین حصول الشرط ومضمون الجزاء لا تعلیق الجزاء علی الشرط ؛ ولذا یکون صدق القضیة الشرطیة أو کذبها دائرا مدار صدق الملازمة أو عدمها ، فمثل (إن کانت الشمس طالعة فالنهار موجود) صادقة ؛ إذ الملازمة موجودة ولو مع عدم تحقّق الطرفین ؛ لأنّ المحکی عنه هی الملازمة وحکایتها مطلقة ، لا یمکن المساعدة علیها ، فإنّ هذا لا یجری فی غیر موارد الملازمة ، مثل قوله (إن جاء اللیل یضرب زید) الذی هو مورد الکلام فیالمقام ، فإنّه یکون صدق هذه القضیة بتحقیق الضرب فی اللیل مع عدم الملازمة بینه وبین مجیء اللیل لا فعلاً ولا مستقبلاً ، هذا بحسب المنطوق . وأمّا بحسب المفهوم ، فکذب مفهومها بتحقّق الضرب قبل مجیء اللیل .

وذکر المحقّق النائینی قدس سره وجها آخر لامتناع إرجاع القید إلی معنی الهیئة ، وهو أنّ الالتزام بکون معنی الهیئة کلیّا لا یصحّح التقیید ؛ إذ التقیید فی معناها غیر ممکن ، لکن لا لجزئیّته ، بل من حیث إنّه یحتاج إلی لحاظ المعنی استقلالاً ، فإنّه ضرب من الحکم ، ومعنی الهیئة ملحوظ آلیا ، فالمتعیّن رجوع القید إلی المادة الملحوظ معناها علی الاستقلال ؛ لأنّ الإطلاق والتقیید من شؤون المفاهیم الاستقلالیة ، ومع أخذ القید فی المادة شرطا یستحیل تعلّق الطلب بتلک المادة بدون ذلک القید ، فمثلاً الحجّ المتقیّد بالاستطاعة الخارجیة یتّصف بالواجب ویقع طرفا للنسبة الطلبیّة ، وبدون هذا القید لا یکون متّصفا بوصف الواجب ولا یقع طرفاً للنسبة الطلبیة .

وبالجملة إرجاع القید إلی المادة بهذا النحو لا محذور فیه ، ولا یوجب إرجاع الواجب المشروط إلی الواجب المعلّق باصطلاح صاحب الفصول کما ذکر فی

ص :13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکفایة(1).

أقول : یرد علیه :

أوّلاً: بأنّه لابدّ من أن یفرّق قدس سره بین قول القائل (إن جائک زید فأکرمه) وبین قوله (إن جائک زید فأطلب منک إکرامه) ، حیث إنّ التقیید فی الأوّل غیر ممکن ؛ لکون الطلب والبعث یستفاد من الهیئة بخلاف الثانی ، فإنّ الطلب فیه معنی إسمی ، ویلاحظ استقلالاً فی مقام الاستعمال کسائر المعانی الإسمیة الکلیة القابلة للتقیید .

وثانیا: قد تقدّم أنّ التقیید فی الواجب المشروط بمعناه المشهور الذی کان فی مقام الجعل والإنشاء لیس بمعنی تضییق المعنی الکلی لیقال بأنّه لا یجری فی المعانی الملحوظة آلیا ، حتّی مع کونها کلیّة ، بل هو بمعنی التعلیق ، وتعلیق النسبة أمر ممکن ، سواء کان الغرض من تلک النسبة إنشاءً أو اخبارا ، فلاحظ الذی یدقّ باب زید ویسأل عن کونه فی الدار مثلاً ، فإنّه لا غرض له إلاّ الاستفهام عن النسبة الظرفیة ثبوتا أو نفیا ، وإذا صحّ تعلّق الغرض بالنسبة استقلالاً _ طلبیة کانت أو خبریة _ فیمکن کونها مطلقة ، کما یمکن کونها معلّقة .

وثالثا: إنّ ما ذکره قدس سره من أنّ إرجاع الشرط إلی المادّة بالنحو الذی ذکره لایوجب کونه من الواجب المعلّق ، ففیه أنّه لیس فی البین إلاّ البعث والطلب المتعلّق بالمادّة ، فإن رجع الشرط إلی نفس الطلب والبعث یکون واجبا مشروطا باصطلاح المشهور ، وإن رجع إلی المادة یکون من الواجب المعلّق ، ولا یتعقّل الشقّ الثالث الذی عبّر عنه بالمادة المنتسبة وأرجع الشرط إلیها ، وما ذکر قدس سره من أنّ الحجّ المتصفّ

ص :14


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 131 .

وأمّا حدیث لزوم رجوع الشرط إلی المادة لبّاً [1] ففیه: إنّ الشیء إذا توجه إلیه، وکان موافقاً للغرض بحسب ما فیه من المصلحة أو غیرها، کما یمکن أن یبعث الشَرح:

بالاستطاعة الخارجیة یتعلّق به الوجوب ویقع طرفا للنسبة الطلبیة ، فمعناها أنّ فعلیة النسبة الطلبیة منوط بحصول الاستطاعة ، وهذا عبارة أُخری عن تعلیق النسبة الطلبیة إثباتا ، وأخذها فی الموضوع لتلک النسبة ثبوتا ، بمعنی أنّه لم یعتبر الطلب المتعلّق بالحجّ إلاّ فی ظرف حصول الاستطاعة بنحو الشرط المقارن ، فیکون المکلّف المستطیع خارجا موضوعا لوجوب الحج .

ثمّ إنّه قد یترائی التنافی بین ما ذکر صاحب الکفایة قدس سره هنا فی الجواب عن إشکال رجوع الشرط إلی الهیئة من استلزام تعلیق إنشاء الطلب علی تقدیر شیءٍ لعدم کون الطلب فی فرض عدم حصوله فعلیا، وإلاّ یلزم تفکیک المنشأ وتخلّفه عن إنشائه. وبین ما ذکر فی بحث الشرط المتأخّر من أنّ الدخیل فی حصول الطلب لحاظ الشرط لا نفس الشرط ولحاظه مقارن لجعل الحکم وإنشاء الطلب ، فإنّ مقتضی ذلک فعلیة الطلب قبل حصول الشرط خارجا لفعلیة لحاظه .

ویمکن دفع التنافی بأنّ ما ذکره سابقا راجع إلی دفع شبهة تأثیر المعدوم فی الموجود ، فذکر فی اندفاعها بأنّ المؤثّر فی إرادة المولی إنشاء الحکم لحاظ الشرط المتقدّم والمتأخّر کما فی الشرط المقارن ، وکلامه فی المقام ناظر إلی الشرط بالإضافة إلی الطلب المنشأ الذی یکون بالإنشاء ، وأنّ هذا المنشأ إذا علّق فی إنشائه علی حصول شیء لا یکون فی فرض عدم حصوله لعدم الإنشاء بالإضافة إلی تقدیر عدمه ، فلا تنافی .

[1] وحاصل ما ذکره قدس سره فی الجواب عن دعوی لزوم رجوع الشرط إلی المادّة لبّا هو أنّ الشیء إذا کان موافقا للغرض _ سواء کان الغرض صلاح الفعل أو غیره _

ص :15

فعلاً إلیه ویطلبه حالاً، لعدم مانع عن طلبه کذلک، یمکن أن یبعث إلیه معلقاً، ویطلبه استقبالاً علی تقدیر شرط متوقع الحصول لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلاً قبل حصوله، فلا یصح منه إلا الطلب والبعث معلقاً بحصوله، لا مطلقاً ولو متعلقاً بذاک علی التقدیر، فیصح منه طلب الإکرام بعد مجئ زید، ولا یصح منه الطلب المطلق الحالی للإکرام المقید بالمجئ، هذا بناءً علی تبعیة الأحکام لمصالح فیها فی غایة الوضوح.

الشَرح:

یمکن أن یبعث المولی إلی ذلک الفعل فعلاً بأن یکون طلبه حالیا لعدم المانع عن حالیته ، کذلک یمکن أن یطلبه بنحو الاشتراط والتعلیق ، بأن لا یکون قبل حصول المعلّق علیه طلب فعلی للمانع عن فعلیة الطلب وحالیته .

وبالجملة ففی فرض المانع عن فعلیة الطلب لا یکون طلب حالی بنحو یکون المعلّق علیه قیدا لنفس الفعل مع حالیة طلبه ، کما هو ظاهر کلام الشیخ قدس سره ، وهذا _ بناءً علی تبعیة الأحکام للمصالح فی نفس الأحکام _ واضح .

وأمّا بناءً علی تبعیّتها للمصالح فی متعلّقات الأحکام فأیضا کذلک ، فإنّ تعلّق الطلب الحقیقی والبعث الفعلی بها علی هذا القول أیضاً یتوقّف علی عدم المحذور فی فعلیة الطلب ؛ إذ التبعیة إنّما تکون فی الأحکام الواقعیة بما هی واقعیة لا بما هی فعلیة ، وعلیه فلا محذور فی عدم فعلیّتها لمانع ، کما فی موارد قیام الامارات والأُصول العملیة علی خلاف التکالیف الواقعیة ، وفی بعض الأحکام فی الشریعة مع بقاء المانع من فعلیتها إلی ظهور شمس الهدایة وارتفاع الظلام .

أقول : ظاهر جوابه قدس سره عن رجوع القید إلی المادّة لّبا ، هو أنّه إذا کان الصلاح فی الفعل ، علی تقدیر حصول أمر خارجا یمکن أن ینشأ الوجوب علیه علی تقدیر حصول ذلک الأمر ، بحیث لا یکون فی فرض عدم حصوله طلب ومنشأ ولا یکون

ص :16

وأم_ّا بناءً علی تبعیتها للمصالح والمفاسد فی المأمور به، والمنهی عنه فکذلک، ضرورة أنّ التبعیة کذلک، إنّما تکون فی الأحکام الواقعیة بما هی واقعیة، لا بما هی فعلیة، فإنّ المنع عن فعلیة تلک الأحکام غیر عزیز، کما فی موارد الأصول الشَرح:

بالإضافة إلی الفعل المزبور _ علی تقدیر عدم حصول ذلک الأمر _ إرادة أصلاً ، وعلیه فلا یکون الوجوب المنشأ إلاّ بعد حصوله ولا الإرادة إلاّ بعده ، فیکون نفس الوجوب المنشأ وفعلیته أمرا استقبالیا ، لا أن یکون الوجوب وفعلیته أمرا حالیاً والواجب استقبالیا ، کما هو ظاهر المحکی عن الشیخ وقال بأن الوجدان شاهد علی أنّ الإرادة لا تقبل القید، بل کل ما یفرض من القید فهو راجع إلی المراد المشتاق إلیه.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی تعلیقته تقریبا لما ذکر الماتن قدس سره بأنّ الشوق المؤکّد لا یکّون إرادة، بل الإرادة هی المحرّکة للعضلة نحو الفعل، وما دام لم یحصل القید لا تحصل هذه الإرادة، وکما أنّه مع المانع عن الفعل المباشری لا تتحقّق الإرادة _ أی الشوق المحرّک للعضلات _ کذلک مع المانع عن بعث العبد، لا یحصل للمولی الشوق المحرّک نحو البعث، فلا یکون فی ظرف المانع بعث حالی فعلی(1).

ولکن یأتی من المصنّف قدس سره (2) أن_ّه لا یعتبر فی فعلیة الإرادة کونها محرّکة نحو المراد فعلاً ، بل یمکن أن یکون المراد أمرا استقبالیاً والإرادة حالیة وأمّا توصیفهم الشوق بکونه مؤکّداً محرِّکاً فهو بیان مرتبة للشوق الذی یطلق علیه الإرادة والتحریک الفعلی غیر معتبر فی کونها إرادة فتصویر المانع بالإضافة إلی تحریکه لا إلی حصوله ، والمدّعی فی کلام الشیخ قدس سره عدم التقیید فی الشوق ، بل القید فی المشتاق إلیه.

والجواب الصحیح هو أنّ الإرادة بمعنی الشوق المؤکّد وإن صحّ تعلّقه بالأمر

ص :17


1- (1) نهایة الدرایة : 2 / 67 .
2- (2) الکفایة : ص 102 .

والأمارات علی خلافها، وفی بعض الأحکام فی أول البعثة، بل إلی یوم قیام القائم (عجل اللّه فرجه)، مع أن حلال محمد صلی الله علیه و آله حلال إلی یوم القیامة، وحرامه حرام إلی یوم القیامة، ومع ذلک ربما یکون المانع عن فعلیة بعض الأحکام باقیاً مرّ اللیالی والأیام، إلی أن تطلع شمس الهدایة ویرتفع الظلام، کما یظهر من الأخبار المرویة عن الأئمة علیهم السلام .

الشَرح:

الاستقبالی إلاّ أنّه لیس حکما ولا دخیلاً فی فعلیة الحکم والتکلیف ، کما یشهد بذلک فعلیة الإباحة مع عدم تصویر الاشتیاق فیها بالإضافة إلی الفعل ، بل ذکرنا فی بحث الطلب والإرادة أنّ الشوق المؤکّد غیر الإرادة ، فإنّ الشوق یتعلّق بغیر المقدور بمنتهی شدّته ، والإرادة لا تتعلّق به ، وقد یصدر الفعل عن الفاعل بالاختیار بلا اشتیاق منه إلی الفعل .

وبالجملة الشوق المؤکّد لیس من الحکم ، وإرادة المولی لا تتعلّق بفعل العبد ، فإنّ فعل العبد بما هو فعل الغیر غیر مقدور للمولی بما هو مولی ، بل إرادة الآمر تتعلّق بفعله یعنی بعثه وطلبه ، ویکون إعمال قدرته فیه ، وقد ذکرنا بما أنّ الوجوب والطلب أمر إنشائی یکون إنشائه بعثا وطلبا حقیقة بکون الغرض منه إمکان کونه داعیا للعبد إلی الإتیان بمتعلّقه .

وتقدم أیضاً أنّه قد یکون صلاح الفعل علی تقدیر حصول شیء بحیث لو لم یحصل، لما کان فی الفعل الاختیاری ملاکا کما فی قوله: (إذا جاء الشتاء فالبس الثیاب الشتویة) ففی مثل هذه الموارد لا یکون للمولی موجب لإنشاء الطلب مطلقا حتی یکون القید راجعا إلی متعلّق الطلب والبعث، بل ینشأ الطلب علی نحو التعلیق علی حصول أمرٍ آخر، ویکون غرضه من المنشأ أن یکون فی ظرف فعلیّته داعیا للعبد إلی الإتیان بالفعل.

ص :18

فان قلت: فما فائدة الانشاء؟ إذا لم یکن المنشأ به طلباً فعلیاً، وبعثاً حالیاً.

قلت: کفی فائدة له أن_ّه یصیر بعثاً فعلیاً بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلی خطاب آخر، بحیث لولاه لما کان فعلاً متمکناً من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب کذلک للإیجاب فعلاً بالنسبة إلی الواجد للشرط، فیکون بعثاً فعلیاً بالإضافة إلیه، وتقدیریّاً بالنسبة إلی الفاقد له، فافهم وتأمل جیّداً.

الشَرح:

ویمکن أن یکون صلاح الفعل مطلقاً ولکن لا یتمکّن العبد من ذلک الفعل إلاّ بحصول أمرٍ آخر کقوله : (إذا تمکّنت علی تعلّم العلم فتعلّم) فإنّ کون الطلب مشروطا لأجل أنّه لا أثر للطلب بدون حصول التمکّن ، فلا یکون الطلب المشروط طلبا واقعیا إلاّ بعد حصول الشرط إذن فلا ینحصر الطلب المشروط بموارد وجود المانع عن إطلاق الطلب الحقیقی .

وقد تحصّل ممّا ذکرنا أنّ البعث والطلب وإن اتّصف بکونه حقیقیا إلاّ أنّ اتّصافه به إنّما هو بلحاظ کون الغرض من اعتباره إمکان انبعاث العبد به إلی الفعل ، وعلیه إذا کان الصلاح فی الفعل أو غیره داعیا للمولی إلی إنشاء البعث والطلب علی نحو الاشتراط والتعلیق فلا محذور فیه ، حیث إنّ الإنشاء لیس عین المنشأ خارجا لیکون تغایرهما بالاعتبار کما فی تغایر الکسر والانکسار والإیجاد والوجود حتّی یلزم فعلیة الإنشاء بلا فعلیة المنشأ فیکون ممتنعا ، بل هما متغایران ذاتا کما بیّناه سابقا . ولافرق فیما ذکرنا بین القول بکون الإنشاء مبرزا للمنشأ ومقوّما لعنوانه أو القول بأنّ المنشأ أمر مسبّب عن الإنشاء ، فإنّ التسبّب المزبور بما أن_ّه أمرٌ جعلی اعتباری فیمکن أن یوجد بالسبب التکوینی الفعلی الأمر الاعتباری المتأخّر .

ص :19

ثم الظاهر دخول المقدّمات الوجودیة للواجب المشروط، فی محل النزاع أیضاً[1]، فلا وجه لتخصیصه بمقدّمات الواجب المطلق، غایة الأمر تکون فی الاطلاق والاشتراط تابعة لذی المقدمة کأصل الوجوب بناءً علی وجوبها من باب الملازمة.

وأما الشرط المعلق علیه الإیجاب فی ظاهر الخطاب، فخروجه ممّا لا شبهة فیه، ولا ارتیاب:

أم_ّا علی ما هو ظاهر المشهور والمتصور، لکونه مقدمة وجوبیة.

الشَرح:

المقدمات الوجودیة للواجب المشروط

[1] یعنی کما أنّ مقدّمات الواجب المطلق مورد النزاع فی المقام ، ویقع البحث فی أنّ وجوب ذیها یلازم تعلّق الوجوب المولوی الارتکازی بها ، کذلک المقدّمات الوجودیة للواجب المشروط داخلة فی النزاع ، غایة الأمر أنّ المقدّمة تتبع ذیها فی إطلاق الوجوب واشتراطه ، کما أنّها تابعه له فی أصل الوجوب ففی الواجب المطلق یکون وجوب المقدّمة مطلقاً بخلاف الواجب المشروط فإنّه یکون وجوب مقدّمته أیضاً مشروطا بحصول شرط الوجوب ، فلا وجه لتخصیص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق ، کما هو مقتضی ظاهر بعض الکلمات . نعم لا یکون شرط الوجوب وقیده داخلاً فی محلّ الکلام فی الملازمة وإلی ذلک أشار قدس سره بقوله : «وأمّا الشرط المعلّق علیه الإیجاب . . . إلخ»(1) وحاصله عدم امکان تعلق الوجوب الغیری بشرط الوجوب ولو کان الشرط فعلاً اختیاریا لأنّ المزبور عدم الوجوب مع عدمه ، ووجوبه مع حصوله مقتضاه طلب الحاصل .

ص :20


1- (1) الکفایة : ص99 .

وأمّا علی المختار لشیخنا العلاّمة _ أعلی اللّه مقامه _ فلأنّه وإن کان من المقدمات الوجودیة للواجب، إلا أنّه أخذ علی نحو لا یکاد یترشح علیه الوجوب منه، فإنّه جعل الشیء واجباً علی تقدیر حصول ذاک الشرط، فمعه کیف یترشح الشَرح:

وأمّا بناءً علی مسلک الشیخ قدس سره فقد تقدّم أنّ الوجوب یتعلق بالحجّ المقارن للاستطاعة الخارجیة مثلاً ، وأنّ الاستطاعة قد أُخذت قیدا للحجّ بنحو لا یتعلّق بها وجوب ویکون المکلّف مطلق العنان بالإضافة إلیها ، ولو تعلّق بها وجوب ففی فرض عدمها یلزم الخلف ، وفی فرض وجودها یلزم طلب الحاصل .

أقول : ظاهر کلامه قدس سره تعلق الوجوب فعلاً علی مسلک الشیخ قدس سره بالحجّ علی تقدیر استطاعته ولو بعد حین من عمره ؛ ولذا یجب علیه فعلاً سائر مقدّماته الوجودیة علی تقدیر تلک الاستطاعة ، وهذا یرجع إلی الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، کما یظهر ذلک أیضاً من قوله: «فإنّه جعل الشیء _ أی الحج مثلاً _ واجبا علی تقدیر حصول ذلک الشرط، فمعه کیف یترشح علیه الوجوب ویتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلاّ طلب الحاصل»(1) ، ولکن إنّ هذا الإرجاع لا یناسب استدلال الشیخ قدس سره علی عدم کون الشرط قیدا للوجوب ، فإنّه لو أمکن کون الشرط قیداً للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لأمکن کونه قیدا للوجوب بنحو الشرط المقارن بالأولویة.

والمناسب لکلامه واستدلاله هو أن یلتزم بأنّ التکلیف فی الواجبات المشروطة کالواجبات المطلقة مجعول فی حقّ کلّ قابل للتکلیف من البالغ العاقل المتمکّن علی متعلّقه زمان العمل فیطلب منه الفعل المقیّد بحیث لا یسری الطلب إلی قیده ، ولو سری الطلب إلی ذلک القید لزم الخلف .

ص :21


1- (1) الکفایة : ص 99 .

علیه الوجوب ویتعلق به الطلب؟ وهل هو إلاّ طلب الحاصل؟ نعم علی مختاره قدس سره لو کانت له مقدمات وجودیة غیر معلق علیها وجوبه، لتعلّق بها الطلب فی الحال علی تقدیر اتفاق وجود الشرط فی الاستقبال، وذلک لان إیجاب ذی المقدمة علی ذلک حالی، والواجب إنما هو استقبالیّ، کما یأتی فی الواجب المعلّق، فإنّ الواجب المشروط علی مختاره قدس سره ، هو بعینه ما اصطلح علیه صاحب الفصول من المعلّق، فلا تغفل.

الشَرح:

ثمّ لا یخفی أنّ فی الواجبات المشروطة وإن کان الشرط قیدا لنفس الوجوب أخذا بظاهر القضیة الشرطیة فی الخطاب إلاّ أنّ الوجوب فی مقام الثبوت مجعول بمفاد القضیة الحقیقیة ، وأنّ کلّ شرط وقید للتکلیف یفرض فی مقام الجعل ثبوتا قیدا للموضوع لذلک التکلیف ، فالشارع یجعل وجوب صلاة الظهر مثلاً علی کلّ بالغٍ عاقلٍ زالت علیه الشمس ، و وجوب الحجّ علی کلّ بالغٍ عاقلٍ یکون مستطیعا ، فکل قیود التکلیف تفرض فی مقام الجعل ثبوتاً فی ناحیة الموضوع مفروضة الوجود و یجعل التکلیف علی الواجد لتلک القیود ، فاختلاف مفاد القضیة الشرطیة مع مفاد القضیة الحقیقیة ینحصر بمقام الإثبات ، وإلاّ فالقضیة الشرطیة ترجع إلی مفاد القضیة الحملیة ثبوتا ، وعلی ذلک فلیس لازم ما ذکرنا من رجوع الشرط قیداً للحکم أن یثبت حکم شرعی معلّق بعد جعله فی أفراد موضوعه ، کما توهّم من ثبوت وجوب الحج المعلّق علی الاستطاعة فی حقّ جمیع المکلّفین ، فإنّ ثبوت هذا النحو من الحکم المعلّق ثبوتا فی حقّ کلّ بالغٍ عاقلٍ لغو محض.

والعجب من الشیخ قدس سره حیث التزم بامتناع کون الشرط قیدا لنفس الوجوب ، والتزم برجوعه إلی تقیید متعلّق التکلیف ، ولم یلتزم برجوعه إلی تقیید الموضوع للتکلیف حتّی لا یرد علیه بأنّه کیف یکون العمل الاختیاری قیدا لمتعلّق التکلیف

ص :22

هذا فی غیر المعرفة والتعلم من المقدمات، وأم_ّا المعرفة، فلا یبعد القول بوجوبها، حتّی فی الواجب المشروط _ بالمعنی المختار [1] _ قبل حصول الشَرح:

ومع ذلک لا یجب تحصیله کسائر مقدّمات ذلک المتعلّق ، وأخذه طورا لا یکاد یسری إلیه الوجوب ، لا یعقل إلاّ بفرض وجود الشرط فی ناحیة الموضوع لذلک الوجوب ، وممّا یترتب علی ما ذکرنا بطلان القول باعتبار الاستصحاب التعلیقی ، حیث إنّ المستصحب فی موارد الاستصحاب هو الحکم فی مقام الثبوت ، والحکم فی مقام الثبوت له مرتبتان : مرتبة الجعل ومرتبة الفعلیة ، ولیس شیء منهما ممّا یتمّ فیه أرکان الاستصحاب علی ما سیأتی توضیحه فی محلّه إن شاء اللّه تعالی .

[1] المراد معرفة الواجب من حیث أجزائه وشرائطه ممّا یعتبر فیه من ترتیب الأجزاء وغیره کحدود الصلاة والحج والصوم وغیرها ، ولا ینبغی التأمّل فی لزوم معرفة الواجب فیما إذا کان وجوبه فعلیّا سواء کان ظرف الإتیان به أیضاً فعلیّا أو کان ظرفه أمراً استقبالیا ، کما فی الواجبات المشروطة علی مسلک الشیخ قدس سره .

ولکن ربّما یناقش فی وجوب تعلّم الواجب قبل حصول شرط وجوبه و فعلیة وجوبه کما فی الواجبات المشروطة والمؤقتة علی مسلک المشهور فیما إذا علم المکلّف أو احتمل حصول شرطها فیما بعد ، وأن_ّه إذا لم یتعلّمها قبل فعلیة وجوبها لم یتمکّن بعد فعلیة الشرط أو دخول الوقت من الإتیان بذلک الواجب بتمام أجزائه وشرائطه للغفلة أو العجز .

ووجه المناقشة أنّه قبل حصول الشرط أو دخول الوقت لا یکون الوجوب فی ذلک الواجب فعلیّا لیجب علیه المعرفة کسائر مقدّمات الواجب ، وکما أنّ سائر مقدّمات الواجب لا یکون وجوبها فعلیا قبل فعلیة وجوب ذیها _ کما تقدّم _ فکیف تجب معرفته قبل وجوبه ؟

ص :23

شرطه، لکنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الأحکام علی الأنام بمجرد قیام احتمالها، إلاّ مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل علی التکلیف، فیستقل بعده بالبراءة، وإن العقوبة علی المخالفة بلا حجة وبیان، والمؤاخذة علیها بلا برهان، فافهم.

الشَرح:

وقد ذکر المصنف قدس سره أنّ وجوب المعرفة لیس وجوبا غیریا کسائر المقدّمات الوجودیة للواجب حتّی یناقش فی وجوبها قبل فعلیة وجوب الواجب ، بل معرفته تدخل فیما یستقلّ به العقل من تنجّز الأحکام والتکالیف فی الوقائع علی المکلّف بمجرد احتمالها ، ولا یکون مخالفتها من حیث الجهل بها عذرا إلاّ مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل علی التکلیف ، فیستقلّ العقل بعده بالبراءة وأنّ العقاب علی المخالفة بلا حجّة وبیان .

أقول ما ذکره قدس سره من أنّ المعرفة وجوبها لیس من الوجوب الغیری کالمقدمات الوجودیة للواجب أمرٌ صحیحٌ ، ولکنّ استقلال العقل بما ذکره _ فیما إذا کان التعلّم من تحصیل القدرة علی الواجب قبل فعلیة وجوبه _ غیر معلوم ، وإنّما الثابت عدم المعذوریة فی مخالفة التکلیف المحتمل فعلیته ، مع التمکّن علی موافقته علی تقدیره بالاحتیاط أو بالاجتهاد والتقلید ، وأمّا عدم المعذوریة مع عدم التمکّن من موافقته ولو بترک التعلّم قبل زمان حصول فعلیّة الوجوب وحصول شرطه ، فهذا لا یستقلّ به العقل ؛ لعدم القدرة علی الفعل بعد فعلیة شرط الوجوب .

وقد یجاب عن ذلک بأنّ الغفلة أو العجز لم یؤخذ عدمها شرطا فی ناحیة التکلیف ، بل التکلیف المجعول یصیر فعلیّا بحصول شرطه ودخول وقته . نعم تکون الغفلة أو العجز مانعا عن تنجّز التکلیف فی الموارد التی یحکم العقل بالعذر ، والعقل لا یحکم بالمعذوریة مع ترک التعلّم .

ص :24

تذنیب: لا یخفی أنّ إطلاق الواجب [1] علی الواجب المشروط، بلحاظ حال حصول الشرط علی الحقیقة مطلقاً، وأم_ّا بلحاظ حال قبل حصوله فکذلک علی الحقیقة علی مختاره قدس سره فی الواجب المشروط، لأن الواجب وإن کان أمراً استقبالیاً علیه، إلا أن تلبّسه بالوجوب فی الحال، ومجاز علی المختار، حیث

الشَرح:

وفیه : أنّ من شرط التکلیف القدرة علی متعلّقه فی ظرف الواجب ، والغافل کالعاجز غیر متمکّن علیه .

ولکن مع ذلک ، الصحیح وجوب المعرفة ؛ وذلک فإنّ الأخبار الواردة فی وجوب تعلّم الأحکام والواجبات بإطلاقها تعمّ المشروطة والموقتة ، ممّا یحتمل المکلّف الابتلاء بها فضلاً عمّا یعلم ، وتکون دالّة علی أنّ العجز الناشئ عن ترک التعلّم _ ولو کان الترک قبل حصول الشرط أو الوقت _ یوجب تفویت ملاک الواجب ، نظیر ما تقدّم فی الأمر بالاغتسال فی اللیل علی الجنب الذی علیه صوم الغد عند طلوع الفجر .

وبالجملة وجوب التعلّم طریقیّ یقطع العذر فی مخالفة التکلیف أو فی تفویت الملاک الملزم الموجود فی مورده .

[1] قد تقدّم فی بحث المشتق أنّ معناه ضیّق لا ینطبق إلاّ علی المتلبس بالمبدأ ، وعلیه فإن کان إطلاق الواجب علی الحجّ _ مثلاً _ بلحاظ حال الاستطاعة ، یکون الإطلاق حقیقیا ، بلا فرق بین مسلک المشهور ومسلک الشیخ قدس سره ، وإن کان الإطلاق بلحاظ قبل الاستطاعة یکون الإطلاق حقیقیا بناءً علی مسلکه قدس سره بخلاف مسلک المشهور ، فإنّ الإطلاق یکون بالعنایة ، کما صرّح به الشیخ البهائی قدس سره ، والشاهد لکون الإطلاق مع العنائیة أنّ إطلاق المستحبّ علی الحجّ حال عدم الاستطاعة صحیح لا عنایة فیه .

ص :25

لا تلبّس بالوجوب علیه قبله، کما عن البهائی رحمه الله تصریحه بأن لفظ الواجب مجاز فی المشروط، بعلاقة الأَوْل أو المشارفة.

وأمّا الصیغة مع الشرط، فهی حقیقة علی کل حال لاستعمالها علی مختاره قدس سره فی الطلب المطلق، وعلی المختار فی الطلب المقید، علی نحو تعدد الدالّ والمدلول، کما هو الحال فیما إذا أرید منها المطلق المقابل للمقید، لا المبهم المقسم، فافهم.

الشَرح:

وأمّا صیغة الأمر فهی موضوعة لإنشاء البعث والطلب الجامع بین مطلقه ومشروطه المعبّر عن ذلک الجامع بالمبهم المَقسم فیکون استعمالها فی إنشاء الطلب علی نحو حصل الحقیقة سواء بها الطلب المطلق أو المشروط ، فإنّها فی کلتا الصورتین تستعمل فی معناها الموضوع له ، ویکون إنشاء أصل الطلب بها وخصوصیة الإطلاق أو الاشتراط بدال آخر ، وهی القرینة العامّة یعنی مقدمات الحکمة فیما کانت الخصوصیة هی الإطلاق المقابل للاشتراط ، والقرینة الخاصّة فیما کانت الخصوصیة هی الاشتراط .

والمراد من الطلب المطلق علی مسلک الشیخ قدس سره الإطلاق الذاتی الذی لا یحتاج إلی مقدّمات الحکمة ، حیث إنّ الاحتیاج إلیها فی إثبات الإطلاق العرضی الذی یکون فی فرض إمکان تقییده ، و قد التزم قدس سره بعدم إمکان تقیید الوجوب بوجه ثبوتا أو إثباتا.

أقول : إطلاق الواجب علی الفعل یکون باعتبارین .

أحدهما : بحسب مقام الإنشاء والجعل ، کما یقال : الصلوات الخمس واجبة ، وغسل المیت واجب ، وغسل الجمعة مستحب ، ولا فرق بین المسلکین فی هذا الإطلاق ، فإنّه علیهما حقیقی لا جازی لفعلیة الإنشاء وتحقّقه حتّی علی المسلک المشهور .

ص :26

ومنها: تقسیمه إلی المعلّق والمنجّز[1]، قال فی الفصول: إنّه ینقسم باعتبار آخر إلی ما یتعلّق وجوبه بالمکلّف، ولا یتوقف حصوله علی أمر غیر مقدور له، کالمعرفة، ولیُسمَّ منجّزاً، وإلی ما یتعلّق وجوبه به، ویتوقف حصوله علی أمر غیر مقدور له، ولیُسمَّ معلّقاً کالحج، فإن وجوبه یتعلّق بالمکلّف من أوّل زمن

الشَرح:

والثانی : الإطلاق بحسب فعلیة الوجوب المنشأ والطلب ، فالوجوب قبل حصول شرطه غیر فعلی ، فلا یکون الفعل حینئذ واجبا ، لیکون الإطلاق بلحاظه حقیقیا وهذا علی مسلک المشهور.

وأمّا بناءً علی مسلک الشیخ قدس سره فالفعل الاستقبالی واجب حقیقة ؛ لعدم الاشتراط فی وجوبه .

الواجب المعلق والمنجز

:

[1] حاصل ما ذکره فی الفصول أنّه إن لم یتوقّف متعلّق الوجوب علی أمرٍ غیر مقدور کالمعرفة باللّه (سبحانه) یکون الواجب منجّزا وإن توقّف علیه کالحجّ بالإضافة إلی مجیء زمانه بناءً علی حصول وجوبه بحصول الاستطاعة أو خروج الرفقة یکون الواجب معلّقا ، والفرق بین المعلّق والمشروط أنّ نفس الوجوب فی المشروط معلّق علی حصول الشرط بخلافه فی المعلّق فإنّه لا یتوقّف علی حصول الشرط ، بل المتوقّف علی حصوله هو الواجب.

وذکر الماتن فی ذیله : بما أنّ الواجب المعلّق عند صاحب الفصول بعینه هو ما التزم به الشیخ قدس سره فی الواجب المشروط حیث ذکر امتناع رجوع القید إلی نفس الوجوب ثبوتا وإثباتا وأنّ القیود کلّها ترجع إلی متعلّق الوجوب أنکر علی صاحب الفصول هذا التقسیم ، وقد عرفت أنّ إنکاره یرجع فی الحقیقة إلی الواجب المشروط

ص :27

الإستطاعة، أو خروج الرفقة، ویتوقف فعله علی مجئ وقته، وهو غیر مقدور له، والفرق بین هذا النوع وبین الواجب المشروط هو أن التوقف هناک للوجوب، وهنا للفعل. انتهی کلامه رفع مقامه.

لا یخفی أنّ شیخنا العلاّمة __ أعلی اللّه مقامه __ حیث اختار فی الواجب المشروط ذاک المعنی، وجعل الشرط لزوماً من قیود المادة ثبوتاً وإثباتاً، حیث ادعی امتناع کونه من قیود الهیئة کذلک، أی إثباتاً وثبوتاً، علی خلاف القواعد العربیة وظاهر المشهور، کما یشهد به ما تقدم آنفاً عن البهائی، أنکر علی الفصول هذا التقسیم، ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره، یکون من المشروط بما اختار له من المعنی علی ذلک، کما هو واضح، حیث لا یکون حینئذ هناک معنی آخر معقول، کان هو المعلق المقابل للمشروط.

الشَرح:

باصطلاح المشهور لا إلی الواجب المنجّز والمعلّق .

نعم یرد علی الفصول أنّ تقسیم الواجب إلی المنجّز والمعلّق بلا موجب ، فإنّ الوجوب الغیری للمقدّمة من لوازم حالیّة وجوب ذیها سواء کان متعلّقه منجّزا أو معلّقا ، ولو أُرید تقسیم الواجب من غیر دخله فی المهمّ لکثرة تقسیماته .

أقول : قد ذکر صاحب الفصول قدس سره هذا التقسیم لتصحیح وجوب المقدّمة فی بعض الواجبات قبل مجیء زمانها ، کاغتسال الجنب والحائض فی اللیل لصوم یوم الغد ، وکالخروج إلی السفر قبل زمان مجیء أشهر الحجّ للنائی .

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی ذیل ما أورده الماتن علی الفصول: انّه لا یخفی أنّ انفکاک زمان الوجوب عن زمان الواجب (أی تأخّر زمان الواجب) هو المصحّح لوجوب مقدّمته قبل زمان الواجب ، وإلاّ فلو کان زمان الوجوب متّحدا مع زمان الواجب لما وجبت مقدّمته قبل زمان الواجب ، ولعله قدس سره أشار إلی ذلک بقوله

ص :28

ومن هنا انقدح أن_ّه فی الحقیقة إنّما أنکر الواجب المشروط، بالمعنی الذی یکون هو ظاهر المشهور، والقواعد العربیة، لا الواجب المعلّق بالتفسیر المذکور.

وحیث قد عرفت _ بما لا مزید علیه _ امکان رجوع الشرط إلی الهیئة، کما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد، فلا یکون مجال لإنکاره علیه.

نعم یمکن أن یقال: إنّه لا وقع لهذا التقسیم، لأن_ّه بکلا قسمیه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصیة کونه حالیّاً أو استقبالیّاً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف فی المهم، وإلا لکثر تقسیماته لکثرة الخصوصیات، ولا اختلاف فیه، فإن ما رتّبه علیه من وجوب المقدمة فعلاً __ کما یأتی __ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحالیّته، لا من استقبالیّة الواجب، فافهم.

الشَرح:

«فافهم» ، فوجوب المقدّمة حینئذٍ وإن کان معلولاً لوجوب ذیها لکن وجوب المقدّمة قبل زمان ذیها لتقدّم زمان وجوب ذیها علی زمان ذیها ، بحیث لولا هذا التقدم والتأخر لما وجبت المقدّمة قبل زمان ذیها(1) .

أقول : ما ذکره قدس سره لا یزید أمرا ولا یوجب خللاً فیما ذکر الماتن قدس سره من أنّ وجوب المقدّمة فی مورد لفعلیّة زمان ذیها ، سواء کان نفس الواجب مقیّدا بقیدٍ متأخّر أم لا .

والذی ینبغی أن یقال فی المقام هو أنّ نفس فعلیة وجوب ذی المقدّمة _ مع کونه مقیّدا بقیدٍ استقبالی _ لا یوجب وجوب مقدّمته بأن یؤتی بالمقدّمة قبل مجیء زمان ذیها ولو بنحو الواجب الغیری الموسّع ، بل یختصّ ذلک بما إذا لم یؤخذ المتأخّر قیدا لنفس المقدّمة أیضاً بأن لم تکن المقدّمة من قبیل الاغسال للمستحاضة

ص :29


1- (1) نهایة الدرایة : 2 / 72 .

ثمّ إنّه ربّما حکی عن بعض أهل النظر [1] من أهل العصر إشکال فی الواجب المعلّق، وهو أن الطلب والإیجاب، إنّما یکون بإزاء الإرادة المحرکة للعضلات نحو المراد، فکما لا تکاد تکون الإرادة منفکة عن المراد، فلیکن الإیجاب غیر منفک عما یتعلق به، فکیف یتعلّق بأمر استقبالی؟ فلا یکاد یصح الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر.

الشَرح:

الکثیرة أو المتوسّطة بالإضافة إلی صومها فی الغد .

وعلیه، فلا یکون مجرّد انفکاک زمان فعلیة وجوب فعل عن زمان الإتیان بنفس الفعل مجدیا فی تعیّن أو جواز الإتیان بمقدّمته قبل مجیء ذلک الزمان وإنّما یکون ذلک فیما إذا کان المتأخّر مأخوذا فی ناحیة نفس الواجب النفسی خاصّة لا فی ناحیة وجوبه ولا فی ناحیة مقدّمته .

الإشکالات علی الواجب المعلّق

:

[1] قیل هو المحقّق النهاوندی قدس سره ، وحاصله أنّ الإیجاب یقابل الإرادة ، وکما لا تنفک إرادة الفاعل عن مراده ، بل تحریک العضلات نحو المراد بفعلیّة الإرادة ، فلیکن الحال فی الإیجاب الفعلی کذلک ، بأن یکون تحریک العبد نحو المتعلّق تابعاً لحدوث الطلب الفعلی ، فإنّ الایجاب أیضاً إرادة، غایة الأمر تتعلّق الإرادة فی الأول بفعل الغیر وفی الثانی بالفعل المباشری ، وعلی ذلک فلا یمکن تصویر الواجب المعلّق ، حیث إنّ لازمه الفصل بین تحقّق الطلب الفعلی والمطلوب بزمان.

وأجاب المصنّف قدس سره عن المناقشة بوجوهٍ ثلاثة : الأوّل والثانی راجعان إلی الإرادة التکوینیة المتعلّقة بالفعل المباشری، والثالث إلی الإیجاب والإرادة التشریعیّة.

ص :30

قلت: فیه أنّ الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالی، کما تتعلق بأمر حالی، وهو أوضح من أن یخفی علی عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أن تحمّل المشاق فی تحصیل المقدمات __ فیما إذا کان المقصود بعید المسافة وکثیر المؤونة __ لیس إلا لأجل تعلق إرادته به، وکونه مریداً له قاصداً إیّاه، لا یکاد یحمله علی التحمل إلاّ ذلک، ولعلّ الذی أوقعه فی الغلط ما قرع سمعه من تعریف الإرادة بالشوق المؤکد المحرَّک للعضلات نحو المراد، وتوهم أنّ تحریکها نحو المتأخر ممّا لا یکاد، وقد غفل عن أن کونه محرکاً نحوه یختلف حسب اختلافه، فی کونه مما لا مؤونة له کحرکة نفس العضلات، أو ممّا له مؤونة ومقدمات قلیلة أو کثیرة، فحرکة العضلات الشَرح:

وحاصل الوجه الأوّل : أنّ الإرادة التکوینیة أیضاً تتعلّق بأمرٍ استقبالی وتنفکّ عن المراد بحسب الزمان ، کما إذا تعلقّت بأمرٍ یکون موقوفا علی مقدّماتٍ یحتاج فی تحصیلها إلی طول الزمان ، کإرادة الوصول إلی مرتبة الاجتهاد واستنباط الأحکام من مدارکها ، فإنّ الشوق إلیه الحادث للنفس یدعو إلی تحمّل المشاقّ فی تحصیل مقدّماته لیحصل له الغرض بعد سنین ، ولو کان حدوث الشوق إلی الاجتهاد بعد حصول مقدّماته لما کان کلّ مرید للاجتهاد متحمّلاً للمشاقّ من تحصیل المقدّمات ، فحرکة العضلات المعتبرة فی الإرادة التکوینیة نحو المراد أعمّ من أن تکون نحو نفس المراد أو نحو مقدّماته .

وحاصل الوجه الثانی أنّه یمکن انفکاک إرادة الفاعل عن مراده بأن لا تتحرّک عضلاته نحو المراد ولا نحو مقدّماته لکون المراد وما اشتاق إلیه کمال الاشتیاق أمرا استقبالیا غیر محتاج إلی تهیئة مقدّمة ، فیکون غرضهم من توصیف الإرادة والشوق المؤکّد بکونها محرکّة للعضلات بیان المرتبة من الشوق الذی تسمّی إرادة ، ضرورة إمکان کون اشتیاق الإنسان إلی أمرٍ استقبالی أقوی وآکد من الشوق المحرّک فعلاً نحو

ص :31

تکون أعم من أن تکون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، والجامع أن یکون نحو المقصود، بل مرادهم من هذا الوصف __ فی تعریف الإرادة __ بیان مرتبة الشوق الذی یکون هو الإرادة، وإن لم یکن هناک فعلاً تحریک، لکون المراد وما اشتاق الشَرح:

مراد حالی أو استقبالی یحتاج إلی مقدّمة أو مقدّمات .

وحاصل الوجه الثالث : منع قیاس الایجاب بالارادة التکوینیة وذلک فإنّ البعث والطلب لإیجاد الداعی إلی الفعل فی نفس العبد و حرکته نحو الفعل تتوقّف علی علمه بالبعث وتصوّره ما یترتب علی موافقته ومخالفته والتصدیق بما هو صلاح له وبعد ذلک ینقدح الداعی فی نفسه فتتحرّک عضلاته نحو الفعل . فیکون تخلل زمان بین زمان الإیجاب وبین الفعل خارجا ممّا لابدّ منه . وإذا أمکن الإنفکاک بینهما بزمان قصیر أمکن الفصل بالطویل أیضاً.

وعن المحقّق الاصفهانی قدس سره ما حاصله أنّ ما ذکر المصنف قدس سره فی ناحیة کلّ من الإرادة التکوینیة والتشریعیة غیر تام ، أمّا الإرادة التکوینیة فالأمر فیها کما ذکر النهاوندی من أنّ الإرادة (أی الشوق المؤکّد) علّة تامّة لحرکة العضلات نحوالفعل.

وبیانه : أنّ النفس فی وحدتها کلّ القوی لها منازل ومراتب ، ولها فی کلّ مرتبة و منزل من تلک المراتب والمنازل شأن وحرکة فتدرک فی مرتبة العاقله أنّ فی الفعل فائدة عائدة إلی جوهر ذاتها أو إلی قوة من قواها ویحصل لها فی مرتبة القوة الشوقیة شوق إلی ذلک الفعل ، وإذا لم تجد مانعا ومزاحما یخرج الشوق المنبعث من حدّ النقصان إلی الکمال المعبّر عن ذلک الکمال بالإجماع تارة ، وبتصمیم العزم أُخری ، وبالقصد والإرادة ثالثة ، وینبعث من هذه المرتبة من الشوق البالغة کماله وحدّ نصابه ، حرکة وهیجان فی مرتبة القوّة العاملة فی العضلات .

وعلی ذلک فلا یکون الشوق فی مرتبة ضعفه إرادة وقوة فاعلة ، لتعلّق الشوق

ص :32

إلیه کمال الاشتیاق أمراً استقبالیاً غیر محتاج إلی تهیئة مؤونة أو تمهید مقدمة، ضرورة أن شوقه إلیه ربّما یکون أشد من الشوق المحرّک فعلاً نحو أمر حالی أو استقبالی، محتاج إلی ذلک.

الشَرح:

بما هو خارج عن اختیارها ، بل إنّما یکون إرادة فی مرتبة کماله وهیجانه للقوّة العاملة فی العضلات ، ففاعلیة النفس محرکیّتها بالإرادة التی تنبعث منها القوی العاملة فی العضلات ، وإذا لم تنبعث تلک القوی فلا یکون عدم الأنبعاث إلاّ بعد خروج الشوق عن نقصانه وعدم وصوله إلی کماله .

ولا منافاة بین بقاء النفس فی مرتبة النقص من الشوق بالإضافة إلی الفعل المراد وبین خروج الشوق إلی مقدّمته _ المتولّد من الشوق إلی ذلک الفعل _ إلی مرتبه کماله ، وینبعث من الشوق الواصل إلی کماله القوی العاملة فی العضلات بالإضافة إلی تلک المقدمة فلا یکون التصدی لمقدمات المطلوب والمراد کاشفا عن وصول الشوق إلی ذی المقدمة إلی کماله .

وبتعبیر آخر : عدم المانع والمزاحم بالاضافة إلی مقدمة فعل ، الموجب لخروج الشوق بها إلی الارادة الناشی من الشوق بذی المقدمة لا ینافی بقاء الشوق إلی ذی المقدمة لوجود المزاحم والمانع فی مرتبة نقصانه .

والحاصل تکون الارادة المتعلّقة بشیء الجزء الأخیر من العلّة التامّة لذلک الشیء ، فلا یعقل انفکاک انبعاث القوی العاملة فی العضلات عن إرادة ذلک الشیء وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن علّته التامة ، هذا بالإضافة إلی الارادة التکوینیة .

وأمّا الإرادة التشریعیّة فالأمر فیها أیضاً کذلک ، فإنّ شوق المولی بفعل العبد لایمکن أن یصل إلی مرتبة الإرادة ؛ لأنّ فعل العبد خارج عن اختیاره بما هو مولی ، فیتولّد من اشتیاقه إلی فعل العبد المنقاد شوق إلی بعثه نحو ذلک الفعل ، ویصل هذا

ص :33

هذا مع أن_ّه لا یکاد یتعلّق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة أن البعث إنما یکون لإحداث الداعی للمکلّف إلی المکلف به، بأن یتصوره بما یترتب الشَرح:

الشوق إلی مرتبة الإرادة ، فإرادة المولی تتعلّق ببعثه ، وهذا البعث لا یترتّب علیه انبعاث العبد إلی الفعل بنحو القهر والغلبة ، فإنّه خلاف الفرض ، بل لابدّ من أن یکون بنحو یترتّب علیه إمکان انبعاثه .

وبتعبیر آخر ما تعلّق به شوق المولی ومیله هو الفعل الاختیاری للعبد ، ولو کان بعث المولی إلی فعله بنحو القهر والإجبار لکان ذلک بعث إلی غیر ما اشتاق إلیه ، فلابدّ من أن یکون بعثه علی نحو یترتّب علیه إمکان انبعاث العبد فیما لو کان منقادا ، والمفروض فی الواجب المعلّق عدم ترتّب الانبعاث عند تحقّق البعث مع فرض انقیاد العبد ، فلا یکون بعث المولی بعثاً حقیقة ولو إمکانا(1) .

أقول قد تقدّم سابقا وکرارا أنّ إرادة المولی لا تتعلّق بالبعث الخارجی الحقیقی ، فإنّ البعث الخارجی الحقیقی قهر علی الغیر لا ینفکّ عن الانبعاث الخارجی ولا یتحقّق بدونه ، کما لا یتحقّق الکسر بلا انکسار ، وإنمّا تتعلّق إرادته بالبعث الخارجی الاعتباری ، وإذا کان البعث اعتباریا فیمکن أن ینشأ البعث معلقا علی أمر استقبالی بنحو الشرط المقارن أو غیره نظیر الوصیة التملیکیة ویمکن أن ینشأ البعث مطلقا ویقیّد المبعوث إلیه بأمر استقبالی ، فإنّ الاعتبار غیر التکوین ، غایة الأمر فاللازم فی موارد إطلاق البعث هو أن یکون لإطلاقه أثر حتّی لا یلحق إطلاقه بأنیاب الأغوال ولئلاّ یکون الاعتبار فیه لغوا ومجرّد فرض و خیال ، والمفروض فی موارد إطلاقه واستقبالیة متعلّق البعث والطلب حصول الأثر ، ولو کان الأثر تهیّؤ

ص :34


1- (1) نهایة الدرایة : 2 / 73 .

علیه من المثوبة، وعلی ترکه من العقوبة، ولا یکاد یکون هذا إلاّ بعد البعث بزمان، فلا محالة یکون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا یتفاوت طوله وقصره، الشَرح:

المکلّف بالاشتغال ببعض مقدّماته ، نظیر الاغتسال فی اللیل لصوم یوم الغد والتحفّط بمال الاستطاعة لسفر الحج وإلی غیر ذلک .

وقد ذکرنا فی بحث الطلب والإرادة أنّ الشوق بأی مرتبة فرض لا یکون إرادة ، إذ قد تتحقّق إرادة الفعل من غیر اشتیاق إلیه أصلاً ، فلا نعید .

وقد یجاب عن المحقّق الاصفهانی قدس سره بأنّ للفاعل فی موارد الفعل بالمباشرة إرادتین تتعلّق کلّ منهما بمراد ، إذ تعیّن الإرادة للنفس فی النفس إنّما یکون بالمراد ، ومع تعدّد المراد لا یعقل وحدة الإرادة ، فإنّ المتعدّد بما هو متعدّد لا یتعلّق به إرادة واحدة ، فالعطشان الذی یرید رفع عطشه أو شرب الماء تکون إرادته متعلّقة برفع عطشه أو شرب الماء ، ومع الالتفات بأنّ شرب الماء (أی إیجاده) لا یکون إلاّ بحرکة عضلاته تکون حرکة عضلاته بإرادة ثانیة ، ولو کانت تبعیّة ؛ ومصحّح اختیاریة الأفعال هذه الإرادة الثانیة ، إذ لو لم تکن حرکتها بإرادة ثانیة لا یکون الفعل اختیاریا ، والإرادة التی لا تنفکّ عن المراد هی هذه الإرادة لا الاولی ، حیث لا یعقل تحقّق الإرادة بالحرکة الفعلیة من غیر تحرّک العضلات فعلاً ، وأمّا الإرادة الأُولی فیمکن تعلّقها بما یکون أمرا استقبالیا ، وهذا لیس من التخصیص فی حکم العقل ، بل لأنّ تحقّق حرکة العضلات یکشف عن بروز الإرادة للنفس بلا مزاحم ، وأمّا الإرادة الأُولی فهی تابعة لکیفیّة تعلّقها ، فإن تعلقّت بالفعل فورا یحصل للنفس إرادة ثانیة التی لا تنفک عن حرکة العضلات ، وإن تعلّقت بالفعل استقبالاً فلا تحصل الإرادة الثانیة إلاّ مع بقاء الإرادة الأُولی إلی وصول زمان الفعل فی المستقبل ، ففی ذلک الزمان تحصل الإرادة الثانیة ، فاللّتی یترتّب علیها حرکة العضلات هی الإرادة الثانیة المترتّبة

ص :35

فیما هو ملاک الإستحالة والإمکان فی نظر العقل الحاکم فی هذا الباب، ولعمری ما ذکرناه واضح لا سترة علیه، والإطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة فی أذهان بعض الطلاب.

الشَرح:

علی الإرادة الأُولی فیما کان المراد به فعلیّا ولو بفعلیة القید الاستقبالی(1) .

أقول : ما ذکره قدس سره غریب ، وذلک فإنّ تحقّق الإرادتین إنّما یکون فیما لا ینطبق المراد علی نفس حرکة العضلات ، إذ من أراد شرب الماء وشربه ، فالصادر منه بما هو فعل لیس إلاّ عبارة عن تحریک الحلق بنحو ینزل الماء فی المعدة ، وعلیه فلاتتعلّق مع إرادة شرب الماء إرادة أُخری متعلّقه بحرکة الحلق بنحو یزدرد الماء.

نعم تهیئة الماء وإیصاله إلی فضاء الحلق یکون بإرادةٍ أُخری ، حیث إنّ ذلک مقدّمة للشرب ، وهذا غیر منکر فی کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره ، وإنّما الکلام فیما إذا أراد _ مثلاً _ مصافحة إنسان قد مدّ یده إلیه ، فإنّ إرادة مصافحته عبارة أُخری عن تعلّق إرادته بمدّ یده ووضعها فی الید الممدودة إلیه ، ولیس فی البین إرادتان إحداهما تتعلّق بمصافحته ، وأُخری بمدّ یده ووضعها فی الید الممدودة إلیه ، وإذا لم یکن فی مثل ذلک إرادتان ، فکیف تکون هذه الأفعال اختیاریة بناءً علی ما أسّسه واختاره ؟ وکیف تکون إرادتها علّة تامّة لحصول المراد ؛ إذن فلا معنی للقول بتصحیح اختیاریة الأفعال بالالتزام بإرادة ثانیة متعلّقة بحرکة الأعضاء والجوارح ، تابعة للإرادة الأُولی المتعلّقة بالمراد بالذات . ومع الإغماض عن ذلک والتسلیم بأنّ للفاعل المرید إرادتین تتعلّق إحداهما بالمراد بالذات ، والأُخری بحرکة العضلة ، فنقول : کما أنّ الإرادة بالإضافة إلی المراد بالذات تابعة لکیفیة تعلّقها ، کذلک الإرادة

ص :36


1- (1) تهذیب الأُصول : 1 / 182.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

بحرکة العضلات _ بشهادة الوجدان والبرهان _ تابعة لکیفیة تعلّق الإرادة الأُولی ، فإن کانت الإرادة الأُولی متعلّقه بفعل حالاً تتعلّق الإرادة بحرکة العضلات أیضاً حالاًّ ، وإن تعلّقت بفعلٍ مستقبلاً ، تعلّقت الإرادة بحرکة العضلات أیضاً مستقبلاً بأن یکون الاستقبال قیدا للحرکة لا لإرادتها . ودعوی أنّ إرادة حرکة العضلات فی هذه الموارد لا تحصل من الأوّل وإنّما تحصل عند فعلیة القید الاستقبالی ، خلاف الوجدان وبرهان تبعیة الإرادة الثانیة .

ثمّ إنّه قد أنکر المحقّق النائینی قدس سره الواجب المعلّق والتزم بامتناع فعلیّة الوجوب بدون فعلیّة أمر یکون من القید غیر الاختیاری المأخوذ فی الواجب کالزمان ، واوضح ذلک بأنّ الإیجاب یعنی الإرادة التشریعیة تکون بإزاء الإرادة التکوینیة ، وکما لا یصحّ من الإنسان إرادة فعل وعمل فعلاً یکون ذلک الفعل مقیّدا بزمان الاستقبال أو أمر استقبالی غیر مقدور إلاّ بنحو التقدیر والتعلیق ، کذلک لا یصحّ الأمر به فعلاً ، بل یصحّ علی نحو الاشتراط والتقدیر ، وهذا بخلاف عمل یتوقّف ذلک العمل علی تهیئة مقدّمات مقدورة ، ولا یحصل إلاّ بعد حصولها ، فإنّه یصحّ من الإنسان إرادة ذلک العمل کإرادة استنباط الأحکام ، حیث یتوقّف الاستنباط علی مراجعة الأدلّة والنظر فیها ، فیکون الداعی إلی هذه المقدّمات نفس إرادة الاستنباط ، ففی مثل ذلک یصحّ للآمر الأمر بذلک العمل بلا محذور .

وإن شئت قلت : ما یکون من العمل موقوفا علی مقدّمات مقدورة للفاعل ، ففی مثله لا بأس بالأمر فعلیّا بذلک العمل وقبل حصول تلک المقدّمات ، فیکون الأمر به داعیا إلی الانبعاث إلی تلک المقدّمات ، وما یکون من العمل موقوفا علی حصول أمر غیر اختیاری ، کالزمان المستقبل والزمانی ، ففی مثل ذلک لا یصحّ الأمر

ص :37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الفعلی بذلک العمل ، بل یکون الأمر علی تقدیر مجیء ذلک الزمان أو الزمانی کما هو الحال فی الواجب المشروط ، وهذا مقتضی لحاظ الإرادة التشریعیة بالإضافة إلی الإرادة التکوینیة ، حیث لا تکون الإرادة التکوینیة فی هذا القسم إلاّ بنحو التقدیر والاشتراط ، فمثلا إرادة شرب الماء موجودة لکلّ ملتفتٍ إلی صلاح شربه عند عطشه ، ولکن هذه الإرادة تقدیریّة ، وتکون فعلیّة عند فعلیّة العطش ، ولو کان فی هذا القسم مقدّمة مقدورة بحیث لو لم یأت بها المکلّف قبل فعلیّة الإیجاب لماتمکّن منه بعد فعلیّة العطش ، یکون إیجاب تلک المقدّمة بأمر نفسی تهیّئی لا بالالتزام بفعلیة وجوب ذیها واستقبالیة ذلک الواجب ، کما هو ظاهر الفصول(1) .

أقول : لا یکون التقدیر والتعلیق فی نفس الإرادة _ یعنی الشوق المؤکّد _ بأن یکون للشوق وجود تقدیری فی مقابل وجوده التنجیزی ، بل هو کسائر الأُمور الواقعیة یتّصف بالوجود تارةً وبالعدم أُخری ، وإنّما یکون القید راجعا إلی المشتاق إلیه باعتبار دخله فی صلاحه ، بلا فرق بین کون القید اختیاریا أو غیر اختیاری .

ودعوی أنّه لایکون للشوق فعلیّة مع کون القید أمرا غیر اختیاری بخلاف ما إذا کان القید اختیاریا غیر تامّة ، فإنّه یکفی فی فعلیّة الشوق إحراز ذلک القید فی موطنه ، کما إذا أحرز أنّ الأمیر یعطیه الجائزه الخطیرة غدا ، فإنّه یصبح باشتیاق مفرط لأخذ تلک الجائزة من غیر أن ینام فی لیلته مهما طالت ، شوقاً إلیها .

والسرّ فی ذلک أنّ الموجب للاشتیاق لیس الوجود الخارجی بنفسه، بل بإحراز حصوله فی موطنه، ویشهد لعدم الفرق بین کون القید اختیاریا أو غیر اختیاری أنّ

ص :38


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 137 .

وربّما أشکل علی المعلّق أیضاً، بعدم القدرة علی المکلّف به فی حال البعث [1]، مع أنّها من الشرائط العامة.

الشَرح:

الاشتیاق إلی شرب الماء عند عطشه لا یوجب جعل نفسه عطشانا أو قطع المسافة..

نعم لو کانت الإرادة هی الاختیار بمعنی إعمال النفس قدرتها فی أحد طرفی الشیء ، فهذا لا یتعلّق بغیر المقدور والمتأخر ، کما تقدّم التفصیل فی بحث الطلب والإرادة.

وذکرنا أنّ الحاصل فی المتأخّر القصد والبناء وأنّ صرف المولی قدرته یکون علی فعله وهو إنشاء البعث والطلب ، والبعث والطلب بما أن_ّه أمر اعتباری لا یحتاج فی تحقّقه إلی حصول القید خارجا ، فیمکن للمولی لحاظ ذلک القید فی ناحیة المتعلّق ، لا فی ناحیة نفس البعث ، فیکون واجبا معلّقا ، کما یمکن أن یلاحظ قیدا لنفس البعث ، فیکون واجبا مشروطا .

والحاصل لو کان المراد بالإرادة التشریعیة البعث الاعتباری ، فهذا لا یقاس بالإرادة التکوینیة ، وعلی تقدیر القیاس فالإرادة التکوینیة أیضاً _ بمعنی الشوق والمیل والبناء قلبا _ تتعلّق بفعل استقبالی مع إحراز حصول قیدها فی موطنه ، ولو کان المراد بالإرادة الاختیار وإعمال القدرة ، فصرف المولی قدرته یکون بفعله ، وهو إنشاء البعث لا بفعل العبد ، علی ما تقدّم .

[1] وقد یقال : إنّ ما ذکره فی الفصول من کون غیر الاختیاری قیدا للواجب ، وکون الوجوب بالإضافة إلیه مطلقاً ، غیر صحیح ، بل الواجب المعلّق بعینه هو الواجب المشروط بنحو الشرط المتأخّر ، بحیث لو لم یحصل ذلک القید غیر الاختیاری فی موطنه أو لم یحصل التمکّن علی الفعل فی ذلک الظرف لما کان وجوب من الأوّل ، فیکون الوجوب من الاوّل مشروطاً بحصول ذلک القید غیر

ص :39

وفیه: إنّ الشرط إنّما هو القدرة علی الواجب فی زمانه، لا فی زمان الإیجاب والتکلیف، غایة الأمر یکون من باب الشرط المتأخر، وقد عرفت بما لا مزید علیه أن_ّه کالمقارن، من غیر انخرام للقاعدة العقلیة أصلاً، فراجع.

الشَرح:

الاختیاری فی موطنه ، کما تقدّم بحث الواجب المشروط .

ودعی صاحب الفصول قدس سره إلی تصحیح الواجب المعلق تصیحیح وجوب الإتیان ببعض مقدّمات الواجب قبل حصول ظرف نفس الواجب ، یترتّب علی الوجوب المعلّق بذلک الفعل بنحو المشروط بالشرط المتأخّر أیضاً ، فلا موجب لتصحیح وجوب الإتیان ببعض مقدّمات الواجب قبل وقت ذلک الواجب إلی الالتزام بالواجب المعلّق ، بل ما سمّاه واجبا معلقا فهو فی الواقع من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر .

ویظهر من الماتن قدس سره فی الجواب عن الإشکال الذی تعرّض له فی المتن بقوله : «وربّما أشکل علی المعلّق أیضاً بعدم القدرة... الخ»(1) أنّ فی موارد الواجب المعلّق تکون القدرة علی الفعل شرطا للتکلیف بنحو الشرط المتأخّر ، ولکن نفس القید غیر الاختیاری المتأخّر کالزمان لا یکون قیدا لنفس التکلیف ، ولو بنحو الشرط المتأخّر ، بل ذلک القید قیدٌ للواجب فقط ، وبهذا یفترق الواجب المشروط بالشرط المتأخّر عن الواجب المعلّق ، فإنّه لو کان نفس القید غیر الاختیاری قیدا للتکلیف بنحو الشرط المتأخّر لکان الواجب من قبیل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وأمّا إذا کان القید المزبور قیدا للواجب فقط ولم یکن فی ناحیة الوجوب إلاّ الاشتراط بالقدرة علی ذلک الفعل فی ظرفه فهو من الواجب المعلّق .

ص :40


1- (1) الکفایة : ص 103 .

ثمّ لا وجه لتخصیص المع_لق بما یتوقف حصوله علی أمر غیر مقدور[1]، بل ینبغی تعمیمه إلی أمر مقدور متأخّر، أُخذ علی نحو یکون مورداً للتکلیف، ویترشح علیه الوجوب من الواجب، أو لا، لعدم تفاوت فیما یهمّه من وجوب الشَرح:

ولکن لا یخفی أن اشتراط حصول ذلک الزمان یدخل فی اشتراط القدرة علی ذلک الفعل ، فیکون حصوله قیدا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر وللواجب بنحو الشرط المقارن ، نظیر دخول الوقت ، حیث أنّه شرط للوجوب وقید للصلاة أیضاً ، ولا فرق فی اشتراط التکلیف بین کون الشیء بنفسه قیدا له أوبما یحصل عنه .

والمتحصّل أنّ مرجع الواجب المعلّق إلی الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فلا یکون أحدهما فی مقابل الآخر ، وقد أشرنا إلی أنّ الثمرة التی ذکرت للواجب المعلّق تترتّب علی الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، حتّی لو فرض أنّ أحدهما فی مقابل الآخر .

[1] وحاصل ظاهر کلامه قدس سره أن_ّه لا وجه لتخصیص الواجب المعلّق بما إذا کان قید الواجب أمرا غیر اختیاری ، بل ینبغی تعمیمه لما إذا کان القید المزبور اختیاریا مأخوذا فی الواجب بنحو یترشّح علیه الوجوب الغیری ، أو مأخوذا بنحو لا یترشّح علیه ذلک الوجوب ، فإنّ غرض صاحب الفصول من تقسیم الواجب إلی المعلّق والمنجّز لزوم تحصیل بعض المقدّمات التی لا یتمکّن المکلّف من الإتیان بها فی ظرف الواجب ، فإنّ لزوم التحصیل یترتّب علی کون الواجب معلّقا ، ولا یترتّب علی کونه مشروطا ، لثبوت الوجوب الحالی فی الواجب المعلّق ، فیترشّح من الوجوب الحالی المتعلّق بالواجب وجوب تلک المقدّمات بناءً علی الملازمة ، ولا یترشّح هذا الوجوب لها بناءً علی الواجب المشروط ؛ لعدم وجوب حالی لذلک الواجب إلاّ بعد حصول الشرط .

ص :41

تحصیل المقدمات التی لا یکاد یقدر علیها فی زمان الواجب المعلّق، دون المشروط، لثبوت الوجوب الحالی فیه، فیترشح منه الوجوب علی المقدمة، بناءً علی الملازمة، دونه لعدم ثبوته فیه إلا بعد الشرط.

الشَرح:

ولکن هذا بناءً علی کون اشتراط وجوب الواجب بالشرط بنحو الشرط المقارن ، وأمّا إذا کان بنحو الشرط المتأخّر وفرض وجود الشرط فی ظرفه المتأخّر ، یکون وجوب ذلک الواجب حالیّاً أیضاً ، فیکون الوجوب الغیری لتلک المقدّمة أیضاً حالیا ، ولیس الفرق بین الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وبین الواجب المعلّق إلاّ کون وجوب الواجب مرتبطا بحصول الشرط المتأخّر ، بخلاف المعلّق ، فإنّ المرتبط فیه بالمتأخّر نفس الواجب .

أقول: قد تقدّم أنّ الوجوب فی الواجب المعلّق أیضاً مرتبط بحصول ذلک الشرط، فإنّه لولاه لما تمکّن المکلّف من الإتیان بالواجب، والقدرة علی الإتیان بالواجب فی ظرفه شرط لوجوبه لا محالة، غایة الأمر علی تقدیر اعتبار المتأخّر فی الواجب أیضاً کما هو الفرض یکون نظیر اشتراط شیء فی کلٍّ من وجوب الواجب ونفس الواجب، واعتبر فی الوجوب بنحو الشرط المتأخّر وفی الواجب بنحو الشرط المقارن.

والحاصل أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، وهذا من جهة کون شیء واجبا معلّقا أو مشروطا .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أن_ّه لا وجه لتخصیص المعلّق بما إذا کان قید الواجب أمرا غیر اختیاری ، بل یعم ما إذا کان ذلک القید الاستقبالی مقدورا ، سواء أخذ فی الواجب بنحو یترشّح علیه أیضاً الوجوب الغیری أم لا ، فهو صحیح فی الجملة وغیر صحیح بالجملة إذ لو کان ذلک القید للواجب أمرا اختیاریا ، بحیث یترشّح علیه

ص :42

نعم لو کان الشرط علی نحو الشرط المتأخر، وفرض وجوده، کان الوجوب المشروط به حالیاً أیضاً، فیکون وجوب سائر المقدمات الوجودیة للواجب أیضاً حالیاً، ولیس الفرق بینه وبین المعلّق حینئذ إلاّ کونه مرتبطاً بالشرط، بخلافه، وإن ارتبط به الواجب.

الشَرح:

الوجوب الغیری ، فیدخل الواجب فی المنجّز ، حیث لا یعتبر فی الواجب المنجّز المساوی للمطلق أن لا یکون قید للواجب أصلاً ، نظیر الأمر بدفن المیت ، فإنّه مقیّد بکونه بعد تغسیله وکفنه والصلاة علیه ، وبما أنّ کلاًّ من الاغتسال والکفن والصلاة علیه أمر مقدور ، یکون الدفن واجبا منجّزا فیجب مع قیوده .

وأمّا إذا أخذ القید المقدور فی الواجب بنحو لا یترشّح علیه الوجوب، ویعبّر قدس سره عن ذلک بأنّ وجوده الاتفاقی قید للواجب، فما ذکره وإن کان صحیحاً إلاّ أنّ هذا أیضاً یدخل فی الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، فیکون حصوله فیما بعد شرطا لوجوب الواجب بنحو الشرط المتأخّر ولنفس الواجب بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، وذلک لما یأتی من أنّه إذا أراد المولی أن لا یسری الوجوب الغیری الشرعی أو لزوم الإتیان العقلی إلی قید الواجب فعلیه أن یفرض ذلک القید فی ناحیة موضوع التکلیف مفروض الوجود، کما إذا التزمنا بأنّ وجوب غسل مسّ المیت یکون حالیا قبل مسّه، ولکن الغسل لابدّ من أن یقع بعد المسّ، فعلی المولی أن یفرض فی موضوع وجوب الاغتسال مسّ المیت بنحو الشرط المتأخّر، ویجعل المسّ قیدا لنفس الاغتسال بنحو الشرط المتقدّم، فیجب علی المکلّف الذی یعلم بمسّ المیت بعد ذلک تحصیل الماء لاغتساله فیما أحرز أنه لا یتمکّن علی تحصیل الماء بعد المسّ.

وبما أنّ القسم الأول لایدخل فی الواجب المعلّق بوجه _ والمراد بالقسم الأوّل

ص :43

تنبیه: قد انقدح _ من مطاوی ما ذکرناه [1] _ أنّ المناط فی فعلیة وجوب المقدمة الوجودیة، وکونه فی الحال بحیث یجب علی المکلّف تحصیلها، هو فعلیة وجوب ذیها، ولو کان أمراً استقبالیاً، کالصوم فی الغد والمناسک فی الموسم، کان وجوبه مشروطاً بشرط موجود أخذ فیه ولو متأخراً، أو مطلقاً، منجزاً کان أو معلقاً، فیما إذا لم تکن مقدمة للوجوب أیضاً، أو مأخوذة فی الواجب علی نحو یستحیل أن تکون مورداً للتکلیف، کما إذا أخذ عنواناً للمکلّف، کالمسافر والحاضر والمستطیع إلی غیر ذلک، أو جعل الفعل المقید باتفاق حصوله، وتقدیر وجوده __ بلا اختیار أو باختیاره __ مورداً للتکلیف، ضرورة أن_ّه لو کان مقدمة الوجوب أیضاً، لا یکاد یکون هناک وجوب إلاّ بعد حصوله، وبعد الحصول یکون وجوبه طلب الحاصل، کما أنه إذا أخذ علی أحد النحوین یکون کذلک، فلو لم یحصل لما کان الفعل مورداً للتکلیف، ومع حصوله لا یکاد یصح تعلقه به، فافهم.

الشَرح:

القید الاختیاری للواجب الذی یترشّح علیه الوجوب الغیری _ التزم بعض بوقوع الغلط فی نسخة الکتاب بسقوط کلمة «لا» فی قوله «علی نحو یکون موردا للتکلیف»(1) ، وکان الصحیح «علی نحو لا یکون موردا للتکلیف» وأنّ کلمة «أو لا» بعد قوله «ویترشّح علیه الوجوب» زائدة .

وکانت العبارة هکذا «بل ینبغی تعمیمه إلی أمر مقدور ومتأخّر أُخذ علی نحو لا یکون موردا للتکلیف ویترشّح علیه الوجوب لعدم تفاوت فیما یهمّه» واللّه العالم.

[1] حاصله : أنّ المناط فی فعلیة الوجوب الغیری للمقدّمة وکونها بحیث یلزم علی المکلّف تحصیلها هو حالیة الوجوب فی ذی المقدّمة وفعلیّته ، سواء کان نفس

ص :44


1- (1) الکفایة : ص 103 .

إذا عرفت ذلک، فقد عرفت أن_ّه لا إشکال أصلاً فی لزوم الإتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب، إذا لم یقدر علیه بعد زمانه، فیما کان وجوبه حالیاً مطلقاً، ولو کان مشروطاً بشرط متأخر، کان معلوم الوجود فیما بعد، کما لا یخفی، ضرورة فعلیة وجوبه وتنجزه بالقدرة علیه بتمهید مقدمته، فیترشح منه الوجوب علیها علی الملازمة، ولا یلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها، وإنما اللازم الشَرح:

ذی المقدّمة أمرا حالیا أو استقبالیا ، کالصوم فی الغد والمناسک فی الموسم ، ولا یفرق أیضاً فی فعلیة وجوب ذیها بین کون وجوبه مشروطا قد تحقّق ذلک الشرط، کما إذا کان مشروطا بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، أو یتحقّق فی ظرفه ، کما إذا کان وجوبه مشروطا بنحو الشرط المتأخّر أو کون وجوبه مطلقاً بنحو الواجب المنجّز ، أو بنحو الواجب المعلّق ، فإنّه مع حالیة وجوب ذی المقدّمة یجب علی المکلّف مقدّماته الوجودیة .

نعم فیما کانت مقدّمة الوجود قیدا للوجوب أیضاً ، أو کانت مقدّمة الوجود مأخوذة فی الواجب بنحو لا یسری إلیها الوجوب الغیری، کما إذا أُخذت عنوانا للمکلّف، کالمسافر والحاضر والمستطیع، أو کان الواجب هو الفعل المقیّد باتفاق حصوله باختیار المکلّف أو بلا اختیاره، لم یتعلّق بها الوجوب الغیری ولم یلزم تحصیلها.

والوجه فی عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب وشرطه بالوجوب الغیری فیما أخذ بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ظاهر حیث لا فعلیة لوجوب ذی المقدّمة قبل تحقّقه ، وبعد تحقّقه لا معنی لتعلّق الوجوب الغیری به ، لأن_ّه من طلب الحاصل ، وکذا فیما کان القید عنوانا للمکلّف ، فإنّ وجوب الصلاة قصرا یتوقّف علی السفر خارجا لیصیر المکلّف مسافرا ، ومعه لا معنی لتعلّق الوجوب الغیری بالسفر بعد

ص :45

الإتیان بها قبل الإتیان به، بل لزوم الإتیان بها عقلاً، ولو لم نقل بالملازمة، لا یحتاج إلی مزید بیان ومؤونة برهان، کالإتیان بسائر المقدمات فی زمان الواجب قبل إتیانه.

فانقدح بذلک: أن_ّه لا ینحصر التفصی عن هذه العویصة بالتعلق بالتعلیق، أو بما یرجع إلیه، من جعل الشرط من قیود المادة فی المشروط.

فانقدح بذلک: أن_ّه لا إشکال فی الموارد التی یجب فی الشریعة الإتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب، کالغسل فی اللیل فی شهر رمضان وغیره مما وجب علیه الصوم فی الغد، إذ یکشف به بطریق الإنّ عن سبق وجوب الواجب، و إنّما المتأخر هو زمان إتیانه، ولا محذور فیه أصلاً، ولو فرض العلم بعدم سبقه، لإستحال اتصاف مقدمته الشَرح:

صیرورة المکلّف مسافرا لأن_ّه من طلب الحاصل .

وذکر قدس سره أنّ الأمر فیما کان القید شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر أو کان الفعل المقیّد بقیدٍ اتفاقیّ موردا للتکلیف أیضاً کذلک ، بمعنی أنّ تعلّق الوجوب الغیری بالقید یکون من طلب الحاصل ، وکذا فیما أُخذ القید عنوانا للمکلّف بنحو الشرط المتأخّر .

ولکن قد یتوهّم أنّ الشیء إذا کان شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لا یلزم من تعلّق الوجوب الغیری به طلب الحاصل؛ لأنّ فعلیّة الواجب تکون قبل تحقّق ذلک الشرط، ولکنّه فاسد، فإنّ اشتراط وجوب الواجب بشیء یلازم اشتراط وجوب مقدّماته أیضاً بذلک الشیء بمقتضی التبعیة فی الملازمة، ولو کان نفس ذلک الشیء أیضاً واجبا غیریّا لکان وجوبه أیضاً مشروطا بحصول نفسه ، وهذا من طلب الحاصل .

وبهذا یظهر الحال فیما إذا کان انطباق عنوان علی المکلّف فیما بعد شرطا لتکلیفه فعلاً بالفعل ، فإنّ الأمر الغیری لا یمکن أن یتعلّق بتطبیق ذلک العنوان ، بناءً

ص :46

بالوجوب الغیری، فلو نهض دلیل علی وجوبها، فلا محالة یکون وجوبها نفسیاً ولو تهیؤاً، لیتهیأ بإتیانها، ویستعد لإیجاب ذی المقدمة علیه، فلا محذور أیضاً.

إن قلت: لو کان وجوب المقدمة فی زمان کاش_فاً [1]

الشَرح:

علی ما تقدّم من رجوع تقیید الواجب بالوجود الاتفاقی للقید _ کجعله عنوانا للمکلّف _ إلی اشتراط وجوب الفعل به بنحو الشرط المتأخّر ، وظاهر ذیل کلام الماتن قدس سره یساعد علی ذلک أیضاً ، فتدبر تجزم أن_ّه لا معنی للوجود الاتفاقی للقید غیر کون المکلّف مطلق العنان بالإضافة إلی ذلک القیدالاختیاری ، ولازم کون المکلّف مطلق العنان بالإضافة إلیه جعل التکلیف الفعلی علی تقدیر حصوله ، کما هو الشأن فی جمیع قیود التکلیف ثبوتا .

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ الواجب التعلیقی والواجب المشروط بالشرط المتأخّر علی اصطلاح الشیخ قدس سره والمشهور مرجعهما إلی أمرٍ واحدٍ ثبوتا ، فیکون التکلیف علی تقدیر حصول ذلک القید المتأخّر ، فعلیّا قبله لحصول شرطه المتأخّر فی موطنه ، سواء کان القید أمرا غیر اختیاری أو اختیاریا .

وثمرة فعلیّة التکلیف لزوم الإتیان بمقدّماته الوجودیة تعیّنا فیما إذا لم یتمکّن المکلّف _ علی تقدیر عدم تحصیلها فعلاً _ من الإتیان بمتعلّق التکلیف فیما بعد ، وبنحو التوسعة والتخییر فیما إذا تمکّن منه بالإتیان بالمقدّمة بعد ذلک .

[1] هذا إشکال علی ما التزم به قدس سره من أنّ وجوب المقدمة قبل زمان ذیها یکشف إنّاً عن سبق وجوب ذلک الواجب وکون وجوبه فعلیا، وإن کان نفس الواجب فعلاً استقبالیا.

وحاصل الإشکال أنّه بناءً علی کشف حالیة وجوب المقدّمة عن فعلیة وجوب ذیها یکون فعلیة وجوب ذیها موجبا لتعلّق الوجوب الغیری بسائر مقدّماته أیضاً ولو

ص :47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

موسّعا ، فتجب المبادرة إلی تلک المقدّمات قبل زمان الواجب فیما إذا لم یتمکّن المکلّف منها بعد زمان الواجب لولا المبادرة ، مع أنّ الأمر لیس کذلک .

وأجاب قدس سره بأنّه یلتزم بهذه المبادرة إلاّ إذا کانت القدرة المأخوذة من ناحیة سائر المقدّمات أو بعضها قدرة خاصّة، وهی القدرة علیها بعد مجیء زمان الواجب، لامطلق القدرة ولو فی زمان وجوب الواجب .

وبیان ذلک أنّ المقدّمة الوجودیة وإن لم تکن بنفسها قیدا لوجوب ذیها إلاّ أنّ التمکّن علی تلک المقدّمة یکون قیدا للتکلیف بذیها لا محالة ؛ ولذا لا یجب الشیء فیما إذا لم یتمکّن المکلّف علی مقدّمةٍ من مقدّماته ، والتمکّن علی المقدّمة المعتبرة فی التکلیف بذیها لیس خصوص التمکّن علیها بعد حصول ظرف الإتیان بنفس الواجب ، بل یعم التمکّن علیها فی زمان التکلیف بذیها . وإذا لم یجب تحصیل مقدّمة قبل حصول ظرف الواجب بحیث إذا لم یأتِ بها لم یتمکّن علیها فی ظرف الواجب ، یکون ذلک کاشفا عن کون المعتبر من التمکّن علیها فی وجوب ذیها هی القدرة علیها بعد حصول ظرف الواجب کما لو أن_ّه لو ثبت عدم وجوب التحفّظ بها حتّی بعد حصول ظرف الواجب ، کجواز إجناب المکلّف نفسه بعد حصول ظرف الواجب _ یعنی الصلاة _ ، ولو مع علمه بأنّه لا یتمکّن من الغسل مع إجناب نفسه ، یکون ذلک کاشفا عن کون المعتبر فی وجوب الصلاة مع الطهارة المائیة من حدث الجنابة خصوص التمکّن علی تلک الطهارة فی ظرف القیام إلی الصلاة المعبّر عن ذلک بالقدرة علی المقدّمة حال العمل .

أقول : قیام الدلیل علی وجوب مقدّمة فی زمانٍ _ کما فی وجوب الغسل فی اللیل بالإضافة إلی صوم الغد _ لا یکون کاشفا عن فعلیّة التکلیف بذیها فی ذلک

ص :48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الزمان ، فإنّ تعلّق الوجوب الغیری بشیءٍ لیس إلاّ لتوقّف الواجب علیه ، وإذا فرض توقّف استیفاء الصلاح الملزم فی الواجب علی الإتیان بشیءٍ بحیث لا یمکن استیفاء الصلاح بدونه ، یکون العقل حاکما بلزوم تحصیل القدرة علیه بتحصیل ذلک الشیء ، ولو قبل فعلیّة وجوب ذلک الواجب .

وقد ذکرنا عند التعرّض لوجوب التعلّم أنّ تفویت الغرض الملزم للمولی _ کمخالفة تکلیفه _ قبیح فی نظر العقل ، وعلیه فلو فرض أنّ الواجب کذلک ولم یکن للمکلّف سبیل إلی معرفة ذلک ، لکان علی المولی الحکیم الأمر بتلک المقدّمة والبعث إلیها قبل البعث إلی ذیها، ولا نتعقّل لهذا الوجوب معنیً غیر الوجوب الغیری.

وما یسمّی بالوجوب النفسی التهیّئی بحیث یتعدّد العقاب فی صورة المخالفة أو یکون العقاب علی مخالفة الأمر بتلک المقدّمة لا یمکن الالتزام به مع استقلال العقل بأنّه یصحّ للمولی مؤاخذة العبد علی تفویت الملاک الملزم فی ذلک الواجب فی ظرفه ، ولو بتعجیز نفسه بترک تلک المقدّمة التی أمر بها المولی قبل الأمر بذیها .

وبتعبیرٍ آخر : فعلیة وجوب المقدّمة تتبع فعلیة ملاک ذیها فیما کانت تلک المقدّمة دخیلة فی استیفاء ملاک ذیها ، بخلاف المقدّمة التی یکون التمکّن علیها فی ظرف الواجب دخیلاً فی ملاک ذلک الواجب ، فإنّه لا یصحّ للمولی الأمر بتلک المقدّمة قبل مجیء ظرف ذلک الواجب .

ویمکن أن یکون ملاک الواجب بالإضافة إلی مقدّمة من مقدّماته فعلیا ، وبالإضافة إلی سائرها غیر فعلی ، فلا یکون تعلّق الوجوب الغیری بالأوّل کاشفا عن فعلیة وجوب ذیها ، وإنّما یکون کاشفا عن فعلیة الملاک وملزمیّته بالإضافة إلی تلک المقدّمة ، ولذا ذکرنا فی بحث الشرط المتأخّر للواجب أنّ وجوب الصوم عن

ص :49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المستحاضة یسقط بدخول اللیل ، لکون بقاء وجوبه لغوا ، ولکن الوجوب الغیری المتعلّق باغتسالها فی اللیل باقٍ ، لبقاء الملاک الملزم وعدم حصوله بدونه.

وما فی بعض الکلمات من أنّ إیجاب مقدّمة فی مورد قبل إیجاب ذیها، من الإیجاب للغیر لا الإیجاب بالغیر؛ لا یرجع إلی أمرٍ صحیح بعد الإحاطة بما ذکرنا من أنّ الإیجاب الغیری للمقدّمة یتبع فعلیة ملاک ذیها من ناحیتها لا فعلیة الأمر بذیها، فعلا وسنذکر فیما بعد من أنّه لو کان للوجوب الغیری أثر، حتّی یکون مولویا فهو هذا المورد.

وجمیع ما ذکره الماتن قدس سره وغیره مبنی علی کون فعلیة وجوب فعل متوقّفة علی تعلّق إرادة المولی بذلک الفعل ، ویلزم من إرادته إرادة ما یتوقّف علیه ذلک الفعل من المقدّمات قهرا ، ولکن قد تقدّم منّا تعلّق إرادة المولی بفعل نفسه وهو البعث نحو الفعل لملاک ملزم یکون ذلک الملاک داعیا له إلی البعث نحوه ، وإذا اختلفت مقدّماته من حیث دخلها فی ذلک الفعل ملاکا یبعث إلی مقدمته التی لها دخل فی ملاکه مطلقا قبل مجیء ظرف ذلک الفعل کما تقدم من غیر أن یطلب نفس الفعل قبل مجیء ظرفه .

لا یقال: الأمر بمقدّمة قبل التکلیف بذیها إرشاد إلی دخلها فی ملاکه الملزم مطلقا، فلا یدخل الأمر بها فی التکلیف المولوی بالمقدّمة، لیقال إنّه غیری لا نفسی تهیّئی، فقاعدة الملازمة بین إیجاب ذی المقدّمة ومقدّمته فی الفعلیة وعدمها لم تنتقض.

فإنّه یقال : جمیع الأوامر المولویة _ نفسیة کانت أو غیریة _ تکشف عقلاً _ بمقتضی حکمة المولی _ عن ثبوت الملاک فی متعلّقاتها نفسیا أو غیریا ، وهذا لا یوجب الإرشادیة ، بل لو لم یأمر المولی بالفعل وأخبر أنّ له فیه ملاکا ملزما له بداعی البعث إلیه یعتبر هذا أمرا وطلبا مولویا قاطعا لعذر العبد ومصحّحا لاحتجاجه

ص :50

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

علیه فیما إذا لم یأت بالفعل المزبور مع تمکّنه علیه .

وممّا ذکرنا یظهر أن_ّه لو ترک المکلّف المقدّمة التی وجبت علیه قبل التکلیف بذیها، فلا یکون فی حقّه تکلیف بذیها فیما بعد، فإنّ تکلیفه به لغو محض، ولکن مع ذلک یستحقّ العقاب علی ترکه وتفویته ملاکه الملزم، والأمر الغیری بتلک المقدّمة مصحّح لهذا الاستحقاق، حیث إنّ الامتناع بسوء الاختیار ینافی التکلیف ولا ینافی استحقاق العقاب.

أقسام القدرة

فتحصّل ممّا ذکرنا : أن_ّه قد تکون القدرة علی الواجب فی ظرفه دخیلة فی ملاکه الملزم ، بحیث لا یکون فی حق العاجز عنه فی ذلک الظرف فوت ملاک ملزم ، فیجوز فی هذا الفرض للمکلّف تعجیز نفسه قبل حصول ظرف ذلک الواجب .

وقد تکون القدرة علیه فی ذلک الظرف دخیلة فی مجرّد استیفاء الملاک ، بحیث یفوت علی العاجز عنه فی ذلک الظرف الملاک الملزم ، وفی هذه الصورة لا یجوز للمکلّف تعجیز نفسه قبل ذلک الظرف ، بل یجب علیه التحفّظ وتحصیل القدرة علیه ، ولا مانع من أن یکون تحصیل القدرة علیه من ناحیة بعض مقدّماته من قبیل القسم الثانی ، وفی ناحیة بعضها الآخر من قبیل الأوّل .

ویستکشف کون القدرة فی ظرف الواجب کذلک _ أی دخیلةً فی مجرد الاستیفاء _ بتوجیه التکلیف به ولو قبل مجیء ظرف الواجب ولو بنحو الشرط المتأخّر أو الأمر بمقدّمته التی تکون القدرة علی الواج_ب فی ظرفه دخ_یلة فی مجرد استیفاء ملاکه کما فی الأمر بالاغتسال علی الجنب والحائض فی اللیل لصوم الغد.

ص :51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وقد یقال : بأنّه إذا لم یؤخذ فی خطاب الأمر بفعل قدرة المکلّف علیه بأن کان الحاکم بتقیید موضوع ذلک التکلیف ، العقل بملاک قبح خطاب العاجز وتکلیفه ، تکون القدرة فیه شرطا فی استیفاء الملاک ، بخلاف ما إذا أُخذت القدرة علیه فی خطاب التکلیف ، فإنّه لا یستفاد منه ثبوت الملاک إلاّ فی صورة القدرة علیه.

ولکن الصّحیح أنّ الکاشف عن الملاک هو التکلیف بالفعل ، فإذا فرض عدم ثبوت التکلیف فی حقّ العاجز عن العمل ولو بحکم العقل ، فلا کاشف عن الملاک وإحراز کون القدرة علی العمل دخیلة فی استیفاء الملاک فقط یحتاج إلی التکلیف الفعلی بذلک العمل ولو بنحو الشرط المتأخر أو الأمر بمقدّمته قبل زمان الواجب ، المعتبر فی التکلیف بالصلاة مع الطهارة المائیة من الحدث الأکبر ، خصوص التمکّن فی ظرف القیام إلی الصلاة المعبّر عن ذلک بالقدرة حال العمل .

قد التزم قدس سره بأنّ وجوب مقدّمة من مقدّمات الواجب فی زمان یکشف عن فعلیّة الوجوب المتعلّق بذلک الواجب فی ذلک الزمان ، ویرد علی هذا الإلتزام أمران :

أحدهما: ما تقدّم من أنّه قد تکون مقدّمة الواجب فی زمان واجبا مع العلم بعدم فعلیة وجوب الواجب فی ذلک الزمان ، کما فی وجوب معرفة بعض العبادات ، کالصلاة قبل مجیء زمان وجوبها ، مع أنّ وجوبها یکون بدخول الوقت .

وقد أجاب عن هذا الأمر بأنّ الوجوب الغیری لمقدّمة یکشف عن فعلیة وجوب ذیها فی ذلک الزمان بطریق الأنّ لا محالة ، سواء کان فعلیة وجوبه بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر ، والأمر فی مثل تعلّم أجزاء الصلاة وشرائطها قبل الوقت لیس للوجوب الغیری بل للوجوب النفسی التهیئی .

وثانیهما: ما أشار إلیه بقوله : «إن قلت : لو کان... الخ» وتقریر الإشکال أنّه إذا

ص :52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

کشف وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب عن فعلیّة وجوب ذلک الواجب لوجب قبل ذلک الظرف سائر مقدّماته أیضاً ، ولو موسّعا فیجب المبادرة إلی تلک المقدّمات فیما إذا أحرز المکلّف اتفاقا عدم التمکّن منها بعد حصول ظرف الواجب ، مع أنّ الأمر لیس کذلک ، فإنّ الشیخ قدس سره مع إنکاره الواجب المشروط باصطلاح المشهور وإلتزامه بفعلیة وجوب الصلاة قبل الوقت لم یلتزم بوجوب المبادرة إلی الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة، حتّی فیما إذا أحرز المکلّف عدم تمکّنه منها بعد دخول الوقت.

وأجاب قدس سره عن هذا الإشکال بأنّه إذا کان وجوب الواجب فعلیا فی زمان صار وجوب سائر مقدّماته أیضاً فعلیّا .

ولکن بما أنّ القدرة علی مقدّمة الواجب شرط فی وجوب ذلک الواجب ، فربّما یکون المأخوذ فی وجوبه ولو بنحو الشرط المتأخر القدرة الخاصّة علی مقدّمته ، وهی القدرة علیها فی ظرف الواجب ، ففی مثل ذلک لا یتعیّن علی المکلّف المبادرة إلی تلک المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه ، حتّی فیما إذا أحرز عدم تمکّنه علیها فی ظرف الواجب لو لم یبادر ، لأنّ عدم التمکّن علیها فی ذلک الظرف یکشف عن عدم وجوب الصلاة بالوضوء أو الغسل من الأوّل ، ولو کان هذا العجز لأجل ترک المکلّف المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه .

أقول : قد تقدّم أنّ وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب لا یکشف إلاّ عن فعلیة الملاک فی الواجب من ناحیة تلک المقدّمة ، بمعنی أنّ القدرة علی الواجب فی ظرف وجوب الواجب شرط فی استیفاء ملاکه ، ولیست القدرة علیها فی ظرف الواجب دخیلاً فی أصل ملاکه ، فیمکن أن یکون وجوب المقدّمة فعلیا من غیر أن

ص :53

عن سبق وجوب ذی المقدمة لزم وجوب جمیع مقدماته ولو موسّعاً، ولیس کذلک بحیث یجب علیه المبادرة لو فرض عدم تمکنه منها لو لم یبادر.

قلت: لا محیص عنه، إلاّ إذا أخذ فی الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة، وهی القدرة علیه بعد مجیء زمانه، لا القدرة علیه فی زمانه من زمان وجوبه، فتدبر جدّاً.

الشَرح:

یکون وجوب ذیها فی ذلک الزّمان فعلیا ، ویرد علی الماتن قدس سره بناءً علی ما اختاره _ من إمکان إیجاب المقدّمة قبل فعلیة وجوب ذیها بالوجوب النفسی التهیئی _ أنّه کیف یستکشف من الأمر بمقدّمة من مقدّمات الواجب فی زمان ، کون وجوب الواجب فعلیا فی ذلک الزمان ، لأنّ وجوب المقدّمة المحتمل کونه نفسیا تهیُّئیّا یمنع من الکشف عن فعلیّة وجوب ذیها ، بخلاف ما ذکرناه من کشفه عن فعلیة ملاک ذیها من ناحیة تلک المقدّمة ، فإنّه لا مانع من هذا الکشف ، فتدبّر جیّدا .

نعم لو أحرز وجوب الواجب قبل مجیء زمانه وظرفه ، لزم الإتیان بسائر مقدّماته موسّعا ، ویتعیّن المبادرة إلیها لو أحرز المکلّف عدم تمکّنه من تلک المقدّمات بعد حصول ظرفه إلاّ فیما ذکره قدس سره فی الموارد التی اعتبر فی وجوب الواجب القدرة الخاصّة علی تلک المقدّمات .

ونزید علی ما ذکره أن_ّه قد یقوم دلیل علی عدم وجوب التحفّظ علی القدرة علی مقدّمة الواجب وجواز تفویتها حتّی فی ظرف الواجب ، کما ورد الدلیل علی جواز إجناب المکلّف نفسه بعد دخول وقت الصلاة مع علمه بأنّه علی تقدیر إجناب نفسه لا یتمکّن من الغسل ، فیکون هذا الدلیل کاشفا عن کون التمکّن من الغسل بحیث لو لم یأتِ المکلّف بتلک المقدّمة قبله لما تمکّن علیه فی ذلک الظرف المتّحد مع زمان التکلیف به .

ص :54

تتمة: قد عرفت اختلاف القیود فی وجوب التحصیل [1]، وکونه مورداً للتکلیف وعدمه، فإن علم حال قید فلا إشکال، وإن دار أمره ثبوتاً بین أن یکون راجعاً إلی الهیئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، وأن یکون راجعاً إلی المادة علی الشَرح:

مقتضی الاصل العملی عندالشک فی اعتبار قید

:

[1] إذا ورد خطاب الأمر بفعل ، بمفاد القضیة الشرطیة فظاهرها اشتراط وجوب الفعل بحصول القید بنحو الشرط المقارن ، وکذا کلّ قید فی الخطاب أخذ فی ناحیة الموضوع لذلک التکلیف فیما لو کانت القضیة حملیة ، ولا یختصّ ذلک بالتکلیف ، بل یجری فی سائر الأحکام والقیود المذکورة لها أو لموضوعاتها ، فیؤخذ بذلک إلاّ مع القرینة علی خلافها سواء کانت القرینة داخلیة مغیّرة لظهور الخطاب ، أو معیّنة للمراد منه ، ولو کانت خارجیة .

وأمّا إذا لم یکن فی البین خطاب حتّی یستظهر منه ، أو کان الخطاب مقرونا بما یوجب إجماله فی دلالته الاستعمالیة التصدیقیة أو ما یوجب سقوط ظهور الخطاب عن الاعتبار فتصل النوبة إلی الأصل العملی .

وأمّا إذا دار الأمر بین اشتراط وجوب الفعل بقید أو کون وجوبه مطلقاً بأن یکون القید راجعا إلی الواجب ، فالاستصحاب فی عدم تعلّق التکلیف بالفعل فی فرض عدم حصول ذلک القید ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه فی فرض عدم حصوله ، یثبت نتیجة الواجب المشروط بلا فرق بین کون ذلک القید من الفعل الاختیاری أو کان أمرا غیر اختیاری .

وفیما أحرز کونه قیداً لنفس التکلیف ودار أمره بین أن یکون قیداً له بنحو الشرط المقارن أو بنحو الشرط المتأخّر فالاستصحاب فی عدم اعتبار التکلیف قبل حصول ذلک القید، ولا أقلّ من أصالة البراءة تعیّن، نتیجة الواجب المشروط بنحو الشرط المقارن.

ص :55

نهج یجب تحصیله أولا یجب، فإن کان فی مقام الإثبات ما یعین حاله، وأنّه راجع إلی أیّهما من القواعد العربیة فهو، وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملیة.

وربّما قیل فی الدوران بین الرجوع إلی الهیئة أو المادة، بترجیح الإطلاق فی طرف الهیئة [1]، وتقیید المادة، بوجهین:

أحدهما: إنّ إطلاق الهیئة یکون شمولیاً، کما فی شمول العام لأفراده، فإنّ وجوب الإکرام علی تقدیر الاطلاق، یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیراً له، وإطلاق المادة یکون بدلیاً غیر شامل لفردین فی حالة واحدة.

الشَرح:

ثم إنّه إذا علم کون شیء قیدا للتکلیف بنحو الشرط المقارن ولکن لم یعلم أنّ ذلک الأمر قید لمتعلّق التکلیف أیضاً أو أنه لیس إلاّ قیدا لوجوبه ، کما إذا قضی الولد الأکبر _ ما علی أبیه من الصلاة والصیام بعد موته _ حال صغره وبعد البلوغ شکّ فی أنّ القضاء عند صغره کافٍ فی سقوط ما کان علی أبیه من الصلاة والصیام أو أن_ّه یتعیّن علیه أن یقضی حال کبره ، وفی مثل ذلک یستشکل فی جریان البراءة عن وجوب القضاء علیه بعد کبره ، لأن_ّها لا تثبت سقوط ما کان علیه ، بل الاستصحاب فی بقاء ما کان علی أبیه یثبت وجوب القضاء .

أقول : هذا مبنی علی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة ، وأمّا بناءً علی عدم جریانه فیها فأصالة البراءة عن وجوب القضاء جاریة .

دوران الأمر بین تقیید المادة أو الهیئة

:

[1] إذا ورد فی الخطاب أمر بفعلٍ ، وذکر فی ذلک الخطاب قید تردّد أمر القید بین أن یکون قیدا لوجوب ذلک الفعل حتّی لا یجب تحصیله ، أو قیدا لنفس الفعل ، حتّی یجب تحصیله ، ونظیر ذلک ما إذا لم یذکر القید فی الخطاب ، وعلمنا من الخارج ولو بخطابٍ آخر اعتبار القید ، ودار أمره بین أن یعتبر فی وجوب الفعل أو

ص :56

ثانیهما: إنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محل الإطلاق فی المادة ویرتفع به مورده، بخلاف العکس، وکلّما دار الأمر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی.

أمّا الصغری، فلأجل أنّه لا یبقی مع تقیید الهیئة محل حاجة وبیان لإطلاق المادة، لأنها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة، بخلاف تقیید المادة، فإنّ محلّ الحاجة إلی إطلاق الهیئة علی حاله، فیمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید وعدمه.

وأمّا الکبری، فلأنّ التقیید وإن لم یکن مجازاً إلاّ أنّه خلاف الأصل، ولا فرق

الشَرح:

نفس الفعل .

فقد حکی عن الشیخ قدس سره أن_ّه بناءً علی إمکان رجوع القید إلی مفاد الهیئة یکون المتعیّن تقیید المادّة وبقاء الهیئة علی إطلاقه ، ولا تصل النوبة إلی الأصل العملی ، وذلک لوجهین :

الوجه الأوّل: أنّ إطلاق الهیئة یکون شمولیا ، بمعنی أنّ مقتضاه ثبوت الوجوب للفعل المزبور، سواء أتی بذلک القید أم لا ، بخلاف الإطلاق فی ناحیة المادّة فإنّه بدلی ، حیث إنّ الوجوب لا یتعلّق بجمیع الوجودات المفروضة لذلک الفعل ، بل یتعلّق بصرف وجوده وهو یحصل بوجودٍ واحد ، وکلّما دار الأمر بین التصرّف فی المطلق الشمولی أو البدلی یکون الثانی أولی بالتصرّف ، وعلیه یرفع الید عن إطلاق المادة ویبقی نفس الوجوب المستفاد من الهیئة بحاله .

والوجه الثانی: أنّه لو کان القید راجعا إلی المادّة بقی إطلاق الهیئة بحاله ، بخلاف ما لو رجع القید إلی الهیئة ، فإنّه یبطل مورد الإطلاق فی المادة أیضاً ، فمثلاً علی تقدیر اشتراط وجوب الصلاة بدخول الوقت ، لا وجوب لها قبل دخوله ، وهذا معنی تقیید الهیئة ، وعلی تقدیر تقیید المادّة لا تکون الصلاة قبل دخوله مصداقا

ص :57

فی الحقیقة بین تقیید الإطلاق، وبین أن یعمل عملاً یشترک مع التقیید فی الأثر، وبطلان العمل به.

وما ذکرناه من الوجهین موافق لما أفاده بعض مقررِّی بحث الأستاذ العلامة أعلی اللّه مقامه، و أنت خبیر بما فیهما.

أم_ّا فی الأوّل: فلأنّ مفاد إطلاق الهیئة وإن کان شمولیاً بخلاف المادة، إلاّ أن_ّه الشَرح:

للواجب ، وهذا معنی بطلان مورد الإطلاق فی المادة وإبطال مورد إطلاق المادّة بإیراد القید علی مفاد الهیئة فی حکم التقیید الآخر فی کونه خلاف الأصل .

وأجاب الماتن قدس سره عن الوجه الأوّل بأنّه لا موجب لتقدیم الإطلاق الشمولی علی الإطلاق البدلی بالتصرّف فی الثانی فقط ، بل الملاک فی التقدّم قوة الظهور بالإضافة إلی الآخر ، فلو کان العموم البدلی بالوضع ، والشمولی بالإطلاق ، یرجّح البدلی علی الشمولی ، وبالجملة یتقدّم العموم الوضعی علی الإطلاق ، سواء کان العموم الوضعی شمولیا أو بدلیا .

وفی مفروض الکلام کل من عموم الهیئة والمادة بالإطلاق ومقدّمات الحکمة ، ولا یتفاوت الإطلاق بمقدّمات الحکمة فی کون مقتضاها شمولیا أو بدلیا ، کما أن_ّه قد یکون مقتضاها التعیین ، کما مرّ فی أنّ إطلاق الصیغة یقتضی کون الوجوب تعیینیا عینیا نفسیا .

وأجاب عن الوجه الثانی بأنّ المخالف للأصل هو تقیید المطلق وتضییق دائرته بعد انعقاد ظهوره فی الإطلاق بتمامیة مقدّمات الحکمة ، وأمّا العمل الذی یوجب عدم تمامیّة مقدّمات الحکمة وعدم انعقاد الظهور فی ناحیته _ کما إذا اقترن المطلق بما یصلح کونه قرینة علی تقییده _ فهو غیر مخالف للأصل ، وفی مفروض کلامنا القید متّصل بخطاب الأمر ویدور أمره بین رجوعه إلی مفاد الهیئة أو المادة، فلاینعقد

ص :58

لا یوجب ترجیحه علی إطلاقها، لأن_ّه أیضاً کان بالإطلاق ومقدمات الحکمة، غایة الأمر أن_ّها تارة یقتضی العموم الشمولی، وأخری البدلی، کما ربّما یقتضی التعیین أحیاناً، کما لا یخفی.

وترجیح عموم العام علی إطلاق المطلق إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع، لا لکونه شمولیاً، بخلاف المطلق فإنّه بالحکمة، فیکون العام أظهر منه، فیقدّم علیه، الشَرح:

الإطلاق فی ناحیة الهیئة ، کما لا ینعقد فی ناحیة المادة .

نعم لو کان القید واردا فی خطاب منفصل أو علم به إجمالاً لکان لما ذکر وجه ، فإنّه بعد انعقاد الظهور الإطلاقی فی ناحیة الهیئة والمادّة یکون رجوعه إلی المادّة تقییدا واحدا ، بخلاف إرجاعه إلی الهیئة ، فإنّه یوجب رفع الید عن کلا الإطلاقین ولو بعدم بقاء المجال للعمل بإطلاق المتعلّق بعد تقیید الهیئة .

أقول : إنّ مفروض الکلام هو ما إذا کان القید المحتمل رجوعه إلی مفاد الهیئة أو المادة واردا فی خطاب الحکم وفی هذه الصورة لا تتمّ مقدّمات الحکمة لا فی ناحیة الهیئة ولا فی ناحیة المادة ، فمع عدم القرینة علی التعیین یجب الإتیان بالمتعلّق عند حصول القید المزبور ، لأن_ّه إن کان شرطا لوجوبه فقد حصل ، وإن کان قیدا لنفس الواجب تعیّن الإتیان به أیضاً ، غایة الأمر کان تعیّنه من قبل ، وأمّا مع عدم حصول ذلک فیرجع إلی استصحاب عدم جعل وجوب الفعل قبل حصول القید ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه کما تقدّم، فلا یجب الإتیان بالمتعلّق .

وبتعبیرٍ آخر : إنّ فی فرض اتصال القید المحتمل رجوعه إلی مفاد الهیئة أو المادة لا ینعقد الإطلاق فی ناحیة الهیئة ولا فی ناحیة المادّة ، وما تقدّم من أنّ الإطلاق فیناحیة الهیئة شمولی فهو فرع جریان مقدّمات الحکمة ، والمفروض عدم جریانها فی ناحیة الهیئة کعدم جریانها فی ناحیة المادة .

ص :59

فلو فرض أنهما فی ذلک علی العکس، فکان عام بالوضع دلّ علی العموم البدلی، ومطلق بإطلاقه دلّ علی الشمول، لکان العام یقدم بلا کلام.

وأمّا فی الثانی: فلأن التقیید وإن کان خلاف الأصل، إلاّ أنّ العمل الذی یوجب عدم جریان مقدمات الحکمة، وانتفاء بعض مقدماته، لا یکون علی خلاف

الشَرح:

وظاهر عبارة الماتن قدس سره فی الجواب عن الوجه الأوّل یعطی أنّ أحد الظهورین لیس أقوی من الآخر ؛ لأنّ کلاًّ منهما بالاطلاق ومقدّمات الحکمة .

ولکن قد ذکرنا أنّه مع عدم تمامیّة مقدّمات الحکمة فی شیء من ناحیة الهیئة أو المادة لا ظهور من ناحیة الهیئة فی الشمولیة ولا من ناحیة المادة فی البدلیّة بالإضافة إلی مفادها نعم لو لا القید و تمامیّة مقدّمات الحکمة کان الظهور فیهما کذلک وإن أنکر الظهور أیضاً بعض الأعاظم قدس سره وجماعة ، والتزموا بأنّ الإطلاق لا یوجب الظهور للخطاب ، بل الإطلاق حکم العقل بعد تمامیّة مقدّمات الحکمة .

وبتعبیرٍ آخر : المقدّمات المعبّر عنها بقرینة الحکمة لا تکون من قبیل الدالّ اللفظی حتّی توجب الظهور فی الخطاب .

إلاّ أنّ کون القرینة شیئا ملفوظ لا ینافی کونها موجبة للظهور کالقرینة الحالیة ، ولذا فی فرض تمامیّة مقدّمات الإطلاق تصحّ نسبة المدلول إلی المتکلّم بأن یقال إنّه أظهر لنا ذلک وبیّنه ، ولکنّ هذا غیر مهمّ فی المقام ، وسنتکلّم إن شاء اللّه عنه فی بحث المطلق والمقیّد .

تقدیم الإطلاق الشمولی علی البدلی

والمهم التکلّم فیما ذکره الماتن قدس سره من أن_ّه لو کان دلالة أحدهما علی العموم بالوضع والآخر بالإطلاق ، لکان العموم الوضعی مقدّما علی العموم الإطلاقی ، مع أنّ الأمر لیس کذلک ، فإنّه لو قلنا بأنّ هیئة صیغة «إفعل» موضوعة للوجوب المطلق ،

ص :60

الأصل أصلاً، إذ معه لا یکون هناک إطلاق، کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیید الذی یکون علی خلاف الأصل.

وبالجملة لا معنی لکون التقیید خلاف الأصل، إلاّ کونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببرکة مقدّمات الحکمة، ومع انتفاء المقدمات لا یکاد ینعقد له

الشَرح:

فلا سبیل أیضاً من الالتزام برجوع القید إلی المادة ، فإنّه لو کان القید المحتمل رجوعه إلی الهیئة أو المادة متّصلاً بالخطاب _ کما هو ظاهر الفرض _ فالأمر ظاهر ؛ لاحتفاف الکلام بما یصلح کونه قرینة علی المراد من الهیئة وبما یصلح کونه قرینة علی تقیید المتعلّق ، فإنّ ما یصلح للقرینة هو القید لا المطلق لیقال لم ینعقد له إطلاق ، وکذا إذا ورد القید فی خطاب منفصل أو علم من الخارج بورود القید علی أحدهما ، لما ذکرنا فی محلّه من أنّ تقدیم العامّ علی المطلق ینحصر بما إذا کان التعارض بینهما بالذات ، کما إذا ورد فی خطاب «أکرم العالم» وفی خطاب آخر «لا تکرم أیّ فاسق» حیث لا یمکن أن یکون إکرام العالم الفاسق منهیا عنه ومأمورا به ، فیکون العموم الوضعی قرینة علی التصرّف فی الخطاب الآخر بحسب المتفاهم العرفی ، فإنّهم یجعلون الأقوی ظهورا قرینة علی المراد من الخطاب الآخر ، وأمّا إذا لم یکن بین الخطابین تعارض بالذات ، بحیث یمکن تحقّق مضمونهما خارجا ولکن علم عدم إرادة عمومهما معا ، کما إذا ورد فی خطاب «أکرم کلّ عالم» وورد فی خطاب آخر ما یدلّ علی کراهة إکرام الجاهل ، وعلم من الخارج بورود قید لأحدهما فلا موجب فی مثل ذلک لتقدیم عموم أحدهما علی الآخر وإرجاع القید إلی الآخر ، ولو کان ظهوره أقوی من الآخر ، حیث لا یعدّ أحدهما قرینة علی المراد من الآخر لعدم المنافاة بینهما ونسبة العلم الإجمالی بورود القید إلی کلٍّ منهما علی حدٍّ سواء ، ومن هذا القبیل العلم الإجمالی بورود قید إمّا علی المادة أو الهیئة.

ص :61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما ذکر الماتن قدس سره فی الجواب عن الوجه الثانی بأنّه یمکن إرجاع القید إلی المادة وبقاء الهیئة علی حاله من الإطلاق فیما لو کان القید بخطابٍ منفصل ، أو علم من الخارج باعتبار القید إمّا فی ناحیة الوجوب أو الواجب ، لا یمکن المساعدة علیه ، والوجه فیه هو أنّ نسبة العلم الإجمالی بورود قید إمّا علی مفاد الهیئة أو مفاد المادة علی حدٍّ سواء .

لا یقال : إنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ بالعلم التفصیلی بعدم بقاء الإطلاق فی ناحیة المادة یقینا إمّا بورود القید علی نفس المادة ، أو لبطلان إطلاقها بورود القید علی مفاد الهیئة ، وأمّا ورود القید علی مفاد الهیئة وبطلان إطلاقه غیر معلوم ، بل هو محتمل ، فلا موجب لرفع الید عنه .

فإنّه یقال: إنّ المعلوم تفصیلاً لیس هو تقیید المادة، بل لزوم الإتیان بمتعلّق الأمر فی فرض وجود القید، وأمّا فی فرض عدم حصوله فلا موجب للزوم الإتیان بالمتعلّق.

وإن شئت قلت إنّ العلم التفصیلی بعدم بقاء إطلاق المادة ینتقض بالعلم التفصیلی بورود قید علی مفاد الهیئة أیضاً لا محالة للعلم الإجمالی بأنّ ذلک القید إمّا التمکّن علیه _ المفروض تردّده بین رجوعه إلی المادة أو الهیئة _ کما لو کان راجعا إلی المادة ، فإنّه قد تقدّم أنّ القدرة والتمکّن علی قید الواجب من شروط وجوب المقید ، وإمّا حصول نفس ذلک القید ، کما إذا کان القید راجعا إلی نفس الهیئة ، وعلیه فیتساقط العلمان التفصیلیان ولم یبقَ متیقن تفصیلاً ، بالإضافة إلی هذا العلم الإجمالی ، کما لا یخفی .

ص :62

هناک ظهور، کان ذاک العمل المشارک مع التقیید فی الأثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق، مشارکاً معه فی خلاف الأصل أیضاً.

وکأن_ّه توهم: أنّ إطلاق المطلق کعموم العام ثابت، ورفع الید عن العمل به، تارة لأجل التقیید، وأخری بالعمل المبطل للعمل به، وهو فاسد، لأن_ّه لا یکون إطلاق إلاّ فیما جرت هناک المقدمات.

نعم إذا کان التقیید بمنفصل، ودار الأمر بین الرّجوع إلی المادة أو الهیئة کان لهذا التوهّم مجال، حیث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقر له ظهور ولو بقرینة الحکمة، فتأم_ّل.

الشَرح:

بقی فی المقام أمرٌ ، وهو أنّ ما حکی عن الشیخ قدس سره من أن_ّه إذا دار الأمر بین التصرّف فیالإطلاق الشمولی أو الإطلاق البدلی یتعیّن التصرّف فی الإطلاق البدلی ، قد التزم به المحقّق النائینی قدس سره ، لکن لا فی مثل المقام بل فیما کان التنافی بین الإطلاقین بالذات کما فی قوله «أکرم عالما» وقوله «لا تکرم الفاسق» لا فی مثل قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»(1) ممّاکان الإطلاقان شمولیین أو بدلیین ، وذکر فی وجه التقدیم أنّ الإطلاق البدلی یحتاج إلی مقدّمة زائدة علی المقدمات التی یحتاج إلیها انعقاد الإطلاق الشمولی ، وذلک أنّ النهی عن طبیعة بحیث یعمّ النهی جمیع أفراد تلک الطبیعة لا یحتاج إلی تساوی أفرادها فی ملاک النهی ، بل یمکن أن یختلف أفرادها فی ملاک الحکم ، کالنهی عن هدم المسجد وتخریبه ، فإنّه یعمّ تخریب کلّ مسجد ، من المسجد الحرام ومسجد الجامع بالکوفة ومسجد القریة ومسجد المحلّة ، مع اختلافها فی ملاک التحریم من حیث الشدّة والضعف .

وهذا بخلاف الإطلاق البدلی ، فإنّ الحکم بالاکتفاء بأیّ فردٍ یحتاج إلی إحراز

ص :63


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

تساویه مع سائر الأفراد فی الملاک الملزم وأن_ّه یشتمل علی الملاک الملحوظ فی الطبیعی المأمور به ، وعلیه فإذا ورد فی خطابٍ الأمر بإکرام عالم ، وفی خطابٍ آخر النهی عن إکرام الفاسق ، فبشمول النهی لإکرام العالم الفاسق لا یحرز تساوی إکرامه مع إکرام العالم غیر الفاسق ، بل یحرز عدم حصول ملاک الطبعیة المأمور بها فیه ، ولذا یتقدّم خطاب النهی عن التصرّف فی مال الغیر بلا إذنه علی خطاب الأمر بالصلاة فی مورد الصلاة فی الدار المغصوبة .

وبالجملة فبتمامیّة مقدّمات الإطلاق فی ناحیة النهی عن الطبیعة تنتفی مقدّمات الإطلاق فی ناحیة الإطلاق البدلی(1) .

ولکن لا یخفی ما فیه فإنّه یکفی فی الحکم بالاجزاء بکلّ فرد من الطبیعی المتعلّق للأمر عدم ورود القید وعدم ذکره فی ناحیة ذلک المتعلّق أو الموضوع ، ولا یحتاج _ بعد إحراز عدم ورود القید _ إلی شیء آخر فی إحراز تساوی الأفراد فی الملاک الملزم ؛ ولذا ذکرنا أنّ الإطلاق فی متعلّق الأمر یستلزم الترخیص فی تطبیقه علی کلِّ فردٍ منه فی مقام الامتثال ، ولو کان ذلک موقوفا إلی إحراز التساوی زائدا علی عدم ذکر القید للمتعلّق والموضوع فی مقام البیان ، وما کان یمکن إحراز التساوی من عدم ذکر القید ، فما فائدة هذا الإطلاق .

وبتعبیرٍ آخر : اللازم علی المولی هو ذکر القید لمتعلّق التکلیف أو الموضوع مع اختلاف أفراده فی الملاک ، ومع عدم ذکره فی مقام البیان یعلم بعدم اختلافها فیه ، ولذا لا یکون وجود القدر المتیقّن فی البین بحسب الملاک مانعاً من التمسّک

ص :64


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 161 .

ومنها: تقسیمه إلی النفسی والغیری [1]، وحیث کان طلب شیء وإیجابه لا یکاد یکون بلا داعٍ، فإن کان الداعی فیه هو التوصل به إلی واجب، لا یکاد التوصّل بدونه إلیه، لتوقفه علیه، فالواجب غیریّ، وإلاّ فهو نفسیّ، سواء کان الداعی محبوبیة الواجب بنفسه، کالمعرفة باللّه، أو محبوبیّته بما له من فائدة مترتبة علیه، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصلیات.

الشَرح:

بالإطلاق فی العموم البدلی کالشمولی .

الواجب النفسی والغیری

[1] قد ذکر قدس سره ما حاصله أنّه حیث لا یکون طلب شیء وإیجابه بلا داعٍ ، لأن_ّهما من الأفعال الاختیاریّة وعلیه فإن کان الداعی للمولی فی إیجاب شیء التوصّل به الی واجبٍ آخر ، بحیث لا یحصل بدونه ، یکون وجوبه غیریّا ، وإن لم یکن إیجابه للتوصّل إلی واجبٍ آخر کذلک ، یکون وجوبه نفسیّا ، سواء کان الداعی إلی إیجابه محبوبیّته فی نفسه کالمعرفة باللّه ، أو محبوبیّته بلحاظ ترتّب أثرٍ علیه ووجود ملاک ومصلحة فیه ، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصلیّات.

ثم أورد علی ما ذکره بأنّه یلزم أن یکون الواجب فی موارد محبوبیّة الفعل بلحاظ وجود الملاک وترتُّب الأثر غیریّا ، فإنّ الواجب فی الحقیقة ذلک الملاک ، والمصلحة المترتّبة علی الفعل ، فذلک الملاک واجب نفسی ، والفعل واجب غیری ، ویکشف عن کون الملاک واجبا نفسیا أن_ّه لو لم یکن ترتّبه علی الفعل لما کان له داعٍ إلی إیجابه.

وربّما یجاب عن الإشکال بأنّ الملاک المترتّب علی الفعل فی نفسه غیر مقدور ، فلا یتعلّق به الإیجاب ، وإنّما یتعلّق بما هو مقدور للمکلّف وتحت سلطانه وهو الفعل.

ص :65

هذا، لکنه لا یخفی أن الداعی لو کان هو محبوبیته کذلک _ أی بما له من الفائدة المترتبة علیه _ کان الواجب فی الحقیقة واجباً غیریاً، فإنه لو لم یکن وجود هذه الفائدة لازماً، لما دعی إلی إیجاب ذی الفائدة.

فإن قلت: نعم وإن کان وجودها محبوباً لزوماً، إلا أنه حیث کانت من الخواصَّ

الشَرح:

ولکن لا یخفی ما فیه ، فإنّه یکفی فی التمکّن المعتبر فی التکلیف وخروجه عن اللغویّة ، التمکّن علی الواجب ولو بالتمکّن علی سببه ؛ ولذا یتعلّق التکلیف بالمسبّب ، نظیر الأمر بالطهارة الحاصلة من الوضوء أو الغسل ، وبالتملیک والتزویج والطلاق والعتاق وغیرها من المسبّبات الحاصلة بالعقد أو الإیقاع.

وأجاب قدس سره عن أصل الإشکال بأنّ الفعل بلحاظ ترتّب الأثر علیه ووجود المصلحة فیه یتّصف بالعنوان الحسن ، فیستحقّ فاعله المدح ویذمّ تارکه ، وإذا تعلّق الأمر به بهذا الاعتبار یکون وجوبه نفسیا ، بخلاف الواجب الغیری ، فإنّه لا یترتّب علیه الملاک ولا الأثر المحسّن له ، بل یوجب أن یحصل ذلک العنوان الحسن لفعلٍ آخر ، فیکون إیجاب ذلک الآخر نفسیا ، وإیجاب هذا الفعل غیریّا.

نعم قد یکون فیما یتعلّق به الأمر الغیری جهتان، فیتّصف بالحسن بإحدی الجهتین، فیکون إیجابه نفسیّا، کصلاة الظهر، فإنّها واجب نفسی، ومع ذلک توجب حصول الملاک لصلاة العصر، فیکون وجوبها غیریا بالإضافة إلی التوصّل إلی صلاة العصر.

أقول: الأمر فی الواجبات التوصلیّة بلحاظ الأثر المترتّب علیها لا بلحاظ حسنها، کالأمر بدفن المتوتی، وأداء الدّین وغیرهما، ولذا یسقط الأمر بها ولو أتی بها بغیر قصد القربة أو بنحوٍ محرّم، ولو فی بعض الموارد.

وذهب المحقّق النائینی قدس سره فی المقام إلی أنّه لو کان الأثر مترتّبا علی الفعل

ص :66

المترتبة علی الأفعال التی لیست داخلة تحت قدرة المکلف، لما کاد یتعلق بها الإیجاب.

قلت: بل هی داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة علی السبب قدرة علی المسبب، وهو واضح، وإلا لما صحّ وقوع مثل التطهیر والتملیک والتزویج والطلاق والعتاق.. إلی غیر ذلک من المسببات، مورداً لحکم من الأحکام التکلیفیة.

الشَرح:

بلا توسیط أمرٍ غیر اختیاری ، کترتّب زهوق الروح علی ذبح الحیوان ، صحّ ما ذکر من أن_ّه لابأس بالأمر بالمسبّب باعتبار کون سببه تحت الاختیار ، فیکون الواجب النفسی هو المسبّب والأمر بالسبب یکون أمرا غیریّا .

وأمّا إذا کان ترتّب الأثر علی الفعل بتوسیط أمرٍ غیر اختیاری کترتّب نبات الأرض علی الزرع ، فلا یصحّ تعلّق الوجوب بالأثر لیکون الأمر بالزرع من الأمر الغیری ، فإنّ تعلّق القدرة ببعض مبادئ الشیء مع خروج بعضها الآخر عن الاختیار لا یصحّح الأمر إلاّ بذلک البعض الاختیاری من المبادئ ، ولا یخفی أنّ الآثار المترتّبة علی الواجبات فی الشرع من قبیل الثانی ، وأنّها مترتّبة علیها بتوسیط أُمورٍ خارجة عن اختیار المکلّف ، وإلاّ کان المتعیّن تعلّق الأوامر فی الخطابات بتلک الآثار والمصالح ، ویشهد لما ذکر أیضاً ما ورد فی تجسّم الأعمال یوم القیامة(1).

أقول: یرد علیه أوّلاً: بأنّه لا سبیل لنا إلی إحراز کون الآثار المترتّبة علی الواجبات فی الشرع من قبیل القسم الثانی ، ودعوی أنّها لو کانت من القسم الأوّل تعیّن تعلّق الأمر فی الخطابات بنفس المصالح والآثار ، مدفوعة بصحّة تعلّق الأمر

ص :67


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 38 و 167 .

فالأولی أن یقال: إن الأثر المترتب علیه وإن کان لازماً، إلا أن ذا الأثر لما کان معنوناً بعنوان حسن یستقل العقل بمدح فاعله، بل وبذم تارکه، صار متعلقاً للإیجاب بما هو کذلک، ولا ینافیه کونه مقدمة لأمر مطلوب واقعاً، بخلاف الواجب الغیری، لتمحض وجوبه فی أنه لکونه مقدمة لواجب نفسی، وهذا أیضاً لا ینافی أن

الشَرح:

بالسبب فی الخطاب کصحّة تعلّقه بالمسبّب ، ولو کان ترتّب المسبّب علی السبب موجبا لتعیّن تعلّق التکلیف بالمسبب لما تعلّق الأمر بالذبح والنحر وغیرهما من الأسباب.

وثانیا: لو فرض أنّ المصالح والآثار تترتّب بتوسیط أُمور خارجة عن الاختیار ، فهذا بالإضافة إلی الأثر الأقصی ، وأمّا الأثر القریب فیترتب علی الفعل لا محالة ، مثلاً یکون الواجب النفسی إعداد الحبّ للنبات الحاصل بجعله فی الأرض الصالحة للزرع ، فیکون بثّ الحبّ فی تلک الأرض واجبا غیریّا . وأمّا تجسّم الأعمال ، فلو کان غرضا فهو من الغرض الأقصی.

والحاصل أنّه لا یبعد أن یقال : کلّما کان البعث إلیه بالأمر به لداعی التوصّل به إلی واجبٍ آخر فوجوبه غیری ، وإلاّ یکون وجوبه نفسیا ، حتّی مع فرض أنّ الموجب لتعلّق الطلب به هو الصلاح المترتّب علیه ؛ لأن مع عدم وقوع ذلک الصلاح مورد الخطاب والبعث إلیه یکون طلب الفعل نفسیّا.

والوجه فی عدم تعلّق التکلیف فی الخطاب بذلک الصلاح إمّا عدم معروفیّة موجبه وسببه للمکلّف _ لئلاّ یتعیّن فی سببٍ خاصّ ولا یکن معروفا عنده _ فمثلاً تذکّر الجوع فی القیامة وعطشها یحتمل أن یکون هو الملاک فی الأمر بصوم شهر رمضان، إلاّ أنّه لم یبیّن للمکلّف وإمّا أنّ الصلاح المترتّب علی الفعل لیس من قبیل المعلول بالإضافة إلی علّته، بل من الحکمة التی لا یدور وجوب الفعل مدار

ص :68

یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه، إلا أنه لا دخل له فی إیجابه الغیری، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غیره، فلا یتوجه علیه بأنّ جلّ الواجبات _ لولا الکل _ یلزم أن یکون من الواجبات الغیریّة، فإن المطلوب النفسی قلّما یوجد فی الأوامر، فإن جلها مطلوبات لأجل الغایات التی هی خارجة عن حقیقتها، فتأمل.

الشَرح:

حصولها.

والفرق بین کون الصلاح من قبیل الحکمة وبین عدم معروفیة سببه عند المکلّف ، هو إمکان أن یکون الواجب ثبوتا تحصیل الملاک والأثر فی الثانی ، بخلاف موارد کون الملاک بنحو الحکمة ، کما لا یخفی.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی توجیه الواجبات النفسیة وافتراقها عن الواجبات الغیریة أنّ الشوق الحیوانی للإنسان _ بمقتضی قاعدة کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات _ ینتهی إلی شوق بقاء الذات الحیوانی للانسان کما أنّ الشوق العقلانی له ینتهی بمقتضی تلک القاعدة إلی الشوق إلی إلی طاعة ربّه والتخلق بأخلاقه وحیث إنّ غایة الغایات فی الشوق الحیوانی والعقلانی صارت کالطبیعة الثانیة ، فلا تحتاج إلی التفات تفصیلی ورویّة وفکر ، هذا بالإضافة إلی الإرادة التکوینیّة .

وأمّا بالإضافة إلی الإرادة التشریعیّة _ وهی إرادة الفعل من الغیر _ فلا ینتهی المطلوب من الغیر إلی ما بالذات بالإضافة إلی ذلک الغیر ، فمثلاً شراء اللحم مطلوب من زید ، وطبخه مطلوب من عمرو ، وإحضاره مطلوب من بکر ، فالصلاح فی شراء اللحم غیر مطلوب من زید ، بل یراد من عمرو ، والأمر فی الواجبات الشرعیة کذلک ، فالصلاح الکامن فی الصلاة غیر مراد من المکلّف إتیانه ؛ إذ لا یکون الصلاح فیها مرادا من المکلّف لا بالذات ولا بالعرض ، بل المراد منه نفس الصلاة ، فتکون

ص :69

ثم إنه لا إشکال فیما إذا علم بأحد القسمین، وأما إذا شک فی واجب أنه نفسی أو غیری] 1]، فالتحقیق أن الهیئة، وإن کانت موضوعة لما یعمّهما، إلا أن

الشَرح:

الصلاة واجبة نفسیا(1).

أقول : لو غضّ النظر عمّا ذکره فی الإرادة التکوینیة ، أنّ ذکره فی الإرادة التشریعیة غیر صحیحٍ ، فإنّ الغرض المترتّب علی شراء اللحم من زید لیس الطبخ ، بل تمکین زید عمروا علی طبخه ، وهذا هو المطلوب من زید ، وأمّا الطبخ فهو _ بالإضافة إلی شراء اللحم _ من الغرض الأقصی ، وکذا الحال فی طلب طبخه من عمرو بالإضافة إلی إحضار المطبوخ المطلوب من بکر ، وهذا ظاهر .

وبالجملة طلب الغرض الأقصی من شخصٍ آخر لا یوجب أن لا یکون طلب الشراء من زید طلبا نفسیّا ، وهکذا الحال فی الواجبات الشرعیة بالإضافة إلی المصالح المترتّبة علیها .

الشکّ فی النفسیة والغیریة

:

[1] یقع الکلام فی فرضین : أحدهما ما إذا ورد فی الخطاب الأمر بفعل فی مقام البیان، وشکّ فی أنّ الأمر به نفسی أو غیری. والثانی ما إذا لم یکن فی البین خطاب أصلاً، وعلم من الخارج وجوب فعل إمّا نفسیا أو غیریا، أو کان الخطاب فی مقام الإهمال.

أمّا الفرض الأوّل ، کما إذا ورد الأمر بالاغتسال من مسّ المیت بعد برده وقبل تغسیله ، وشکّ فی أنّ الغسل علی من مسّ المیت واجب نفسی ، أو أنّه واجب غیری، لکونه شرطا للصلاة کالاغتسال من الجنابة ، ففی مثل ذلک یمکن إثبات

ص :70


1- (1) نهایة الدرایة : 1 / 101 .

إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً، فإنه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه علی المتکلم الحکیم.

وأما ما قیل من أنه لا وجه للإستناد إلی إطلاق الهیئة، لدفع الشک المذکور، بعد کون مفادها الأفراد التی لا یعقل فیها التقیید، نعم لو کان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب، صح القول بالإطلاق، لکنه بمراحل من الواقع، إذ لا شک فی اتصاف الفعل بالمطلوبیة بالطلب المستفاد من الأمر، ولا یعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبیة بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل یصیر مراداً بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقیقتها، لا بواسطة مفهومها، وذلک واضح لا یعتریه ریب.

الشَرح:

النفسیة بالتمسّک بإطلاق الأمر به فیما لم یکن فی البین قرینة علی غیریة وجوبه ، کما هو المفروض ، بتقریب : أنّ الشکّ فی المقام یرجع إلی الشکّ فی کونه واجبا مطلقاً أو واجبا مشروطا .

وقد تقدّم أن_ّه یثبت بإطلاق الهیئة کون وجوب الفعل مطلقاً لا مشروطا ، والوجه فی رجوع الشکّ إلی ذلک ، هو أنّ الوجوب فی الواجب الغیری یتقیّد بما تقیّد به وجوب الواجب النفسی ، کما هو مقتضی تبعیّة الوجوب الغیری للوجوب النفسی فی إطلاقه واشتراطه ، ولو کان الاغتسال علی من مسّ المیت واجبا غیریا لتقیّد وجوبه بدخول وقت الصلاة المشروط وجوبها بدخوله ، ومقتضی الإطلاق فی ناحیة الأمر بالاغتسال علی من مسّ المیت ، سواء أُنشئ بصیغة الأمر أو بغیرها هو کون وجوبه غیر مشروط بدخول وقت الصلاة ، فیکون وجوبه نفسیا .

ولکن حکی عن الشیخ قدس سره فی تقریرات بعض تلامذته أنّه لا یمکن إثبات نفسیة الوجوب بالاستناد إلی إطلاق الهیئة ونحوها ، وذلک لأنّ مفاد الهیئة فرد من الطلب الذی لا یعقل فیه الإطلاق والتقیید ، فإنّ الجزئی لا یقبل الإطلاق والتقیید والقابل

ص :71

ففیه: إن مفاد الهیئة _ کما مرت الإشارة إلیه _ لیس الافراد، بل هو مفهوم الطلب، کما عرفت تحقیقه فی وضع الحروف، ولا یکاد یکون فرد الطلب الحقیقی، والذی یکون بالحمل الشائع طلباً، وإلا لما صح إنشاؤه بها، ضرورة أنه من الصفات الخارجیة الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما یکون هو السبب لإنشائه، کما یکون غیره أحیاناً.

الشَرح:

لهما مفهوم الطلب ، ومفهومه لیس هو معنی الهئیة ، فإنّ الفعل یتّصف بالمطلوبیة بتعلّق الأمر به ، ولا یتّصف مفهوم الطلب بها ، وهذا شاهدٌ علی أنّ المطلوبیة توجد بتعلق واقع الطلب بالفعل ، وهو جزئی لا یقبل الإطلاق والتقیید دون مفهومه ، فإنّه کلّی وقابل لهما إلاّ أنّه لیس بمدلول للصیغة .

وبتعبیرٍ آخر : یصیر الفعل مطلوبا ومرادا بتعلّق واقع الإرادة وحقیقتها به ، لا بلحاظ مفهوم الطلب .

وأجاب الماتن قدس سره بأنّه لیس مفاد الهیئة والمنشأ بها إلاّ معنی لفظ الطلب ، والإنشاء یرد علی هذا المعنی ، وهو کلّی قابل للتقیید ، ولو قبل إنشائه فینشأ الطلب مطلقا أو مقیّدا ، وأمّا الإرادة الحقیقیة فهی أجنبیة عن مفادها ، بل هی صفة نفسانیّة یحمل علیها الطلب بالحمل الشائع ، وغیر قابلة للإنشاء والإیجاد باللفظ .

نعم تکون تلک الصفة من الدواعی إلی إنشاء الطلب بالفعل ، فیکون الفعل متّصفا بالمطلوبیة الحقیقیة، کما أنّه قد یکون الداعی إلی إنشاء الطلب بالفعل غیرها ، فیکون الفعل متّصفا بالمطلوبیة الإنشائیة فقط ، وعلی ذلک فالتمسّک بإطلاق الهیئة لکشف حال وجوب الفعل وکون طلبه مطلقاً غیر مشروط بما یجب به الفعل الآخر ، أمرٌ صحیح ، وأنّه لا ملازمة بین عدم إمکان تقیید الإرادة الحقیقیة وعدم إمکانه فی الطلب الإنشائی .

ص :72

واتصاف الفعل بالمطلوبیة الواقعیة والإرادة الحقیقیة _ الداعیة إلی إیقاع طلبه، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقیقی وتحریکاً إلی مراده الواقعی _ لا ینافی اتصافه بالطلب الإنشائی أیضاً، والوجود الإنشائی لکل شیء لیس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه، کان هناک طلب حقیقی أو لم یکن، بل کان إنشاؤه بسبب آخر.

الشَرح:

ولعلّ التعبیر عن مفاد الهیئة بالطلب وعدم ذکر کونه إنشائیا أوجب اشتباه مفهوم الطلب المزبور کونه مدلول الهیئة بمصداقه الحقیقی .

أقول : قد تقدّم فی الواجب المشروط أن تقیید مفاد الهیئة عبارة عن تعلیق الطلب المنشأ ، کتعلیق المنشأ فی المعاملات کالوصیة أو تعلیق النسبة الطلبیة ، فالأوّل کقوله «أطلب منک إکرام زید إذا جاءک» ، والثانی کقوله «إن جاءک زید فأکرمه» والوجوب الغیری سواء کان إنشائه بمادة الطلب أو بصیغة الأمر ، عبارة أخری عن تعلیق وجوب الفعل بما إذا وجب فعل آخر ، ولا محذور فی هذا التعلیق حتّی بناءً علی کون مفاد الهیئة والمعنی الحرفی لا یقبل التوسعة والتضیّق بمعنی الصدق علی کثیرین بدعوی أنّ الإطلاق والتقیید بهذا المعنی یختصّان بالمفاهیم الإسمیة ، ولا یجریان فی معانی الحروف والهیئات ، وقد ذکرنا أنّ معانیهما أیضاً یتّصفان بذلک ، ولکن بتبع معنی المدخول والمتعلّقات .

ثم إنّه لو تنزّلنا عن ذلک وبنینا علی أنّ معانی الحروف والهیئات لا تقبل التعلیق أیضاً ، فیمکن استظهار کون وجوب الفعل نفسیا لا غیریا من إطلاق المادة ، فمثلاً إذا ورد فی الخطاب الأمر بالاغتسال علی من مسّ المیت وشک فی کون وجوبه نفسیا أو غیریّا ، کالاغتسال من الجنابة ، یثبت کون وجوبه نفسیا بإطلاق الاغتسال وعدم تقییده بقصد التوصل إلی الصلاة ، وذلک لأنّ متعلّق الأمر الغیری علی مسلک الشیخ قدس سره مقیّد بالقصد المذکور کما یأتی ، فیکون إطلاق الاغتسال فی خطاب وجوبه

ص :73

ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبیر عن مفاد الصیغة بالطلب المطلق، فتوهّم منه أن مفاد الصیغة یکون طلباً حقیقیاً، یصدق علیه الطلب بالحمل الشائع، ولعمری إنه من قبیل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقیقی إذا لم یکن قابلاً للتقیید لا یقتضی أن لا یکون مفاد الهیئة قابلاً له، وإن تعارف تسمیته بالطلب أیضاً، وعدم تقییده بالإنشائی لوضوح إرادة خصوصه، وإن الطلب الحقیقی لا یکاد ینشأ بها، کما لا یخفی.

فانقدح بذلک صحة تقیید مفاد الصیغة بالشرط، کما مرّ هاهنا بعض الکلام، وقد تقدم فی مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما یُجدی فی المقام.

الشَرح:

کاشفا عن کونه واجبا نفسیا .

وقد یوجّه بطریقٍ آخر فی إثبات کون الفعل واجبا نفسیا ، وهو التمسّک بإطلاق متعلّق الأمر النفسی الآخر المحتمل کون الفعل المشکوک فی نفسیّة وجوبه أو غیریّته قیدا له ، کإطلاق الصلاة فی مثل قوله سبحانه «وَأَقِیْمُوا الصَّلاةَ» فإنّه لو کان الاغتسال علی من مسّ المیت واجبا غیریا کانت الصلاة متقیّدة به ، بخلاف ما إذا کان واجبا نفسیا ، وبما أنّ دلالة الخطاب معتبرة فی مدلوله الالتزامی ، فیثبت بإطلاق المتعلّق لوجوب الصلاة کون وجوب الاغتسال نفسیا وأنّ الصلاة غیر مقیّدة به .

لکن لا یخفی أنّ هذا یصحّ علی مسلک الأعمی فیما إذا فرض تمامیة الإطلاق فی ناحیة المتعلّق فی خطاب «أَقِیْمُوا الصَّلاةَ» ، وقد تقدّم فی بحث الصحیحی والأعمی عدم کون مثل الخطاب المذکور فی مقام بیان المتعلّق ، بل إنّما هو وارد فی بیان أصل التشریع .

ص :74

هذا إذا کان هناک إطلاق، وأما إذا لم یکن، فلا بد من الإتیان به فیما إذا کان التکلیف بما احتمل کونه شرطاً له فعلیاً [1]، للعلم بوجوبه فعلاً، وإن لم یعلم جهة وجوبه، وإلا فلا، لصیرورة الشک فیه بدویاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

[1] هذا هو الفرض الثانی من الفرضین ، وهو بیان مقتضی الأصل العملی عند دوران أمر الواجب بین کونه نفسیا أو غیریا ، وللشکّ فی ذلک صورٌ ثلاث :

الصورة الأُولی: ما إذا أحرز أنّ وجوبه مع وجوب الفعل الآخر من المتماثلین فی الإطلاق والاشتراط ، ولکنّه علی تقدیر کونه غیریّا یعتبر الإتیان به بنحوٍ خاصّ ، لتقیّد الفعل الآخر بسبقه أو لحوقه أو مقارنته کالاغتسال علی من مسّ المیت فیما إذا فرض العلم بعدم وجوبه قبل دخول وقت الصلاة ، ولکن دار أمره بین کونه واجبا نفسیا فیجوز الاغتسال من المسّ ولو بعد الصلاة ، أو کونه واجبا غیریّا فیتعیّن علیه الاغتسال قبل الصلاة ، ففی مثل ذلک لا بأس بجریان البراءة فی ناحیة تقیّد الصلاة به ، فإنّ رعایة الاشتراط ضیّق علی المکلّف ، والأصل عدم تعلّق الوجوب بالصلاة المتقیّدة به علی ما هو المقرّر فی بحث دوران أمر الواجب بین الأقلّ والأکثر الارتباطیّین ، ولا یعارضها أصالة البراءة عن وجوب الاغتسال نفسیا ، للعلم بأصل الوجوب وترتّب العقاب علی ترکه أو بترکه ، وکذا الحال فی استصحاب ناحیة عدم جعل الوجوب النفسی له للعلم المفروض .

وبالجملة فالفعلیة فی الواجب الآخر فی هذه الصورة مسلّمة قطعیة وإنّما غیریة هذا الواجب أو نفسیّته مشکوکة .

الصورة الثانیة: ما إذا علم أنّ وجوب المشکوک فی نفسیّته أو غیریّته مع وجوب الفعل الآخر من غیر المتماثلین فی الإطلاق والاشتراط علی تقدیر النفسیة ، وعلی تقدیر الغیریة فی وجوبه یعتبر الإتیان به قبل الصلاة مثلاً ، ففی مثل ذلک تکون

ص :75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

أصالة البراءة عن اشتراط الصلاة به معارضة بأصالة عدم وجوبه قبل وقت الصلاة ، فیجب علی المکلّف الجمع بین الاحتمالین بالاغتسال قبل الصلاة ، فتکون النتیجة نتیجة الواجب الغیری .

الصورة الثالثة: ما إذا دار أمر الفعل بین کونه واجبا نفسیا فیکون فعلیاً فی حقّه ، أو غیریّا مقدّمة لواجب لا یعلم المکلّف بفعلیّته فی حقّه أصلاً ولو مستقبلاً ، کما إذا دار أمر الختان بین کونه واجبا نفسیا أو غیریّا من باب اشتراط الطواف به ، ویفرض عدم علم المکلّف بحصول الاستطاعة له مسقبلاً ، ففی مثل ذلک لا بأس بالرجوع إلی أصالة البراءة بالإضافة إلی وجوبه النفسی .

ویلحق بهذه الصورة ما إذا علم بکونه واجبا غیریا وشرطا لواجب لا یعلم بفعلیة وجوبه فی حقّه ، ولکن یشکّ فی وجوبه نفسا ، کما إذا علم بأنّ الختان شرط فی طواف الحجّ ، ولکن یشکّ فی وجوبه نفسا ، فإنّ أصالة البراءة عن وجوبه النفسی مع عدم العلم بحصول الاستطاعة له تجری بلا إشکال .

وعبارة الماتن قدس سره خالیة عن التعرّض إلی البراءة عن الاشتراط فی الصورة الأُولی ، کما أنّها خالیة عن التعرّض لتنجیز العلم الإجمالی فی الصورة الثانیة.

ص :76

تذنیبان

الأول: لا ریب فی استحقاق الثواب علی امتثال الأمر النفسی [1] وموافقته، واستحقاق العقاب علی عصیانه ومخالفته عقلاً، وأما استحقاقهما علی امتثال الغیری ومخالفته، ففیه إشکال، وإن کان التحقیق عدم الإستحقاق علی موافقته

الشَرح:

الثواب علی الواجبات الغیریة

:

[1] إن کان المراد بالاستحقاق، اللزوم علی اللّه (سبحانه) وفاءا لوعده، فهذا یجری فی بعض الواجبات الغیریة التی ورد الوعد بالثواب علیها کالخروج إلی مثل الحجّ والجهاد.

وإن کان المراد من استحقاق الثواب علی امتثال الأمر النفسی اللزوم علی اللّه (سبحانه) نظیر استحقاق الأجیر الأجرة علی المستأجر والعامل علی من أمره بعمل فیما إذا أتی الأجیر أو العامل بالعمل المستأجر علیه أو المأمور به ، ففی ثبوت هذا الاستحقاق علی امتثال الأمر النفسی تأمّل ، بل منع ، إذ العقل لا یحکم علی اللّه (سبحانه) بشیء إزاء طاعة العبد وعمله بوظیفته المقرّرة له من اللّه (سبحانه) بعد کونه ولی النعم والمنعم الحقیقی علی العبد .

وإن أُرید من استحقاق العبد أنّ قیامه بوظائفه ورعایة ولایة خالقه موجب لأن یقع مورد التفضّل منه تعالی من غیر وجوب شیء علیه ، کتفضّله علیه بجعل توبة العبد کفّارة لذنبه ، فهذا صحیح إلاّ أنّ نفی الاستحقاق بهذا المعنی فی موارد امتثال الأمر الغیری محلّ تأمّل ؛ لاستقلال العقل بحسن التفضّل والإحسان إلی من یأتی بالمقدّمة قاصدا بها التوصّل إلی امتثال التکلیف المتوجّه إلیه وأن الإتیان بها کذلک یوجب تقرّب العبد إلیه (سبحانه) فیما إذا لم یوفّق إلی إتیان الواجب النفسی لطروّ

ص :77

ومخالفته، بما هو موافقة ومخالفة، ضرورة استقلال العقل بعدم الإستحقاق إلا لعقاب واحد، أو لثواب کذلک، فیما خالف الواجب ولم یأت بواحدة من مقدماته علی کثرتها، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة علی المخالفة عند ترک المقدمة، وبزیادة

الشَرح:

العجز بعد الإتیان بها لعارضٍ آخر.

وعلیه لا مجال فی الفرض لدعوی أنّ زیادة الثواب من باب کون ذی المقدّمة من أشقّ الأعمال ، کما ورد فی الثواب علی بعض المقدّمات.

نعم ، یبقی فی الفرض دعوی أنّ استحقاق المثوبة فی الفرض من جهة الانقیاد والقصد إلی الإتیان بالواجب النفسی ، ولذا لو لم یکن فی البین قصد التوصل بل مجرّد الإتیان بمتعلّق الواجب الغیری لتعلّق الأمر الغیری به لما کان فی البین حکم بالاستحقاق ، کما إذا أتی بالمقدّمة مع تردّده فی عصیانه وطاعته ، بالإضافة إلی الواجب النفسی بعد ذلک .

ولکن یمکن دفعها بوجدان الفرق بین المکلّف الذی یأتی بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی ذیها ولکن طرء العجز علیه بعد الإتیان بها ، وبین المکلّف القاصد لإتیان المقدّمة توصّلاً إلی ذیها ولکن طرء العجز علیه قبل الإتیان بالمقدّمة بتحقّق الامتثال ولو ببعض مراتبه فی الأوّل وعدمه فی الثانی ، وإن کان الانقیاد بقصد الطاعة فیهما علی حدٍّ سواء ، اللّهم إلاّ أن یقال مع طریان العجز بذی المقدّمة لا یکون بینهما فرق إلاّ فی مراتب الانقیاد ، والفرق بین مراتب الانقیاد کالفرق بین مراتب التجرّی أمر ممکن غیر منکر ، ومع ذلک کلّه فکون الإتیان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها أو بقصد امتثال الأمر بها غیریا موجبا لوقوع العبد موقع التفضّل علیه مما لا ینکر .

ص :78

المثوبة [1 [علی الموافقة فیما لو أتی بالمقدمات بما هی مقدمات له، من باب أنه یصیر حینئذ من أفضل الأعمال، حیث صار أشقّها، وعلیه ینزّل ما ورد فی الأخبار من الثواب علی المقدمات، أو علی التفضل فتأمل جیّداً، وذلک لبداهة أن موافقة الأمر الغیری _ بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی _ لا توجب قرباً، ولا مخالفته _ بما هو کذلک _ بُعداً، والمثوبة والعقوبة إنما تکونان من تبعات القُرب والبُعد.

الشَرح:

[1] یعنی إنّ ترک الواجب الغیری یوجب استحقاق العقاب علی المخالفة ، _ أی مخالفة الأمر بالواجب النفسی _ فإنّه بترک المقدّمة تحصل مخالفته ، کما یمکن دعوی أنّ مع الإتیان بالمقدّمة بقصد التوصل إلی ذیها یحکم باستحقاق مزید الثواب علی امتثال الواجب النفسی ، حیث یکون الإتیان بالواجب النفسی مع الإتیان بمقدمته بقصد التوصّل من أشقّ الأعمال وأحمزها ولا یخفی أنّ أشقّها أفضلها .

والوجه فی صیرورة ذی المقدّمة من أشقّ الأعمال علی ذلک التقدیر ، شهادة الوجدان بأنّه لو کان للعبد داعٍ نفسانی إلی الإتیان بالمقدّمة لما کان یصعب علیه الإتیان بذیها کصعوبة ما إذا لم یکن له داعٍ من المقدّمة غیر التوصّل إلی ذیها .

ثمّ إنّه قدس سره قد حمل ما ورد فی الثواب علی بعض المقدّمات علی ما ذکره من زیادة الثواب علی الواجب الغیری أو علی التفضّل ، وعلّل ذلک بأنّ موافقة الأمر الغیری _ بما هو أمر وإیجاب لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی _ لا یوجب قربا ، ومخالفته بما هو مخالفة الأمر الغیری لا یوجب بعدا ، والثواب والعقاب من تبعات القرب والبعد .

ولکن لا یخفی ما فیه : فإنّ وعد الثواب علی امتثال الواجب النفسی أیضاً عن الغیر علی نحو التفضّل کما تقدّم ، لا الاستحقاق ودعوی البداهة فی أنّ الإتیان

ص :79

إشکال ودفع:

أما الأول: فهو أنه إذا کان الأمر الغیری [1] بما هو لا إطاعة له، ولا قرب فی موافقته، ولا مثوبة علی امتثاله، فکیف حال بعض المقدمات؟ کالطهارات، حیث لا شبهة فی حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها، هذا مضافاً إلی أن الأمر الشَرح:

بالواجب الغیری بداعویة الأمر الغیری لا یوجب قربا کما تری .

وأمّا دعوی کون الإتیان به کذلک شروعاً فی امتثال الواجب النفسی ، فهی نظیر دعوی کون شراء الطعام شروعاً فی الأکل وأنّ غسل الثوب أو البدن من النجاسة _ باعتبار أنّ طهارتهما شرط فی الصلاة _ شروع فی امتثال الأمر بالصلاة ، مع أنّ الصلاة أوّلها التکبیر .

وبالجملة الإتیان بقید الواجب النفسی بداعویة الأمر الغیری به أو لقصد التوصل به إلی الواجب فی نفسه تقرّب فیما إذا کان الداعی إلی الإتیان بالواجب النفسی أمر الشارع به ، غایة الأمر لا یکون تقربا نفسیا ، بل تقرّبا تبعیا .

عبادیة الطهارات الثلاث

[1] أمّا الإشکال فمن وجهین:

أحدهما: أن_ّه إذا کان الإتیان بالمقدّمة ولو بقصد امتثال الأمر بها غیریا غیر موجب لاستحقاق الثواب علیها ، فکیف حال الطهارات الثلاث ؟ فإنّه لا ینبغی التأمّل فی استحقاق المثوبة علیها وحصول التقرّب بها ، ولو فیما إذا أتی بها لمجرّد امتثال الأمر الغیری بها .

وثانیهما: ما أشار إلیه بقوله «هذا مضافا إلی أنّ الأمر الغیری . . . إلخ» وحاصله أن_ّه لابدّ من کون وجوب المقدّمة توصلیّا ، بمعنی سقوط الأمر الغیری بها بالإتیان

ص :80

الغیری لا شبهة فی کونه توصلیاً، وقد اعتبر فی صحتها إتیانها بقصد القربة.

وأما الثانی: فالتحقیق أن یقال: إن المقدمة فیها بنفسها مستحبة وعبادة، وغایاتها إنما تکون متوقفة علی إحدی هذه العبادات، فلا بد أن یؤتی بها عبادة،

الشَرح:

بها ، ولو بغیر داعٍ قربی ؛ لأنّ الغرض من الأمر الغیری بالمقدّمة تمکّن المکلّف من ذی المقدّمة ووصول یده إلی ذیها ، وهذا الغرض یحصل بحصول المقدّمة کیف ما حصلت ، وعلیه فما وجه اعتبار قصد التقرّب فی سقوط الأمر بالطهارات وأن_ّه لا یسقط الأمر الغیری بها بمجرد الإتیان بها من غیر قصد امتثال الأمر.

وحاصل ما ذکره قدس سره فی دفع الوجهین من الإشکال هو أنّ الطهارات الثلاث _ حتّی التیمم منها _ مطلوبات نفسیة بالأمر الاستحبابی التعبّدی ، فتکون مطلوبة کسائر المستحبّات النفسیة والطهارات بما هی مستحبّات نفسیة وذوات ملاکات مترتّبة علیها عند الإتیان بها قربیّا ، قد أُخذت قیدا للصلاة ونحوها لدخالتها کذلک فی صلاح الصلاة ونحوها .

وبتعبیرٍ آخر : أنّ عبادیّتها لیست لأجل تعلّق الأمر الغیری بها ، بل لتعلّق الأمر الاستحبابی النفسی بها ، حیث لا یتحصل ملاکاتها النفسیة بلا قصد التقرّب ، وقد أخذت بما هی عبادات قیودا للصلاة ونحوها ، ولا تحصل _ بما هی قید الصلاة _ بلا قصد التقرّب لیسقط الأمر الغیری بها .

وبالجملة کون الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لتعلّق الأمر الاستحبابی النفسی بها، حیث إنّ الأمر الاستحبابی تعبّدی لا یحصّل ملاکاتها إلاّ إذا أتی بها بقصد التقرّب، وبما أنّ المأخوذ قیدا للصلاة هی الطهارة المأتی بها عبادة، فلا یسقط الأمر الغیری بها من غیر أن تقع بنحو العبادة، حیث إنّ الفاقد لقصد التقرّب لیس بقید للصلاة.

ص :81

وإلاّ فلم یؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فیها إنما هو لأجل کونها فی نفسها أموراً عبادیة ومستحبات نفسیة، لا لکونها مطلوبات غیریة والاکتفاء بقصد أمرها الغیری، فإنما هو لأجل أنه یدعو إلی ما هو کذلک فی نفسه حیث إنه لا یدعو إلا إلی ما هو المقدمة، فافهم.

الشَرح:

لا یقال: علی ذلک یلزم أن یقصد عند الإتیان بها الأمر بها نفسیا ، لتقع بنحو العبادة ، مع أن_ّه یکفی فی صحّتها وسقوط الأمر الغیری بها الإتیان بها بداعویة الوجوب الغیری المتعلّق بها .

فإنّه یقال : بعد فرض أنّ قید الصلاة هی الطهارة بنحو العبادة ، فالأمر الغیری یدعو إلیها کذلک ، حیث إنّ الأمر لا یدعو إلاّ إلی ما هو القید والمقدّمة ، ولذا یکتفی فی صحّتها بقصد امتثال الأمر الغیری بها .

أقول : المزبور فی الإشکال أنّ المتوضیء مثلاً یقصد غسل وجهه ویدیه ومسح رأسه ورجلیه بداعویة الأمر الغیری المتعلّق بنفس مجموع هذه الأفعال ، لا أنّ الأمر الغیری یدعوه إلی الإتیان بها بداعویة الأمر النفسی الاستحبابی المتعلّق بها کی یکون داعویّة الأمر الغیری بنحو الداعی إلی الداعی کما ذکر ذلک فی قصد التقرب من الأجیر الذی یقضی ما علی المیت من الصلاة والصوم .

ومن المعلوم أنّه تصحّ الطهارات ولو ممن لا یری الاستحباب النفسی فیها بعد دخول وقت الصلاة وانحصار الأمر بها فی الغیری ، بل ممن یعتقد عدم الاستحباب النفسی فی التیمم وعدم ملاک نفسی فیه ، إلاّ أنّه قدس سره التزم بأنّ موافقة الأمر الغیری و وقصدها لا یوجب التقرّب ، ومعه کیف یحصل التیمم بوجه قربی من المعتقد بعدم استحبابه النفسی؟

والمتعیّن فی الجواب أن یقال : إنّ ما یتوقّف علیه الصلاة أو الطواف هو

ص :82

وقد تُفُصّی عن الإشکال بوجهین آخرین:

أحدهما ما ملخصه: إن الحرکات الخاصة [1] ربما لا تکون محصلة لما هو المقصود منها، من العنوان الذی یکون بذاک العنوان مقدمة وموقوفاً علیها، فلا بد فی إتیانها بذاک العنوان من قصد أمرها، لکونه لا یدعو إلا إلی ما هو الموقوف علیه، فیکون عنواناً إجمالیاً ومرآة لها، فإتیان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها لیس لأجل أن أمرها المقدمی یقضی بالاتیان کذلک، بل إنما کان لأجل إحراز نفس العنوان، الذی یکون بذاک العنوان موقوفاً علیها.

الشَرح:

الوضوء أو الغسل أو التیمّم بوجهٍ قربی ، بأن یضاف الإتیان بها إلی اللّه سبحانه ، فالأمر الغیری یتعلّق بها مع هذا القصد ، وبما أنّ الإتیان مع قصد امتثال الأمر الغیری أو قصد التوصل إلی الواجب النفسی إتیان بالفعل مضافاً إلی اللّه سبحانه وموجب لوقوع الوضوء أو الغسل أو التیمّم بنحو العبادة فیصحّ، نظیر ما تقدّم فی أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر النفسی فی العبادات .

نعم وجود ملاک الاستحباب النفسی فی الطهارات یوجب أن تکون فی نفسها عبادة صالحة للتقرّب بها مجرّدة عن قصد الصلاة ونحوها ، بخلاف سائر المقدّمات کما یأتی توضیحه إن شاء اللّه تعالی .

[1] توضیحه ان العنوان المنطبق علی فعلٍ یکون علی نحوین :

أحدهما: أن یکون انطباقه علیه قهریا غیر محتاج إلی قصد ذلک العنوان ، کالأکل والشرب والقتل ونحوها .

وثانیهما: أن یکون انطباقه علی الفعل موقوفا علی قصد ذلک العنوان زائدا علی قصد نفس الفعل کعنوان التعظیم والإهانة وأداء الدین ونحوها . وحیث لم یکن الوضوء أو الغسل أو التیمّم قیدا للصلاة بنفسه ، بل القید لها المعنون بعنوان خاصّ

ص :83

وفیه: مضافاً إلی أن ذلک لا یقتضی الإتیان بها کذلک، لا مکان الإشارة إلی عناوینها التی تکون بتلک العناوین موقوفاً علیها بنحو آخر، ولو بقصد أمرها وصفاً لا غایة وداعیاً، بل کان الداعی إلی هذه الحرکات الموصوفة بکونها مأموراً بها شیئاً آخر غیر أمرها، غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها، کما لا یخفی.

الشَرح:

قصدیّ ، وأنّ ذلک العنوان القصدی غیر معلوم عندنا ، فلابدّ فی الإتیان بها بذلک العنوان القصدی من قصد الأمر بها غیریّا لدعوته إلی متعلّقه ، فیکون ذلک العنوان مقصودا ولو بنحو الإجمال .

وأورد الماتن قدس سره علی هذا الجواب بوجهین :

الأوّل: کون العنوان الموقوف علیه الصلاة قصدیا وغیر معلوم عندنا لا یقتضی الإتیان بالطهارات بداعویة الأمر الغیری بها ، بل یمکن قصد ذلک العنوان المجهول بوجهٍ آخر ، وهو قصد الأمر الغیری بها وصفا لا جعله داعیا إلی الإتیان ، مثلاً یقصد المکلّف العنوان الذی تعلّق الأمر الغیری به ، ویأتی بها موصوفا بأحد دواعیه النفسانیّة .

الثانی: أنّ الجواب المزبور لا یصحّح ترتّب الثواب علی تلک الطهارات لأنّ امتثال الوجوب الغیری لا یترتّب علیه استحقاق المثوبة .

أقول : قد یدّعی أن_ّه یلزم علی التوجیه المزبور أمرٌ آخر ، وهو أن یحکم بفساد تیمّم من أتی به بداعویة الأمر الغیری معتقدا بأنّ التیمّم بنفسه شرط لصلاة فاقد الماء لا بالعنوان القصدی المنطبق علیه .

ولکن یمکن دفعه بأنّه لا یضرّ هذا الاعتقاد فی حصول الطهارات بعنوانها القصدی ، فإنّ الاعتقاد کما ذکر من باب الاشتباه فی التطبیق ، حیث إنّ قصد امتثال الوجوب الغیری مقتضاه القصد إلی الإتیان بمتعلّقه الواقعی، وهذا العنوان مقصود

ص :84

ثانیهما: ما مُحصّله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة [1]، إنما یکون لأجل أن الغرض من الأمر النفسی بغایاتها، کما لا یکاد یحصل بدون قصد التقرب بموافقته، کذلک لا یحصل ما لم یؤت بها کذلک، لا باقتضاء أمرها الغیری.

وبالجملة وجه لزوم إتیانها عبادة، إنما هو لأجل أن الغرض فی الغایات، لا یحصل إلا بإتیان خصوص الطهارات من بین مقدماتها أیضاً، بقصد الإطاعة.

الشَرح:

ارتکازا وإن کان مغفولاً عنه تفصیلاً، نظیر ما إذا قصد امتثال الوجوب المتعلّق بالصوم الذی فی حقیقته لیس إلاّ الإمساک عن جمیع المفطرات، ولکن لا یعلم أنّ الارتماس مفطر، بل کان یعتقد عدم کونه مفطرا فیکون صومه صحیحاً.

نعم إذا قصد ارتکاب الارتماس ولو للاعتقاد بعدم کونه مفطرا ، یبطل صومه فإنّ قصد الإمساک الإجمالی لا یجتمع مع قصد الارتکاب ، ولا تتمّ دعوی الاشتباه فی التطبیق فیما تقدّم فی جواب الماتن قدس سره عن الإشکال _ بأنّ صحّة الطهارات وعبادیتها وحصول التقرّب بها لاستحبابها نفسا ، وإن قصد الأمر الغیری یکون من قبیل الداعی إلی الداعی _ حیث أوردنا علیها بأنّ هذا لا یتمّ عند من یعتقد بعدم الاستحباب النفسی ویکون غافلاً عن استحبابها نفسیا .

والوجه فیه هو أنّ الأمر بشیءٍ لا یکون داعیا إلیه مع الغفلة عن ذلک الأمر ، بخلاف قصد المعنون مع الغفلة عن عنوانه المتعلّق به الأمر ، فإنّ قصد امتثال ذلک الأمر یکون التفاتا ارتکازیا إلی ذلک العنوان فتأمّل .

[1] وحاصله أنّ الغرض من الأمر بالصلاة کما لا یحصل بدون الإتیان بها بداعی الأمر ، کذلک لا یحصل الغرض من الأمر بالصلاة بدون الإتیان بالطهارات بقصد الأمر بها غیریّا ، فالصلاة المقیّدة بالوجود القربی من الطهارات لا بمطلق وجودها ، وهذا الأمر الغیری المتعلّق بها توصلی ، لسقوطه بمجرّد الإتیان بمتعلّقه

ص :85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

وهو الوضوء أو الغسل أو التیمم القربی .

وبتعبیرٍ آخر : لا یقتضی هذا الأمر الغیری إلاّ الإتیان بمتعلّقه کسائر الأوامر التوصلیّة، ولکن متعلّقه هو الوضوء بقصدٍ قربی لا مطلق الوضوء .

وأورد قدس سره علی هذا الجواب بأنّه لا یصحّح إلاّ اعتبار الإتیان بالطهارات علی وجهٍ قربی وأمّا استحقاق المثوبة علی الإتیان بها فلا یثبت ؛ لأنّ المزبور فی الجواب أنّ تعلّق الأمر الغیری مقیّد بقصد التوصّل ، فلا یوجب استحقاق المثوبة علی الإتیان بها ، غایة الأمر یکون القصد المزبور موجبا لکون الصلاة من أفضل الأعمال وأشقّها .

أقول : الصحیح فی الجواب أن یقال : المأخوذ شرطا للصلاة هو الوضوء علی وجه قربی ؛ لأنّ الدخیل فی ملاک الصلاة هو هذا الوضوء ، ویکون التقرّب المعتبر فی الوضوء الإتیان بداعی الأمر الاستحبابی به ، فیما إذا کان الوضوء قبل وقت الصلاة أو بداعی الملاک الموجود فیه ، أو للتوصّل به إلی الصلاة ، أو بداعویة وجوبه الغیری ، وفی جمیع ذلک یقع الوضوء بوجهٍ قربی ویحصل التقرّب به . وبما أن_ّه فی نفسه ذا ملاکٍ نفسیٍّ یستحقّ الثواب علیه مطلقاً ، بخلاف ما إذا لم یکن فیه ملاک الأمر النفسی فإنّ الإتیان به إنّما یوجب استحقاق المثوبة علیه إذا کان الإتیان به للتوصّل إلی الواجب النفسی لا مطلقاً ، حیث إنّ داعویة الأمر الغیری إلی متعلّقه تابعة لداعویة الأمر النفسی إلی متعلّقه ، ومع عدم قصد التوصّل ، لا داعویة للأمر الغیری ، ولذا لا یستحق المثوبة علی مجرد موافقة الأمر الغیری فیها .

ثمّ إنّه قد ذکر المحقّق النائینی قدس سره وجها آخر لتصحیح عبادیّة الطهارات الثلاث ، وهو اعتبار الإتیان بها بداعی الأمر النفسی الضمنی المتعلّق بها ، بدعوی أنّ الأمر النفسی بالصلاة کما یکون مقسطا علی الأجزاء ویأخذ کلّ منها حصّة من الأمر

ص :86

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

النفسی ، کذلک الشرط للصلاة یأخذ حصّة من الأمر .

وکما لا یکون الغرض من الأمر بالجزء حاصلاً إلاّ بالإتیان به بداعی الأمر الضمنی النفسی ، کذلک الشرط ربّما لا یحصل الغرض من الأمر به إلاّ بالإتیان به بداعی ذلک الأمر الضمنی النفسی .

ولا وجه للمناقشة بأنّه ما الفرق بین الطهارات و غیرها من شرائط الصلاة مما لا یعتبر الإتیان به بنحو العبادة مع تعلّق الأمر الضمنی بجمیعها ، وذلک لأنّ الفرق بینهما هو عدم توقّف الغرض فی غیر الطهارات علی الإتیان بمتعلّق الأمر الضمنی بداعویته، بخلافه فی الطهارات.

أقول : لا یخفی ما فیه ، فإن أجزاء الصلاة وإن کان یأخذ کلّ منهما حصّة من الأمر بها ، کما هو مقتضی کون الکلّ عین الأجزاء خارجا إلاّ أنّ الشرائط لا یتعلق بها الأمر النفسی أصلاً ، إذ لو تعلّق بها ذلک الأمر النفسی لانقلبت إلی الأجزاء ، إذ لا فرق بین الجزء والشرط ، إلاّ أنّ الأمر النفسی الضمنی یتعلّق بالأوّل دون الثانی .

وبالجملة الأمر النفسی یتعلّق بالمشروط (أی الحصّة) ، وتلک الحصّة تنحّل بالتحلیل العقلی إلی الطبیعی والتقیّد بالشرط ، فیعتبر فی وقوع الحصّة عبادة وقوع التقیّد به علی نحو العبادة لا نفس القید ، فمثلاً لا یعتبر التقرّب فی غسل الثوب من تنجّسه ، بل یعتبر التقرّب فی الصلاة التی هی مقیدة بطهارة الثوب.

ولا یخفی أنّه کما لا یتعلّق بالجزء الوجوب الغیری ، کذلک لا یتعلق بنفس ما یطلق علیه الشرط الوجوب النفسی الضمنی.

وقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ ما هو قید للصلاة هو الوضوء أو الغسل أو التیمم المأتی بنحوٍ قربیّ ، والوجوب الغیری یتعلّق بهذا النحو والتقرّب فی کلّ منها ،

ص :87

وفیه أیضاً: إنه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها، وأما ما ربما قیل فی تصحیح اعتبار قصد الإطاعة فی العبادات، من الإلتزام بأمرین [1]: أحدهما کان متعلقاً بذات العمل، والثانی بإتیانه بداعی امتثال الأول، لا یکاد یجزی فی تصحیح اعتبارها فی الطهارات، إذ لو لم تکن بنفسها مقدمة لغایاتها، لا یکاد یتعلق بها أمر

الشَرح:

کما یحصل بالإتیان بداعویة الأمر الاستحبابی أو المحبوبیة النفسانیة ، کذلک یحصل بالإتیان بداعویة الوجوب الغیری _ التابعة لداعویة الوجوب النفسی المتعلّق بالصلاة _ الملازم لقصد التوصّل بکلٍّ منها إلی الصلاة .

بقی فی المقام أمرٌ، وهو أنّه بناءً علی عدم إمکان أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر کما علیه الماتن قدس سره ، یکون متعلّق الأمر النفسی الاستحبابی نفس الوضوء أو الغسل أو التیمم، ویتعلّق الأمر الغیری بالوضوء بداعویة ذلک الأمر الاستحبابی النفسی، فیختلف متعلّق الأمر النفسی مع متعلّق الأمر الغیری، فلا یتعلّق الأمر النفسی والغیری بشیءٍ واحد، حتّی یناقش فیه _ بناءً علی عدم صحّة اجتماع الحکمین فی شیءٍ واحد _ ببطلان اجتماع الحکمین فی شیءٍ واحد، ولو کانا بعنوانین، وذلک لأنّ متعلّقهما لیس شیئا واحدا ، ومع التنزل فلیس فی المقام عنوانان حتّی لا یمتنع اجتماعهما بناء علی القول بجواز الاجتماع فان عنوان المقدّمة جهة تعلیلیّة لا یتعلّق به الأمر الغیری.

نعم بناءً علی عدم الامتناع فی الحکمین المتماثلین واندکاک أحد الحکمین فی الآخر ، یسقط الترخیص فی الترک بعد وجوب ذی المقدّمة ، فإنّ اقتضاء الترخیص فی الترک بلحاظ الاستحباب النفسی وذلک فی ما إذا کان الطلب النفسی غیر متّحدٍ مع الطلب الإلزامی _ ولو کان غیریا _ کما لا یخفی ، دون ما إذا اتّحدا ، کما فی المقام.

[1] هذا لا یرتبط بالوجه السابق ، بل إیراد علی من یلتزم بأمرین فی اعتبار قصد

ص :88

من قبل الأمر بالغایات، فمن أین یجئ طلب آخر من سنخ الطلب الغیری متعلق بذاتها، لیتمکن به من المقدمة فی الخارج. هذا مع أن فی هذا الإلتزام ما فی تصحیح اعتبار قصد الطاعة فی العبادة علی ما عرفته مفصلاً سابقاً، فتذکّر.

الثانی: إنه قد انقدح مما هو التحقیق، فی وجه اعتبار قصد القربة فی الطهارات [1 [صحتها ولو لم یؤت بها بقصد التوصل بها إلی غایة من غایاتها، الشَرح:

التقرّب فی العبادة بأن یتعلّق أحد الأمرین بنفس الفعل ، والآخر بالإتیان به بداعی الأمر الأوّل ، فإنّه لو فرض تصحیح قصد التقرّب بذلک فی الواجبات النفسیة ، فلا یمکن هذا التصحیح فی الوجوب الغیری .

لأن_ّه لو غضّ النظر عن الاستحباب النفسی فی الطهارات ، فلا یمکن الالتزام بتعلّق الوجوب الغیری بنفس الوضوء ، ثمّ تعلّق وجوب غیری آخر بالإتیان بالوضوء بداعی الوجوب الأوّل ، وذلک فإنّه ما لم یکن شیء مقدّمة لا یتعلّق به الوجوب الغیری ، والمفروض أنّ نفس غسل الوجه والیدین ومسح الرأس والرجلین لیس بمقدّمةٍ للصلاة لیتعلّق به الأمر الغیری ، بل المقدّمة الحصّة الخاصّة منه ، یعنی الوضوء القربی .

[1] وحاصله أنّه قد تقدّم صحة وقوع الوضوء والغسل أو التیمّم بنحو العبادة فیما إذا أتی بها بداعی الأمر الاستحبابی النفسی المتعلّق بها وإن لم یقصد المکلّف عند الإتیان بإحداها التوصّل بها إلی الصلاة أو غیرها مما هو مشروط بها .

وأمّا بناءً علی عدم الاستحباب النفسی وتصحیح القربة المعتبرة فیها بالأمر الغیری ، فلابدّ فی وقوعها عبادة من قصد الغایة بها ، والمراد بقصد الغایة قصد التوصّل بها إلی ذیها ، وذلک لأنّ الأمر الغیری لا یکاد یمتثل ، ولا یمکن أن یکون الإتیان بمتعلّقه امتثالاً موجبا للقرب إلاّ عند حصول هذا القصد ، حیث معه یکون

ص :89

نعم لو کان المصحح لإعتبار قصد القربة فیها امرها الغیری، لکان قصد الغایة مما لابد منه فی وقوعها صحیحة، فإنّ الأمر الغیری لا یکاد یمتثل إلا إذا قصد التوصل إلی الغیر، حیث لا یکاد یصیر داعیاً إلا مع هذا القصد، بل فی الحقیقة یکون هو الملاک لوقوع المقدمة عبادة، ولو لم یقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلاً.

الشَرح:

الأمر الغیری داعیا إلی متعلّقه بمقتضی تبعیّته لداعویة الأمر النفسی إلی متعلّقه .

بل قصد الغایة فی الحقیقة هو الموجب لوقوعها عبادة ، ولو لم یقصد الأمر الغیری المتعلّق بها أو لم نقل بتعلّق الأمر الغیری بالمقدّمة أصلاً ، وهذا هو السّر فی اعتبار قصد الغایة فی الإتیان بها الذی ورد فی کلماتهم قدس سرهم ، لا ما قیل من أنّ الوجوب الغیری یتعلّق بالمقدّمة بعنوانها ، فلابدّ فی الإتیان بها من قصد عنوان المقدّمة الذی لا یحصل بدون قصد التوصّل بها إلی غایاتها .

والوجه فی فساد هذا التوجیه هو أنّ الأمر الغیری یتعلّق بنفس المقدّمة لا بعنوانها ، فإنّ عنوانها لا یتوقّف علیه ذیها وإنّما یکون عنوانها موجبا لتعلّق الوجوب الغیری بما ینطبق علیه ذلک العنوان .

أقول : التوجیه المزبور فاسد ، حتّی ولو قیل بتعلّق الأمر الغیری بالمقدّمة بعنوانها ، فإنّ عنوان المقدّمة لیس عنوانا قصدیا ، بل عنوان قهری ینطبق علی نفس الوضوء والغسل والتیمّم، کما ینطبق علی سائر قیود الصلاة من تطهیر الثوب والبدن.

وأمّا ما ذکره قدس سره من أنّ الأمر الغیری لا یدعو إلی متعلّقه إلاّ مع قصد الإتیان بمتعلّق الأمر النفسی. بمقتضی التبعیة فی الداعویة _ کما تقدّم _ فهی أیضاً قابلة للمناقشة ، فإنّه ربّما یکون الأمر الغیری داعیا إلی متعلّقه من غیر داعویة الأمر النفسی ، کما إذا توضّأ المکلّف أو طهّر بدنه لاحتماله انقداح إرادة الإتیان بالصلاة فیما بعد ، مع أنّه لم یرد إتیان الصلاة بالفعل ، فلم یدعوه الأمر النفسی إلیها حتّی

ص :90

وهذا هو السر فی اعتبار قصد التوصل فی وقوع المقدمة عبادة، لا ما توهم من أن المقدمة إنما تکون مأموراً بها بعنوان المقدمیة، فلا بد عند إرادة الإمتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، وقصدها کذلک لا یکاد یکون بدون قصد التوصل إلی ذی المقدمة بها، فإنه فاسد جداً، ضرورة أن عنوان المقدمیة لیس بموقوف علیه الواجب [1]، ولا بالحمل الشائع مقدمة له، وإنما کان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوینها الأولیة، والمقدمیة إنما تکون علة لوجوبها.

الشَرح:

یستتبع دعوة الأمر الغیری إلی الوضوء ، بل توضّأ بمجرّد احتمال إتیان الصلاة فیما بعد ، وهذا لا مانع من صحّته ، إذن فیکفی فی داعویة الأمر الغیری احتمال انقداح إرادة الإتیان بمتعلّق الأمر النفسی بعد ذلک .

[1] یعنی بناءً علی الملازمة یثبت الوجوب الغیری لما یکون معنونا بعنوان المقدّمة ، وأمّا عنوانها فلا یکون موقوفا علیه إذ لیس بالحمل الشائع مقدّمة . نعم یکون توقّف فعل الواجب علی شیءٍ موجبا لتعلّق الوجوب الغیری بذلک الشیء . وبتعبیرٍ آخر : عنوان المقدّمة جهة تعلیلیّة لا تقییدیة .

وقد یقال بأنّ وجوب المقدّمة إذا کان بحکم العقل ، فیکون الواجب عنوان المقدّمة لا نفس المعنون ، وذلک لأنّ الجهات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیة تکون جهات تقییدیة ، فحکم العقل بامتناع شیء لاستلزامه الدور یکون فی الحقیقة حکما منه بامتناع الدور ، وحکمه بحسن ضرب الیتیم تأدیبا فهو حکم منه بحسن التأدیب والإحسان إلیه ، وعلی ذلک فالحکم بوجوب فعلٍ لکونه مقدّمة لواجب ، یرجع إلی الحکم بتحقیق عنوان المقدّمة .

وفیه أنّ الوجوب الغیری علی تقدیره شرعی ، وإنّما العقل یدرک الملازمة بین الإیجابین ، والوجوب الشرعی المولوی یتعلّق بما ینطبق علیه عنوان المقدّمة لذیها ،

ص :91

الأمر الرابع: لا شبهة فی أن وجوب المقدمة بناءً علی الملازمة، یتبع فی

الشَرح:

لتوقّف ذیها علیه ، فالملاک فی هذا الوجوب توقّف الواجب علیه . والحاصل أنّ عنوان المقدّمة للصلاة مثلاً ، عنوان انتزاعی لیس فی الخارج إلاّ الوضوء ونحوه ، مما یتوقّف علیه الصلاة کسائر العناوین الانتزاعیة التی لیس لها فی الخارج إلاّ منشأ الانتزاع والوجوب الغیری لا یمکن أن یتعلّق بنفس الصلاة ، لأنّ وجوبها نفسی ، کما لا یمکن أن یتعلّق بتوقّف الصلاة علی الوضوء ، لأن_ّه خارج عن فعل المکلّف واختیاره ، فیتعیّن تعلّقه بنفس الوضوء .

ثمّ ذکر هذا القائل فی وجه لزوم قصد التوصّل أن_ّه بعد ما ثبت حکم العقل بوجوب عنوان المقدّمة لرجوع الجهة التعلیلیة إلی التقییدیة ، فلابدّ من کون عنوان المقدّمة مقصودا فی وقوعها علی صفة الوجوب ، لاستحالة تعلّق الأمر بشیءٍ غیر مقدور ، وعنوان المقدّمة فی الحقیقة قصد التوصّل إلی الواجب النفسی .

أقول : بما أنّ عنوان المقدّمة من العناوین القهریة دون القصدیة ، فاللازم فی وجوبها الالتفات إلیه وإلی معنونه ، ومن المعلوم أنّ الالتفات إلی کون شیءٍ ممّا یتوقّف الواجب علیه لا یکون ملازما للإتیان به بقصد التوصّل به إلی ذلک الواجب ، والموجب لخروج الفعل عن وقوعه خطأً وغفلة هو الالتفات إلی العنوان المنطبق علیه لا أکثر ، فمثلاً الوضوء مع الالتفات بأنّه مقدّمة للصلاة لا یلازم الإتیان به للتوصّل به إلی الصلاة ، بل یمکن أن یکون الداعی إلی الإتیان به غیر الإتیان بالصلاة ، وإن کان الداعی قربیّا ثمّ انقدح بعد ذلک إرادة الصلاة ، کفی ذلک الوضوء للدخول فی الصلاة المشروطة به کما تقدّم ، ولو وقع صحیحاً حتّی مع فرض تعلّق الأمر بعنوان المقدّمة لا بذاتها ، کما لا یخفی .

ص :92

الإطلاق والاشتراط وجوب ذی المقدمة [1]، کما أشرنا إلیه فی مطاوی کلماتنا، ولا یکون مشروطاً بإرادته، کما یوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه الله فی بحث الضد، قال: وأیضاً فحجة القول بوجوب المقدمة علی تقدیر تسلیمها إنما تنهض دلیلاً علی الوجوب، فی حال کون المکلف مریداً للفعل المتوقف علیها، کما لا یخفی علی من أعطاها حق النظر.

الشَرح:

اعتبار قصد التوصّل فی المقدّمة وعدمه

[1] الفرق بین ما ذکره فی المعالم والمحکی عن الشیخ قدس سره هو أنّ قصد الإتیان بذی المقدّمة شرط لوجوب مقدّمته عند صاحب المعالم قدس سره ، وقید للواجب الغیری علی المحکی عن الشیخ قدس سره ، حیث قال فی المعالم فی مبحث الضد : «إنّ حجة القول بوجوب المقدّمة علی تقدیر تسلیمها ، تثبت وجوبها فی حال کون المکلّف مریدا للفعل المتوقّف علیها»(1).

وأورد علیه الماتن 1 بأنّ المقدّمة تتبع ذیها فی إطلاق وجوبها واشتراطه ، وإذا لم یکن وجوب ذیها مشروطا بإرادته ، لم یکن وجوب مقدّمته أیضاً مشروطا بإرادته بعین المحذور فی اشتراط وجوب ذیها بإرادة متعلّقه ، وهو لزوم لغویة الوجوب ، إذ الغرض منه داعویته نحو إرادة الفعل ، فإذا کان مشروطا بإرادته لکان جعله لغوا . وبالجملة نهوض الدلیل علی التبعیة واضح ، وإن کان نهوضه علی أصل الملازمة بین الإیجایین لیس بهذه المثابة من الوضوح.

وربّما یقال : ظاهر کلام صاحب المعالم قدس سره یساعد علی القضیة الحینیة ، لا اشتراط وجوب المقدّمة علی إرادة ذیها بمفاد القضیة الشرطیة ، لیکون المعلّق

ص :93


1- (1) معالم الأُصول : ص 74 .

وأنت خبیر بأن نهوضها علی التبعیة واضح لا یکاد یخفی، وإن کان نهوضها علی أصل الملازمة لم یکن بهذه المثابة، کما لا یخفی.

وهل یعتبر فی وقوعها علی صفة الوجوب أن یکون الإتیان بها بداعی التوصل بها إلی ذی المقدمة ؟ کما یظهر مما نسبه إلی شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه __ بعض أفاضل مقرری بحثه، أو ترتب ذی المقدمة علیها؟ بحیث لو لم یترتب علیها لکشف عن عدم وقوعها علی صفة الوجوب، کما زعمه صاحب الفصول قدس سره أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما.

الشَرح:

علیه فی وجوب المقدّمة إرادة الإتیان بذیها ، لیخرج وجوبها عن التبعیة .

أقول : إنّه لا فرق بین القضیة الشرطیة والقضیة الحینیة بحسب مقام الثبوت فی أنه لابدّ من تقدیر الشرط أو الحین علی کلٍّ منهما ، فیخرج وجوب المقدّمة عن تبعیة وجوب ذیها ، حیث لا یمکن فی وجوب ذیها فرض حین إرادته ، وإذا فرض فی وجوب مقدّمته ذلک الحین ، فیکون وجوب مقدّمته مقیّدا لا محالة مع إطلاق وجوب ذیها .

وأورد علی کلام الشیخ قدس سره بأنّه لا یمکن أن یتعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة بقصد التوصّل ؛ لأنّ الملاک فی الوجوب الغیری التوقّف والمقدمیّة ، وهذا الملاک قائم بنفس المقدّمة سواء أتی بها بقصد التوصّل أم لا ، ولذا اعترف الشیخ قدس سره فی کلامه بالاکتفاء _ فیما إذا أتی بالمقدّمة _ بقصدٍ آخر غیر التوصّل بها إلی ذیها ، فیکون تخصیص الوجوب الغیری بما إذا قصد بمتعلّقه التوصل بلا موجب . نعم یعتبر قصد التوصّل فی حصول الامتثال ، لما تقدّم من أنّ الآتی بالمقدّمة بداعٍ آخر لا یکون ممتثلاً لأمرها ولا آخذا فی امتثال الأمر بذیها حتّی یثاب بثواب أشقّ الأعمال .

وبالجملة یقع الفعل المقدمی علی صفة الوجوب، ولو مع عدم قصد التوصّل ، بل حتّی لو کان لذلک الفعل حکم قبل اتّصافه بالمقدمیّة لارتفع ذلک الحکم ولتبدّل

ص :94

الظاهر عدم الاعتبار: أما عدم اعتبار قصد التوصل، فلأجل أن الوجوب لم یکن بحکم العقل إلا لأجل المقدمیة والتوقف، وعدم دخل قصد التوصل فیه واضح، ولذا اعترف بالإجتزاء بما لم یقصد به ذلک فی غیر المقدمات العبادیة، لحصول ذات الواجب، فیکون تخصیص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص، فافهم.

الشَرح:

إلی الوجوب الغیری بعد إیجاب ما یتوقّف علیه ، فمثلاً یقع الدخول فی ملک الغیر علی صفة الوجوب فیما إذا کان مقدّمة لانقاذ غریق أو إطفاء حریق واجب فعلی ولا یکون حراما ، وإن لم یلتفت الداخل إلی المقدمیة والتوقّف حال الدخول فیه .

غایة الأمر یکون الداخل بلا التفات إلی المقدمیة متجرّیا ، بالإضافة إلی دخوله ، کما أن_ّه لو لم یقصد بدخوله التوصّل مع الالتفات إلی المقدمیّة _ بأن لا یکون حین الدخول قاصدا للإنقاذ أو الإطفاء أصلاً کان متجرّیاً أیضاً بالإضافة إلی ذی المقدّمة . وهذا بخلاف ما إذا کان فی الدخول داعٍ نفسانی مستقلّ ، وقصد مع ذلک الإیصال أیضاً ، فإنّه لا یکون متجریّا بالإضافة إلی ذی المقدّمة ، بل یکون الداعی له إلی دخوله مؤکّدا لقصد الإیصال .

أقول : لعلّ مراده قدس سره من عدم الالتفات إلی التوقّف والمقدمیة الغفلة عن المقدمیة فقط، مع عدم غفلته عن التکلیف بإنقاذ الغریق أو إطفاء الحریق حین الدخول ، بأن کان یعلم بوجود الغریق أو الحریق ، ولکن کان یعتقد عدم توقّف الإنقاذ أو الإطفاء علی الدخول ، وأنّه یمکن صبّ الماء علی الحریق من الخارج أو الإنقاذ بإلقاء الحبل إلی الغریق من الخارج ، وبعد الدخول التفت إلی عدم إمکانهما إلاّ مع الدخول ، ففی هذا الفرض یکون الداخل متجرّیا فی دخوله .

وأمّا إذا کان مراده قدس سره من عدم الالتفات إلی المقدمیة والتوقّف ، الغفلة من

ص :95

نعم انما اعتبر ذلک فی الامتثال، لما عرفت من انه لا یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلاً لأمرها، وآخذاً فی امتثال الأمر بذیها، فیُثاب بثواب أشقّ الأعمال، فیقع الفعل المقدمی علی صفة الوجوب، ولو لم یقصد به التوصل، کسائر الواجبات التوصلیة، لا علی حکمه السابق الثابت له، لولا عروض صفة توقف الواجب الفعلی المنجز علیه، فیقع الدخول فی ملک الغیر واجباً إذا کان مقدمة لإنقاذ غریق أو إطفاء حریق واجب فعلیّ لا حراماً، وإن لم یلتفت إلی التوقف والمقدمیة ، غایة الأمر یکون حینئذ متجرّئاً فیه، کما أنه مع الإلتفات یتجرأ بالنسبة إلی ذی المقدمة، فیما لم یقصد التوصل إلیه أصلاً.

الشَرح:

الحریق والغریق عند دخوله ، کان دخوله محرّما حتّی بناءً علی وجوب ذات المقدّمة ؛ وذلک لأنّ الغافل عن الغریق والحریق لا یکون مکلّفا بهما مادام غافلاً لتجب مقدّمتهما ، وبعد الدخول والالتفات تجب المقدّمة ، ولکن لا یتوقفّان علی الدخول لیقال إنّ الداخل یکون متجرّیاً بالإضافة إلی دخوله .

وأیضاً الدخول فی صورة علمه بوجود الغریق والحریق بلا قصد التوصّل لا یکون تجرّیا ، بالإضافة إلی وجوب الإنقاذ والاطفاء ، بل التجرّی یحصل بقصد عدم التوصّل وإرادة ترک الإنقاذ والإطفاء رأسا ، ولو فرض أنّ الوجوب الغیری یتعلّق بذات المقدّمة ، ودخل فی ملک الغیر متردّدا فی الإنقاذ والإطفاء بعد دخوله لایکون الدخول بقصد التوصّل ، ولکن إذا جزم بالإنقاذ والإطفاء بعد الدخول ، لا یکون متجرّیا لا بالإضافة إلی الدخول ولا بالإضافة إلی ما یتوقّف علیه .

ثمّ إنّ الماتن قدس سره ، وإن التزم بتعلّق الوجوب الغیری بناءً علی الملازمة بذات المقدّمة ، ولکنه یظهر من قوله : «نعم إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال... الخ» أنّ قصد التوصّل حین الإتیان بالمقدّمة یوجب حصول أمرین : أحدهما تحقّق امتثال الأمر

ص :96

وأما إذا قصده، ولکنه لم یأت بها بهذا الداعی، بل بداعٍ آخر أکّده بقصد التوصل، فلا یکون متجرّئاً أصلاً.

وبالجملة: یکون التوصل بها إلی ذی المقدمة من الفوائد المترتبة علی المقدمة الواجبة، لا أن یکون قصده قیداً وشرطاً لوقوعها علی صفة الوجوب، لثبوت ملاک الوجوب فی نفسها بلا دخل له فیه أصلاً، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به، کما لا یخفی.

ولا یقاس علی ما إذا أتی بالفرد المحرّم [1] منها، حیث یسقط به الوجوب،

الشَرح:

الغیری ، لأنّ الامتثال عبارة عن الإتیان بمتعلّق أمر بداعویة ذلک الأمر ، وقد تقدّم أنّ داعویة الأمر الغیری إلی متعلّقه تتبع داعویة الأمر النفسی إلی متعلّقه ، فمادام لم یقصد التوصّل لا یکون للأمر الغیری داعویة . وثانیهما أنّ المکلّف بقصد التوصّل یعدّ آخذا فی امتثال الواجب النفسی فیستحقّ المزید من المثوبة علی الواجب النفسی ، لصیرورته بذلک القصد من أشقّ الأعمال ، علی ما تقدّم .

وفیه : أنّ مجرّد غسل الثوب أو البدن مع قصد الصلاة بعد ذلک لا یعدّ شروعا فی امتثال الأمر بالصلاة ، مع أنّ الصلاة أوّلها التکبیر وآخرها التسلیم، وهذا یشبه القول بأنّ شراء اللحم من السوق بقصد أکله بعد الطبخ ، شروع فی الطبخ أو الأکل، کما لا یخفی . وأمّا دعوی داعویة الأمر الغیری تتبع لداعویة الأمر النفسی فقد تقدّم(1) ما فیها، فلا نعید.

[1] قد التزم الشیخ قدس سره بالإجزاء فیما إذا أتی بالمقدّمة من غیر قصد التوصّل ولکنّه خصّص الوجوب الغیری بما إذا أتی بها بقصده ، وقاس الإتیان بذات المقدّمة

ص :97


1- (1) تقدّم فی ص 546 من هذا الکتاب .

مع أنه لیس بواجب، وذلک لأن الفرد المحرم إنما یسقط به الوجوب، لکونه کغیره فی حصول الغرض به، بلا تفاوت أصلاً، إلاّ أنه لأجل وقوعه علی صفة الحرمة لا الشَرح:

من غیر قصد التوصّل بما إذا أتی المکلّف بالفرد المحرّم من المقدّمة ، کما إذا غسل ثوبه أو بدنه من النجاسة بالماء المغصوب لأجل الصلاة ، فإنّه بعد الغسل تجوز الصلاة فیهما ، مع أنّ الوجوب الغیری لا یتعلّق بذلک الغسل ، وکذا الحال فیما إذا غسلهما بلا قصد التوصّل .

وأورد الماتن قدس سره علی ذلک بأنّ عدم تعلّق الوجوب الغیری بالفرد المحرّم لأجل المانع عن تعلّقه به ، لا لعدم المقتضی والملاک ، فلو فرض عدم تعلّق الوجوب الغیری بشیءٍ مع عدم المزاحم ، لکان عدم تعلّقه کاشفا عن عدم المقتضی للأمر فی ذلک الشیء ، ولازم ذلک عدم اجزائه کما هو الحال فی المقدّمة لا بقصد التوصّل فان عدم تعلّق الوجوب الغیری بها لابدّ أن یکشف عن عدم المقتضی فیها ، ولازم ذلک عدم إجزائها ، مع أنّ الاجزاء فیها ممّا لا مناص عن الالتزام به ، فیکون متعلّق الوجوب الغیری ذات المقدّمة .

ثمّ إنّه ربّما ینسب إلی الشیخ قدس سره أنّ من الثمرة المترتّبة علی اعتبار قصد التوصّل فی الواجب الغیری الحکم ببطلان الصلاة فیما إذا اشتبهت القبلة بین جهتین أو أکثر ، فصلّی المکلّف إلی إحدی الجهات بانیا الاقتصار علیها ، حیث یحکم ببطلانها حتّی فیما إذا صادفت کونها إلی القبلة ، فإنّ المکلّف مع البناء علی الاقتصار لا یکون قاصدا التوصّل إلی ما هو واجب واقعا ، فلا یجب المأتی بها غیریّا ومن باب المقدّمة ، لیکون مجزیا .

ولا یخفی ما فیه : فإنّ الصلاة إلی کلّ جهةٍ من الجهات المشتبهة من باب المقدّمة العلمیّة التی سبق استقلال العقل بها فی مورد إحراز التکلیف لإحراز الأمن

ص :98

یکاد یقع علی صفة الوجوب، وهذا بخلاف ما هاهنا، فإنه إن کان کغیره مما یقصد به التوصل فی حصول الغرض، فلا بد أن یقع علی صفة الوجوب مثله، لثبوت المقتضی فیه بلا مانع، وإلا لما کان یسقط به الوجوب ضرورة، والتالی باطل بداهة، فیکشف هذا عن عدم اعتبار قصده فی الوقوع علی صفة الوجوب قطعاً، وانتظر لذلک تتمة توضیح.

الشَرح:

من عقاب مخالفته ، ولیست لزومها من الوجوب الغیری للمقدّمة الوجودیة للواجب ، لیتکلّم فی اعتبار قصد التوصّل وعدمه .

وبالجملة إنّ الصلاة إلی إحدی الجهات من الامتثال الاحتمالی مع التمکّن علی الامتثال العلمی ، فیحکم باجزائها إذا انکشف بعد ذلک کونها هی الصلاة إلی القبلة . نعم ربّما یستشکل فی الصلاة إلی إحدی الجهات بانیا علی الاقتصار بها من جهة المناقشة فی قصد التقرّب المعتبر فیها الذی ینافیه التجرّی .

ونسب إلی الشیخ قدس سره أیضاً أن_ّه بناءً علی اعتبار قصد التوصّل فی الواجب الغیری یحکم ببطلان الصلاة فیما إذا توضّأ بعد دخول وقتها أو اغتسل بقصد غایة أُخری ، وصلّی بذلک الوضوء أو الغسل ، وذکر فی وجه بطلانها أنّ اعتبار قصد التوصّل فی الواجب الغیری مقتضاه کون الشرط للصلاة هو الوضوء بقصد الصلاة ، وإذا توضّأ لغایة أُخری ، تکون الصلاة فاقدة لشرطها ، وکذا الحال فی الاغتسال .

ویحتمل التفصیل بین الوضوء والغسل ، بأنّ الوضوء طبیعة واحدة ، ومع حصولها تصحّ الصلاة ، بخلاف الاغسال فإنها طبائع مختلفة ، ولا یمکن حصول واحد منها إلاّ بالقصد .

وفیه أنّ غایة ما یفرض فی المقام اختصاص الوجوب الغیری بالوضوء المقصود به التوصّل ، لا اشتراط الصلاة بخصوص ذلک الوضوء .

ص :99

والعجب أنه شدّد النکیر علی القول بالمقدمة الموصلة، واعتبار ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها علی صفة الوجوب، علی ما حرره بعض مقرری بحثه قدس سره بما یتوجه علی اعتبار قصد التوصل فی وقوعها کذلک، فراجع تمام کلامه (زید فی علو مقامه)، وتأملّ فی نقضه وإبرامه.

وأما عدم اعتبار ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها علی صفة الوجوب [1]،

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر : الصلاة مشروطة بالوضوء بما هو طهارة ، کما هو مفاد قوله علیه السلام : «لاصلاة إلاّ بطهور»(1) ، یعنی بطهارة ، وکون الأغسال طبایع مختلفة إنّما هو من ناحیة موجباتها ، لا من جهة التوصّل إلی غایة دون غایة ، فالاغتسال من الجنابة غیر الغسل من مسّ المیّت ، ولکن الاغتسال من الجنابة للطواف لا یختلف عن الاغتسال من الجنابة للصلاة ، فکلّ منهما مشروط بالطهارة ، وطهارة الجنب اغتساله من جنابته .

المقدّمة الموصلة

[1] شروع فی إبطال ما التزم به صاحب الفصول قدس سره من أنّ الواجب بالوجوب الغیری _ بناءً علی الملازمة _ هو خصوص المقدّمة الموصلة فقط ، حیث ذکر الماتن قدس سره أنّ متعلّق الوجوب الغیری بناءً علی الملازمة نفس المقدّمة لا هی بقید الإیصال ، فإنّ الآمر لا یأخذ فی متعلّق أمره إلاّ ما هو دخیل فی غرضه الداعی إلی الأمر ، والغرض من الوجوب الغیری حصول ما لولاه لا یحصل الواجب النفسی ، ولیس الغرض من الأمر بالمقدّمة ترتّب ذیها علیها لیؤخذ فی متعلّق الأمر الغیری قید الإیصال ، فإنّ الغرض من الشیء لا یکون إلاّ فائدته وأثره المترتّب علیه . ومن الظاهر

ص :100


1- (1) الوسائل : 1 ، باب 1 من أبواب الوضوء ، الحدیث 1 .

فلأنه لا یکاد یعتبر فی الواجب إلاّ ما له دخل فی غرضه الداعی إلی إیجابه والباعث علی طلبه، ولیس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذی المقدمة، ضرورة أنه لا یکاد یکون الغرض إلا ما یترتب علیه من فائدته وأثره، ولا یترتب علی المقدمة إلا ذلک، ولا تفاوت فیه بین ما یترتب علیه الواجب، وما لا یترتب علیه أصلاً، وأنه لا محالة یترتب علیهما، کما لا یخفی.

وأما ترتب الواجب، فلا یعقل أن یکون الغرض الداعی إلی إیجابها والباعث علی طلبها، فإنه لیس بأثر تمام المقدمات، فضلاً عن إحداها فی غالب الواجبات، فإن الواجب إلا ما قلّ فی الشرعیات والعرفیات فعل اختیاری، یختار المکلف تارة إتیانه بعد وجود تمام مقدماته، وأخری عدم إتیانه، فکیف یکون اختیار إتیانه غرضاً من إیجاب کل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه علی تمامها، فضلاً عن کل واحدة منها؟

الشَرح:

أنّ ترتّب ذی المقدّمة لا یکون أثرا لمقدّمة من مقدّمات الواجب النفسی ، وحصول الواجب النفسی لا یترتب علی جمیع المقدّمات فی غالب الواجبات ، لأن_ّها غالبا من الأفعال الاختیاریة التی یختارها المکلّف بعد حصول مقدّماتها تارةً ویترکها أُخری ، وإذا لم یکن حصول ذی المقدّمة أثرا لجمیع المقدّمات فی غالبها ، فکیف یکون أثرا لکلّ مقدّمة فی جمیعها ، بل ذلک الترتّب یختصّ بالواجبات التولیدیة . وعلیه فلو کان الغرض من الأمر بالمقدّمة هذا الترتّب لاختصّ الوجوب الغیری بالمقدّمة السببیّة ، یعنی ما تکون المقدّمة فیه تمام العلّة لحصوله.

وبالجملة بعد ما تبیّن أنّه لیس الغرض من الأمر بالمقدّمة إلاّ حصول ما لولاه لا یحصل الواجب ، وأنّ هذا الغرض موجود فی کلّ مقدّمة ، ولا دخل للإیصال وعدمه فی حصوله ، یکون تخصیص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة بلا وجه .

أقول : لا یخفی أنّ ظاهر عبارة الماتن قدس سره أنّ الغرض المترتّب علی المقدّمة

ص :101

نعم فیما کان الواجب من الأفعال التسبیبیة والتولیدیة، کان مترتباً لا محالة علی تمام مقدماته، لعدم تخلّف المعلول عن علته.

ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة، یستلزم إنکار وجوب المقدمة فی غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة التامة فی خصوص الواجبات التولیدیة.

فإن قلت: ما من واجب إلاّ وله علة تامة [1]، ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها، فالتخصیص بالواجبات التولیدیة بلا مخصص.

الشَرح:

حصول ما لولاه لما أمکن حصول الواجب ، وهذا غیر حصول ما لولاه لما تمکّن المکلّف علی الواجب ، لیورد علیه بأنّ التمکّن علی الواجب یحصل بالتمکّن علی مقدّمته ، لا علی حصول مقدّمته.

[1] یعنی بناءً علی کون الغرض من الأمر الغیری بالمقدّمة ، ترتّب ذیها علیها لا یلزم اختصاص الوجوب الغیری بمقدّمات الواجبات التولیدیة ، والوجه فی عدم اللزوم أنّ کلّ واجب له علّة تامّة _ لامتناع وجود الممکن بلا علّة _ فیکون متعلّق الوجوب الغیری فی جمیع الواجبات هی علّته التامّة بنحو الواجب الارتباطی ، بأن یتعلّق وجوب غیری واحد بمجموع أُمور یترتّب علیها الواجب النفسی خارجا ، سواء کان الواجب النفسی من الأفعال الاختیاریة أو التولیدیة .

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ فرض العلّة التامّة لکلّ واجب لا یوجب عموم الوجوب الغیری وعدم اختصاصه بالمقدّمة السببیّة، وذلک لأنّ من أجزاء العلّة فی الأفعال الاختیاریة إرادتها، ولا یمکن تعلّق الوجوب بالإرادة ولو کان غیریّا، لکون مبادئها خارجة عن الاختیار، حیث لا تکون المبادئ بإرادةٍ أُخری، ولو کانت بإرادةٍ أُخری لتسلسل، ومن أجل وضوح لزوم کون متعلّق الوجوب اختیاریا، کان إیجاب

ص :102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المقدّمة بغرض ترتّب ذیها علیها موجبا لاختصاص الوجوب الغیری بالمقدّمة السببیّة.

أقول : قد ذکرنا فی بحث الطلب والإرادة أنّ قصد الفعل بنفسه أمر اختیاری یتمکّن المکلّف من ترکه أو عدم الاستمرار علیه ، وعلیه فیمکن الالتزام _ فی الواجبات الاختیاریة غیر التولیدیّة _ بتعلّق وجوب غیری بمجموع المقدّمات التی منها قصد الإتیان بذی المقدّمة والاستمرار علیه ، وإن لم یکن مجموع هذه المقدّمة من العلّة التامّة حقیقة ، لما تقدّم من خروج الفعل الاختیاری عن قاعدة توقف حصول الممکن علی مرتبة الوجوب بتمام علته المعبر عن ذلک فی ألسنة أهله بأن «الشیء _ أی الممکن _ ما لم یجب لم یوجد» .

وبالجملة فبناءً علی الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمته لا سبیل إلاّ إلی الالتزام بأنّ إیجاب الشیء لا یکون إلاّ بإیجاب المجموع ممّا یترتّب علی حصولها ، حصول ذلک الشیء، وإن لم یکن الترتّب من ترتّب المعلول علی علّته .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ الواجب النفسی إذا کان من قبیل الکلّ ، یکون الکلّ عین أجزائه حال اجتماعها ، مع أن_ّه لولا جزء من أجزائه لما حصل ، ومع ذلک یتعلّق بالمجموع وجوب واحد ، لترتّب ملاک وغرض واحد فی المجموع ، کذلک الحال فی الواجب الغیری أنّه لیس إلاّ مجموع ما یترتّب علی مجموعه حصول الواجب النفسی ، فکل مقدّمة یتعلق به وجوب غیری ضمنی ، لأنّ الغرض من إیجابها غیریا حصول الواجب النفسی ، وکون کلّ مقدّمة لولاها لما حصل الواجب النفسی ، هو ملاک أخذها فی متعلّق الوجوب الغیری.

وإن شئت قلت : لا غرض نفسی ولا تبعی للمولی بالإضافة إلی کلّ من

ص :103

قلت: نعم وإن استحال صدور الممکن بلا علة، إلا أن مبادئ اختیار الفعل الإختیاری من أجزاء علته، وهی لا تکاد تتصف بالوجوب، لعدم کونها بالاختیار، وإلا لتسلسل، کما هو واضح لمن تأمل، ولأنه لو کان معتبراً فیه الترتب، لما کان

الشَرح:

مقدّمات الواجب النفسی حال انفرادها ، حتّی یأمر بها مستقلاًّ.

وما ذکره الماتن قدس سره من أنّ القصد لکونه أمرا غیر اختیاری لا یتعلّق به تکلیف ، غیر صحیح ؛ لصحّة تعلّق التکلیف بالأفعال التی تکون من قبیل العناوین القصدیة ، وصحّة تعلّق النذر بمثل قصد الإقامة فی الأماکن المقدّسة _ مثلاً _ ونحو ذلک .

لا یقال : الأمر النفسی بفعلٍ یکون داعیا إلی قصد ذلک الفعل ، فما معنی تعلّق الوجوب الغیری بذلک القصد ؟

فإنّه یقال : نعم ، الأمر النفسی بفعلٍ یکون داعیا إلی قصد ذلک الواجب ، إلاّ أنّ نفس القصد لا یؤخذ فی متعلّق التکلیف النفسی ، ولا یمنع داعویة الأمر النفسی إلیه عن تعلّق الوجوب الغیری به فی ضمن تعلّقه بسائر مقدّماته ، نظیر ما یلتزم القائل بوجوب المقدّمة السببیّة من أنّ الأمر بالمسبب وإن کان یدعو إلی قصد السبب ، ولکن لا مانع من تعلّق وجوب غیری بالسبب .

ولا یرد علی الالتزام بالوجوب الغیری للمقدّمة الموصلة ما أُورد علی قصد التوصّل ، من أنّ لازم اعتبار قصد التوصّل فی الواجب الغیری عدم الاجزاء فیما أتی المکلّف بالمقدّمة لا بقصد التوصّل .

والوجه فی عدم الورود : أنّ اعتبار قصد التوصّل معناه اعتبار حصول المقدّمة بنحوٍ خاصّ ، بأن یکون الداعی إلی الإتیان بها قصد الإتیان بذیها ، ولذا یقع الإشکال بلزوم عدم الإجزاء فیما إذا أتی بها المکلّف ، لا بقصد التوصّل . وهذا بخلاف قید الإیصال ، فإنهّ فی أیّ زمان انضمّ إلی تلک المقدّمة وغیرها ، الإتیان بذیها یتمّ متعلّق

ص :104

الطلب یسقط بمجرد الإتیان بها [1]، من دون انتظار لترتب الواجب علیها، بحیث لا یبقی فی البین إلاّ طلبه وإیجابه، کما إذا لم تکن هذه بمقدمته، أو کانت حاصلة من الأول قبل إیجابه، مع أن الطلب لا یکاد یسقط إلا بالموافقة، أو بالعصیان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التکلیف، کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن، بسبب غرق المیت أحیاناً أو حرقه، ولا یکون الإتیان بها بالضرورة من هذه الأمور غیر الموافقة.

الشَرح:

الوجوب الغیری ، وبتمامه یحصل الإجزاء ، نظیر ما إذا غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة ، فإنّه فی أیّ زمان انضمّ إلیها الغسلة الثانیة تحصل الطهارة .

[1] وهذا وجهٌ آخر لتعلّق الوجوب الغیری بنفس المقدّمة لا بها بقید الإیصال ، وحاصله أنّه لا ریب فی سقوط الأمر الغیری بالإتیان بنفس المقدّمة ، فلو کان قید الإیصال معتبرا فی متعلّقه لما کان یسقط بمجرّد الإتیان بها ، بل کان اللازم انتظار ترتّب الواجب علیها ، حیث یکون سقوط الأمر بأحد أُمور ثلاثة بموافقته أو عصیانه أو انتفاء موضوعه _ والأخیر کسقوط الأمر بالتکفین والدفن بغرق المیت _ وسقوطه بالأخیرین غیر مفروض فی المقام فیتعیّن استناد سقوطه إلی الموافقة .

ودعوی أنّ سقوط الأمر یکون بالإتیان بغیر المأمور به أیضاً فیما إذا کان وافیا بالغرض لا تجدی فی المقام ، فإنّ الوافی بالغرض إنّما یتعلّق به الأمر عند عدم المانع عنه ، والمانع لیس إلاّ حرمته فعلاً ، کما فی الفرد المحرّم ، والمفروض فی المقام عدم تعلّق النهی بالمقدّمة غیر الموصلة .

أقول : ما ذکره الماتن قدس سره من سقوط الأمر الغیری بالإتیان بالمقدّمة وکون السقوط بنحو الموافقة للأمر الغیری مردود نقضا : بجمیع الواجبات الارتباطیة التی لها أجزاء تدریجیة بلا اعتبار الموالاة فیها ، کما هو الحال فی الأمر بتغسیل المیت ، فإنّه بعد غسله بماء السدر یسقط الأمر الضمنی به ، بمعنی لا یجب غسله ثانیا ، مع

ص :105

إن قلت: کما یسقط الأمر فی تلک الأمور، کذلک یسقط بما لیس بالمأمور به فیما یحصل به الغرض منه، کسقوطه فی التوصلیات بفعل الغیر، أو المحرمات.

قلت: نعم، ولکن لا محیص عن أن یکون ما یحصل به الغرض، من الفعل الإختیاری للمکلف متعلقاً للطلب فیما لم یکن فیه مانع، وهو کونه بالفعل محرماً، ضرورة أنه لا یکون بینهما تفاوت أصلاً، فکیف یکون أحدهما متعلقاً له فعلاً دون الآخر؟

الشَرح:

أنّ الواجب لیس هو الغسل بماء السدر فقط ، بل مجموع الأغسال الثلاثة ، وکذا فیما إذا غسل رأسه فی غسل الجنابة أو فیما غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة .

وحلاًّ : بأنّه لا مانع من سقوط الأمر عن مرتبة الداعویة بالإضافة إلی بعض متعلّقه دون بعضه الآخر .

وبالجملة یکون المقام _ بناءً علی تعلّق الوجوب الغیری بمجموع مقدّمات یعبّر عنها بالموصلة _ من قبیل الواجب الارتباطی ، لا أنّه یتعلّق وجوب مستقلّ بکلّ مقدّمة مقیدا بالإیصال بأن یکون انضمام سائر المقدّمات أو حصول الواجب النفسی قیدا للواجب الغیری ، بل الوجوب الغیری الواحد یتعلّق بنفس المقدّمات التی تکون بمجموعها موصلة ، ولا یکون نفس ترتّب ذی المقدّمة قیدا للواجب الغیری بأن یکون نفس حصول الواجب النفسی مقدّمة للواجب الغیری ، کما لا یکون ترتّبه علیها شرطا فی نفس الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمات بنحو الشرط المتأخّر ، فإنّ جعل ترتّبه شرطا فی الوجوب الغیری فرض لحصول المقدّمات ، فیکون وجوبها علی تقدیر ترتبه من قبیل الطلب الحاصل .

وکذا الحال فیما إذا تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة حین الإیصال ، بأن یکون الوجوب المتعلّق بها فی ذلک الحین ، فإنّه یرجع إلی اشتراط ذلک الحین فی

ص :106

وقد استدل صاحب الفصول علی ما ذهب إلیه بوجوه، حیث قال بعد بیان أن التوصل بها إلی الواجب، من قبیل شرط الوجود لها لا من قبیل شرط الوجوب، ما هذا لفظه:

(والذی یدلّک علی هذا _ یعنی الاشتراط بالتوصل [1] _ أن وجوب المقدمة لما کان من باب الملازمة العقلیة، فالعقل لا یدل علیه زائداً علی القدر المذکور، الشَرح:

وجوبها ، لما تقدّم من رجوع القضیة الحینیة إلی الشرطیة .

[1] قد استدل صاحب الفصول قدس سره علی وجوب المقدّمة الموصلة بوجوهٍ ثلاثة:

الأوّل: أنّ الحاکم بالملازمة بین إیجاب ذی المقدّمة ومقدّمته هو العقل ، والعقل لا یحکم بأکثر من الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته الموصلة .

الثانی: أنّ العقل لا یمنع من أن یأمر المولی بفعلٍ کالحجّ مثلاً ، وأن یصرّح «بالأمر بالمسیر الموصل إلی الحج دون الذی لا یوصل إلیه» ولو کانت الملازمة بین إیجاب ذی المقدّمة وإیجاب مقدّمته مطلقاً لقبح التصریح بما ذکر ، ولذا یقبح تصریحه بأنّه یأمر بذی المقدّمة ولا یأمر بمقدّمته الموصلة ، أو لا یأمر بمقدّمته أصلاً ، موصلة کانت أو غیرها .

الثالث: أنّه لا غرض للمولی فی الأمر بالمقدّمة إلاّ التوصّل إلی الواجب ، فیکون هذا التوصّل مأخوذا فی متعلّق الوجوب الغیری ، إذ لا تکون المقدّمة بدونه مطلوبة ، والوجدان شاهد _ عند إرادة شیء لحصول شیءٍ آخر _ علی أنّ الأوّل لا یکون مرادا إذا تجرّد عن حصول ذلک الشیء الآخر ، بل تنحصر مطلوبیته بما إذا حصل الآخر .

وأجاب الماتن قدس سره بأنّ العقل المدرک للملازمة یری الملازمة بین إیجاب ذی

ص :107

وأیضاً لا یأبی العقل أن یقول الآمر الحکیم: أرید الحج، وأرید المسیر الذی یتوصل به إلی فعل الواجب، دون ما لم یتوصل به إلیه، بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الأمر بمثل ذلک، کما أنها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیتها له مطلقاً، أو علی تقدیر التوصل بها إلیه، وذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه ووجوب مقدماته علی تقدیر عدم التوصل بها إلیه، وأیضاً حیث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلی الواجب وحصوله، فلا جرم یکون التوصل بها إلیه وحصوله معتبراً فی مطلوبیتها، فلا تکون مطلوبة إذا انفکت عنه، وصریح الوجدان قاضٍ بأن من یرید شیئاً بمجرد حصول شیء آخر، لا یریده إذا وقع مجرداً عنه، ویلزم منه أن یکون وقوعه علی وجه المطلوب منوطاً بحصوله). انتهی موضع الحاجة من کلامه، (زید فی علو مقامه).

الشَرح:

المقدّمة وإیجاب نفس المقدّمة ، لأنّ ملاک الوجوب الغیری ثابت فی نفس المقدّمة ، ولا یختصّ بالمقدّمة الموصلة أو المقدّمة المقیّدة بقیدٍ آخر کقصد التوصّل ، فإذا لم یکن مانع عن تعلّق الوجوب الغیری بنفس المقدّمة علی إطلاقها _ کحرمة بعض أفرادها _ ثبت الوجوب الغیری فی مطلقها ، وعلی ذلک فلا یکون للآمر الحکیم غیر المجازف بالقول التصریح بخلاف ذلک واختصاص الوجوب الغیری بالمقدّمة الموصلة ، فإنّ مع ثبوت ملاک ذلک الوجوب فی مطلق المقدّمة وعدم المانع عن تعلّقه بمطلقها یکون التصریح بالاختصاص من المجازفة .

نعم الفرق بین الموصلة وغیرها إنّما هو فی حصول المطلوب النفسی فی صورة الإیصال وعدم حصوله فی غیرها ، لکن من غیر دخلٍ للمقدّمة فی اختیار حصول ذیها فی الأوّل ، وعدم حصوله فی الثانی ، بل یکون حصوله بحسن اختیار المکلّف وعدم حصوله بسوء اختیاره ، کما لا یخفی .

وبالجملة الأثر المترتّب علی نفس غسل الثوب مثلاً _ من ملاک الوجوب

ص :108

وقد عرفت بما لا مزید علیه، أن العقل الحاکم بالملازمة دل علی وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب علیها الواجب، فیما لم یکن هناک مانع عن وجوبه، کما إذا کان بعض مصادیقه محکوماً فعلاً بالحرمة، لثبوت مناط الوجوب حینئذ فی مطلقها، وعدم اختصاصه بالمقید بذلک منها.

وقد انقدح منه، أنه لیس للآمر الحکیم الغیر المجازف بالقول ذلک التصریح، وأن دعوی أن الضرورة قاضیة بجوازه مجازفة، کیف یکون ذا مع ثبوت الملاک فی الصورتین بلا تفاوت أصلاً؟ کما عرفت.

نعم إنما یکون التفاوت بینهما فی حصول المطلوب النفسی فی إحداهما، وعدم حصوله فی الأخری، من دون دخل لها فی ذلک أصلاً، بل کان بحسن اختیار المکلف وسوء اختیاره، وجاز للآمر أن یصرّح بحصول هذا المطلوب فی إحداهما، وعدم حصوله فی الأخری، بل من حیث إن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب، وإنما کان الواجب الغیری ملحوظاً إجمالاً بتبعه، کما یأتی أن وجوب المقدمة علی الملازمة تبعیّ، جاز فی صورة عدم حصول المطلوب النفسی الشَرح:

الغیری _ هو حصول ما لولاه لما أمکنت الصلاة من طهارة الثوب مثلاً ، وهذا الملاک مترتّب علی نفس الغسل ، صلّی المکلّف بعد غسله أم لا ، فتصریح الآمر فی فرض عدم حصول الصلاة بعدم حصول مطلوبه ، فهو بلحاظ مطلوبه النفسی ، لا مطلوبه الغیری ، ولذا یصحّ التصریح حینئذٍ بحصول مطلوبه الغیری مع عدم فائدته .

لا یقال : حصول الصلاة _ مثلاً _ وترکها ، وإن کان لا یوجبان تفاوتا فی ناحیة الملاک والأثر المترتّب علی غسل الثوب ، إلاّ أنّه یؤثّر فی اتّصاف الغسل بالمطلوبیه إذا کان موصلاً إلی الصلاة بعده ، وعدم اتصافه بها مع ترکها ، ویؤثّر أیضاً فی جواز تصریح الآمر بمطلوبیة الغسل غیریا فی الأوّل دون الثانی .

ص :109

التصریح بعدم حصول المطلوب أصلاً، لعدم الإلتفات إلی ما حصل من المقدمة، فضلاً عن کونها مطلوبة، کما جاز التصریح بحصول الغیری مع عدم فائدته لو التفت إلیها، کما لا یخفی، فافهم.

إن قلت: لعل التفاوت بینهما فی صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلیة دون الأخری، أوجب التفاوت بینهما فی المطلوبیة وعدمها، وجواز التصریح بهما، وإن لم یکن بینهما تفاوت فی الأثر، کما مرّ.

قلت: إنما یوجب ذلک تفاوتاً فیهما، لو کان ذلک لأجل تفاوت فی ناحیة المقدمة، لا فیما إذا لم یکن فی ناحیتها أصلاً _ کما هاهنا _ ضرورة أن الموصلیة إنما تنتزع من وجود الواجب، وترتبه علیها من دون اختلاف فی ناحیتها، وکونها فی کلا الصورتین علی نحو واحد وخصوصیة واحدة، ضرورة أن الإتیان بالواجب بعد الإتیان بها بالاختیار تارة، وعدم الإتیان به کذلک أخری، لا یوجب تفاوتاً فیها، کما لا یخفی.

وأما ما أفاده قدس سره من أن مطلوبیة المقدمة حیث کانت بمجرد التوصل بها، فلا جرم یکون التوصل بها إلی الواجب معتبراً فیها.

ففیه: إنه إنما کانت مطلوبیتها لأجل عدم التمکن من التوصل بدونها، لا لأجل التوصل بها، لما عرفت من أنه لیس من آثارها، بل مما یترتب علیها أحیاناً بالإختیار بمقدمات أخری، وهی مبادئ اختیاره، ولا یکاد یکون مثل ذا غایة الشَرح:

فإنّه یقال : إنّه بعد عدم التفاوت فی ناحیة ملاک إیجاب الغسل وأثره فی الصورتین ، لا یمکن اتّصافه بالمطلوبیّة فی إحداهما وعدم اتصافه بها فی الأُخری ؛ لأنّ عنوان الموصولیّة ینتزع من حصول الواجب النفسی من غیر أن یکون لحصوله دخل فی مقدّمیّة الغسل أصلاً ، ولأنّ المقدّمة فی کلتا الصورتین علی نحوٍ واحد .

ص :110

لمطلوبیتها وداعیاً إلی إیجابها، وصریح الوجدان إنما یقضی بأن ما أرید لأجل غایة، وتجرد عن الغایة [1] بسبب عدم حصول سائر ماله دخل فی حصولها، یقع الشَرح:

[1] ذکر الماتن قدس سره أوّلاً بأنّ الغایة والملاک فی الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة لیس التوصّل بها إلی ذیها ، بل مطلوبیة المقدّمة لأجل عدم تمکّن المکلّف من ذی المقدّمة بدونها ، وذلک لأنّ ترتّب ذی المقدّمة لیس أثرا للمقدّمة ، بل الترتّب ممّا یترتّب علی المقدّمة أحیانا بالاختیار الناشئ من مقدّماتٍ أُخری ، التی یعبّر عنها بمبادئ الاختیار ، والشیء المترتّب علی المقدّمة کذلک لا یکون غرضا من إیجاب المقدّمة وداعیا إلیه .

وقوله : «وصریح الوجدان» جوابٌ آخر عمّا ذکره فی الفصول ، وحاصله : أنّه مع تسلیم کون الغایة والملاک فی الوجوب الغیری هو التوصّل إلی ذیها ، لا یلزم منه عدم تعلّق الوجوب الغیری بنفس المقدّمة فیما تجرّدت عن ذیها ، استنادا إلی عدم حصول سائر أجزاء علّة تلک الغایة ، یعنی ذی المقدّمة .

وبتعبیرٍ آخر : إنّ غسل الثوب _ مثلاً _ یکون واجبا غیریا مع کون حصول الصلاة غایة لإیجابه الغیری ، حتّی فیما لم تحصل الصلاة ، لکن لا لترک الغسل ، بل لعدم إرادتها مثلاً ، فإنّ صریح الوجدان شاهد علی أنّ الغسل الذی أُرید للصلاة ولم تتبعه الصلاة بعده لأجل عدم إرادتها، یقع ذلک الغسل علی صفة المطلوبیة الغیریة ، فلو لم یکن الغسل فی الفرض متّصفا بالمطلوبیة الغیریة ، لزم أن تکون الصلاة قیدا للغسل الواجب غیریا ، ومقتضی کون الصلاة قیدا للواجب الغیری أن تکون نفس الصلاة مقدّمة للغسل الواجب غیریّا ، فیتعلّق وجوب غیری بالصلاة للملازمة بین الوجوب الغیری المتعلّق بالغسل المقیّد بحصول الصلاة وبین نفس الصلاة ، فیجتمع فی الغایة _ أی الصلاة _ أمران : نفسی وغیری ، وهو کما تری ، وإلی ذلک یشیر قوله قدس سره

ص :111

علی ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة، کیف؟ وإلا یلزم أن یکون وجودها من قیوده، ومقدمة لوقوعه علی نحو یکون الملازمة بین وجوبه بذاک النحو ووجوبها.

وهو کما تری، ضرورة أن الغایة لا تکاد تکون قیداً لذی الغایة، بحیث کان تخلفها موجباً لعدم وقوع ذی الغایة علی ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة، الشَرح:

«وإلاّ یلزم أن تکون الغایة» ، أی : الواجب النفسی «مطلوبة بطلبه» یعنی بطلب ذی الغایة ، وهو الغسل فی المثال ، کسائر مقدّمات الغسل وقیوده ، مثل تحصیل الماء ونحوه .

نعم یکون فرق بین تحصیل الماء الذی یتعلّق الوجوب الغیری بالموصل منه إلی الغسل والوجوب الغیری الذی یتعلّق بنفس الصلاة ، حیث إنّ الصلاة بنفسها موصلة إلی الغسل ، وقول الماتن قدس سره : «أو لعلّ منشأ توهّمه خلطه بین الجهة التقییدیة والتعلیلیّة... الخ» ناظر إلی أن_ّه لو قیل بأنّ الملاک فی تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة ترتّب الواجب علیه ، فهذا الملاک جهة تعلیلیّة فی تعلّق الوجوب الغیری بها لا جهة تقییدیة ، لیتعلّق الوجوب الغیری بنفس تلک الجهة أیضاً بأن تکون الجهة قیدا للواجب الغیری .

فالتزام صاحب الفصول قدس سره بأنّ متعلّق الوجوب الغیری الغسل الموصل إلی الصلاة مثلاً خلط بین الجهات التعلیلیّة والجهات التقییدیة .

هذا مع أنّ ترتّب الصلاة علی الغسل لیس أیضاً من الجهة التعلیلیّة للوجوب الغیری المتعلّق بالغسل بل الجهة التعلیلیّة فی تعلّقه به ، إنّما حصول ما لولاه لما تمکّن المکلّف من الوصول إلی الواجب النفسی ، فافهم واغتنم .

أقول : کون الملاک فی الوجوب الغیری حصول ما لولاه لما تمکّن من التوصّل إلی الواجب النفسی فاسد ؛ لأنّ التمکّن من الوصول إلی الواجب النفسی یکون

ص :112

وإلا یلزم أن تکون مطلوبة بطلبه کسائر قیوده، فلا یکون وقوعه علی هذه الصفة منوطاً بحصولها، کما أفاده.

ولعل منشأ توهمه، خلطه بین الجهة التقییدیة والتعلیلیة، هذا مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا، وأن الغایة إنما هو حصول ما لولاه لما تمکن من التوصل إلی المطلوب النفسی، فافهم واغتنم.

الشَرح:

بالتمکّن من مقدّمته لا بحصول المقدّمة ، وقد ذکرنا سابقا بأنّ ملاک الوجوب الغیری عند الماتن قدس سره حصول ما لولاه لما أمکن الواجب النفسی ، وهذا لیس إلاّ التوقّف والمقدمیّة .

فلعلّ تعبیره بالتمکّن هنا مسامحة. وقد نفی صاحب الفصول قدس سره کون مجرّد التوقّف ملاکا للوجوب الغیری ، والتزم بکون الملاک فی هذا الوجوب ترتّب الواجب النفسی علی المقدّمة .

والتوجیه الصحیح لما اختاره قدس سره تعلّق وجوب غیری واحد بمجموع المقدّمات التی یترتّب علیها الواجب النفسی واختیاره ، ولا یخفی أنّ قصد الإتیان بالواجب النفسی والاستمرار علیه یکون جزاً معدا من تلک المقدّمات ، وعلی ذلک فلا یکون الواجب النفسی بنفسه قیدا لمتعلّق الوجوب الغیری لیلزم من تقیّد الواجب الغیری به تعلّق وجوب غیری آخر بنفس الواجب النفسی ، لکونه بنفسه مقدّمة موصلة للواجب الغیری .

ومع الإغماض عن ذلک والإلتزام بکون الواجب النفسی بنفسه قیدا للواجب الغیری بأن یتعلّق (لأجل الملازمة بین إیجاب ذی المقدّمة وإیجاب مقدّمته) وجوب غیری بالمقدّمة المقیّدة بحصول الواجب النفسی وبالملازمه بین هذا الوجوب الغیری وإیجاب مقدّمته ، یتعلّق وجوب غیری آخر بنفس ذی المقدّمة ، فلا محذور

ص :113

ثم إنه لا شهادة علی الإعتبار فی صحة منع المولی عن مقدماته بأنحائها، إلا فیما إذا رتّب علیه الواجب لو سلم أصلاً، ضرورة أنه وإن لم یکن الواجب منها حینئذ غیر الموصلة، إلا أنه لیس لأجل اختصاص الوجوب بها فی باب المقدمة، بل لأجل المنع عن غیرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا، کما لا یخفی.

الشَرح:

فی الإلتزام بذلک ، غایة الأمر یکون الوجوب الغیری المتعلّق بنفس ذی المقدّمة تأکیدا لوجوبه النفسی ، فمثلاً الوجوب الغیری المتعلّق بالصلاة یکون مؤکّدا لوجوبها النفسی من غیر لزوم محذور ، لأنّ الوجوب الغیری المتعلّق بنفس الصلاة وإن کان یتوقّف علی تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمات الموصلة إلی الصلاة ، لکن تعلّق الوجوب الغیری بتلک المقدّمات الموصلة لا یتوقّف علی تعلّق الوجوب الغیری بنفس الصلاة لیلزم الدور ، بل تعلّقه بتلک المقدّمات الموصلة یتوقّف علی ثبوت الوجوب النفسی المتعلّق بالصلاة ، فالوجوب الغیری الموقوف فی الصلاة غیر وجوبها النفسی الموقوف علیه فلا دور .

لا یقال : لو کان الوضوء المقیّد بالوصول إلی الصلاة متعلّقا للوجوب الغیری تکون الصلاة مقدّمة للوضوء المزبور، ونتیجة ذلک کون الصلاة مقدّمة لنفسها ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة .

فإنّه یقال : لا یتوقّف الوضوء علی الصلاة وإن التزم بأنّ الوجوب الغیری یتعلّق بالوضوء الموصل إلی الصلاة ، فإنّ نفس الوضوء غیر موقوف علی الصلاة ، وإنّما یکون اتصافه بالموصلیّة موقوفا علی الصلاة ، وهذا لا محذور فیه ، ولا یزید الوضوء فی ذلک بالإضافة إلی الصلاة عن العلّة والمعلول ، حیث ان المعلول یتوقّف فی حصوله علی تحقّق العلّة ، مع أنّ اتصاف العلّة بالعلیّة الفعلیّة یکون بحصول المعلول ، وفی المقام تتوقّف الصلاة علی الوضوء فی حصولها لکون الوضوء قیدا

ص :114

مع أن فی صحة المنع عنه کذلک نظر، وجهه أنه یلزم [1] أن لا یکون ترک الواجب حینئذ مخالفة وعصیاناً، لعدم التمکن شرعاً منه، لإختصاص جواز مقدمته بصورة الإتیان به.

وبالجملة یلزم أن یکون الإیجاب مختصاً بصورة الإتیان، لإختصاص جواز المقدمة بها وهو محال فإنه یکون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جیداً.

الشَرح:

للواجب النفسی ، ولکن لا یتوقّف وجود الوضوء علی وجود الصلاة ، بل اتصاف الوضوء بالموصلیّة یتوقّف علی الصلاة .

وبالجملة کون شیء مقدّمة یتوقّف علیه حصول ذی المقدّمة غیر اتصاف المقدّمة بالموصلیّة، والذی یمتنع هو توقّف وجود المقدّمة علی حصول ذی المقدّمة، وأمّا توقّف اتصاف المقدّمة بوصفٍ علی حصول ذی المقدّمة فلا محذور فیه.

وممّا ذکرنا یظهر أیضاً أن_ّه إذا تعلّق وجوب غیری بالوضوء الموصل إلی الصلاة ، ووجوب غیری آخر بنفس الصلاة ، فواضح أنّ الوجوب الغیری المتعلّق بالوضوء الموصل أو بالصلاة لا یتکّرر لأنّ الصلاة بنفسها موصلة إلی الوضوء الموصل إلیها ، حیث لا ینفک وجود الواجب النفسی عن حصول مقدّماتها .

[1] وحاصله أنّ مع النهی عن المقدّمة غیر الموصلة لا یصحّ التکلیف بذیها أصلاً ، وذلک لأنّ النهی عن مقدّمةٍ غیر موصلة تحریم لتلک المقدّمة علی تقدیرترک الواجب النفسی ، وتجویز لها علی تقدیر الإتیان بالواجب النفسی ، وعلیه فلا یکون ترک الواجب النفسی مخالفة وعصیانا ، لأنّ التکلیف به فی هذا الفرض ممتنع ، لکون مقدّمته حراما ، ویلزم أن یکون التکلیف بالواجب النفسی مشروطا بحصول نفسه ، وهذا من طلب الحاصل .

أقول : إنّما یلزم التکلیف بالممتنع أو التکلیف بالحاصل لو قیل باشتراط جواز

ص :115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المقدّمة أو وجوبها الغیری بحصول ذیها بأن یکون الواجب النفسی قیدا لنفس الوجوب الغیری ، ولکن قد تقدّم منع ذلک وأمّا لو کان حصول الواجب قیداً للواجب الغیری فلا یلزم محذور لحیلولة ، ترک الواجب النفسی بین المقدمة وذیها ومعه یصحّ التکلیف به لتمکّن المکلّف علی مقدّمته المقیّدة بالموصلة ، هذا مع الإغماض عمّا ذکرناه مرارا من أنّ الواجب النفسی _ بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة _ لا یکون قیدا للواجب الغیری أیضاً ، بل یکون تعلّق الوجوب الغیری الواحد مجموع المقدّمات التی یکون منها قصد الواجب النفسی والاستمرار علیه .

وینبغی فی المقام التعرّض لنکتةٍ ، وهی : أنّ الشرط الشرعی فی الواجب النفسی کالطهارة واستقبال القبلة ونحوهما بالإضافة إلی الصلاة مما یعبّر عنها بالمقدّمة ویتعلّق بها الوجوب الغیری بناءً علی الملازمة ، لا یدخل حقیقة فی المقدّمة التکوینیّة التی یتوقف وجود ذیها علی وجودها سابقاً، بل الحال فی تلک الشرائط کالحال فی الأجزاء ، فکما أنّ الجزء لا یکون مقدّمة للصلاة ، لأنّ المقدّمة للشیء عبارة عمّا یتوقّف وجود ذلک الشیء علی وجودها ، وفیما نحن فیه لیس فی الخارج تحقّق للصلاة وتحقّق للتقیّد بالوضوء ووجود آخر للوضوء ، بل التقیّد أمرٌ انتزاعی منشأه تحقّق الوضوء والطهور فی زمان یتحقّق فیه الصلاة ، فیکون الوضوء طرف الإضافة التی لها عنوان انتزاعی ، وعلی ذلک فلا بأس باشتراط الصلاة بالوضوء واشتراط الوضوء بالصلاة فی تعلّق الوجوب النفسی بالأوّل والغیری بالثانی ، کما هو الحال فی حجّ التمتّع وعمرته ، حیث إنّ الحجّ مشروط بوقوع العمرة قبله ، وعمرة التمتّع مشروطة بوقوع الحجّ بعدها ، ولا یجری فیه ما یقال من أنّ مقدّمة الشیء لا یمکن أن یکون من ذی المقدّمة لذلک الشیء ، فإنّ هذا یختصّ بالمقدّمة العقلیة

ص :116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ممّا یکون المقدّمة من مبادئ وجود الشیء لا من طرف الإضافة فی وصف ذلک الشیء ، کما فی المتضایفین ، وعلی ذلک فلا بأس بکون الوضوء مقدّمة للصلاة فی اتّصاف الصلاة بالصحّة والصلاة مقدّمة _ یعنی شرطا للوضوء _ فی صحّة الوضوء ، ویعبّر عن الوضوء بأنّه مقدّمة للصلاة ، وعن الصلاة بأنّها مقدّمة للوضوء ، کما هو الحال بالإضافة إلی کلّ جزءٍ من أجزاء المرکّب الارتباطی ، بالإضافة إلی أجزائها الأُخری ، مع اعتبار الموالاة فی أجزائه .

ثمّ إنّه بقی فی باب الملازمة مسلک آخر منقول عن صاحب الحاشیة قدس سره أوضحه المحقّق النائینی قدس سره بما حاصله : أنّ الوجوب الغیری ، وإن تعلّق بنفس ما یحمل علیه عنوان المقدّمة ، إلاّ أنّ متعلّق الوجوب الغیری مهمل لا مطلق ، کما التزم به الماتن قدس سره وغیره من کون المقدّمة نفس غسل الثوب المتنجّس ، سواء ترتّب علیه الصلاة أم لا ، ولا مقیّد بالإیصال ، کما التزم به صاحب الفصول قدس سره ، والوجه فی إهمال المتعلّق ما تقدّم من عدم إمکان تقییده بالإیصال ، لاستلزام هذا التقیید الدور أو التسلسل ، وإذا لم یمکن تقییده بالإیصال لا یکون للمتعلّق إطلاق ؛ لأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة وأن الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فی المورد القابل للقید ، والمفروض عدم إمکان تقیّد متعلّق الوجوب الغیری بقید الإیصال فیکون مهملاً ، وکما لا إطلاق ولا تقیید فی ناحیة الواجب الغیری بالإضافة إلی قید الإیصال ، کذلک لا إطلاق ولا تقیید فی ناحیة نفس الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة بمقتضی التبعیة .

وبتعبیرٍ آخر : لا یکون نفس الوجوب الغیری مشروطا بالإیصال وبترتّب الواجب النفسی علی المقدّمة ، حیث إنّ هذا الاشتراط یوجب تفکیک الوجوب

ص :117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الغیری عن الوجوب النفسی فی الإطلاق والاشتراط ، وذلک فإنّ الوجوب النفسی لا یمکن أن یکون مشروطا بحصول متعلّقه ، فإنّه من طلب الحاصل ، کذلک الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة لا یکون مشروطا بحصول الواجب النفسی ، فإنّ طلب المقدّمة أیضاً فی هذا التقدیر من طلب الحاصل ، وإذا لم یمکن تقیید الوجوب الغیری بالإیصال فلایکون للوجوب المزبور إطلاق ، بالإضافة إلی الإیصال وعدمه فإن ذلک بمقتضی التقابل بین الإطلاق والتقیید بالعدم والملکة .

والحاصل أنّ الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة مهمل ثبوتا من حیث نفسه ومن حیث متعلّقه ، بالإضافة إلی قید الإیصال وعدمه ، ولکنّه مبیّن من حیث الملاک ، فإنّ ملاک الوجوب الغیری هو الوصول إلی الواجب النفسی .

ویترتّب علی ذلک أنّه یمکن جعل حکم آخر یتعلّق بالمقدّمة مترتّبا علی عصیان وجوبها الغیری من حیث الملاک ، بأن یتعلّق الوجوب الغیری بالدخول فی ملک الغیر بلا رضا صاحبه فیما کان الدخول المزبور مقدّمة لإنقاذ غریق أو إطفاء حریق ، وأن ینهی عن ذلک الدخول مترتّبا علی عصیان الوجوب الغیری المتعلّق به من حیث الملاک ، فیثبت کلا الحکمین للدخول وتکون الحرمة بنحو الترتّب .

وقد ناقش المحقّق النائینی قدس سره بعد ذکر ذلک بأنّ إهمال الواجب الغیری والوجوب الغیری وإن کان متینا ، إلاّ أنّه لا یمکن تعلّق حکمٍ آخر بالمقدّمة ، ولو مترتّبا علی عصیان الوجوب الغیری المتعلّق بها ، بل الممکن فی باب الترتّب ثبوت حکم فی فعل بنحو الترتّب علی مخالفة تکلیفٍ آخر متعلّق بفعلٍ آخر ، فمثلاً لا تجب الصلاة فی أوّل وقتها فیما إذا کان ترکها لازما لإزالة النجاسة عن المسجد ،

ص :118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

ولا بأس بتعلّق الوجوب بالصلاة مترتّبا علی عصیان التکلیف بالإزالة ، وفی المقام یمکن تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة مهملاً وتعلّق الحرمة بها مترتبة علی عصیان التکلیف المتعلّق بذیها بأن تثبت الحرمة فی ملک الغیر بلا رضا صاحبه علی تقدیر مخالفة الوجوب النفسی المتعلّق بالإنقاذ أو الإطفاء(1) .

أقول : لا یخفی أنّ الترتّب _ علی ما یأتی فی بحث النهی عن الضدّ _ إنّما یصحّح الجمع بین التکلیفین فیما کان متعلقا هما من الضدین اللّذین لهما، سواء کان التضادّ بینهما ذاتیا أو عرضیا ، ولا یلزم من الأمر بهما علی نحو الترتّب محذور التکلیف بالجمع بین الضدّین مما کان یلزم من الأمر بهما علی نحو الإطلاق وعدم الترتّب .

وأمّا التکلیف الممتنع فی نفسه _ مع قطع النظر عن لحاظ عدم التمکّن علی متعلّقه _ المعبر عنه بالتکلیف المحال ، فلا یوجب الترتّب جوازه .

وعلیه فالأمر بالأهم مطلقاً والأمر بالمهمّ علی تقدیر عصیان الأمر بالأهمّ ولو بنحو الشرط المتأخر لا یلازم التکلیف بالجمع بین الضدّین ، فلا محذور فی الأمر بهما کذلک .

وأمّا الأمر بالدخول فی ملک الغیر بلا رضا مالکه لا یجتمع مع النهی عنه ، سواء جعل شرط تحریمه مخالفة الأمر بالدخول، کماهو مقتضی کلام صاحب الحاشیة قدس سره ، أو مخالفة الأمر بالإنقاذ أو الإطفاء ، کما هو مقتضی کلام المحقّق النائینی قدس سره ، فإنّ الأمر بالدخول مع النهی عنه ولو مشروطا ، من التکلیف المحال والفعل الواحد

ص :119


1- (1) أجود التقریرات : 1 / 240 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

لا یتحمّل تعلّق الوجوب والحرمة به ، والترتّب لا یُصحّحه، فإنّ اشتراط النهی عن الدخول بمخالفة الأمر به یستلزم اشتراط الأمر به بموافقة الأمر به ، وهذا من طلب الحاصل . وکذا اشتراط النهی عنه بمخالفة الأمر بالإنقاذ ، حیث إنّ لازم هذا الاشتراط اشتراط الأمر بالدخول بموافقة الأمر بالإنقاذ ، وفی فرض الموافقة الدخول موجود فیکون الأمر به من طلب الحاصل أیضاً .

وبالجملة طلب الحاصل من قبیل التکلیف المحال ولا یصحّحه الترتّب ، کما أنّ تعلّق الوجوب مطلقاً والحرمة بفعل مطلقا من التکلیف المحال ، ولا یمکن تصحیحهما بالترتّب وبالاشتراط فی أحدهما.

فقد تحصّل ممّا ذکرنا أنّ نفس الوجوب الغیری لا یمکن أن یکون مشروطا بالإیصال إلی الواجب النفسی ، لاستلزامه کون الأمر به من طلب الحاصل ، ومع النهی عنه فی فرض عدم الإیصال یکون النهی مع الأمر المزبور أیضاً من التکلیف بالمحال لا التکلیف بغیر المقدور . ولکن لا بأس بتقیّد متعلّق الوجوب الغیری بالإیصال ، بل لا مناص منه بناءً علی وجوب المقدّمة الموصلة علی التفسیر المزبور ، ولکن یکون نفس الوجوب الغیری بالإضافة إلی الإیصال مطلقا ، فالإیصال من قیود الواجب الغیری لا الوجوب الغیری .

وما تقدّم فی کلام المحقّق النائینی قدس سره من عدم الإطلاق لا فی ناحیة الوجوب الغیری ولا فی ناحیة الواجب الغیری غیر صحیح ؛ وذلک لأنّ کون التقابل بین الإطلاق والتقیید بالعدم والملکة ، یختصّ بمقام الإثبات ، بلا فرقٍ بین ناحیة الموضوع أو ناحیة المتعلّق أو ناحیة الحکم ، حیث لا یمکن التمسّک بالإطلاق فی

ص :120

بقی شیء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هی تصحیح العبادة التی یتوقف علی ترکها فعل الواجب [1]، بناءً علی کون ترک الضد مما یتوقف علیه فعل ضده، فإن ترکها علی هذا القول لا یکون مطلقاً واجباً، لیکون فعلها محرماً، فتکون فاسدة، بل فیما یترتب علیه الضد الواجب، ومع الإتیان بها لا یکاد یکون هناک ترتب، فلا یکون ترکها مع ذلک واجباً، فلا یکون فعلها منهیاً عنه، فلا تکون فاسدة.

الشَرح:

ناحیة شیء منهما فی موارد عدم تمکّن الحاکم علی التقیید فی ذلک الخطاب لرعایة التقیة أو نحوها . وأمّا التقابل بینهما فی مقام الثبوت فبالسلب والإیجاب وامتناع التقیید یوجب کون الإطلاق ذاتیا .

[1] قیل إنّه تظهر الثمرة بین القول بوجوب نفس المقدّمة ، والقول بوجوب المقدّمة الموصلة فیما لو کانت عبادة ضدّا لواجب فعلیٍّ آخر _ کالصلاة بالنسبة إلی إزالة النجاسة عن المسجد فی سعة الوقت _ وبُنی علی اقتضاء الأمر کالأمر بالإزالة فی المثال للنهی عن ضده الخاص _ یعنی الصلاة فی المثال من باب مقدّمیّة ترک أحد الضدین لوجود الضد الآخر _ وقیل بأنّ الأمر الغیری یتعلّق بنفس المقدّمة ، تکون الصلاة فی أوّل وقتها منهیا عنها فإنّ الأمر بالشیء نهی عن ضدّه الخاص ، والنهی یقتضی فساد العبادة ، وهذا بخلاف ما إذا قیل بوجوب المقدّمة الموصلة ، فإنّ الواجب الغیری _ بناءً علیه _ ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة لا مطلق ترکها ، لیکون فعلها محرّماً فتفسد .

وبتعبیرٍ آخر : لا تکون الصلاة بنفسها ضدا لترکها الموصل إلی الإزالة حتی تحرم مطلقاً .

وقد أورد علی هذه الثمرة فی التقریرات المنسوبة إلی الشیخ قدس سره بما حاصله : أنّ نقیض ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة رفع هذا الترک الخاصّ وهذا الرفع _ کما هو

ص :121

وربما أورد علی تفریع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، وإن لم یکن نقیضاً للترک الواجب مقدمة، بناءً علی المقدمة الموصلة، إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقیض، حیث إن نقیض ذاک الترک الخاص رفعه، وهو أعم من الفعل والترک الآخر المجرد، وهذا یکفی فی إثبات الحرمة، وإلاّ لم یکن الفعل المطلق محرماً فیما إذا کان الترک المطلق واجباً، لأنّ الفعل أیضاً لیس نقیضاً للترک، لأنه أمر الشَرح:

الحال فی نقیض کلّ أخص _ یکون أعمّ قد ینطبق علی فعل الصلاة وقد ینطبق علی الترک المجرد (أی ترک الصلاة وترک الإزالة معا) ، ولو کان وجوب ترک الصلاة _ بناءً علی وجوب نفس المقدّمة _ موجبا لحرمة فعلها کان وجوب ترکها الخاصّ موجبا لحرمتها أیضاً ، وذلک لأنّ الفعل فی الحقیقة لیس نقیضا للترک ، حیث إنّ الفعل أمر وجودی ونقیض الترک أمرٌ عدمی ، فإنّ نقیض کلّ شیء رفعه ، وهذا النقیض ینحصر مصداقه بالفعل فیما کان الوجوب الغیری متعلّقا بنفس ترک الضدّ ، ویتعدّد مصداقه فیما کان متعلّقه الترک الخاصّ ، یعنی الترک الموصل إلی فعل الواجب النفسی ، فلو لم یکفِ فی حرمة الصلاة کونها مصداقا للنقیض ، فلا تکون الصلاة محکومة بالبطلان علی القولین ، وعلی تقدیر الکفایة فلا فرق بین النقیض المنحصر مصداقه بواحد ، وبین النقیض الذی یتعدّد مصداقه .

ویقرّر جواب الماتن قدس سره عن الإیراد بأنّه فرق بین مطلق الترک والترک الخاصّ ، وأنّ الفعل نقیض لمطلق الترک ، لا أن_ّه مصداقه المنحصر ، وذلک لأنّ العدم إذا کان نقیضا للوجود کان الوجود نقیضا للعدم لا محالة ، لأنّ التناقض کالتماثل والتضادّ یمتنع أن لا یتکرّر بأن یکون أحد الشیئین مِثلاً لآخر ، ولا یکون ذلک الآخر مِثلاً له ، وذلک ظاهر .

ص :122

وجودی، ونقیض الترک إنما هو رفعه، ورفع الترک إنما یلازم الفعل مصداقاً، ولیس عینه، فکما أن هذه الملازمة تکفی فی إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فکذلک تکفی فی المقام، غایة الأمر أن ما هو النقیض فی مطلق الترک، إنما ینحصر مصداقه فی الفعل فقط، وأما النقیض للترک الخاص فله فردان، وذلک لا یوجب فرقاً فیما نحن بصدده، کما لا یخفی.

الشَرح:

وأمّا الترک الخاصّ فنقیضه عدم ذلک الترک الخاصّ ، والعدم المزبور یلازم الفعل تارةً والترک المجرّد أُخری ، ونفس الفعل لا یکون نقیضا ولا فردا لنقیضه ، أمّا الأوّل فلامتناع تعدّد النقیض لشیءٍ واحد ، وإلاّ لزم جواز ارتفاع النقیضین ، ویمکن ارتفاع کلّ من الترک الخاصّ _ أی ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة _ وفعل الصلاة کما فیالترک المجرّد ، بأن یترک المکلّف الإزالة والصلاة معا . وأمّا الثانی _ یعنی عدم کون الفعل مصداقا لنقیض الترک الخاصّ _ فلان الجامع بین وجود شیءٍ وعدمه غیر معقول ، فیکون نقیض الترک الخاصّ ملازما للوجود ، أی وجود الضدّ تارةً ولعدمه المجرّد أُخری ، والمراد بالعدم المجرّد ترک الصلاة وترک الإزالة معا .

ومن الظاهر أنّ النهی عن نقیض العامّ لشیءٍ لا یسری إلی ملازمه ، فضلاً عن مقارنه . نعم لابدّ من أن لا یکون الملازم محکوما فعلاً بحکم علی خلافه ، لا أن یکون محکوما بحکمه .

والحاصل أنّ ما ذکر فی الفصول من الثمرة بین القول بوجوب نفس المقدّمة أو المقدّمة الموصلة صحیحٌ ، وأن_ّه لا موجب للحکم ببطلان العبادة فی الفرض علی المقدّمة الموصلة ، بخلاف القول بوجوب نفس المقدّمة ، فإنّه بناءً علیه لو لم یکن الفعل نقیض الترک بحسب المفهوم فلا ینبغی التأمّل فی أنّ النقیض متّحد مع الفعل مصداقا ، فیکون الفعل منهیا عنه وهو یوجب بطلان العبادة هذا حاصل کلام

ص :123

قلت: وأنت خبیر بما بینهما من الفرق، فإن الفعل فی الأول لا یکون إلا مقارناً لما هو النقیض، من رفع الترک المجامع معه تارة، ومع الترک المجرد أخری، ولا تکاد تسری حرمة الشیء إلی ما یلازمه، فضلاً عما یقارنه أحیاناً.

الشَرح:

الماتن قدس سره مع إیضاح بعض الأعلام .

أقول : دعوی کون الصلاة ملازمة أو مقارنة لنقیض ترکها الموصل إلی الازالة ولیست نقیضا للترک الموصل لو قیل بأنّ الترک الموصل متعلّق للوجوب الغیری ، بخلاف ما لو قیل بأنّ نفس ترک الصلاة متعلّق للوجوب الغیری ، فتکون فی هذه الصورة نفس الصلاة نقیضا لترکها المزبور کونه مقدّمة للإزالة ، لا تخلو من تأمّل بل منع، وذلک لأنّ موصلیة ترک الصلاة إلی الإزالة لیست خصوصیة قائمة بترک الصلاة ، نظیر موصلیة السبب إلی المسبّب ، بل الموصلیة لترک الصلاة تنتزع من فعل الإزالة .

وبتعبیرٍ آخر : تقارن ترک الصلاة وعدمها فی زمان حصول الإزالة حصول لموصلیة ترک الصلاة ، وعلیه فبما أنّ المقدّمة مرکبة من أمرین : ترک الصلاة والموصلیة ، غایة الأمر ترک الصلاة یتحقّق بنفسه ، وموصلیّته یتحقّق بمنشأ انتزاع الموصلیة _ أی الازالة _ فیتعدّد النقیض لا محالة ، لأنّ لترک الصلاة نقیض وهو فعلها ، ولموصلیة ترکها نقیض یحصل بترک الإزالة مع ترک الصلاة ، نظیر المرکّب الاعتباری، فإنّ نقیضه رفع ذلک المرکب ، ورفعه کما یکون بترک تمام أجزائه کذلک یکون _ فیما وجد بعض أجزائه _ بترک بعض أجزائه الأُخری ، وهذا لیس من تعدّد النقیض لشیءٍ واحد ، لیقال هذا ممتنع ولازمه ارتفاع النقیضین ، بل من تعدّد النقیض للمتعدّد ، وعلی ذلک فلو صلّی المکلّف فی أوّل الوقت ، فقد ترک المقدّمة الموصلة للإزالة بالإتیان بکلا النقیضین لترکها الموصل ، وإذا ترک الصلاة وترک الإزالة فقد ترک المقدّمة الموصلة بترک جزئها الأخیر ، وغایة الأمر یکون رفع ترک الصلاة بنفسه ورفع

ص :124

نعم لابد أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر علی خلاف حکمه، لا أن یکون محکوماً بحکمه، وهذا بخلاف الفعل فی الثانی، فإنه بنفسه یعاند الترک المطلق وینافیه، لا ملازم لمعانده ومنافیه، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الإصطلاح مفهوماً، لکنه متحد معه عیناً وخارجاً، فإذا کان الترک واجباً، فلا محالة یکون الفعل منهیاً عنه قطعاً، فتدبر جیّداً.

الشَرح:

موصلیّته برفع منشأ انتزاعها ، وعلی ذلک فما ذکره الشیخ قدس سره من نفی الثمرة فی المقام هو الصحیح ، والأصحّ منه ما یأتی من أنّ ترک الضدّ لا یکون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، حتّی یتحقّق مورد للثمرة التی ذکرها فیالفصول .

وعن السید الیزدی قدس سره بطلان الثمرة المزبورة ، حتّی لو قیل بأنّ الوجوب الغیری یتعلّق بنفس المقدّمة أو أن الأمر بشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ بوجهٍ آخر ، وذلک لأنّ النهی عن عبادة _ لکونها ضدّا خاصّا لواجبٍ آخر _ لا یقتضی فسادها ، لأنّ النهی المزبور علی تقدیره تبعی لا ینافی وجود الملاک الملزم النفسی فیها ، ولا یکشف عن مفسدة غالبة أو خالصة موجبة لمبغوضیتها وعدم صلاحیة التقرّب بها ، ولو فرض أنّ النهی الغیری عن عبادة أیضاً موجب لفسادها ، فلیس ما ذکر من الثمرة ، ثمرة التفصیل بین تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة مطلقاً أو بخصوص الموصلة ، بل ذلک ثمرة القول بوجوب المقدّمة وعدم القول بوجوبها ، فالقول بصحة الصلاة _ بناءً علی وجوب المقدّمة الموصلة _ لیس لأجل أنّ الواجب الغیری هو خصوص المقدّمة الموصلة ، بل لأنّ ذات المقدّمة لم تکن متعلّقاً للوجوب الغیری ، سواء قیل بوجوب المقدّمة الموصلة أم لا .

وفیه : أنّه مع النهی الغیری عن الضدّ الخاصّ ، کالصلاة فی أوّل الوقت فی الفرض ، یحکم ببطلانها لا لمبغوضیّتها الموجبة لعدم صلاحیة التقرّب بها ، بل لعدم

ص :125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الکاشف عن ملاک ملزم فیها مع النهی الغیری عنها ، حیث أنّ النهی المزبور یکون موجبا لعدم الإطلاق فی متعلّق الأمر بالصلاة بین الحدّین الملازم للترخیص فی تطبیقها لأیّ فرد من أفرادها ، بخلاف القول بعدم النهی الغیری ، فإنّه لا موجب لرفع الید عن إطلاق المتعلّق ، والترخیص فی تطبیقها علی الفرد فی أوّل وقتها ، ولو کان هذا الترخیص بنحو الترتّب ، علی ما سیأتی تفصیل ذلک فی بحث النهی عن الضدّ إن شاء اللّه تعالی .

وأمّا ما ذکره قدس سره من أنّ ما ذکر ثمرة القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها سواء قیل بوجوب المقدّمة الموصلة أم لا ، فقد تقدّم الکلام فی الثمرة ، فلا نعید .

ثمّ إنّه قد یقال بظهور الثمرة بین القول بتعلّق الوجوب الغیری بذات المقدّمة ، وتعلّقه بالمقدّمة الموصلة ، فیما إذا کان الحرام النفسی مقدّمة للواجب الأهم ، فبناءً علی تعلّق الوجوب الغیری بذات المقدّمة تتبدل الحرمة النفسیة المتعلّقة بالمقدّمة إلی الوجوب الغیری ، ولا یستحقّ المکلّف العقاب علی ارتکاب المقدّمة فیما لم یأتِ بالواجب الأهم ، بخلاف ما إذا قیل بوجوب المقدّمة الموصلة ، فإنّه تبقی الحرمة النفسیة بالإضافة إلی غیر المقدّمة الموصلة . ولکن لا یخفی ما فیه فانّ هذا لو عدّ ثمرة لکان ثمرة القول بتعلق الوجوب الغیری بذات المقدمة وعدمه لا ثمرة القول بالتفصیل بین المقدمة الموصلة وغیرها.

وبالجملة ما ذکر لا یترتب علی القول بوجوب المقدمة الموصلة بل یترتب علی القول بعدم تعلق الوجوب الغیری بالمقدمة أصلاً.

أضف إلی ذلک أنّ الثمرة لا تترتّب أیضاً علی القول بتعلّق الوجوب الغیری

ص :126

ومنها: تقسیمه إلی الأصلی والتبعی [1]، والظاهر أن یکون هذا التقسیم بلحاظ الأصالة والتبعیة فی الواقع ومقام الثبوت، حیث یکون الشیء تارة متعلقاً للإرادة والطلب مستقلاً، للإلتفات إلیه بما هو علیه مما یوجب طلبه فیطلبه، کان الشَرح:

بذات المقدّمة ، أو عدم تعلّقه بها ، بل یتعیّن القول ببقاء المقدّمة غیر الموصلة علی حرمتها ، قیل بوجوب المقدّمة أم لا ، لأنّ تعلّق الوجوب الغیری بذات المقدّمة إنّما هو لأجل عدم الفرق بین الموصلة وغیرها فی ملاک الوجوب الغیری ، ولأجل عدم وجود ملاکٍ ملزم آخر فی غیر الموصلة یمنع عن تعلّق الوجوب الغیری بها وإطلاق متعلّقه بالإضافة إلیها ، ولکن إذا فرض وجود ملاکٍ مبغوض فی غیر الموصلة ، یتقیّد متعلّق الوجوب الغیری بالموصلة لا محالة ، نظیر تعلّق الوجوب الغیری بغسل الثوب وتطهیر البدن ، لکون طهارتهما شرط فی الصلاة المأمور بها ، ولکن متعلّق الوجوب الغیری یتقیّد بالغسل بغیر الماء المغصوب ، حیث إنّ النهی النفسی _ عن غسلهما بالماء المغصوب أو فی الإناء المغصوب لکونه غصبا وعدوانا علی مالک الماء والإناء _ لا یجتمع مع الترخیص فی غسلهما بأیّ ماءٍ أو فی أیّ إناءٍ ، فعدم الإطلاق فی الواجب الغیری لیس من باب اختصاص ملاک الوجوب الغیری بغیر المحرّم ، بل لوجود المزاحم من إطلاق الواجب الغیری ، بحیث یشمل الترخیص فی التطبیق للفرد المحرم. نعم هذا التقیید مبنیّ علی کون الأمر الغیری بغسلهما مولویا، وإلاّ فلا مجال للتقیید فی الأمر الإرشادی؛ لعدم منافاته مع الحرمة النفسیة.

[1] کان المناسب أن یذکر هذا التقسیم فی الأمر الثالث _ الذی تعرّض فیه لأقسام الواجب _ ، لا فی الأمر الرابع _ الذی تعرّض فیه لوجوب المقدّمة من حیث سعته وضیقه فی نفسه أو فی متعلّقه _ ، إلاّ أن یقال : إنّ غرضه من ذکره فی المقام بیان أنّ ثبوت الوجوب الغیری المولوی وتعلّقه بالمقدّمة لا یتوقّف علی التفات الآمر

ص :127

طلبه نفسیاً أو غیریاً، وأخری متعلقاً للإرادة تبعاً لإرادة غیره، لأجل کون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفات إلیه بما یوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة والتبعیة فی مقام الدلالة والإثبات، فإنه یکون فی هذا المقام، تارةً مقصوداً بالإفادة، وأخری الشَرح:

بذی المقدمة إلی المقدّمة لیتعلّق بها طلبه ، کما لا یتوقّف ثبوت الوجوب الغیری بها علی خطابٍ یکون المقصود من ذلک الخطاب بیان وجوب المقدّمة .

وکیف کان فقد ذکر قدس سره فی المقام أنّ اتّصاف الواجب بالأصلی والتبعی یکون فی مقامین:

أحدهما: مقام الثبوت وتعلّق طلب المولی وإرادته بالفعل .

فقال فی هذا المقام : إنّ المولی تارةً یلتفت إلی فعلٍ ویلاحظ أنّ فیه ملاک الإلزام ، سواء کان ذلک الملاک الملزم نفسیا أو غیریّا فیطلبه نفسیا أو غیریا ، ومع هذا الالتفات التفصیلی إلی الفعل وتعلّق طلبه به یکون وجوب ذلک الفعل أصلیّا ، وأُخری لا یلتفت إلی الفعل تفصیلاً ، بل یکون التفاته إلیه إجمالیا ، حیث أن_ّه أراد بإرادةٍ إجمالیة فعلاً آخر ، یتوقّف ذلک الفعل المراد إجمالاً علی الفعل المراد بالتفصیل ، فیلزم من اراته إردة الفعل الآخر ، بحیث لو التفت إلی الفعل المفروض کالتفاته إلی الفعل المراد تفصیلاً لتعلّق به إرادته وطلبه ، فیقال لهذا الفعل المراد إجمالاً : إنّه واجب تبعی ، هذا فی الأصالة والتبعیة بحسب مقام الثبوت والجعل .

ثانیهما: مقام الدلالة والإثبات ، فقد یکون وجوب فعلٍ مقصودا بالإفادة من الخطاب ، وأُخری یکون المقصود بالإفادة أمراً آخر فدلالة الخطاب علی وجوب الفعل یستتبع إفادة ذلک الأمر الآخر ، سواء کان استفادة وجوبه من نفس الخطاب المزبور أو بانضمام خطاب آخر إلیه ، نظیر ما یفهم أنّ (أقلّ الحمل ستة أشهر) من

ص :128

غیر مقصود بها علی حدة، إلا أنه لازم الخطاب، کما فی دلالة الإشارة ونحوها.

وعلی ذلک، فلا شبهة فی انقسام الواجب الغیری إلیهما، واتصافه بالأصالة والتبعیة کلیهما، حیث یکون متعلقاً للإرادة علی حدة عند الإلتفات إلیه بما الشَرح:

ضمّ خطاب «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلثُوْنَ شَهْرَا»(1) إلی خطاب «الْوالِداتُ یُرْضَعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ»(2) .

ثمّ ذکر قدس سره أنّ الوجوب الغیری یتّصف بکونه أصلیا وتبعیا بحسب مقام الثبوت والإثبات ، فالوجوب الغیری الأصلی بحسب مقام الإثبات کقوله سبحانه «إذا قُمْتُمْ إِلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوْهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ»(3) ، بناءً علی کون مدلولها أمراً مولویا ، والوجوب الغیری التبعی بحسب مقام الإثبات أیضاً کوجوب تحصیل الماء للوضوء المستفاد من الخطاب المزبور والوجوب الغیری الأصلی بحسب مقام الثبوت ، وکذا التبعی منه بحسب ذلک المقام ظاهر .

وأمّا الوجوب النفسی ، فیمکن أن یکون بحسب مقام الإثبات أصلیّا ، ویمکن أن یکون تبعیا ، کاستفادة وجوب الصلاة قصرا من قوله سبحانه «إِذا ضَرَبْتُمْ فِی الأرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناح أنْ تَقْصِرُوا مِنَ الصَّلاةِ»(4) ، حیث إنّ دلالته علی وجوب الصلاة قصرا فی السفر مقصودة بالأصالة ، ویفهم منه أیضاً وجوب الصلاة فی غیر السفر بالتبع ، ولکن لا بنحو القصر ، ولو فی الجملة . فوجوب الصلاة فی غیر السفر المستفاد من خطاب وجوب القصر فی السفر یکون تبعیّا .

ص :129


1- (1) سورة الأحقاف : الآیة 15 .
2- (2) سورة البقرة : الآیة 233 .
3- (3) سورة المائدة : الآیة 6 .
4- (4) سورة النساء : الآیة 101 .

هو مقدمة، وأخری لا یکون متعلقاً لها کذلک عند عدم الإلتفات إلیه کذلک، فإنه یکون لا محالة مراداً تبعاً لإرادة ذی المقدمة علی الملازمة.

کما لا شبهة فی اتصاف النفسی أیضاً بالأصالة، ولکنه لا یتصف بالتبعیة، ضرورة أنه لا یکاد یتعلق به الطلب النفسی ما لم تکن فیه مصلحة نفسیّة، ومعها الشَرح:

وأمّا الوجوب النفسی بحسب مقام الثبوت لا یکون إلاّ أصلیا ، وذلک لأنّ النفسی لا یکون إلاّ فی فعل یکون فیه المصلحة النفسیة والملاک الملزم النفسی ، وإذا کان الفعل کذلک ، فالمولی الملتفت إلی ما فیه الملاک النفسی یتعلّق به طلبه وإرادته ، حتّی فیما لو فرض أنّه لم یکن فی البین فعل آخر مطلوب کذلک .

وقال قدس سره : الظاهر أنّ تقسیم الواجب إلی الأصلی والتبعی فی کلمات الأصحاب بلحاظ مقام الثبوت ، والمراد أنّ الواجب فی مقام الثبوت إمّا أصلی أو تبعی ، ولو کان المراد تقسیم الواجب إلیهما بحسب مقام الإثبات _ یعنی دلالة الخطاب _ لم ینحصرالواجب فی قسمین ، فإنّه قد یکون الواجب الواقعی غیر وارد فیه خطاب ، کالواجب المستفاد من حکم العقل أو الإجماع ، فلا یکون ذلک الواجب لا أصلیّا ولا تبعیّا.

أقول : الظاهر أنّ الماتن قدس سره قد خلط الطلب الإجمالی بالإرادة التبعیة والطلب التبعی، کما خلط الطلب التفصیلی بالإرادة الاستقلالیة والطلب الاستقلالی ، وبیان ذلک:

أنّ الواجب الغیری المتعلّق بمقدّمة الواجب وإن کان ملحوظا تارةً بالإجمال والارتکاز ، وأُخری بالتفصیل ، إلاّ أنّه فیما لوحظ إجمالاً یکون طلبه إجمالیا وارتکازیا ، وفیما کان ملحوظا بالتفصیل یکون طلبه تفصیلیا ، لکنّ الإرادة والطلب المتعلّق به تبعی علی کلا التقدیرین یتبع الإرادة والطلب النفسی المتعلّق بالواجب

ص :130

یتعلق الطلب بها مستقلاً، ولو لم یکن هناک شیء آخر مطلوب أصلاً، کما لا یخفی.

نعم لو کان الإتصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتصف النفسی بهما أیضاً، ضرورة أنه قد یکون غیر مقصود بالإفادة، بل أُفید بتبع غیره المقصود بها، لکن الظاهر _ کما مر _ أن الإتصاف بهما إنما هو فی نفسه لا بلحاظ حال الدلالة علیه، وإلا لما اتصف بواحد منهما، إذا لم یکن بعد مفاد دلیل، وهو کما تری.

الشَرح:

النفسی ، فإنّه لولا تعلّق الإرادة والطلب به لما تعلّق الطلب والإرادة بمقدّمته أصلاً ، لا إجمالاً ولا تفصیلاً .

وأمّا الواجب النفسی ، فلا یکون الطلب والإرادة فیه تبعیا ، فإنّه لو فرض عدم تعلّق طلب وإرادة بفعلٍ آخر أصلاً ، یکون الفعل المزبور متعلّقا للإرادة والطلب الاستقلالی ، ولکنّ هذا الواجب والمراد الاستقلالی قد یکون طلبه ارتکازیا وملحوظا إجمالاً ، کما إذا لم یلتفت المولی إلی أنّ الذی سیأتی إلیه من کرام الناس ولذا لم یطلب من عبده إکرامه ، ولکنّ العبد یعلم بأنّ الآتی من هو ، ومع ذلک ترک إکرامه ، فإنّ المولی یؤاخذه بعد ذلک علی ترک إکرامه ، ویحتجّ علیه بأنّک کنت عالما بأنّ سجیّتی الأمر بإکرام الکرام .

وبالجملة إن کان الملاک فی کون واجب فی الواقع أصلیّا ، تعلّق الإرادة المستقلة به فالواجب الغیری لایکون واجبا أصلیا ، سواء لوحظ تفصیلاً وتعلق به الطلب کذلک ، أم لوحظ بالإجمال والارتکاز ، وإن کان الملاک فی کون الواجب أصلیا لحاظه تفصیلاً وتعلّق الطلب به تفصیلاً فالواجب النفسی أیضاً قد یکون تبعیا .

نعم فی الواجبات الشرعیة النفسیة لا تتحقّق التبعیة إلاّ بحسب مقام الإثبات والدلالة ، کما تقدّم .

ص :131

ثم إنه إذا کان الواجب التبعی ما لم یتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شک فی واجب أنه أصلیّ أو تبعیّ [1]، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به یثبت أنه تبعی، ویترتب علیه آثاره إذا فرض له آثار شرعیة، کسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمیة.

نعم لو کان التبعی أمراً وجودیاً خاصاً غیر متقوّم بعدمی، وإن کان یلزمه، لما کان یثبت بها إلاّ علی القول بالأصل المثبت، کما هو واضح، فافهم.

الشَرح:

[1] تعرّض قدس سره لما إذا علم تعلّق الوجوب بفعلٍ وشکّ فی أن_ّه واجب تبعی لم یتعلّق به إرادة وطلب مستقلّ ، أو أن_ّه أصلی تعلّق به إرادة وطلب مستقل ، فلو فرض _ لکونه واجبا تبعیا _ أثرٌ شرعی ، فاستصحاب عدم تعلّق طلب مستقلّ به یثبت کونه تبعیا ویترتب علیه الأثر التبعی کسائر الموضوعات التی تتقوّم بأمرٍ عدمی ، کما إذا علم بوقوع النجاسة فی ماءٍ وشکّ فی کونه قلیلاً أو کثیرا ، فإنّ استصحاب عدم کون الماء المزبور کثیرا یثبت قلّته ، فإنّ الماء القلیل هو الماء الذی لا یکون بحدّ الکرّ ، والاستصحاب المزبور یحرز قلّته ، فیحکم بنجاسته .

نعم لو کان الوجوب التبعی متقوّما بأمرٍ وجودیّ یلزم من ذلک الأمر الوجودی عدم کون طلبه استقلالیا ، کما إذا قلنا : إنّ الوجوب الغیری طلب خاصّ وهو الطلب الذی یلزم عن طلب فعلٍ آخر ، فلا یثبت کونه تبعیا بالاستصحاب المزبور إلاّ علی القول بالأصل المثبت ؛ لأنّ إثبات لازم الشیء بالأصل لا یثبت ملزومه ، فإنّ ثبوت الملزوم بإثبات اللازم عقلی .

أقول : أوّلاً: إنّ ما ذکره قدس سره من بناء جریان الأصل فی ناحیة عدم تعلّق إرادة مستقلة بالفعل المعلوم تعلّق الوجوب به علی فرض ثبوت أثرٍ شرعی للوجوب التبعی ، غیر صحیح ، فإنّه یصحّ الاستصحاب حتّی فیما لو کان للوجوب التبعی أثر عقلی خاصّ ، فإنّ الموضوع فی المقام بنفسه قابل للتعبّد وإنّما یعتبر الأثر الشرعی

ص :132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

فیما کان الموضوع بنفسه غیر قابل للجعل والتعبّد ، ولذا بنوا علی جریان الاستصحاب فی الأحکام کالوجوب والحرمة ، مع أنّ الأثر المترتّب علیها عقلی .

وثانیا: إنّه بناءً علی ما ذکره قدس سره فی تعریف الواجب التبعی من أن_ّه ما تعلّق به إرادة تبعیّة لکون إرادته لازمة لإرادة غیره ، فاستصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به لا یثبت أنّ وجوبه تبعی ، یعنی إرادته وطلبه لازمة لإرادة فعلٍ آخر .

نعم لو کان للوجوب الأصلی أثرٌ خاصّ ، فبالاستصحاب فی ناحیة عدم تعلّق إرادة مستقلة بالفعل المزبور ینفی عنه ذلک الأثر الخاصّ ، کما تقدّم الکلام فی ذلک فی بحث دوران أمر الواجب بین کونه نفسیا أو غیریا .

والمتحصّل أنّه فیما کان عنوان خاصّ محکوما بحکم ، والعنوان الخاصّ الآخر منفیا عنه ذلک الحکم ، وتردّد الموضوع خارجا فی أن_ّه داخل فی العنوان الأوّل أو فی العنوان الثانی ، فالاستصحاب فی ناحیة عدم کونه من العنوان الثانی إنّما یفید ثبوت حکم العنوان الأوّل لهذا الموضوع المشکوک ، فیما کان خصوصیة العنوان الأوّل عدم إنطباق العنوان الثانی ، کما مثّلنا بالماء القلیل المحکوم بنجاسته بوقوع النجس فیه ، وبالماء الکثیر المحکوم بعدم الانفعال بوقوعه فیه ، فإنّ خصوصیة الماء القلیل عدم بلوغه حدّ الکرّ ، والاستصحاب فی عدم بلوغ الماء المشکوک کرّاً یثبت قلّته . ویعبّر عن مثل ذلک بأنّ هذا العنوان _ یعنی الماء القلیل _ متقوم بالسلب المحمولی بخلاف السلب النعتی الذی هو مفاد القضیة المعدولة فاستصحاب عدم کونه من العنوان الثانی لا یجدی فی ثبوت حکمه له وذلک ، کما فی الدم الأقلّ من الدرهم ، حیث ثبت العفو عنه فی الثوب والبدن فی الصلاة ، فإنّه إذا شکّ فی دمٍ أنّه أقلّ من الدرهم أو أکثر ، فباستصحاب عدم کونه بمقدار الدرهم أو أکثر لایثبت أن_ّه

ص :133

تذنیب: فی بیان الثمرة، وهی فی المسألة الأصولیة _ کما عرفت سابقاً [1] _ الشَرح:

أقلّ من الدرهم ، حیث إنّ اتّصاف الدم بالأقلّ من الدرهم مفاد القضیة المعدولة الموجبه لا السالبة المحصلة .

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره قدس سره من جعل الواجب التبعی کسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمورٍ عدمیة لا یصحّ علی إطلاقه ، بل یصحّ فی الأُمور المتقوّمة بأُمورٍ عدمیة بمفاد السلب التحصیلی المعبّر عنه بسالبة المحمول ، لا التی مفادها السلب النعتی المعبّر عنه بمفاد القضیة المعدولة ، ولذا لا یثبت باستصحاب عدم کذب المخبر وعدم خطائه فیما أخبر به کونه ثقة ، حیث إنّ الثقة هو المتحرّز عن الکذب والمتّصف بأنّه لا یکثر خطائه وأن_ّه لا یکذب .

[1] ذکر قدس سره أنّ مسألة ثبوت الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته ینطبق علیها ما تقدّم ذکره من المعیار فی کون المسألة أُصولیة ، وهو «أن تقع نتیجتها فی طریق الاستنباط وإحراز الحکم العملی الکلّی» ، وإذا بنی علی ثبوت الملازمة یحرز بالقیاس الاستثنائی الحکم الفرعی الکلّی ، بأن یقال :

لو کان شیء واجبا لوجبت مقدّمته أیضاً .

ولکن الصلاة عند زوال الشمس تجب .

فتجب مقدّمتها عندها أیضا من الوضوء وتطهیر الثوب والبدن إلی غیر ذلک من مقدّماتها ، فیصحّ التوضّأ أو الاغتسال أو التیمّم بقصد الوجوب بعد الزوال ، إنتهی .

ولکن قد یورد علیه بأنّ الاستنباط المزبور لا یصحّح کون المسألة أُصولیة ، حیث إنّ الوجوب الغیری الثابت للمقدّمة لا یعدّ حکما فرعیا عملیا ، لأنّ المقدّمة لا یجوز ترکها عقلاً عند فعلیة وجوب ذیها ، سواء قیل بالوجوب الغیری الشرعی

ص :134

لیست إلا أن تکون نتیجتها صالحة للوقوع فی طریق الإجتهاد، واستنباط حکم فرعیّ، کما لو قیل بالملازمة فی المسألة، فإنّه بضمیمة مقدمة کون شیء مقدمة لواجب یستنتج انه واجب.

ومنه قد انقدح، أنه لیس منها مثل برء النذر بإتیان مقدمة واجب، عند نذر الواجب، وحصول الفسق بترک واجب واحد بمقدماته إذا کانت له مقدمات کثیرة، لصدق الإصرار علی الحرام بذلک، وعدم جواز أخذ الأجرة علی المقدمة.

الشَرح:

المولوی أم لا ، ولا یترتّب العقاب علی ترک المقدّمة بنفسها ، قیل بوجوبها الغیری أم لا ، غایة الأمر یثبت بمسألة الملازمة أو نفیها ، الموضوع لقاعدة فقهیّة ، وهی حرمة التشریع وعدم جوازه ، وإذا قلنا بوجوب المقدّمة لم یکن الإتیان بالوضوء أو الغسل أو التیمّم بقصد الوجوب بعد زوال الشمس من التشریع کما یکون هذا الإتیان من التشریع فیما کان قبل الزوال فیکون جواز قصد الوجوب نظیر ما یقال من ظهور ثمرة البحث فی برء النذر بالاتیان بالواجب الغیری فیما إذا نذر الإتیان بالواجب فإنّه بناءً علی وجوب نفس المقدّمة غیریّا یحصل البرء وإن لم یُؤت بذیها .

وأمّا ما قیل من ظهور الثمرة فیما إذا ترک الواجب بمقدّماتها، فإنّه یحصل بالترک المزبور الفسق، لصدق الاصرار علی الحرام، حیث إنّ ترک کلّ من مقدّماته حرام.

وکذا ما قیل أیضا من ظهور الثمرة فی عدم جواز أخذ الأُجرة علی مقدّمات الواجب ، فإنّه یکون من أخذ الأُجرة علی الواجبات .

وأمثال هذه الأمور لا تکون ثمرة للمسألة الأُصولیة ، ولا تکون المسألة بها أُصولیة ، حیث ذکرنا فی المباحث المذکورة فی مقدّمة الکتاب أنّ البحث عن معانی ألفاظ العبادات والمعاملات کمبحث الصحیح والأعم ومبحث المشتقّ من المباحث

ص :135

مع أن البرء وعدمه إنما یتبعان قصد الناذر[1]، فلا برء بإتیان المقدمة لو قصد الوجوب النفسی، کما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قیل بالملازمة، وربما یحصل البرء به لو قصد ما یعم المقدمة ولو قیل بعدمها، کما لا یخفی.

الشَرح:

التی تکون واسطة فی تشخیص الموضوع أو المتعلّق للحکم الفرعی ، ولذلک لم یجعل المباحث المزبورة من مسائل علم الأُصول ، فإنّه یحرز بمسألة الصحیح والأعمّ متعلّق التکلیف فی خطابات وجوب الصلاة ونحوها ، أو حال الموضوع فی مثل قوله سبحانه «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) کما یحرز الموضوع فی الخطابات الشرعیة الواردة فیها العناوین علی هیئة المشتقّ ، بالبحث فی معنی المشتقّ .

[1] هذا شروع لبیان عدم تمامیة الأُمور المذکورة لجعلها ثمرة البحث فی نفسها ، وذلک لأنّ القول بالملازمة لا یلازم الالتزام بها .

أمّا البرء وعدمه فیتبعان قصد الناذر ، فإن کان قصد النادر ما یعمّ المقدّمة یکون الإتیان بها موجبا للبرء، ولو قیل بعدم وجوب المقدّمة وإن أراد ماهو منصرف الواجب عند إطلاقه فلا برء إلاّ بالإتیان بالواجب النفسی ، لانصراف إطلاقه إلیه ، ولا یحصل البرء بالإتیان بالمقدّمة ، وإن قیل بوجوبها الغیری . وأمّا الإصرار علی الحرام فلا یحصل بترک الواجب الناشئ من ترک مقدّماته حتّی علی القول بوجوب تلک المقدّمات، لأنّ الترک المحرّم یحصل بترک مقدّمة لا یتمکّن مع ترکها علی الواجب النفسی، فلا یکون ترک سائر المقدّمات بحرام أصلاً ، لسقوط التکلیف بالترک المزبور.

وربما یقال : إنّ فی هذا الوجه ما لا یخفی ، فإنّه إذا کان مقدّمات الواجب کلّها

ص :136


1- (1) سورة البقرة : الآیة 275 .

ولا یکاد یحصل الإصرار علی الحرام بترک واجب، ولو کانت له مقدمات غیر عدیدة، لحصول العصیان بترک أول مقدمة لا یتمکن معه من الواجب، ولا یکون ترک سائر المقدمات بحرام أصلاً، لسقوط التکلیف حینئذ، کما هو واضح لا یخفی.

الشَرح:

فی عرضٍ واحد ، بحیث یمکن للمکلف الإتیان بأیّ منها ابتداءً ، لکان تعیین الترک المحرّم فی ترک واحد منها بلا وجه ، بل الأمر فی المقدّمات الطولیة أیضاً کذلک ، فإنّ سقوط الوجوب عن المقدّمة الأُولی وإن کان یقارن سقوط الوجوب عن سائر المقدّمات أیضاً ، لخروج الواجب عن الاختیار ، إلاّ أنّ ما لم یسقط وجوب ذی المقدّمة کان کل من المقدّمات واجبا بوجوبٍ غیری ، وأنّ عصیان جمیعیها کعصیان الأمر بذی المقدّمة یحصل فی زمانٍ واحد .

أقول : لم یذکر الماتن قدس سره تعیین العصیان فی ترک واحد ، بل ظاهر کلامه سقوط جمیع الوجوبات الغیریة والوجوب النفسی بترک أوّل مقدّمة عند کون المقدّمات طولیة ، فالعصیان المتعدّد حصل دفعة ، وظاهر ما ورد فی الإصرار علی الحرام(1) تکرار العصیان بمرّاتٍ ، أی دفعات ، فلا یکون ترک المقدّمات المتأخّرة ارتکاباً آخر .

والأصحّ فی الجواب هو : أنّ ما دلّ علی أن_ّه لا صغیرة مع الإصرار منصرف عن تعدّد العصیان الحاصل من ترک مقدّماتٍ عدیدة لواجب واحد ، حتّی لو قیل بوجوبها الغیری ، بل ظاهره تکرار العصیانات التی یکون کلّ واحدٍ منها موجبا لاستحقاق العقاب ، کما هو الحال فی انصراف العصیان والطغیان إلی ما یوجب استحقاق العقاب بنفسه ، کما فی التکالیف النفسیة .

ص :137


1- (1) الأُصول من الکافی : 2 / 288 .

وأخذ الأجرة علی الواجب لا بأس به [1]، إذا لم یکن إیجابه علی المکلف الشَرح:

[1] إذا کان الفعل من الآخرین موردا للغرض ، وکان الواجب علی المکلّف نفس الفعل لا الفعل مجّانا ، فلا مانع من تملیک ذلک الفعل للغیر بإزاء الأُجرة ، ویعمّه وجوب الوفاء بالعقد والإجارة . نعم لو کان الواجب هو الفعل مجّانا _ کما یستظهر ذلک من خطابات وجوب تجهیز المیت وکالقضاء فی المخاصمات بین الناس کما علیه المشهور _ یکون أخذ الأُجرة علیه من أکل المال بالباطل ؛ لأنّ إیجاب شیءٍ مجّانا علی المکلّف معناه إلغاء المالیة عن ذلک الفعل ، نظیر إلغائها عن الأعمال المحرّمة وبعض الأعیان ، کالخمر والخنزیر ، فیکون أخذ الأُجرة علیه من أکل المال بالباطل . ومقتضی النهی عن الأکل المزبور هو الإرشاد إلی فساده علی ما أوضحناه فی المکاسب المحرّمة ، وذکرنا أنّ النهی عن أکل المال الظاهر فی تملّکه والاستیلاء علیه إرشاد إلی فساد التملک والاستیلاء(1) . ولایختصّ ذلک بالواجبات ، بل یجری فی العمل المستحبّ أیضاً ، کتعلیم القرآن ، فإنّ أخذ الأُجرة علیه فاسد ، علی ما استظهر من بعض الروایات ، هذا کلّه فی التوصّلیات .

وأمّا التعبدیات ، فقد یقال بأنّ أخذ الأُجرة علیها ینافی قصد التقرّب المعتبر فیها ، وأجاب قدس سره بعدم المنافاة وأنّ الداعی إلی العمل یکون أمر الشارع بها ، غایة الأمر یکون داعویة الأمر والطلب المتعلّق بها متفرّعا علی أخذ الأُجرة علیها من باب الداعی علی الداعی .

وبتعبیرٍ آخر : قصد الأُجرة یکون کقصد التخلّص من الفقر والمرض المترتّب علی بعض العبادات فی کون الداعی إلیها مطلوبیتها للشارع وتعلّق أمره بها ،

ص :138


1- (1) إرشاد الطالب : 1 / 6 .

مجاناً وبلا عوض، بل کان وجوده المطلق مطلوباً کالصناعات الواجبة کفائیة التی لا یکاد ینتظم بدونها البلاد، ویختل لولاها معاش العباد، بل ربما یجب أخذ الأجرة علیها لذلک، أی لزوم الإختلال وعدم الإنتظام لولا أخذها، هذا فی الواجبات التوصلیة.

وأما الواجبات التعبدیة، فیمکن أن یقال بجواز أخذ الأجرة علی إتیانها بداعی امتثالها، لا علی نفس الإتیان، کی ینافی عبادیتها، فیکون من قبیل الداعی إلی الداعی، غایة الأمر یعتبر فیها __ کغیرها __ أن یکون فیها منفعة عائدة إلی المستأجر، کی لا تکون المعاملة سفهیة، وأخذ الأجرة علیها أکلاً بالباطل.

الشَرح:

والموجب لداعویة أمر الشارع بها قصد التخلّص من الفقر والمرض ، وفی مفروض الکلام یکون الداعی إلی فعل الواجب أمر الشارع به ، بحیث لو لم یکن أمره لما کان یأتی به ولا یأخذ الأُجرة علیه ، وأخذ الأُجرة أوجب داعویة فی أمر الشارع به .

لا یقال : فرقٌ بین المقامین ، فإنّ سائر المقاصد الدنیویة المترتّبة علی بعض العبادات أحیانا لا تنافی قصد التقرّب المعتبر فی العبادات، لأنّ نفس طلب تلک المقاصد من اللّه (سبحانه) مطلوب للّه (عزّ وجلّ)، بخلاف طلب الأُجرة عن الغیر، فإنّه لا یلائم التقرّب المعتبر فی العمل بل ینافیه.

فإنّه یقال : لیس المراد من أخذ الأُجرة مجرّد الأخذ الخارجی ، بل تملّکها شرعا ، ولذا یأتی بالعمل بعد غیاب المستأجر وأخذه الأُجرة منه ، خوفا من حساب ربّه والمؤاخذة علی حقوق الناس یوم القیامة ، وهذا یناسب قصد التقرّب لا أنّه ینافیه .

ثمّ ذکر قدس سره أنّ جواز تملک الأُجرة بإزاء العمل فی العبادات لابدّ أن تکون کغیرها مما یرجع نفعه إلی المستأجر، بحیث یکون لذلک العمل مالیة، حتّی لا تکون

ص :139

وربما یجعل من الثمرة، اجتماع الوجوب والحرمة _ إذا قیل بالملازمة _ فیما کانت المقدمة محرمة [1]، فیبتنی علی جواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه، بخلاف ما لو قیل بعدمها، وفیه:

الشَرح:

سفهیة، وإلاّ یکون أخذها علیه من أکل المال بالباطل، وتمام الکلام موکول إلی محلّه.

[1] ربّما یقال بظهور الثمرة فیما إذا کانت المقدّمة أو فرد منها محرّما، فإنّه بناءً علی وجوب المقدّمة تکون تلک المقدّمة أو الفرد منها داخلاً فی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی ، فیجوز الإتیان بالمجمع ، بناءً علی جواز اجتماع الأمر والنهی ، بخلاف ما لم یلتزم بالملازمة بین الإیجابین ، فإنّ المجمع المزبور یکون محکوما بالحرمة فقط ، فیکون النهی عنه من قبیل النهی عن العبادة أو المعاملة . وأورد الماتن قدس سره علی هذه الثمرة بوجوه :

الوجه الأوّل: أنّه لا یکون المجمع داخلاً فی مسألة الاجتماع حتّی علی القول بالملازمة بین الإیجابین ، بل النهی عن تلک المقدّمة من قبیل النهی عن العبادة أو المعاملة ، حتّی بناءً علی القول بالجواز فی مسألة الاجتماع ، وذلک لما تکرّر من أنّ عنوان المقدّمة لا یکون تقییدیا لیتعلّق الوجوب الغیری بناءً علی الملازمة بذلک العنوان .

أقول : لو کان ملاک البحث فی مسألة جواز الاجتماع فرض عنوانین تقییدین أحدهما متعلّق للأمر وثانیهما متعلّق للنهی ، وکانا منطبقین علی واحدٍ خارجا ، کان الفرد المحرم من المقدّمة _ بناءً علی الملازمة _ داخلاً فی تلک المسألة ، وذلک لأنّ الوجوب الغیری کما لا یتعلّق بعنوان المقدّمة لکونه عنوانا تعلیلیا ، کذلک لا یتعلّق بخصوص الفرد المأتی به ، بل یتعلّق بعنوان الوضوء (یعنی بالطبیعی منه) فیکون

ص :140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

غسل الأعضاء بما أنه وضوء یتعلّق به الوجوب الغیری ، وبما أن_ّه غصب وعدوان علی الغیر فی الماء المملوک له یکون حراماً ، فعنوان الوضوء وعنوان الغصب عنوانان تقییدیان منطبقان علی فعلٍ واحدٍ خارجا .

وبتعبیرٍ آخر : کما أنّ السجود فی الأرض المغصوبة من الصلاة مصداق لها ، وبما أن_ّه تصرّف فی ملک الغیر مصداق للغصب ، کذلک الوضوء بالماء المغصوب أو تطهیر الثوب والبدن بالماء المغصوب مصداق للوضوء والغصب . وعلیه إن قلنا فی موارد انطباق عنوانین أحدهما متعلّق الوجوب والآخر متعلّق الحرمة علی واحد بنحو الترکیب الاتحادی ، بامتناع الاجتماع وتقدیم جانب النهی یکون المورد من موارد النهی عن العبادة أو المعاملة ، وإن قلنا بجواز الاجتماع فیها ، یکون المورد من موارد جواز الاجتماع .

الوجه الثانی من إیراد الماتن: قدس سره ، إنّ الحاکم بالملازمة بین الإیجابین هو العقل ، والعقل لا یراها بین إیجاب ذی المقدّمة وبین مقدّمته المحرّمة ، وأنّ حرمة الفرد من المقدّمة تکون مانعة عن تعلّق الوجوب الغیری به ، سواء قیل بجواز الاجتماع وعدمه ، هذا فیما لم تنحصر المقدّمة فی المحرّم . وأمّا مع الانحصار فیه ، فإمّا أن لا تکون المقدّمة واجبة لعدم وجوب ذیها لأجل المزاحمة ، کما إذا انحصر تطهیر المسجد فی التصرّف فی ماءٍ مغصوبٍ ، فإنّ مقتضی تقدیم حرمة الغصب علی وجوب الإزالة فی مقام المزاحمة هو عدم وجوب الإزالة ، فلا موجب لوجوب مقدمتها . وإمّا أن لا تحرم المقدّمة لأجل المزاحمة وأهمیة الواجب ، کما إذا توقّف إنقاذ النفس المحترمة علی الدخول فی ملک الغیر بلا رضاه .

وفیه : أن_ّه لا موجب لاختصاص الوجوب الغیری _ بناءً علی الملازمة وجواز

ص :141

أولاً: إنه لا یکون من باب الاجتماع، کی تکون مبتنیة علیه، لما أشرنا إلیه غیر مرة، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فیکون علی الملازمة من باب النهی فی العبادة والمعاملة.

الشَرح:

اجتماع الأمر والنهی _ بالفرد المحلّل مع عدم انحصار المقدّمة بالفرد المحرّم ، وأمّا مع انحصاره به ، فتظهر الثمرة بین القول بالملازمة والقول بنفیها ، إذ بناءً علی وجوب المقدّمة وتقدیم جانب الأمر بذیها لا یمکن النهی عن تلک المقدّمة حتی بنحو الترتّب ، لما تقدّم من أنّ الترتّب لا یصحّح طلب الحاصل ودفع محذور التکلیف المحال ، بخلاف القول بعدم الملازمة ، فإنّ علیه یمکن النهی عن تلک المقدّمة بنحو الترتّب علی عصیان الأمر بذیها کما لا یخفی .

نعم بناءً علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة ولو فی فرض المزاحمة یمکن النهی عن المقدّمة غیر الموصلة علی ما تقدّم .

والوجه الثالث من الإیراد: أن_ّه لا یترتّب علی القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها أثر الإجزاء ، فإنّ الفرد المحرّم من المقدّمة _ مع کونها توصلیة _ یجزی لحصول الملاک به ، سواء قیل بوجوب المقدّمة أم لا ، جاز الاجتماع أم لا ، ولایجزی مع کونها تعبدیّة علی القول بالامتناع ، سواء قیل بوجوب المقدّمة أم لا ، وعلی القول بالجواز یحکم بالإجزاء ، سواء قیل بوجوب المقدّمة أم لا ، والتعبدیة فی المقدّمة تکون بتعلّق الأمر النفسی بها ولو استحبابا ، کما فی الطهارات .

والوجه فی الحکم بصحّة الوضوء مثلاً واضح ، علی القول بجواز الاجتماع فی موارد الترکیب الاتحادی أیضاً ، سواء قیل بوجوب المقدّمة أم لا .

أمّا علی القول بوجوب المقدّمة فالإجزاء ظاهر ، لأنّ الصحّة ثمرة جواز

ص :142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الاجتماع . وأمّا بناءً علی عدم وجوب المقدّمة ، فإنّ المقدّمة العبادیة تکون مستحبّة فی نفسها واستحبابها موجب للحکم بصحّتها ، لفرض جواز اجتماع الأمر الاستحبابی النفسی للوضوء مع حرمة الغصب .

وهذا بخلاف القول بامتناع الاجتماع ، فإنّ الوجوب الغیری أو الاستحباب النفسی یختصّ بغیر الفرد المحرّم من المقدّمة ، فلا یکون الفرد المحرّم مجزیا ؛ لأنّ النهی عنه یوجب فساده ، وکذا لو لم نقل بالوجوب الغیری للمقدّمة ، فالأمر أیضاً کذلک ، کما لا یخفی .

أقول : یرد علیه أنّه لا سبیل لنا إلی إحراز ملاک الوجوب الغیری فی جمیع موارد الأفراد المحرّمة من المقدّمات ، حتّی مع کونها توصلیة ، إذ الکاشف عن الملاک هو الأمر ، أو الترخیص فی التطبیق ، أو إطلاق المتعلّق والشرط ، ومع حرمة فرد من المقدّمة أو الشرط لا کاشف عن الملاک ، فمثلاً الستر حال الصلاة قید توصلی لا یعتبر فیه قصد التقرّب .

ومع ذلک لا یمکن لنا الحکم بإجزاء الستر بالساتر المغصوب ، حیث إنّ إطلاق المتعلّق للوجوب الغیری لا یعمّه ، بناءً علی عدم جواز اجتماع الأمر والنهی وتقدیم جانب النهی ، بخلاف ما لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهی ، فإنّه یمکن کشف الملاک بإطلاق المتعلّق للوجوب الغیری ، کما هو الحال بالإضافة إلی الفرد المحرّم من العبادات بناءً علی صحّتها مع جواز اجتماع الأمر والنهی وفسادها مع عدم جواز الاجتماع ، کما یأتی فی مبحث الاجتماع .

وبالجملة یکفی لکون مسألة أُصولیة ، أن یحرز بها الموضوع فی مسألةٍ أُصولیة

ص :143

وثانیاً: إن الإجتماع وعدمه لا دخل له فی التوصل بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلاً، فإنه یمکن التوصل بها إن کانت توصلیة، ولو لم نقل بجواز الإجتماع، وعدم جواز التوصل بها إن کانت تعبدیة علی القول بالإمتناع، قیل بوجوب المقدمة أو بعدمه، وجواز التوصل بها علی القول بالجواز کذلک، أی قیل بالوجوب أو بعدمه.

وبالجملة لا یتفاوت الحال فی جواز التوصل بها، وعدم جوازه أصلاً، بین أن یقال بالوجوب، أو یقال بعدمه، کما لا یخفی.

الشَرح:

أُخری ، کما یحرز بمسألة جواز الاجتماع الموضوع فی مسألة النهی عن العبادة أو المعاملة ، وعلی ذلک فإن أمکن بمسألة الملازمة إحراز الموضوع فی مسألة جواز الصلاة فی الستر بالمغصوب، سواء قیل بتعلّق الوجوب الغیری بالستر فی الصلاة أم لا.

الاجتماع وعدمه ، یدخل البحث عن الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته فی المسائل الأُصولیة. ولا یقاس بالثمرات المتقدّمة التی ذکرنا أنّها _ علی تقدیر تمامیتها _ تعدّ من الفوائد المترتّبة علی المسألة الأُصولیة، ولا تصحّح کونها مسألة أُصولیة.

ولکن مع ذلک لا یترتّب إحراز الموضوع لمسألة اجتماع الأمر والنهی علی الالتزام بالوجوب الغیری للمقدّمة أو عدم الالتزام به ، بل بناءً علی کون موارد الترکیب الاتحادی داخلة فی مسألة الاجتماع ، یکون نفس الأمر النفسی المتعلّق بالمقید مع خطاب النهی داخلین فی مسألة الاجتماع ، سواء قیل بالوجوب الغیری للقید أم لا، فالأمر بالصلاة المقیّدة بالستر مع خطاب النهی عن الغصب یجتمعان فی وهذا یتمّ بالإضافة إلی المقدّمات التی مقدّمیتها تأتی من أخذها قیدا لمتعلّق التکلیف النفسی. وأمّا المقدّمات العقلیة، فلا یتصوّر فیها التعبدیّة، کما لا یتوقّف إحراز مقدّمیتها علی الأمر بها غیریا، فتکون مجزیة لا محالة علی کلّ حالٍ، فتدبّر.

ص :144

فی تأسیس الأصل فی المسألة

إعلم أنه لا أصل فی محل البحث فی المسألة، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة ووجوب ذی المقدمة وعدمها لیست لها حالة سابقة [1]، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّة، نعم نفس وجوب المقدمة یکون مسبوقاً بالعدم، حیث یکون حادثاً بحدوث وجوب ذی المقدمة، فالأصل عدم وجوبها.

الشَرح:

[1] وحاصل ما ذکر قدس سره فی المقام هو أنّ المبحوث فیه فی المسألة _ وهی الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدمّته _ لیست لها حالة سابقة نفیا أو إثباتا لیجری الاستصحاب فی ذلک النفی أو الاثبات، حیث أنّ الملازمة علی فرض وجودها أزلیّة لا تحتاج إلی ثبوت طرفیها خارجا کسائر الملازمات، وکذلک الحال علی تقدیر عدمها.

نعم لا بأس بالأصل فی ناحیة عدم تعلّق الوجوب الغیری بمقدّمة شیءٍ ، بعد تعلّق الوجوب النفسی بذلک الشیء ، وحتّی بعد فعلیة وجوب ذلک الشیء ، بأن یقال الأصل عدم تعلّق الوجوب الغیری بتطهیر الثوب والبدن بعد فعلیّة وجوب الصلاة بدخول وقتها ، ولکن هذا الأصل لا ینفی الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته ، فإنّ الملازمة علی تقدیرها بین الإیجابین الواقعیین والأصل الجاری فی ناحیة عدم تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة حکم ظاهری یثبت فیما یطلق علیه المقدّمة مع عدم الدلیل علی وجوبها الغیری .

وبالجملة الحکم الظاهری فی ناحیة المقدّمة أو الحکم بعدم فعلیة الوجوب الغیری فیها لا ینافی تعلّق الوجوب الغیری بها واقعا ، ولا ینافی أیضاً فعلیّة الوجوب

ص :145

وتوهم عدم جریانه، لکون وجوبها علی الملازمة، من قبیل لوازم الماهیة، غیر مجعولة، ولا أثر آخر مجعول مترتب علیه، ولو کان لم یکن بمهم ها هنا، مدفوع بأنه وإن کان غیر مجعول بالذات، لا بالجعل البسیط الذی هو مفاد کان التامة، ولا بالجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة، إلا أنه مجعول بالعرض، الشَرح:

النفسی المتعلّق بذیها مطلقا ، فلا یصح التمسّک بهذا الأصل لنفی الملازمة بین الإیجابین .

نعم لو کان الملتزم بالوجوب الغیری للمقدّمة یدّعی ثبوت الملازمة بین فعلیة الوجوب النفسی المتعلّق بذی المقدّمة وفعلیة الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، لکان الأصل الجاری فی ناحیة عدم فعلیة الوجوب الغیری فی المقدّمة نافیا لتلک الملازمة ومثبتا لبطلانها ، فإنّ مفاد الأصل نفی الفعلیة عن الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة مع فرض فعلیة وجوب ذیها .

لا یقال : الأصل فی ناحیة عدم تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة فی نفسه غیر جارٍ فضلاً عن أن یکون نافیا لتلک الملازمة بین الإیجابین ، والسرّ فی عدم جریانه هو اعتبار أن یکون مجری الأصل أمرا مجعولاً فی نفسه أو له أثر مجعول بحیث یکون المهم فی جریان الأصل ذلک الأثر المهمّ ، والوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة علی تقدیره غیر مجعول ، لا بالجعل البسیط ولا بجعلٍ تألیفی ، ولیس له أثر شرعی مهمّ فی المقام ، بل هو علی تقدیره أمرٌ قهری ، ولابدّ من الإتیان بمتعلّقه حتّی علی تقدیر عدمه لفرض فعلیة الوجوب النفسی المتعلّق بذیها .

فإنه یقال : یکفی فی جریان الأصل فی موردٍ کونه مجعولاً ولو بالتبع ، کالأصل الجاری فی ناحیة عدم شرطیة شیء أو عدم جزئیّته للمأمور به ، فإنّه مجعول بتبع المشروط أو الکل ، ولا یحتاج إلی فرض الجعل البسیط أو المرکّب فیه .

ص :146

ویتبع جعل وجوب ذی المقدمة، وهو کافٍ فی جریان الأصل.

ولزوم التفکیک بین الوجوبین مع الشک لا محالة، لأصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذی المقدمة، لا ینافی الملازمة بین الواقعیین، وإنما ینافی الملازمة بین الفعلیین، نعم لو کانت الدعوی هی الملازمة المطلقة حتی فی المرتبة الفعلیة، لما صح التمسک بالأصل، کما لا یخفی.

الشَرح:

أقول : قد یقال إن قول الماتن قدس سره «ولزوم التفکیک بین الوجوبین مع الشکّ لامحالة ، لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذی المقدّمة لا ینافی الملازمة» ناظر إلی دفع إشکالٍ آخر ، وهو أنّه یعتبر فی جریان الاصل أن لا یکون مفاده التعبّد بالمستحیل فإنّ التعبّد بالمستحیل غیر ممکن .

وعلی ذلک فإن کان بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته ملازمة ، لکان التعبّد بعدم تعلّق وجوب غیری بمقدّمة بعد فعلیة وجوب ذیها من التعبد بالمستحیل ، ومع الشکّ فی ثبوت الملازمة وعدمها یکون التعبّد بعدم تعلّق الوجوب الغیری بمقدّمة الواجب من التعبّد بما یحتمل کونه مستحیلاً .

وأجاب عن هذا الإشکال بما حاصله : إنّ التعبّد بعدم الوجوب الغیری فی المقدّمة بالأصل لا یستلزم احتمال التعبّد بالمستحیل ؛ لأنّ المستحیل علی تقدیر الملازمة ، هو التفکیک بین الإیجاب النفسی المتعلّق بذی المقدّمة والإیجاب الغیری الواقعی المتعلّق بالمقدّمة والأصل لا یوجب هذا التفکیک ، وإنّما یوجب التفکیک بین فعلیة الوجوب الغیری کما هو مفاد الحکم الظاهری وبین فعلیة إیجاب ذیها وهذا التفکیک لا ضیر فیه .

نعم ، لو ک_انت ال_دعوی فی باب الملازم_ة بین الإیج_ابین هی استح_الة تفکیک فعلیة إیجاب المقدّمة عن فعلیة إیجاب ذیها لما صحّ التمسّک بالأصل

ص :147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

المزبور .

ولذا یقال إنّ ما فی المتن من قوله «لصحّ التمسّک بذلک فی إثبات بطلانها» مأخوذ من نسخة ، والصحیح «لما صحّ التمسّک بالأصل» کما نقل فی الهامش(1) .

أقول : قد یتصدی لدفع الإشکال حتّی بناءً علی أنّ المدّعی فی باب المقدّمة الملازمة بین فعلیة ایجاب ذی المقدّمة وفعلیة إیجاب مقدّمته بأنّه مع قیام الدلیل علی اعتبار أمارة کما یستکشف إمکان التعبّد بها وعدم لزوم محذور فی التعبّد بها ولا یتوقّف الأخذ بدلیل إعتبارها علی إحراز إمکان التعبّد بها من الخارج ، کذلک یؤخذ بدلیل اعتبار التعبّد بالأصل أی الاستصحاب ، فی ناحیة عدم تعلّق وجوب غیری بالمقدّمة فی ظرف فعلیّة وجوب ذیها فیحرز به إمکان التعبّد وعدم لزوم التفکیک بین المتلازمین .

ولکن لا یخفی ما فی هذا الدفع ، فإنّ خطاب اعتبار الاستصحاب لم یرد فی خصوص عدم تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة بعد فعلیة وجوب ذیها حتّی یستکشف من التعبّد به عدم لزوم محذور التفکیک، بل غایته الأخذ بإطلاق خطاب اعتباره وشموله للمقام، والمفروض أنّ إطلاقه وشموله للمقام موقوف علی عدم لزوم التفکیک بین المتلازمین وإثبات عدم لزوم التفکیک بالإطلاق والشمول یکون دوریّا.

ویرد علی الماتن قدس سره : أنّ ما ذکره قدس سره فی توجیه جریان الأصل فی نفی الوجوب

ص :148


1- (1) المقصود من المتن هو متن الکفایة المتداولة بین الطلاب والمشتغلین ، وهی الطبعة الحجریة المحشّاة بحاشیة المحقّق المشکینی قدس سره من تلامذة صاحب الکفایة قدس سره ، فأُشیر فیها إلی أن المتن موافق لبعض النسخ ، ولکن فی هامشه أُشیر إلی ما هو الصحیح ، وقد أثبتته مؤسسة آل البیت علیهم السلام فی طبعتها فی المتن .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

الغیری من أن_ّه یکفی فی نفیه بالأصل کونه مجعولاً بالتبع غیر تام ، فإنّ رفع المجعول بالتبع کجعله یکون تبعیّا ، والمفروض أنّ الإیجاب النفسی المتعلّق بذی المقدّمة لا یرتفع حتّی یرتفع ما هو مجعول بتبعه ، هذا إذا کان رفعه (أی رفع الوجوب الغیری للمقدّمة) واقعیا .

وأمّا إذا کان رفعه ظاهریّا بمعنی عدم وجوب الاحتیاط فیه ، فهذا أیضاً غیر ممکن فی المقام ؛ لأنّ المراد بالأصل فی المسألة الفرعیة إمّا البراءة أو الاستصحاب ، والبراءة لا تجری فی المقام ، لا العقلیة منها ولا الشرعیة ؛ لأنّ مفاد البراءة العقلیة نفی استحقاق المؤاخذة والعقاب ، والمفروض عدم العقاب علی ترک الواجب الغیری حتّی بناءً علی وجوب المقدّمة .

وأمّا الشرعیة فإنّها وردت مورد الامتنان ، فیختصّ جریانها بما إذا کان فی ثبوت الوجوب کلُفة زائدة ولا کلفة فی الوجوب الغیری زائدا علی ما یستقلّ به العقل من لزوم امتثال الأمر المتعلّق بالواجب النفسی .

وبهذا یظهر عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة تعلّق الوجوب الغیری بالمقدّمة؛ لأنّ معنی هذا الاستصحاب ومرجعه إلی عدم مؤاخذة المکلّف علی ترک الواجب الغیری، وهذا معلوم کما أنّه معلوم بأنّ المکلّف یؤاخذ علی ترک الواجب النفسی.

ولا یخفی أنّ هذا کلّه إذا أُرید بالأصل فی ناحیة نفی الوجوب الغیری نفیه بنفسه أو بأثره العقلی ، وأمّا إذا کان المراد من الاستصحاب فی نفیه ، نفی أثره الشرعی ، کعدم جواز نسبته إلی الشارع ، بأن لا یجوز للمکلّف الإتیان بالمقدّمة بقصد وجوبها الشرعی کالاستصحاب فی نفی سائر الموضوعات التی لها آثار شرعیّة ، فلا بأس به ، خصوصا بملاحظة ما ذکرنا فی باب الاستصحاب من أنّ مفاد

ص :149

إذا عرفت ما ذکرنا، فقد تصدی غیر واحد من الأفاضل لإقامة البرهان علی الملازمة، وما أتی منهم بواحد خال عن الخلل، والأولی إحالة ذلک إلی الوجدان، حیث إنه أقوی شاهد علی أن الانسان إذا أراد شیئاً له مقدمات، أراد تلک المقدمات [1]، لو التفت إلیها بحیث ربما یجعلها فی قالب الطلب مثله، الشَرح:

دلیل اعتباره هو التعبّد بالعلم ببقاء الحالة السابقة ، وأنّ العلم بتلک الحالة یعتبر علما ببقائها ، فإنّه یترتّب علی هذا التعبّد عدم جواز الإتیان بالمقدّمة بقصد وجوبها الشرعی ، وهذا الاستصحاب لا یستلزم التفکیک بین المتلازمین ، حتّی مع دعوی الملازمة بین فعلیة وجوب ذی المقدّمة وفعلیة وجوب مقدّمته ، فتدبّر جیّدا .

بقی فی المقام أمرٌ ، وهو أنّ الماتن وغیره نفی جریان الأصل فی المسألة الأُصولیة وهی نفس الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدمته ، قائلاً بأنّ الملازمة وعدمها أمرٌ أزلی غیر مسبوق بالحالة السابقة لیجری الأصل فی بقائها ، مع أنّ الملازمة أو عدمها علی تقدیر ثبوت حالة سابقة لها أیضاً ، لم یکن الاستصحاب جاریا ، فإنّ إثبات الوجوب الغیری للمقدّمة باستصحاب بقاء الملازمة أو نفیه عنها باستصحاب عدمها مثبت ، فلا مجال للاستصحاب فیها نفیا أو إثباتا ، حتّی علی تقدیر ثبوت الحالة السابقة لها .

[1] الصحیح عدم الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته ، حیث إنّ الأمر بالواجب النفسی المقیّد بالقید کما فی المقدّمات الشرعیة أو بلا قید کما فی المقدّمات العقلیة مع وصوله إلی المکلّف ، بنفسه کافٍ فی استقلال العقل بلزوم امتثاله بعد ما أحرز أن_ّه لا سبیل للمکلّف إلی الإمتثال إلاّ بالإتیان القیود والمقدّمات ، لتحصل موافقة التکلیف بالإتیان بنفس الواجب النفسی ، فیکون الأمر المولوی من الشارع بالمقدّمة بلا ملاک ، فلابدّ من حمل الأمر بها إمّا علی الإرشاد إلی دخالتها فی

ص :150

ویقول مولویاً (أدخل السوق واشتر اللحم) مثلاً، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب (أدخل) مثل المنشأ بخطاب (إشتر) فی کونه بعثاً مولویاً، وأنه حیث تعلقت إرادته بإیجاد عبده الاشتراء، ترشّحت منها له إرادة أخری بدخول السوق، بعد الإلتفات إلیه وأنه یکون مقدمة له، کما لا یخفی.

ویؤید الوجدان، بل یکون من أوضح البرهان، وجود الأوامر الغیریة فی الشرعیات والعرفیات، لوضوح أنه لا یکاد یتعلق بمقدمة أمر غیریّ، إلاّ إذا کان فیها مناطه، وإذا کان فیها کان فی مثلها، فیصح تعلقه به أیضاً، لتحقق ملاکه ومناطه، والتفصیل بین السبب وغیره والشرط الشرعی وغیره سیأتی بطلانه، وأنه لا تفاوت فی باب الملازمة بین مقدمة ومقدمة.

الشَرح:

الواجب النفسی قیدا أو الإرشاد إلی طاعة الأمر بذیها .

لا یقال: لا یتمّ ذلک بالإضافة إلی الوجوب الغیری التبعی ، فإنّه أمرٌ قهری تابع لتعلّق الطلب إلی ذیها .

فإنّه یقال : کما لا یتعلّق الوجوب الغیری المولوی الأصلی بالمقدّمة کذلک لا یتعلّق بها الوجوب الغیری التبعی ؛ إذ لیس الوجوب التبعی إلاّ کون الشیء بحیث لو التفت الآمر إلیه لأنشأ الوجوب له ، وقد ذکرنا أنّ المقدّمة بما هی مقدّمة لو التفت إلیها الآمر ألف مرّة لا یجد فیها ملاک الأمر المولوی لیأمر بها ، هذا بالإضافة إلی الوجوب المنشأ ، وأمّا الإرادة الغیریة بأن یکون تعلّق إرادة الفاعل بفعلٍ یستتبع إرادة أُخری متعلّقة بمقدّمته ، فهذا أمرٌ صحیح ، ولکنّه مختصّ بإرادة الفعل المباشری والآمر تتعلّق إرادته بفعل نفسه ، وهو أمره وإیجابه ، والإیجاب فی شیء لا یتوقّف علی إیجاب مقدّمته ، بل نفس ذلک الشیء حصوله یتوقّف علی إیجاد مقدّمته .

نعم الشوق إلی فعلٍ وحده غیر ممکن ، بل یتبعه الإشتیاق إلی مقدّمته إلاّ أنّ

ص :151

ولا بأس بذکر الاستدلال الذی هو کالأصل لغیره _ مما ذکره الأفاضل عن الإستدلالات _ وهو ما ذکره أبو الحسن [الحسین] البصری، وهو أنه لو لم یجب المقدمة لجاز ترکها، وحینئذ، فإن بقی الواجب علی وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه [1].

الشَرح:

الشوق غیر الإرادة وغیر الإیجاب .

ومما ذکرنا ظهر أن_ّه لا شهادة فی مثل قول الآمر (اُدخل السوق واشتر اللحم) علی الوجوب الغیری المولوی فی المقدّمة ، فإنّ قوله (اُدخل السوق) إمّا إرشاد إلی طریق طاعة الأمر بالشراء ، أو تأکید للأمر بالشراء .

والأوامر الواردة فی الشریعة بالمقدّمات إرشاد إلی دخالة متعلّقاتها فی العبادة أو المعاملة ، والشاهد علی ذلک تعلّق مثل هذه الأوامر بجزء الواجب أیضاً ، مع أنّ الجزء _ کما تقدّم _ غیر قابل للوجوب الغیری ، بل المتعیّن فیه الإرشاد إلی جزئیة متعلّقه للواجب النفسی وأخذه فی متعلّق الأمر النفسی ، کما أنّ الأمر بالخارج عن الواجب النفسی إرشاد إلی دخالته فیه شرطا ؛ ولذا یکون المستفاد من الأمر بجزء الواجب العبادی أو شرطه هو عین ما یستفاد من الأمر بجزء المعاملة أو شرطها کالأمر بالتقابض فی بیع الصرف .

نعم للأمر المولوی الغیری بالمقدّمة مورد واحد ، وهو ما إذا لم یکن التکلیف بذی المقدّمة فعلیّا ، کما ذکرنا ذلک فی تصحیح الأمر بتعلّم العبادات وغیرها من الواجبات قبل حصول وجوبها ، فإنّ مع عدم فعلیة وجوب الشیء لا یستقلّ العقل بلزوم التحفظ علیه بتحصیل مقدّمته من قبل ، فیکون تکلیف الشارع بتحصیلها لغایة هذا التحفظ وتصحیح العقاب علی تفویت ملاک ذلک الواجب .

[1] هذا الاستدلال محکی عن أبی الحسن البصری فی باب وجوب المقدّمة ،

ص :152

وفیه: _ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعی من التالی فی الشرطیة الأولی، لا الإباحة الشرعیة، وإلا کانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة الترک عما أضیف إلیه الظرف، لا نفس الجواز، وإلا فمجرد الجواز بدون الترک، لا یکاد یتوهم معه صدق القضیة الشرطیة الثانیة __ ما لا یخفی، فان الترک بمجرد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق إحدی الشرطیتین، ولا یلزم أحد المحذورین، فإنه وإن لم یبق له وجوب معه، إلا أنه کان ذلک بالعصیان، لکونه متمکناً من الإطاعة والإتیان، وقد اختار ترکه بترک مقدمته بسوء اختیاره، مع حکم العقل بلزوم إتیانها، إرشاداً إلی ما فی ترکها من العصیان المستتبع للعقاب.

الشَرح:

والماتن قدس سره قد أصلح صورة الاستدلال أوّلاً بأنّ المراد من التالی فی الشرطیة الأُولی وهو قوله «لجاز ترکها» عدم المنع الشرعی فی ترک المقدّمة ، کما أصلحها بکون المراد من المضاف إلیه للظرف فی قوله «وحینئذٍ ترک المقدّمة» أی حین ترک المقدّمة والموجب للاصلاح بما ذکر هو أن_ّه لو کان المراد من قوله «لجاز ترکها» الإباحة الخاصّة شرعا فی المقدّمة لکانت الملازمة فی الشرطیة الأُولی واضحة البطلان ؛ لأنّ انتفاء الوجوب الشرعی عن المقدّمة لا یوجب ثبوت الإباحة الشرعیة فیها ، نظیر الحال فی المتلازمین ، فإن ثبوت الوجوب فی أحدهما لا یوجب ثبوته فی الآخر ، مع أن_ّه لا یوجب ثبوت الإباحة الفعلیة شرعا فی ذلک الآخر لکونها لغوا ، کما أن_ّه لو کان المراد بالمضاف إلیه عدم المنع الشرعی فی ترک المقدّمة لم یکن مجال لصدق القضیة الشرطیة الثانیة .

حیث إنّ عدم المنع الشرعی فی ترک المقدّمة لا یوجب کون التکلیف بذیها من التکلیف بما لا یطاق أو خروج الواجب عن کونه واجبا مطلقا .

ثمّ قال قدس سره أن_ّه مع الاصلاح المزبور لا یخفی ما فیه ، فإنّه مع ترک المقدّمة بتاتا

ص :153

نعم لو کان المراد من الجواز جواز الترک شرعاً وعقلاً، یلزم أحد المحذورین، إلا أن الملازمة علی هذا فی الشرطیة الأُولی ممنوعة، بداهة أنه لو لم یجب شرعاً لا یلزم أن یکون جائزاً شرعاً وعقلاً، لإمکان أن لا یکون محکوماً بحکم شرعاً، وإن کان واجباً عقلاً إرشاداً، وهذا واضح.

وأما التفصیل بین السبب وغیره، فقد استدل علی وجوب السبب، بأن التکلیف لا یکاد یتعلق إلا بالمقدور، والمقدور لا یکون إلا هو السبب، وإنما المسبب من آثاره المترتبة علیه قهراً، ولا یکون من أفعال المکلف وحرکاته أو سکناته، فلا بد من صرف الأمر المتوجه إلیه عنه إلی سببه.

الشَرح:

وإن لم یبقَ التکلیف بذیها أنّ عدم بقائه وسقوطه إنّما هو لحصول العصیان بالإضافة إلی الواجب النفسی ، لکونه متمکّنا من الإتیان به ، وقد ترکه باختیاره مع حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمة إرشادا إلی لزوم إطاعة الواجب النفسی وتحرّزا عمّا فی ترکها من تحقّق العصیان بالإضافة إلی الأمر بذیها الموجب لاستحقاق العقاب.

نعم لو کان المراد من المضاف إلیه فی قوله «وحینئذٍ» حین جواز ترک المقدّمة عقلاً وشرعا یلزم أحد المحذورین وهو التکلیف بما لا یطاق ، أو خروج الواجب عن کونه واجبا مطلقاً ، إلاّ أنّ الشرطیة الأُولی لما کانت باطلة ، فإنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا لا یجب أن یکون ترکها جائزا عقلاً وشرعا، فإنّ عدم تعلّق حکم شرعی بالمقدّمة لا یلازم انتفاء الحکم العقلی عنها، بل تجب بحکم العقل إرشادا، کما تقدّم.

أقول : لو کان المراد بالمضاف إلیه جواز ترک المقدّمة عقلاً وشرعا لزم أحد المحذورین ، وهو خروج الواجب عن کونه واجبا مطلقا أو لزوم العقاب علی ترک واجب مشروط مع عدم فعلیة وجوبها ، کما لا یخفی ، وهذا الثانی غیر لزوم التکلیف

ص :154

ولا یخفی ما فیه، من أنه لیس بدلیل علی التفصیل [1]، بل علی أن الأمر النفسی إنما یکون متعلقاً بالسبب دون المسبب، مع وضوح فساده، ضرورة أن المسبب مقدور المکلف، وهو متمکن عنه بواسطة السبب، ولا یعتبر فی التکلیف أزید من القدرة، کانت بلا واسطة أو معها، کما لا یخفی.

الشَرح:

بما لا یطاق ، کما لا یخفی .

لا یقال : لو لم تجب المقدّمة شرعا لما أمکن إطلاق الواجب بالإضافة إلیها أصلاً ، وذلک فإنّ إیجاب ذی المقدّمة مطلقا مع عدم إیجاب مقدّمته معناه أن_ّه أتی المکلّف بالمقدّمة أو لم یأتِ بها فهو مکلّف بالإتیان بذیها ، والتکلیف بذیها مع فرض ترک المقدّمة من التکلیف بما لا یطاق .

فإنّه یقال : معنی إطلاق الواجب بالإضافة إلی شیء أنّ فی طلب ذلک الواجب لم یفرض تحقّق ذلک الشیء ، بأن یکون طلبه مشروطا بحصوله ، کما فی اشتراط طلب الصلاة بدخول الوقت وطلب الحجّ بحصول الاستطاعة ، ولذا یحکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدّمة إرشادا ، إلاّ أنّ الواجب واجب حتّی بعد ترک المقدّمة رأسا ، نعم ترک المقدّمة رأسا فیما بعد لا ینافی التکلیف بذیها مطلقا بالمعنی الذی ذکرناه ما دام لم یتحقّق الترک رأسا .

[1] وذلک فإنّ الکلام فی المقام فی الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدّمة ، ومقتضی الاستدلال صرف التکلیف النفسی المتعلّق بالمسبّب إلی سببه لا اختصاص الوجوب الغیری بالمقدّمة السببیّة ، والاستدلال المزبور علیل أیضاً ؛ لأنّ وجه عدم صحّة التکلیف بغیر المقدور هو لزوم کونه لغوا ، والمسبّب فیما کان سببه تحت اختیار المکلّف وقدرته لا یکون تعلّق التکلیف به لغوا ، ووجه تعلّق التکلیف به دون سببه هو وجود الملاک النفسی فیه لا فی سببه .

ص :155

وأما التفصیل بین الشرط الشرعی وغیره، فقد استدل علی الوجوب فی الأول بأنه لولا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً، حیث إنه لیس مما لا بد منه عقلاً أو عادة.

وفیه __ مضافاً إلی ما عرفت من رجوع الشرط الشرعی إلی العقلی __ أنه لا یکاد یتعلق الأمر الغیری إلا بما هو مقدمة الواجب، فلو کانت مقدمیته متوقفة علی تعلقه بها لدار، والشرطیة وإن کانت منتزعة عن التکلیف، إلا أنه عن التکلیف النفسی المتعلق بما قیّد بالشرط [1]، لا عن الغیری، فافهم.

تتمة: لا شبهة فی أن مقدمة المستحب کمقدمة الواجب [2]، فتکون مستحبة الشَرح:

[1] فإنّ الشرطیة کالجزئیة تنتزع من تعلّق التکلیف النفسی ، فإن کان الشیء بنفسه داخلاً فی متعلّق التکلیف الواحد تکون له الجزئیة ، وإن کان الداخل فیه تقیّد المتعلّق به ، ینتزع له الشرطیّة ، ولذا ذکرنا أنّ الأمر بالشرط کالأمر بالجزء إرشاد إلی دخ_الته فی تعلّق التکلیف . ولا مجال لتوهّم انتزاع الشرطیة من تعلّق الأمر الغیری بنفس الشرط، فلو کانت الشرطیة موقوفة علی ثبوت الأمر الغیری لدار، فإنّ تعلّق الأمر الغیری موقوف علی انطباق عنوان الشرط والمقدّمة، علیه ولو فرض توقّف انطباق عنوان الشرط وعنوان المقدّمة علی تعلّق الأمر الغیری به لکان دورا واضحا.

[2] بناءً علی الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته بالوجه المتقدّم الذی ذکر فی کلام الماتن قدس سره تثبت الملازمة بین استحباب شیءٍ واستحباب مقدّمته ، فإنّ شهادة الوجدان بأنّ إرادة شیء یلازم إرادته یجری فی المستحبّ أیضاً ، فإنّه لا فرق فی هذه الملازمة بین الإرادة الشدیدة المنتزع منها الإیجاب وبین الإرادة الضعیفة المنتزع منها الاستحباب ، کما علیه الماتن قدس سره .

ص :156

__ لو قیل بالملازمة __ وأما مقدمة الحرام والمکروه فلا تکاد تتصف بالحرمة أو الکراهة [1]، إذ منها ما یتمکن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً، کما کان متمکناً قبله، فلا دخل له أصلاً فی حصول ما هو المطلوب من ترک الحرام أو المکروه، فلم یترشح من طلبه طلب ترک مقدمتهما، نعم ما لا یتمکن معه من الترک المطلوب، لا محالة یکون مطلوب الترک، ویترشح من طلب ترکهما طلب ترک خصوص هذه المقدمة، فلو لم یکن للحرام مقدمة لا یبقی معها اختیار ترکه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.

الشَرح:

[1] ذکر قدس سره إنّ المقدّمة فی الحرام أو المکروه إن کانت علی نحو لا ینتفی بعدها اختیار ترک الحرام أو المکروه بأن أمکن للمکلّف بعد ترکها ، ترکهما بعدم إرادتهما ، فلا موجب لتعلّق الحرمة الغیریة أو الکراهة الغیریّة بها ، وذلک لأنّ ترک الحرام أو المکروه لا یتوقّف علی ترک تلک المقدّمة ، ولو علی القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أی من غیر فرقٍ بین مقدّمة ومقدّمة أُخری .

نعم لو کانت المقدّمة من السبب الذی لا یکون مع حصولها اختیار ترک الحرام أو المکروه تکون تلک المقدّمة حراما غیریّا أو مکروها کذلک .

وقوله «لا یبقی معها اختیار ترکه» وصفٌ للمقدّمة ، والمقدّمة الموصوفة بذلک هی المقدّمة السببیّة ، کما فی الفعل التولیدی ، وحاصل العبارة أن_ّه لو لم یکن للحرام المقدّمة السببیة ، بأن کان من الأفعال الإرادیة لما کانت واحدة من مقدّماتها محکومة بالحرمة الغیریة.

لا یقال: لا یکون فعل إلاّ وله مقدّمة سببیة لا محالة ، ضرورة أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد .

ص :157

لا یقال: کیف؟ ولا یکاد یکون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها یوجد، ضرورة أن الشیء ما لم یجب لم یوجد.

فإنه یقال: نعم لا محالة یکون من جملتها ما یجب معه صدور الحرام، لکنه لا یلزم أن یکون ذلک من المقدمات الإختیاریة، بل من المقدمات الغیر الإختیاریة، کمبادئ الإختیار التی لا تکون بالإختیار، والا لتسلسل، فلا تغفل، وتأمل.

الشَرح:

فإنّه یقال : نعم لابدّ من أن یکون فی جملة المقدّمات ما یجب معه الفعل ، لکن لا یلزم أن یکون ذلک من المقدّمات الاختیاریة لیمکن تعلّق التکلیف الغیری به ، بل یکون من المقدّمات غیر الاختیاریة کمبادئ الاختیار التی لا تکون بالاختیار وإلاّ لتسلسل.

أقول : قد تقدّم ما فی هذا الکلام ، والأولی له أن یقول بعدم تعلّق الحرمة الغیریة بإرادة الحرام واختیاره ، لأنّ نفس تعلق الحرمة النفسیة بفعلٍ مقتضاه ترک إرادته واختیاره ، حیث إنّ المراد بالنهی عن فعلٍ هو ذلک ، فلا یوجب تعلقّه به تعلّق إرادة غیریّة تبعیة بترک العبد إرادة الحرام .

بقی فی المقام أمرٌ ، وهو أن_ّه ربّما لا یکون بین فعل وارتکاب الحرام علقة ذاتیة ، ولکن ربّما یطرأ بینهما التلازم الاتفاقی ، کما إذا علم المکلّف بأنّه إذا ذهب إلی المکان الفلانی یلقی فی حلقه الخمر أو یکره علیه أو یضطرّ إلی شرب الخمر.

فهل فی هذه الموارد یکون المحرّم علی المکلّف هو شرب الخمر فیعاقب علی شربه، بحیث لو کان فی الذهاب إلی المکان المزبور حرمة لکانت حرمة غیریّة؟ أو أنّ متعلّق الحرام النفسی فی هذه الموارد هو الذهاب إلی المکان المذکور؟ وجوه.

لا سبیل إلی الالتزام بالوجه الأخیر ؛ لما تقدّم فی جواب من قال بصرف الأمر والنهی عن المسبّب إلی الأمر والنهی عن سببه ، بدعوی أنّ المسبّب أمر غیر مقدور ،

ص :158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَرح:

والمقدور هو السبب .

وأمّا الوجه الأوّل فهو الصحیح ، فإنّ النهی عن فعلٍ لا یقتضی إلاّ تمکّن المکلّف علی ترکه ولو بترک فعلٍ آخر ، کالذهاب إلی المکان المزبور فی المثال ، وحدیث رفع الإکراه أو الاضطرار لا یعمّ موارد سوء الاختیار فیعاقب علی فعل الحرام وارتکاب الفساد .

وأمّا ثبوت الحرمة الغیریة فهی تبتنی علی حرمة المقدّمة السببیة غیریّا ، وقد منعنا الحرمة الغیریة بتاتا .

ص :159

ص :160

مبحث الضدّ

اشارة

فصل

الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أو لا؟

فیه أقوال [1]، وتحقیق الحال یستدعی رسم أمور:

الأول: الإقتضاء فی العنوان أعم من أن یکون بنحو العینیة، أو الجزئیة،

الشَرح:

کون مبحث الضد مسألة أُصولیّة

[1] لا یخفی أنّ هذه المسألة أیضاً کمسألة الملازمة بین إیجاب شیء وإیجاب مقدّمته لا ترتبط بدلالة اللفظ، ولو قیل بالاقتضاء فی الضدّ العامّ أو الخاصّ تثبت الحرمة الغیریة لهما حتّی فیما إذا لم یکن وجوب الفعل مستفادا من الخطاب، بل کان بالإجماع أو بالملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع، والتعبیر فی عنوان المسألة باقتضاء الأمر لا باقتضاء الوجوب لکون الوجوب غالبا بالأمر الظاهر فی الطلب بصیغة الأمر أو بمادّته ونحوهما.

ولا یخفی أیضاً أنّ هذه المسألة کمسألة الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب

ص :161

.··· . ··· .

الشَرح:

مقدّمته، من المباحث الاصولیة التی یثبت بها _ علی تقدیر عدم الاقتضاء _ صحّة العبادة المضادّة للمأمور به مع ضمّ إمکان الترتّب أو کفایة الملاک فی صحّة العمل عبادة، کما یستنبط منها بطلان العبادة علی تقدیر الاقتضاء بضمیمة مسألة أنّ النهی عن العبادة ولو غیریّا یوجب فسادها، إذ مع النهی المزبور لا یمکن إحراز الملاک فی تلک العبادة التی یعمّها متعلّق الأمر بطبیعیه لولا النهی الغیری. ومما ذکرنا ظهر أنّ الحکم بصحّة العبادة المضادّة للمأمور به یحتاج إلی ضمّ مقدّمةٍ أُخری، وإن لم تکن تلک المقدّمة من المسائل الاصولیة المستقلّة، بل یکون البحث فیها فی ضمن بعض مسائلها کبحث الترتّب أو کفایة الملاک فی وقوع العمل عبادة.

لا یقال: لا حاجة إلی هذا التطویل لإدخال مسألة الاقتضاء فی المسائل الاصولیة، فإنّ الملاک فی کون المسألة اصولیة _ کما مضی فی بحث المقدّمة _ هو أن یستنبط من نتیجتها بعد إحراز صغراها، الحکم الفرعی الکلّی بأن تکون نتیجة القیاس أمرا یلازم الحکم الشرعی الفرعی الکلّی، کما تقدّم فی بحث الملازمة بین إیجاب شیءٍ وإیجاب مقدّمته، فإنّه یستفاد منها الملازمة بین إیجاب الصلاة وإیجاب مقدّماتها، فینتقل إلی وجوب الوضوء وتطهیر الثوب والبدن وغیرهما من شرائطها عند وجوب الصلاة وفیما نحن فیه أیضاً إذا بنینا علی الاقتضاء بین وجوب فعل وحرمة ضدّه الخاصّ مثلاً یقع هذا الاقتضاء _ أی الملازمة _ فی طریق استنباط الحرمة الغیریة لضدّ الواجب، کالصلاة بالإضافة إلی وجوب الإزالة. وبالجملة نفس الحرمة الغیریة حکم فرعی یثبت لضدّ الواجب ویستنبط من نتیجة هذه المسألة، وهی ثبوت الاقتضاء.

فإنّه یقال: لا تقاس الحرمة الغیریة الشرعیة بالوجوب الغیری الشرعی، فإنّ الوجوب المزبور لکونه مصحّحا للتقرّب بالإتیان بمتعلّقه بداعویته کان مهمّا،

ص :162

.··· . ··· .

الشَرح:

فیدخل فی المسائل الفرعیة التی تستنبط من بحث الملازمة، بخلاف الحرمة الغیریة فإنّها لا تکون کالحرمة النفسیّة مبعّدة لا بنفهسا ولا بالقصد، فإنّ المبعدیّة إنمّا هی فی ترک الواجب لا فی الإتیان بضدّه کما یأتی.

تفسیر مفردات العنوان

ثمّ المراد بالاقتضاء فی عنوان البحث هو الأعم من العینیة والجزئیة واللزوم؛ فالمقصود من کون الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه العامّ علی ما قیل هو أنّ المفهوم من الأمر بالشیء وإن کان مغایرا للمفهوم من النهی عن ضدّه العامّ إلاّ أنّهما بحسب الخارج شیء واحد یصّح التعبیر عنه بکلّ منهما، نظیر ما یقال: الاثنان نصف الأربعة خارجا لا مفهوما.

وبالجملة البعث إلی فعل خارجا کما أنّه مصداق للأمر به، کذلک مصداق للنهی عن ضدّه العامّ، فإنّ الأمر بشیءٍ عین طلب ترک ترکه.

والمراد بالجزئیة علی ما قیل من أنّ الوجوب یتضمّن المنع من ترکه، الذی هو ضدّ عامّ للفعل بأن یکون الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع المنع من ترکه.

کما أنّ المراد باللزوم کون النهی عن الضدّ العام أو الخاصّ، خارجا عن مفاد الوجوب ویکون لازما أو ملازما له.

ومما ذکرنا یظهر أنّه لا تنافی بین تعمیم الاقتضاء للعینیّة والتضمّن، وبین کون المسألة عقلیّة، ووجه عدم المنافاة أنّ المراد بکون المسألة عقلیة أنّه لا دخل لصیغة الأمر أو مادّته أو نحوهما فی المبحوث عنه فی المقام، بل یعمّ البحث ما کان وجوب الفعل مستفادا من عقل أو نقل أو إجماع، ویبحث فی أنّه هل یجوز عقلاً أن یجب فعلٌ واقعا ولا یحرم ضدّه العامّ أو الخاصّ أو لا یمکن ذلک؟ لکون وجوبه _ مثلاً _ عین ضدّه

ص :163

أو اللزوم من جهة التلازم بین طلب أحد الضدین، وطلب ترک الآخر، أو المقدمیة علی ما سیظهر، کما أن المراد بالضد هاهنا [1] هو مطلق المعاند والمنافی وجودیاً کان أو عدمیاً.

الثانی: إن الجهة المبحوثة عنها فی المسألة، وإن کانت أنه هل یکون للأمر اقتضاء بنحو من الانحاء المذکورة، إلاّ أنه لما کان عمدة القائلین بالإقتضاء فی الضد الخاص، إنما ذهبوا إلیه لأجل توهم مقدمیة ترک الضد، کان المهم صرف عنان الکلام فی المقام إلی بیان الحال وتحقیق المقال، فی المقدمیة وعدمها، فنقول وعلی اللّه الإتکال:

إنّ توهّم توقّف الشیء علی ترک ضدّه] 2] لیس إلاّ من جهة المضادة

الشَرح:

العامّ خارجا، أو أنّ حرمته داخلة فی وجوبه ولا یثبت الکلّ بدون ثبوت أجزائه.

وبتعبیر آخر: لیس المراد بالتضمّن الدلالة التضمنیّة، وبالعینیة الدلالة المطابقیّة، علی ما تقدّم، بل المقصود أنّه هل یمکن التفکیک عقلاً بین الوجوب وعینه أو جزئه أو لازمه وملازمه أم بینهما علقة عقلیة.

[1] لیس المراد بالضدّ فی المقام الأمر الوجودی الذی لا یجتمع مع الأمر الوجودی الآخر علی ما هو المصطلح عند أهل المیزان، بل المراد مطلق المنافی للواجب، سواء کان أمرا وجودیا، کما فی الضدّ الخاصّ غالبا، أو أمرا عدمیا، کما فی الضدّ العامّ، وهذا فیما إذا کان متعلّق الأمر هو الفعل، وأمّا إذا کان الترک یکون ضدّه العامّ هو الفعل. وبتعبیرٍ آخر: یطلق الضدّ العامّ علی نقیض الشیء سواء کان أمراً عدمیاً أو وجودیاً.

الضد الخاصّ

[2] قد ذکر لاقتضاء الأمر بشیءٍ النهی عن ضدّه الخاصّ وجهان:

ص :164

والمعاندة بین الوجودین، وقضیتها الممانعة بینهما، ومن الواضحات أن عدم المانع من المقدمات.

وهو توهم فاسد، وذلک لأنّ المعاندة والمنافرة بین الشیئین، لا تقتضی إلاّ عدم اجتماعهما فی التحقق، وحیث لا منافاة أصلاً بین أحد العینین وما هو نقیض الآخر وبدیله، بل بینهما کمال الملاءمة، کان أحد العینین مع نقیض الآخر وما هو بدیله فی مرتبة واحدة من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدم أحدهما علی الآخر، کما لا یخفی.

فکما أن قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر، کذلک فی المتضادین، کیف؟ ولو اقتضی التضاد توقف وجود الشیء علی عدم ضده، توقف الشیء علی عدم مانعه، لاقتضی توقف عدم الضد علی وجود الشیء توقف عدم الشیء علی مانعه، بداهیة ثبوت المانعیة فی الطرفین، وکون المطاردة من الجانبین، وهو دور واضح.

الشَرح:

الأوّل: أنّ المضادّة والمنافرة بینه وبین الفعل المأمور به مقتضاها ثبوت الممانعة بینهما بأن یکون وجود کلّ منهما مانعا عن تحقّق الآخر وبما أنّ عدم المانع من مقدّمات وجود الشیء، فیکون ترک الضدّ من مقدّمات المأمور به، فیجب من جهة المقدّمیّة و إذا وجب ترکه حرم فعله، لأنّ الفعل ضدّ عامّ للترک والأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ.

وقد یورد علی هذا الاستدلال بوجهین أشار الماتن قدس سره إلی أوّلهما بقوله: «وهو توهم فاسد . . . إلخ» وحاصله أنّ ثبوت الممانعة بین الضدّ الخاصّ والمأمور به ممنوعة فإنّ مقتضی المضادّة بینهما عدم إمکان اجتماعهما فی الوجود، وأمّا کون أحدهما مانعا عن الآخر بحیث یکون ترک أحدهما مقدّمة وسابقاً رتبةً علی وجود

ص :165

وما قیل فی التفصّی عن هذا الدور [1] بأن التوقف من طرف الوجود فعلی، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه یتوقف علی فرض ثبوت المقتضی له، مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضده، ولعله کان محالاً، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدین مع وجود الآخر إلی عدم تعلق الإرادة الأزلیة به، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة، فیکون العدم دائماً مستنداً إلی عدم المقتضی، فلا یکاد یکون مستنداً إلی وجود المانع، کی یلزم الدور.

الشَرح:

الآخر فلا، بل یکون عدم أحدهما مع وجود الآخر فی رتبة واحدة وبینهما کمال الملائمة نظیر المتناقضین، فإن ثبوت المنافرة بینهما کما لا تقتضی الممانعة کی یکون ارتفاع أحدهما مقدّمة لثبوت الآخر، کذلک الحال فی المتضادّین، کیف ولو کانت المضادّة موجبة لتوقّف المأمور به علی ترک ضدّه، توقّف الشیء علی فقد مانعه، لتوقّف ترک الضدّ علی فعل المأمور به توقّف فقد الشیء علی مانعه، فیکون الفعل المأمور به سابقا فی الرتبة علی ترک الضدّ المفروض سبقه علی المأمور به، وهذا هو الدور.

[1] وقد یدفع الدور المزبور ویقال بصحّة توقّف المأمور به علی ترک ضدّه الخاصّ من غیر أن یتوقّف ترک ضدّه علی المأمور به بتقریب:

إنّ الشیء فی تحقّقه یتوقّف علی تمام أجزاء علّته التی منها عدم المانع إلاّ أنّ عدم الشیء لا یستند إلاّ إلی عدم تمام علّته بأن یستند إلی عدم مقتضیه وسببه فیما إذا لم یوجد سببه ومقتضیه، وإلی عدم شرطه فیما کان مقتضیه موجودا ثمّ تصل النوبة إلی استناد عدمه إلی وجود المانع فیما إذا کان السبب والشرط موجودین فاستناد عدم الشیء إلی وجود مانعه یحصل بعد وجود المقتضی له مع جمیع شرائطه. وعلی ذلک فتوقّف المأمور به علی ترک ضدّه الخاصّ فعلیّ، ولکن ترک

ص :166

إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهیین إلی إرادة شخص واحد [1]، وأما إذا کان کل منهما متعلقاً لإرادة شخص، فأراد مثلاً أحد الشخصین حرکة شیء، وأراد الآخر سکونه، فیکون المقتضی لکل منهما حینئذ موجوداً، فالعدم __ لا محالة __ یکون فعلاً مستنداً إلی وجود المانع.

الشَرح:

ضدّه الخاصّ مستند إلی عدم مقتضیه لا إلی فعل المأمور به.

بل یمتنع تحقّق المقتضی للضدّ الخاصّ واستناد عدمه إلی وجود المانع مع تحقّق تمام العلّة لوجود المأمور به، لرجوع عدم تحقّق الضدّ الخاصّ مع وجود المأمور به فی النتیجة إلی عدم تعلّق الإرادة الأزلیّة به وتعلّقها بالآخر، کما هو مقتضی الالتزام بأنّ أفعال العباد تستند إلی مشیة اللّه علی ما تقدّم فی بحث الطلب والإرادة.

[1] هذا الإشکال مع جوابه تتمیم لما ذکر فی التفصی عن لزوم الدور وتصحیح لتوقّف المأمور به علی ترک ضدّه من دون عکس.

وحاصل الإشکال: أنّ ما ذکر من استناد عدم الضدّ إلی عدم مقتضیه إنّما یلزم إذا کان لحاظ الضدّین بالإضافة إلی فعل شخصٍ واحدٍ، حیث إنّ مع إرادة أحدهما یکون عدم الآخر مستندا إلی عدم إرادته، إذ لا معنی لتعلّق إرادة واحدة بوجود کلا الضدّین. وأمّا إذا لوحظا بالإضافة إلی شخصین کما إذا أراد أحدهما تحریک جسم والآخر إسکانه، فیکون عدم أحد الضدّین مستندا إلی وجود الضدّ الآخر لا محالة.

وحاصل الجواب: أنّ الضدّین بالإضافة إلی إرادة کلّ من الشخصین کالضدّین بالإضافة إلی إرادة شخص واحد فی أنّ عدم أحدهما مع وجود الآخر یستند إلی

ص :167

قلت: هاهنا أیضاً مستند إلی عدم قدرة المغلوب منهما فی إرادته، وهی مما لابد منه فی وجود المراد، ولا یکاد یکون بمجرد الإرادة بدونها لا إلی وجود الضد، لکونه مسبوقاً بعدم قدرته __ کما لا یخفی __ غیر سدید، فإنّه وإن کان قد ارتفع به الدور [1]، إلاّ أنه غائلة لزوم توقف الشیء علی ما یصلح أن یتوقف علیه علی حالها، لإستحالة أن یکون الشیء الصالح لأن یکون موقوفاً علیه الشیء موقوفاً علیه، ضرورة أنه لو کان فی مرتبة یصلح لأن یستند إلیه، لما کاد یصح أن یستند فعلاً إلیه.

الشَرح:

عدم مقتضیه لا إلی وجود الآخر فان قدرة الفاعل جزء المقتضی ولایکون مجرّد إرادة الفاعل للفعل مع عدم قدرته علیه، مقتضیا له کما إذا اعتقد کون هذا الشیء مقدورا له أو احتمل قدرته علیه فأراده،لم یتحقق إذا کان غیر مقدور له واقعاً. وعلی ذلک فعدم قدرة الشخص المغلوب فی إرادته، هو الذی یستند إلیه عدم الضد لا وجود الضد الآخر الصادر عن الغالب فی إرادته، وبالجملة أنّ الفعل المأمور به وإن کان یتوقّف علی ترک ضدّه ولکن ترک ضدّه لا یستند إلی فعل المأمور به بل إلی عدم مقتضیه.

[1] هذا تعلیلٌ لبطلان التفصّی عن لزوم الدور بما تقدّم وحاصله:

أنّ ما تقدّم وإن کان یرتفع به الدور یعنی التوقّف الفعلی من الجانبین إلاّ أنّ الملاک لاستحالة الدور وهو لزوم کون شیءٍ سابقا علی الآخر رتبةً ومتأخّرا عنه کذلک بحاله موجود وتقریره:

إنّ فعل المأمور به یستند فعلاً إلی ترک ضدّه علی الفرض وترک ضدّه لایستند فعلاً إلی فعل المأمور به، بل إلی عدم مقتضیه، فلا توقّف من الجانبین فعلاً، ولکن ملاک استحالة الدور لیس خصوص التوقّف الفعلی من الجانبین لیقال إنّه لیس فی البین هذا الملاک بل ملاک استحالته لزوم کون الشیء مقدّما علی الآخر رتبةً ومتأخّرا

ص :168

والمنع عن صلوحه لذلک بدعوی: أن قضیة کون العدم مستنداً إلی وجود الشَرح:

عنه کذلک، وهذا المحذور بعینه جارٍ فی المقام، وذلک فإنّ ترک الضدّ یکون مقدّما رتبةً علی فعل المأمور به لکون ترکه من عدم المانع، ومن جهة أُخری یکون ترک الضدّ متأخرا لا یخفی أنّ هذا التأخّر شأنی لا فعلیّ ولهذا عبّر عنه الماتن قدس سره بما یصلح. أیضاً رتبةً عن المأمور به لأنّه لو کان المقتضی للضدّ حاصلاً لاستند ترکه إلی فعل المأمور به استناد عدم الشیء إلی مانعه. وإلی ذلک أشار الماتن بقوله: «إلاّ أنّه غائلة لزوم توقّف الشیء» یعنی توقّف فعل المأمور به «علی ما یصلح» یعنی علی ترک الضدّ الذی یصلح «أن یتوقّف» ذلک الترک «علیه» أی علی فعل المأمور به «علی حالها لاستحالة أن یکون الشیء الصالح» أی فعل المأمور به الذی یصلح «لأن یکون موقوفاً علیه الشیء» أی ترک الضدّ «موقوفا علیه» ذلک الشیء یعنی علی ترک الضد ولا یخفی عدم استقامة العبارة، إلاّ إذا أُرید من الشیء الأوّل غیر ما أُرید من الثانی. ولکن لو کان یبدّل مکانهما، بأن کان یفسّر الشیء الأوّل بترک الضد والثانی بفعل المأمور به والضمیر فی «علیه» الثانی بترک الضد لکان أولی وأنسب وعلیه هکذا یکون معنی العبارة:

إنّ ترک الضد _ الّذی یکون المأمور به موقوفاً علیه _ یستحیل أن یکون موقوفاً علی فعل المأمور به من باب توقف عدم الضد وترکه علی وجود المانع، أی أنّ ترک الضدّ یستحیل أن یکون موقوفاً علیه (فعلاً) وموقوفاً (شأناً) فی نفس الوقت، ضرورة أن فعل المأمور به لو کان فی مرتبة یمکن أن یستند إلیه ترک الضدّ لما أمکن استناد المأمور به فعلاً إلیه أی إلی ترک الضدّ لما ذکر من لزوم کون المأمور به مقدّما ومتأخّرا عن ترک ضدّه رتبةً.

ص :169

الضد [1]، لو کان مجتمعاً مع وجود المقتضی، وإن کانت صادقة، إلاّ أن صدقهالا یقتضی کون الضد صالحاً لذلک، لعدم اقتضاء صدق الشرطیة صدق طرفیها، مساوق لمنع مانعیة الضد، وهو یوجب رفع التوقف رأساً من البین، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدین علی عدم الآخر، إلاّ توهم مانعیة الضد _ کما أشرنا إلیه _ وصلوحه لها.

إن قلت: التمانع بین الضدین کالنار علی المنار، بل کالشمس فی رابعة النهار، وکذا کون عدم المانع مما یتوقف علیه، مما لا یقبل الإنکار، فلیس ما ذکر إلاّ شبهة فی مقابل البدیهة.

قلت: التمانع بمعنی التنافی والتعاند الموجب لإستحالة الإجتماع مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه، إلاّ أنه لا یقتضی إلاّ امتناع الاجتماع، وعدم وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر، الذی هو بدیل وجوده المعاند له، فیکون فی مرتبته لا مقدّماً علیه ولو طبعاً، والمانع الذی یکون موقوفاً علیه الوجود هو ما کان ینافی ویزاحم المقتضی فی تأثیره، لا ما یُعاند الشیء ویزاحمه فی وجوده.

الشَرح:

[1] یعنی المنع عن صلاحیة کون المأمور به موقوفا علیه لترک ضدّه بدعوی امتناع استناد ترک الضدّ إلی فعل المأمور به، لأنّ استناد ترکه إلی فعل المأمور به علی تقدیر المقتضی له وإن کان صادقا بنحو القضیة الشرطیة إلاّ أنّ المقدّم فیها وهو تحقّق المقتضی للضدّ المزبور ممتنع، فإنّ الفاعل لایرید الجمع بین الضدّین ولا یتمکّن من الجمع بینهما لیتحقّق مع فعل المأمور به إرادة ضدّه، وصدق القضیة الشرطیة لا ینافی امتناع المقدّم المستلزم لامتناع التالی، فالمنع عن (الخ) مساوق للالتزام بارتفاع التوقّف من الجانبین، لأنّ المفروض مع وجود المقتضی لأحد الضدّین _ ولنفرضه فعل المأمور به _ لا یمکن أن یتحقّق المقتضی للضدّ الآخر حتی یمنع ذلک

ص :170

نعم العلة التامة لأحد الضدین ، ربما تکون مانعاً عن الآخر، ومزاحماً لمقتضیه فی تأثیره، مثلاً تکون شدة الشفقة علی الولد الغریق وکثرة المحبة له، تمنع عن أن یؤثر ما فی الأخ الغریق من المحبة والشفقة، لإرادة إنقاذه مع المزاحمة فینقذ به الولد دونه، فتأمل جیداً.

ومما ذکرنا ظهر أنه لا فرق بین الضد الموجود والمعدوم، فی أن عدمه الملائم للشیء المناقض لوجوده المعاند لذاک، لابد أن یجامع معه من غیر مقتضٍ لسبقه، بل عرفت ما یقتضی عدم سبقه.

الشَرح:

الضدّ الآخر عن تأثیر المقتضی الأوّل، فلایکون ترک الضدّ موقوفا علیه للمأمور به، کما أنّ ترک الضدّ غیر مستند إلی فعل المأمور به.

وبالجملة فعدم المانع یکون من أجزاء العلّة التامة للشیء. ولا یصغی إلی ما قیل: کیف یکون عدم المانع من أجزاء العلّة مع أنّ العدم لیس بمؤثّر.

إذ لا معنی لدخالة عدم المانع فی وجود الشیء إلاّ بأن یکون تأثیر المقتضی فیه فعلیا فی ظرف عدم المانع، وأمّا مع وجوده فلا یؤثر فی ذلک الشیء، فوصول النار إلی جسمٍ قابل للاحتراق یوجب احتراقه فی ظرف عدم الرطوبة الغالبة فی ذلک الجسم لا معها.

وعلیه فینحصر کون الشیء مانعا فیما یمکن اجتماعه مع مقتضی الشیء الآخر ویمنع بوجوده عن تأثیر ذلک المقتضی فی المنفعل، فالمانع الذی یکون عدمه فی رتبة سائر أجزاء العلّة وهی سابقة علی المعلول، هو هذا المانع، وهذا لا یتحقّق فی الفعلین المتضادّین لعدم إمکان اجتماع المقتضی لأحدهما مع المقتضی للآخر علی ما مرّ.

أقول: یرد علیه أوّلاً بأنّ قیاس الضدّین بالنقیضین فی کون أحد الضدّین مع

ص :171

.··· . ··· .

الشَرح:

بدیل الآخر فی مرتبةٍ واحدة وأنّ المنافرة بین النقیضین کما تقتضی تقدّم ارتفاع أحدهما علی ثبوت الآخر کذلک تقتضیه فی المتضادّین، قیاس مع الفارق حیث إنّ ارتفاع أحد النقیضین عین الآخر لا أنه شیء فی مرتبة الآخر والمدعی فی الضدّین أنّ عدم أحدهما فی رتبة وجود الآخر، وبالجملة فعدم المقدمیة فی ارتفاع أحد النقیضین إنّما هو لعدم الاثنینیة بین رفع أحدهما وثبوت الآخر بخلاف ترک أحد الضدّین الذین لهما ثالث، فلابدّ لعدم المقدمیة بین ترک أحدهما وفعل الآخر من التماس وجه آخر غیر العینیة إذ لیس ترک أحدهما عین وجود الآخر لمکان الثالث.

وثانیاً: أنّ ما ذکره فی ارادة شخصین من استناد أحد الضدین إلی فقد مقتضیه _ لأنّ التمکّن علی الفعل داخل فی الإرادة المقتضیة للفعل والمغلوب فی إرادته لا یتمکن علی الفعل _ ففیه ما لا یخفی، فإنّ المعتبر فی المقتضی التأثیر فی حصول الشیء فی نفسه ولا ینافیه عدم التأثیر مع سائر القواهر فانّ التأثیر الفعلی فی حصول الشیء شأن العلة التامة التی من أجزائها عدم المانع وبتعبیر آخر المغلوب فی إرادته متمکّن من تحریک الشیء لولا إسکان ضده فیکون إسکان الضد أو إرادة إسکانه مانعاً عن تحریک الشیء.

فتحصّل أنّ مقتضی ما تقدم هو أن لا یکون بین الضدین تمانع فیما لم یمکن حصول المقتضی لکل منهما کما فی إرادة شخص واحد، إذ لا یکون فی هذه الصورة حصول أحدهما مستنداً إلی عدم حصول الآخر، کما لا یکون عدم حصول الآخر مستنداً إلی حصول الأوّل. وامّا إذا لم یکن بین المقتضیین (بالکسر) تضاد بل کانا حاصلین وکان لأحدهما تأثیر فعلی دون الآخر ففی مثله یکون أقوی المقتضیین

ص :172

.··· . ··· .

الشَرح:

مانعاً عن تأثیر الآخر منهما کما فی إرادة شخصین مع کون ما أراده أحدهما مضاداً لما أراده الآخر ومن هذا القبیل ما ذکره قدس سره من أنّه ربّما تکون العلة التامة لأحد الضدین مانعاً عن تأثیر المقتضی للآخر کالشفقة الشدیدة علی الولد الغریق حیث إنّها تمنع عن تأثیر المحبة للأخ الغریق فی إرادة إنقاذه وإلاّ فیمکن أن یقال إنّ مجرّد المحبّة لا تکون مقتضیة لإرادة إنقاذ الأخ، وعلی ذلک فیمکن أن یقال إنّ تحریک ا لجسم من الغالب فی إرادته غیر مانع عن تحریک الآخر بل المانع هو إرادة الغالب فی إرادته، فیکون عدم تحریک المغلوب فی إرادته مستنداً إلی إرادة الغالب لا إلی نفس إسکانه.

وعلیه فالضدین لا یکون بینهما تمانع بالمعنی المصطلح فی أجزاء العلة التامة للشیء سواء کان لحاظ صدورهما عن شخص أو شخصین والمانعیة إنّما هی فی إرادة الشخص الغالب فی إرادته،وهذا لا یتصور فی لحاط الضدین بالإضافة إلی شخص واحد فإنّ تحقّق إرادة الضدّ من شخص واحد لا تجتمع مع إرادته الضدّ الآخر فإن لازم تحقّق الإرادتین، إرادة الجمع بین الضدین بخلاف إرادة شخصین فإنّ مقتضی إرادتهما تحقّق ما أراد کل منهما دون ما أراد الآخر.

إذن فالمانعیّة بین الضدین بمعناها اللغوی _ أی المنافرة بینهما وعدم إجتماع أحدهما إلاّ مع بدیل الآخر _ حاصلة بین الضدین ولکن هذا غیر المانع الذی یعدّ من أجزاء العلّة التامّة للشیء فانّ المعدود عدمه من أجزائها ما کان یجتمع مع المقتضی ویمنع عن تأثیره، کما فی النار المماسّة مع الجسم القابل للإحتراق حیث إنّ رطوبة ذلک الجسم تمنع عن تأثیر النار.

وأمّا إذا لم یکن من إجتماع المقتضیین (بالکسر) کما فی إرادة شخص لأحد

ص :173

.··· . ··· .

الشَرح:

الضدین حیث لا یمکن معها إرادته الضد الآخر،لما تقدم من أنّ مقتضاهما الجمع بین الضدین فلا یصح عدّ أحدهما مانعاً عن الآخر.

ثمّ إنّه قد یوجّه ما ذکره الماتن قدس سره فی أوّل کلامه فی الإستدلال علی نفی مقدمیّة ترک الضد لفعل المأمور به بقوله: (إنّ المعاندة والمنافرة بین الشیئین لا تقتضی إلاّ عدم إجتماعهما . . . إلخ)(1) بأنّه إشارة إلی قیاس المساواة التی اعتمد علیه المحقّق النائینی قدس سره (2) فی المقام وتقریره: أنّ الضد الخاص یکون فی مرتبة الفعل المأمور به کما هو مقتضی المضادة بینهما، وترک الضد الذی یلائم المأمور به یکون فی مرتبة فعل الضد کما هو الحال بین کل شیء ونقیضه فیکون ترک الضد فی رتبة فعل المأمور به بقیاس المساواة.

ولا یخفی ما فی التوجیه فإنّ الماتن قدس سره أضاف إلی الملائمة بین بدیل أحد الضدین مع الضد الآخر قوله: (من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدّم أحدهما علی الآخر) وهذا القید عبارة أخری عن نفی مقدمیّة ترک أحد الضدین لفعل الضد الآخر أو نفی مقدمیّة فعل الضد لترک الضد الآخر، وإلاّ فقیاس المساواة فی الرتبة باطل من أصله، حیث یمکن أن یتقدم أحد الشیئین علی الآخر فی الرتبة لارتباطهما بنحو العلیّة والمعلولیّة ولا یحصل التأخّر فی الرتبة بین ما یساوی مرتبة المتأخر وما یساوی مرتبة المتقدم کما فی عدم المعلول المساوی للمعلول فی الرتبة وعدم العلة المساوی للعلة فی الرتبة حیث لا یتأخر عدم المعلول عن عدم العلة بل هما فی

ص :174


1- (1) الکفایة: 130.
2- (2) أجود التقریرات: 1 / 259.

.··· . ··· .

الشَرح:

مرتبة واحدة لعدم توقف عدم شیء علی عدم شیء آخر.

وعلیه فیمکن أن یکون أحد الضدین مع الضد الآخر فی مرتبة واحدة ولا یکون ترک أحدهما مع فعل الآخر فی رتبة واحدة وبتعبیر آخر الملائمة بین الأمرین قد تقتضی تقدم أحدهما علی الآخر کالملائمة بین العلة والمعلول وقد لا تقتضی کالملائمة بین عدم العلة وعدم المعلول، فالملائمة لا بنفسها تکون دلیلاً علی المساواة فیالرتبة ولا عدمها یقتضی المساواة أیضاً کما فی عدم ملائمة المانع مع الممنوع.

وممّا ذکرنا من عدم توقف فعل أحد الضدین علی ترک الآخر ولا توقف عدم أحدهما علی فعل الآخر ظهر بطلان ما نسب إلی العضدی والحاجبی من توقف فعل أحد الضدین علی ترک الآخر وتوقف ترک الآخر علی فعله، کما ظهر بطلان شبهة الکعبیّ بانتفاء المباح استناداً إلی أنّ ترک المحرمات یتوقف علی الأفعال المباحة فتکون فعلها واجبة.

ثمّ إنّ هذا کلّه بناءاً علی مسلک الماتن قدس سره وغیره من توقف الأفعال الإختیاریة کسائر الممکنات، علی العلة التامة وأنّ إرادة الفعل علّة له.

وأمّا بناءاً علی ما سلکناه فی بحث الطلب والإرادة من خروج الأفعال الإختیاریة عن تلک القاعدة حیث إنّ قدرة الفاعل بنفسها کافیة فی صدور الفعل عنه وأنّ ما یعدّ من مبادئ الإرادة لا یکون إلاّ مرجّحاً عند الفاعل فی إختیاره وإعمال قدرته فی أحد طرفی الشیء، فلا تکون الإرادة علّة تکوینیّة للفعل الإختیاری علی ما ذکروه بل هی مرجح لاختیار الفعل وصرف القدرة لایجاده، کما لا معنی لکون فعل الضد

ص :175

.··· . ··· .

الشَرح:

مانعاً من المأمور به، لأنّ صرف قدرته فی المأمور به، انّما هو للمرجّح فیه دون ضدّه.

وبیان ذلک: أنّ المأمور به مع ضده، إذا لم یکن لهما ثالث کالحرکة والسکون، فاختیار المکلف أحدهما عین اختیار ترک الآخر وإذا کان لهما ثالث فالفاعل یتمکن من الإتیان بواحد منها دون الجمع بینها فی الوجود ومع اختیاره الإتیان بواحد معین لمرجّح فیه یکون غیره متروکاً لا محالة من غیر أن یکون فی البین ملاک المقدمیّة أیضاً، حیث إنّ ملاک المقدمیّة فی الأفعال الإختیاریة إمّا کون فعله قیداً للمأمور به کما فی شرائط المأمور به نحو تقیّد الصلاة بالوضوء، أو کون ترکه کذلک کما فی موانع المأمور به نحو تقیّدها بترک القهقهة والبکاء لأمر الدنیا، أو کون فعله موجباً لفعلیة القدرة علی الفعل الآخر کالمسیر بالاضافة إلی الإتیان بالمناسک، والمفروض أنّ ترک الضدّ لا هو مأخوذ قیداً فی متعلّق الأمر بالضدّ الآخر ولا أنّه ممّا یحصل به التمکن الفعلی علی المأمور به بل هو ملازم لفعل الضد، فإذا صرف المکلف قدرته المساوی نسبتها بالاضافة إلی الضدین من قبل، فی واحد معین لمرجح فیه کأمر الشارع به یصیر ترک الآخر ملازماً له لا محالة.

نعم لو کان ترک الفعل قیداً للمأمور به کأخذ ترک القهقهة مثلاً قیداً فی الصلاة وقلنا بالملازمة بین وجوب الصلاة ووجوب مقدماتها فلا بأس بالقول بأنّ ایجاب الصلاه المتقیدة بترک القهقهة، یقتضی إیجاب ترک القهقهة غیریّاً، ولو کان الأمر بالشیء نهیاً عن ضده العام لحرمت القهقهة غیریّاً عند فعل الصلاة وهذه المضادة بین الصلاة والقهقهة حصلت من أخذ التقیید بترکها فی متعلق الأمر بالصلاة علی ما تقدم وإلاّ لم یکن بینهما أیّ مضادّة ذاتاً.

ص :176

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا لو کان بین المأمور به والفعل الآخر مضادة ذاتاً لم یمکن تقیید المأمور به بترکه لأنّه یصبح لغواً محضاً إذ إتیان المأمور به یستلزم ترک ضدّه قهراً کما لا یخفی. ومن هنا لا یمکن تقیّد المأمور به بوجود شیءٍ وبعدم ضده أیضاً بأن یکون وجوده شرطاً للمأمور به، کالطهارة من الحدث حیث إنّها شرط للصلاة، ویکون ضد ذلک الشیء مانعاً عن المأمور به بأن یکون الحدث مانعاً عن الصلاة، لأنّ أحد التقییدین لغو محض.

وبتعبیر آخر إذا فرض أنّ متعلق الأمر بالصلاة مقید بالطهارة، فلا یمکن معه تقید آخر بأن یکون متعلق الأمر بها مقیّداً بعدم الحدث حیث یصبح أحد التقیدین لغواً محضاً بل لابدّ امّا من تقیید الصلاة بالطهارة أو بعدم الحدث فإن کان التقید بالنحو الأوّل تکون الطهارة شرطاً وإن کان بالنحو الثانی یکون الحدث مانعاً.

ولذا قد یقال إنّه یشکل الأمر فیما یدلّ علی اشتراط الصلاة بالطهارة کقوله «إذا قُمْتُمْ إلی الصّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»(1) الآیة وقوله علیه السلام فی مثل صحیحة زرارة(2) «لا صلاة إلاّ بطهور» یعنی بطهارة، مع ما ورد فی الروایات(3) من أنّ الحدث یقطع الصلاة ووجه الإشکال هو أنّ ظاهر الأوّل شرطیة الطهارة وظاهر الثانی مانعیة الحدث.

ولکن الإشکال ضعیف فانّ الصلاة إسم لأجزائها، والآنات المتخللة بین

ص :177


1- (1) سورة المائدة: الآیة 6.
2- (2) الوسائل: ج 1، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.
3- (3) الوسائل: ج 4، الباب 1 من أبواب قاطع الصلاة، الحدیث 1.

.··· . ··· .

الشَرح:

أجزائها غیر داخلة فی معنی الصلاة وظاهر ما ورد فی اعتبار الطهارة فی الصلاة اعتبارها فی أجزائها وعلیه فلو لم یکن فی البین ما یدلّ علی قاطعیة الحدث لقلنا إنّ من صلی بعض صلاته وأحدث فی الأثناء یجوز له تجدید الطهارة والإتیان ببقیة الصلاة بعد تجدیدها حیث إنّ الصلاة حصلت مع الطهارة، ولکن ما ورد فی قاطعیة الحدث یدلّ علی أنّ هذا التجدید لا یفید فی تصحیح الصلاة المزبورة وأنّ الأجزاء السابقة تبطل بالحدث فی الأثناء ولذا عبّر عن الحدث فی الأثناء بالقاطع، فالطهارة شرط فی الأجزاء، وعدم الحدث معتبر فی الآنات المتخلّلة فلا منافاة فی البین ولا لغویة کما لا یخفی.

ثم إنّه قد یقال إنّ ترک أحد الضدین متقدم علی فعل الضدّ الآخر بالطبع فانّ الملاک فی التقدم بالطبع أن لا یکون للمتأخّر وجود إلاّ مع المتقدم ولا عکس بأن یمکن تحقّق المتقدم ولا یکون للمتأخر حصول کما فی تقدّم الجزء علی الکلّ وتقدّم الواحد علی الإثنین، وفیما نحن فیه یمکن ترک أحد الضدین من غیر أن یوجد الضدّ الآخر، لتمکّن المکلّف من ترکهما کما فی الضدین الذین لهما ثالث، ولکن لا یمکن وجود الضد الآخر إلاّ مع ترک ضده وعلی ذلک فلا یکون وجود أحد الضدین متقدماً علی الآخر بالطبع لامکان عدمهما ولکن عدم أحدهما یتقدم علی وجود الآخر بالطبع.

أقول: مع أنّ ملاک تقدم شیء علی الآخر بالطبع لیس مجرد ما ذکر وإلاّ لزم التفصیل بین ضدین لهما ثالث، وما لیس لهما ثالث کالحرکة والسکون، بل ملاکه کون أحد الشیئین من علل قوام الآخر کما فی الجزء والکل والواحد والاثنین، أنّ مجرّد التقدّم الطبعی لا یکون ملاکاً لثبوت الوجوب الغیری للمتقدّم ولذا تقدّم فی بحث

ص :178

فانقدح بذلک ما فی تفصیل بعض الأعلام [1]، حیث قال بالتوقف علی رفع الضد الموجود، وعدم التوقف علی عدم الضد المعدوم، فتأمل فی أطراف ما ذکرناه، فإنه دقیق وبذلک حقیق.

فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمیة.

الشَرح:

المقدمة أنّ تقدّم الجزء علی الکلّ وإن کان بالطبع إلاّ أنّه لا یکون مقدّمة للکلّ لیثبت له الوجوب الغیری بل الملاک فی المقدمیّة التی توجب تعلّق الوجوب الغیری بمعنونها أحد الأمرین المتقدمین(1) وشیء منهما غیر ثابت بین المأمور به وضده الخاصّ المفروض فی المقام ولعلّ هذا هو مراد الماتن رحمه الله من أنّ المضادة لا تقتضی إلاّ امتناع الإجتماع وعدم وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر الذی هو بدیل وجوده والمناقض لوجوده، فیکون فی مرتبته أی یکون عدم أحدهما فی مرتبة وجود الآخر لا مقدماً علی وجود الآخر ولو طبعاً.

التفصیل بین الضد الموجود والمعدوم

[1] إشارة إلی بطلان ما نسب إلی المحقق الخونساری قدس سره من التفصیل بین الضد الموجود للمأمور به والضد المعدوم فالتوقف انّما هو فی الضد الموجود دون الضد المعدوم، إذ الضد الموجود مانع من وجود المأمور به وعدمه من أجزاء العلة فیکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ الموجود وإزالته فانّه ذکر أنّ المحلّ إذا کان مشغولاً بأحد الضدین فرفعه عن ذلک المحل مقدمة لإیجاد الضد الآخر فیه کما إذا کان الجسم أسود فإن تبییضه یتوقف علی رفع ذلک السواد بخلاف ما إذا لم یکن

ص :179


1- (1) تقدّم ذکرهما فی الصفحة 177 وهما کون الفعل أو الترک قیداً للمأمور به أو کون فعل الشیء موجباً لفعلیة القدرة علی الفعل الآخر.

.··· . ··· .

الشَرح:

مشغولاً بشیء منهما فإنّ عدم أحدهما مع الضد الآخر فی رتبة واحدة ولیس العدم مقدمة.

وذکر الماتن قدس سره فی الرد علیه بأنّ عدم أحد الضدین بقاءً مع الضد الآخر _ أی المأمور به _ فی رتبة واحدة کما کان عدم أحدهما من الأول مع الفعل المأمور به فی مرتبة واحدة علی ما تقدم فلا توقّف مطلقاً.

وبتعبیر آخر عدم الضد الذی ملائم للشیء _ یعنی المأمور به _ ومناقض لوجود الضد الذی یعاند ذلک الشیء _ یعنی المأمور به _ لابدّ من أن یجتمع مع المأمور به من غیر أن یکون مقتض لسبق ذلک العدم بل تقدم أنّ فی عدم الضد ما یقتضی عدم سبقه علی المأمور به.

وربّما یقال إنّ التفصیل بین الضد الموجود والمعدوم مبنیّ علی عدم حاجة الممکن فی البقاء إلی العلّة، فانّه بناءاً علیه یکون الضد الحادث المستغنی عن العلّة فی بقائه، مانعاً عن حدوث ضدّه _ یعنی المأمور به _ فیتوقف حدوث ضده علی رفع ذلک الحادث الباقی لا محالة.

وأمّا إذا کان الحادث محتاجاً فی بقائه إلی العلة أیضاً فیکون عدم المأمور به مستنداً إلی عدم مقتضیه مع فرض العلّة لبقاء الضد الحادث.

أقول: إذا کان التضاد بین ایجاد الفعلین فلا یتمکن الفاعل المختار من الجمع بینهما ولا ریب فی أنّ بقاء أحدهما کحدوثه فی حاجته إلی الفاعل، ومع صرف قدرته فی أحدهما یکون الآخر متروکاً من غیر أن یکون فرق بین ترکه الإبتدائی أو ترکه الإستمراری علی ما ذکرنا فی تقریر عبارة الماتن قدس سره .

وأمّا إذا کان التضاد بین الفعلین لکون الأثر الحاصل بعد فعل أحدهما مانعاً عن

ص :180

وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمین فی الوجود، فی الحکم، فغایته أن لا یکون أحدهما فعلاً محکوماً بغیر ما حکم به الآخر [1]، لا أن یکون محکوماً الشَرح:

تحقّق المأمور به کما إذا أمره المولی بحفر موضع وقد وضع المکلف أو غیره حجراً کبیراً فی ذلک الموضع بحیث لا یمکن حفره إلاّ برفع ذلک الحجر ففی مثل ذلک لا یکون ترک الوضع مقدمة لفعل المأمور به ولکن بعد وضعه یکون رفعه عن الموضع مقدّمة للحفر، بلا فرق بین القول بأنّ بقاء الحجر فی ذلک الموضع یحتاج إلی علّة أو قیل باستغنائه فی البقاء فیه عن العلة حیث إنّ قدرة المکلف علی مباشرة الحفر موقوف علی رفع الحجر عن ذلک الموضع وهذا ملاک المقدمیّة علی ما تقدّم.

وعلیه فإن أراد المحقّق الخونساری قدس سره کون رفع الضد مقدّمة لفعل المأمور به فی نظائر ذلک فلابدّ من الإلتزام به ولکن هذا لیس من باب مانعیة الفعل بقاءً بل من جهة مانعیة أثره.

وإن أراد أنّ فعل الضد بمعناه المصدری مانع عن المأمور به، وترکه مقدمة لفعل المأمور به فقد تقدم عدم الفرق بین ترکه حدوثاً أو ترکه بقاءً فی أنّ الفاعل یتمکن من صرف قدرته فی أحد الأمرین امّا الإستمرار فی الفعل الذی شرع أو الإتیان بالمأمور به من غیر أن یکون ترک الإستمرار مقدمة لفعل المأمور به أو ترک المأمور به مقدمة للاستمرار علی فعل الضد.

التلازم بین الضدین

[1] هذا هو الوجه الثانی للقول بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاصّ ولعلّ نظر المستدل «من عدم جواز اختلافهما فی الحکم» إلی أنّ اختلاف المتلازمین فی الحکم یستلزم التکلیف بما لا یطاق أو عدم إمکان الجمع بین مقتضی

ص :181

بحکمه.

وعدم خلو الواقعة عن الحکم، فهو إنما یکون بحسب الحکم الواقعی لا الفعلی، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أیضاً، بل علی ما هو علیه، لولا الإبتلاء بالمضادة للواجب الفعلی، من الحکم الواقعی.

الشَرح:

المأمور به مع مقتضی ضده، مثال الأوّل کما إذا أمر الخراسانی باستقبال القبلة فی صلاته ونهی عن استدباره الجدی فیها، فانّ التکلیفین من قبیل التکلیف بما لا یطاق حیث إنّ استقبال القبلة فی خراسان یلازم استدبار الجدی والثانی کما إذا أمره بالحج وأباح أضداده.

والجواب عن ذلک: أنّ غایة ما ذکر هو عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم ولکن لا یلزم منه اتفاقهما فیه فیجوز أن یکون الضدّ الخاصّ للمأمور به غیر محکومٍ بالحرمة ولا بغیرها من الأحکام.

لا یقال: کیف یمکن ذلک مع الإلتزام بعدم خلوّ الواقعة عن الحکم، فإنّ الماتن قدس سره أجاب: بأنّ الواقعة لا تخلو عن الحکم الواقعی الإنشائی، ولکن یمکن خلوّها عن الحکم الفعلی، وبتعبیر آخر ترتفع الفعلیة عن الحکم الواقعی بالابتلاء بالمضادة للمأمور به فیکون الضد محکوماً بالحکم الذی کان فعلیاً لولا الإبتلاء بها، من غیر ثبوت حکم فعلی آخر عند المضادة.

أقول: إذا کان الضدان ممّا لهما ثالث فثبوت الوجوب لأحدهما لا یمتنع عن الحکم بالآخر بالاباحة أو الإستحباب أو الکراهة حیث إنّ کل واحد من الأحکام أمر اعتباری مستقلّ یحتاج فی اعتباره إلی ملاکه الخاص وغرض خاص لئلاّ یکون اعتباره بلا ملاک أو من اللغو وعلیه فیمکن مع الأمر بأحد الضدین ثبوت الاباحة بالمعنی الأخصّ للضد الآخر إذا لم یکن لهما ثالث، ولسائر الأضداد إذا کان لهما

ص :182

.··· . ··· .

الشَرح:

ثالث، لعدم ثبوت ملاک ملزم فی فعله أو ترکه، ولئلاّ یتوهّم المکلّف لزوم الإتیان به علی تقدیر ترک الواجب، أو لزوم ترکه أیضاً فیما إذا ترک الواجب أو یتوهّم استحبابه أو کراهته وبالجملة مع وجود أحد الضدین لا یمکن إیجاب الآخر أیضاً مطلقاً فانّ إیجابهما کذلک من التکلیف بما لا یطاق.

نعم یمکن ایجاب الآخر مترتّباً إذا کان لهما ثالث کما یأتی.

وأمّا إذا لم یکن لهما ثالث فلا یجری فیه الترتّب کما یأتی، فانّ الأمر به علی تقدیر ترک الضد الواجب من قبیل الأمر بتحصیل الحاصل، ولکن یمکن مع ایجاب أحدهما إباحة الآخر لئلاّ یحتمل المکلف تعدد عقابه علی ترک الواجب أو یحتمل ملاکاً ملزماً فیه أیضاً وبالجملة اختلاف المتلازمین فی حکمهما أمر ممکن لا محذور فیه.

ثمّ إنّ قول المستدل: «المتلازمان لا یختلفان فی الحکم» یستلزم ثبوت الحکم بلا ملاک علی تقدیر کون مراده عدم الإختلاف فی الحکم النفسی وإن کان مراده الحکم الغیری فلا یمکن المساعدة علیه أیضاً فانّ مع ثبوت التکلیف فی الواجب واستقلال العقل بموافقته لا حاجة إلی جعل الأمر الغیری فی لازمه مع أنّه یستلزم المحذور فی بعض الفروض وهو جواز ترک الواجب فیما إذا ابتلی المکلف بالواجب الأهم وترکه عصیاناً فانّ الأمر الغیری بترک ضده الخاص یمنع من تعلق الأمر بذلک الضد علی نحو الترتب الذی مضی فی بحث المقدمة من امکان الأمر به علی نحو الترتب مع الحرمة الغیریة للضد.

وممّا ذکرنا یظهر فساد الشبهة المنسوبة إلی الکعبی بانتفاء المباح، فإنّه إن أراد بانتفائه کون ترک الضد مقدمة لفعل الواجب فقد تقدم عدم مقدمیة ترک الضد وإن

ص :183

.··· . ··· .

الشَرح:

أراد أنّ المتلازمین لا یختلفان فی الحکم فقد ذکرنا اختلافهما وان اتفاقهما فی الحکم بلا ملاک وبلا موجب.

وأمّا ما ذکره الماتن قدس سره من عدم خلوّ الوقائع عن الأحکام الإنشائیة فقد بیّنا أنّ الحکم الإنشائی بالمعنی الذی ذکره لیس بحکم وتکلیف أصلاً مع أنّ معتبرة عمر بن حنظلة عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث قال: . . . قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلک الخبر(1)، ظاهرة فی انحصار الأفعال فی المحلّل والمحرم فعلاً وجعلاً کما لا یخفی.

وذکر المحقق النائینی قدس سره أنّه علی تقدیر الإلتزام بعدم إمکان اختلاف المتلازمین فی الحکم یتعیّن التفصیل بین ما کان المأمور به مع ضدّه الخاصّ من الضدین الذین لیس لهما ثالث کالحرکة والسکون فیقتضی الأمر بأحدهما النهی عن الآخر باللزوم البیّن بمعناه الأعم، یعنی إذا لوحظ المأمور به مع ضده یحکم بأنّ الثانی منهی عنه، وبین ما إذا کان لهما ثالث فانّه لا یقتضی النهی عن ضده الخاصّ أصلاً لا النهی عن الجامع بین الأضداد الخاصة ولا عن کل واحد من الأضداد بخصوصه، وذکر فی وجه هذا التفصیل، أنّ وجود الضد فی الأوّل یلازم ترک المأمور به کما أنّ وجود المأمور به یلازم ترکه، مثلاً الأمر بالحرکة وإن لم یکن عین النهی عن السکون ولا جزئه ولا لازمه باللزوم البین بمعناه الأخصّ وأن یکون الأمر بالحرکة موجباً للإنتقال إلی النهی عن السکون فإنّ الأمر بالحرکة لا یوجب الإنتقال إلی السکون دائماً فضلاً عن الإنتقال إلی النهی عنه، إلاّ أنّه یقتضیه بالمعنی الأعمّ، وهذا

ص :184


1- (1) الوسائل:18 / 114، باب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 9.

.··· . ··· .

الشَرح:

بخلاف ما إذا کان المأمور به مع ضدّه الخاص ممّا لهما ثالث، فإنّ عنوان أحد الأضداد الجامع بین الأضداد الخاصة للمأمور به عنوان انتزاعی یشیر إلی وجودات الأضداد التی هی منشأ إنتزاعه ولا جامع متأصل بینها لیمکن تعلّق النهی به ولا یتعلق النهی بکل واحد من الأضداد حیث إنّ ملاک تعلّق النهی بالضد هو کون وجوده ملازماً لترک المأمور به وترکه ملازماً لوجوده وهذا الملاک غیر حاصل فیما کان لهما ثالث لإمکان ترکهما إلی ذلک الثالث.

ثمّ أردف قدس سره هذا الکلام بقوله: إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العام _ أی النقیض للمأمور به _ باللزوم البیّن بمعناه الأخص وکذا فیما کان التقابل بین المأمور به وضدّه من تقابل العدم والملکة کما فی التکلّم فانّ الامر به نهی عن السکوت باللزوم البین بمعناه الأخصّ بناءاً علی أنّ السکوت عدم التکلم ممّن هو قابل للتکلّم فانّ مجرّد اعتبار القابلیّة للوجود فی مورد العدم لا یوجب افتراقه عن الضدّ العامّ.

والحاصل أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص باللزوم البیّن بالمعنی الأعم فیما لم یکن لهما ثالث ولا یقتضیه فیما کان لهما ثالث کما أنّه یقتضی النهی عن ضده العام أو ما یکون التقابل بینه وبین المأمور به بالعدم والملکة باللزوم البیّن بمعناه الأخص(1).

أقول: یرد علیه أوّلاً، أنّه لو کان الامر بالحرکة مقتضیاً للنهی عن السکون باللزوم البیّن بمعناه الأعمّ بمعنی حکم العقل بأنّ الآمر بالحرکة لا یرضی بالسکون فیما إذا

ص :185


1- (1) أجود التقریرات: 1 / 252، و 2 / 8، ط مؤسسة صاحب الأمر (عج).

.··· . ··· .

الشَرح:

التفت إلی السکون فهذا یجری بعینه حتی فی الضدین الذین لهما ثالث، لأنّ الملاک فی عدم الرضا بالثانی هو کونه ملازماً لترک الأوّل وهذا الملاک موجود فی الضدین مطلقاً وکون ترک المأمور به ملازماً لفعل الضد المزبور فی الأوّل دون الثانی لا یرتبط بملاک عدم رضا الآمر غایة الأمر یکون الإقتضاء فی الضدین الذین لهما ثالث بالاضافة إلی أحد الأضداد علی نحو صرف الوجود لا إلی ضد خاصّ علی التعیین، وکون الجامع بین الاضداد انتزاعیاً لا یمنع عن تعلّق النهی به واقتضائه ترک منشأ انتزاعه کما یأتی بیانه فی الواجب التخییری.

نعم الصحیح کما تقدم عدم الإقتضاء أصلاً فانّ المجعول علی المکلّف تکلیف واحد والمجعول علیه هو الفعل وهو إیجاد متعلق التکلیف ولا یوجب ذلک تحریم ترکه فضلاً عن تحریم ما یلازم مع الترک من الضدّ الخاص کما نتعرض لذلک فی بیان عدم اقتضاء الأمر بشیء للنهی عن ضده العام.

وثانیاً، التفرقة بین الضد الخاص والمأمور به إذا لم یکن لهما ثالث وبین الضد العام إذا کان لهما ثالث سواء کان التقابل بینه وبین المأمور به بالسلب والإیجاب أو بالعدم والملکة، بأنّ الإقتضاء فی الأوّل بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأعم وفی الثانی بنحو البیّن بالمعنی الأخصّ لا یمکن المساعدة علیها، حیث إنّه قد یامر المولی عبده بفعل ولا یتبادر إلی ذهنه الترک أبداً لینهی عنه حتی بعد الامر ولحاظه کما هو ظاهر.

ص :186

الأمر الثالث: إنه قیل بدلالة الأمر بالشیء بالتضمن علی النهی عن الضد العام[1]، بمعنی الترک، حیث إنه یدلّ علی الوجوب المرکب من طلب الفعل والمنع عن الترک. والتحقیق إنه لا یکون الوجوب إلاّ طلباً بسیطاً، ومرتبة وحیدة أکیدة من الطلب، لا مرکباً من طلبین، نعم فی مقام تحدید تلک المرتبة وتعیینها، ربما یقال: الوجوب یکون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترک، ویتخیل منه أنه یذکر له حداً، فالمنع عن الترک لیس من أجزاء الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنی أنه لو التفت الآمر إلی الترک لما کان راضیاً به لا محالة، وکان یبغضه البتة.

الشَرح:

الضد العام

[1] قیل إنّ الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع المنع من ترکه، فما یدلّ علی وجوب الفعل بالمطابقة یدلّ علی النهی عن ترکه بالتضمّن.

وأورد علیه کما عن الماتن قدس سره بأنّ المنع من الترک غیر داخل فی معنی وجوب الفعل بل الوجوب کالإستحباب لیس إلاّ طلب الفعل، غایة الأمر یکون الطلب فی موارد الإستحباب بمرتبة بحیث لا یلزم المنع من ترک الفعل، بخلاف الوجوب فانّه مرتبة من الطلب یلزمه المنع من ترکه، والمراد من المنع من الترک فی المقام، کون طلب الفعل بحیث لو التفت الآمر إلی ترکه لا یرضی به بل یبغضه لا محالة فیکون اللزوم بیّنا بالمعنی الأعم وحیث إنّ لازم الشیء خارج عنه فلا یصحّ القول بأن الأمر بالشیء ووجوبه عین النهی عن ضدّه العام بل یکون وجوبه مقتضیاً للمنع من الترک بنحو اللزوم.

نعم یمکن أن یطلق علی الأمر بالشیء أنّه نهی عن ضده العام من باب المجاز

ص :187

ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوی العینیة، ضرورة أن اللزوم یقتضی الإثنینیة، لا الإتحاد والعینیة.

نعم لا بأس بها، بأن یکون المراد بها أنه یکون هناک طلب واحد، وهو کما یکون حقیقة منسوباً إلی الوجود وبعثاً إلیه، کذلک یصح أن ینسب إلی الترک بالعرض والمجاز ویکون زجراً وردعاً عنه، فافهم.

الشَرح:

فی الإسناد بأن یکون الطلب المضاف إلی الفعل مضافاً إلی ترک ترک ذلک الفعل بالعرض والمجاز.

أقول: الصحیح أنّ وجوب الفعل لا یقتضی النهی عن ضده العام لا بنحو اللزوم البین بمعناه الأخص کما تقدم عن المحقّق النائینی قدس سره ، ولا بمعناه الأعم کما هو ظاهر الماتن قدس سره وذلک لأنّ طلب الفعل والبعث إلیه المعبر عنه بالوجوب، لا یکون معه ترخیص ورضا بالترک، لا أنّه یکون معه المنع من ترکه، سواء کان المنع من الترک بالزجر عنه، أو طلب ترک ترک الفعل، أو حتی بغض ترکه فانّ المبغوض فی موارد ایجاب الفعل لو کان فهو نفس المکلف التارک لذلک الفعل، لا ترک الفعل، فإنّ المفسدة فی الترک غیر موجودة لیکون الترک مبغوضاً، بخلاف موارد تحریم الفعل فانّه ناش من المفسدة فیه،توجب کون الفعل مبغوضاً للمولی.

والحاصل أنّ الثابت فی موارد وجوب الفعل محبوبیّة ذلک الفعل، لا مبغوضیة الترک، ولهذا لو کانت محبوبیّته فی نفس الترک من غیر فساد فی الفعل فالنهی لا یتعلّق بالفعل حقیقة، بل هو من إیجاب الترک نظیر نهی الصائم عن الأکل والشرب وغیرهما من المفطرات إذ مع وجوب الترک _ لما فیه من المصلحة الملزمة _ یکون النهی حقیقة عن الفعل بلا ملاک کما أنّ الأمر بالترک مع وجود الفساد فی الفعل، یکون کذلک.

ص :188

الأمر الرابع: تظهر الثمرة فی أن نتیجة المسألة، وهی النهی عن الضد بناءً علی الإقتضاء، بضمیمة أن النهی فی العبادات یقتضی الفساد] 1]، ینتج فساده إذا کان عبادة.

الشَرح:

والذی یکشف عن عدم الملازمة بین ایجاب الفعل والنهی عن ترکه تصریح الآمر بأنّه لیس له حکم إلاّ طلب الفعل فالطلب الموصوف بالإطلاق هو الوجوب بخلاف الإستحباب فانّ الطلب فیه یوصف بانّ معه ترخیص فی الترک.

وبالجملة النهی النفسی عن الترک یحتاج إلی مفسدة فیه والمفروض وجود المصلحة الملزمة فی الفعل، والنهی الغیری عن الترک یتوقف علی المقدمیّة والتوقّف، ولا مقدمیّة فی رفع الترک حیث إنّ رفع الترک عین الفعل خارجاً.

وإن شئت قلت عدم الرضا بالترک مع طلب الفعل لمصلحة ملزمة فیه، لا یقتضی مبغوضیة الترک والمنع منه.

ثمرة البحث عن الضد الخاص

[1] قد أنکر بعض الأعیان الثمرة وبنی علی صحة العبادة التی هی ضد خاصّ للمأمور به حتی بناءاً علی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضده الخاصّ، بدعوی أنّ هذا النهی علی تقدیره غیری والنهی الغیری غیر ناش عن مفسدة فی متعلّقة بل هو باق علی ما کان علیه قبل النهی عنه من المصلحة والملاک وسیأتی أنّ المصلحة والملاک فی العمل یکفی فی صحة وقوعه عبادة، ویقابل هذا القول ما حکی عن الشیخ البهائی قدس سره من حکمه ببطلان العبادة التی هی ضد للمأمور به حتی علی القول بعدم الإقتضاء، وذلک فإن الأمر بفعل وإن لم یقتض النهی عن ضده الخاص إلاّ أنّه یقتضی عدم الأمر به لامتناع الأمر بالضدین معاً وعدم الأمر بعبادة کاف للحکم

ص :189

وعن البهائی رحمه الله أنه أنکر الثمرة، بدعوی أنه لا یحتاج فی استنتاج الفساد إلی النهی عن الضد، بل یکفی عدم الأمر به، لإحتیاج العبادة إلی الأمر.

وفیه: إنه یکفی مجرد الرجحان والمحبوبیة للمولی، کی یصح أن یتقرب به منه، کما لا یخفی، والضد بناءً علی عدم حرمته یکون کذلک، فإن المزاحمة علی هذا لا یوجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلق به فعلاً، مع بقائه علی ما هو علیه من ملاکه من المصلحة، کما هو مذهب العدلیة، أو غیرها أیّ شیء کان، کما هو مذهب الأشاعرة، وعدم حدوث ما یوجب مبغوضیته وخروجه عن قابلیة التقرب به کما حدث، بناءً علی الإقتضاء.

الشَرح:

ببطلانها.

وقد التزم الماتن قدس سره بالثمرة وبنی علی صحة العبادة التی هی ضد للمأمور به علی القول بعدم اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه الخاص إذ بناءاً علیه تبقی العبادة بعد الأمر بضدها علی ما کانت علیه من المحبوبیة والملاک ویکفی فی عبادیّة العمل کونه ذا ملاک، ویحصل التقرب المعتبر فی العبادة بالإتیان بداعی استیفاء ذلک الملاک.

وهذا بخلاف القول بالإقتضاء فانّه بناءاً علیه تخرج العبادة عن قابلیّة التقرب لفقد الملاک بحدوث المبغوضیة فیها ولو کانت غیریّة.

ثمّ إنّه لمّا کان لقائل ان یقول _ بناءً علی مسلک الأشعری المنکر للمصالح والمفاسد فی متعلقات الأحکام _ لابدّ من الإلتزام بفساد العبادة التی هی ضد للمأمور به ولو علی القول بعدم الإقتضاء لعدم الملاک علی هذا المسلک لیوجب صحتها عبادة.

أشار إلی دفعه بقوله: «أو غیرها أی شیء کان الخ» یعنی بناءاً علی عدم

ص :190

.··· . ··· .

الشَرح:

الإقتضاء فلابدّ من الإلتزام بالصحة علی مسلک الأشعری أیضاً فانّ العبادة بناءاً علی الإقتضاء باقیة علی ما کانت علیه من الملاک أیّ شیء کان ولو لم یکن من سنخ المصلحة فی الفعل، فیکون العمل بداعی ذلک الملاک کافیاً فی حصول التقرب المعتبر فی العبادة.

أقول: لا یخفی أنّه _ بناءاً علی کون الامر غیر تابع لمصلحة فی نفس الأمر ولا فی متعلّقه کما هو رأی الأشعری وأنّ الحسن ما أمر به الشارع _ لم یکن وراء الأمر بالفعل عبادةً، شیء یوجب قصده صحتها، ومع فرض عدم الأمر بفعل ولو لاقتضاء الأمر بضدّه لا یکون الإتیان به بنحو العبادة والقرب المعتبر فیها ممکناً حیث إنّ المقرّب هو قصد الأمر، والمفروض أنّه لیس وراء الأمر بالفعل مصحّح آخر للقرب، والحاصل أنّه لو أحرز أنّ العبادة التی هی ضد للمأمور به واجدة لملاکها الملزم حتی مع الأمر بضدّها، صحّ التقرب بها بالإتیان بها بداعی کونها ذا ملاک ملزم ولو قیل بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاصّ، لأنّ النهی عن الضد غیریّ والنهی الغیری کما ذکرنا لا یوجب تغیّر العبادة عما هی علیه من المحبوبیّة النفسیّة ولا یوجب عدم صحة التقرب من فاعلها.

وما یظهر من کلام الماتن قدس سره من أنّ النهی الغیری یوجب مبغوضیة متعلّقه فلا یصلح للتقرب به، لا یمکن المساعدة علیه فانّ النهی الغیری معناه أنّ النهی أنشأ لأجل الإتیان بضدّه المأمور به فقط لا لذهاب المحبوبیّة الذاتیة عن متعلق النهی الغیری.

نعم قد تقدم سابقاً أنّ الحکم بالصحة ووقوع الفعل عبادة حتی مع النهی

ص :191

.··· . ··· .

الشَرح:

الغیری، یتوقف علی إحراز الملاک الملزم فیه حتی مع ذلک النهی وحیث إنّ الکاشف عن الملاک إمّا تعلّق الأمر بالعمل أو اطلاق متعلّق الأمر بالإضافة إلیه ومع تعلّق النهی الغیری لم یمکن کشف الملاک فی متعلّقه، إذ لا أمر متعلّق به ولا اطلاق لمتعلّق التکلیف بالإضافة إلیه، فمن أین یستکشف الملاک الملزم فیه؟

الثمرة فی التزاحم بین الواجب الموسّع والمضیق

ثمّ لا یخفی أنّه لو کانت العبادة من قبیل الواجب الموسّع وضده المأمور به من قبیل المضیق، نلتزم بظهور الثمرة، فبناءاً علی الإقتضاء لا یحکم بصحة الفرد من الموسّع المزاحم للمأمور به المضیق، لا لأجل تعلّق النهی بذلک الفرد الموجب لمبغوضیّته، لیقال إنّ النهی غیری والنهی الغیری لا یوجب خروج العبادة عن قابلیة التقرب، بل لعدم إحراز الملاک فی ذلک الفرد، لعدم تمامیة مقدمات الحکمة فی ناحیة متعلّق الأمر بالموسع بالإضافة إلیه، حیث یحتمل دخالة خصوصیة غیر ذلک الفرد من سائر الأفراد ویکفی النهی الغیری فی بیان ذلک، إذ لا یمکن معه الترخیص فی تطبیق المتعلق علی ذلک الفرد ولو علی نحو الترتب.

وبناءاً علی القول بعدم الإقتضاء یحکم بصحة الفرد المزاحم حیث لا یقع التزاحم بین الموسع والمضیق أصلاً کما ذکر ذلک المحقق الثانی قدس سره ووضّحه غیر واحد من المتأخرین، لأنّ الأمر فی ناحیة الموسع یتعلّق بالطبیعی الملغی عنه خصوصیات الافراد عرضیة کانت أو طولیّة وقد تقدم سابقاً أنّ استحالة التقیید ثبوتاً لا یستلزم استحالة الإطلاق حیث إنّ الإطلاق عبارة عن رفض القیود عن المتعلّق وعدم أخذها فیه، فالفرد المزاحم من العبادة التی هی واجب موسّع وإن کان

ص :192

.··· . ··· .

الشَرح:

لا یمکن أن یتقیّد المتعلّق به، بأن یتعلّق الأمر بخصوصه لوجوب الضدّ المضیّق إلاّ أنّه مصداق للطبیعی المأمور به والمطلوب صرف وجوده فیصح الإتیان به بداعی الأمر بذلک الطبیعی وأخذاً باطلاق متعلّقه.

وبتعبیر آخر المطلوب بالأمر بالموسع صرف وجود الطبیعی الکافی فیه فرد واحد من غیر فرق بین الافراد الطولیة والعرضیة، ولا تقع المزاحمة بین الأمر بالطبیعی المفروض، والأمر بالمضیق، لتمکّن المکلف من الجمع بینهما فی الإمتثال وعلیه فکما أن للمکلّف الإتیان بأیّ فرد من الأفراد العرضیة بداعی الأمر بذلک الطبیعی کذلک له الإتیان بأی فرد من أفرادها الطّولیة، غایة الأمر یستقلّ العقل بلزوم امتثال التکلیف بالمضیّق وأنّ هذا الإمتثال لا یجتمع مع الفرد المزاحم من الموسّع، لکن مع ذلک لا مانع من الترخیص فی تطبیق الموسّع علی الفرد المزاحم ولو بنحو الترتّب.

ولکن ناقش المحقّق النائینی قدس سره فیما ذکر من دعوی عدم المزاحمة بین الواجب المضیق والموسع، وجواز الأمر بکل منهما فی زمان بحیث یوجب ذلک صحة الإتیان بالفرد المزاحم من الموسّع أیضاً بداعویة الأمر بالطبیعی الصادق علیه، وأنّ الفرد المزاحم کسائر الأفراد فی عدم تعلّق الأمر بخصوصیاتها وانّما تعلّق بالجامع بینها؛ بأنّ ما ذکر انّما یصحّ بناءاً علی کون اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف بحکم العقل بقبح خطاب العاجز لکونه لغواً، فانّه علی ذلک یکفی فی الأمر بالطبیعی التمکن علی صرف وجوده، وبه یخرج عن اللغویة.

وأمّا بناءاً علی ما هو الصحیح من أنّ الطلب یقتضی تعلّقه بالحصّة المقدورة نظیر تعلق إرادة الشخص بالحصة المقدورة من الشیء، فالبعث یکون إلی خصوص

ص :193

.··· . ··· .

الشَرح:

المقدورات من الحصص والمطلوب صرف الوجود منها، والفرد المزاحم للواجب المضیّق لیس داخلاً فی تلک الحصص لأنّه غیر مقدور.

والوجه فی ذلک هو أنّ التکلیف بعث وتحریک نحو الفعل اختیاراً یجعل الداعی للمکلّف إلی ترجیح أحد طرفی الممکن وهذا بنفسه یقتضی کون الفعل مقدوراً له، ومعه لا حاجة إلی حکم العقل بقبح خطاب العاجز ومن البدیهی إذا دار الأمر فی اعتبارها بحکم العقل بقبح خطاب العاجز، أو بنفس الطلب یکون الثانی أولی لأنّه من قبیل الإستناد إلی الذاتیّ وهو مقدم علی الإستناد إلی العرضیّ.

ولکنّه قدس سره حکم بصحة الفرد المزاحم للواجب المضیق _ مع الإغماض عن الترتّب _ من جهة حصول الملاک فیه، وکون الفرد المزاحم أو غیر المقدور یشترک مع سائر الأفراد فی ذلک الملاک الملزم، ولکن الکاشف عن وجود الملاک فیهما لیس شمول متعلّق التکلیف لهما حال تعلقه بالمتعلّق، بل لأنّ أفراد الطبیعی لمّا کانت متساویة فی الملاک الملزم صحّ للمولی لحاظ ذلک الطبیعی عاریاً عن خصوصیة تلک الأفراد وجعل التکلیف متعلقاً بذلک الطبیعی، فلو کانت تلک الأفراد غیر متساویة فی الملاک لما یصحّ للمولی عند اعتبار التکلیف إلاّ لحاظ ما فیه الملاک وإنشاء التکلیف متعلقاً بما فیه ذلک الملاک.

وبتعبیر آخر بما أنّ المولی لا یلاحظ فی ناحیة متعلق التکلیف عند جعله إلاّ ما کان فیه ملاک تکلیفه، ولا یأمر إلاّ به کما هو مقتضی مذهب العدلیة فی التکالیف الشرعیة، فلا یصح مع اختصاص الملاک بالحصّة المقدورة إلاّ لحاظ تلک الحصّة منها وحیث إنّ خطاب التکلیف یحکی عن التکلیف وعن الطبیعی الذی لاحظه المولی حتّی جعله مورد تکلیفه، ولم یکن فی ذلک الخطاب تقیید للمتعلّق بالقدرة، کشف

ص :194

.··· . ··· .

الشَرح:

اطلاق المتعلّق عن عموم الملاک وحصوله حتی فی فرده غیر المقدور، نعم ذلک الطبیعی بلحاظ تعلّق التکلیف به لا یعمّ غیر المقدور لاقتضاء التکلیف تقیید متعلقّه بالمقدور ولکن إطلاق المتعلّق، مع قطع النظر عن التکلیف وفی الرتبة السابقة علی اعتباره، کاف فی کشف عموم الملاک.

ولذا یفرق بین الموارد التی یکون اعتبار القدرة فیها فی متعلّق التکلیف شرعیاً وبین الموارد التی یکون اعتبار القدرة فیها عقلیاً أو باقتضاء نفس التکلیف مع اشتراکهما فی أنّ التکلیف فیهما لا یتعلق بغیر المقدور، والوجه فی الفرق هو أنّ أخذ قید القدرة فی ناحیة المتعلق فی خطاب التکلیف یکشف عن أنّ الملحوظ من الطبیعی عند اعتبار التکلیف کان خصوص المقدور منه فلا یعمّ الحکم، الفرد المزاحم أو غیر المقدور، بخلاف عدم أخذه فی الخطاب کما تقدّم.

وبالجملة حیث وقع الطبیعی فی الخطاب مورد التکلیف یکون إطلاق المتعلق وعدم تقییده بالقدرة فی مرتبة قبل تعلّق التکلیف کاشفاً عن حصول الملاک فی جمیع أفراده وإلاّ کان علیه تقیید المتعلق بالقدرة فی الخطاب أیضاً لیطابق مقام الثبوت کی یحرز أنّ اعتبارها فی المتعلق شرعی.

إذ لولا الملاک فی الفرد غیر المقدور أو المزاحم ثبوتاً، لکان الإطلاق فی الخطاب نقضاً للغرض.

لا یقال: إنّه لابدّ من أن یکون الشارع فی مقام بیان ما یقوم به الملاک من أفراد متعلقه لیتمسّک باطلاق المتعلّق لاثبات عدم دخل القدرة فی الملاک، والمفروض أنّ المولی لا یکون إلاّ فی مقام بیان التکلیف ومتعلّقه.

ص :195

.··· . ··· .

الشَرح:

فإنّه یقال: إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان إنّما یحتاج إلیه فی مقام کشف مراده من الإطلاق فی خطابه، وأمّا إذا کان المورد من موارد کشف أمر واقعی بواسطة ما تضمنّه خطابه کما فی کشف العلة والملاک عن خطاب التکلیف بطریق الإن، فهذا لا یحتاج إلی التفات المولی إلی ذلک الأمر الواقعی حین خطابه فضلاً عن کونه بصدد بیانه(1).

أقول: لا یتیسّر لنا الأخذ باطلاق الطبیعی الذی تعلق به التکلیف لاستکشاف وجود الملاک الملزم ولو فی الفرد غیر المقدور حتی مع عدم ذکر القدرة علیه فی خطاب ذلک التکلیف متصلاً أو فی خطاب منفصل _ بدعوی أنّ عدم ذکر القید لما تعلّق به التکلیف وتعلّقه بالطبیعی کاشف عن کون الملحوظ قبل اعتبار التکلیف نفس ذلک الطبیعی لا خصوص الحصة المقدورة _ وذلک لامکان أن یکون الملحوظ فی مرتبة لحاظ متعلق التکلیف هی خصوص الحصة المقدورة، لانحصار ملاک التکلیف بها ومع ذلک لم یذکر قید القدرة فی الخطاب لا متصلاً ولا منفصلاً فلعلّه لکون التکلیف قرینة علی لحاظ خصوص تلک الحصة إمّا بضمیمة حکم العقل أو باقتضاء نفس التکلیف، فلا یکون فی البین ما یکون کاشفاً إنیّاً عن کون الملحوظ ذات الطبیعی حین الجعل.

وبتعبیر آخر کما أنّ الحکم ربّما یکون قرینة علی قیود المتعلّق والموضوع ویعبّر عنها بالقیود المستفادة من مناسبة الحکم والموضوع، کذلک یکون التکلیف قرینة علی لحاظ القدرة علی متعلّقه فلحاظها واعتبارها فی متعلّقه امّا لمجرد کون التکلیف بدونه لغواً أو لاقتضاء التکلیف إیّاه أو لانحصار الملاک فی المقدور ولا دلالة

ص :196


1- (1) أجود التقریرات 1 / 263 _ 269.

.··· . ··· .

الشَرح:

فی الخطاب علی نفی شیء من هذه الخصوصیات فلا یمکن کشف الملاک فی فرد لا یعمّه المتعلق بلحاظ تعلق التکلیف.

وبالجملة التکلیف بالطبیعی إن کان انحلالیاً فمقتضاه تعلّقه بکل من الحصص المقدورة، وإن کان بنحو طلب صرف الوجود من ذلک الطبیعی فلازمه الترخیص فی تطبیقه علی کل من الحصص المقدورة علی ما ذکره قدس سره ، ولو کان ما ذهب إلیه قدس سره أمراً صحیحاً فلازمه الحکم بصحة الفرد المزاحم للمأمور به حتی بناءاً علی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص، لانّ النهی الغیری فی فرد لا ینافی اطلاق الطبیعی بالإضافة إلیه یعنی الإطلاق فی رتبة قبل تعلّق التکلیف حیث إنّ النهی الغیری لا یکشف عن المفسدة فی متعلّقه حتی ینافی ذلک الإطلاق بخلاف النهی النفسی عن فرد فانّه ینافی ذلک الإطلاق أیضاً ویکشف عن تقیید متعلّق التکلیف بغیره فی رتبة لحاظ المتعلّق، وقد حکی عنه قدس سره هذا وأنّه أیضاً یلتزم بصحة الفرد المزاحم للتکلیف بالمضیّق حتی علی القول باقتضائه النهی عن ضده الخاص (1).

وقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا عدم المزاحمة بین الواجب المضیّق والموسّع بناءاً علی عدم الاقتضاء ولا یحتاج فی الحکم بصحة الفرد المزاحم للواجب المضیّق إلی التشبّت بمسألة الترتب أو دعوی تصحیحه بالملاک.

وقد یقال: أنّ خطاب الأمر بالموسّع أو المهم یکشف عن تعلق التکلیف

ص :197


1- (1) لا یخفی أنّ عدم کاشفیّة النهی الغیری عن المفسدة وبقاء المتعلّق علی ما هو علیه من المحبوبیّة والملاک لیصحّ الفرد المزاحم من الموسّع حتّی علی القول بالاقتضاء ممّا قد صرح به فی أجود التقریرات 1 / 265 و 267.

.··· . ··· .

الشَرح:

بالطبیعی مطلقاً الصادق علی الفرد المزاحم للواجب المضیق أو المهم المزاحم للتکلیف بالأهم بالمطابقة، وعن ثبوت الملاک فیهما بالإلتزام، غایة الأمر یسقط هذا الإطلاق عن الإعتبار، خصوصاً بناءاً علی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص ولکن السقوط بالإضافة إلی المدلول المطابقی لا الإلتزامی حیث إنّ الأمر بالأهم أو المضیق لا ینافی ثبوت الملاک فی المهم أو الفرد المزاحم فیؤخذ بالمدلول الإلتزامی الباقی علی اعتباره، فی کشف الملاک فی المهم أو الفرد المزاحم.

وفیه: أنّ الکاشف عن ثبوت الملاک هو ثبوت التکلیف بالمهم أو الفرد المزاحم ومع عدم التکلیف فیهما کما هو مقتضی الأمر بالمضیق والأهم لا سبیل إلی إحراز الملاک، مع أنّه سیأتی الکلام فی توضیح ذلک فی مبحث تعارض الامارات بأنّ التعارض فی المدلول المطابقی بین الامارتین یوجب سقوط اعتبارهما حتی بالإضافة إلی المدلول الإلتزامی.

ص :198

ثم إنه تصدی جماعة من الأفاضل، لتصحیح الأمر بالضد بنحو الترتب علی العصیان [1]، وعدم إطاعة الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخر، أو البناء علی معصیته بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، بدعوی أنه لا مانع عقلاً عن تعلق الأمر بالضدین کذلک، أی بأن یکون الأمر بالأهم مطلقاً، والأمر بغیره معلقاً علی عصیان ذاک الأمر، أو البناء والعزم علیه، بل هو واقع کثیراً عرفاً.

الشَرح:

مبحث الترتّب

اشارة

[1] مدعاهم أنّه لا تنافی بین التکلیفین إلاّ بإطلاق کل منهما مع التزاحم بینهما وإذا رفع الید عن إطلاق الأمر بالمهم ارتفع المحذور، بأن اشترط فی التکلیف به عصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المتأخر، أو جعل البناء علی عصیان الأمر بالأهم بنحو الإستمرار شرطاً فیه بنحو الشرط المقارن بحیث یکون لازم هذا الإشتراط مجرّد الجمع بین الطلبین فی زمان ما ولا یقتضی جعلهما طلب الجمع بین الضدین، حیث إنّ طلب کل من الضدین فی نفسه أمر ممکن والمحذور فیه طلب الجمع بینهما لعجز المکلف وعدم تمکنه علی الجمع بینهما فی الإمتثال ولیس هذا من قبیل الطلب المحال حتی یکون الجمع فی نفسه محالاً ولو مع تمکن المکلف علی الجمع بین مقتضاهما، کالأمر بفعل فی زمان والمنع عنه بنحو الکراهة حیث یکون المکلف متمکّناً من الجمع بین مقتضاهما باختیار الفعل فانّ فی الکراهة ترخیص فی الإرتکاب.

والحاصل أنّ الامر بکل من الفعلین المتضادین مطلقاً بحیث یقتضیان الجمع بین الضدین یکون من قبیل التکلیف بغیر المقدور فی کونه تکلیفاً بالمحال، ولکن الأمر بهما مع تقیید الأمر بالمهم بترک الأهم بنحو الشرط المتأخر وإن کان یقتضی الجمع بین التکلیفین فی زمان ولکن لا یکون مقتضاهما الجمع بین الضدین لما تقدم

ص :199

قلت: ما هو ملاک استحالة [1] طلب الضدین فی عرض واحد، آتٍ فی طلبهما کذلک، فإنه وإن لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلاّ أنه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما، بداهة فعلیة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص، أو العزم علیها مع فعلیة الأمر بغیره أیضاً، لتحقق ما هو شرط فعلیته فرضاً.

الشَرح:

فی بحث الواجب المطلق والمشروط من أنّ المشروط بالشرط المتأخر وإن کان وجوبه فعلیاً قبل حصول الشرط إلاّ أنّ فعلیته تبقی مراعی بحصول ذلک الشرط فیما بعد بحیث لو لم یحصل یکون عدم حصوله کاشفاً عن عدم فعلیّة الوجوب من الأوّل، وعلی ذلک فیمکن الأمر بالأهم مطلقاً بالإضافة إلی عصیان الأمر بالمهم وعدمه، والأمر بالمهم مشروطاً بعصیان الأمر بالأهم بنحو الشرط المتأخر، حیث إنّ الأمر بالأهم بهذا النحو لا یقتضی إلاّ صرف المکلف قدرته علی الأهم وصرفها فیه یوجب ارتفاع الأمر بالمهم علی تقدیر عدم صرفها فیه لانتفاء موضوعه.

ویقتضی الأمر بالمهم صرفها فی متعلّقه ولکن لا مطلقاً بل علی تقدیر تحقّق شرطه مع عدم اقتضائه حفظه بحیث لو فرض محالاً انّ المکلف أتی بالمهم مع الإتیان بالأهم لما یتصف المهم بالمطلوبیة أصلاً فلا یکون هذا النحو من الجمع بین الطلبین من طلب الجمع بین الضدین.

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ حدوث البناء علی ترک الأهم لا یصحّح الترتب سواء کان حدوثه متقدماً أو مقارناً بل المصحّح البناء علی ترک الأهم باستمراره أو ترک الأهم بنحو الشرط المتأخر وجعل ذلک شرطاً فی الأمر بالمهمّ.

فی الأمر بالضدین علی نحو الترتّب

[1] لم یرتض قدس سره بتصحیح الأمرین بنحو الترتب وذکر انّ ملاک استحالة طلب

ص :200

لا یقال: نعم [1] لکنه بسوء اختیار المکلف حیث یعصی فیما بعدُ بالإختیار، فلولاه لما کان متوجهاً إلیه إلاّ الطلب بالأهم، ولا برهان علی امتناع الإجتماع، إذا کان بسوء الإختیار.

الشَرح:

الضدین _ وهو استدعائه الجمع بین الضدین _ یجری فی فرض طلبهما بنحو الترتب أیضاً وکأنّ الوجه فی الجریان أنّ مع امتثال الأمر بالأهم وإن لم یکن الأمر بالمهم فعلیاً إلاّ أنّ فی فرض عصیانه فیما بعد یکون الأمر بکل منهما فعلیاً فی زمان واحد، أمّا الأمر بالأهمّ فلعدم سقوطه بالبناء علی عصیانه أو بعصیانه فیما بعد، وأمّا الأمر بالمهم فلحصول ظرفه وفعلیة شرط وجوبه ونتیجتها استدعائهما الجمع بین الضدین فی هذا التقریر.

أقول: محذور طلب الضدین فی عرض واحد لا یجری فی صورة الترتب فانّ مع امتثال الأمر بالأهم لا أمر بالمهم ومع عصیانه فیما بعد وترک امتثاله فالأمر بالأهم وإن لم یسقط مادام ظرف امکان امتثاله باقیاً إلاّ أنّه یقتضی الإتیان بمتعلّقه والمفروض أنّ الإتیان به هادم لموضوع الأمر بالمهم والأمر بالمهم لا یقتضی حفظ موضوعه بل یقتضی الإتیان بمتعلّقه علی تقدیر وجود الموضوع کما هو مقتضی عدم خروج الحکم المشروط من الإشتراط إلی الإطلاق مع إحراز شرطه المقارن أو المتأخر.

وبالجملة الأمر بالمهم لا یجتمع مع امتثال الأمر بالأهم ویجتمع مع عدم امتثاله ولکن لا یقتضی عدم امتثال الأمر بالأهم، حتی تقع المطاردة بین التکلیفین.

[1] یعنی نلتزم بأنّ ملاک الإستحالة فی طلب الضدین فی عرض واحد، آت فی صورة طلبهما بنحو الترتب إلاّ أنّ لزوم طلب الضدین فی الصورة الثانیة أی بنحو الترتب انّما کان بسوء اختیار المکلف حیث کان متمکناً علی التخلّص منه بامتثال

ص :201

فإنه یقال: استحالة طلب الضدین، لیس إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلی محالیته، لا تختص بحال دون حال، وإلاّ لصح فیما علق علی أمر اختیاریّ فی عرض واحد، بلا حاجة فی تصحیحه إلی الترتب، مع أنه محال بلا ریب ولا إشکال.

إن قلت: فرق بین الإجتماع فی عرض واحد والإجتماع کذلک [1]، فإن الطلب فی کل منهما فی الأول یطارد الآخر، بخلافه فی الثانی، فإن الطلب بغیر الأهم لا یطارد طلب الأهم، فإنه یکون علی تقدیر عدم الإتیان بالأهم، فلا یکاد یرید غیره علی تقدیر إتیانه، وعدم عصیان أمره.

الشَرح:

الأمر بالأهم ولا دلیل علی قبح طلب المحال فیما إذا کان بسوء الإختیار.

وأجاب قدس سره بأنّ طلب المحال من الحکیم الملتفت إلی امتناع متعلّق تکلیفه قبیح ولا یختصّ قبحه بحال دون حال ومجرّد التمکّن علی التخلّص من طلب المحال لا یرفع قبحه وامتناعه وإلاّ لصحّ الأمر بالمتضادین فی عرض واحد معلّقاً علی أمر اختیاری بأن یأمر المولی عبده فیما إذا صعد علی السطح أن یجمع بین الحرکة والسکون، حیث إنّ العبد متمکّن علی التخلّص منه بترک الصعود.

[1] یعنی ملاک قبح طلب الضدین فی عرض واحد لا یجری فی صورة طلبهما بنحو الترتب وذلک لأنّ الأمر بکل من الضدین _ ولو کان أحدهما أو کلاهما معلّقاً علی أمر اختیاری _ قبیح، لاقتضاء کل منهما صرف المکلف قدرته فی متعلّقه دون الآخر والمفروض أنّ المکلف مع صرفه قدرته فی أحدهما لا یتمکن من صرفها فی الآخر وهذا هو معنی المطاردة بین التکلیفین ولا یأتی هذا المحذور فی صورة الأمر بهما علی نحو الترتب إذ بناءاً علیه لا یقتضی الأمر بالمهم صرف المکلف قدرته فی متعلّقه إلاّ علی تقدیر تحقق شرطه یعنی عصیان الأمر بالأهم.

ص :202

قلت: لیت شعری کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهم؟ وهل یکون طرده له إلاّ من جهة فعلیته، ومضادة متعلقه للأهم؟ والمفروض فعلیته، ومضادّة متعلقه له.

وعدم إرادة غیر الأهم علی تقدیر الإتیان به لا یوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه، علی تقدیر عدم الإتیان به وعصیان أمره، فیلزم اجتماعهما علی هذا التقدیر، مع ما هما علیه من المطاردة، من جهة المضادة بین المتعلقین، مع أنه یکفی الطرد من طرف الأمر بالأهم، فإنه علی هذا الحال یکون طارداً لطلب الضد، کما کان فی غیر هذا الحال، فلا یکون له معه أصلاً بمجال.

الشَرح:

وأجاب قدس سره بما حاصله: أنّ المطاردة بین الطلبین عبارة عن اقتضاء کل منهما صرف المکلف قدرته فی متعلّقه الذی لا یجتمع مع متعلّق الآخر وهذا المحذور بعینه یأتی فی صورة الأمر بالضدین بنحو الترتب، فإنّ الأمر بالمهم مع فعلیّته _ کما هو فرض عصیان الأمر بالأهم فیما بعد _ یقتضی صرف المکلّف قدرته فی متعلّقه مع عدم إمکان اجتماع متعلّقه مع الأهم وحیث إنّ الأمر بالأهم غیر ساقط فی الفرض فهو أیضاً یقتضی الإتیان بمتعلّقه.

وإلی ذلک یشیر بقوله: «کیف لا یطارده الأمر بغیر المهم(1) إلخ»، أی کیف لا یطارد الأمر بالمهم الأمر بالأهم والضمیر المفعولی فی لا یطارده یرجع إلی الأمر بالأهم، وهل یکون طرد الأمر بالمهم للأمر بالأهم إلاّ من جهة فعلیّة الأمر بالمهم ومضادة متعلّقه مع متعلق الأمر بالأهم، وعدم إرادة المولی المهم _ علی تقدیر الإتیان بالأهم _ لا یوجب عدم طرد الأمر بالمهمّ لطلب الأهم، مع فعلیته (أی الأمر بالمهم) فی فرض عدم الإتیان بالأهم وتحقق عصیان أمره فیما بعد، فیلزم اجتماع الطلبین علی هذا التقدیر _ أی علی تقدیر فعلیة الأمر بالمهم _ مع ما علیه الطلبان من

ص :203


1- (1)کفایة الأُصول: 135.

إن قلت: فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدین فی العرفیات؟

قلت: لا یخلو: إما أن یکون الأمر بغیر الأهم، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقیقة.

وإمّا أن یکون الأمر به إرشاداً إلی محبوبیته وبقائه علی ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن الإتیان به یوجب استحقاق المثوبة فیذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة علی مخالفة الأمر بالأهم، لا أنه أمر مولوی فعلی کالأمر به، فافهم وتأمل جیداً.

الشَرح:

المطاردة بینهما الناشئة عن المضادة بین المتعلقین، مع أنّه یکفی فی امتناع اجتماع الطلبین ولو الطرد من طرف الأمر بالأهم فقط حیث إنّ الأمر بالأهم فی حال فعلیة الأمر بالمهم یقتضی صرف القدرة فی متعلّقه وترک متعلّق الأمر بالمهم، کما کان یقتضی صرف القدرة علی متعلّقه فی غیر حال فعلیة الأمر بالمهم فلا یکون للأمر بالمهم مع الأمر بالأهم مجال أصلاً.

أقول: لیت شعری کیف اعتقد قدس سره بالمطاردة فی فرض الترتب مع أنّ الأمر بالأهم کما ذکرنا یقتضی عدم حصول تقدیر الأمر بالمهم، لا عدم الأمر بالمهمّ علی فرض حصول تقدیره، والأمر بالمهم، لا یقتضی حفظ تقدیر نفسه بل یقتضی الإتیان بالمهم معلقاً علی حفظ تقدیره وتصور کیفیة اقتضائهما کاف فی الإلتزام بصحة الأمر بکل من الضدین علی نحو الترتب.

فلعلّ إنکاره قدس سره وإصراره علیه لزعمه خروج الواجب المشروط عن الإشتراط إلی الإطلاق بفعلیة شرطه فی موطنه ولو کان موطنه فیما بعد، کما إذا کان مشروطاً بالشیء بنحو الشرط المتأخر، ولکن الأمر لیس کذلک فانّ الواجب المشروط ولو مع فعلیة شرطه فی موطنه منوط بذلک الشرط ولا یکون فعلیته بنحو فعلیة الواجب

ص :204

.··· . ··· .

الشَرح:

المطلق فیما إذا کان مشروطاً بشرط متأخر لم یتحقق موطنه وان کان یعلم أنّه یتحقق فی موطنه، إذ العلم بتحقّقه فیه لا یرفع الإختیار فیما کان ذلک الشرط أمراً اختیاریاً للمکلف، وکذا الحال فیما کان مشروطاً بشرط یکون حدوثه وبقائه شرطاً فی حدوث التکلیف وبقائه کما تقدّم فی البناء علی ترک الأهم بنحو الشرط المقارن ممّا کان حدوثه وبقائه تحت اختیار المکلف.

نعم یخرج التکلیف المشروط عن الإشتراط بحسب النتیجة ویدخل فی الواجب المطلق بحسبها فیما کان مجرّد حدوث الشیء بنحو الشرط المتقدم أو المقارن شرطاً فی حدوث التکلیف وبقائه، أو کان حصول الأمر غیر الإختیاری شرطاً للتکلیف بنحو الشرط المتأخر فانّ مع العلم بحصول ذلک الأمر غیر الإختیاری یکون داعویة التکلیف المشروط به فعلیاً ومقتضیاً للإتیان بمتعلقه، کما کان الإقتضاء فی التکلیف المطلق ولکن الشرط فی الأمر بالمهم اختیاری سواء کان أمراً متأخراً _الذی هو ترک الأهم وعصیان أمره _ أو کان أمراً مقارناً استمراریاً الذی هو البناء علی ترک الأهم کما تقدم.

والمتحصل من جمیع ما ذکرنا أنّ القائل بالترتب یلتزم بالجمع بین الطلبین فی زمان واحد یمکن فیه للمکلّف الأخذ بامتثال کل منهما وترک الآخر سواء کان الزمان المزبور قصیراً أو طویلاً ولکن لا یقتضی الطلبان الجمع بین متعلّقیهما لیثبت محذور التکلیف بما لا یطاق وامّا إذا انقضی ذلک الزمان بحیث صار أحد الطلبین غیر قابل للإمتثال کما إذا ترک الأهم فی زمان لا یمکن بعده امتثاله فالأمر بالآخر بعد ذلک الزمان لا یحتاج إلی تصویر الترتب.

وبالجملة انّما یحتاج إلی الترتب فیما إذا أرید ثبوت کل من الأمر بالأهم والمهم

ص :205

.··· . ··· .

الشَرح:

فی زمان واحد أو أرید ثبوت کل من الأمرین کذلک فیما کانا متساویین من حیث الأهمیة وعدمها.

وممّا ذکرنا یظهر أنّه إذا کان کل من الأمر بالأهم والأمر بالمهم من الواجب الفوری بنحو یکون الوجوبان فوراً ففوراً تکون فعلیة الأمر بالأهم لتمامیة موضوعه مطلقة والأمر بالمهم فعلیّته مشروطة بشرط متأخر وذلک الشرط المتأخر یتحقق بمضیّ زمان یکون فیه الإتیان بالأهم ممکناً ولم یمتثل فیه ففی فرض عدم امتثاله یجتمع الأمر بالأهم مع الأمر بالمهم، ولکن لا یقتضی اجتماعهما طلب الجمع بین الضدین أصلاً ویبقی الأمر بالأهم والأمر بالمهم فی فرض عدم الإتیان بالأهم بنحو الشرط المتأخر إلی آخر زمان یمکن فیه الإتیان بالأهم، حیث إنّ المفروض عدم سقوط الأمر بالأهم بمخالفة تکلیف فوریته، وبعده یسقط الأمر بالأهم ویبقی الأمر بالمهم لو أمکن امتثاله، وإلاّ یسقط هو أیضاً. ولو کان التکلیف بالأهم من قبیل الواجب المضیق بأن یکون زمان التکلیف به مساویاً لزمان الفعل یکون عصیان الأمر بالأهم شرطاً متأخراً لحصول الأمر بالمهم فیما کان التکلیف به من الأمر بالمضیق أیضاً ولکن عصیان الأمر بالأهم یتحقق بمجرد ترک الدخول فی أول جزء من زمانه لعدم امکان امتثاله بعد ذلک کما هو فرض کونه من الواجب المضیق، فیحدث التکلیف بالمهم من زمان الأمر ولکن معلقاً علی العصیان المفروض بنحو الشرط المتأخر.

ولو قیل بحدوث الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم فی زمان بنحو الترتب، فقد ذکرنا أنّهما لا یقتضیان الجمع بین الضدین، وهکذا الحال لو کان الأمر بالمهم موسعاً وقیل بأنّ الأمر بالموسع یزاحم مع الأمر بالأهم المضیق، ولکن قد تقدّم عدم التزاحم بینهما حتی یحتاج فی تصویر الأمر بهما فی زمان إلی تصویر الترتّب.

ص :206

.··· . ··· .

الشَرح:

وذکر المحقق النائینی قدس سره فی إثبات جواز الترتب مقدمات خمسة وجعل أهمها الرابعة، فلا بأس بالتعرض لها فی المقام وحاصل ما ذکره أنّ ثبوت الحکم وانحفاظ خطابه فی تقدیر یکون بأحد الأنحاء الثلاثة:

النحو الأوّل: أن یکون الحکم مشروطاً بوجود ذلک التقدیر أو مطلقاً بالإضافة إلیه وذلک فی الإطلاق والتقیید اللحاظیّان فی ناحیة الموضوع لذلک الحکم، والتقیید اللحاظی کالإطلاق اللحاظی یختص بالقیود الأوّلیة التی لا یتوقف لحاظها فی الموضوع علی جعل الحکم، ککون الماء کرّاً أو قلیلاً، کون البالغ العاقل مستطیعاً أو فقیراً والعالم عادلاً أو فاسقاً وإلی غیر ذلک، فالمولی الملتفت إلی هذا النحو من القیود یأخذها فی موضوع الحکم عند دخالتها فی ملاک ذلک الحکم فیکون الموضوع مقیداً، ولا یأخذها فیه فی مورد عدم دخالتها فیکون الموضوع مطلقاً، ولا یعقل الإهمال فی موضوع الحکم بالإضافة إلیها ثبوتاً نعم یمکن الاهمال بالإضافة إلیها فی مقام الإثبات خاصة کما إذا لم یکن المولی عند ذکر خطاب الحکم فی مقام بیان القیود للموضوع.

النحو الثانی: أن یکون ثبوت الحکم مطلقاً بنتیجة الإطلاق أو مقیداً بنتیجة التقیید، وذلک فی الإطلاق أو التقیید الملاکیّ المعبّر عنه بالإطلاق أو التقیید الذاتیّان کما فی موضوع الحکم بالإضافة إلی القیود والإنقسامات الثانویّة الحاصلة للموضوع فی فرض جعل الحکم له، ککون المکلّف عالماً بالحکم أو جاهلاً به فانّ العلم بحکم، فرع ثبوت ذلک الحکم مع قطع النظر عن العلم، ولو کان العلم مأخوذاً فی موضوعه لم یکن للحکم _ مع قطع النظر عن العلم به _ ثبوت، فلا یمکن للحاکم أن یأخذ العلم بحکم فی موضوع ذلک الحکم وإذا لم یمکن التقیید، لم یکن للموضوع

ص :207

.··· . ··· .

الشَرح:

بالإضافة إلیه إطلاق فإنّ الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فی المورد القابل له.

وإن شئت قلت الخطاب الدالّ علی جعل الحکم للموضوع مهمل بالإضافة إلی هذه القیود لا محالة.

نعم یمکن سریان ملاک الحکم فی صورتی وجود القید وعدمه کما یمکن انحصاره علی صورة القید کما فی ملاک وجوب القصر علی المسافر واعتبار الجهر أو الاخفات فی القراءة، ولکن الکاشف عن الإطلاق الملاکی کما فی صورة سریان الملاک أو عن التقیید الملاکی کما فی صورة إنحصار الملاک بفرض القید إنّما یکون الخطاب الآخر غیر الخطابات المتضمنة لجعل الأحکام بعناوینها الأولیة، ولذا نحتاج فی تسریة الأحکام إلی الجاهلین بها، إلی ما دلّ علی بطلان التصویب وأدلّة وجوب تعلّم الأحکام.

ثمّ علی تقدیر ثبوت القید فی ناحیة الموضوع سواء کان بخطاب أوّلی أو ثانوی لا یجب علی المکلّف تحصیل ذلک القید حیث إنّ الحکم لا یقتضی تحصیل تقدیره بلا فرق بین التقیید اللحاظی والتقیید الملاکی فإنّ حصول الحکم فرع حصول تقدیر القید وکأنّه المعلول لذلک التقدیر.

النحو الثالث: أن یکون ثبوت الحکم والتکلیف فی تقدیر بحیث یکون ذلک التقدیر مقتضی التکلیف ومقتضی خطابه، کالفعل فی مورد التکلیف الوجوبی والترک فی التحریمی فإنّ الوجوب یثبت ویقتضی الفعل والتحریم یقتضی الترک وهدم الوجود فانحفاظ الوجوب فی فرض الفعل، والتحریم فی فرض الترک لیس من جهة تقیید الموضوع بالفعل فی الأوّل وبالترک فی الثانی لأنّ هذا التقیید یوجب کون

ص :208

.··· . ··· .

الشَرح:

الوجوب أو التحریم من قبیل طلب الحاصل سواء کان التقیید لحاظیاً أو ملاکیّاً، کما أنّ انحفاظ الخطاب لیس لاطلاق الموضوع حیث إنّ الإطلاق فی قوة التصریح بکلا التقدیرین ففی إطلاق الموضوع للتکلیف أیضاً طلب للحاصل أو طلب للمحال یعنی الجمع بین طلب الوجود مع فرض الترک والوجود أو طلب الترک مع فرض الوجود والترک.

وإن شئت قلت: بما انّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة فلا یمکن الإطلاق فی موضوع التکلیف الوجوبی أو التحریمی بالإضافة إلی الفعل أو الترک، لامتناع تقییده بهما.

لا یقال: تقسیم المکلف إلی المطیع والعاصی من الإنقسامات الثانویة للموضوع نظیر کون المکلّف عالماً بالحکم أو جاهلاً به فیکون التکلیف فیهما بالإطلاق الملاکی.

فإنّه یقال: الکلام فی منشأ العنوانین وهو الفعل والترک فانّه لا یمکن کونهما قیداً للتکلیف، للزوم المحذور بلا فرق بین ورود التقیید فی الخطاب الأوّل أو الثانی بل ثبوت التکلیف معهما لکون الفعل مقتضی التکلیف الوجوبی والترک مقتضی الطلب التحریمی، نظیر حمل الوجود والعدم علی الماهیة مع خروجهما عنها وعدم أخذهما فیها وإلاّ لما صحّ الحمل علیها.

ورتّب قدس سره علی هذه المقدمة بأنّ ثبوت التکلیف بالأهم علی تقدیری الإتیان بمتعلّقه وعدمه بمقتضی نفس التکلیف علی ما مرّ فی بیان النحو الثالث من أنحاء ثبوت التکلیف واقتضائه للفعل أو الترک.

ص :209

.··· . ··· .

الشَرح:

وبتعبیر آخر التکلیف بالأهم یقتضی الإتیان بمتعلّقه و هدم ترکه، ولا یقتضی عدم ثبوت الأمر بالمهم علی تقدیر ترکه، وثبوت التکلیف بالمهم علی تقدیر ترک الأهم من ثبوت التکلیف فی تقدیر بالتقیید اللحاظی فلیس للأمر بالمهم أن یترقّی إلی مرتبة ترک الأهم ولا للأمر بالأهم أن یتنزّل ویقتضی عدم الأمر بالمهم علی تقدیر ترک الأهم فلا یکون بین التکلیفین أی منافرة ومطاردة.

وبالجملة إنّ التکلیف یثبت مع فعلیة ما أخذ فی موضوعه بالتقیید اللحاظی فی الخطاب الأوّل أو الثانی ویقتضی الفعل فیما کان وجوباً من غیر أن یؤخذ فی ناحیة موضوعه تقدیر الفعل أو الترک، کما أنّه یثبت بفعلیة ما أخذ فی موضوعه فیما کان تحریماً ویقتضی الترک من غیر أن یؤخذ فی موضوعه تقدیر الترک أو الفعل بل هما خارجان عن موضوع التکلیف ولکن التکلیف مع ثبوته یقتضی الفعل إذا کان ایجاباً والترک إذا کان تحریماً، ویتفرع علی ذلک أنّ الأمر بالمهم لا یقتضی تحقیق موضوعه بل یقتضی الإتیان بمتعلّقه علی تقدیر موضوعه والأمر بالأهم یقتضی هدم الموضوع للأمر بالمهمّ حیث إنّ الإتیان بالأهم هو مقتضی ثبوته بالنحو الثالث، ولا یقتضی عدم الامر بالمهم علی تقدیر ثبوت موضوعه(1).

أقول: ثبوت الحکم وفعلیّته یکون بفعلیّة موضوعه وخروج ما اعتبر فیه من ظرف التقدیر إلی التحقیق، واعتبار قید فی الموضوع یکون بلحاظه فیه عند جعله، وکل ما لا یمکن أخذه فی الموضوع ولا تقییده به یکون الموضوع بالإضافة إلیه مطلقاً یعنی لا دخل لحصوله وعدمه فی فعلیة ذلک الحکم بخروج موضوعه إلی الفعلیّة، لا أنّ وجوده وعدمه دخیلان فی الحکم ومن ذلک القبیل حصول متعلّق

ص :210


1- (1) أجود التقریرات 1 / 293.

.··· . ··· .

الشَرح:

التکلیف فی ظرفه وعدمه، فان جعل التکلیف انّما هو لامکان کونه داعیاً إلی الفعل أو الترک وامّا حصول المتعلّق فی ظرفه أو عدم حصوله فغیر دخیل فی الغرض المترتّب علی جعل التکلیف بل هو محقق للغرض منه.

وبتعبیر آخر اطلاق الموضوع بالإضافة إلی شیء لیس معناه جمع فرضی حصول ذلک الشیء وعدمه فی ذلک الموضوع، لیقال إنّ فی جمعها محذور طلب الحاصل وطلب الجمع بین النقیضین، بل الإطلاق عبارة عن رفض القید عن الموضوع وعدم أخذه فیه، سواء کان منشأ الرفض وعدم الأخذ، عدم دخله فی الملاک، أو عدم امکان أخذه فیه کما هو الحال فی إطلاق الماهیة بالإضافة إلی وجودها وعدمها حیث إنّ معنی اطلاقها عدم أخذ شیء فیها لا أخذ کلّ منهما فیها.

وبالجملة إذا لم یکن فی الموضوع تقیید من الحاکم الملتفت کان حکمه بالإضافه إلی ذلک الشیء مطلقاً قهراً، فالتقابل بین الإطلاق والتقیید ثبوتاً لیس من تقابل العدم والملکة، بل التقابل بین الإطلاق والتقیید فی مقام الإثبات یکون کما ذکره فانّه مع عدم امکان بیان المتکلم القید فی کلامه _ حتی مع أخذه فی الموضوع أو المتعلّق فی مقام الثبوت _ یکون کلامه مجملاً لا مطلقاً وهذا الأمر یرجع إلی عدم ظهور الکلام وأجنبی عن الإطلاق والتقیید فی مقام الثبوت.

فالحاصل أنّ ما ذکره قدس سره من ثبوت التکلیف وانحفاظه _ بالنحو الثالث المتقدم _ فی حالتی الإطاعة والعصیان بحیث لا یکون داخلاً فی قسمی الإطلاق والتقیید لا أساس له، إذ لا مانع من الإطلاق الذاتی بمعنی رفض القیود لا جمع القیود.

لا یقال: لو کان الملاک منحصراً فی صورة واحدة من الانقسامات الثانویة فلا معنی لثبوت الإطلاق فی التکلیف کما إذا انحصر ملاک وجوب القصر مثلاً علی

ص :211

.··· . ··· .

الشَرح:

ما کان المسافر عالماً بوجوبه.

فانّه یقال: نعم لو کان الملاک کذلک، لما کان وجه للاطلاق اللحاظی الاّ أنّه یثبت الإطلاق الذاتی فی التکلیف، ولکن لا یکون الإتیان بمتعلّق التکلیف من الجاهل مسقطاً له لعدم وجود الملاک فیه، نظیر ما تقدم عن الماتن قدس سره من أنّ الإتیان بمتعلّق التکلیف فی العبادات بلا قصد التقرّب لا یکون مسقطاً للتکلیف لأنّ الغرض من التکلیف التعبّد بمتعلّقه والإتیان به بقصد التقرّب، وأمّا لو کان الملاک فی فعل آخر کالتمام عند الجهل بوجوب القصر یکون الإتیان به مسقطاً للتکلیف بوجوب القصر لحصول ملاکه.

الملاک فی الترتب

وقد تحصّل ممّا ذکرنا أنّه فی موارد الترتب یکون مقتضی أحد التکلیفین إخراج نفسه عن موضوع التکلیف الآخر ویکون مقتضی التکلیف الآخر الإتیان بالمتعلّق علی تقدیر عدم الإخراج بلا فرق بین أن یکون هذا النحو من الإقتضاء من طرف واحد کما فی التزاحم بین الأهم والمهم أو من الطرفین بأن یکون مقتضی کل من التکلیفین الخروج عن موضوع التکلیف الآخر کما فی مورد التزاحم بین واجبین متساویین لا یکون أحدهما أهم من الآخر فانّ صرف المکلّف قدرته علی أحد الواجبین یوجب انتفاء القدرة علی الآخر فیرتفع الآخر بارتفاع موضوعه.

وقد تقدم أنّه لا یتعین فی التزاحم بین التکلیفین جعل العصیان لأحدهما شرطاً متأخراً فی التکلیف بالآخر کما فی الأهم والمهم بل الموجب لارتفاع المنافاة بین خطابی التکلیفین والجمع بینهما فی مورد تزاحمهما کون التکلیفین بحیث لا یلزم

ص :212

.··· . ··· .

الشَرح:

من ثبوتهما فی زمان طلب الجمع بین الضدین بجعل مطلق الترک شرطاً کما فی الواجبین المتساویین فی الملاک فیکون ترک کل منهما بنحو الشرط المتأخر، شرطاً فی التکلیف بالآخر ولو لم یکن هذا الترک بنحو العصیان کما لا یخفی.

ونظیر هذا الترتب _ أی الحاصل من حکم العقل فی الجمع بین خطابی التکلیفین أو بین تکلیفین مستفادین من خطاب واحد _ الترتب الحاصل بین تکلیفین فیما یکون مقتضی أحدهما إرتفاع موضوع الآخر بانتفاء قیده المأخوذ فیه غیر القدرة کما إذا وجب علی المکلف الخروج إلی السفر فوراً ففوراً للدفاع عن حوزة الإسلام ودفع الباغی عنها فإنّه یکون ترک الخروج موجباً لثبوت الموضوع لوجوب الصلاة تماماً، ولا یمکن لفقیه أو متفقّه أن یلتزم بأنّ الصلاة تماماً ضد للخروج إلی الدفاع فلا یمکن للشارع الأمر بهما فی زمان واحد فلا یجب علی المکلف الصلاة تماماً بل ولا قصراً لأنّ وجوب القصر منتف بعدم الموضوع له ولا یجب التمام لعدم الأمر به لکونه ضداً خاصاً للخروج الواجب وکذا لا یجب علیه الصوم فیما لو وجب هذا الخروج فی شهر رمضان.

ودعوی التفرقة بین الترتب فی هذا القسم والترتب فی القسم المتقدّم مجازفة یجدها من تأمّل فی الجمع بین التکلیفین فیهما.

نظریة الأحکام القانونیّة فی التزاحم

وقد یقال: فی المقام کما عن بعض الأعاظم (أطال اللّه بقائه) أنّه لا حاجة فی موارد التزاحم إلی تصویر الترتب بل کل من الضدین کالصلاة والازالة متعلّق للطلب فی عرض واحد من غیر أن یلزم من ثبوت الحکمین فی عرض واحد طلب الجمع

ص :213

.··· . ··· .

الشَرح:

بین الضدین.

وبنی ما أسّسه علی مقدمات سبعة وملخص الثلاثة الأخیرة منها التی تفی بمرامه هو: أنّ خطاب الحکم المجعول بنحو القانون لا ینحلّ إلی الخطابات الشخصیّة بحسب افراد المکلّفین أو بحسب افراد الموضوع لأنّ الخطاب الواحد بنحو الکلّی فی نفسه کاف فی الإنبعاث من غیر حاجة إلی الإنحلال، ولو کان فی خطاب الحکم القانونی انحلال بحسب الموضوع لزم الإلتزام به فی الخطابات الإخباریة أیضاً کما إذا قال قائل: «إنّ النار باردة» فیلزم الإلتزام بأنّ المخبر المزبور قد کذب بعدد ما فی الخارج من أفراد النار وهو رأی سخیف.

ثمّ إنّ المیزان فی فعلیة الحکم المجعول بنحو القانون أن یترتّب علیه انبعاث عدة من المکلّفین خروجاً عن الإستهجان، ولا یعتبر ترتب انبعاث الجمیع لبطلان الإنحلال.

وبالجملة فرق بین الحکم الجزئی المجعول المتوجّه إلی شخص أو أشخاص معیّنة وبین الخطابات العامّة المتضمّنة لأحکام قانونیة، فانّ توجیه خطاب شخصی إلی واحد أو عدّة مع العجز عن موافقته مستهجن، وهذا لا یجری فی الخطابات العامة فانّ توجیهها إلی المکلفین ولو مع انبعاث بعضهم صحیح غیر مستهجن.

وغیر خفی أنّ الحکم الکلی القانونی بخطابه لا ینظر إلی الحالات الطاریة علی المکلف الناشئة من جعل الحکم أو من الإبتلاء بالواقعة ککونه عالماً بجعل القانون أو جاهلاً به، قادراً أو عاجزاً عنه، فانّ تلک الحالات متأخرة عن موضوع الحکم الکلّی بمرتبتین لتأخرها عن جعل الحکم والإبتلاء بواقعته وتأخرهما عن الموضوع کما

ص :214

.··· . ··· .

الشَرح:

لا یخفی والخطاب الناظر إلی الموضوع فی مقام الجعل مطلق لا یدخل فی مدلوله تلک الحالات.

لا یقال: لا یمکن الإهمال فی موضوع الحکم ولو کان بنحو القانون الکلی فانّ الموضوع فیه أیضاً امّا مطلق أو مقیّد.

فانّه یقال: معنی عدم الإهمال فی الموضوع هو انّ القیود الراجعة إلیه إمّا أن تکون دخیلة فیأخذها جاعل الحکم فی موضوع حکمه، أو غیر دخیله فلا یأخذها فیه ویجعل الحکم للطبیعی، وأمّا الحالات الطاریة الناشئة من جعل الحکم أو بعد الإبتلاء فلا یرجع شیء منها إلی الموضوع فی مقام الجعل لیأخذها فیه أو یرفضها عنه.

ثمّ إنّه لا شأن للعقل أن یتصرّف فی مقام جعل التکلیف ویقیّده بالقدرة لا بنحو الکشف عن التقیید شرعاً ولا بنحو الحکومة، وانّما شأنه الحکومة فی مقام الإمتثال بأن یعذر المکلف إذا کان جاهلاً قاصراً بالإضافة إلی الحکم الکلی القانونی أو عاجزاً عن امتثاله وإن کان طاغیاً أو عاصیاً یحکم علیه باستحقاقه العقوبة.

أمّا عدم تقییده شرعاً فباعتبار أنّ القدرة علی الفعل من الحالات الطاریة فی مقام الإمتثال فلا یرجع إلی مقام الجعل وفعلیة الحکم _ أی جعله مورد الاجراء _ وأمّا عقلاً فلما تقدم من أنّه لیس شأن العقل التصرف فی مقام الجعل بتقیید التکلیف بالقدرة.

ویدلّ علی عدم أخذ القدرة والإبتلاء فی موضوع الحکم تسالمهم علی الفحص فی موارد الشک فی القدرة ولو کان کسائر قیود الموضوع لجری فیه الأصل النافی بلا فحص ولو کان الإبتلاء من قیود الموضوع لکان الأمر فی الأحکام الوضعیّة

ص :215

.··· . ··· .

الشَرح:

أیضاً کذلک فلا یکون الخمر الخارج عن الإبتلاء بنجس کما لا یخفی(1).

أقول: من یلتزم بالإنحلال فی خطابات التکالیف وغیرها یرید الإنحلال فی مدلول الخطاب الواحد حیث إنّه إذا کان فی فعل کل مکلف ملاک مستقلّ تعلّق به غرض المولی یکون الثابت فی حقه حکماً مستقلاً وکذلک الإنحلال بحسب وجودات الموضوع.

وبتعبیر آخر إذا کان الحکم المجعول تابعاً للملاک فإن کان الملاک قائماً بصرف وجود الفعل من أی مکلّف صدر یکون المجعول علی کل مکلف من قبیل الواجب الکفائی حیث لا یمکن بعث العنوان وصرف وجود طبیعی المکلف فیکون المبعوث إلی ذلک الفعل کل فرد من أفراد المکلف مادام لم یحصل طبیعی ذلک الفعل من بعضهم، بخلاف ما إذا کان الغرض قائماً بفعل کل مکلّف بحیث لا یغنی فعل الآخرین عن فعله فانّ المجعول فی حقّ کلّ مکلف یکون حکماً مستقلاً وإنّ إنشاء هذه الأحکام کلّها بخطاب واحد، فالإنحلال فی مدلول الخطاب لا فی نفس الخطاب، ولا یفرق فی هذا الإنحلال بین أفراد الموضوع فی التکالیف وأفراده فی الإخبارات ولهذا لا یلزم تعدّد الکذب مع الإنحلال فانّ الموصوف بالکذب هو الدالّ ولو بحسب مدلوله والخطاب لا یخرج عن وحدته ولا یقال إنّه کلام متعدّد لانحلال مدلوله، وأمّا لو انطبق عنوان محرّم علی المدلول بأن کان الموصوف بهذا العنوان هو المدلول یلتزم فیه بالتعدّد کعنوان «کشف ما ستره اللّه علی المؤمن» فانّه إذا قال: کل من فی البلد یشرب الخمر، فقد اغتاب بعدد من فیه ولکنّه إذا لم یشربها أحد منهم فقد کذب کذبةً واحدةً.

ص :216


1- (1) تهذیب الأصول 1 / 302 _ 314، ط جماعة المدرسین بقم. ص242 _ 248، ط مطبعة مهر بقم.

.··· . ··· .

الشَرح:

وعلی ذلک فلا ینحلّ مدلول الخطاب بالإضافة إلی العاجز وغیر القادر علی متعلّق التکلیف بأن یکشف الخطاب عن جعل الحکم له أیضاً، إذ القدرة مأخوذة فی موضوع التکلیف فیقبح تکلیف العاجز، وقیاس القدرة علی متعلق التکلیف، بالعالم بالتکلیف مع الفارق، حیث تقدم سابقاً عدم امکان أخذ العلم بحکم فی موضوع ذلک الحکم فیکون للموضوع إطلاق بالإضافة إلی العالم والجاهل بمعنی الإطلاق الذاتی لا محالة، وشمول خطاب الحکم للجاهل به لا بعنوان الجاهل بل بعنوان البالغ العاقل لا بأس به ویکون وصول هذا الخطاب بنفسه أو بوجه آخر موجباً للعلم به فیتنجز، بخلاف شموله للعاجز فإنّ اعتبار التکلیف فی حقه لغو فضلاً عن توجّه الخطاب إلیه وبالجملة القدرة علی متعلّق التکلیف تعتبر من قیود الموضوع لذلک التکلیف.

ولو اجتمع فعلیة تکلیف بالإضافة إلی مکلّف مع تکلیف آخر وتمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی الإمتثال کما ذکرنا فی اجتماع الواجب المضیّق والموسّع فلا تزاحم، وإن لم یتمکّن من الجمع بینهما فی الإمتثال بأن کان صرف القدرة علی امتثال أحدهما موجباً لارتفاع التکلیف بالآخر بارتفاع موضوعه یعنی القدرة علیه، فهو مورد التزاحم وقد تقدم أنّه لو لم یصرف قدرته علی أحدهما بالخصوص مع کونه أهم أو محتمل الأهمیّة لأمکن فی ظرف ترک الأهم أو محتمل الأهمیة الأمر بالآخر بنحو الترتب ولا یلزم من ثبوت التکلیفین محذور طلب الجمع بین الضدین.

ثمّ إنّ القائل بأخذ القدرة علی المتعلّق فی موضوع التکلیف وانّ القدرة علیه کسائر القیود المأخوذة فی الموضوع، یلتزم بأنّ الموضوع للتکلیف قد أخذ فیه هذه القدرة ثبوتاً وأنّ ترک ذکره فی الخطاب للاعتماد علی قرینیة التکلیف عقلاً، ومن

ص :217

.··· . ··· .

الشَرح:

الظاهر أنّ ما یدرکه العقل لیس اعتبار القدرة الفعلیة فی المکلف بل التمکن الذی یمکن للمکلف معه تحقیق المتعلق فی الخارج ولو باتیان مقدمات الفعل بعد فعلیة التکلیف بحصول جمیع القیود المعتبرة فی موضوع ذلک التکلیف التی منها القدرة المشار إلیها، لأنّ مع هذه القدرة لا یکون التکلیف بالإضافة إلیه عبثاً بخلاف من لم یکن له هذه القدرة وإذا حصلت القیود علی الکیفیة المعتبرة فی الموضوع ومنها القدرة المزبورة یکون التحفظ علی تلک القدرة واخراجها إلی الفعلیة بفعل المقدمات داخلاً فی حکم العقل بلزوم الإمتثال _ علی ما تقدّم فی بحث مقدمة الواجب _ فلا یجوز له تفویت القدرة إلاّ بصرفها فی واجب أهم أو محتمل الأهمیة أو مساوٍ له علی ما یأتی الکلام فی مرجحات باب التزاحم، وهذا بخلاف سائر قیود الموضوع ممّا فرض فی جعل الحکم تحقّق القید فی عمود الزمان کالطهر للمرأة من طلوع الفجر إلی دخول اللیل فانّ التحفظ علی مثل هذا القید لا یدخل فی موضوع حکم العقل حیث إنّ فرض حصوله فی عمود الزمان فی التکلیف بالصوم ینافی لزوم التحفظ علیه. وأمّا لزوم الفحص عن القدرة وعدم الرجوع إلی البرائة الشرعیة فی موارد الشک فی القدرة علی متعلّق التکلیف فهو لاستظهاره ممّا ورد فی بعض الموارد کالفحص عن الماء مادام فی الوقت وکالفحص عن الساتر علی العاری وغیر ذلک ممّا یمکن مع ملاحظتها دعوی أنّ مثل حدیث الرفع ناظر إلی عدم ایجاب الإحتیاط فی موارد الشک فی التکلیف من غیر ناحیة القدرة من سائر القیود المأخوذة فی موضوعه أو الشک فی أصل جعله، کما لا یبعد أن یکون وجه تسالم الاصحاب ما ذکر.

والمتحصّل أنّ القدرة علی متعلق التکلیف بالمعنی المتقدم من القیود

ص :218

.··· . ··· .

الشَرح:

المأخوذة فی موضوع التکلیف ثبوتاً، ویکشف عن تقییده بها العقل حیث لا یصحّ من المولی الحکیم تکلیف العاجز لکونه لغواً ولا یقاس بالعلم بالتکلیف والجهل به ممّا لا یمکن تقیید موضوع الحکم والتکلیف بأحدهما ثبوتاً للزوم الخلف ویکون للتکلیف المجعول بالإضافة إلیهما اطلاقاً ذاتیاً علی ما تقدّم.

وما ذکره قدس سره من اعتبار النجاسة للخمر مع خروجه عن ابتلاء المکلّف غیر صحیح فانّ النجاسة حکم وضعی ولیس تکلیفاً متوجهاً إلی الأشخاص، فیصحّ جعل النجاسة للشیء مع امکان ابتلاء مکلف ما به ولو فی زمان ما، دون ما إذا لم یمکن الإبتلاء به أصلاً ولذا لا یصحّ جعل النجاسة لکرة الشمس.

وبالجملة بعث العنوان إلی فعل شیء غیر معقول فانّ العنوان لا یفعل شیئاً ولا یترکه فالمبعوث إلیه المندرجون تحت ذلک العنوان سواء کان التکلیف مجعولاً بنحو القضیة الخارجیة أو بنحو القضیة الحقیقیة وحیث إنّ فی فعل کل من یندرح تحته ملاک مستقلّ یکون التکلیف المجعول علی المندرجین تحته انحلالیاً.

وإذا لم یتمکن المکلف من الجمع بین التکلیفین المجعول کل منهما علی المتمکّن من متعلّقه فی الإمتثال، مع تمکنه علی امتثال کل منهما مع قطع النظر عن الآخر یکون هذا من التزاحم بین التکلیفین فی مقام الإمتثال فینحصر التزاحم بینهما علی ما کان صرف المکلف قدرته علی امتثال أحد التکلیفین موجباً لارتفاع التکلیف بالآخر لعدم القدرة علیه مع صرف القدرة کذلک.

نعم ذکر المحقق النائینی قدس سره للتزاحم بین التکلیفین مورداً آخر لا یکون التزاحم بینهما ناشئاً عن عدم القدرة علی الجمع بینهما فی الإمتثال وهو ما إذا کان شخص

ص :219

.··· . ··· .

الشَرح:

مالکاً للنصاب الخامس من زکاة الإبل بأن کان عنده خمسة وعشرون إبلاً وملک أثناء الحول إبلاً آخر فصار عنده ستّة وعشرون إبلاً، فمقتضی ما دلّ علی ثبوت خمس شیاه علی من ملک النصاب الخامس حولاً هو وجوب إخراج خمس شیاة، ومقتضی ما دلّ علی ثبوت بنت مخاض علی من ملک النصاب السادس حولاً وجوب بنت مخاض بعد تمام الحول من زمان تملک الإبل الآخر وأنّ ما دلّ علی أنّ المال الواحد لا یزکّی فی الحول مرّتین یوجب وقوع التزاحم بین التکلیفین(1).

ولکن لا یمکن المساعدة علیه: لأنّ مقتضی ما دلّ علی أنّ المال الواحد لا یزکّی فی الحول مرّتین عدم جعل أحد الحکمین فی الشریعة المقدسة فی المثال فتقع المعارضة بین إطلاق خطاب وجوب خمس شیاة بعد مضی الحول فی الخمسة والعشرین إبلاً وبین ما دلّ علی وجوب بنت مخاص فی الستة والعشرین، لو لم نقل بأنّ ما ورد فی عدم الزکاة فی المال الواحد فی الحول إلاّ مرة واحدة، قرینة علی أنّ تملک الإبل الآخر إلی نهایة حول النصاب الخامس معفو عنه فی الزکاة کما هو الصحیح.

وینبغی التنبیه علی أمور:

التنبیه الأوّل: قد ذکر أنّ ملاک التزاحم بین التکلیفین عدم التمکن من الجمع بینهما فی الإمتثال والتمکن من امتثال کل منهما فی حد نفسه مع قطع النظر عن امتثال الآخر، وعلیه فلا تزاحم بین التکلیفین المختلفین فی الزمان بأن یحدث التکلیف بأحدهما بعد انقضاء زمان التکلیف بالآخر کما إذا لم یتمکن المکلّف من

ص :220


1- (1) أجود التقریرات 1 / 285.

.··· . ··· .

الشَرح:

صیام شهر رمضان وتمکّن من صیام نصفه مثلاً، فانّ هذا لیس من موارد التزاحم بل علیه ما علی سائر المکلفین من الصیام فی النصف الأوّل من الشهر لتعلّق التکلیف المستقلّ بصوم کل یوم، ومع تمکنه من صیام النصف الأوّل یجب علیه الصیام فیه ولو عصی وترک الصیام فیه یثبت التکلیف بالإضافة إلی أیام النصف الثانی أیضاً لا من جهة التّرتب بل لثبوت الموضوع للتکلیف بصیام تلک الأیام وجداناً حتی عند القائلین بامتناع الترتب.

وما عن الماتن قدس سره بعد التزامه بامتناع ثبوت الأمرین بالضدین فی زمان واحد من حمل ما وقع من طلب الضدین علی ذلک کما تری حیث قال قدس سره :

«إن قلت فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدین فی العرفیات.

قلت: لا یخلو إمّا ان یکون الأمر بغیر الأهم بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقیقة وإمّا أن یکون الأمر به إرشاداً إلی محبوبیّته وبقائه علی ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة وأنّ الإتیان به یوجب استحقاق المثوبة فیذهب بعض ما استحقّه من العقوبة علی مخالفة الأمر بالأهم لا أنّه أمر مولویِّ فعلی کالأمر به فافهم وتأمّل جیداً»(1).

أقول: قد ذکرنا انّ فی بعض موارد التزاحم بین التکلیفین یسقط الأمر بالمهم أیضاً بسقوط الأمر بالأهم، کما مثّلنا لذلک بوجوب صلاة العصر وصلاة الآیات فیما إذا حصل الکسوف للشمس قبل غروبها بزمان لا یکفی إلاّ لإحدی الصلاتین، فانّه تقدّم صلاة العصر لکونها أهم أو محتمل الأهمیة وإذا انقضی وقتها یسقط وجوب

ص :221


1- (1) کفایة الأصول: 135.

.··· . ··· .

الشَرح:

صلاة الآیات أیضاً لحصول الإنجلاء بغروبها مثلاً، وفی مثل ذلک لا مورد للقول بوجوب المهم بعد سقوط الأمر بالأهم، کما لا مورد للأمر الإرشادی أیضاً، لأنّه لیس فی البین إلاّ خطاب الأمر بصلاة الآیات عند کسوف الشمس قبل انجلائها ولیس لهذا الخطاب إطلاق بالنسبة إلی ما بعد الإنجلاء حتی یشمل مورد التزاحم کما هو المفروض فی الترتب فکیف یلتزم ببقاء صلاة الآیات علی ملاکها الذی کان، لولا المزاحمة.

وبالجملة، ما ذکرنا فی مسألة عدم التمکن إلاّ من صیام نصف شهر رمضان خارج عن موضوع التزاحم بین التکلیفین، نعم یعاقب المکلّف علی ترک صیام النصف الأوّل فیما إذا صام النصف الثانی ویعاقب علی ترک صیام کل شهر رمضان علی تقدیر ترکه الصوم فی النصف الثانی أیضاً، وهذا الأمر مما لابدّ أن یلتزم الماتن قدس سره به أیضاً وإذا التزم بالعقاب کذلک فی الفرض فلا فرق بین ذلک وبین الإلتزام بتعدّد العقاب فی موارد التزاحم والقول بالترتّب بین التکلیفین، لأنّ أحد العقابین علی ترک الاهم والعقاب الآخر علی الجمع بین ترکه وترک المهمّ حیث کان یمکن للمکلف علی تقدیر ترک الأهم أنّ لا یجمع بین ترکهماباتیان المهمّ، فلا یکون العقاب علی ترکهما قبیحاً لأنّه لیس عقاباً علی ما لا یقدر، کما لا یکون أیضاً قبیحاً فی فرض ترک الصوم فی جمیع أیّام الشهر فی المثال، وبالجملة فمثل فرض القدرة علی صیام بعض أیام شهر رمضان خارج عن باب تزاحم التکلیفین.

وکذلک لا یکون التکلیفان من المتزاحمین فیما إذا کانا فی زمان واحد ولکن کان أحد الواجبین مشروطاً بوقوعه بعد الواجب الآخر، کما فی المستحاضة التی یجب علیها الوضوء لکل صلاة وإذا زالت الشمس وجب علیها الظهران معاً، ولکن

ص :222

.··· . ··· .

الشَرح:

صلاة العصر _ کما فی سائر المکلفین _ مشروطة بوقوعها بعد صلاة الظهر ومع فرض أنّها لا تتمکن من الوضوء إلاّ لإحدی الصلاتین _ الظهر أو العصر _ فلابدّ من أنّ تقع الأخری مع التیمم لقلة الماء، فتجب علیها صلاة الظهر مع الوضوء وصلاة العصر مع التیمم بلا تزاحم بین التکلیفین أصلاً فانّه علی تقدیر الوضوء للظهر تکون فاقدة الماء للعصر فلا تجب إلاّ مع التیمم، وعلی تقدیر التیمم لصلاة الظهر یحکم ببطلان صلاة عصرها بالوضوء أو مع التیمم لعدم حصول شرط صلاة العصر وهو ترتّبها علی الظهر الصحیحة.

وبتعبیر آخر المستحاضة المزبورة لتمکّنها من صلاة الظهر مع الوضوء یجب فی حقها صلاة الظهر معه ولعدم تمکّنها من صلاة العصر إلاّ مع الطهارة الترابیّة یجب علیها العصر مع التیمم، فثبوت أحد التکلیفین لثبوت موضوعه، وعدم ثبوت الآخر لفقد موضوعه لیس من باب تقدیم أحد المتزاحمین علی الآخر.

وما عن المحقق النائینی قدس سره من کون المقام من التزاحم بین التکلیفین ولکن لا یجری فیهما الترتب(1)، لا یمکن المساعدة علیه بوجه إذ لا تزاحم بینهما أصلاً، فإنّ التکلیف بصلاة العصر مع الوضوء ینتفی بثبوت التکلیف بصلاة الظهر مع الوضوء وأمّا التکلیف بصلاة العصر مع التیمّم فلا یزاحم التکلیف بالظهر مع الوضوء لتمکّن المکلف من الجمع بینهما فی الإمتثال.

نعم یدخل فی المتزاحمین _ مع عدم جریان الترتب فیهما _ التکلیفان المتوقف موافقة أحدهما علی مخالفة التکلیف الآخر کما إذا توقف إنقاذ الغریق أو إطفاء

ص :223


1- (1) أجود التقریرات: 318.

.··· . ··· .

الشَرح:

الحریق علی الدخول فی ملک الغیر بلا رضا صاحبه، وفی مثل ذلک إذا کان التکلیف بوجوب الانقاذ أو الاطفاء أهمّ من حرمة الدخول فی ملک الغیر بلا رضاه وقلنا بوجوب المقدمة، یجب رعایة التکلیف الأهمّ ولکن لا یمکن الإلتزام بالترتّب فیه والقول بتوقف تحریم الدخول فیه علی تقدیر عصیان الأمر بالأهم ولو بنحو الشرط المتأخر کما التزم به المحقق النائینی قدس سره (1) لما تقدم فی بحث وجوب المقدمة من أنّ الترتب لا یصحح محذور التکلیف المحال وانّما یرتفع به محذور التکلیف بالمحال یعنی طلب الجمع بین الضدین وأمّا ثبوت الوجوب الغیری بفعل مطلقاً والحرمة النفسیّة لذلک الفعل ولو علی تقدیر غیر ممکن لأنّه من التکلیف المحال.

نعم لو قیل بعدم وجوب المقدمة أصلاً أو قیل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة فیمکن القول بتحریم تلک المقدمة فی فرض عدم تحقق الواجب الأهم، ویرفع الید عن حرمة تلک المقدمة عند الإضطرار إلی ارتکابه فی فرض حصول ذی المقدمة.

لا یقال: القائل بوجوب ذات المقدمة إنّما یلتزم به مع عدم المانع عن ایجاب المقدمة مطلقاً، وأمّا إذا کان فی البین مانع عن ایجابها مطلقاً کما فی فرض ثبوت الحرمة النفسیة للمقدمة لولا توقف الواجب الأهم علی ارتکابها فیلتزم بأنّ الوجوب الغیری المتعلّق بالمقدمة مشروط بحصول ذیها بنحو الشرط المتأخر وحرمتها علی تقدیر عدم حصول ذیها.

فانّه یقال: قد تقدم عدم امکان تعلیق وجوب المقدمه غیریّاً علی حصول ذیها

ص :224


1- (1)أجود التقریرات: 320.

.··· . ··· .

الشَرح:

بأن یکون حصول ذیها من قیود نفس الوجوب الغیری لا قیداً للواجب الغیری کما التزم به صاحب الفصول قدس سره فان اشتراط نفس الوجوب الغیری بحصول ذیها ولو فیما بعد، من قبیل الأمر بالمقدمة فی فرض حصولها، وهو داخل فی طلب الحاصل کما لا یخفی.

التزاحم بین وجوبات الأجزاء والشرائط

التنبیه الثانی: أنّه لا تزاحم فی موارد عدم تمکن المکلف من الجمع بین الجزئین أو الشرطین أو بین الجزء والشرط لواجب، کما إذا دار أمر المکلف بین صرف الماء فی تطهیر بدنه أو وضوئه، فانّ شیئاً من هذه الموارد لا یدخل فی باب التزاحم بین التکلیفین، وبتعبیر آخر ینحصر التزاحم بین التکلیفین بما إذا کان التکلیفان نفسیّین، وأمّا التکلیف الغیری فلا یدخل فی مورد التزاحم فانّه فی هذه الموارد لو لم یکن فی ناحیة دلیل أحد الجزئین أو الشرطین إطلاق أو عموم وکان فی ناحیة دلیل الآخر عموم أو إطلاق فیؤخذ بما فی ناحیته الإطلاق والعموم ویثبت به عدم اعتبار الآخر فی هذه الحال.

وإن کان لدلیل اعتبار کل منهما عموم أو إطلاق فیدخل الفرض فی مبحث تعارض الدلیلین لا فی تزاحم التکلیفین، إذ القاعدة فی مثله تقتضی سقوط التکلیف بالواجب النفسی رأساً لأنّ التکلیف بشیء، مشروط بالتمکّن منه بتمام شروطه وأجزائه والمفروض انتفاء التمکّن کذلک فینتفی التکلیف به، ولکن إذا علم عدم سقوط التکلیف بذلک الواجب بمجرّد تعذّر جزئه أو شرطه کما فی الصلاة تقع المعارضة بین ما دلّ علی اعتبار کل من الجزئین، أو الشرطین، أو الجزء والشرط

ص :225

.··· . ··· .

الشَرح:

المفروض تعذر الجمع بینهما ومع عدم المرجح لدلیل أحدهما کما إذا کان دلالة دلیل اعتبار کل منهما بالإطلاق أو بالعموم یکون المرجع الأصول العملیة ومقتضاها البرائة عن اعتبار کل منهما بخصوصه بعد العلم اجمالاً بعدم جواز ترکهما معاً کما هو المقرّر فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فتکون النتیجة تخییر المکلف بین الإتیان بالواجب بذلک القید أو بالآخر. نعم لو کانت الدلالة فی ناحیة أحدهما بالإطلاق وفی ناحیة الآخر بالعموم فیؤخذ بمقتضی العموم، بناءاً علی انتفاء الإطلاق مع قیام العامّ الوضعی علی خلافه، نظیر ما إذا کان دلیل اعتبار أحدهما مبیّناً واضح الدلالة وکان خطاب الآخر مجملاً أو مهملاً فیؤخذ بدلالة الخطاب اللفظی المبیّن ویترک المجمل.

ثمّ إنّ هذا کله فیما إذا لم یکن فی البین دلالة علی تعیین الساقط وإلاّ فیؤخذ بمقتضاه کما إذا لم یتمکن من القیام فی تمام رکعات الصلاة وتمکّن منه فی بعضها بأن دار الأمر بین رعایة القیام فی الرکعتین الأولیین أو الأخیرتین فانّه یجب رعایته فی الأولیین لقوله علیه السلام فی صحیحة جمیل(1) «إذا قوی فلیقم». وکما إذا دار أمر المکلّف بین الإتیان بتمام الصلاة فی وقتها مع الطهارة الترابیة أو الإتیان برکعة أو أکثر فی الوقت مع الطهارة المائیة، فانّه یتعیّن علیه الصلاه فی الوقت مع الطهارة الترابیّة لدلالة الآیة المبارکة(2) ولا أقل من دلالة صحیحة زرارة(3) عن أحدهما علیهماالسلام قال: «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت فإذا خاف أن یفوته الوقت فلیتیمّم

ص :226


1- (1) الوسائل: ج 4، باب 6 من أبواب القیام، الحدیث 3.
2- (2) سورة المائده: الآیة 6.
3- (3) الوسائل: ج 2، باب 1 من أبواب التیمم، الحدیث 1.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولیصل»، فانّ ظاهرها خوف فوت الوقت عن کلّها فتقدّم الصلاة الواقعة بتمامها فی الوقت مع الطهارة الترابیة دون الواقعة بعضها فیه مع الطهارة المائیة نظیر ما تقدم فی النهی عن التخلی إلی القبلة من ظهور القبلة فی القبلة الإختیاریة.

وقد ظهر ممّا ذکرنا أنّه فی دوران الأمر بین صرف الماء للوضوء أو الغسل لصلاته وبین صرفه فی تطهیر ثوبه أو بدنه، تجری أحکام التعارض ولا یجری حکم التزاحم بین التکلیفین وأنّه لیس من صغریات باب التزاحم لیقال إنّه یقدم تطهیر الثوب والبدن بدعوی أنّه یقدم فی باب التزاحم ما لیس له بدل علی ما له البدل، مع أنّ المقام لو کان من التزاحم لکان کلا المتزاحمین ذا بدل إذ الصلاة بالتیمم کما أنّها بدل عن الصلاة بالوضوء أو الغسل کذلک الصلاة فی ثوب نجس أو مع بدن نجس بالوضوء بدل عن الصلاة الإختیاریة فلا موجب لتقدیم احداهما علی الأُخری، إلاّ أنّ الأحوط صرف الماء فیتطهیر الثوب أو البدن أوّلاً ویتحقق بذلک کونه فاقد الماء فیصح تیمّمه جزماً.

نعم یدخل فی باب التزاحم ما إذا کان المسجد نجساً ودار أمره بین أن یصرف الماء فی تطهیره ویتیمّم لصلاته أو یتوضأ أو یغتسل لصلاته حیث إنّه یقدم تطهیر المسجد لأنّه لیس له بدل بخلاف الصلاة مع الوضوء أو الغسل فانّ الصلاة بالتیمم بدل لها.

ولا یخفی أنّ الوجه فی تقدیم ما لیس له بدل فی مقام المزاحمة علی ما له بدل هو أنّ هذا التقدیم مقتضی الجمع بین التکلیفین فی الإمتثال وهذا الوجه لا بأس به فیما إذا لم یحرز کون المبدل منه بملاکه أقوی من ملاک البدل والواجب الآخر.

التنبیه الثالث: قد ظهر ممّا ذکرنا فی میزان التزاحم بین التکلیفین أنّه لا تزاحم

ص :227

.··· . ··· .

الشَرح:

فی موارد اجتماع الأمر والنهی فیما إذا کان الترکیب بین عنوانی الواجب والحرام اتحادیاً حیث یأتی فی مسألة جواز الإجتماع وعدمه أنّه لا یمکن فی موارد الترکیب الإتحادی ثبوت کلا الحکمین فی المجمع وانّ الممکن ثبوت أحدهما، وعلیه یکون خطاب الأمر مع خطاب النهی من المتعارضین فی ذلک المجمع وأنّه یقدم خطاب النهی مع عدم الموجب لسقوط النهی فیه کالإضطرار لا بسوء الاختیار أو الغفلة وإلاّ یؤخذ بإطلاق الأمر بالطبیعی فیه بلا فرق بین صورة وجود المندوحة وعدمها ولا یمکن الأمر والترخیص فی المجمع بنحو الترتّب لما تقدّم من أنّ الترتب لا یصحح التکلیف المحال، ولا یکون من باب التزاحم أیضاً فیما إذا کان الترکیب بین العنوان المحرم والعنوان الواجب انضمامیّاً مع وجود المندوحة فی البین، کما لا یکون بین خطابیهما تعارض لثبوت کلا التکلیفین وتمکّن المکلف من الجمع بینهما فی الإمتثال بعد الفراغ عن جعلهما.

نعم یثبت التزاحم بینهما فی فرض عدم المندوحة کما إذا لم یتمکن المکلف من الوضوء لصلاته إلاّ فی مکان یصبّ فیه غسالة الوضوء فی ملک الغیر بلا رضا صاحبه وفی مثله تنتقل الوظیفة إلی التیمم لأنّ الأمر بالصلاة مع الوضوء لها بدل، بخلاف حرمة التصرف فی ملک الغیر، ولکن یمکن تصحیح الوضوء بالأمر به علی نحو الترتّب علی مخالفة التکلیف بترک الغصب بأن یجب الوضوء علی تقدیر صب المکلف غسالة ذلک الماء فی ملک الغیر حیث إنّ صبّ ذلک الماء فی الفرض من قبیل اللازم الأعم للوضوء فیمکن صبّه من غیر أن یتوضأ فلا یکون الأمر بالوضوء علی تقدیر العصیان بصبّه من طلب الحاصل، ولا من التکلیف المحال لأنّ العنوان المحرّم لا ینطبق علی نفس الوضوء کما لا یخفی، وکذا فیما کان ظرف الماء مغصوباً

ص :228

.··· . ··· .

الشَرح:

وتوقف الوضوء علی الإغتراف منه تدریجاً.

نعم فی موارد کون الترکیب فی المجمع اتحادیّاً کالوضوء بالماء المغصوب والسجود فی مکان مغصوب أو کان الترکیب بین العنوانین انضمامیّاً وقیل بامتناع الإجتماع حتی فی موارد هذا الترکیب لسرایة الحکم من متعلّق أحدهما إلی الآخر فیدخل الفرض فی مورد تعارض الخطابین للعلم بعدم ثبوت کلا الحکمین فی المجمع واقعاً بلا فرق بین صورة المندوحة وعدمها ویأتی فی باب جواز الإجتماع أنّ مقتضی الجمع العرفی بین خطابی الأمر والنهی فی موارد امتناع الإجتماع تقدیم خطاب النهی وتقیید متعلق الأمر فی خطاب الامر بغیر المجمع.

التنبیه الرابع: قد ذکر من مرجحات باب التزاحم کون زمان امتثال أحد التکلیفین مقدماً علی زمان امتثال التکلیف الآخر کما إذا نذر صوم یوم الخمیس والجمعة علی سبیل الإنحلال لا بنحو العام المجموعی ولم یتمکن من صیامهما معاً وکان متمکناً علی صوم یوم واحد ففی هذه الصورة یتعیّن علیه صوم یوم الخمیس، حیث إنّ ترک الصوم فیه ترک للمنذور مع التمکن من امتثاله ومع الصوم فیه یرتفع التکلیف بالإضافة إلی صوم یوم الجمعة لعدم القدرة علی المنذور فلا یکون فی البین حنث، بخلاف ما إذا ترک الصوم فیه وصام یوم الجمعة حیث یتحقق الحنث بترک الصوم یوم الخمیس لأنّه ترک المنذور فیه مع التمکن علی الإتیان به، ویقال من هذا الباب ما إذا لم یتمکن المکلّف علی صیام جمیع أیام شهر رمضان وتمکّن من صیام نصف الشهر مثلاً، فانّه یتعیّن علیه صیام النصف الأوّل وإذا ترک الصیام فیه یکون من مخالفة التکلیف بلا عذر، بخلاف ما إذا صام ذلک النصف فیکون ترک الصوم فی النصف الثانی من باب عدم تکلیفه بالصوم لعدم قدرته علیه ولا محذور فیه.

ص :229

.··· . ··· .

الشَرح:

أقول: کون الفرض مثالاً لتعیّن امتثال الأسبق فی الإمتثال مبنی علی تعلّق التکلیف بصیام أیّام الشهر من ابتداء الشهر وأمّا بناءاً علی کون وجوب صوم کل یوم تکلیفاً مستقلاً یحدث من اللیل أو عند طلوع فجر ذلک الیوم فلا یکون المثال داخلاً فی المتزاحمین حیث إنّ المکلف فی کل یوم من أیام النصف الأول مکلف بصوم ذلک الیوم ولا تکلیف آخر فی حقّه، نعم لو عصی وترک الصوم فی أیام النصف الأوّل یکون مکلّفاً بالصوم فی أیّام النصف الثانی وهذا أمر یلتزم به القائل بالترتّب وعدمه وقد تقدم أنّه لو ترک الصوم فی أیّام النصف الثانی أیضاً استحق عقاب ترک الصوم فی جمیع أیام الشهر.

ثمّ إنّ تقدیم ما یکون ظرف امتثاله مقدّماً علی ظرف امتثال الآخر إنّما هو فیما إذا لم یحرز أهمیّة التکلیف الآخر الذی یجب علی المکلّف حفظ القدرة له وإلاّ لم یکن له تکلیف بالسابق حتی بنحو الترتب حیث إنّ الأمر بحفظ القدرة للواجب الأهم المتأخر زمان امتثاله أو تکلیفه، لا یجتمع مع الأمر بالسابق حیث ینطبق علی الإتیان بالسابق عنوان ترک حفظ القدرة علی اللاحق الأهمّ، ولا یمکن الأمر بحفظ القدرة علی الواجب الأهم مع الأمر بترکه ولو علی نحو الترتّب فانّ الترتّب لا یصحّح التکلیف المحال، وعلیه لو کان عند المکلف ماء قلیل یکون صرفه علی وضوئه أو غسله موجباً لایقاع نفسه فی الهلاکة فیما بعد لعروض العطش الشدید مثلاً، یکون وضوئه محکوماً بالبطلان ولا یمکن تصحیحه بالأمر بالصلاة مع الوضوء حتی بنحو الترتب کما لا یخفی حیث ینطبق علی الوضوء ترک التحفظ علی النفس الّذی هو القائها فی الهلکة.

التنبیه الخامس: ذکر المحقّق النائینی قدس سره للمتزاحمین مرجحاً آخر وهو أنّه إذا

ص :230

.··· . ··· .

الشَرح:

کانت القدرة المأخوذة فی ناحیة أحد التکلیفین شرعیةً وفی ناحیة التکلیف الآخر عقلیّةً یقدّم ما یکون اعتبارها فی ناحیته عقلیاً وذلک لتمامیة الملاک فی ناحیة ذلک الواجب بخلاف المأخوذ فی ناحیته القدرة الشرعیة فانّه یرتفع وجوبه لعدم الموضوع له مع التکلیف الآخر(1).

أقول: إن أرید من القدرة الشرعیّة فی وجوب فعل، عدم اشتغال ذمّة المکلف بتکلیف آخر لا یجتمع امتثاله مع الإتیان بذلک الفعل فالتکلیف الذی لم یؤخذ القدرة الشرعیّة فی موضوعه وإن کان مقدّماً إلاّ أنّ تقدیمه لیس من جهة الترجیح فی مقام التزاحم بل لأنّ الخطاب الدالّ علی التکلیف المزبور یکون وارداً علی التکلیف الذی أخذت القدرة الشرعیة فی موضوعه وورود دلیل أحد التکلیفین علی دلیل التکلیف المستفاد من خطاب آخر غیر عزیز.

ومن هذا القبیل ما لو آجرت المرأة نفسها للصوم عن المیّت ثم تزوّجت فلا یجوز لها ترک العمل بالإجارة وإجابة زوجها عند طلبه التمکین منها، لأنّ ما دلّ علی وجوب الوفاء بالعقد وأداء ما علیها من الفعل المملوک فی عهدتها للغیر، یکون وارداً علی خطاب وجوب الإطاعة لزوجها، نعم الورود یختص بمادام کونها صائمة فی الیوم أو مکلفة بصوم ذلک الیوم حیث لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق.

ولو ترکت الصوم الواجب علیها فی یوم بحیث فات صوم ذلک الیوم وجب علیها إجابة زوجها لسقوط الأمر بالوفاء بالإجارة بالإضافة إلی ذلک الیوم.

وبالجملة فمع أحد التکلیفین یرتفع موضوع التکلیف الآخر وهذا لیس من

ص :231


1- (1) أجود التقریرات 1 / 272.

.··· . ··· .

الشَرح:

التزاحم بل مورد التزاحم ما لا یمکن الجمع بین امتثال التکلیفین مع ثبوت الموضوع لکل منهما.

والظاهر أنّه من هذا القبیل ورود خطاب وجوب الحج علی خطاب وجوب الوفاء بالنذر ونحوه فیما إذا نذر زیارة الحسین علیه السلام یوم عرفة ثمّ حصل له مال یفی بمصارف الحجّ فی تلک السنة مع تمکّنه من الخروج له حیث یکون خطاب وجوب الحجّ عند حصول المال رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر کما هو ظاهر قوله علیه السلام ؛ فی بعض روایات الیمین «إذا رأیت خیراً من یمینک فدعها»(1) وفی بعض روایات النذر «کل ما کان لک فیه منفعة فی دین أو دنیا فلاحنث علیک فیه»(2).

والمتحصل أنّ المعتبر فی انعقاد النذر عدم اشتغال الذمة بواجب آخر فی ظرف الوفاء بالنذر، نعم إذا ترک الخروج إلی الحج بحیث لا یمکن الخروج إلیه ولکن امکن الخروج إلی زیارة الحسین علیه السلام فی عرفة فلا بأس بالإلتزام بوجوب الوفاء بالنذر.

وإن أرید بالقدرة الشرعیة ما یرادف التمکن العقلی بحیث لا یکون التکلیف معها من تکلیف العاجز فمع أخذ هذه القدرة فی خطاب أحد التکلیفین یکون ذلک التکلیف مع الآخر الذی لم تؤخذ هذه القدرة فی ناحیة الموضوع فی خطابه من المتزاحمین، ولکن لا موجب لتقدیم الثانی علی الأول فی مقام الإمتثال لأنّ تمامیة الملاک لا یختصّ بأحد التکلیفین فلابدّ فی الترجیح من التماس مرجح آخر.

وإن أرید من القدرة الشرعیة ما تقدم سابقاً _ من اعتبار القدرة الفعلیة بحیث

ص :232


1- (1) الوسائل: 16 / 145، باب 18 من کتاب الإیمان، الحدیث 1.
2- (2) الوسائل: 16 / 199، باب 17 من کتاب النذر والعهد، الحدیث 1.

.··· . ··· .

الشَرح:

یکون حدوث هذه القدرة وبقائها معتبراً فی حدوث التکلیف وبقائه، بخلاف التکلیف الآخر الّذی تکون القدرة المعتبرة فی ناحیته هو عدم لزوم تکلیف العاجز بحیث یکون تحقیق القدرة الفعلیة کاف فی تنجّز ذلک التکلیف _ فلا یبعد أن یقال بتقدیم امتثاله علی التکلیف الآخر فإنّ مع تقدیمه یکون ارتفاع التکلیف الآخر بارتفاع موضوعه بخلاف تقدیم ما اعتبر فیه القدرة الشرعیّة فإنّ فی تقدیمه تفویتاً للملاک اللازم استیفائه کما لا یخفی.

ثمّ ذکر المحقق النائینی قدس سره للمتزاحمین مرجحاً آخر أیضاً وهو _ فیما إذا کانت القدرة المعتبرة فی کل من الواجبین شرعیة _ الأسبق حدوثاً فیقدّم من التکلیفین ما یکون حدوثه قبل حدوث التکلیف الآخر ولو لم یکن زمان الإتیان بمتعلّقه مقدماً علی الثانی لأنّ حدوث أحد التکلیفین قبل الآخر یکون بفعلیة موضوعه قبل فعلیة موضوع الآخر ومع فعلیّة موضوع الأوّل لا یکون لموضوع الآخر فعلیّة لعدم القدرة علیه، وبتعبیر آخر تکون فعلیّة الموضوع لأحدهما أوّلاً رافعة لفعلیة الموضوع للآخر، کما إذا نذر أنّه لو وصل إلیه خبر حیاة ابنه الغائب فللّه علیه حجّ البیت فی تلک السنة، ونذر أیضاً بعد ذلک بمناسبة مرض ولده الآخر أنّه لو برء من مرضه فللّه علیه زیارة الحسین علیه السلام فی یوم عرفة من هذه السنة فلو فرض أنّ ولده برء من مرضه ثم جاء خبر حیاة ولده بعد أیّام فانّه یجب علیه الخروج إلی زیارة الحسین علیه السلام یوم عرفة لفعلیة وجوبها من حین برء ولده ومعه لا یبقی لوجوب الحج المنذور موضوع(1).

أقول: الحکم فی المثال الذی ذکره صحیح فانّ المعتبر فی وجوب الوفاء بالنذر

ص :233


1- (1) أجود التقریرات 1 / 273.

.··· . ··· .

الشَرح:

کما تقدم أن لا تشتغل عهدة المکلف بتکلیف آخر لا یمکن الجمع بینهما، وعلیه فعند وصول خبر حیاة ابنه الغائب کانت عهدته مشغولة بزیارة الحسین علیه السلام یوم عرفة فینحلّ نذر حج البیت الحرام فی تلک السنة، ولکن هذا لا یدخل فی باب التزاحم لعدم فعلیة أحد التکلیفین مع فعلیة التکلیف الآخر، نعم إذا تحقّق الشرطان فی زمان واحد یکون التکلیفان من المتزاحمین، وفی تعیّن صرف القدرة علی ما کان نذره سابقاً علی النذر الآخر وجه.

وأمّا القدرة الشرعیّة بمعنی أخذها فی خطاب التکلیف التی لا تزید علی القدرة العقلیة المعتبرة فی التکلیف بحکم العقل أو القدرة الشرعیة التی ذکرناها(1) بالمعنی الثالث ففعلیة أحد التکلیفین أوّلاً لا تمنع عن فعلیة التکلیف الآخر لاحقاً وبعد ذلک وفی مثله لا موجب لتقدیم التکلیف الذی کان فعلیّته قبل الآخر إذا لم یکن زمان امتثاله مقدّماً أو لم یحرز أهمیّته أو کونه محتمل الأهمیة.

فقد تلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ ما یدخل فی التکلیفین المتزاحمین یتعیّن فیهما صرف القدرة علی ما کان ظرف امتثاله مقدماً أو کان محرز الأهمیة أو محتملها، لعدم إحراز التقیید فی محتمل الأهمیّة بخلاف التکلیف الآخر الذی لا یحتمل فی ناحیته الأهمیّة فانّه مشروط قطعاً بعدم صرف القدرة فی تکلیف آخر أهم.

کما أنّه إذا کان امتثال أحدهما سابقاً أو محرز الأهمیّة یکون التقیید وارداً فی الخطاب الآخر علی ما تقدم فی تصحیح الترتّب.

وإذا کان المتزاحمان سیّان فی الأهمیّة وعدمها یرد التقیید علی الإطلاق فی

ص :234


1- (1) مرّ ذکرها فی ص 69.

ثم إنه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتب، بما هو لازمه من الإستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین [1]، ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد، ولذا کان سیدنا الأستاذ قدس سره لا یلتزم به __ علی ما هو ببالی __ وکنا نورد به علی الترتب، وکان بصدد تصحیحه، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة، مع مضادتها لما هو أهم منها، إلاّ ملاک الأمر.

نعم فیما إذا کانت موسعة، وکانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت، لا فی تمامه] 2]، یمکن أن یقال: إنه حیث کان الأمر بها علی حاله، وإن صارت مضیقة الشَرح:

ناحیة کل منهما کما ذکرناه فی الترتب المکرّر أی الترتب فی کلا المتزاحمین.

[1] أقول قد تقدم أنّه لا محذور فی الإلتزام بتعدّد العقاب ولا یکون تعدّده من العقاب علی ما لا یکون بالإختیار، فانّ أحد العقابین علی ترک الأهم أو الأسبق فی ظرف امتثاله، والعقاب الآخر علی ضمّ ترک المهمّ إلی ترک الأهم، أو ضمّ المتأخّر زمان امتثاله إلی ما هو متقدّم زمان امتثاله، بل فیما إذا کانا متساویین فی الأهمیة وعدمها أو کانت الأهمیة محتملة فی ناحیة کل منهما یمکن الإلتزام باستحقاق العقابین لمخالفة کل من التکلیفین مع فرض الفعلیة لکل منهما، حیث لو کان ممثلاً لأحدهما لما کان فی البین مخالفة أصلاً، لامتثال أحدهما وسقوط الفعلیة عن التکلیف الآخر مع الإمتثال المزبور، وذکرنا أنّه لو کان استحقاق العقاب المتعدد محذوراً للقول بالترتب لما کان عدم الإلتزام بالترتب موجباً لعدم الإبتلاء بالمحذور المزبور إذ علی الماتن قدس سره أیضاً الإلتزام بتعدّد العقاب بعدد أیام شهر رمضان فیما إذا لم یکن المکلف متمکناً إلاّ علی صیام نصف شهر رمضان ولم یصم النصف الأوّل ولا النصف الثانی فلا نعید.

[2] هذا استدراک عمّا ذکره فی الجواب عن السؤال فیما وقع فی العرفیات من

ص :235

بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها، أمکن أن یؤتی بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر، فإنه وإن کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها، إلاّ أنه لما کان وافیاً بغرضها کالباقی تحتها، کان عقلاً مثله فی الإتیان به فی مقام الإمتثال، والإتیان به بداعی ذاک الأمر، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً.

الشَرح:

طلب الضدین علی نحو الترتب حیث حمل طلبهما علی أحد الوجهین إمّا أن یکون تعلّق الأمر بالثانی بعد سقوط الأمر بالأوّل وإمّا أن یکون الأمر بالثانی _ فی صورة ترک امتثال التکلیف بالأوّل _ إرشاداً إلی محبوبیته، وحاصل الوجهین المنع عن اجتماع أمرین مولویین بالضدین فی زمان واحد.

والإستدراک هو أنّه لا بأس باجتماع الأمرین فیما إذا کانت العبادة التی ضد للواجب الأهم من قبیل الواجب الموسع حیث یمکن الأمر بالموسع عند الأمر بالمضیق الأهم، غایة الأمر یوجب التضاد خروج الفرد المزاحم من الموسع، للواجب الأهم عن متعلق الأمر بالموسع ولکن مع خروجه عنه یمکن الإتیان به اطاعة للأمر بالموسع فانّ الأمر بالموسع وإن کان لا یدعوا إلاّ إلی متعلّقه ومتعلّقه _ بلحاظ الأمر لا یعمّ الفرد المزاحم للواجب الاهم إلاّ أنّ الفرد المزاحم بما أنّه کالفرد غیر المزاحم فی واجدیّته لملاک العبادة فیمکن للمکلّف الإتیان به فی مقام امتثال الأمر بالموسع فانّه لا یری العقل تفاوتاً فی مقام الإمتثال بین الفردین إذ خروج الفرد المزاحم عن متعلق الأمر بالموسع لیس للتخصیص _ یعنی فقد الملاک _ بل للمزاحمة بینه وبین الواجب الأهم.

أقول: قد تقدم(1) أنّه لا مزاحمة بین الواجب الموسّع والواجب المضیق حیث إنّ الطلب فی ناحیة الموسّع کما لا یتعلّق بالأفراد التی لا تزاحم الواجب المضیق

ص :236


1- (1) تقدّم فی الصفحة 194.

ودعوی أن الأمر لا یکاد یدعو إلاّ إلی ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها، وما زوحم منها بالأهم، وإن کان من أفراد الطبیعة، لکنه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها، فاسدة، فإنه إنما یوجب ذلک، إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصاً لا مزاحمة، فإنه معها وإن کان لا تعمه الطبیعة المأمور بها، إلاّ أنه لیس لقصور فیه، بل لعدم إمکان تعلق الأمر بما تعمه عقلاً، وعلی کل حال، فالعقل لا یری تفاوتاً فی مقام الإمتثال وإطاعة الأمر بها، بین هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.

هذا علی القول بکون الأوامر متعلقة بالطبائع.

وأما بناءً علی تعلقها بالأفراد فکذلک، وإن کان جریانه علیه أخفی، کما لا یخفی، فتأمل.

الشَرح:

کذلک لا یتعلّق بالأفراد المزاحمة للمضیّق، وانّما یتعلّق بصرف وجود الطبیعیّ بین الحدین، وصرف الوجود وانطباق الطبیعی کما یکون بحصول فرد من الأفراد التی لا تزاحم المضیق، کذلک یکون بحصول فرد من الأفراد المزاحمة، ومعنی الإطلاق فی ناحیة الموسع رفض خصوصیات الأفراد کلّها عن متعلّق الأمر وطلب صرف وجودها لا طلب الوجودات علی سبیل العام الإستغراقی أو علی البدل، وبما أنّ الأمر بالمضیق لا یقتضی النهی عن ضده الخاص فیمکن للمکلّف الإتیان بالفرد المزاحم بما هو مصداق لمتعلق الطلب، لا أنّه نفس الطلب، کما هو الحال فی الفرد غیر المزاحم أیضاً، ولو کان فی متعلق طلب الموسع ضیق بحیث ما کان المتعلق _ بلحاظ تعلق الطلب _ یصدق علی الفرد المزاحم لما أمکن الحکم بصحّته بدعوی حصول ملاک الواجب فیه، فإنّه لا سبیل إلی کشف الملاک إلاّ إطلاق المتعلّق وصدقه علی الفرد حتی مع الأمر بالواجب المضیق.

لا یقال: إطلاق المتعلّق بالمعنی المذکور لا یجتمع مع الأمر بالواجب المضیق

ص :237

ثم لا یخفی أنه بناءً علی إمکان الترتب وصحته، لا بد من الإلتزام بوقوعه، من دون انتظار دلیل آخر علیه [1]، وذلک لوضوح أن المزاحمة علی صحة الترتب لا تقتضی عقلاً إلاّ امتناع الاجتماع فی عرض واحد، لا کذلک، فلو قیل بلزوم الأمر فی صحة العبادة: ولم یکن فی الملاک کفایة، کانت العبادة مع ترک الأهم صحیحة لثبوت الأمر بها فی هذا الحال، کما إذا لم تکن هناک مضادّة.

الشَرح:

ولو قیل بأنّ الأمر بالمضیق لا یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ، والوجه فی عدم الإجتماع أنّ الأمر بالموسع ولو بنحو طلب صرف وجود الطبیعی یستلزم الترخیص فی التطبیق علی أی فرد منه بنحو العموم الإستغراقی والترخیص فی التطبیق علی الفرد المزاحم لا یجتمع مع الأمر بالواجب المضیق.

فانّه یقال: غایة الأمر یکون الترخیص فی التطبیق علی الفرد المزاحم یکون بنحو الترتّب علی عصیان الأمر بالمضیّق مع أنّه لا حاجة إلی هذا الترتّب أیضاً، فإنّ الترخیص فی التطبیق یتضمن الترخیص فی ترک التطبیق ومع هذا الترخیص لا مانع عن الأمر بالمضیّق وقد تقدّم إمکان اختلاف المتلازمین فی الحکم ولا یلزم أیّ محذور ولا لغویة من هذا الاختلاف فی الحکم.

[1] لا یخفی أنّه مع الإلتزام بامکان الترتب عند وقوع التزاحم بین التکلیفین فی مقام الإمتثال فالأمر کما ذکره قدس سره من أنّه یلتزم بوقوعه من غیر انتظار دلیل علیه غیر خطابی التکلیفین المفروض ثبوت کل منهما فی حقّ القادر علی امتثاله، حیث لا یکون فی البین موجب لرفع الید عن إطلاق کلّ من الخطابین إلاّ فی المقدار الذی یستقلّ به العقل لدفع محذور التکلیف بما لا یطاق لئلاّ یلزم من اجتماعهما فی الزمان طلب الجمع بین الضدین، وقد مرّ بیان ارتفاع المحذور المزبور بتقیید وجوب أحد الفعلین بصورة عصیان وجوب الفعل الآخر بنحو الشرط المتأخّر فیما إذا کان

ص :238

.··· . ··· .

الشَرح:

الفعل الآخر أهم أو محتمل الأهمیة أو کان ظرف امتثاله أسبق أو کانت القدرة المعتبرة فی ذلک الواجب عقلیاً والقدرة المعتبرة فی هذا الواجب شرعیاً بالمعنی الثالث من أنحاء القدرة الشرعیة التی تقدم بیانها سابقاً(1)، وذکرنا أنّه یترتب علی ثبوت التکلیفین علی نحو الترتب استحقاق العقابین علی تقدیر مخالفة کلا التکلیفین.

وأمّا الترتب بین التکلیفین بحسب تشریعهما، بأن یکون ثبوت أحد التکلیفین وفعلیّته منحصراً فی زمان یترک المکلف موافقة التکلیف الفعلی الآخر فیه مطلقاً أو علی وجه خاص کمخالفته بنسیان شرطه أو جزئه أو للجهل بهما فوقوع هذا النحو من الترتب یحتاج إلی قیام دلیل خاص علیه وقد بنی کاشف الغطاء قدس سره علی هذا النحو من الترتب فی الحکم بصحة الجهر فی موضع الاخفات جهلاً أو نسیاناً وکذا العکس، والإتمام فی موضع القصر جهلاً بالحکم وبذلک أجاب عن الإشکال المعروف فی المسألتین بأنّه کیف تجتمع صحة العبادة المأتی بها جهراً أو إخفاتاً أو تماماً مع استحقاق العقاب علی ترک الآخر بناءً علی ما نسب إلی المشهور فیما إذا کان ترک الصلاة المأمور بها أوّلاً للجهل تقصیراً.

وبیان الترتب: انّ متعلّق الأمر هی الصلاة بالقراءة الجهریّة فی الصلاة الجهریّة والصلاة بالقراءة الإخفاتیّة فی الصلاة الإخفاتیة وعلی تقدیر ترک الجاهل الجهر فی الجهریة والإخفات فی الإخفاتیة یؤمر بالإخفات فی الأول وبالجهر فی الثانی وکذلک الکلام فی مسألة الإتمام موضع القصر.

وأورد علیه المحقق النائینی قدس سره بأنه لا یصحّ الترتب فی مثل المسألتین لأمور:

ص :239


1- (1) فی الصفحة 72.

.··· . ··· .

الشَرح:

الأوّل: أنّه یعتبر فی جریان الترتب بین التکلیفین کون التضاد بینهما إتفاقیاً وأمّا إذا کان دائمیاً کما فی المقام فلا مورد له(1).

وفیه أنّ ما ذکر إنّما یعتبر فی موارد التزاحم بین التکلیفین فی مقام الإمتثال وأمّا الترتب بین الحکمین بحسب الجعل الأولیّ فلا یعتبر فیه ذلک فانّه یصحّ ایجاب أحد الضدین تعییناً مطلقاً وایجاب الضد الآخر مشروطاً علی ترک الضد الأول مطلقاً أو علی وجه خاص، نعم لا یکون ذلک إلاّ فیما إذا کان الضدان ممّا لهما ثالث وإلاّ کان ایجاب الآخر مشروطاً بترک الضد الأول لغواً، مطلقاً کان أو علی وجه خاصّ، وهذا الترتّب غیر الترتب فی مقام الإمتثال بل هو فی مقام الجعل کما تقدّم.

الثانی: أنّه لا مورد للترتب فیما إذا کان عصیان الأمر بالأهم ملازماً للإتیان بالمهم کما إذا کان الأهم والمهم من الضدین الذین لا ثالث لهما فانّ ایجاب المهم معه یکون من اللغو الظاهر ومن قبیل طلب الحاصل، والمقام من هذا القبیل فانّ ترک الجهر بالقراءة فی موضع اعتباره یلازم الإخفات بها(2).

وفیه: ما تقدم من أنّ الترتب یکون فی التکالیف النفسیة لا فی الأحکام الضمنیّة التی یکون الشیء مأخوذاً فی متعلق الأمر النفسی جزءاً، ولا فی الأحکام الغیریّه التی یکون الشیء مأخوذاً فی الواجب النفسی شرطاً، ومع وحدة الواجب النفسی یکون المأخوذ فی متعلّقه جزءاً أو شرطاً نفس الشیء بخصوصه أو الجامع بینه وبین غیره فلا یکون فی البین ترتّب.

ص :240


1- (1) أجود التقریرات 1 / 310.
2- (2) أجود التقریرات 1 / 311.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولو فرض الترتّب فی الجعل بحیث یکون المکلف معاقباً علی ترک الصلاة بالقراءة الجهریة فلابد من ایجابین نفسیین یتعلّق أحدهما بالصلاة مع القراءة الجهریة مطلقاً والآخر بالصلاة مع القرائة الإخفاتیة مشروطاً بترک الصلاة جهراً، ومن الظاهر أنّ الصلاة بالقراءة الجهریة مع الصلاة بالقراءة الإخفاتیة من الضدین الذین لهما ثالث.

الثالث: أنّه إذا کان العنوان المأخوذ موضوعاً للتکلیف ممّا لا یمکن للمکلف إحرازه حال العمل فلا یمکن أخذه موضوعاً له فإنّ التکلیف یعتبر أن یکون صالحاً لانبعاث المکلّف به ومع کون موضوعه ممّا لا یلتفت إلیه المکلّف، لا یکون صالحاً للإنبعاث.

وبتعبیر آخر إحراز فعلیّة التکلیف باحراز فعلیّة موضوعه وإذا لم یمکن حال العمل إحراز فعلیّة الموضوع فلا یمکن إحراز فعلیّة ذلک التکلیف فلا یکون قابلاً للإنبعاث به، وعصیان الأمر بالصلاة مع القراءة الجهریة لا یمکن إحرازه مع جهل المکلّف. وعلیه فیکون استحقاق العقاب _ فی موارد ترک الجهر فی القراءة بالجهل التقصیری وفی موارد ترک الصلاة قصراً _ علی مخالفة التکلیف بالتعلّم أو لزوم الإحتیاط لا علی مخالفة التکلیف بالصلاة جهراً أو بالصلاة قصراً(1).

وأجاب عنه سیدنا الأستاذ (دام ظله): أنّه لا یلزم أن یکون الشرط فی وجوب المهمّ بنحو الترتب عنوان عصیان الأمر بالأهم لیقال لا یمکن جعل هذا العنوان فی موارد الجهل بالتکلیف الأول موضوعاً للتکلیف الآخر، بل المصحّح للترتب هو ترک أحد الفعلین وجعله شرطاً فی وجوب الفعل الآخر أو حرمته، وأمّا التعبیر عن ترک ذلک الفعل بالعصیان لتنجّز تکلیفه، إنّما هو من باب الغالب لا لأنّ لهذا العنوان

ص :241


1- (1) أجود التقریرات 1 / 311.

.··· . ··· .

الشَرح:

خصوصیة(1).

أقول: لا یصح فی المقام جعل ترک الصلاة مع القراءة جهراً تمام الموضوع لوجوب الصلاة الإخفاتیة بل لابدّ من تقیید ترکها بما إذا کان عن جهل أو نسیان وهذا القید لا یمکن الإلتفات إلیه عند إیجاب الصلاة إخفاتاً أو تماماً، وهذا هو الإشکال الجاری فی موارد اختصاص التکلیف الأول بحال الذکر والعلم وتکلیف الناسی والجاهل بالفعل الفاقد للجزء أو الشرط المنسی أو المتروک جهلاً، والجواب المذکور عنه فی محلّه هو إمکان جعل الموضوع للتکلیف الثانی العنوان الملازم الذی یلتفت إلیه المکلف حال العمل یجری فی المقام أیضاً، ولکنّه غیر تامّ کما ذکر فی محلّه.

کما أنّ لازم الترتب المزبور الإلتزام بتعدّد العقاب فیما إذا ترک المکلف الجاهل المقصّر کلاًّ من التمام والقصر مثلاً وأنّه لو کان الشرط فی وجوب الصلاة إخفاتاً ترک الصلاة جهراً فی تمام الوقت فلازمه لزوم إعادتها فیما إذا علم أو تذکّر قبل خروج الوقت بالإتیان بالوظیفة الأوّلیة، وإن کان الشرط فی التکلیف بالثانی ترک الصلاة جهراً أو قصراً عند الإتیان بالصلاة فیعود محذور عدم الإلتفات إلی الموضوع فی التکلیف الثانی حال العمل فلابدّ من الإلتزام بأنّ المأتی به حال الجهل والنسیان واجد لمقدار من الملاک الملزم من غیر أن یکون متعلّقاً للتکلیف الثانی، وعدم لزوم التدارک بعد العلم والذکر إنّما هو لعدم إمکان تدارکه بعد الإتیان المزبور بناءاً علی استحقاق العقاب علی ترک الإتیان بالمأمور به الأوّل أو عدم لزوم التدارک لعدم کون الباقی من الملاک بمقدار یلزم استیفائه بناءاً علی عدم استحقاق العقاب ولتوضیحه مقام آخر.

ص :242


1- (1) المحاضرات 3 / 174.

فصل

لا یجوز أمر الآمر، مع علمه بانتفاء شرطه] 1]، خلافاً لما نسب إلی أکثر مخالفینا، ضرورة أنه لا یکاد یکون الشیء مع عدم علته، کما هو المفروض ها هنا، فإن الشرط من أجزائها، وانحلال المرکب بانحلال بعض أجزائه مما لا یخفی، وکون الجواز فی العنوان بمعنی الإمکان الذاتی بعید عن محل الخلاف بین الأعلام.

نعم لو کان المراد من لفظ الأمر، الأمر ببعض مراتبه، ومن الضمیر الراجع إلیه بعض مراتبه الأُخر، بأن یکون النزاع فی أن أمر الآمر یجوز إنشاءً مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعلیة.

الشَرح:

أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه

اشارة

[1] وحاصل ما ذکره قدس سره فی المقام أنّه:

إن کان المراد من الأمر والضمیر الراجع إلیه فی قولهم هل یجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه هو الأمر الإنشائی لیکون معنی العبارة هل یجوز جعل الأمر الإنشائی مع علم الآمر بانتفاء شرط إنشائه.

أو یکون المراد منهما الأمر الفعلی لیکون المراد جواز الأمر الفعلی مع انتفاء شرطه، فالنزاع غیر معقول لاستحالة وجود المعلول مع انتفاء علّته التی من أجزائها الشرط.

نعم لا یخرج الأمر عن إمکانه الذاتی بانتفاء علّته کما هو الشأن فی جمیع الممکنات حیث إنّ الممکن ممکن سواء وجدت علته أم لا، ومع انتفاء علّته إنّما یکون امتناعه بالغیر.

ص :243

وبعبارة أخری: کان النزاع فی جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلی المرتبة الفعلیة لعدم شرطه، لکان جائزاً، وفی وقوعه فی الشرعیات والعرفیات غنی وکفایة، ولا یحتاج معه إلی مزید بیان أو مؤونة برهان.

وقد عرفت سابقاً أنّ داعی إنشاء الطلب، لا ینحصر بالبعث و التحریک جداً حقیقة، بل قد یکون صوریاً امتحاناً، وربما یکون غیر ذلک.

ومنع کونه أمراً إذا لم یکن بداعی البعث جداً واقعاً، وإن کان فی محله، إلاّ أن إطلاق الأمر علیه، إذا کانت هناک قرینة علی أنه بداعٍ آخر غیر البعث توسعاً، مما لا بأس به أصلاً، کما لا یخفی.

وقد ظهر بذلک حال ما ذکره الأعلام فی المقام من النقض والإبرام، وربما یقع به التصالح بین الجانبین ویرتفع النزاع من البین، فتأمل جیداً.

الشَرح:

نعم لو أرید من الأمر، الأمر الإنشائی ومن الضمیر الراجع إلیه هو الأمر الفعلی لیکون معنی العبارة جواز الأمر الإنشائی مع علم الآمر بانتفاء شرط الأمر الفعلی کما فی مورد الإمتحان ونحوه فوقوعه فی العرف والشرع مغن وکاف عن الإستدلال، والداعی إلی إنشاء الأمر لا ینحصر فی إرادة البعث والتحریک بل قد یکون غیره من الإمتحان ونحوه، والطلب فی ذلک وإن کان صوریّاً إلاّ أنّه لا بأس بإطلاق الأمر علیه توسّعاً مع القرینة.

أقول: ما ذکر قدس سره فی المقام ینافی ما تقدّم منه فی مبحث الشرط المتأخر حیث ذکر هناک أنّ ما یطلق علیه الشرط أی شرط التکلیف کالإستطاعة فی وجوب الحج لا یکون شرطاً فی الإصطلاح بأن یکون من أجزاء العلة لیمتنع تأخّره عن التکلیف وذکر فی المقام أنّ ثبوت التکلیف مع علم الآمر بانتفاء شرطه من تحقّق المعلول بلا علّته حیث إنّ الشرط من أجزاء العلة وهذا تهافت واضح.

ص :244

.··· . ··· .

الشَرح:

والصحیح أن یقال: یثبت الحکم والتکلیف فی مقامین.

أحدهما: مقام الجعل کما فی جمیع الأحکام الشرعیة الثابتة لموضوعاتها المقدرة وجودها بمفاد القضیة الحقیقیة ویکون النسخ وإلغاء الحکم فی هذا المقام.

ثانیهما: مقام الفعلیة أی تحقق التکلیف وخروجه عن التقدیر تبعاً لخروج موضوعه عن التقدیر فی مقام الجعل، إلی مقام الفعلیّة، وعلی ذلک یقع الکلام فی صحة جعل التکلیف وإنشائه بمفاد القضیة الحقیقیة مع علم الآمر بأنّ الموضوع للتکلیف المزبور لا یصیر فعلیاً فی الخارج وأنّه لا یصل إلی مقام الفعلیة أصلاً.

وعلیه فإن کان غرض الآمر من جعل التکلیف مجرّد حصول الإنبعاث إلی متعلقه علی تقدیر تحقق الموضوع فیمکن القول: بلغویّة الجعل فی الفرض، وإن کان معه غرض آخر ککمال شرعه لئلاّ یستشکل علیه بالنقص فی قوانینه وشرعه، أو کان الغرض من جعله الممانعة عن تحقق موضوعه کما فی الأمر بقطع ید السارق ونحوه فیصح جعله ویکون من الأمر الجدی لا الصوری علی ما تقدم فی کلام الماتن قدس سره .

ویتفرع علی ذلک تعیّن الأخذ بمدلول بعض الخطابات من الکتاب والسنة والإفتاء بأنّ مفادها ثبوت الأحکام الجاریة إلی زماننا حتی فیما أحرز بأنّ الموضوع لها لا یتحقق فی زمانناً خارجاً کأحکام الظهار ونحوه.

وممّا ذکرنا یظهر ما فی کلام المحقق النائینی قدس سره (1) من أنّ البحث بهذا العنوان لا معنی له.

ثمّ قیل بظهور الثمرة فیما إذا أفطر المکلف فی نهار شهر رمضان ثمّ سافر قبل

ص :245


1- (1) أجود التقریرات 1 / 209.

.··· . ··· .

الشَرح:

الزوال وما إذا أفطرت الصائمة فی النهار ثمّ حاضت قبل تمام النهار فانّه بناءاً علی جواز أمرا الآمر مع العلم بانتفاء شرطه تجب کفارة الإفطار فی المثالین بخلاف ما لو قیل بعدم جواز الأمر.

ولکن لا یخفی ما فیه: فإنّه لا یرتبط وجوب الکفارة وعدم وجوبها بالمقام حیث إنّه لو قیل بانحصار التکلیف بالصوم بخصوص مجموع الإمساکات من طلوع الفجر إلی غروب الشمس وأنّه تجب الکفارة فی إفطار هذا الصوم الواجب فلا تجب الکفارة فی المثالین، وإن قیل إنّه یجب علی المکلف الصوم إلی أن یخرج إلی السفر ویتجاوز حدّ الترخص کما هو الصحیح فالکفارة واجبة فی إفطار هذا الصوم أیضاً علی ما ورد فی الخطابات الشرعیة من الروایات(1) الدالة علی وجوب الصوم علی من یرید الخروج إلی السفر. کما أنّ الأظهر بحسبها التفرقة بین فرض العلم بطروّ الحیض قبل انقضاء النهار وبین العلم بالخروج إلی السفر بعدم وجوب الصوم والکفارة فی الأول ووجوبهما فی الثانی.

ولا یخفی أنّ الآمر، بأمره یجعل علی ذمة العبد ما یمکن أن یکون _ علی فرض وصوله _ داعیاً للمکلّف إلی العمل، وعلم الآمر بعدم انبعاث بعض المکلف علی تقدیر وصوله إلیه لا یمنع عن الأمر، لأنّ الإنبعاث والإحتجاج علی المکلف فی مقام المؤاخذة یکفی فی صحة الأمر والنهی، ولذا یعمّ التکالیف الشرعیة _ من الأوامر والنواهی _ المطیعین والعاصین ممّن یدخل فی موضوعاتهما، ویشهد لذلک صحة أمر المولی کلاًّ من عبدیه الذین یعلم بأنّ أحدهما المعیّن لا یمتثل أمره عصیاناً،

ص :246


1- (1) الوسائل: ج 7، باب 5 من أبواب من یصح منه الصوم، الحدیث 8 و9 و11.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکن لا یصح توجیه الأمر إلی کلّ من عبدیه إذا علم أنّ أحدهما المعیّن غیر قادر علی ما یأمره به، وکذا یصح توجیهه إلی الجاهل بالموضوع دون الغافل عنه، حیث إنّ الجاهل یمکن أن ینبعث من احتمال التکلیف فلا یکون التکلیف فی حقه لغواًبخلاف الغافل عن الموضوع رأساً.

ص :247

ص :248

فصل

الحق أن الأوامر والنواهی تکون متعلقة بالطبائع دون الأفراد، ولا یخفی أن المراد] 1] أن متعلق الطلب فی الأوامر هو صرف الإیجاد، کما أن متعلقه فی النواهی هو محض الترک، ومتعلقهما هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود والمقیدة بقیود، تکون بها موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلق غرض بإحدی الخصوصیات اللازمة للوجودات، بحیث لو کان الإنفکاک عنها بأسرها ممکناً، لما کان ذلک مما یضر بالمقصود أصلاً، کما هو الحال فی القضیة الطبیعیة فی غیر الأحکام، بل فی المحصورة، علی ما حقق فی غیر المقام.

الشَرح:

تعلّق التکالیف بالطبایع أو الأفراد

[1] حاصل ما ذکر قدس سره فی المقام هو أنّ الطلب المستفاد من الأمر أو النهی یتعلّق بالإیجاد أو الترک المضاف إلی الطبیعة المقیّدة بقیود والمحدودة بحدود، وانّ الطبیعی مع تلک القیود والحدود مورد الغرض من طلب ایجاده أو ترکه، وأمّا ما یکون مع الطبیعة فی الخارج من لوازم وجوداتها وعوارضها ومقارناتها من الخصوصیات فشیء منها لا یؤخذ فی متعلّق الأمر أو النهی بحیث لو أمکن تحقق الطبیعی بدون اللوازم والعوارض والمقارنات لحصل المطلوب وسقط الأمر به لعدم دخل غیره فی المقصود کما هو الحال فی القضایا الطبیعیة مثل «الإنسان حیوان ضاحک» حیث لا دخل لخصوصیات أفراده فی ثبوت المحمول، بل الأمر کذلک فی القضیة المحصورة مثل «کل إنسان ضاحک» فانّ ثبوت المحمول الواحد فی نوعه لجمیع أفراد الطبیعة، مقتضاه عدم دخالة خصوصیات الافراد فیه، ولو کان لخصوصیة بعض الأفراد دخلاً فی المحمول لما کان ثابتاً لغیرها من الافراد.

ص :249

وفی مراجعة الوجدان للانسان غنی وکفایة عن إقامة البرهان علی ذلک، حیث یری إذا راجعه أنه لا غرض له فی مطلوباته إلاّ نفس الطبائع، ولا نظر له إلاّ إلیها من دون نظر إلی خصوصیاتها الخارجیة، وعوارضها العینیة، وإن نفس وجودها السعی بما هو وجودها تمام المطلوب، وإن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفک فی الخارج عن الخصوصیة.

فانقدح بذلک أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد، انها بوجودها السعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود، متعلقة للطلب، لا أنها بما هی هی کانت متعلقة له، کما ربما یتوهم، فإنها کذلک لیست إلاّ هی، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر، فإنه طلب الوجود، فافهم.

الشَرح:

والشاهد علی کون متعلق الإیجاد أو الترک نفس الطبیعی بقیوده وحدوده التی یکون معها موافقاً للغرض وأنّ خصوصیات وجوداته من لوازمها وعوارضها خارجة عن متعلق طلب الإیجاد والترک هو حکم الوجدان حیث إنّ الإنسان إذا راجع وجدانه عند طلبه یری أنّه لا غرض له إلاّ فی الطبیعی ولا یرید غیره من لوازم وجوداته ومقارناته التی یکون الطبیعی معها فی الخارج.

وعلیه فقد ظهر أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبایع هو تعلّق الطلب فیها بحصول الطبیعی ووجوده السعی یعنی ما یقابل وجوده الخاص بلازمه وعارضه لا أنّ الطبیعی مع الإغماض عن وجوده متعلّق الطلب، فإنّ ما فیه الغرض والملاک هو وجود الطبیعی لا عنوانه حیث لا غرض فی الطبیعی مع قطع النظر عن وجوده الخارجی.

نعم یتعلّق الأمر بعنوانه ویستفاد من الأمر طلب إیجاده سواء کان الأمر بصیغته أو بمادّته علی ما مرّ فی محلّه، فإنّ صیغة الأمر الواردة علی مادة ما کصلّ، وصم، ونحوهما تدلّ بمادتها علی المبدأ مجرّداً عن أیّة خصوصیة حتی خصوصیة

ص :250

دفع وهم: لا یخفی أن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلقاً للطلب، إنما یکون [1] بمعنی أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد، وجعله بسیطاً الذی هو مفاد کان التامة، وإفاضته، لا أنه یرید ما هو صادر وثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل، کما توهم، ولا جعل الطلب متعلقاً بنفس الطبیعة، وقد جعل وجودها غایة لطلبها.

وقد عرفت أن الطبیعة بما هی هی لیست إلاّ هی، لا یعقل أن یتعلق بها طلب لتوجد أو تترک، وأنه لابد فی تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فیلاحظ وجودها فیطلبه ویبعث إلیه، کی یکون ویصدر منه، هذا بناءً علی أصالة الوجود.

وأما بناءً علی أصالة الماهیة، فمتعلق الطلب لیس هو الطبیعة بما هی أیضاً، بل بما هی بنفسها فی الخارج، فیطلبها کذلک لکی یجعلها بنفسها من الخارجیات والأعیان الثابتات، لا بوجودها کما کان الأمر بالعکس علی أصالة الوجود.

وکیف کان فیلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهیة الخارجیة أو الوجود، فیطلبه ویبعث نحوه لیصدر منه ویکون ما لم یکن، فافهم وتأمل جیداً.

الشَرح:

الوجود والعدم کما هو مقتضی التبادر فی المحاورات، وبهیئتها علی طلب حصول المبدأ وایجاده فی الخارج، کما أنّه یستفاد من مادّة الأمر ذلک أیضاً.

والمتحصّل أنّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد یلتزم بدخول خصوصیاتها من اللوازم والعوارض فی متعلّق الطلب بحیث لو وجد الطبیعی بدونها لما حصل المراد ولما سقط به الطلب، بخلاف القول بتعلّقها بالطبایع.

[1] الوهم: هو أنّ أخذ الوجود فی متعلّق الطلب یوجب کون الطلب من طلب الحاصل إذ وجود الطبیعی مسقط للطلب فلا یکون متعلّقاً للطلب فلابدّ من أن یتعلّق

ص :251

.··· . ··· .

الشَرح:

الطلب بنفس الطبیعی ویکون وجوده غرضاً من تعلّقه به.

وبیان الدفع: أنّ الوجود الملحوظ فی متعلّق الطلب لا یکون کلحاظ الوجود فی ناحیة عناوین الموضوعات للأحکام والتکالیف فی کون الحکم والتکلیف ثابتاً علی تقدیر حصول تلک العناوین والموضوعات، فالأمر بتجهیز المیّت المسلم مثلاً کما یلاحظ فیه الوجود فی ناحیة متعلّق الطلب أی التجهیز، کذلک فی ناحیة الموضوع یعنی المیّت المسلم أیضاً یلاحظ، ولکن لحاظه فی ناحیة عنوان المیت المسلم حصولی بمعنی أنّه لو انطبق علی شیء أنّه میّت مسلم فالتجهیز فی فرض هذا الحصول یجب بخلاف لحاظه فی ناحیة التجهیز یعنی متعلق الطلب فانّ لحاظه فیه تحصیلی بمعنی أنّه علی تقدیر الإنطباق المزبور _ أی کون المیت مسلماً _ یجب علی المکلف تحقیق عنوان تجهیزه، ومن البدیهی أنّ طلب الطبیعی مع لحاظ حصوله وتقدیر وجوده من طلب الحاصل، وأمّا طلبه بلحاظ تحصیله المعبّر عنه بجعله البسیط لیس من طلب الحاصل.

والحاصل أنّ ما تمیل نفس الفاعل إلیه ویکون بصدده من جعل الشیء وإیجاده یتعلّق به طلب الآمر فالمتعلق للطلب الوجود بمعناه المصدری المعبر عنه بالجعل البسیط، وهذا بخلاف الموضوعات فإنّ الأحکام الثابتة لها تثبت علی تقدیر حصولها خارجاً، فتکون الموضوعات للأحکام هی نفس حصولاتها الخارجیّة المفروضة حین جعل الأحکام لها بنحو القضیة الحقیقیة.

وبالجملة تعلّق الطلب بالإیجاد لیس من قبیل قیام العرض بالمعروض لیتوهم أنّه لا وجود للعرض بدون حصول المعروض، وبعد حصول المعروض یکون تعلق

ص :252

.··· . ··· .

الشَرح:

الطلب به من قبیل طلب تحصیل الحاصل، بل الإیجاد هو المضاف إلیه للطلب بتوسیط لحاظة بمعنی أنّ الطلب یتعلق بالایجاد علی ما تقدّم.

ولا یفرق فی ذلک بین القول بأصالة الوجود أو الماهیة، فانّ القائل بأصالة الوجود یلتزم بأنّ ما هو حقیقة وواقع بذاته هو الوجود أی ما ینتزع عنه معنی لفظ الوجود ویکون اتّصاف الماهیة بالوقوع والحصول بتبعه ولذا لا یتصف الوجود بالعدم بخلاف الماهیّة فانّها تتصف بکل منهما.

والقائل بأصالة الماهیة یلتزم بأنّ الحقیقة والواقعیة بالذات للماهیة والوجود أمر اعتباری انتزاعی من ثبوت الثابت بالذات کما أنّ العناوین المزعومة أنّها ماهیات هی صور للماهیات الثابتات بالذات، وبتعبیر آخر المضاف إلیه للطلب هو الإیجاد اللاحق بالماهیة أو العینیة التی تکون هی نفس الماهیة.

ثم لا یخفی أنّه بناءاً علی تعلّق الأوامر بالافراد لا یکون المأخوذ فی متعلّق الأمر والتکلیف جمیع خصوصیات کل فرد بنحو العام الإستغراقی، إذ المفروض سقوط التکلیف بحصول فرد ما من تلک الأفراد ولو کان المطلوب خصوصیات کلّ فرد بنحو الإستغراق، لما کان یسقط التکلیف بحصول الفرد الواحد، فعلی القائل بتعلّق الأوامر بالافراد أن یلتزم بتعلّق التکلیف بکل فرد علی البدل بحیث لو أمکن إیجاد الطبیعی بلا خصوصیة لما حصل المطلوب، وهذا عین الواجب التخییری الشرعی الذی یتعلّق الأمر فیه بأحد الأشیاء علی البدل بحیث لا یحصل المطلوب إلاّ مع خصوصیة إحداها.

فما قیل، من أنّه علی القول بتعلّق الأوامر بالافراد یلزم خروج الواجب التعیینی الذی یکون التخییر بین أفراده عقلیّاً إلی التخییر الشرعی، صحیح.

ص :253

.··· . ··· .

الشَرح:

وما ذکر المحقق النائینی قدس سره من أنّ المعتبر فی التخییر الشرعی عطف أحد الشیئین أو الأشیاء علی الآخر منهما أو منها بأو أو نحوها، ولا یکون الحال کذلک بناءاً علی تعلّق الأوامر بالافراد(1)، لا یمکن المساعدة علیه فانّ عطف بعض الأبدال علی البعض الآخر بأو ونحوها إنّما هو لافادة أخذ خصوصیات الابدال فی متعلق التکلیف علی سبیل البدلیّة لا لکون التخییر شرعیّا.

ثمّ ذکر قدس سره أنّ الإختلاف المعقول فی تعلق الأوامر بالطبایع أو الافراد هو القول بأن الفاعل عند إرادته الفعل هل یرید الطبیعی بحیث یکون تحقیق المراد بوجوده أو أنّ الخصوصیات التی یتحقق الطبیعی بها خارجاً، داخلة فی متعلق إرادته بحیث تکون تلک الخصوصیات فی متعلق إرادته قبل حصولها خارجاً ومن المعلوم أنّ الإرادة التشریعیة یتعلّق بما تتعلّق به الارادة التکوینیة من الفاعل، وعلیه فإن قیل بالأوّل یکون متعلق الأوامر الطبایع وإن قیل بالثانی یکون متعلّقها الافراد(2).

ولکن لا یخفی ما فیه: فانّه لا ملازمة بین تعلّق الإرادة التکوینیة من الفاعل بخصوصیة فرد وبین تعلق أمر المولی بها فانّ الفاعل بما أنّه لابدّ له من تحقیق الطبیعی فی ضمن فرد یمکن أن یختاره فی مقام الفعل ولذا تکون خصوصیته داخلة فی متعلّق إرادته مع عدم دخله فی غرضه، فالعطشان یرید شرب الماء من إناء خاصّ کهذا الموضوع أمامه مثلاً حتی مع إحرازه عدم دخل کون الماء فی ذلک الإناء فی غرضه، ولکن لا یصحّ للآمر أخذ تلک الخصوصیة فی متعلق تکلیفه فإن أخذها

ص :254


1- (1) أجود التقریرات 1 / 210.
2- (2) أجود التقریرات 1 / 211.

.··· . ··· .

الشَرح:

مع عدم دخله فی ملاک حکمه من اللغو کما هو ظاهر.

وقد تحصّل من جمیع ما تقدم أنّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد _ علی ما ذکر الماتن والمحقق النائینی _ یلتزم بأنّ خصوصیات الطبیعی خارجاً من لوازمه وعوارضه داخلة فی متعلّق الأمر، والقائل بتعلّقها بالطبایع یلتزم بخروج تلک الخصوصیات عن متعلق الأوامر، وعلی ذلک یکون المضاف إلیه للبعث وجود الطبیعی وعلی القول بتعلّقها بالافراد یکون المضاف إلیه وجود الطبیعی مع خصوصیاته الخارجیة، وحیث إنّ لکل وجود من الطبیعی خصوصیة غیر خصوصیة وجوده الآخر، فلا محالة یکون الوجوب بالإضافة إلی الافراد بنحو التخییر الشرعی.

وقد تقدم أنّ وجود الطبیعی خارجاً بالنسبة إلی الطلب والبعث لیس من قبیل المعروض إلی عرضه لیکون تعلّقهما به من قیام العرض بمعروضه حتی یقال أنّ الوجود مسقط للطلب والبعث فکیف یتعلّق به الطلب بل الطلب والبعث أمر اعتباری یکون قیامه بالمعتبر والحاکم وانّما یضاف طلبه إلی فعلیة الطبیعی بتوسیط لحاظه بغرض إخراج الطبیعی من القوة إلی الفعلیة وبغرض تحقیقها علی ما تقدم وبالفعلیة یسقط الطلب والأمر کما أوضحناه آنفاً.

وحیث إنّ للوجود اعتبارین أحدهما إضافته إلی المهیّة ویعبّر عنه بالوجود بالمعنی الاسم المصدری، وثانیهما إضافته إلی الفاعل والعلة ویعبّر عنه بالوجود بالمعنی المصدری أی الجعل والإیجاد، فالمضاف إلیه فی طلب المولی وبعثه هو الوجود بالمعنی الثانی لما مرّ من أنّ إرادة الفاعل تتعلّق أی تضاف إلی الوجود فانّ الغرض والملاک فی وجود الشیء.

ص :255

.··· . ··· .

الشَرح:

هذا ولکن قد یقال أنّ التفسیر المتقدم لعنوان الخلاف غیر صحیح فانّه یبتنی علی کون تشخص الطبیعی فی الخارج بالعرض واللازم، مع انّ وجود الطبیعی بنفسه له تشخّص ولا معنی لأن یکون وجود شیء آخر مشخّصاً لوجود الطبیعی، سواء کان الشیء الآخر عرضاً، أو لازماً، أو وجود غیرهما من جوهر مبائن له أو عرض لمعروض آخر مقارناً لوجود الطبیعی، وبتعبیر آخر الوجود للطبیعی عین تشخص ذلک الطبیعی، ووجود عرضه ولازمه تشخّص للعرض واللازم، کما أنّ وجود مقارنه تشخص لذلک المقارن أو الملازم، وذلک لأنّ الماهیة سواء کانت جوهراً أو عرضاً تتشخّص بنفس وجودها، ووجودها یتشخّص بذاته کما هو مقتضی قاعدة کل ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات لا محالة.

وعلیه لو أمکن أن لا یکون تشخّص الماهیّة بوجودها لأمکن أن لا تتشخص بوجود غیرها من عرض أو لازم أو ماهیة أخری مقارنة لها، وقیام العرض فی الخارج بمعروضه لا یوجب أن یتشخص العرض بوجود معروضه فالعرض وجوده مباین لوجود معروضه ولا یحمل العرض علی معروضه ولا بالعکس فکیف یکون أحدهما مشخصاً للآخر.

والحاصل أنّ إطلاق المشخصات للشیء علی عوارضه ولوازمه مسامحة ولا یمکن أن یکون واقعیاً، وعلی ذلک فلا معنی للقول بأنّه عند تعلّق الأمر بشیء یدخل لوازم ذلک الشیء وعوارضه فی متعلق الأمر سواء قیل بأنّ الأمر متعلّق بالطبیعی أو الفرد حیث إنّ الفردیّة لا تکون بتلک العوارض واللوازم بل عینیة الطبیعی وتشخصه بوجوده لا بوجود فرده کما هو ظاهر.

نعم فی المقام أمر غیر مسألة تعلّق الأمر بالطبیعی أو الفرد حقیقة، وهو أنّ الأمر

ص :256

.··· . ··· .

الشَرح:

بشیء یسری إلی عوارضه ولوازمه بل ملازماته نظراً إلی أنّ المتلازمین لا یمکن اختلافهما فی الحکم بل یکونان متوافقین فی الحکم، وعلی القول بذلک لا یمکن اجتماع الأمر والنهی فی مسألة جواز الإجتماع وعدمه حتی فیما کان الترکیب بین عنوانی المأمور به والمنهی عنه انضمامیاً، وأمّا لو بنی علی عدم السرایة فیجتمع الحکمان علی تفصیل یأتی إن شاء اللّه تعالی، والمقدار الثابت هو عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم وأمّا توافقهما فی الحکم فهو خاطی ء جدّاً إذن فابتناء مسألة تعلّق الأمر بالطبیعی أو الفرد علی هذا التفسیر غیر ممکن کما لا یمکن ابتنائها علی التفسیر المتقدم(1).

أقول: إذا فرض عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم أمر ثابت فیترتب علیه عدم جواز اجتماع الأمر والنهی فی المجمع حتی فیما إذا کان العنوانان انضمامیین فإنّ ثبوت الحکمین فیه یوجب اختلاف المتلازمین فی الحکم فیلزم إخراج ذلک المجمع من خطاب الأمر أو خطاب النهی وإلاّ لزم اختلاف المتلازمین فی الحکم وهو غیر جایز علی الفرض.

ثمّ إنّه لا معنی لسرایة الحکم إلی عارض المتعلق ولازمه إلاّ بأخذ تلک اللوازم فی متعلّق الحکم قیداً وهذا عبارة أخری عن تعلّق الأمر بالشیء بلوازمه وعوارضه، فإنّ الفردیّة للطبیعی وإن لم یکن باللوازم والعوارض، بل تحقق الطبیعی تشخّص له والتشخّص عین الفردیّة إلاّ أنّه لا ینافی التعبیر عن الشیء الحاوی لعارضه ولازمه خارجاً، بالفرد لصحة حمل الطبیعی علیه بالحمل الشایع.

ص :257


1- (1) المحاضرات 4 / 19.

.··· . ··· .

الشَرح:

ثمّ إنّه قد یفسّر عنوان الخلاف فی تعلّق الأمر بالطبایع أو الافراد بوجه آخر کما عن سیدنا الأستاذ (دام ظلّه) وهو:

أنّ الخلاف یرجع إلی أنّ الطبیعی موجود فی الخارج أم الموجود فی الخارج هو الفرد، فإنّه لا ینبغی التأمّل فی تحقق الفرد من الطبیعی ویقع الکلام فی أنّ المتحقق کما أنّه فرد کذلک تحقق للطبیعی أیضاً فالمتحقق المزبور له إضافتان إضافة إلی الطبیعی وبهذا الإعتبار یکون تحقّقه یقینیاً ونسبة التحقق إلی الطبیعی یکون من باب توصیف الشیء بوصف متعلّقه، فمن التزم بتحقق الطبیعی یلتزم بأنّ الأمر یتعلّق بالطبیعی ومفاده طلب وجوده، ومن یلتزم بعدم تحققه یلتزم بتعلّق الأمر بالفرد ویکون مفاده ایجاد الفرد حیث إنّ الطلب یتعلّق بما یدخل فی القدرة وما هو داخل تحت القدرة ایجاد الفرد ولکن بما أنّ لنفس الطبیعی تحقق، ویکشف عن ذلک حمله علی ما فی الخارج بلا عنایة، فانّه کما یقال هذا زید کذلک یصح أنّ یقال انّه إنسان، وبتعبیر آخر تشخّص الطبیعی عین وجوده وتشخّص الوجود بنفسه ویتشخص الطبیعی بذلک الوجود بقانون کل ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات فلا موجب لتعلق الأمر بما هو خارج عن ذلک الطبیعی بأن یدخل فی متعلّق الأمر ما لا دخل له من الغرض والمصلحة القائمة بنفس وجود الطبیعی وما فی الخارج من اللازم والعارض مشخّص لذلک اللازم والعارض لا للطبیعی القائم به الغرض فتکون النتیجه أنّ القول الصحیح هو تعلق الأمر بالطبیعی لا الفرد(1).

أقول: قد تقدم بناءاً علی وجود الطبیعی وانّ تشخّصه بعین الوجود تکون

ص :258


1- (1) المحاضرات 4 / 13.

.··· . ··· .

الشَرح:

الفردیة أیضاً عین الوجود، والتشخص والوجود والفردیة تعابیر عن شیء واحد وهی فعلیّة الطبیعی فلا یمکن تعلّق الأمر بالفرد لأنّ الأمر هو طلب الوجود فانّه یصیر من طلب وجود الوجود فلابدّ للقائل بتعلّق الأمر بالفرد من إرادة معنی آخر للفرد لیمکن تعلّق الأمر به ویطلب وجوده.

وبتعبیر آخر کما أنّ للطبیعی صورة فی مقام لحاظه عند الأمر به وتمتاز تلک الصورة عن سائر الطبایع بصورها ویتعلّق الأمر بالطبیعی ویکون المراد من الأمر، طلب فعلیّته المعبّر عنها بالإیجاد، کذلک لابدّ فی تعلق الأمر بالفرد من لحاظ صورة یمتاز ذلک الفرد بحسب اللحاظ عن سائر الافراد، ومن الظاهر أنّ لحاظ الفرد یکون بلحاظ العارض واللازم لیتعلّق الأمر بصورته ویطلب ایجاد ذیها خارجاً وهذا لا ینافی ما تقدّم من أنّ الفرد فی مقام العین عین التشخّص والوجود للطبیعی وأنّه یمتاز فعلیة الطبیعی عن فعلیته الأخری بنفس وجود ذلک الطبیعی.

وعلی ذلک فالقائل بتعلق الأمر بالفرد لابدّ له من أن یلتزم بدخول التقیّد باللازم والعارض فی متعلق الأمر وبما أنّ الفرد الواحد کاف فی حصول الإمتثال فلا محالة یتعلّق الأمر بالجامع الإنتزاعی من الافراد نظیر تعلّقه بالجامع الإنتزاعی فی موارد التخییر الشرعی وقد تقدم انّ الإلتزام بتعلّق الأوامر بالافراد یستلزم الإلتزام بانقلاب الواجبات التعیینّیة إلی التخییریّة الشرعیّة فالصحیح فی تحریر محل النزاع هو ما ذکرناه فی توضیح مرام صاحب الکفایة قدس سره والحمد للّه ربّ العالمین.

ص :259

ص :260

فصل

إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ ولا المنسوخ، علی بقاء الجواز بالمعنی الأعم، ولا بالمعنی الأخص[1]، کما لا دلالة لهما علی ثبوت غیره من الأحکام، ضرورة أن ثبوت کل واحد من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن، ولا دلالة لواحد من دلیلی الناسخ والمنسوخ __ بإحدی الدلالات __ علی تعیین واحد منها، کما هو أوضح من أن یخفی، فلا بد للتعیین من دلیل آخر، ولا مجال لإستصحاب الجواز، إلاّ بناءً علی جریانه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی، وهو ما إذا شک فی حدوث فرد کلی مقارناً لإرتفاع فرده الآخر، وقد حققنا فی محله، أنه لا یجری الإستصحاب فیه، ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویة أو الضعیفة المتصلة بالمرتفع، بحیث عد عرفاً _ لو کان _ أنه باقٍ، لا أنه أمر حادث غیره.

الشَرح:

اقتضاء نسخ الوجوب للجواز وعدمه

[1] المراد من الجواز بالمعنی الأعم عدم حرمة الفعل، فیحتمل کونه علی وجه الإستحباب، أو علی وجه الکراهة، أو علی وجه الإباحة الخاصة، ویعبّر عن الجواز بالمعنی الأعمّ، بالإباحة بالمعنی الأعمّ أیضاً فی مقابل الإباحة بالمعنی الأخصّ، والجواز بالمعنی الأخصّ عبارة عن الإباحة بالمعنی الأخصّ التی تعدّ من الأحکام الخمسة التکلیفیة.

وقد ذکر الماتن قدس سره تبعاً لغیره أنّه إذا نسخ وجوب فعل فلا دلالة لدلیل الناسخ ولا لخطاب الحکم المنسوخ علی کون الفعل بعد ذلک جائزاً بالمعنی الأعم، کما لا یدلّ شیء منهما علی کونه جائزاً أی مباحاً بالمعنی الأخصّ، بل یدور أمر ذلک

ص :261

ومن المعلوم أن کل واحد من الأحکام مع الآخر عقلاً وعرفاً، من المباینات والمتضادات، غیر الوجوب والاستحباب، فإنه وإن کان بینهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلاّ أنهما متباینان عرفاً، فلا مجال للإستصحاب إذا شک فی تبدل أحدهما بالآخر، فإن حکم العرف ونظره یکون متبعاً فی هذا الباب.

الشَرح:

الفعل بین الحرام والمکروه والمستحب والمباح بالمعنی الأخص.

نعم لو علم من الخارج أنّ الفعل المزبور لا یناسب الحرمة یحرز کونه جائزاً بالمعنی الأعم ولکن هذا لیس من دلالة الدلیل أی خطاب الناسخ أو خطاب المنسوخ فی شیء.

ویمکن أن یقال: إنّ خطاب المنسوخ أو الناسخ لا یدلان علی شیء من الأحکام الأربعة فیما کان الوجوب الثابت سابقاً مدلولاً وضعیاً لخطاب المنسوخ بأن کان خطاب المنسوخ، من قبیل قوله «إنّ اللّه فرض علیکم الفعل الفلانی» ثمّ ورد بعد مضی فترة من العمل به خطاب مفاده «لا فرض فیه بعد الیوم أو لا وجوب فیه بعد ذلک» _ فیما لو ارید بالوجوب الطلب الذی لا ترخیص فیه _ فنفس خطابی المنسوخ والناسخ لا یدلاّن علی حکم ذلک الفعل بعد النسخ بالدلالة اللفظیة وإلاّ فالإطلاق المقامی بعد بیان خطاب الناسخ مقتضاه عدم ثبوت التحریم فی ذلک الفعل إذ لو کان الفعل محرّماً لکان علی الشارع بیانه عند رفع الزامه السابق بالفعل.

ولعل القائل بجواز الفعل بعد نسخ وجوبه أراد کون الجواز بالمعنی الأعم مقتضی الإطلاق المقامی، وإن عبّر عن ذلک بوجه علیل من أنّ ثبوت الجواز فی الفعل سابقاً مع المنع من الترک، وخطاب الناسخ یدلّ علی ارتفاع الإلزام أی طلب الفعل بنحو لا یجوز ترکه ولا یرفع جواز الفعل.

والوجه فی کونه علیلاً أنّ خطاب المنسوخ لم یکن دلالته علی جواز الفعل

ص :262

.··· . ··· .

الشَرح:

بدلالة مستقلة عن دلالته علی إیجاب الفعل، بل لأنّ ایجاب فعل یستلزم عقلاً عدم المنع عن ذلک الفعل وبعد ارتفاع الوجوب عنه لا استلزام.

وأمّا لو کان دلالة خطاب المنسوخ علی وجوب الفعل _ أی عدم ثبوت الترخیص فی ترکه _ بالإطلاق علی ما مرّ فی البحث عن صیغة الأمر من أنّ دلالتها علی وجوب الفعل بالإطلاق ثمّ ورد خطاب بعد فترة من الزمان ما یکون مفاده ثبوت الترخیص فی ترک ذلک الفعل بعده یحکم بکون الفعل بعد ذلک مطلوباً بنحو الإستحباب.

وبتعبیر آخر أنّه إذا ورد الأمر بفعل متعلق بموضوع إنحلالی بأن قال مثلاً: «جهزوا الموتی» وورد فی خطاب آخر: «أنّه لا الزام فی تجهیز غیر المسلم» یکون مقتضی الجمع العرفی جواز تجهیز المیّت الکافر بل استحبابه، کذلک الحال بالإضافة إلی تعلق الأمر بفعل انحلالی بحسب الأزمنة لخطاب المنسوخ فإنّه یدلّ علی طلب الفعل فی جمیع الأزمنة بنحو لا ترخیص فیه، وإذا ورد خطاب بعد فترة من الزمن بأنّه لا إلزام فی ذلک الفعل بعد ذلک، یثبت الطلب الذی فیه ترخیص بالإضافة إلی الأزمنة المتأخرة إذ الساقط بعد ورود هذا الخطاب الإطلاق الثابت فی طلب الفعل لا أصل طلبه فتدبّر.

وممّا ذکر ظهر أنّه لو فرض وصول النوبة إلی الأصل العملی کان مقتضی الإستصحاب بقاء الجواز بالمعنی الأعم أی عدم الحرمة الثابتة للفعل المزبور عند وجوبه، وکذا عدم استحبابه أی عدم تعلق الطلب الإستحبابی الثابت له عند وجوبه، وکذا عدم کراهته أی عدم طلب ترکه، ونتیجة الإستصحابات هی الإباحة الخاصه، ولذا لا یجری الإستصحاب فی ناحیه عدم ثبوت الإباحة الخاصة کما لا یخفی.

ص :263

.··· . ··· .

الشَرح:

وما ذکر الماتن قدس سره فی ناحیة عدم جریان الإستصحاب فی ناحیة طلب الفعل فهو صحیح، لکن لا لما ذکره قدس سره من أنّ اختلاف الإستحباب والوجوب بضعف الطلب وشدته وبذلک لا یکون استصحاب أصل الطلب من الإستصحاب فی القسم الثالث من الکلی، بل یدخل المشکوک فی المرتبة الضعیفة المتصلة بالمرتبة المرتفعة القویة ومعه یکون الإستصحاب فی الشخص لا فی ناحیة الکلی إلاّ أنّه لا یجری الإستصحاب فی المقام لکون الاستحباب والوجوب بنظر العرف متباینان والمتبع فی جریان الإستصحاب النظر العرفی لا العقلی.

والوجه فی عدم کون هذا الوجه صحیحاً هو ما تقدم من أنّ اختلاف الوجوب والإستحباب وإن کان بالوصف إلاّ أنّ الوصف لیس هو شدة الطلب وضعفه، بل هما أمران اعتباریان کسائر الأحکام فالوجوب هو الطلب الذی یوصف بأنّه لا ترخیص فیه بخلاف الإستحباب فانّه الطلب الموصوف بأنّ فیه ترخیص، ولذا یکونان متباینین عرفاً کتباین الکراهة والحرمة ولیس المراد أنّ المنع من الترک جزء للوجوب والترخیص فیه جزء للإستحباب کما فی کلمات القدماء فانّ عدم صحته واضح إذ معنی کل من الوجوب والإستحباب بسیط لا مرکب کما أشرنا ولکن لکل منهما وصف خاصّ فوصف الوجوب عدمی بخلاف وصف الإستحباب.

وما فی کلام الماتن قدس سره من أنّ کل واحد من الأحکام الخمسة مع غیره من المتباینات عقلاً وعرفاً إلاّ الإستحباب والوجوب فعجیب لأنّه لا فرق بین الإیجاب والإستحباب وبین الحرمة والکراهة من هذه الجهة کما هو ظاهر.

ص :264

فصل

إذا تعلق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء، ففی وجوب کل واحد علی التخییر [1]، بمعنی عدم جواز ترکه إلاّ إلی بدل، أو وجوب الواحد لا بعینه، أو وجوب کل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعین عند اللّه، أقوال.

والتحقیق أن یقال: إنه إن کان الأمر بأحد الشیئین، بملاک أنه هناک غرض واحد یقوم به کل واحد منهما، بحیث إذا أتی بأحدهما حصل به تمام الغرض، ولذا یسقط به الأمر، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما، وکان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیاً لا شرعیاً، وذلک لوضوح أن الواحد لا یکاد یصدر من الإثنین بما هما اثنان، ما لم یکن بینهما جامع فی البین، لإعتبار نحو من السنخیّة بین العلّة والمعلول.

الشَرح:

فی الواجب التخییری

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ الواجب یوصف بأنّه تعیینی کما یوصف بأنّه تخییری وکذا یتصف الوجوب بأنّه تعیینی کما یتصف بأنّه تخییری.

وقد وقع الکلام فی أنّ هذا الاختلاف فی الواجب أو الوجوب فی ناحیة الوصف هل هو ناش من ناحیة الوجوب أو من ناحیة متعلّقه المعبّر عنه بالواجب، کما أنّه وقع الخلاف علی تقدیر کونه من ناحیة الوجوب فی أنّه ذاتی بمعنی أنّ الوجوب التعیینی سنخ من الوجوب المطلق والتخییری سنخ آخر منه، أو أنّه عرضی نشأ من إطلاق الوجوب فی التعیینی والإشتراط والتقیید الخاص فی ناحیة الوجوب فی التخییری، وما فی عبارة الماتن من وجوب کل منهما علی التخییر بمعنی عدم جواز ترکه إلاّ إلی بدل، إشارة إلی القول بالاختلاف الذاتی بین الوجوب التعیینی

ص :265

وعلیه: فجعلهما متعلقین للخطاب الشرعی، لبیان أن الواجب هو الجامع بین هذین الإثنین.

وإن کان بملاک أنه یکون فی کل واحد منهما غرض، لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیانه، کان کل واحد واجباً بنحو من الوجوب، یستکشف عنه تبعاته، من عدم جواز ترکه إلاّ إلی الآخر، وترتب الثواب علی فعل الواحد منهما، والعقاب علی ترکهما، فلا وجه فی مثله للقول بکون الواجب هو أحدهما لا بعینه مصداقاً ولا مفهوماً، کما هو واضح، إلاّ أن یرجع إلی ما ذکرنا فیما إذا کان الأمر بأحدهما بالملاک الأول، من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بینهما، ولا أحدهما معیّناً، مع کون کل منهما مثل الآخر فی أنه وافٍ بالغرض [ولا کل واحد منهما تعینا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة عدم السقوط مع إمکان استیفاء ما فی کل منهما من الغرض، وعدم جواز الإیجاب کذلک مع عدم إمکانه] فتدبر.

الشَرح:

والتخییری حیث إنّ الوجوب التعیینی یتعلق بفعل أو أفعال ویقتضی عدم جواز ترک متعلّقه مطلقاً ولکن الوجوب التخییری یتعلّق بکل من الفعلین أو الأفعال ویقتضی عدم جواز ترکه إلاّ إلی بدل.

وقد یقال: إنّ الوجوب التعیینی المتعلّق بفعل أو أفعال وإن کان یقتضی ما ذکر والوجوب التخییری المتعلق بکل من الفعلین أو الأفعال أیضاً یقتضی ما تقدم إلاّ أنّ هذا الإختلاف لیس ذاتیاً لنفس الوجوبین بل عرضی ناش من إطلاق الوجوب فی ناحیة الوجوب التعیینی، ومن التقیید الطاری علی الوجوب فی التخییری، بمعنی أنّ الوجوب فی الواجب التخییری وإن تعلّق بکل من الفعلین أو الأفعال إلاّ أنّ هذا الوجوب یبقی مادام لم یؤت بواحد من الفعلین أو الأفعال، ومع الإتیان به یسقط الوجوب من کل منهما أو منها وإلی ذلک أشار قدس سره بقوله (أو وجوب کل منهما مع

ص :266

.··· . ··· .

الشَرح:

السقوط بفعل أحدهما).

وأمّا القائل بالإختلاف بین الواجب التعیینی والواجب التخییری فی ناحیة المتعلّق.

فمنهم من یقول: بأنّ فی الواجب التعیینی والتخییری وجوب واحد ولکن الوجوب فی التخییری یتعلّق بأحد الفعلین أو الأفعال بنحو النکرة الواقعة فی تلو الأوامر وإلی ذلک أشار بقوله (أو وجوب الواحد لا بعینه).

ومنهم من یقول بالإختلاف فی ناحیة المتعلق بأنّ الوجوب فی الواجب التخییری یتعلّق بواحد معین من الفعلین أو الأفعال عند اللّه، فإنّ اللّه یعلم ما یختاره المکلف فهو الواجب فی حقّه.

ویقول ثالث: بأنّ الوجوب تعلّق بالواحد المعین مطلقاً وما یختاره المکلف إمّا هو أو غیره فإن کان غیره یکون مسقطاً للواجب وقد أشار الماتن إلی ذلک بقوله (أو وجوب المعین عند اللّه).

ولکنّه قدس سره قد اختار التفصیل فی الواجب التخییری والتزم بأنّ الواجب التخییری علی قسمین، فالقسم الأوّل لا فرق بینه وبین الواجب التعیینی لا فی ناحیة الوجوب ولا فی ناحیة المتعلّق، وهو ما إذا کان للمولی غرض واحد وملاک ومصلحة واحدة تحصل تلک المصلحة بکل من الفعلین أو الأفعال وفی مثل ذلک یکون ما یحصل منه الملاک هو الجامع بینهما أو بینها بقاعدة: «أنّ الواحد لا یصدر إلاّ عن واحد» فذلک الجامع متعلق الوجوب الواحد، کما هو الحال فی الواجب التعیینی المتعلق بالطبیعی حیث یکون صرف وجوده محصّلاً للغرض، غایة الأمر بما أنّ

ص :267

.··· . ··· .

الشَرح:

الجامع فی موارد الوجوب التخییری غیر معروف عند المکلفین یتعلّق الطلب بالأمر فی مقام الإثبات بکل من الفعلین أو الأفعال بذکر أحدهما أو أحدها أوّلاً وعطف الباقی علیه بأو ونحوها. والقسم الآخر یختلف مع الوجوب التعیینی سنخاً کما أشار إلیه أوّلاً، وهو ما یکون فی خصوص کل من الفعلین أو الأفعال غرض ملزم ولکن لا یمکن حصول الغرض من کل منهما أو من کل منها مع إیجادهما أو إیجادها بل یکون الحاصل غرض وملاک واحد ولو ترکهما أو ترکها المکلف یفوت ذلک الملاک الواحد أیضاً ففی مثل ذلک یکون الوجوب تابعاً لحصول الغرض فیتعلّق بکل من الفعلین أو الأفعال سنخ وجوب یقتضی عدم جواز ترک متعلّقه إلاّ إلی البدل ولا یتوهم أنّه إذا لم یمکن حصول الغرضین أو الاغراض فلا موجب للآمر إیجاب کل منهما أو منها کما ذکر بل یأمر بواحد معین منها وذلک لأنّ فی الأمر بکل منهما أو منها تخییراً توسعة للمکلف ورعایة لغرضه حیث قد یصعب علی المکلف الإتیان بذلک المعین أو لا یقدر علیه.

أقول: ما ذکره قدس سره فی موارد ترتب الغرض الملزم علی کل واحد من الخصال مع عدم حصول ذلک الغرض عند الإتیان بها إلاّ من واحد منها _ من أنّه فی هذا الفرض یتعلّق بکل منها سنخ وجوب یقتضی عدم جواز ترک متعلّقه إلاّ إلی بدل _ لا یمکن المساعدة علیه، فانّ الوجوب علی المختار کما تقدم فی بحث الأوامر وفی الفصل السابق وصف لإطلاق الطلب بعدم ورود الترخیص فی ترک متعلّقه، ومع هذا الإطلاق یحکم العقل بعدم جواز ترک متعلقه بالمعنی المتقدم، وإذا کان الطلب بحیث یلزم منه عدم جواز ترک متعلّقه إلاّ إلی بدل، فلابدّ من فرض نوع من التقیید فی الطلب المتعلّق بالخصال أو نحو خصوصیة فی متعلق ذلک الطلب، فإن کان

ص :268

.··· . ··· .

الشَرح:

التقیید فی ناحیة نفس الطلب المتعلق بکل من الخصال کالترخیص فی ترک متعلق کل واحد من الوجوبات، علی فرض الإتیان بمتعلق الآخر فلازم ذلک کون المکلف مؤاخذاً بکل طلب مع ترک جمیع الخصال، مع أنّ العقاب لا یتعدّد فی موارد الوجوب التخییری بترک الخصال کما لا یخفی.

وبالجملة لا نتعقّل سنخین للوجوب بحیث یوجب التعدّد فی ناحیة الوجوب فی موارد التخییر کی یقتضی کل من الوجوب عدم جواز ترک متعلّقه إلاّ إلی البدل، وبما أنّ الإختلاف بین الوجوب التخییری والتعیینی _ بتقیید الطلب بالترخیص الخاص فی التخییری وإطلاق الطلب فی الوجوب التعیینی _ غیر ممکن؛ لاستلزامه تعدد العقاب فی صورة ترک الجمیع فلابدّ من الإلتزام بأنّ الإختلاف بین الوجوب التعیینی وبین الوجوب التخییری فی ناحیة المتعلّق هذا هو المختار. أضف إلی ذلک أنّه لا موجب للمولی لطلب کل من الخصال بإنشاء وجوبات مولویة متعدّدة بعدد الخصال بل یعتبر وجوب واحد متعلّق بالجامع بینها ولو کان ذلک الجامع أمراً اعتباریاً کعنوان أحد الأفعال أو أحد الفعلین حیث إنّ المفروض عدم حصول الغرض من کل منها أو منهما عند الإتیان بها دفعة أو تدریجاً، هذا مع الإغماض عن أنّ فرض تضادّ الخصال فی حصول الملاک والغرض منها، یلحق بأنیاب الأغوال.

والمتحصّل بما أنّ الطلب والبعث أمر إعتباری، یمکن أن یتعلّق بإیجاد الواحد من المتعدّد بلحاظ عنوان انتزاعی ینطبق علی کل من الأفعال المتعدّدة _ سواء حصلت کلّها أو بعضها حتی واحداً منها _ کعنوان أحدهما أو أحدها، بل وکذا الأمر الواقعی الخارجی کالعلم والإرادة أیضاً یمکن أن یتعلق بالواحد من المتعدد بلحاظ هذا النحو من الجامع کالعلم بوقوع النجس فی أحد الانائین أو إرادة أحد الفعلین،

ص :269

.··· . ··· .

الشَرح:

حیث بیّنا أنّ المتعلق لا یکون من قبیل المعروض والطلب والإرادة من قبیل العرض لذلک المعروض، بل المتعلّق طرف الإضافة فی الشیء المضاف لا غیر، کما لا یخفی.

وأمّا ما ذکره قدس سره فی موارد حصول الغرض الواحد من کل من الأفعال المتعدّدة من أنّ فی هذا الفرض یتعلّق الوجوب بالجامع الذاتی بینها المستکشف بقاعدة: «الواحد لا یصدر إلاّ عن واحد» التی هی عکس القاعدة المعروفة(1) التی أسّسها أهل المعقول لإثبات أنّ الصادر الأوّل من المبدأ الأعلی واحد، فقد ذکرنا فی البحث عن موضوعات العلوم أنّ القاعدة علی فرض تمامیتها تصدق فی الواحد الشخصی أمّا الواحد النوعی أو العنوانی ممّا یکون له حصص فیمکن استناد واحد منها إلی شیء والآخر منها إلی شیء آخر من غیر أن یکون بین الشیئین جامع ذاتی کخروج العرق من بدن الإنسان حیث یستند تارة إلی حرارة الهواء وأخری إلی الخجل والحیاء مع أنّ کلاً منهما من مقولة، والجامع الذاتی علی ما ذکروا بین المقولات غیر معقول.

ومع الإغماض عن ذلک فإنّ اعتبار الطلب والبعث انّما هو لترتّب إمکان الإنبعاث به مع وصوله إلی المکلف وإذا کان الجامع الذاتی علی نحو یستکشف بالبرهان فاعتبار الطلب وجعل ذلک الجامع متعلقاً له عبث لغو حتی فی مقام الثبوت بل علی المولی الحکیم أن یجعل متعلق طلبه وبعثه أمراً إذا ألقاه إلی المکلف لتوجه المکلّف إلی ما تعلق به إرادته ثبوتاً وقد حدّدنا ذلک الأمر بالعنوان الإنتزاعی الممکن إلقائه إلی المکلف وهو عنوان أحدهما أو أحدها أو ما یرادفها بتعلّق الأمر فی

ص :270


1- (1) والأصل هی (لا یصدر عن الواحد إلاّ واحد).

بقی الکلام فی أنه هل یمکن التخییر عقلاً أو شرعاً بین الأقل والأکثر[1]، أولا؟

الشَرح:

الخطاب بأحد الخصال وعطف الباقی علیه بأو أو ما یرادفها أو ذکر الأفعال المتعددة ولو بواو الجمع ثمّ الأمر بإتیان أحدهما کما لا یخفی.

وأمّا القول بأنّ الواجب فی موارد الوجوب التخییری أحدهما المعیّن عند اللّه تعالی وهو ما یختاره المکلف وعلیه فیختلف الواجب المعین عند اللّه تعالی بحسب اختیار المکلفین، وهو الذی رمی کلّ من المعتزلة والأشاعرة القول به إلی الآخر، ففساده واضح فإنّه یوجب عدم وجوب شیء من الابدال فی حق المکلف عند صورة ترکها جمیعاً، وأن یکون أمره بواحد منها معلّقاً علی اختیاره.

وأمّا کون الواحد المعیّن عند اللّه تعالی واجباً فی حقّ الجمیع، والباقی مسقط للتکلیف بالواحد المعین فهو وإن کان ممکناً ثبوتاً إلاّ أنّه خلاف خطابات الواجب التخییری، ولا موجب لرفع الید عن ظواهرها بعد بیان تصویر الواجب التخییری ثبوتاً.

فی التخییر بین الأقل والأکثر

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی التخییر بین الأقل والأکثر هو أنّ الغرض الواحد مع ترتبه علی الأقل بحدّه وعلی الأکثر بحدّه کما فی قصر الصلاة وتمامها یقتضی أن یکون الوجوب فیهما تخییریاً حیث إنّ اختصاص الوجوب بالأقل بلا موجب، ولا فرق فی ذلک بین استقلال الأقلّ فی الوجود کالتسبیحة أو عدم استقلاله کما فی الخط الطویل، فإنّه إذا کان الغرض مترتباً علی التسبیحة بشرط عدم لحوق تسبیحة أخری بها وعلیها علی تقدیر لحوق تسبیحتین أخریین یکون الوجوب تخییریاً بین

ص :271

ربما یقال، بأنه محال، فإن الأقل إذا وجد کان هو الواجب لا محالة، ولو کان فی ضمن الأکثر، لحصول الغرض به، وکان الزائد علیه من أجزاء الأکثر زائداً علی الواجب، لکنه لیس کذلک، فإنه إذا فرض أن المحصّل للغرض فیما إذا وجد الأکثر، هو الأکثر لا الأقل الذی فی ضمنه، بمعنی أن یکون لجمیعِ أجزائه حینئذ دخل فی حصوله، وإن کان الأقل لو لم یکن فی ضمنه کان وافیاً به أیضاً، فلا محیص عن التخییر بینهما، إذ تخصیص الأقل بالوجوب حینئذ کان بلا مخصص، فإن الأکثر بحده یکون مثله علی الفرض، مثل أن یکون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً علی الطویل إذا رسم بماله من الحد، لا علی القصیر فی ضمنه، ومعه کیف یجوز تخصیصه بما لا یعمه؟ ومن الواضح کون هذا الفرض بمکان من الإمکان.

الشَرح:

الواحدة والثلاث.

وبالجملة إذا کان غرض واحد مترتباً علی الأقل بحدّه بحیث لو کان الأقل فی ضمن الأکثر لا یترتب ذلک الغرض علی الأقل الذی فی ضمن الأکثر بل یترتب علی نفس الأکثر یکون الواجب هو الجامع بینهما ویکون التخییر بینهما عقلیاً وإذا کان فی البین غرضان یترتّب أحدهما علی الأقل والآخر علی الأکثر ولم یمکن الجمع بین الغرضین فی الإستیفاء، کان کل من الأقل والأکثر واجباً بوجوب تخییری شرعی علی النحو الذی تقدم بیانه.

نعم إذا کان الغرض الواحد یترتب علی الأقل من دون دخل الزاید فیه وجوداً وعدماً لما کان الأکثر عدلاً له بل کان فی الأکثر اجتماع الوجوب وغیره من الاستحباب والاباحة بمعنی أنّ الأقل المتحقق ولو فی ضمن الأکثر واجب، والزاید علیه مستحب أو مباح.

أقول: ما ذکره قدس سره من ترتب الغرض الواحد علی الأقلّ بحدّه وعلی الأکثر بحدّه

ص :272

إن قلت: هبه فی مثل ما إذا کان للأکثر وجود واحد، لم یکن للأقل فی ضمنه وجود علی حدة، کالخط الطویل الذی رسم دفعة بلا تخلّل سکون فی البین، لکنه ممنوع فیما کان له فی ضمنه وجود، کتسبیحة فی ضمن تسبیحات ثلاث، أو خط طویل رسم مع تخلّل العدم فی رسمه، فإن الأقل قد وجد بحده، وبه یحصل الغرض علی الفرض، ومعه لا محالة یکون الزائد علیه مما لا دخل له فی حصوله، فیکون زائداً علی الواجب، لا من أجزائه.

قلت: لا یکاد یختلف الحال بذاک، فإنه مع الفرض لا یکاد یترتب الغرض علی الأقل فی ضمن الأکثر، وإنما یترتب علیه بشرط عدم الإنضمام، ومعه کان مترتباً علی الأکثر بالتمام.

الشَرح:

بحیث یکون الواجب هو الجامع ویکون التخییر بینهما عقلیاً، فالظاهر أنّه من فرض الممتنع عنده، حیث إنّ دخالة خصوصیة کل واحد تمنع عن استناد ذلک الغرض إلی الجامع ومقتضی استناد الغرض إلی الجامع عدم دخالة خصوصیّة کل منهما مع اختلافهما فی الخصوصیة، وبتعبیر آخر: مقتضی قانون السنخیّة بین المعلول وعلّته أن لا تکون لخصوصیة کل منهما دخل فی حصول ذلک الغرض ولکن فرض قدس سره أنّ کلاً منهما بحدّه دخیل فیه.

ومع الإغماض عن ذلک فما ذکر لا یکون من التخییر بین الأقل والأکثر بل من قبیل التخییر بین المتباینین فإنّ الشیء المأخوذ بشرط خصوصیّته وحدّه یباین الشیء الآخر المأخوذ بخصوصیته وحدّه غایة الأمر یکون تباینهما بالإعتبار لا بالذات ولذا لا یحمل الشیء المأخوذ بشرط لا بالإضافة إلی قید، علی الشیء المأخوذ بشرط ذلک القید. وأمّا التخییر بین الأقل والأکثر فیما إذا کان متعلّق الأمر، الأقلّ لا بشرط، بحیث یترتب علیه الغرض وکان ذلک الشیء بشرط ذلک القید أیضاً

ص :273

وبالجملة إذا کان کل واحد من الأقل والأکثر بحدّه مما یترتب علیه الغرض، فلا محالة یکون الواجب هو الجامع بینهما، وکان التخییر بینهما عقلیاً إن کان هناک غرض واحد، وتخییراً شرعیاً فیما کان هناک غرضان، علی ما عرفت.

نعم لو کان الغرض مترتباً علی الأقل، من دون دخل للزائد، لما کان الأکثر مثل الأقل وعدلاً له، بل کان فیه اجتماع الواجب وغیره، مستحباً کان أو غیره، حسب اختلاف الموارد، فتدبر جیداً.

الشَرح:

موضوعاً لذلک الغرض، فهو أمر لا یمکن تسلّمه وعلی ذلک فلا مناص من الإلتزام فی مثل هذه الموارد بوجوب الأقلّ واستحباب ضمّ الزائد أو اباحته.

ولا یخفی أنّ هذا إنّما هو فیما کانت القلة أو الکثرة وصفاً لنفس الفعل بلا فرق بین کون الکثیر من قبیل فعلین أو زائداً علی مسمّی طبیعی الفعل المتعلق به الطلب فانّ الفعل الثانی أو المقدار الزائد علی صدق المسمّی یکون مستحباً أو مباحاً وعلیه فإذا أمر برسم الخط فالمقدار الواجب ما یصدق علیه مسمّی رسمه والزائد علی المسمّی لا یدخل تحت هذا الطلب لا محالة فیکون الزائد راجحاً أو مباحاً.

وأمّا إذا کانت الزیادة لا فی نفس الفعل بل فی متعلق الفعل فهو خارج عن مورد الکلام کما إذا طلب منه إعطاء عصا فاعطاه العصا الطویلة فلا تغفل.

ص :274

والتحقیق أنه سنخ من الوجوب، وله تعلق بکل واحد، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکل لعوقبوا علی مخالفته] 1] جمیعاً، وإن سقط عنهم لو أتی به بعضهم، وذلک لأنه قضیة ما إذا کان هناک غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر عن الکل أو البعض.

کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الکل، کما هو قضیة توارد العلل المتعددة علی معلول واحد.

الشَرح:

الواجب الکفائی والعینی

[1] الکلام فی الواجب الکفائی کالکلام فی الواجب التخییری یقع فی اختلاف الواجب الکفائی عن الواجب العینی بحسب مقام الثبوت غایة الأمر کان الکلام فی الواجب التخییری أنّ اختلافه عن الواجب التعیینی ینشأ من ناحیة نفس الوجوب أو من ناحیة متعلق الوجوب وفی المقام الکلام فی أنّ اختلاف الکفائی عن العینی ینشأ من ناحیة نفس الوجوب أو من ناحیة الموضوع للوجوب یعنی المکلف، وإذا کان اختلافه عن العینی ناشئاً من اختلاف الوجوب، فهل اختلاف الوجوب العینی عن الکفائی ذاتی للوجوبین أو أنّه ناشٍ عن أمر عارضی وهو إطلاق الوجوب فی العینی والإشتراط فی الوجوب الکفائی؟

وظاهر الماتن قدس سره فی المقام أنّ اختلاف الکفائی عن العینی ناش عن أمر ذاتی للوجوبین بمعنی أنّ الوجوب الکفائی سنخ من الوجوب یتوجّه إلی کلّ مکلف ولکن بحیث یسقط عنهم بفعل البعض ولو اخلّوا بالإمتثال لعوقبوا علی مخالفته، بخلاف

ص :275

.··· . ··· .

الشَرح:

الوجوب العینی فانّه سنخ یقتضی أن یأتی کلّ واحد ممّا وجب علیه ولا یسقط الوجوب عنه إلاّ بذلک، والمصحّح لکون الوجوب الکفائی سنخاً والعینی سنخاً آخر هو الغرض الملحوظ فی ایجاب الفعل، فقد یکون الغرض من التکلیف حصول أمر واحد ویحصل ذلک بفعل أی مکلّف، وقد یکون الغرض انحلالیّاً ویترتب علی فعل کل مکلف ذلک الغرض المطلوب حصوله من فعله فیکون الوجوب عینیاً، وذکر قدس سره أنه لو فرض حصول الفعل من کلّ من کان مکلفاً بالفعل المزبور دفعة حصل الإمتثال من الجمیع واستحق کل منهم المثوبة ویستند حصول الغرض إلی فعل الجمیع کما هو مقتضی توارد العلل المتعددة علی معلول واحد.

أقول: ترتب الغرض علی الفعل الصادر ولو عن مکلف وسقوط التکلیف به عن الآخرین لا یوجب اختلاف الوجوب الکفائی عن العینی فی سنخ الوجوب بأن یکون للوجوب نوعین مختلفین فی ذاتهما، بل یمکن أن یکون ذلک بإطلاق الوجوب فی الواجب العینی وبالإشتراط وتقیید الوجوب فی الکفائی، فالوجوب الکفائی کالعینی وإن کان یتعلّق بکل مکلف ولا یکون فی تعلّقه بهم اشتراط غیر تحقق الموضوع إلاّ أنّ الواجب الکفائی فی ناحیة بقاء وجوبه یقیّد بعدم صدور الفعل عن البعض الآخر بخلاف الوجوب العینی فإنّه لا تقیید فیه فی ناحیة سقوط التکلیف عن المکلّف، وغایة تکلیفه به صدور الفعل عنه أو انتهاء أمد التکلیف بحصول غایته کما فی الموقّتات.

وبتعبیر آخر إنّ _ فی موارد الوجوب الکفائی _ للوجوب المجعول فی حق کل مکلّف غایة أخری وهو صدور الفعل ولو من مکلف آخر، فیوجب مثلاً تجهیز المیت مادام لم یجهّز.

ص :276

.··· . ··· .

الشَرح:

بل یتعیّن الإختلاف فی ذلک لو قیل بأنّ اختلاف الوجوب الکفائی عن الوجوب العینی فی ناحیة الوجوب، لما تقدم من أنّه لا معنی لاختلاف وجوب عن وجوب آخر إلاّ بالإطلاق والتقیید ولذا یکون إطلاق وجوب الفعل علی کل مکلّف فی مقام الإثبات کاشفاً عن کون الوجوب عینیّاً فی مقام الثبوت بمقتضی تطابق مقام الإثبات مع الثبوت.

وأیضاً یقال إنّه تختلف الواجبات الکفائیة عن الواجبات حسبة بأنّ الوجوب فی الواجبات الکفائیة یتوجّه إلی کل مکلّف بالنحو المتقدم بخلاف الواجب حسبة فانّ المعلوم فیه من الشارع تعیّن الإتیان بالفعل ولکن نعلم بعدم وجوبه بل عدم جوازه لکل مکلّف، کالتصرّف فی أموال القاصرین الذین لا ولیّ لهم، ولذا یکتفی فیمن یتصدی لذلک الفعل بالقدر المتیقن اقتصاراً فی رفع الید عن القاعدة الأولیة المقتضیة لعدم جواز التصدّی له أو عدم نفوذه، علی القدر المتیقن.

نعم قد أورد المحقق النائینی قدس سره علی الإلتزام بالوجوبات المتعدّدة بأن یجب الفعل علی کل مکلف مشروطاً بترک الآخرین، بأنّه لا موجب للوجوبات المتعدّدة المشروطة بعد کون الغرض المطلوب واحداً یحصل بفعل مکلف واحد وانّما یصحّ جعل الوجوبات المتعددة فیما کان فی البین غرض مستقل یترتب علی فعل هذا المکلف وغرض مستقل آخر یترتب علی فعل مکلف آخر وهکذا ولکن لم یتمکنوا من الإجتماع علی الفعل الواجب فی حق کل واحد منهم ولم یمکن استیفاء جمیعها فلا بأس فی هذه الصورة بالإلتزام بالوجوب المشروط فی حق کل منهم بترک الآخرین.

وبتعبیر آخر کما أنّ التزاحم بین الفعلین _ الذین یجب کل منهما علی المکلف _

ص :277

.··· . ··· .

الشَرح:

یقتضی إیجاب کل منهما فی حقه مشروطاً بترک الآخر علی ما مرّ فی بحث الترتب، کذلک التزاحم بین مکلّفین أو أکثر فی الفعل الواجب علی کل منهما أو منهم مع عدم تمکنهم من الإجتماع فی الواجب یقتضی ذلک، کما إذا فرض کون کل من زید وعمرو محدثاً بالأکبر وأصابا ماءً لا یکفی إلاّ لاغتسال أحدهما ففی الفرض یکون کل منهما متمکناً من الصلاة بالغسل علی تقدیر ترک الآخر الإغتسال به والصلاة مع الغسل ذات ملاک من کل منهما کما هو مقتضی قوله «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبَاً فَاطّهَرُوا»(1) فیکون وجوبها مع الغسل علی کل منهما مشروطاً بترک اغتسال الآخر به قبله وکذا فیما کانا محدثین بالأصغر وأصابا ماءً یکفی لوضوء أحدهما.

نعم إذا کان أحدهما محدثاً بالجنابة والآخر بالأصغر یغتسل الجنب ویتیمّم المحدث بالأصغر للروایة(2) الواردة فی إجتماعهما(3).

وأورد أیضاً علی تصویر الواجب الکفائی بالوجوبات المتعددة المشروطة بأنّ الترک المأخوذ شرطاً فی وجوب الفعل علی کل مکلف إن کان ترکه ولو فی بعض الوقت الصالح للفعل، فلازمه عدم سقوط وجوب الفعل عن سائر المکلفین بفعل البعض لأنّه یحصل الترک فی الجملة من کل مکلف فی زمان ما وإن کان الشرط ترک الآخرین فی تمام الوقت فلا یتصف الفعل بالوجوب فیما لو أتوا به دفعة لعدم حصول شرط الوجوب فی حق واحد منهم(4).

ص :278


1- (1) سورة المائدة، الآیة 6.
2- (2) الوسائل: ج 2، باب 18 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
3- (3) أجود التقریرات 1 / 188.
4- (4) المحاضرات 4 / 54.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکن هذا الإیراد غیر وارد علی ما ذکرنا من أنّ وجوب الفعل عند حدوثه فی حق کل مکلف، غیر مشروط بشیء، وانما الإشتراط فی ناحیة سقوطه بمعنی أنّ الوجوب الحادث یسقط عن سائر المکلفین بحصول الفعل من البعض الآخر.

نعم یرد علی الإلتزام بالوجوبات المتعدّدة کما ذکر بأنّها من قبیل الأکل من القفا حیث إنّه إذا کان للمولی غرض واحد یحصل بفعل مکلّف ما، لکفی أن یجعل التکلیف به علی صرف وجود المکلف لا کلّ واحد من المکلفین أو بعضهم بعینه.

وتوضیحه: کما أنّ الغرض _ فیما إذا کان مترتباً علی أحد الفعلین لا بعینه _ یتعلّق التکلیف بهما بعنوان أحدهما ولا یتعدّد التکلیف بتعدّد الفعلین أو الأفعال کذلک فیما ترتب الغرض علی فعل أحد المکلفین أو بعضهم ولذا یقول المولی فی مثل هذه الموارد «فلیأت واحد منکم بالماء» فالمطلوب منه هو صرف الوجود ممّن ینطبق علیه عنوان المکلف. ودعوی أنّه مع هذا النحو من التکلیف لا یصح للمولی مؤاخذة الکلّ فیما إذا ترکوا الفعل، مدفوعة: بأنّه مع تمکّن کل منهم علی موافقة التکلیف وکون کل منهم داخلاً فی العنوان الذی خاطبهم به، لا یری العقل قبحاً فی مؤاخذة کلّ منهم، کما أنّه لو کان الإمتثال منهم دفعة واحدة لعدّوا جمیعاً مطیعین، حیث إنّ تخصیص بعضهم بالطاعة دون الآخرین بلا معیّن.

لا یقال: البعث لا یکاد یتوجّه إلاّ لآحاد المکلّفین فإنّهم قابلون للإنبعاث وأمّا العنوان الجامع فهو وإن أمکن أن یکون موضوعاً لحکم وضعی کما فی ملکیة الزکاة لطبیعی الفقیر وملکیة الخمس لطبیعی الهاشمی إلاّ أنّ التکلیف لا یکاد یتوجّه إلاّ إلی الاحاد وصرف وجود المکلف، أو عنوان أحدهم إن کان مشیراً إلی الخارج، فالمکلف هو الآحاد فیکون التکلیف انحلالیاً لا العنوان فإنّه غیر قابل للإنبعاث.

ص :279

.··· . ··· .

الشَرح:

فإنّه یقال: کل واحد من الاحاد بعنوان صرف الوجود من المکلف یتوجّه إلیه التکلیف، ولکن لا یکون التکلیف المتوجّه إلی واحد بهذا اللحاظ إلاّ نفس التکلیف المجعول المتوجه إلی الآخر بهذا اللحاظ حیث إنّ صرف الوجود لا یتکرّر ولا یتعدّد لیحصل الإنحلال فی التکلیف.

أقول: الإلتزم فی الواجبات الکفائیة بتعلق الوجوب علی صرف الوجود من المکلّف غیر معقول، لأنّ معنی أنّ صرف الوجود من الطبیعی لا یتکرّر ولا یتعدّد هو أنّ الکلی إذا تحقق ینطبق علیه صرف الوجود ولا ینطبق علی الوجود الذی یکون ثانیاً وثالثاً وهکذا ولذا یقال إنّ صرف الوجود من الطبیعی ینطبق علی الوجود الأوّل منه فقط.

وعلیه لو کان وجوب التجهیز مثلاً متوجهاً إلی صرف الوجود من المکلف توجه التکلیف المزبور إلی أوّل متمکن علی تجهیزه بعد موته ولا یکون فی حق سائر المکلفین والمراد من سائر المکلفین کلّ من یتمکن علی تجهیزه ثانیاً وهذا لا یمکن الإلتزام به، وعلی ذلک فاللازم فی موارد الوجوب الکفائی أن یلتزم بانحلال الوجوب بانحلال الموضوع _ أی المکلفین _ نظیر الوجوب العینی غایة الأمر یفترق الوجوب الکفائی عن العینی فی ناحیة سقوط الوجوب علی ما تقدم من التقریب أو یلتزم بأنّ وجوب فعل وتوجیهه إلی المکلفین بعنوان واحد منهم لا یوجب تعدد التکلیف المجعول.

ذکر المحقق النائینی قدس سره : ثمّ أنّه لو وجد المتیممان ماءً لا یکفی إلاّ لوضوء أحدهما فهل یبطل تیمم کل منهما؟ أو لا یبطل تیمّمهما، أو یبطل تیمّم أحدهما، اختار الأوّل لأن تمکن کل منهما من حیازة ذلک الماء یوجب انتقاض تیمّم کل منهما

ص :280

.··· . ··· .

الشَرح:

ولا ینافی ذلک وجوب الوضوء إلاّ علی أحدهما(1).

أقول: فی الفرع فروض، أحدها: سبق أحدهما بحیازة ذلک الماء قبل أن یتمکن الآخر من حیازته ففی هذا الفرض لا موجب للقول ببطلان تیمّم غیر السابق.

وثانیهما: سبق أحدهما ولکن الآخر کان متمکناً من السبق فی الحیازة وفی هذا الفرض یبطل تیمم کل منهما إمّا من حازه فعلاً لحیازته الماء وإمّا الآخر لتمکنه من الماء قبل حیازة الآخر.

وثالثها: سبق کل منهما ولکن وقع حیازتهما الماء فی زمان واحد وفی هذا الفرض لا یبطل تیمّم واحد منهما بل یبطل تیمّم من ترک حقه إلی الآخر.

بقی فی المقام شیء وهو أن من یلتزم فی موارد الواجبات الکفائیة بوجوب واحد متعلق علی صرف وجود المکلف أو علی عنوان واحد ممّن یکون بالغاً عاقلاً قادراً علی الفعل علی النحو المتقدّم یلتزم فی بعض الموارد بأنّ ظاهر الأدلة تعدّد الوجوب مع کون الغرض ممّا یحصل بفعل البعض کما فیما إذا طلب من شهود الواقعة الحضور إلی أداء الشهادة فإنّ مقتضی حرمة کتمان الشهادة علی کل من الشهود الحضور إلی أداء الشهادة إلاّ أنّه إذا حضر من الشهود ما یکون شهادتهم مثبتاً للواقعة یسقط الوجوب عن باقی الشهود، ولکن القائل المزبور یدعی أنّ هذا غیر الواجب الکفائی بل واجب عینی ولکن یسقط لحصول الغرض من الواجب وأمّا بناءاً علی ما تقدم من تعدّد التکلیف فی موارد الواجبات الکفائیة فیدخل مثل هذا المثال فیها کما لا یخفی.

ص :281


1- (1) أجود التقریرات 1 / 189.

ص :282

فصل

لا یخفی أنه وإن کان الزمان مما لا بد منه عقلاً فی الواجب، إلاّ أنه تارة مما له دخل فیه شرعاً فیکون موقتاً[1]، وأخری لا دخل له فیه أصلاً فهو غیر موقت، والموقت إما أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضیّق، وإما أن یکون أوسع منه فموسّع.

ولا یذهب علیک أن الموسع کلّی، کما کان له أفراد دفعیّة، کان له أفراد تدریجیة، یکون التخییر بینها کالتخییر بین أفرادها الدفعیة عقلیاً.

ولا وجه لتوهم أن یکون التخییر بینها شرعیاً، ضرورة أن نسبتها إلی الواجب نسبة أفراد الطبائع إلیها، کما لا یخفی، ووقوع الموسّع فضلاً عن إمکانه، مما لا ریب فیه، ولا شبهة تعتریه، ولا اعتناء ببعض التسویلات کما یظهر من المطوّلات.

الشَرح:

الواجب الموسّع والمضیّق

[1] لابدّ لوقوع الفعل من الزمان حیث إنّه زمانیّ وکل زمانیّ لابدّ أن یقع فی الزمان إلاّ أنّ الشارع قد یحدّد للفعل زماناً خاصاً لدخالته فی ملاکه فیکون موقتاً ویکون ذلک الزمان بمقدار الفعل تارةً فیسمّی الواجب مضیقاً ویکون أوسع منه فیسمّی واجباً موسعاً، وفیما لا یحدّد له زماناً فإن کان الأمر به فی خصوص أزمنة إمکان الفعل فیسمی واجباً فوریاً، فإن أمر به ثانیاً علی تقدیر ترکه فی أوّل أزمنة إمکانه یسمّی واجباً فوریاً ففوریاً، وإن کان الأمر به مطلقاً یسمّی واجباً غیر فوری.

ولا ینبغی التأمّل فی إمکان کلا القسمین من الموقت ووقوعهما فی الشرع وإن

ص :283

.··· . ··· .

الشَرح:

توهم عدم إمکان الموسّع تارة وعدم إمکان المضیق أخری.

أمّا الأوّل: فلما قیل أولاً أنّه یجوز ترک الموسع إلی آخر زمان یکون ذلک الزمان مساویاً للفعل ومقتضی جواز ترکه إلی ذلک الزمان استحبابه إلی ذلک الحدّ وصیرورته واجباً فی حق من ترکه قبل ذلک.

وقیل ثانیاً أنّ ما یسمّی واجباً موسعاً فهو فی الحقیقة واجب تخییری بین الابدال الطولیة بحسب الزمان.

ویندفع کلا الوهمین بأنّ حال الافراد الطولیة کحال الافراد العرضیة من الطبیعی وکما أنّه لا غرض ملزم فی شیء من خصوصیات الافراد العرضیة فی أمر الشارع بالطبیعی، بل غرضه حصول ذلک الطبیعی علی ما مرّ فی بیان تعلّق الأوامر بالطبایع ولذا یجوز ترک بعض افراده والإتیان بالبعض الآخر من غیر أن یکون التخییر بین الافراد العرضیة تخییراً شرعیاً کذلک الحال فی الافراد الطولیة للطبیعی فإنّ مع تساویها فی الغرض الملزم الملحوظ للشارع یکون تخصیص الوجوب بالفرد الآخر بلا موجب کما أنّ دخول خصوصیات الافراد فی متعلق الأمر ولو بعنوان أحدها بلا موجب فلا یکون الوجوب المتعلق بالطبیعی منها وجوباً تخییریاً ولا الطلب المتعلق به منحلاً إلی الإستحباب بالإضافة إلی ما فی غیر آخر الوقت وإلی الوجوب بالإضافة إلی ما فی آخره.

أمّا الثانی: فقد قیل بامتناعه لأنّه لابدّ من حصول التکلیف قبل زمان الفعل لیکون ذلک التکلیف داعیاً للمکلّف إلی الفعل فی أوّل الوقت، مثلاً لابدّ أن یحصل التکلیف بالصوم قبل طلوع الفجر لیکون داعیاً إلی الإمساک عند طلوعه فیکون زمان

ص :284

.··· . ··· .

الشَرح:

التکلیف بالفعل أوسع من زمان الفعل لا محالة.

وأجاب المحقق النائینی قدس سره أنّ التکلیف وان کان فعلیاً قبل الفعل لا محالة إلاّ أنّ هذا التقدم لیس بالزمان حیث إنّ الإنبعاث بالإضافة إلی التکلیف الفعلی من قبیل المعلول بالإضافة إلی علّته فیکون تأخره عن التکلیف وتقدم التکلیف علیه رتبیّاً. نعم لابدّ من حصول العلم بالتکلیف قبل ذلک الزمان لیکون التکلیف بإحرازه داعیاً للمکلف إلی الفعل فی أوّل زمانه، وسبق العلم بالتکلیف بالزمان علی الفعل غیر سبق فعلیة التکلیف علی زمان الفعل بالزمان وسبق العلم کذلک یکون بوصول الخطاب المتضمن للتکلیف بنحو الواجب المشروط من قبل(1).

أقول: العلم بالتکلیف الفعلی یکون سبقه علی زمان الفعل أیضاً بالرتبة ولا یلزم سبقه علیه بالزمان فإنّ الموضوع لحکم العقل بانبعاث العلم بالتکلیف الفعلی فیکون هذا العلم مقارناً لفعلیة التکلیف ووصول خطاب التکلیف الذی مفاده مفاد القضیة الشرطیة أو القضیة الحقیقیة یوجب العلم بالجعل ومع إحراز تحقق الشرط والموضوع خارجاً یحصل العلم بالتکلیف الفعلی هذا أوّلاً.

وثانیاً تقدم العلم بالتکلیف الفعلی أو تقدم التکلیف الفعلی علی زمان الفعل لا یخرج الواجب عن کونه واجباً مضیقاً فإنّ الواجب المضیق هو الّذی یکون ما یقتضیه ذلک الفعل، بمقدار الزمان المعیّن له، لا أنّ التکلیف به، زمانه بمقدار زمان الفعل، ولذا لو بنی علی أنّ وجوب صوم نهار شهر رمضان فی کل یوم من قبیل الواجب المعلق یحدث وجوبه وفعلیته من اللیل فهذا لا یخرج الصوم عن کونه

ص :285


1- (1) أجود التقریرات 1 / 190.

ثم إنه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه علی الأمر به فی خارج الوقت، بعد فوته فی الوقت، لو لم نقل بدلالته علی عدم الأمر به[1].

نعم لو کان التوقیت بدلیل منفصل، لم یکن له إطلاق علی التقیید بالوقت، وکان لدلیل الواجب إطلاق، لکان قضیة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وکون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

وبالجملة: التقیید بالوقت کما یکون بنحو وحدة المطلوب، کذلک ربما یکون بنحو تعدد المطلوب، بحیث کان أصل الفعل، ولو فی خارج الوقت مطلوباً فی الجملة، وإن لم یکن بتمام المطلوب، إلاّ أنه لابد فی إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، ولا یکفی الدلیل علی الوقت إلاّ فیما عرفت، ومع عدم الدلالة فقضیة أصالة البراءة عدم وجوبها فی خارج الوقت، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جیداً.

الشَرح:

واجباً مضیقاً.

[1] یعنی لو کان توقیت الواجب بتقیید الفعل بالوقت، فی خطاب الأمر به فلا سبیل إلی إثبات وجوب ذلک الفعل بعد الوقت فی حق من ترکه فیه بذلک الخطاب، بل یمکن القول بدلالته علی عدم وجوبه بعد ذلک الوقت کما هو مقتضی قول من التزم بمفهوم الوصف، فإنّ المراد بالوصف کما یأتی فی باب المفاهیم، القید فیدخل فیه الزمان المأخوذ فی ناحیة متعلّق الوجوب، نعم بناءً علی عدم المفهوم کما هو الصحیح فلا یکون مقتضی التقیید نفی القضاء.

نعم إذا کان التقیید بخطاب منفصل فتارة یکون لمفاد الخطاب المنفصل إطلاق بمعنی أنّه یکون دالاًّ علی دخل الوقت فی متعلّق التکلیف المنکشف بالخطاب الأوّل کدخل سائر قیوده فیه بمعنی أنّ المتعلق مطلوبیته وقوام الملاک فیه

ص :286

.··· . ··· .

الشَرح:

بالقید، وبتعبیر آخر یکون مدلول الخطاب المنفصل أنّ الزمان دخیل فی أصل مطلوبیة الفعل وفی مثله لا یمکن إثبات وجود الفعل بعد ذلک الزمان بالخطاب الأوّل الذی تعلّق فیه الوجوب بنفس الفعل.

وأُخری لا یکون لخطاب التقیید هذه الدلالة بل یکون مقتضاه أنّ الفعل فی الوقت مطلوب ویکون مقتضی الخطاب الأوّل أنّ نفس الفعل مطلوب بحیث یکون مقتضی الجمع بین الخطابین الإلتزام بتعدّد المطلوبیة فی الفعل وفی الوقت وفی مثله لا بأس بالأخذ بإطلاق الخطاب الأوّل وإثبات مطلوبیة الفعل ممّن ترکه فی الوقت.

وأمّا لو لم یکن هذا النحو من الدلالة فی خطاب التقیید أو لم یکن للخطاب الأوّل اطلاق، کان مقتضی البرائة عدم وجوب الفعل بعد الوقت. ولا یمکن إثبات وجوبه بعده بالإستصحاب لأنّ ما علم وجوبه وهو الفعل فی الوقت قد سقط وجوبه بانقضاء الوقت ویشک فی ثبوت الوجوب لنفس الفعل من الأوّل فالأصل عدم حدوثه کما هو الشأن فی القسم الثالث من استصحاب الکلّی حیث لا فرق فی عدم جریانه فی ناحیة الکلی بین احتمال حدوث الفرد الآخر من الأوّل أو عند ارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه.

أقول: تحقق ملاک ملزم فی نفس الفعل وتحقق ملاک ملزم فی حصته زائداً علی ملاک ذات الفعل وإن کان أمراً ممکناً کالفعل فی وقت خاص، الّذی یکون فیه ملاک ذات الفعل وملاک زائد لخصوصیّته، ولکن فی هذا الفرض لا یمکن تعلق وجوبین بالفعل المزبور فی ذلک الوقت کما فرض قدس سره أن بالإتیان به فی ذلک الزمان

ص :287

.··· . ··· .

الشَرح:

یتدارک الملاکان، لأنّ الفعل فی الوقت لیس بفعلین حتی یتعلّق بأحدهما وجوب وبالآخر وجوب آخر، بل المتعیّن فی هذا الفرض أن یتعلق فی ذلک الوقت بالفعل وجوب واحد، وأن یتعلّق وجوب آخر بعد خروج الوقت بذلک الفعل فی حق من لم یأت بالفعل فی ذلک الوقت الخاص عذراً أو عصیاناً، حیث إن بعد فرض تدارک الملاکین بالإتیان بالفعل فی الوقت یکشف خطاب المقید أنّ الوجوب ثبوتاً تعلّق بالفعل فی ذلک الزمان ویحمل الأمر بذات الفعل فی خطاب المطلق علیه، کما هو مقتضی حکایة کل منهما عن وجوب واحد ثبوتاً، فلا یبقی فی البین دلالة علی حکم الفعل بعد ذلک الزمان فی حق من ترکه فی الزمان المفروض عصیاناً أو عذراً.

وبالجملة انّما یصح التعدد فی الوجوب ثبوتاً فیما إذا کان متعلق أحدهما فی الخارج غیر متعلق الآخر، أو کانت النسبة بین العنوان الذی تعلق به أحد الوجوبین والعنوان الذی تعلق به الآخر عموماً من وجه، أو کان یقتضی کل منهما وجوداً من الطبیعة غیر الوجود الآخر منها کما فی صورة تعدد الشرط واتحاد الجزاء کما لا یخفی.

وقد یفسّر کلام الماتن قدس سره بوجه آخر وهو أنّه إذا کان التقیید بالوقت وارداً فی خطاب التکلیف بالفعل فلا یمکن إثبات وجوبه بعد ذلک الوقت بذلک الخطاب وأمّا إذا لم یرد التقیید بالوقت فی ذلک الخطاب بل تعلّق الوجوب فی ذلک الخطاب بنفس الفعل بحیث کان مقتضی إطلاقه عدم الفرق بین الوقت المزبور وخارجه فی التکلیف به، فإن قام دلیل خارجی علی تقیید متعلّق ذلک الوجوب بوقت خاص، فإن کان لذلک الدلیل أیضاً إطلاق فی دخالة ذلک الوقت فی مطلوبیة الفعل بلا فرق بین حالة وحالة أخری فلا یمکن أیضاً إثبات وجوب الفعل خارج الوقت ولو علی

ص :288

.··· . ··· .

الشَرح:

المعذور فی ترک الفعل فی الوقت، بالخطاب المطلق.

وأمّا إذا لم یکن لدلیل التقیید بالوقت اطلاق بأن کان مدلوله دخالة الوقت فی طلب الفعل فی الجملة کما إذا ورد خطاب بوجوب صلاة الآیات بکسوف الشمس أو خسوف القمر وفرض تحقق الإجماع علی وجوبها قبل الإنجلاء، فلا مانع من التمسک باطلاق الخطاب الأوّل والحکم بوجوبها علی من فاتته قبل الإنجلاء لعذر حیث إنّ المتیقن من مورد الإجماع علی التقیید بالوقت صورة عدم العذر فیکون تکلیف المعذور الإتیان بالفعل خارج الوقت، بخلاف غیر المعذور فانّه مکلّف بالفعل قبل الإنجلاء، ویجری هذا النحو من التفصیل فی غیر الوقت من سائر قیود الواجب أیضاً.

أقول: ظاهر کلام الماتن قدس سره ثبوت تکلیفین بالإضافة إلی مکلف واحد وأنّ الفعل مطلوب منه ولو خارج الوقت والإتیان به فی الوقت مطلوب آخر، ولو ترک موافقة التکلیف الثانی یبقی علیه التکلیف الأوّل، ویترتب علی ذلک تفرع القضاء علی الأداء وقد صرّح فی کلامه بتعدّد المطلوب، وما فسّر به کلامه یرجع إلی تعدّد التکلیف المجعول واختلافه بحسب اختلاف المکلّفین.

ویشهد لما ذکرنا قوله قدس سره : «أنّه لو لم یتم الإطلاق المثبت لوجوب الفعل خارج الوقت یکون المرجع البرائة لا استصحاب وجوب الفعل فإنّه من الإستصحاب فی الکلی القسم الثالث».

ووجهه الشهادة أنّ هذا هو استصحاب الکلّی من القسم الثالث، بالإضافة إلی مکلف واحد، وأمّا بالإضافة إلی المعذور فی الوقت فلا حالة سابقة للتکلیف ولو بنحو القسم الثالث من الکلی حتّی یستصحب کما لا یخفی.

ص :289

ص :290

فصل

الأمر بالأمر بشیء، أمر به لو کان الغرض حصوله، ولم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلاّ تبلیغ أمره به[1]، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر أو النهی. وأما لو کان الغرض من ذلک یحصل بأمره بذاک الشیء، من دون تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقاً، بل بعد تعلق أمره به، فلا یکون أمراً بذاک الشیء، کما لا یخفی.

وقد انقدح بذلک أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر، علی کونه أمراً به، ولا بد فی الدلالة علیه من قرینة علیه.

الشَرح:

الأمر بالأمر

اشارة

[1] وحاصله إذا أمر المولی غیره أن یأمر الآخر بفعل فهل یعتبر نفس أمر المولی غیره بأمر الآخر، أمراً من المولی الغیر بذلک الفعل، کأمره من دون توسیط حتی یلزم علی الآخر الإتیان بذلک الفعل أم لا ؟ ذهب قدس سره إلی أنّه یختلف الحال بحسب غرض المولی فیکون أمر المولی بأمر غیره، أمراً علی الآخر بذلک الفعل إذا کان غرضه من أمره بالأمر مجرّد توسّطه فی التبلیغ کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر أو النهی.

وبتعبیر آخر فی مثل هذا المقام لا فرق بین أن یقول اللّه لنبیّه الأکرم إنّ اللّه أمر المؤمنین بغضّ أبصارهم وبین قوله «قل للمؤمنین یغضّوا من أبصارهم».(1)

ص :291


1- (1) سورة النور: الآیة 30.

.··· . ··· .

الشَرح:

وامّا إذا کان غرضه مجرّد أمر الغیر الآخر بالفعل من غیر أن یکون له غرض فی نفس الفعل، أو کان له غرض فی الفعل ولکن لا مطلقاً بل بعد أمر الغیر الآخر بذلک الفعل فلا یحسب أمره الغیر بالأمر، أمراً للآخر بنفس الفعل، ثمّ قال قدس سره بما أنّ الأمر بالأمر یمکن أن یقع علی أحد وجوه ثلاثة فلابدّ من الدلالة علی أحدها بعینه من قرینة علیه.

أقول: الظاهر فیما کان غرضه فی الفعل ولکن لا مطلقاً، بل بعد أمر الغیر به، یکون أمره بأمر الغیر، أمراً بذلک الفعل بعد توسیط أمر الغیر، ولذا یصحّ للمولی مؤاخذة الآخر بترکه الفعل بعد توسط أمر الغیر، وبتعبیر آخر یکون أمر الغیر بالفعل موضوعاً لوجوب الفعل علی الآخر من قبل المولی ولا یبعد أن یکون من هذا القبیل قوله «یا أیُّها النّبِیُّ حَرِّضْ المُؤْمِنِیْنَ عَلی القِتالِ»(1).

نعم هذا فیما کان للمولی الآمر علی الغیر ولایة علی ذلک الآخر وإلاّ فلا یحسب أمره الغیر بأمر الآخر، أمراً علی الآخر حتی بعد توسیط الأمر من الغیر بل یکون من ا لوجه الثانی الذی لا غرض للآمر من أمر الغیر إلاّ صدور الأمر عنه هذا کلّه بحسب مقام الثبوت.

ولا یبعد أن یقال فیما إذا کان للآمر ولایة الأمر علی الآخر أن یکون أمره بالأمر ظاهراً فی التبلیغ إن لم تقم قرینة خاصة أو عامة فی مورد علی دخل وساطة أمر المأمور بالأمر، کما فی الأمر بالقتال والخروج إلی الجهاد حیث إنّ حفظ النظام فیه والسعی فی الوصول إلی النتیجة یقتضی أن یتصدی الجهاد من أوکل إلیه الأمر

ص :292


1- (1) سورة الأنفال: الآیة 65.

.··· . ··· .

الشَرح:

ویصدر الأمر بالشروع فی القتال أو الخروج إلیه.

ویشهد لما ذکرنا من أنّ الأمر بالأمر ظاهره الواسطة فی التبلیغ ما إذا أمر المولی أحد عبیده أن یأمر عبده الآخر بالفعل الفلانی واطّلع علیه العبد الآخر من غیرتوسیط أمر المأمور وترک الفعل، فإنّه مع اعترافه بالإطلاع یؤاخذه المولی بترکه.

ویترتّب علی ما ذکرنا القول بمشروعیّة عبادات الصبی أخذاً بما ورد من أمر أولیاء الصبیان بأمرهم بالصلاة والصوم.

وقد یقال بمشروعیة عبادات الصبی بوجه آخر وهو أنّ خطابات الأحکام والتکالیف تعمّ البالغین والممیزین من الصبیان وأنّ ما ورد فی رفع القلم عن الصبی ناظر إلی رفع قلم الجزاء والمؤاخذة علی عدم رعایة تلک التکالیف والأحکام سواء کانت المؤاخذة من قبیل العقاب الأخروی أو من قبیل الحدود والتعزیرات من المؤاخذات الدنیویّة إذن فحدیث رفع القلم یرفع الإلزام فقط دون أصل المحبوبیة.

ولکن لا یمکن المساعدة علی هذا الوجه لأنّ مفاد رفع القلم عن الصبی یتّحد مع مفاد رفع القلم عن النائم والمجنون والمرفوع فی الکل التکلیف وقلم التشریع لا الالزام فقط. وبالجملة مشروعیّة عبادات الصبی مستفادة ممّا ورد فی تکلیف الأولیاء بأمرهم الصبیان بالصلاة والصیام.

ص :293

ص :294

فصل

إذا ورد أمر بشی ءٍ بعد الأمر به وقبل امتثاله فهل یوجب تکرار ذاک الشیء أو تأکید الأمر الأوّل] 1] والبعث الحاصل به؟ قضیة إطلاق المادة هو التأکید، فإن الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلق بطبیعة واحدة مرتین، من دون أن یجیء تقیید لها فی البین، ولو کان بمثل (مرّة أخری) کی یکون متعلق کلٍّ منهما غیر متعلق الآخر، کما لا یخفی، والمنساق من إطلاق الهیئة، وإن کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده، إلاّ أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها، فیما کانت مسبوقة بمثلها، ولم یذکر هناک سبب، أو ذکر سبب واحد.

الشَرح:

الأمر عقیب الأمر

[1] إذا ورد الأمر بفعل بعد سقوط الأمر الأوّل به فلا ینبغی التأمّل فی کون الأمر الثانی تأسیساً، وانّما الکلام فیما إذا ورد الأمر به قبل امتثال الأمر الأوّل المتعلق به کما إذا استمع إلی آیة السجدة وقبل أن یسجد استمع إلیها ثانیاً فهل ظاهر الأمر الثانی فی التأسیس الموجب لتعدد الواجب فیرفع الید عن إطلاق المادة وتقییدها فی الأمر الثانی بمثل وجود آخر من تلک المادة، أو أنّ إطلاق المادة وکونها بعینها ممّا ورد الأمر بها أوّلاً یقتضی رفع الید عن ظهور الأمر الثانی فی التأسیس وحمله علی التأکید لأنّ صرف وجود الطبیعی لا یمکن أن یتعلق به وجوبان تأسیسیّان.

ذهب الماتن قدس سره إلی حمل الأمر الثانی علی التأکید فی فرضین:

الأوّل: ما إذا لم یذکر فی خطاب الأمر بالفعل سبب کما إذا أمر الوالد ولده بقراءة القرآن وقبل أن یقرء الولد أمره ثانیاً بقراءته.

ص :295

.··· . ··· .

الشَرح:

الثانی: ما إذا ذکر لکل من الأمرین سبب واحد.

وأمّا إذا ذکر لکل من الأمرین سبب مغایر للسبب فی الأمر الآخر فظاهر الأمر الثانی کونه تأسیساً کما إذا ورد فی خطاب «إذا لبس المحرم فی إحرامه قمیصاً فعلیه شاة» وورد فی خطاب آخر «إذا ظلّل المحرم فی إحرامه فعلیه شاة»، فإنّه إذا لبس فی إحرامه قمیصاً وظلّل فیه یکون علیه شاتان یذبحهما بمکّة إذا کان فی إحرام عمرته وبمنی إذا کان فی إحرام حجّه.

أقول: الظاهر تعدّد أمر المولی بتعدد وجود الشرط فیما کان قابلاً للإنحلال، حیث إنّ ظاهر القضیة کون کل وجود من الشرط موضوعاً مستقلاً للأمر بالطبیعة فیرفع الید بذلک عن إطلاق المادة.

نعم إذا لم یکن الشرط قابلاً للإنحلال فلا یتعدّد الأمر کما إذا ورد «من أفطر فی نهار شهر رمضان فعلیه عتق رقبة أو إطعام ستین مسکیناً أو صیام ستین یوماً» فإنّه إذاتکرّر الأکل منه فی یوم واحد أو تناول مفطراً آخر بعد الأکل فلا تتکرّر الکفارة لأنّ عنوان الإفطار یعنی نقض الصوم بتناول المفطر، غیر قابل للتکرار بالإضافة إلی صوم یوم واحد وهذا بخلاف ما إذا جامع مرتین أو مرات فی نهار شهر رمضان من یوم واحد فإنّه یتکرّر وجوب الکفارة بتکرّر الجماع حیث إنّ الموضوع لوجوب الکفارة فیه لیس عنوان الإفطار بل الموضوع نفس عنوان الجماع کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «علیه من الکفارة مثل ما علی الذی یجامع»(1) الدال علی أنّ من جامع فی نهار شهر رمضان فعلیه کفارة افطار الصوم، ویلزم علی ما ذکر الماتن قدس سره عدم الفرق بین تکرار

ص :296


1- (1) الوسائل: ج 7، باب 4 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1.

.··· . ··· .

الشَرح:

الأکل وتکرار الجماع، وعلی الجملة التداخل فیما کان الشرط قابلاً للإنحلال خلاف ظهور الخطاب فی أنّ کل وجود من الشرط موضوع مستقل للأمر بالطبیعی القابل للتکرار.

وإذا قام دلیل خاص علی عدم تکرار التکلیف بتکرار الشرط یؤخذ به ویلتزم فیه بالتداخل کما إذا ظلّل المحرم فی إحرام عمرته أو فی إحرام حجّه عدّة مرّات فإنّه قام الدلیل بعدم تکرار الکفارة بذلک، بخلاف ما إذا ظلّل فی إحرام عمرته وفی إحرام حجّه فانّ علیه کفارتین کما دلّ علیه الروایات(1) وهکذا الحال فی تکرار سائر محظورات الإحرام ویأتی تمام الکلام فی المقام فی مسألة ما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فی باب المفاهیم إنشاء اللّه تعالی.

ص :297


1- (1) الوسائل: ج 9، باب 7 من أبواب بقیة کفارات الإحرام.

ص :298

المقصد الثانی (النواهی)

ص :299

ص :300

المقصد الثانی: فی النواهی

اشارة

فصل

الظاهر أن النهی بمادته وصیغته فی الدلالة علی الطلب، مثل الأمر[1] بمادته وصیغته، غیر أن متعلق الطلب فی أحدهما الوجود، وفی الآخر العدم، فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فیه بلا تفاوت أصلاً، نعم یختص النهی بخلاف، وهو: إن متعلق الطلب فیه، هل هو الکف، أو مجرد الترک وأن لا یفعل؟ والظاهر هو الثانی، وتوهم أن الترک ومجرد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار، فلا یصح أن یتعلق به البعث والطلب، فاسد، فإن الترک أیضاً یکون مقدوراً، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإرادة والاختیار، وکون العدم الأزلی لا بالاختیار، لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء والإستمرار الذی یکون بحسبه محلاً للتکلیف. ثم إنه لا دلالة الشَرح:

مادة النهی وصیغته

[1] مراده قدس سره کما یکون الطلب فی الأمر مستفاداً من مادّة (أ_ م _ ر) تارة ولذا یستفاد منه الطلب مع طروّ الهیئات المختلفة علی تلک المادّة، وأخری یستفاد من الهیئة نحو «إضرب» ولذا لا یستفاد الطلب بطروّ هیئة أخری علی مادة (ض _ ر _ ب)، کذلک یستفاد الطلب فی النهی من مادة (ن _ ه_ _ ی) ولا تنتفی الدلالة علیه بطروّ الهیئات المختلفة علیها وقد یستفاد من صیغة النهی نحو «لا تضرب» وتنتفی الدلالة علیه بطروّ هیئة أخری علی مادة (ض _ ر _ ب).

ولکن یختلف الأمر مع النهی فی متعلّق الطلب فإنّ متعلّقه فی الأمر الوجود

ص :301

.··· . ··· .

الشَرح:

بمعناه المصدری المعبّر عنه بالإیجاد والجعل البسیط، وفی النواهی الترک ومجرد أن لا یفعل.

وبتعبیر آخر الأمر والنهی یشترکان فی الطلب ویمتاز الأوّل عن الثانی فی متعلّق الطلب.

وقد یقال: إنّ الطلب فی النهی لا یتعلّق بالترک فانّ الترک أمر أزلی سابق علی المکلّف والتکلیف وقدرته، بل یتعلّق بالکف وهو امتناع النفس عن ارتکاب الشیء عند میله إلی الإرتکاب.

وهذا القول مخالف لقول المشهور بل غیر صحیح لأنّ المتبادر من النهی فی موارده طلب ترک الفعل، سواء کان للنفس میل إلی الإرتکاب أم لا، ولذا یعدّون التارک للمنهی عنه عاملاً بالنهی وآخذاً به سواء کان له میل إلی ارتکابه أم لا، والترک فی بقائه یدخل فی إختیار المکلف وقدرته، للزوم تساوی نسبة القدرة إلی الإیجاد والترک ولو لم یکن الترک فی بقائه مقدوراً لما کان الإیجاد إختیاریاً.

أقول: المستفاد من النهی سواء کان بمادته أو بصیغته هو المنع عن الفعل والزجر عنه، وعلیه فالنزاع فی أنّ مدلول النهی طلب ترک الفعل أو طلب الکفّ عنه ساقط من أصله، حیث لا یستفاد من النهی الطلب أصلاً وإذا فرض الصلاح فی ترک الفعل یکون الطلب المتعلّق بالترک إیجاباً لا نهیاً عن الفعل، فإنّ تحریم فعل ینشأ عن الفساد فی ذلک الفعل لا الصلاح فی الترک ولو فرض الصلاح فی الترک فهو علی ثلاثة أقسام.

الأول: أن یترتب الصلاح علی مجموع التروک کما فی الصوم حیث إنّ ترک .··· . ··· .

الشَرح:

المفطرات من طلوع الفجر إلی دخول اللیل یترتب علیه ملاک واحد یکون مجموع التروک داخلاً فی الواجب الإرتباطی.

الثانی: أن یترتب الصلاح علی کل منها علی نحو العموم الإستغراقی فیکون کل

ص :302

واحد واجباً مستقلاً.

الثالث: أن یترتب الصلاح علی أمر بسیط مسبّب من مجموع التروک بحیث یکون المطلوب هو ذلک البسیط ویکون مجموع التروک محصّلاً للواجب.

وتظهر الثمره فیما إذا شک بالشبهة الموضوعیة فی کون شیء من افراد الفعل فعلی إیجاب الترک بالنحو الثانی یکون ترک المشکوک مورداً لأصالة البراءة عن احتمال وجوبه بلا کلام لأنّ الشک فی التکلیف المستقل، وعلی اعتباره بالنحو الثالث یکون مجری قاعدة الإشتغال کما هو المشهور للشک فی حصول الواجب المعلوم وجوبه بدون ترک المشکوک، وفی الأوّل یکون الرجوع إلی البراءة أو الإشتغال مبنیاً علی مسألة الأقل والأکثر الإرتباطیین.

وقد یقال کما عن سیدنا الاستاذ قدس سره : إنّ فی مورد الأمر بفعل یعتبر الفعل علی عهدة المکلّف ویکون إبراز هذا الإعتبار أمراً ومصداقاً للبعث والطلب کما یعتبر فی مورد النهی عن الفعل حرمان المکلّف ومحرومیته عنه ویکون إبراز هذا الحرمان نهیاً ومصداقاً للزجر والمنع.

وبتعبیر آخر لا یکون معنی النهی طلب الترک أو الزجر عن الفعل بل معناه کون المکلف محروماً عنه بحسب الإعتبار(1).

وفیه: أنّه لا یری العرف قوله «لا تضرب أحداً ولا تشتمه» مرادفاً لقوله جعلتک لصیغته علی الدوام والتکرار، کما لا دلالة لصیغة الأمر[1] وإن کان قضیتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلقهما، بأن یکون طبیعة واحدة بذاتها وقیدها تعلق بها الأمر مرة والنهی أخری، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فرد واحد، وعدمها لا یکاد یکون إلاّ بعدم الجمیع، کما لا یخفی. ومن ذلک یظهر أن الدوام والاستمرار، الشَرح:

محروماً عن ضربه وشتمه ولا یری قوله «لا تزنِ» مرادفاً لقوله جعلتک محروماً عن الزنا، کما لا یکون قوله «جئنی بالماء» مرادفاً لقوله جعلت المجیء بالماء علی عهدتک إلاّ بنحو الکنایة.

والظاهر أنّ الأمر بمادته أو صیغته تحریک الآخر نحو الفعل ویعبّر عن ذلک

ص :303


1- (1) المحاضرات 4 / 86.

بالبعث والطلب کما أنّ النهی بمادته أو صیغته یدل علی الزجر عن الفعل والحرکة إلیه ویعبّر عن ذلک بالزجر والمنع، والشاهد لما ذکرنا أنّک لا تجد فی موارد إیجاب الفعل واستحبابه فرقاً فی المستعمل فیه وکذا فی موارد تحریم الفعل وکراهته فی ناحیة معنی صیغة الأمر أو صیغة النهی، فالأمر هو التحریک الذی لا ترخیص فی ترکه کما أنّ النهی هو المنع عن الإرتکاب من غیر ترخیص فیه وإلاّ یکون التحریک ترغیباً مولویاً والمنع تنزیهاً.

وممّا یترتّب علی کون معنی الأمر اعتبار الفعل علی العهدة والنهی اعتبار المحرومیّة هو أنّ القدرة علی المتعلّق فی التکالیف بناء علیهما تکون معتبرةً ودخیلةً فی تنجّزها بخلاف القول بکون الأمر هو البعث نحو الفعل والنهی هو الزجر عنه والمنع عن الإرتکاب حیث لا یتحقق البعث والزجر إلاّ فی حق القادر، ولکن فی المترتب علیهما تأمّل.

دلالة النهی علی الدوام والتکرار

[1] ذکر قدس سره أنّه کما لا دلالة لصیغة الأمر علی خصوصیّة التکرار أی الدوام بل إنما یکون فی النهی إذا کان متعلقه طبیعة مطلقة غیر مقیدة بزمان أو حال، فإنه حینئذ لا یکاد یکون مثل هذه الطبیعة معدومة، إلاّ بعدم جمیع أفرادها الدفعیة والتدریجیة.

وبالجملة قضیة النهی، لیس إلاّ ترک تلک الطبیعة التی تکون متعلقة له، کانت مقیدة أو مطلقة، وقضیة ترکها عقلاً، إنما هو ترک جمیع أفرادها. ثم إنه لا دلالة للنهی علی إرادة الترک لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابد فی تعیین ذلک من دلالة، ولو کان إطلاق المتعلق من هذه الجهة، ولا یکفی إطلاقها من سائر الجهات، فتدبر جیداً.

الشَرح:

کان مدلولها طلب وجود الطبیعی، کذلک لا دلالة لصیغة النهی علی تکرار الترک ودوامه بالدلالة اللفظیة بل مدلولها اللفظی طلب ترک طبیعی الفعل، نعم یفترق الأمر عن النهی فی أنّ مقتضی إطلاق المتعلّق فی الأوّل کفایة وجود فرد واحد من الطبیعی المتعلق به الأمر لحصول الطبیعی به، بخلاف إطلاق المتعلق فی النهی فانّ مقتضاه عقلاً ترک جمیع أفراد الفعل بلا فرق بین أفراده الطولیة والعرضیّة لیتحقّق ترکه وبقائه علی عدمه وهذا فیما کان متعلّق النهی مطلقاً أی غیر مقیّد بزمان أو حال وإلاّ کان

ص :304

مقتضی المدلول ترک أفراد المتعلق فی ذلک الزمان أو الحال.

وبالجملة فإن لم یکن الطبیعی مقیداً بزمان أو حال فمقتضی النهی عنه ترک تمام افراده، وإن کان مقیداً بأحدهما کان مقتضاه ترک أفراده فی ذلک الزمان أو الحال بخلاف الإطلاق فی متعلّق الأمر فإنّ مقتضاه عقلاً الإکتفاء بحصول فرد ما لحصول الطبیعی معه.

ص :305

.··· . ··· .

الشَرح:

أقول: إن أراد بترک الطبیعی فی قوله: «لا یکون مثل هذه الطبیعة معدومة إلاّ بعدم جمیع أفرادها الدفعیة والتدریجیة»(1) صرف ترکها المقابل لصرف وجودها فلا ینبغی التأمّل فی أنّ صرف ترکها أیضاً یحصل بترک فرد منها، وانّما یجب ترک جمیع الافراد، فیما کان المطلوب ترکها المطلق أی ترکها الإستیعابی مقابل وجودها الإستیعابی لا صرف ترکها.

وبتعبیر آخر تختلف الأوامر عن النواهی بأنّ المطلوب فی الأوامر مع عدم القرینة علی الخلاف صرف وجود الطبیعی بخلاف النواهی فإنّ المطلوب فیها مع عدم القرینة علی الخلاف هو الترک المطلق وهذا الفرق لا یکون بمقتضی العقل بل هو مقتضی القرینة العامّة فی البین وهی أنّ صرف الترک بالمعنی المزبور حاصل فی موارد النواهی لا محالة لعدم تمکن المکلف نوعاً من الإتیان بجمیع أفراد طبیعی الفعل فلا معنی لطلبه، أضف إلی ذلک أنّ المفسدة الناشئة منها النهی تحصل نوعاً فی کل وجود من تلک الطبیعة فیکون المطلوب ترک کل منها وینحلّ النهی بالإضافة إلی انحلال متعلّقه کما ینحلّ بالإضافة إلی موضوعه وهذا بخلاف الأوامر فإنّ المصلحة الملحوظة فیها تحصل بصرف الوجود ولا یکون فی الوجودات الأخری ملاک ملزم بعد الوجود الأوّل، مع أنّ المکلف لا یتمکن نوعاً من الإتیان بجمیع افراد الطبیعی من أفراده العرضیة والطولیّة فیکون المطلوب صرف وجوده مع عدم المعیّن لمطلوبیّة غیره ولذا یکون مقتضی إطلاق المتعلق فی الأوامر العموم البدلی ومقتضاه فی النواهی العموم الإستیعابی فالفارق بین الأمر والنهی هو ما ذکرناه من أنّه مقتضی القرینة العامة لا مقتضی حکم العقل مع اتّحاد المطلوب فی کل منهما کما .··· . ··· .

الشَرح: هو ظاهر عبارة الماتن قدس سره هذا کلّه بناءً علی أنّ النهی هو طلب الترک.

وأمّا بناءً علی أنّه المنع والزجر عن الفعل فیختلف الحال إذ یکون علی قسمین:

ص :306


1- (1) الکفایة: 149.

الأول: أن تکون المفسدة فی مورد النهی فی أوّل وجود من الطبیعی أی فی إخراجه إلی الوجود سواء کان مطلقاً أو فی زمان أو فی حال وفی مثل ذلک لو خالف المکلف النهی المزبور ولو بإیجاد فرد منه سقط النهی رأساً، لکون بقائه بلا ملاک لعدم الإنحلال فی الملاک حسب الفرض وربما یمثل لذلک بما إذا نذر المکلّف عدم شرب التتن فإنّه لو شربه بعد النذر المزبور ولو مرّة عصی ولا مانع بعد ذلک من جواز شربه، ولکن فی المثال مناقشة حیث إنّ الناذر فی قوله «للّه علیّ أن لا أشرب التتن» یأخذ علی عاتقه ترک شربه بحیث لا یحصل منه صرف الوجود وإذا فرض صحة هذا النذر کما هو الصحیح لرجحان ترک شربه لاحتمال الحرمة فی شربه یکون الترک المزبور واجباً شرعیاً، وعدم جواز شربه عقلیاً من باب حکمه بعدم جواز ترک الواجب، لا أنّه من قبیل ارتکاب المحرم الشرعی، لکون الحرمة غیریة.

الثانی: أن تکون المفسدة فی کل من وجودات الطبیعی فیکون النهی عنه انحلالیاً وذکرنا أنّ الغالب فی موارد النواهی تحقّق الفساد فی کل فرد من أفراده بحیث یکون کل منها مورد الزجر والمنع وإذا خالف المکلف التکلیف فی فرد سقط التکلیف بالإضافة إلیه لا عن سائر الوجودات وهذه الغلبة فی النواهی الواقعة فی العرفیات والشرعیات موجبة لظهور النهی عن فعل _ مطلقاً أو فی زمان أو حال _ فی الإنحلال بحیث یحتاج تفهیم أنّ النهی من القسم الأوّل إلی التعرض والبیان ولو بقوله (وإن عصیت فلا بأس بالفعل بعدها).

.··· . ··· .

الشَرح: وبالجملة إذا ورد نهی فی خطاب عن طبیعی الفعل ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ الزجر عن صرف وجوده کان مقتضی عدمها بضمیمة کون المتکلم فی مقام البیان _ علی ما هو الأصل فی کل خطاب _ موجباً لظهوره فی الإنحلال فعدم نصب القرینة علی الخلاف کاف فی إثبات الإنحلال المقتضی لعدم سقوط التکلیف عن سائر الأفراد بسقوطه عن فرد للعصیان أو الإضطرار إلیه أو الإکراه علیه کما لا یخفی.

الانحلال فی الوضعیات وتخفیف المانع

ثمّ إنّه لا یختصّ الإنحلال _ کما هو مقتضی إطلاق المتعلق فی خطاب النهی _ بما إذا کان النهی تکلیفیاً بل یجری فی النهی الوضعی أیضاً کما فی النهی عن شیءٍ

ص :307

عند الإتیان بعبادة أو معاملة الظاهر فی مانعیته عنهما ویترتب علی انحلاله لزوم تقلیل المانع مع التمکّن من التقلیل والرجوع إلی البرائة فی المشکوک من أفراد المانع ولو بالشبهة الموضوعیة من غیر إشکال وتأمّل.

وبیان ذلک: أنّه یقع الکلام فی موارد النهی عن شیء عند الإتیان بعبادة أو معاملة الظاهر فی الارشاد إلی مانعیته عنهما، فی أنّ المانعیّة تعتبر لصرف وجود ذلک الشیء أو لجمیع وجوداته علی نحو الانحلال.

إذا ثبتت المانعیة لصرف وجوده، فیترتب علیه أنّه لو اضطرّ المکلّف إلی الصلاة فی بعض وجودات ذلک المانع أو مع بعضها فترتفع المانعیة عن ذلک الشیء لعدم سقوط التکلیف بالصلاة وعدم تمکنه علی رفع صرف وجود ذلک المانع فلا یجب علیه تقلیل وجوداته، وکذا إذا شک فی شیء من وجودات ذلک الشیء المانع بصرف وجوده لا تجری أصالة البرائة عن مانعیة المشکوک بل اللازم الصلاة .··· . ··· .

الشَرح:

فی غیر المشکوک لیحرز تحقّق الصلاة مع عدم صرف وجود ذلک الشیء کما هو مقتضی قاعدة الإشتغال فإنّ مانعیة صرف وجوده للصلاة معناها تقید الصلاة بکل تروک ذلک الشیء ومع الصلاة فی المشکوک لا یحرز حصول القید لها.

وإذا کانت المانعیّة انحلالیّة ثابتة لکل وجود من وجودات ذلک الشیء فیترتب علی هذا الإنحلال وجوب التقلیل فی المثال الأوّل حیث إنّ سقوط المانعیة عن فرد من ذلک الشیء بالإضطرار إلیه أو الإکراه علیه لا یوجب سقوط المانعیة عن سائر وجوداته، وعلی الإنحلال لیست المانعیة المعتبرة مانعیة واحدة لصرف وجوده، بل کل واحد من وجوداته مانع مستقل اعتبر ترکه فی متعلّق التکلیف بالصلاة قیداً لها وإذا سقطت المانعیة عن بعض وجوداته للإضطرار ونحوه، فلا موجب لسقوطها عن الوجودات الآخر.

کما یترتّب علی الإنحلال الرجوع إلی البرائة عن اعتبار المانعیّة للمشکوک فی کونه من أفراد ذلک الشیء علی المختار فی باب الشک فی الأقل والأکثر الإرتباطیین وحیث إنّ ظاهر النهی الإرشادی إلی المانعیة _ بحسب المتفاهم العرفی _ لا یختلف عن ظاهر النهی التکلیفی فی هذه الجهة تظهر الثمرة فی موارد الإضطرار إلی بعض

ص :308

افراد المانع فی موارد الصلاة فی اللباس المشکوک.

ولکن الرجوع إلی البرائة فی المشکوک إنّما هو فیما لم یکن فی البین أصل حاکم یثبت دخول المشکوک فی ذلک الشیء المانع أو یثبت خروجه عنه، وإلاّ یؤخذ بالأصل الحاکم ولا تصل النوبة إلی أصالة البرائة عن المانعیة کما إذا أراد المکلف أن یلبس فی صلاته ثوباً أو یستصحب معه شیئاً یعلم أنّه من أجزاء الحیوان المأکول لحمه ولکن شک فی أنّه مذکّی، فإنّه باستصحاب عدم ذکاته یحرز بأنّه غیر .··· . ··· .

الشَرح: مذکّی فلا تجوز الصلاة فیه لأنّ عدم ذکاة الجلد أو نحوه المأخوذ من الحیوان المأکول لحمه مانع عن الصلاة، کما أنّه إذا أحرز أنّ الثوب أو نحوه من المذکی ولکن شک فی أنّ المذکّی المزبور ممّا یؤکل لحمه کالغنم، أو ممّا لا یؤکل کالأرنب والذئب فإنّ الإستصحاب فی عدم کونه من الذئب أو الأرنب مقتضاه جواز الصلاة فیه لعدم کونه من افراد المانع ولا یحتاج جوازها إلی إحراز کونه من الغنم لعدم اشتراط الصلاة بوقوعها فی أجزاء الحیوان المأکول لحمه وهذا مبنی علی کون المراد ممّا لا یؤکل لحمه فی مثل قوله علیه السلام (1): «لا تصل فی جلد ما لا یشرب لبنه ولا یؤکل لحمه» الإشارة إلی عناوین الحیوانات، وإلاّ فبناءاً علی موضوعیة عنوان «ما لا یؤکل» فیمکن إحراز کون الحیوان ممّا یؤکل لحمه بجریان أصالة الحلیّة فیه مع فرض ذکاته کما هو المفروض.

وما ذکرناه واضح بناءاً علی اعتبار الاستصحاب فی الأعدام الأزلیّة وأمّا بناءاً علی عدم جریانه فیها فیمکن الإستصحاب النعتی وذلک فإنّ مفاد قوله علیه السلام (2): «وان کان غیر ذلک ممّا . . . حرم علیک أکله فالصلاة فی کل شیءٍ منه فاسد» هو مانعیة شیء ینطبق علیه أنّه من أجزاء مثل الذئب وتوابعه، فیقال هذا الموجود الذی یرید المکلف أن یصلّی فیه أو معه لم یکن فی زمان من أجزاء الذئب وتوابعه قبل صیرورته جزءاً من بدن الحیوان، ویحتمل أن یکون فعلاً کذلک أی لیس من أجزاء الذئب.

وما اشتهر فی الألسن من اعتبار بقاء الموضوع فی جریان الإستصحاب علی ما

ص :309


1- (1) الوسائل: ج 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلی، الحدیث: 1 و6.
2- (2) من أبواب لباس المصلی، الحدیث 1 و6.

.··· . ··· .

الشَرح: بین فی تنبیهات الإستصحاب فمعناه اتّحاد القضیة المتیقنة والمشکوکة وهذا الإتّحاد محرز فی الفرض کما هو الحال فی موارد الشک فی الإستحالة بالشبهة الموضوعیة.

نعم بقاء العنوان المقوّم بنظر العرف معتبر فی الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة لأنّ الحکم الذی یجری الإستصحاب فیه کان ثابتاً لذلک العنوان، ولا یجری فی مثل مورد الکلام ممّا یشک فی بقاء ذات المعنون أو تبدّله بشیء آخر ینتفی معه عنوانه السابق کما لا یخفی.

وقد یتعدّی من تقلیل المانع الذی التزمنا به إلی تخفیف النجاسة من الثوب أو البدن کما إذا لم یکن عند المکلف ماء لغسل ثوبه المتنجس بالبول إلاّ مرّة فقد ذکر فی العروة أنّه یتعیّن علیه غسله مرّة واحدة، ولکن هذا یتمّ فیما إذا کان للمتجنس عنوانان کما إذا کان البول الذی أصاب ثوبه أو بدنه من حیوان لا یؤکل لحمه فیجب غسله مرّة لازالة العین لتمکن المکلف من إزالة عین البول المانع عن الصلاة لا بعنوان النجاسة بل بما هو من توابع حیوان لا یؤکل لحمه ولذا حتّی لو کان تابعه طاهراً لا تجوز الصلاة فیه أو معه.

بقی فی المقام أمر وهو أنّه إذا فرض عدم الإنحلال فی النواهی الإرشادیة کالنهی عن الصلاة فیما لا یؤکل لحمه وانّ الصلاة تکون مقیّدة بمجموع التروک المفروضة للبس أو حمل ما لا یؤکل لحمه أو مقیدة بما ینتزع من کلّ تلک التروک، فقد تقدم أنّه لا مجال علی هذا الفرض للقول بوجوب التقلیل ولا للرجوع إلی البرائة فی المشکوک بالشبهة الخارجیّة، فهل یمکن تصحیح الصلاة فی المشکوک کذلک بالإستصحاب بأن یقال: «فی زمن من الأزمنة لم یکن لبس وحمل ما لا یؤکل لحمه .··· . ··· .

الشَرح: علی نحو مفاد لیس التامّة وهو قبل لبس المشکوک أو حمله، ومقتضی الإستصحاب بقاء ذلک العدم علی حاله بعد لبسه وحمله.

وقد یقال إنّ التصحیح بالإستصحاب مبنی علی اعتبار الإستصحاب فی

ص :310

الاعدام الأزلیة کما إذا کان الترک المفروض وصفاً للصلاة أو أن یکون العدم المفروض المعتبر فی الصلاة وصفاً للمصلّی لا للصلاة حیث إنّه لو کان وصفاً للمصلّی لصحّ أن یقال إنّ المصلّی لم یکن قبل لبس المشکوک أو استصحابه مستصحباً من تلک الأجزاء والرطوبات ولا لابساً لما لا یؤکل لحمه والاستصحاب یقتضی بقاء ذلک الوصف فی المصلّی حال صلاته.

وکان أخذه وصفاً للمصلّی خلاف ظاهر خطاب النهی حیث إنّ الخطابات ظاهرة فی اعتباره وصفاً لنفس الصلاة وقیداً لها والإستصحاب لا یعتبر فی العدم الأزلی ولا یثبت العدم النعتی حتی بناءاً علی اعتباره فی الاعدام الأزلیة فانّ العدم النعتی مفاد القضیة المعدولة.

فإنّه یقال: إنّ الصحیح جواز الصلاة فی المشکوک حتی بناءً علی عدم الإنحلال فی النواهی وعدم کونها إرشاداً إلی وصف المصلّی لاعتبار الإستصحاب فی العدم الأزلی، بل حتی بناءً علی عدم اعتباره فیه أیضاً لأنّ التقیّد المستفاد من النهی الوضعی لیس إلاّ إجتماع تلک التروک فی الزمان مع الصلاة بأن تکون الصلاة فی زمان تکون تلک التروک محققة موجودة فی ذلک الزمان، کما هو الحال فی تقیّد کل عرض بعرض آخر وجوداً أو عدماً فرکعات الصلاة موجودة بالوجدان وتلک التروک محرزة بالأصل فیتم إحراز متعلّق التکلیف بتمامه کما اوضحنا ذلک فی بحث الإستصحاب فی وجه جریانه فی نفس الزمان وغیره ممّا یکون من قیود متعلّق التکلیف.

.··· . ··· .

الشَرح:

وعلی تقدیر الإغماض عن ذلک کلّه فیمکن أن یرجع إلی البراءة عن جزئیة المشکوک من مجموع التروک المجعول قیداً للصلاة فانّ جزئیة المشکوک للتروک المطلوبة فی الصلاة غیر معلوم فیرفع بحدیث الرفع، نعم إذا کان القید للصلاة الأمر المسبّب من مجموع التروک فلا مجال معه البراءة فی المشکوک وهذا إجمال ما یمکن أن یقال فی بحث اللباس المشکوک فلاحظ.

ص :311

ص :312

فصل

اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد[1]، وامتناعه، علی أقوال: ثالثها: جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً، وقبل الخوض فی المقصود یقدم أمور:

الشَرح:

اجتماع الأمر والنهی

[1] ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی أنّ الأولی أن یعنون الخلاف بوجه آخر وهو: أنّ تعلّق الأمر بعنوان وتعلّق النهی بعنوان آخر بحیث یکون لهما مورد الإجتماع، هل یوجب سرایة أحدهما إلی متعلّق الآخر خارجاً لیتعیّن رفع الید عن أحدهما فی مورد الإجتماع، أو أنّ اتّحاد العنوانین وانضمامها کما ذکر لا یوجب سرایة أحدهما إلی متعلّق الآخر وأنّه لا موجب لرفع الید عن أحدهما فی مورد إجتماعهما. وجه الأولویّة هو أنّ ظاهر هذا النحو من العنوان کون تضادّ الوجوب والحرمة مسلّماً عند الکلّ سواء بین القائل بجواز الإجتماع والقائل بعدم الجواز، إلاّ أنّ القائل بالجواز یری أنّ متعلّق الأمر غیر متعلّق النهی، والقائل بعدم الجواز یری سرایة أحدهما إلی متعلّق الآخر، فلا تعدّد فی الحقیقة فی ناحیة متعلّقهما بخلاف عنوان الخلاف بأنّه یجوز اجتماع الأمر والنهی فی واحد فإنّه یوهم أنّ القائل بالجواز لا یعترف بتضادّ الوجوب والحرمة فلا بأس عنده باجتماعهما فی واحد خارجاً(1).

أقول: لا فرق فی عنوان الخلاف بین ما ذکره قدس سره والمذکور فی کلام القوم فی أنّ ظاهرهما اعتراف القائل بالجواز کالقائل بالإمتناع بتضادّ الوجوب والحرمة فانّ تقیید مورد الخلاف فی کلامهم بکون الواحد ذاجهتین فیه دلالة علی تسالم الطرفین بتضاد الأول: المراد بالواحد[1] مطلق ما کان ذا وجهین، ومندرجاً تحت عنوانین، بأحدهما کان مورداً للأمر، وبالآخر للنهی، وإن کان کلیاً مقولاً علی کثیرین، کالصلاة فی المغصوب، وإنما ذکر لإخراج ما إذا تعدد متعلق الأمر والنهی ولم یجتمعا وجوداً، ولو جمعهما واحد مفهوماً، کالسجود للّه تعالی، والسجود للصنم مثلاً، لا لإخراج الواحد الجنسی أو النوعی کالحرکة والسکون الکلیین المعنونین

ص :313


1- (1) أجود التقریرات 1 / 133.

بالصلاتیّة والغصبیّة.

الشَرح:

الوجوب والحرمة وإشارة إلی أنّ القائل بالجواز یری أنّ متعلق أحدهما غیر متعلق الآخر وإلاّ لکان القائل بالجواز یلتزم بالجواز فی إجتماعهما فی واحد مع تعدد الجهة.

وبالجملة اختصاص القول بالجواز بما إذا کان للواحد عنوانان فیه إشارة إلی تعدّد المتعلقین وإنّ هذا القائل لا یری سرایة أحدهما إلی متعلّق الآخر نعم من لم یأخذ فی عنوان الخلاف کون الواحد ذاجهتین کالماتن قدس سره فللوهم فی عبارته مجال.

المراد بالواحد فی محلّ النزاع

[1] المراد بالواحد ما یندرج تحت عنوانین یتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهی فیکون البحث فی المقام فی إمکان إجتماع الأمر والنهی فی ذلک الواحد وامتناعه، بلا فرق بین کون الواحد شخصیاً أو کلیّاً کالواحد النوعی مثل الحرکة الخاصة فی ملک الغیر بلا رضا مالکه فإنّها کلّی یندرج فی عنوانی الغصب والصلاة، وفی تمثیل الماتن قدس سره للکلّی المندرج فی عنوانین بالصلاة فی المغصوب مسامحة فإنّ عنوان الغصب ینطبق علی بعض الحرکات الصلاتیّة لا علی تمام الصلاة.

تعرض قدس سره لبیان المراد من الواحد دفعاً لما ذکر فی القوانین والفصول من أنّ .··· . ··· .

الشَرح:

المراد به هو الواحد الشخصی لیخرج الواحد النوعی أو الجنسی.

ووجه الدفع أنّه لا موجب للإحتراز عنهما ولو فرض واحد نوعی یندرج تحت عنوانین تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهی یجری الکلام فی إمکان الأخذ بإطلاق کل من خطابی الأمر والنهی فی ذلک الواحد کما مرّ فی مثال الحرکة الخاصة المنطبق علیها عنوان الصلاة وعنوان الغصب فیکون ذکر الواحد للإحتراز عمّا إذا کان کل من العنوانین مندرجاً تحت عنوان من غیر أن یکون ذلک العنوان محکوماً بحکم کالسجود للّه والسجود للشمس والصنم حیث یندرجان تحت عنوان السجود ولیس عنوان السجود الجامع محکوماً بحکم.

وبتعبیر آخر لا حاجة فی إخراج مثل الأمر بالسجود للّه والنهی عن السجود

ص :314

لغیره عن عنوان الخلاف إلی إرادة الواحد الشخصی بدعوی أنّه لیس فی موردهما واحد شخصی بل واحد جنسی وهو عنوان السجود، والوجه فی عدم الحاجة هو أنّ المراد بالواحد فی عنوان الخلاف ما یندرج تحت عنوانین یکون أحدهما متعلق الأمر والآخر متعلق النهی، ففی مثل السجود للّه والسجود للشمس العنوانان مندرجان تحت واحد لا أنّ الواحد مندرج تحتهما کما هو ظاهر.

أقول: کان المناسب التعرض فی هذا الأمر للمراد من الواحد وأنّه ما کان مجمعاً للعنوانین بنحو الترکیب الإتحادی بینهما أو ما یکون مجمعاً لهما بنحو الترکیب الإنضمامی أو أنّ المراد یعمّ کلا الترکیبین سواء کان اتحادیاً أو انضمامیاً حیث إنّ هذا الأمر دخیل فی جواز الإجتماع وعدمه کما یظهر إنشاء اللّه تعالی.

ص :315

الثانی: الفرق بین هذه المسألة ومسألة النهی فی العبادات[1]، هو أن الجهة المبحوث عنها فیها التی بها تمتاز المسائل، هی أن تعدد الوجه والعنوان فی الواحد یوجب تعدد متعلق الأمر والنهی، بحیث یرتفع به غائلة استحالة الإجتماع فی الواحد بوجه واحد، أو لا یوجبه، بل یکون حاله حاله، فالنزاع فی سرایة کل من الأمر والنهی إلی متعلق الآخر، لاتحاد متعلقیهما وجوداً، وعدم سرایته لتعددهما وجهاً، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الأخری، فإن البحث فیها فی أن النهی فی العبادة أو المعاملة یوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجه إلیها.

الشَرح:

الفرق بین مسألة الاجتماع ومسألة النهی فی العبادات

[1] حاصله أن تمایز مسائل علم عن آخر بأن تکون مسألة منها فی مقابل سائر مسائله انّما هو بالغرض المترتب علیها وأنّه غیر الغرض المترتّب علی مسألة أخری منها فیکون تعدّد المسائل بتعدّد الأغراض المعبّر عنها بالجهات الخاصّة، وعلیه لو کان فی البین جهتان یکون تعددّدها مصحّحاً لعقد مسألتین ولو کان الموضوع فی المسألتین أمراً واحداً، کما أنّه لو لم یکن فی البین إلاّ جهة واحدة ولو مع تعدّد الموضوع یکون المناسب عقد مسألة واحدة فوحدة المسألة وتعدّدها بوحدة الجهة المبحوث عنها وتعدّدها.

وبتعبیر آخر اللازم فی مقام ذکر المائز بین المسألتین هو بیان جهتین وکون جهة البحث فیها غیر جهة البحث فی الأخری، وعلیه ذلک فالمائز بین مسألة اجتماع الأمر والنهی، ومسألة النهی عن العبادة هو أنّ الجهة فی الأولی إثبات سرایة کل من الأمر والنهی إلی متعلّق الآخر بحسب الخارج أو عدم سرایة أحدهما إلی الآخر بحسبه، بخلاف الجهة فی الثانیة فإنّ الجهة المبحوث فیها ترتب الفساد علی متعلّق النهی فیما إذا کان المنهی عنه عبادة أی ما لو أمر به لکان الأمر المزبور عبادیّاً لا یسقط إلاّ نعم لو قیل بالإمتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع، یکون مثل الصلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة.

فانقدح أن الفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح، وأما ما أفاده فی الفصول، من الفرق بما هذه عبارته:

(ثم اعلم أن الفرق بین المقام والمقام المتقدم، وهو أن الأمر والنهی هل

ص :316

یجتمعان فی شیء واحد أو لا؟ أما فی المعاملات فظاهر، وأما فی العبادات، فهو أن النزاع هناک فیما إذا تعلق الأمر والنهی بطبیعتین متغایرتین بحسب الحقیقة، وإن کان بینهما عموم مطلق، وهنا فیما إذا اتحدتا حقیقة وتغایرتا بمجرد الاطلاق والتقیید، بأن تعلق الأمر بالمطلق، والنهی بالمقید) انتهی موضع الحاجة.

الشَرح:

بقصد التقرب، فلا ترتبط المسألة الأولی بالثانیة من ناحیة الجهتین، نعم لو فرض القول بالإمتناع فی المسألة الأولی وبتقدیم جانب النهی علی إطلاق متعلّق الأمر فی المجمع کما فی الصلاة فی الدار المغصوبة لکان ذلک المجمع من صغریات المسألة الثانیة فالفرق بین المسألتین فی کمال الوضوح.

ثمّ إنّ الماتن قدس سره قد رتّب علی ما ذکر فساد الفارق المذکور فی کلام صاحب الفصول بین المسألتین حیث قال فی مسألة اقتضاء النهی عن معاملة أو عبادة فسادهما: إنّ الفرق بین هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهی ظاهر فی المعاملات لعدم الأمر التکلیفی بالمعاملة، وأمّا فی العبادة ففی مسألة جواز الإجتماع یکون متعلّق الأمر مغایراً لمتعلّق النهی بالذات أی یکون الإختلاف بین المتعلّقین لا بالإطلاق والتقیید، بل یتعلّق الأمر بعنوان والنهی بعنوان آخر غیر عنوان متعلق الأمر ولو کان بین العنوانین بحسب الصدق عموم وخصوص مطلق کما إذا أمر بالحرکة ونهی عن الفرار عن الزحف فالفرار من الزحف یصدق علیه عنوان الحرکة فاسد، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغایرها بحسب الذوات، لا یوجب التمایز بین المسائل، ما لم یکن هناک اختلاف الجهات، ومعه لا حاجة أصلاً إلی تعددها، بل لا بد من عقد مسألتین، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة فی صورة العکس، کما لا یخفی.

ومن هنا انقدح أیضاً فساد الفرق، بأن النزاع هنا فی جواز الاجتماع عقلاً، وهناک فی دلالة النهی لفظاً، فإن مجرد ذلک لو لم یکن تعدد الجهة فی البین، لا یوجب إلاّ تفصیلاً فی المسألة الواحدة، لا عقد مسألتین، هذا مع عدم اختصاص النزاع فی تلک المسألة بدلالة اللفظ، کما سیظهر.

الشَرح:

بخلاف مسألة اقتضاء النهی عن عبادة فسادها، فإنّ الأمر فیها یتعلّق بعنوان، والنهی

ص :317

بذلک العنوان مقیّداً کالأمر بالصلاة والنهی عن الصلاة فی الدار المغصوبة فالأمر والنهی المفروضان فی مسألة جواز إجتماع الأمر والنهی فی واحد غیر الأمر والنهی المفروضین فی مسألة اقتضاء النهی عن عبادة فسادها(1).

ووجه الفساد أنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغایرها بحسب مفهومها کما فرضه صاحب الفصول قدس سره فی مسألة جواز الإجتماع ومسألة اقتضاء النهی عن عبادة فسادها، لا یوجب جعلهما مسألتین ما لم یکن فی البین تعدّد فی الجهة المبحوث فیها ومع تعدّدها کما ذکرنا بین المسألتین فلا ینظر إلی تعدد الموضوع أو وحدته بل مع إتحاد الموضوع فیهما وتعدّد الجهتین یتعین جعلهما مسألتین یبحث فی احداهما عن جهة وفی الآخر عن جهة أخری.

وممّا ذکر یظهر أنّ جعل الفارق بین المسألتین، کون النزاع والخلاف فی مسألة .··· . ··· .

الشَرح:

اجتماع الأمر والنهی فی الجواز عقلاً وفی مسألة اقتضاء النهی الفساد فی دلالة اللفظ، غیر صحیح فانّه لو لم یکن فی البین تعدّد الجهة یتعین عنوان مسألة واحدة یفصّل بینهما فی الإقتضاء مع أنّ النزاع فی مسألة اقتضاء النهی لا ینحصر فی دلالة اللفظ کما سیظهر.

أقول: تعلّق الأمر التکلیفی بمعاملة _ ولو بعنوان قد ینطبق علیها _ سواء کان المراد بها ما یقابل العبادة أو معناها الأخص وکذا تعلّق النهی بها _ ولو بعنوان آخر قد ینطبق علیها _ لا یحتاج إلی التأمّل فإنّه علی القول بالجواز تکون المعاملة واجبة وحراماً ولو بعنوانین وعلی القول بالإمتناع وتقدیم جانب الحرمة یکون المورد من صغریات النهی عن المعاملة. والمراد بالعبادة فی مسألة اقتضاء النهی کما یذکر هی ما لو تعلّق بها أمر کان قصد القربة معتبراً فی سقوطه فیکون المفروض فی تلک المسألة هو النهی فقط ویبحث فی أنّ مقتضاه فساد متعلّقه سواء کان عبادة أو معاملة أو فساده فی العبادة فقط، بخلاف هذه المسألة فانّ مورد الکلام فیها هو ما إذا تعلّق الأمر فی الخطاب بعنوان وتعلّق النهی فیه بعنوان آخر یجتمع العنوانان فی واحد

ص :318


1- (1) الفصول: 112.

فهل إجتماعهما فیه یوجب وقوع المعارضة بین الخطابین بحیث یجب رفع الید عن الإطلاق فی أحدهما أو لا تعارض بینهما أصلاً ویثبت فی مجمعهما کلا الحکمین.

نعم إذا فرض المعارضة بینهما والإلتزام بتقدیم خطاب النهی فی مورد الإجتماع یدخل المجمع فی صغری المسألة الآتیة یعنی کون النهی فی المجمع من قبیل النهی عن العبادة أو المعاملة.

ونقول لزیادة التوضیح: أنّ العنوانین المتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهی إمّا .··· . ··· .

الشَرح:

متساویان فی الصدق بحیث یکون تغایرهما بحسب المفهوم فقط کما فی عنوانی العتق والتحریر، والصبر والصوم فلا ینبغی التأمّل فی أنّ تعلّق الأمر بأحدهما فی خطاب وتعلّق النهی بالآخر فی خطاب آخر یوجب کون الخطابین من المتعارضین فیما لم یکن النهی قرینة علی حمل الأمر علی الترخیص فی الإرتکاب کما هو الحال فی صورة تعلّقهما فی خطابین بعنوان واحد.

وکذا لیس من باب الإجتماع ما إذا کان أحد العنوانین بالإضافة إلی الآخر من المتباینین لا یجتمعان فی الصدق أصلاً سواء کان تباینهما بالذات أو لتقیّد الطبیعی فی کل منهما بقید یباین القید فی الآخر کما إذا تعلّق الأمر بالسجود للّه والنهی عن السجود للانسان، وکذا یخرج عن محل النزاع ما إذا کان العنوان فی أحد الخطابین مع العنوان الآخر فی الخطاب الآخر من المطلق والمقید أو العام والخاص کما إذا ورد الأمر ولو استحباباً بالصوم فی خطاب والنهی عن صوم یوم العیدین فیه أو فی خطاب آخر فإنّ النهی المزبور قرینة علی تقیید المطلق أو تخصیص العموم. فینحصر مورد الکلام فیالمسألة بما إذا کان بین العنوانین عموم من وجه کما ذکره فی القوانین ولکن لا مطلقاً بل فیما إذا أمکن للمکلّف التفکیک فی المجمع بین العنوانین بأن یأتی بالمنهی عنه فیه من غیر أن یطبق علیه متعلّق الأمر کما إذا ورد الأمر بالصلاة والنهی عن الغصب أو ورد الأمر بالوضوء والنهی عن الغصب فإنّ مورد الإجتماع هی الصلاة فی الدار المغصوبة ویمکن للمکلف التصرف فیها بغیر صلاة، وفی الثانی یمکن استعمال الماء المغصوب فی غیر الوضوء.

وأمّا إذا کان ارتکاب المحرّم فی مورد الإجتماع غیر منفک عن انطباق العنوان

ص :319

الآخر _ المتعلق به الأمر فی خطاب آخر _ علیه کما إذا ورد فی خطاب الأمر بإکرام .··· . ··· .

الشَرح:

العالم وفی الآخر النهی عن إکرام الفاسق یکون المجمع یعنی إکرام العالم الفاسق مورد المعارضة علی ما یأتی.

وعن المحقق النائینی قدس سره أنّ الأمر بالصلاة مع النهی عن الغصب بالإضافة إلی الصلاة فی الدار المغصوبة من باب الإجتماع ولکن الامر بالشرب مع النهی عن الغصب بالإضافة شرب الماء المغصوب لیس من باب الإجتماع بدعوی أنّ مع عدم اتحاد العنوانین فی المجمع فی الأوّل یمکن أن یتحمّل المجمع حکمین بخلاف الثانی فانّ مع اتّحاد العنوانین فی المجمع لا یتحمّل حکمین.

توضیح ذلک: بأنّ العموم من وجه بین العنوانین قد یکون بنحو یصحّ حمل أحد العنوانین علی الآخر فیکون مورد صحة الحمل مورد اجتماعهما کما فی المجمع بین عنوانی العادل والعالم أو العالم والفاسق ویسمّی الترکیب فی المجمع اتّحادیاً حیث إنّ تعدد العرض والمبدء لا یوجب تعدّد المعروض فالذات الّتی تتّصف بمبدء العالم بعینها فی المجمع تقوم بها العدالة أو الفسق، وأخری یکون بنحو لا یصحّ حمل أحد العنوانین علی الآخر بل یصحّ حمل کل منهما علی ذات تکون تلک الذات مجمعاً لهما کما فی البیاض والحلاوة وتکون النسبة بینهما بالعموم من وجه باعتبار معروضهما ویسمّی الترکیب فی هذا القسم بین العنوانین إنضمامیّاً حیث إنّ أحدهما ینضمّ فی الذات المفروضة إلی ثانیهما من غیر أن یکون أحدهما عین الآخر بحسب الحمل، وعلیه فلو ورد الأمر بإکرام العالم فی خطاب، والنهی عن إکرام الفاسق فی خطاب آخر فالخطابان خارجان عن موضوع مسألة الإجتماع لأنّ النسبة بین العنوان الواجب والعنوان الحرام وإن فکانت عموماً من وجه إلاّ أنّ الترکیب بینهما إتحادیّ والخطابان مع الترکیب الإتحادی بین العنوانین داخلان فی .··· . ··· .

الشَرح:

التعارض بلا تأمّل، وإنّما یدخلان مسألة إجتماع الأمر والنهی إذا کان الترکیب بینهما انضمامیّاً کما إذا ورد الأمر بالصلاة والنهی عن الغصب حیث إنّ الصلاة من مقولة الوضع

ص :320

والغصب من مقولة الأین فلا اتحاد بینهما بل تکون الصلاة فی الدار المغصوبة مرکّباً انضمّ فیه أحد المبدئین إلی الآخر ویکون البحث فی مسألة الإجتماع أنّ الإجتماع کذلک یوجب سرایة أحد الحکمین إلی متعلّق الآخر لیحصل التعارض بین خطاب الأمر والنهی فی مورد انضمامها أو أنّه لا سرایه فی البین فیؤخذ بالإطلاق فی کلا الخطابین.

والوجه فی کون الترکیب بین الصلاة والغصب انضمامیّاً لا اتحادیّاً هو أنّ کل مبدء بالإضافة إلی المبدء الآخر یکون غیره إلاّ أن یکون أحد المبدئین متمّماً للآخر والمتمّم هو الذی یکون عین الآخر فی حقیقته ویکون عروضه للجوهر بواسطة العرض کالسرعة بالإضافة إلی الحرکة، والشدة بالإضافة إلی الضرب حیث إنّ ما تمتاز به الحرکة السریعة عن الحرکة البطیئة تکون حرکة وعین ما به الإشتراک، وما یمتاز به الضرب عن الشدید الضرب الضعیف یکون ضرباً وعین ما به الإشتراک.

وللمتمّم صورة أخری وهو ما یکون عروضه للعرض بإضافة ذلک العرض إلی شیء آخر کمبدئی الإبتداء والإنتهاء حیث یعرضان للسیر بإضافة السیر إلی المکان فإن کان المتمّم من القسم الأوّل فالترکیب بینه ومعروضه اتّحادی یخرج عن مسألة الإجتماع بخلاف الثانی فإنّ الترکیب فیه بین العرض ومعروضه انضمامی(1).

أقول: لو کان المبدء فی کل من متعلّقی الأمر والنهی من المبادی المتأصّلة بأن یکون .··· . ··· .

الشَرح:

لکل منهما ما بإزائه وحصوله خارجاً، من غیر حاجة إلی لحاظ شیء آخر کعنوانی الضرب والقیام فلا ینبغی التأمّل فی أنّ الترکیب بینهما علی تقدیره انضمامی فإنّ حصول کل منهما فی المجمع لا یختلف عن وجود کل منهما فی غیر المجمع.

وأمّا إذا کان المبدآن انتزاعیین أو أحدهما انتزاعیاً _ والمراد بالإنتزاعی المأخوذ عن شیء بلحاظ شیء آخر _ أو کانا اعتباریین أو أحدهما اعتباریاً _ والمراد بالإعتباری ما لا یکون له واقع إلاّ الإعتبار والقرار _ ففی جمیع ذلک لا یکون تعدّد المبدء موجباً لکون الترکیب فی المجمع انضمامیّاً بل لابدّ من ملاحظة کل مورد بخصوصه مثلاً الترکیب بین الصلاة والغصب أو بین الوضوء والغصب إذا کان موضع السجود أو الماء غصبیاً اتّحادی،

ص :321


1- (1) فوائد الأصول 1 / 408 و 409؛ أجود التقریرات: یستفاد هذا من المقدمة السادسة 341 والمقدمة التاسعة 346.

بخلاف الوضوء والغصب فیما کان الغصب باعتبار مکان الغسل أو مصبّ غسالة الوضوء فإنّ الترکیب معه بین الوضوء والغصب انضمامی.

وذکرنا أیضاً أنّ مجرّد کون الترکیب بین عنوان الفعل المتعلّق به الأمر والعنوان المتعلق به النهی اتحادیّاً لا یوجب الخروج عن محل النزاع فی مسألة الإجتماع بل إذا کان تحقّق الحرام بالمجمع غیر منفک عن حصول ما تعلق به الأمر کما فی أکرم العالم ولا تکرم الفاسق فهو خارج عن محل النزاع فیها، دون مثل الوضوء بالماء المغصوب أو الصلاة فی الدار المغصوبة ممّا کان انطباق الواجب وتحقّقه بالمجمع محتاجاً إلی ضمّ فعل إلی المحرم لیتحقّق عنوان الواجب أیضاً بالمجمع، وبتعبیر آخر یکون الحرام بعض ما ینطبق علیه عنوان الواجب سواء کان بنحو الجزء أو الشرط للواجب فالأول کما فی الصلاة فی الدار المغصوبة والثانی کالصلاة فی الستر المغصوب هذا فی موارد الترکیب الإتحادی، وامّا فی موارد الترکیب الإنضمامی فالمجمع ما یکون حصول الواجب فیه مستلزماً أو موقوفاً علی حصول الحرام .··· . ··· .

الشَرح:

کالوضوء فی مکان ینصبّ غسالته فی ملک الغیر أو الوضوء بماء یکون فی الآنیة التی ملک الغیر.

لا یقال: ما ذکر من أنّ الترکیب فی موارد الإجتماع فی المبادی المتاصّلة یکون انضمامیّاً لا اتحادیّاً ینافی ما علیه الإمامیة من عدم زیادة صفات الذات علی ذات الحق جلّ وعلا فانّه تعالی فی وحدته وبساطته کل صفات الذات.

فإنّه یقال: إنّ الکلام فی مثل القدرة والعلم من المبادئ المتأصّلة التی تعتبر عرضاً وإنّ أحد العرضین یجب أن یکون غیر الآخر وجوداً ولذا لا یصح حمل أحدهما علی الآخر وما هو من هذا القبیل لا یکون من ذات الحقّ جلّ وعلا بشیء وذاته المقدّسة خارجة عن مسح عقولنا نعم بساطته _ لاستلزام الترکیب الإمکان _ ثابتة بعقولنا.

ثمّ إنّه کما یأتی أنّ الترکیب فی المجمع إذا کان اتحادیّاً لا یجوز الإجتماع فیه بل کان الخطابان بالإضافة إلی المجمع من المتعارضین فلابد من الرجوع إلی قواعد التعارض وکذا فیما کان الترکیب انضمامیّاً وقیل بسرایة کل من الحکمین إلی متعلق

ص :322

الآخر، وأمّا إذا منع عن القول بالسرایة کما هو الصحیح فیثبت کل من الخطابین بالإضافة إلی المجمع بلا تعارض بینهما.

وهل یدخل الأمر والنهی بالإضافة إلی المجمع فی المتزاحمین، فقد یقال کما عن المحقق النائینی قدس سره (1) بذلک من غیر فرق بین أن یکون فی البین مندوحة أم لا، غایة الأمر لو کان فی البین مندوحة یتعیّن امتثال الأمر بغیر المجمع عقلاً لما تقدم فی .··· . ··· .

الشَرح:

باب التزاحم من أنّه کلّما دار الأمر فیه بین امتثال ما له بدل وما لیس له بدل یقدّم ما لیس له بدل والمنهی عنه لیس له بدل فیتقدّم، بخلاف المأمور به فإنّه یمکن امتثاله بغیر المجمع.

ولکن لا یخفی ما فیه فإنّا ذکرنا أنّ التزاحم لا یتحقق بین الواجب الموسع والمضیق فضلاً عمّا إذا کان للواجب أفراد عرضیة یتمکن المکلف من امتثال الواجب بها من غیر ابتلاء بمحذور، وبالجملة لا یکون خطاب الأمر والنهی فی المفروض لا من المتعارضین ولا من المتزاحمین لتمکنه من امتثالهما.

نعم لو اختار المکلف امتثال الأمر بالمجمع صحّ عمله کما تقدم أخذاً بإطلاق متعلق الأمر فیه من غیر حاجة إلی الترتب ویستحقّ العقاب علی مخالفة النهی.

وأمّا إذا لم یکن فی البین مندوحة یدخل کل من الأمر والنهی فی المتزاحمین فلو کان للواجب بدل اضطراری یتعیّن رعایة خطاب النهی کما إذا دار الأمر بین الوضوء فی مکان یصبّ غسالته فی ملک الغیر مع عدم رضاه ورعایة حرمة الغصب والتصرف فی مال الغیر بغیر طیب نفسه فتنتقل الوظیفة إلی الصلاة مع التیمم ویتفرع علی ذلک جواز الأمر بالصلاة مع الوضوء علی نحو الترتب علی عصیان خطاب النهی، ومع عدم البدل له کذلک یرجع إلی غیره من مرجحات باب التزاحم.

وذکر المحقّق العراقی قدس سره فی المیز بین مسألة جواز الإجتماع وبین مسألة اقتضاء النهی عن عبادة فسادها، أنّه علی القول بالإمتناع یکون فساد العبادة فی المجمع من باب غلبة ملاک النهی والفساد علی ملاک الأمر فی مقام التزاحم بین

ص :323


1- (1) أجود التقریرات 1 / 332.

الملاکین کما هو مقتضی تقدیم خطاب النهی، فالمعتبر فی باب الإجتماع ثبوت .··· . ··· .

الشَرح:

ملاک کل من الأمر والنهی فی المجمع وتقدیم جانب النهی علی القول بالإمتناع لغلبة ملاکه، وعلیه فلو أتی المکلف بالمجمع مع قصد القربة لیکون عبادة مع الجهل بالحرمة أو الغفلة تصحّ لحصول ملاک الواجب وحصول التقرب المعتبر فی وقوع الفعل عبادة، بخلاف صورة العلم بالحرمة فإنّه مع العلم لا یحصل التقرب المعتبر فی العبادة، بخلاف الفساد فی المسألة الآتیة فإنّ الحکم بفساد العبادة المنهی عنها، للتخصیص والتقیید فی الأمر بالعبادة فلا یکون فی المنهی عنه ملاک الأمر ولذا لو صام یوم الفطر أو الأضحی جهلاً بکونه یوم العید أو غفلة یحکم أیضاً بفساده لعدم الملاک فیه، فالفساد المفروض فی مسألة الإجتماع غیر الفساد المبحوث عنه فی المسألة الآتیة(1).

أقول: قد تقدم أنّ الکاشف عن الملاک هو الأمر أو دخول المنهی عنه فی الطبیعی المتعلق به الأمر بحیث یعمّه الترخیص فی التطبیق، فعلی القول بجواز اجتماع الأمر والنهی مطلقاً أو فیما کان الترکیب فی المجمع إنضمامیاً یمکن کشف ملاک الأمر فی المجمع کما ینکشف بالنهی ملاکه، وعلی الإمتناع وتقدیم جانب النهی لا یدخل المجمع فی متعلّق الأمر فلا کاشف عن ملاک متعلّق الأمر فیه فیحکم بفساد العبادة فی المجمع سواء علم المکلف بحرمته أو شک فیه، والنهی عن العبادة فی المسألة الآتیة یعمّ ما إذا کان النهی لتقدیم جانبه علی جانب الأمر أم کان لسبب آخر، وفساد صوم یوم العیدین مع الغفلة عن حرمتهما إنّما هو لعدم الأمر بهما بخلاف صورة الغفلة عن کون الدار أو الماء مغصوبین فإنّ وجه الحکم بصحة الصلاة الثالث: إنه حیث کانت نتیجة هذه المسألة مما تقع فی طریق الاستنباط، کانت المسألة من المسائل الأصولیة، لا من مبادئها الأحکامیة[1]، ولا التصدیقیة، الشَرح:

والوضوء مع الغفلة هو سقوط النهی مع الغفلة فیعمّهما الأمر المتعلّق بکل من الصلاة

ص :324


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 412.

والوضوء، هذا مع غض النظر عمّا ذکرنا من أنّ النهی عن الصوم فی العیدین کالنهی عن الصلاة والصوم فی أیام الحیض ارشاد إلی عدم مشروعیّتهما فتدبر جیّداً.

مسألة الاجتماع مسألة أُصولیّة

[1] ذکر قدس سره أنّ البحث فی جواز الإجتماع أو عدم جوازه من المسائل الأصولیة حیث لو کانت نتیجة المسألة جواز الإجتماع فبضمّها إلی صغراها من تعلق الوجوب والحرمة بالصلاة فی الدار المغصوبة بعنوانین وبالوضوء عند صب غسالته فی ملک الغیر عدواناً تکون النتیجة _ یعنی لازمها _ کون الصلاة والوضوء المذکورین مصداقاً لما تعلّق به الوجوب وداخلاً فیه فیکون الإتیان به مسقطاً للوجوب المعبّر عن ذلک بالصحة وإن کانت نتیجتها امتناع الإجتماع وتقدیم جانب الحرمة فی المجمع یلزم علیها الحکم ببطلان الصلاة فی الدار المغصوبة وفساد الوضوء المزبور بضمیمة المسألة الآتیة من اقتضاء حرمة العبادة فسادها.

وبالجملة إذا ترتب إستنباط الحکم الشرعی الفرعی الکلی علی نتیجة هذه المسألة فلا وجه للإلتزام بأنّها من المبادئ الأحکامیة لمسائل علم الأصول أو من المبادئ التصدیقیة لمسائله أو من مسائل علم الکلام أو من المسائل الفقهیة، نعم هذه المسألة مع کونها أصولیة تکون الجهات المذکورة موجودة فیها أیضاً، ولکن وجود تلک الجهات لا یوجب خروجها عن مسائل علم الأصول إذا کان فیها جهة المسألة الأصولیة یمکن جعلها من مسائل الأصول بتلک الجهة کما مرّ.

ولا من المسائل الکلامیة، ولا من المسائل الفرعیة، وإن کانت فیها جهاتها، کما لا یخفی، ضرورة أن مجرد ذلک لا یوجب کونها منها إذا کانت فیها جهة أخری، یمکن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حینئذ لتوهم عقدها من غیرها فی الأصول، وإن عقدت کلامیة فی الکلام، وصح عقدها فرعیة أو غیرها بلا کلام، وقد عرفت فی أوّل الکتاب أنه لا ضیر فی کون مسألة واحدة، یبحث فیها عن جهة خاصة من مسائل علمین، لإنطباق جهتین عامتین علی تلک الجهة، کانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأخری من آخر، فتذکر.

الشَرح:

أقول: أمّا وجود جهة کونها من المبادئ الأحکامیة فإنّ المبادئ الأحکامیّة مباحث ترجع إلی البحث عن لوازم الحکم الشرعی المجعول کالبحث فی أنّ الأمر

ص :325

بشیء یستلزم الأمر بمقدمته أو النهی عن ضدّه أم لا ؟ وبتعبیر آخر یستلزم وجوب شیء وجوب مقدمته أو حرمة ضده أم لا ؟ ممّا یکون لتلک المباحث دخل فی إستنباط الحکم الشرعی علی ما قیل، وقد التزم المحقق النائینی قدس سره (1) أنّه یمکن أن تکون مسألة الإجتماع من المبادی الأحکامیة حیث یبحث فی هذه المسألة عن أنّ حرمة شیء ولو بعنوان یستلزم عدم تعلّق الوجوب به ولو بعنوان آخر، کان الترکیب بین العنوانین اتحادیّاً أو انضمامیاً وکذا تعلق الوجوب به بعنوان یستلزم عدم تعلق النهی به ولو بعنوان آخر غایة الأمر البحث فی استلزام وجوب المقدمة أو حرمة الضد انّما هو عن لازم حکم واحد وفی هذه المسألة عن لازم حکمین واستلزام کل منهما عدم الآخر.

وأمّا کونها من المبادئ التصدیقیّة لمسائل علم الأصول فلأنّ المبادئ التصدیقیّة لمسائله ما یترتب علی نتائجها إحراز الموضوع لمسألة أصولیة، وحیث .··· . ··· .

الشَرح:

یترتب علی مبحث جواز الإجتماع وعدم جوازه إحراز الموضوع لمسألة اقتضاء النهی للفساد فیکون البحث عنه من المبادئ التصدیقیّة لتلک المسألة الأصولیّة.

وقد یقرّر کون البحث عنها من المبادئ التصدیقیة للمسألة الأصولیة بتقریب آخر وهو إنّ البحث عن أحکام التعارض بین الأمارات _ ومنها الخطابات _ بحث عن مسألة أصولیة وبالبحث فی جواز الإجتماع وامتناعه یحرز أنّ خطاب الأمر بالصلاة أو الأمر بالوضوء مع خطاب النهی عن الغصب والتصرف فی مال الغیر بلا رضاه لا یجتمعان فیکونان من المتعارضین بالإضافة إلی المجمع هذا بناءً علی امتناع الإجتماع، وأمّا بناءً علی جوازه کما فی موارد الترکیب الإنضمامی والقول بعدم السرایة فیهما یکون الخطابان بالإضافة إلی المجمع من المتزاحمین.

وقد اختار المحقّق النائینی قدس سره عدم کون المسألة یعنی _ بحث جواز الإجتماع وعدم جوازه _ من مسائل علم الأصول حیث إنّ المسألة الأصولیّة هی التی تکون نتیجتها بمجرّدها مع انضمامها إلی صغراها ممّا یستنبط منها الحکم الشرعی الفرعی

ص :326


1- (1) أجود التقریرات 1 / 333.

الکلّی ومبحث جواز الإجتماع وعدم جوازه لیس من هذا القبیل فإنّه لابدّ فی الإستنباط بعد إحراز الصغری من ملاحظة أحکام التعارض بناءً علی امتناع الإجتماع وملاحظة أحکام التزاحم بناءً علی جواز الإجتماع، وبالجملة یحرز بالبحث فی جواز الإجتماع وعدمه امّا تحقّق التعارض فی مورد الإجتماع أو التزاحم فیه فیکون البحث من المبادی التصدیقیة لإحدی المسألتین والمبادئ التصدیقیّة فی مقابل المبادئ التصوریّة التی یبحث فیها عن معنی الموضوع فی المسألة کالبحث عن المراد بالخبر الواح_د والمستفیض ونحو ذلک ممّا جعل موضوعاً فی مسائل

ص :327

.··· . ··· .

الشَرح:

علم الأصول(1).

وأمّا وجود جهة المسألة الکلامیة فی بحث جواز الإجتماع وعدمه فقیل فی وجهه انّ البحث عن الإمکان والإمتناع مسألة کلامیّة کالبحث عن امکان التعبد بالامارة غیر العلمیة أو امتناعه ممّا ذکروه فی مبحث امکان اعتبار الأمارات الظنیة فی دفع شبهة ابن قبة، وربّما یقال کونها کلامیة لدخول البحث عنها فی مسألة قبح التکلیف.

ولکن هذا مجرّد وهم، فانّ الداخل فی المسائل الکلامیة مسألة قبح التکلیف بما لا یطاق حیث وقع الخلاف فیها بین الأشاعرة والمعتزلة والإمامیة، والکلام فی المقام کما یأتی فی کون التکلیف بالأمر بعنوان والنهی عن عنوان لهما مجمع بترکیب اتحادی أو انضمامی، من التکلیف المحال أم لا حتی مع وجود المندوحة.

کما أن جهة المسألة الفرعیة فی بحث جواز الإجتماع وعدمه کما هو ظاهر الماتن قدس سره فاسدة، لأنّ صحة المجمع عبادة وسقوط الأمر بالإتیان به حکم شرعی عملی یستنبط من نتیجة هذه المسألة لا أنّ المبحوث عنه فیها هو ذلک کما لا یخفی.

ثمّ إنّ ما ذکر المحقق النائینی قدس سره فی جهة خروج مسألة جواز الإجتماع وعدمه عن مسائل علم الأصول ودخولها فی المبادئ التصدیقیة غیر صحیح حتی لو قلنا بأنّ الملاک فی کون مسألة أصولیة أن یکفی نتیجتها بعد الضم إلی صغراها فی إستنباط الحکم الشرعی الفرعی الکلّی، وذلک لأنّ کفایتها علی تقدیر ولو فی مورد واحد موجبة لدخولها فی المسائل الأصولیة وإن لم تکن النتیجة علی جمیع التقادیر الرابع: إنه قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه، أن المسألة عقلیة[1]، ولا اختصاص للنزاع فی جواز الإجتماع والإمتناع فیها بما إذا کان الإیجاب والتحریم باللفظ، کما ربما یوهمه التعبیر بالأمر والنهی الظاهرین فی الطلب بالقول، إلاّ أنه لکون الشَرح:

ص :328


1- (1) أجود التقریرات 1 / 333.

وفی جمیع الموارد کافیةً فمثلاً مسألة اعتبار خبر الثقة القائم علی الأحکام الشرعیة الفرعیة من المسائل الأصولیة بلا کلام ولکن لو کانت نتیجة تلک المسألة عند شخص أو جماعة عدم اعتبار خبر الثقة بما هو خبر الثقة فلا یستنبط من ضم هذه النتیجة إلی صغراها حکم شرعی فرعی أصلاً وانّما یستنبط بالضم لو کانت النتیجة اعتبار خبر الثقة ولکن علی هذا التقدیر أیضاً لا یستنبط بضمها إلی صغراها مطلقاً بل فیما لم یکن خبره مبتلی بالمعارض أو لم یکن فی مدلوله إجمال ولو کان حکمیاً، ومسألة جواز الإجتماع وعدمه أیضاً کذلک، فانّه لو قلنا بجواز الإجتماع فی موارد الترکیب الإنضمامی یحکم بصحة العبادة فی المجمع من غیر ملاحظة أحکام التزاحم إذا اعتبرنا قید المندوحة فی المسألة أو لم نعتبر القید ولکن کانت فی البین مندوحة.

أضف إلی ذلک ما ذکرنا فی تعریف مسائل علم الأصول من أنّ کل مسألة یکون لها الدخل فی إستنباط الحکم الفرعی الکلی ولم تنقّح فی سائر العلوم تدخل فی مسائل علم الأصول ولو کان الإستنباط منها محتاجاً إلی ضم مسألة أخری من مسائل الأصول دائماً، وعلیه فلا حاجة فی إدخال هذه المسألة فی مسائل علم الأصول إلی التطویل أکثر من هذا.

مسألة الإجتماع من المباحث العقلیة

[1] غرضه قدس سره من التعرض لهذا الأمر بیان أنّ مسألة جواز الإجتماع وعدمه وإن تذکر فی کتب الأُصول فی قسم مباحث الألفاظ الراجعة مسائلها إلی البحث عن الدلالة علیهما غالباً بهما، کما هو أوضح من أن یخفی، وذهاب البعض إلی الجواز عقلاً والإمتناع عرفاً، لیس بمعنی دلالة اللفظ، بل بدعوی أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنین، وأنه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین، وإلاّ فلا یکون معنی محصلاً للإمتناع العرفی، غایة الأمر دعوی دلالة اللفظ علی عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع، فتدبر جیداً.

الشَرح:

دلالة الألفاظ ومدالیلها إلاّ أنّ ذکر هذه المسألة فیها کذکر مسألتی اقتضاء الأمر بشیء الأمر بمقدمته، أو النهی عن ضدّه فی مباحث الألفاظ مع کونهما من المسائل العقلیة لا ترجع إلی البحث فی مدالیل الألفاظ أصلاً، وعنوان المسألة بقولهم هل یجوز اجتماع الأمر والنهی فی واحد مع ظهور الأمر والنهی فی الطلب والمنع بالقول

ص :329

باعتبار أنّ الغالب فی استفادة وجوب فعل أو حرمة، الطلب والمنع من القول، لا لأنّ للطلب والمنع به خصوصیة ودخالة فی ملاک البحث ومورد الخلاف.

ونقول فی توضیح ذلک أنّ مع الترکیب الإنضمامی فی المجمع بین متعلقی الوجوب والحرمة _ علی ما یأتی إن شاء الله تعالی _ لا مانع من ثبوت الحرمة والوجوب بالإضافة إلی المجمع، لکون المتعلّق لأحدهما خارجاً غیر المتعلق للآخر غایة الأمر انضمام أحدهما إلی الآخر أوجب الوهم بأنّ أحد الحکمین یسری إلی متعلّق الآخر، وهذا الوهم _ الموجب للخلاف والبحث _ لا یختص بما کان استفادة الوجوب والحرمة من اللفظ.

وأمّا إذا کان الترکیب فی المجمع بین متعلّقی الوجوب والحرمة اتحادیّاً فکون المجمع واحداً خارجاً یوجب أن لا یتعلّق به الوجوب أو الترخیص فی التطبیق مع تعلّق الحرمة به، وکذا العکس، ونتیجة ذلک أنّه لو کان فی البین خطاب للوجوب المتعلّق بالفعل بعنوان وخطاب للحرمة بعنوان یتحدان فی المجمع تقع المعارضة .··· . ··· .

الشَرح:

بین الخطابین بالإضافة إلی المجمع فلابدّ من رفع الید فیه عن أحدهما وعلی ذلک یکون البحث فی المسألة فی إمکان ثبوت الوجوب والحرمة بالإضافة إلی المجمع وعدم إمکانه _ والمراد بالإمکان هو الوقوعی _ فیصحّ عنوان البحث بأنّه یلزم عقلاً من ثبوت الحکمین فی المجمع محذور أم لا ؟ أو یلزم فی مورد الترکیب الإتحادی دون الإنضمامی، وعلی کل تقدیر فالمسألة عقلیّة لا ترتبط بمباحث الألفاظ إلاّ من جهة کون الطلب والمنع بالقول غالباً.

ثمّ إنّ المنسوب إلی بعض فی المسألة، الإلتزام بجواز الإجتماع عقلاً وامتناعه عرفاً ویتوهّم من التفصیل المزبور أنّ المراد من الإمتناع العرفی، دخالة اللفظ بدلالة الأمر والنهی بالملازمة العرفیة علی عدم جواز ثبوت الحکمین للمجمع، فیکون البحث فی المسألة علی هذا راجعاً إلی دلالة الألفاظ ومدالیلها ولو بالالتزام فتدخل فی مباحث الألفاظ.

وأجاب قدس سره بأنّه لا دخل لخصوصیة اللفظ فی المبحوث عنه فی المقام حتی عند هذا القائل فإنّ مراده أنّ المجمع بنظر العرف واحد وإن کان بنظر العقل متعدداً

ص :330

لا من جهة أنّ للقول خصوصیة لأنّه لیس للإمتناع العرفی معنی محصّل غیر ما ذکر إلاّ أن یدعّی انصراف الأمر بعنوان إلی تعلق الوجوب بما لم یتعلّق به النهی ولو بعنوان آخر، وکذا انصراف النهی عن عنوان إلی حرمة ما لم یتعلّق به الوجوب فهذه علی تقدیرها من دعوی دلالة الخطاب علی عدم وقوع الإجتماع لا علی امتناعه کما لا یخفی.

ص :331

الخامس: لا یخفی أن ملاک النزاع فی جواز الإجتماع والإمتناع یعم جمیع أقسام الإیجاب والتحریم[1]، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر والنهی، ودعوی

الشَرح:

جریان النزاع فی جمیع أقسام الأمر والنهی

[1] ذکروا أنّ دلالة اللفظ علی معنی مع فقد القرینة الخاصة تکون بالوضع أو بالإنصراف أو بالإطلاق، والظهور الإنصرافی متوسط بین الظهور الوضعی والإطلاقی حیث لا وضع لتکون الدلالة علی المعنی وضعیّة ولا یحتاج إلی ملاحظه مقدمات الحکمة لتکون بالإطلاق وبما أنّ دلالة الألفاظ علی معنی خاص لا تکون ذاتیّة ولابدّ لها من موجب فالموجب للدلالة الإنصرافیة هی القرینة العامّة وتدخل فیها غلبة استعمال اللفظ فیه وندرة استعماله فیما وضع له ولکن بنحو لا یحتاج استعماله فیما وضع له إلی لحاظ العلاقة واعمال العنایة فلا یصل الإنصراف إلی حدّ الوضع التعیّنی لتدخل دلالته علی المعنی الشائع استعماله فیه فی الدلالة الوضعیة.

وکلام الماتن قدس سره أنّ الدلالة الإنصرافیّة فی کلّ من مادّتی الأمر والنهی وصیغتهما إلی الوجوب النفسی التعیینی العینی والحرمة النفسیّة التعیّینیة العینیّة غیر موجودة بل الموجود دلالة کل من مادتهما وصیغتهما علی ما ذکر بالإطلاق وبمعونة مقدمات الحکمة عند استعمالهما فی مقام إنشاء الطلب، حیث إنّ مقتضی مقدمات الحکمة فی ذلک المقام هو أنّ الوجوب نفسی لا غیری، تعیینی لا تخییری، عینی لا کفائی وهکذا الحال فی ناحیة الحرمة النفسیة والتعیینیة والعینیّة، وذلک فإنّه لا یمکن عند استعمالهما فی مقام إنشاء الطلب بفعل أو ترک أن یکون المنشأ حکماً نفسیاً وغیریاً، تعیینیاً وتخییریاً، عینیاً وکفائیاً، وهذا بخلاف استعمالهما فی المقام أی فی عنوان النزاع حیث لم یستعملا فی مقام إنشاء الطلب، بل جریان ملاک النزاع فی جمیع أقسام الأمر والنهی وکذا شمول ما ذکر من الدلیل علی القولین من جواز الإجتماع أو الإنصراف إلی النفسیین التعیینیین العینیین فی مادتهما، غیر خالیة عن الإعتساف، وإن سلم فی صیغتهما، مع أنه فیها ممنوع.

نعم لا یبعد دعوی الظهور والإنسباق من الإطلاق، بمقدمات الحکمة الغیر

الشَرح:

امتناعه قرینة علی إرادة جمیع الأقسام مثلاً إذا أمر بالصلاة أو الصوم تخییراً بینهما

ص :332

وکذلک نهی تخییراً عن التصرف فی دار خاصة أو المجالسة مع الأغیار، فإن صام المکلّف وتصرف فی الدار بغیر الصلاة فیها وجالس الأغیار فقد ارتکب الحرام بالتصرف فی الدار ومجالسة الأغیار حیث کان المطلوب للمولی ترک أحدهما ولکن أطاع الأمر التخییری بالصوم، وأمّا إذا صلّی فی تلک الدار وجالس الأغیار لکانت طاعته بإتیان الصلاة فیها مبنیة علی جواز إجتماع الأمر والنهی.

ولا یخفی أنّه لو قلنا باعتبار المندوحة فی مسألة الإجتماع فالمندوحة فی موارد الأمر التخییری متحقّقة ولا یکون الأمر التخییری مع حرمة عنوان یتّحد مع أحد فردی التخییر من التکلیف بما لا یطاق فانّ الأمر بالجامع یمکن امتثاله بغیر ذلک الفرد، ولو فرض کون النهی أیضاً تخییریاً کما إذا نهی عن التصرف فی دار مخصوصة أو مجالسة الأغیار تخییراً مع الأمر بالصوم أو الصلاة فإن صام المکلّف وتصرف فی الدار المزبورة بغیر الصلاة وجالس الأغیار فقد ارتکب الحرام وامتثل الواجب بلا کلام، وإذا صلّی فیها مع مجالسة الأغیار فصحة الصلاة مبنی _ کما ذکرنا _ علی مسألة جواز الإجتماع فی مورد الترکیب الإتحادی أیضاً، ولکن الحرام لا یتّحد مع الواجب إلاّ فیما إذا صلّی فی تلک الدار بعد مجالسة الأغیار أو فی زمان مجالسته معهم، وأمّا إذا صلّی فیها قبل مجالستهم ثمّ جالسهم تکون الصلاة امتثالاً للواجب بلا حرمة أصلاً لأنّ مرجع الحرمة التخییریة علی ما ذکر الماتن قدس سره إلی حرمة الجمع بین الفعلین فلا یکون للأول منهما حرمة أصلاً.

الجاریة فی المقام، لما عرفت من عموم الملاک لجمیع الأقسام، وکذا ما وقع فی البین من النقض والإبرام، مثلاً إذا أمر بالصلاة والصوم تخییراً بینهما، وکذلک نهی عن التصرف فی الدار والمجالسة مع الأغیار، فصلی فیها مع مجالستهم، کان حال الصلاة فیها حالها، کما إذا أمر بها تعییناً، ونهی عن التصرف فیها کذلک فی جریان النزاع فی الجواز والإمتناع، ومجئ أدلة الطرفین، وما وقع من النقض والإبرام فی البین، فتفطن.

الشَرح:

وقد ذهب سیدنا الاستاذ قدس سره إلی أنّه لا یجری النزاع فی مبحث الإجتماع فیما إذا کان کل من الوجوب والحرمة تخییریاً فإنّه لا منافاة بین وجوب کل من الفعلین بنحو التخییر بأن یجب کل من الفعلین بشرط انفراده عن الآخر أو علی نحو تعلق الوجوب بالجامع بین الفعلین، وبین تعلّق الحرمة التخییریة حیث لا یکون بین

ص :333

الوجوب والحرمة تناف لا بحسب مبدأ الحکمین ولا بحسب منتهاهما فإنّ الحرمة التخییریة عبارة عن تعلّق الحرمة بمجموع الفعلین فیمکن أن یکون فی کل من الفعلین حال عدم لحوق الآخر به مصلحة ملزمة ومع ذلک یکون فی المجموع من أحدهما وفعل الآخر مفسدة ملزمة، والغرض من الإیجاب التخییری الإتیان بأحدهما والغرض من النهی التخییری عدم الجمع بین أحدهما غیر المعیّن والفعل الآخر(1).

ولکن لا یخفی ما فیه فإنّ مورد البحث فی جواز الإجتماع ما إذا کان الواحد معنوناً بعنوانین تعلّق الأمر بأحد العنوانین والنهی بالعنوان الآخر وإذا فرض فی الوجوب التخییری تعلّق الوجوب بالجامع وهو عنوان أحدهما فلیس معناه أن یحصل أحد العدلین بشرط عدم حصول العدل الآخر، وکذا إذا فرض تعلق الحرمة .··· . ··· .

الشَرح:

التخییریة بعنوان الجمع بین الفعلین فعنوان الجمع ینطبق علی الإتیان بثانیهما وعلیه فإذا أتی المکلّف _ فی المثال _ بالصلاة فی الدار المغصوبة بعد مجالسته الأغیار ینطبق علی الصلاة عنوان الواجب وهو أحد الأمرین من الصوم والصلاة، وعنوان المحرّم وهو الجمع بین الغصب ومجالسة الأغیار کما لا یخفی.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ دعوی عدم جریان النزاع فی موارد کون الحرمة تخییریة _ لأنّ الحرمة التخییریة لا معنی لها إلاّ تعلّقها بالفعلین معاً بأن یکون کل من الفعلین جزءاً لما تعلّق به النهی بأن تعلّقت حرمة واحدة بمجموع الفعلین بحیث یکون المفسدة فیهما معاً لا فیما انفرد أحدهما عن الآخر فی التحقق _ لأنّ النزاع فی مسألة الإجتماع یختصّ بما کان متعلّق کل من الوجوب والحرمة عنواناً جامعاً فاسدة _ ووجه الفساد إمکان تصویر الجامع فی موارد الحرمة التخییریة بأن تتعلق الحرمة بعنوان الجمع بینهما المنطبق علی ما یأتی به المکلف من العدل الثانی بعد الإتیان بالأوّل منهما، نظیر انطباق عنوان الجمع بین الاختین فی النکاح علی المعقودة ثانیةً، نعم لو عقد علیهما بعقد واحد أو فی زمان واحد بطل نکاحهما لأنّ انطباق عنوان

ص :334


1- (1) المحاضرات 4 / 187.

الجمع علی عقد أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح، ولا یختص ما ذکرنا من التصویر بموارد الترکیب الإتحادی بل یجری فی موارد الترکیب الإنضمامی أیضاً، کما إذا أمر بالوضوء أو التیمم تخییراً ونهی عن التصرف فی مکان خاص ومجالسة الأغیار تخییراً وبعنوان الجمع کما ذکرنا ولو فرض أنّ المکلف بعد ما جالس الأغیار توضّأ فی مکان یلزم منه انصباب غسالته فی المکان الذی نهی عن التصرف فیه تخییراً فإنّ مصداق الواجب التخییری فی الفرض ینضم إلیه ما هو معنون بعنوان الجمع فی التصرف فی ذلک المکان ومجالسته الأغیار کما لا یخفی.

السادس: إنه ربما یؤخذ فی محل النزاع قید المندوحة[1] فی مقام الإمتثال،

الشَرح:

ثمّ إنّ المقام یناسب التعرض لأمر وهو أنّ جریان الخلاف فی جواز الإجتماع فی موارد الأمر الغیری _ مع النهی عن عنوان قد ینطبق علی نفس القید فی الواجب النفسی _ لا یتوقف علی ثبوت الأمر الغیری بالمقدمة، بل ثبوته وعدم ثبوته علی حد سواء فی جریان الخلاف وعلیه فاذا کان ساتر المصلی مغصوباً بأن ستر عورتیه بثوب غصبی وصلّی فیه و إن لم نقل بتعلق الوجوب الغیری بنفس الستر _ أی طبیعی الستر المقیّد به الصلاة کما اخترنا فی بحث المقدمة _ فصحة الصلاة فی ذلک الساتر مبنی علی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی، فإنّ الوجوب النفسی لم یتعلّق بمطلق الصلاة بل بالحصة منها التی نعبّر عنها بالصلاة المتقیدة بطبیعی ستر العورة فالعنوان المنهی عنه ینطبق علی نفس مصداق القید فهذه الموارد من موارد الترکیب الإتحادی التی لا یمکن تصحیح العبادة فی المجمع _ بناءً علی تقدیم خطاب النهی _ حتی بالترتّب وذلک فإنّه لو فرض الترخیص فی تطبیق الحصة المأمور بها من الصلاة علی تلک الحصة الّتی فی المجمع فبما أنّ التقید داخل فی متعلق الأمر النفسی لا یمکن الترخیص الضمنی فی إیجاده لأنّه لا یوجد إلاّ بإیجاد الحرام، والترخیص الترتبی والمعلّق علی تقدیر حصول الستر بالمغصوب فی تلک الحصة أیضاً غیر معقول وانّما المعقول الترخیص فی إتیان مطلق الصلاة التی هی لیست مأموراً بها کما لا یخفی فتدبر.

اعتبار قید المندوحة وعدمها

[1] هذا الأمر لبیان عدم الوجه لاعتبار المندوحة فی مورد الخلاف فی مسألة

ص :335

جواز الإجتماع وبیان ما ذکره الماتن قدس سره:

بل ربما قیل: بأن الإطلاق إنما هو للإتکال علی الوضوح، إذ بدونها یلزم التکلیف بالمحال.

ولکن التحقیق مع ذلک عدم اعتبارها فی ما هو المهم فی محل النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحکمین المتضادین، وعدم الجدوی فی کون موردهما موجهاً بوجهین فی رفع غائلة اجتماع الضدین، أو عدم لزومه، وأن

الشَرح:

أنّ امتناع التکلیف ربّما یکون لخروج متعلّقه عن تمکن العبد واختیاره ویعبّر عن هذا القسم بالتکلیف بالمحال کما فی الأمر باجتماع الضدین، أو التکلیف بکل من الضدین مطلقاً بحیث یکون مقتضاه أنّ علی المکلف الجمع بین الضدین وقد یکون امتناع التکلیف مع قطع النظر عن امتناع متعلّقه وعجز المکلّف عن الإتیان به ویعبّر عن ذلک بالتکلیف المحال کما فی إیجاب شیء وتحریمه بعنوانه حیث إنّ الأمر به مع النهی عنه غیر ممکن مع قطع النظر عن عجز المکلف عن الجمع بین الفعل والترک ولذا یکون اباحة شیء مع ایجابه ممتنعاً مع أنّ المکلّف متمکّن من الجمع بین مقتضاهما باختیاره الفعل، وبالجملة التکالیف الخمسة لتضادهما فی المنشأ أو فی المقتضی ایضاً فی بعضها لا یجتمع أحدها مع الآخر فی متعلّق واحد فانّه من التکلیف المحال.

ثمّ یقع البحث فی أنّ الشیء الواحد المعنون بعنوانین یکون بینهما عموم من وجه هل یمکن أن یتعلق به الوجوب بعنوان والحرمة بعنوان آخر ولا یکون هذا من التکلیف المحال لتعدّد العنوانین حتی فیما کان الترکیب اتحادیّاً، أو أنّ محذور التکلیف المحال لا یرتفع بتعدّد العنوانین أو یفصّل فی ارتفاع المحذور بین موارد الترکیب الإنضمامی والإتحادی فیرتفع المحذور فی الأوّل دون الثانی؟ وعلی کل حال فوجود المندوحة وعدمها لا دخل لها فی لزوم التکلیف بالمحال وعدم لزومه تعدد الوجه یجدی فی رفعها، ولا یتفاوت فی ذلک أصلاً وجود المندوحة وعدمها، ولزوم التکلیف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.

نعم لا بد من اعتبارها فی الحکم بالجواز فعلاً، لمن یری التکلیف بالمحال محذوراً ومحالاً، کما ربما لا بد من اعتبار أمر آخر فی الحکم به کذلک أیضاً.

ص :336

وبالجملة لا وجه لإعتبارها، إلاّ لأجل اعتبار القدرة علی الإمتثال، وعدم لزوم التکلیف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور فی المقام من التکلیف المحال، فافهم واغتنم.

الشَرح:

نعم لو بنی علی جواز الإجتماع أو عدم جوازه فلابدّ فی التکلیف الفعلی بالواجب أو الحرام من وجود المندوحة لئلاّ یلزم التکلیف بالمحال کما لابدّ من اعتبار وجود سائر الشرایط المعتبرة فی التکلیف الفعلی، وبالجملة اعتبار المندوحة انّما هو لئلاّ یلزم التکلیف بالمحال ولا دخل لها فی رفع محذور التکلیف المحال فإنّ تعدّد العنوان لو کان مجدیاً فی دفع المحذور مع المندوحة أی محذور التکلیف المحال لکان مجدیاً أیضاً مع عدمها وإلاّ لزم المحذور ولو کان فی البین مندوحة.

ولکن ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی أنّ البحث عن مسألة جواز الإجتماع من جهتین.

الأولی: فی کون کل من العنوانین عنواناً تقییدیاً والترکیب بینهما فی الخارج انضمامی فلا اتحاد حقیقة فی ناحیة متعلّقی الإیجاب والتحریم، أو أنّ العنوانین تعلیلیان وترکیبهما بحسب الخارج اتحادی، واتحادهما کذلک موجب لرفع الید عن إطلاق أحدهما بحسب المتعلّق وتقییده بغیر المجمع والبحث فی هذه الجهة أجنبیّ عن اعتبار المندوحة وعدمها ومتمحّض فی لزوم التکلیف المحال وعدمه.

والجهة الثانیّة: أنّه بعد الفراغ عن کون العنوانین تقییدیین والترکیب انضمامی .··· . ··· .

الشَرح:

وأنّه لا یلزم من ثبوت الحکمین فی المجمع محالٌ، یقع البحث فی التزاحم بین الوجوب والحرمة بالإضافة إلی المجمع بمعنی أنّه هل یصحّ الإتیان بالمجمع لامتثال الأمر وأنّ الإتیان به کاف فی مقام الإمتثال أو یقال بأنّ الأمر بشیء بنفسه یقتضی کون متعلقه مقدوراً وانّ الحصص غیر المقدورة خارجة عن متعلّقه فلا یکون الإتیان بالمجمع مجزیاً عن امتثال الأمر إلاّ إذا سقط النهی عنه لیکون مقدوراً فیدخل فی متعلّق الأمر.

والحاصل بناءاً علی أنّ اعتبار القدرة فی متعلق التکلیف باقتضاء نفس التکلیف

ص :337

وأنّه یدخل فیه الحصص المقدورة فلابدّ من رفع الید فی المجمع امّا عن الأمر أو النهی.

بخلاف ما إذا قیل باعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف لحکم العقل بقبح تکلیف العاجز فیثبت فی المجمع کلا الإطلاقین حیث إنّ العقل لا یستقلّ إلاّ باعتبار القدرة علی صرف وجود الطبیعی لا باعتبارها فی کل ما ینطبق علیه الطبیعی فالإنطباق فی المجمع قهری فیکون مجزیاً.

وبالجملة القائل بالجواز من الجهة الأولی والثانیة یمکن له التحفظ علی کلا الإطلاقین بالإضافة إلی المجمع ویمکن له الحکم بالاجزاء فیما إذاکان فی البین مندوحة وامّا إذا لم یکن فی البین مندوحة فیقع التزاحم بین خطابی الأمر والنهی بلا کلام(1).

السابع: إنه ربما یتوهم تارةً أن النزاع فی الجواز والإمتناع، یبتنی علی القول بتعلق الأحکام بالطبائع[1]، وأما الإمتناع علی القول بتعلقها بالأفراد فلا یکاد

الشَرح:

أقول: قد تقدم فیما سبق أنّ المطلوب بالأمر صرف وجود الطبیعی لا الطبیعی المقدور حتی یکون ما یحصل فی الخارج فرداً مقدوراً لیندرج فی الطبیعی المقدور وأنّ اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف لقبح تکلیف العاجز ولو أغمضنا عما ذکرنا وبنینا علی أنّ متعلق الأمر الطبیعی المقدور کذلک ولکن إذا بنینا فی الجهة الأولی علی الجواز فی موارد الترکیب الإنضمامی وعدم سرایة کل من الأمر والنهی من متعلقه خارجاً إلی متعلق الآخر یحکم بالاجزاء بالإتیان بالمجمع لأنّ ما فی المجمع لا یخرج عن الفرد المقدور علی تقدیر عصیان النهی فیه ولو بنحو الشرط المتأخر حتی فیما إذا لم یکن فی البین مندوحة فالحکم بالاجزاء والصحة بالإتیان بالمجمع مبنی علی الترتب لا علی وجود المندوحة، نعم فی فرض وجود المندوحة واعتبار القدرة فی التکلیف عقلاً لا یحتاج لتصحیح المجمع وکونه فرداً من الطبیعی إلی الترتب حیث إنّ الثابت فی المجمع هو الترخیص فی التطبیق فلا یتزاحم مع النهی عن الآخر.

ابتناء المسألة علی تعلّق الأحکام بالطبایع

ص :338


1- (1) أجود التقریرات 1 / 331.

[1] ذکر قدس سره هذا الأمر لبیان أنّ الخلاف فی مسألة جواز إجتماع الأمر والنهی لا یبتنی علی الخلاف فی مسألة تعلّق الأوامر والنواهی بالطبایع أو الافراد، حیث توهم بعض أنّ الخلاف فی مسألة جواز الإجتماع مبنی علی تعلّقهما بالطبایع وبناءاً علیه یبحث فی المقام أنّ تحقّق المتعلقین فی مورد وصدقهما علیه خارجاً هل یوجب امتناع تعلّق کل من الأمر والنهی علی الطبیعتین مطلقاً؟ أو أنّ تحققهما فی مورد خارجاً لا یوجب اتحاد المتعلقین لا فی مرحلة جعل الوجوب والحرمة ولا فی مرحلة فعلیّتهما، وأمّا بناءاً علی تعلّق الأوامر والنواهی بالافراد فلا مجال للخلاف فی یخفی، ضرورة لزوم تعلق الحکمین بواحد شخصی، ولو کان ذا وجهین علی هذا القول.

وأخری أن القول بالجواز مبنی علی القول بالطبائع، لتعدد متعلق الأمر والنهی ذاتاً علیه، وإن اتحد وجوداً، والقول بالإمتناع علی القول بالأفراد، لإتحاد متعلقهما شخصاً خارجاً، وکونه فرداً واحداً.

الشَرح:

امتناع الإجتماع.

وتوهّم بعض آخر بأنّ القائل بتعلّق الأوامر والنواهی بالطبایع یتعیّن علیه أن یختار جواز الإجتماع فی المقام کما أنّ علی القائل بتعلّقهما بالافراد یتعین علیه اختیار القول بالامتناع فإنّه بناءاً علیه یکون متعلق النهی مع متعلّق الأمر واحداً حیث إنّ المجمع واحد.

وقد دفع الماتن قدس سره الوهمین بأنّ تعدّد المتعلّقین عنواناً لو کان مفیداً فی جواز الإجتماع ولم یکن اتحادهما وجوداً موجباً للإمتناع لکان الموجود خارجاً _ لإضافته إلی طبیعتین _ فردین موجودین بوجود واحد، فیمکن تعلق الوجوب بأحد الفردین والحرمة بالفرد الآخر إذ المفروض أنّ اتحادهما خارجاً غیر موجب للإمتناع وأنّ اتحاد الطبیعتین وجوداً کما لا ینافی تعدّدهما عنواناً، کذلک اتحاد الفردین وجوداً لا ینافی کونهما فردین وداخلین تحت طبیعتین.

وذهب المحقّق النائینی قدس سره إلی أنّه لو کان المراد بتعلّق الأمر بالطبایع أنّ الطبایع لها تحقق خارجاً وباعتبار تحقّقها یتعلّق بها الأمر والنهی وکان المراد بتعلّق الأمر والنهی بالفرد أنّ الطبایع لا تحقق لها خارجاً بل التحقق للافراد وتکون الطبایع بتبعیة الافراد، فهذا النزاع _ أی مسألة تعلّق الأمر والنهی بالطبایع أو الافراد _ أجنبی عن

ص :339

مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی وامتناعه، بل یجری الخلاف فی جواز الإجتماع علی القولین حیث إنّ مع کون الترکیب فی المجمع انضمامیّأً یصحّ الأمر والنهی وأنت خبیر بفساد کلا التوهمین، فإن تعدد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضر معه الإتحاد بحسب الوجود والإیجاد، لکان یجدی ولو علی القول بالأفراد، فإن الموجود الخارجی الموجه بوجهین، یکون فرداً لکل من الطبیعتین، فیکون مجمعاً لفردین موجودین بوجود واحد، فکما لا یضر وحدة الوجود بتعدد الطبیعتین، لا یضر بکون المجمع اثنین بما هو مصداق وفرد لکل من الطبیعتین، وإلاّ لما کان یجدی أصلاً، حتی علی القول بالطبائع، کما لا یخفی، لوحدة الطبیعتین وجوداً واتحادهما خارجاً، فکما أن وحدة الصلاتیّة والغصبیّة فی الصلاة فی الدار المغصوبة وجوداً غیر ضائر بتعددهما وکونهما طبیعتین، کذلک وحدة ما وقع فی الخارج من خصوصیات الصلاة فیها وجوداً غیر ضائر بکونه فرداً للصلاة، فیکون مأموراً به، وفرداً للغصب فیکون منهیاً عنه، فهو علی وحدته وجوداً یکون اثنین، لکونه مصداقاً للطبیعتین، فلا تغفل.

الشَرح:

لکون المجمع _ بناءً علی القول بتعلّق الأوامر والنواهی بالطبایع _ طبیعتین موجودتین بوجودین انضمامیین، وبناءً علی تعلّقهما بالافراد، فردین انضمامیین یکون أحدهما متعلّق الوجوب والآخر متعلّق النهی.

وأمّا إذا کان المراد بتعلّق الأمر والنهی بالطبایع أنّ الخصوصیات التی تکون مع تحقّق متعلق الأمر من عوارض وجوده ولوازمه کلّها خارجة عن متعلّق الأمر وکذلک الحال فی ناحیة متعلق النهی بحیث لو فرض حصول الطبیعة بدون تلک الخصوصیّات واللوازم والعوارض تحقق متعلّق الأمر خارجاً، بخلاف القول بتعلّقهما بالافراد فإنّه علیه تکون تلک الخصوصیات من العوارض واللوازم کلّها مأخوذة فی متعلّق الأمر بحیث لو فرض حصول الطبیعة بدونها لما حصل المطلوب.

إذن فلا یمکن القول بجواز الإجتماع وتحقق الحکمین بالإضافة إلی المجمع .··· . ··· .

الشَرح:

حتی فیما کان الترکیب فیه انضمامیّاً لأنّ لازم تعلّق الوجوب به بخصوصیاته سرایته

ص :340

إلی الخصوصیة التی تکون انضمامیة وینطبق علیه أو یتعلّق بها الحرمة وعلی الجملة لا یمکن فی المجمع إلاّ ثبوت أحد الحکمین وتقع المعارضة فیه بین خطاب الأمر والنهی حتی فی مثل ما إذا توضّأ فی مکان تنصبّ فیه غسالته وهو ملک الغیر(1).

أقول: لا أظنّ أنّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد أن یدعی دخول ملازم الشیء _ الذی له وجود فی الخارج غیر وجود الشیء المزبور _ أو لازمه أو ملزومه فی متعلّق الأمر بذلک الشیء بل غایة مدّعاه دخول عوارض الشیء الذی یقوم بالشیء فی متعلّق الأمر به وعلیه فلا مجال لسرایة الأمر من ذلک الشیء خارجاً إلی متعلّق النهی، نعم یمکن أن یلتزم بأنّ المتلازمین أو اللازم والملزوم لا یمکن أن یختلفا فی الحکم کما صرّح بذلک بعضهم ومع الإلتزام بذلک لا یمکن القول بالجواز فی مسألة الإجتماع فإنّ مقتضی القول بالجواز اختلاف الحکمین فی مورد الإجتماع ولو مع کون الترکیب فیه انضمامیاً.

وعلی الجملة فیمکن ابتناء الجواز والإمتناع فی مسألة الإجتماع فی موارد الترکیب الإنضمامی علی جواز اختلاف المتلازمین أو اللازم والملزوم فی الحکم وعدم جوازه فإنّه بناءاً علی عدم جواز الإختلاف لا یدخل ما فی المجمع فی اطلاق المأمور به حیث إنّ مقتضی دخوله فیه، الترخیص فی تطبیقه علیه وهو لا یجتمع مع حرمة ملازمه أو الملزوم أو اللازم خصوصاً إذا قیل بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید ثبوتاً تقابل العدم والملکة وإذا لم یمکن تقیید متعلّق الأمر بما فی المجمع بأن یأمر به .··· . ··· .

الشَرح:

مع حرمة ملازمه أو ملزومه أو لازمه فلا یکون لمتعلق الأمر إطلاق بالإضافة إلیه.

وهذا القول وإن کان فاسداً لما تقدم أنّ النهی عما ذکر لا یمنع عن الترخیص فی التطبیق بل الأمر بما فی المجمع علی نحو الترتّب، إلاّ أنّ فساده لا یمنع عن الالتزام بعدم صحة الترتب وعدم امکان اختلاف المتلازمین فی الحکم کما تقدم عن الماتن قدس سره فی بحث الضد.

وممّا ذکرنا یظهر أنّه لا یمکن الإلتزام بدخول المجمع فی إطلاق متعلّق الأمر

ص :341


1- (1) أجود التقریرات 1 / 343.

مع النهی عنه فی مورد الترکیب الإتّحادی ولا یمکن للشارع الترخیص فی تطبیق متعلّق الأمر علیه أو الأمر به حتی بنحو الترتب فإنّ مفاد الأمر بالوضوء مثلاً هو طلب وجود الوضوء لا طلب نیة الوضوء علی تقدیر تحقق غسل الوجه والیدین بأن یکون تحقق غسلها شرطاً فی طلب نیّة الوضوء مع غسلها کما لا یخفی.

بقی فی المقام أمر وهو أنّ ظاهر کلام الماتن قدس سره فی هذا الأمر أنّ محلّ الخلاف فی مسألة جواز الإجتماع هو الترکیب الإتحادی فی المجمع حیث قال قدس سره : «فإنّ تعدّد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضرّ معه الإتحاد بحسب الوجود والإیجاد، لکان یجدی ولو علی القول» بتعلّق الأمر «بالافراد فإنّ الموجود الخارجی الموجّه بوجهین یکون فرداً لکل من الطبیعتین فیکون مجمعاً للفردین موجودین بوجود واحد»(1).

ولکن قد تقدم منّا عموم الخلاف وجریان النزاع فی موارد الترکیب الإتحادی والإنضمامی کما یظهر ذلک من التفریعات المذکورة علی مسألة جواز الإجتماع وعدمه فلاحظ وتدبّر.

الثامن: إنه لا یکاد یکون من باب الاجتماع، إلاّ إذا کان فی کل واحد من متعلقی الإیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقاً[1]، حتی فی مورد التصادق والإجتماع، کی یحکم علی الجواز بکونه فعلاً محکوماً بالحکمین وعلی الإمتناع بکونه محکوماً بأقوی المناطین، أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوی، کما یأتی تفصیله.

الشَرح:

اعتبار اشتمال المجمع علی الملاکین

[1] وحاصله أنّ الخلاف فی مسألة جواز الإجتماع یختص بمورد اجتمع فیه ملاک کل من الحکمین لیکون علی الجواز موجباً لثبوت کلا الحکمین فی المجمع، کما أنّه علی الإمتناع یثبت فی المجمع من الحکمین ما یکون ملاکه أقوی من ملاک الآخر ومع عدم أقوائیة أحدهما علی الآخر یثبت فی المجمع حکم آخر غیرهما کما یأتی بیانه عند تعرّضه قدس سره لذلک وأمّا إذا لم یکن للمتعلقین ملاک فی المجمع فلا یکون المجمع من باب الإجتماع بل یتعیّن فیه أحد الحکمین إذا کان فیه ملاکه أو

ص :342


1- (1) الکفایة: 154.

حکم آخر غیرهما إذا لم یکن فیه ملاک شیء منهما بلا فرق بین القائل بجواز الإجتماع وبین القائل بعدم جوازه هذا بلحاظ جعل الحکم للمجمع فی مقام الثبوت فالمراد منه تعیین مورد الخلاف فی جواز الإجتماع مع قطع النظر عن الخطابین الدالین علی الحکمین، والمراد من مقام الإثبات تعیین أنّ أی الخطابین یجری فی مدلولهما جواز الإجتماع وأنّ أی الخطابین من المتعارضین یجری علیهما حکم المتعارضین، فیکون البحث عن الخطابین المتضمّن أحدهما وجوب ما ینطبق علی المجمع ومدلول الآخر حرمة ما ینطبق علی المجمع أیضاً، فمع احراز عدم ثبوت ملاک أحد الحکمین فی المجمع یدخل الخطابان فی المتعارضین بالإضافة إلیه فلابدّ من ترجیح أحد المتعارضین فیه أو التخییر بلا فرق بین القول بجواز الإجتماع وأما إذا لم یکن للمتعلقین مناط کذلک، فلا یکون من هذا الباب، ولا یکون مورد الإجتماع محکوماً إلاّ بحکم واحد منهما، إذا کان له مناطه، أو حکم آخر غیرهما، فیما لم یکن لواحد منهما، قیل بالجواز والإمتناع، هذا بحسب مقام الثبوت.

الشَرح:

وعدمه، ومع عدم إحراز فقد الملاکین والقول بعدم جواز الإجتماع یکون الحکمان فی المجمع من المتزاحمین فی الملاک فیؤخذ فیه بالأقوی ملاکاً حتی فیما کان خطابه بالإضافة إلی خطاب الحکم الآخر أضعف کما إذا کانت دلالته علی ما هو أقوی ملاکاً بالمفهوم ودلالة الآخر بالمنطوق، هذا مع کون مدلول کل من الخطابین حکماً إقتضائیاً وإلاّ فمع دلالة کل منهما علی الحکم الفعلی فی المجمع وعدم امکان حمل أحدهما علی الإقتضائی فی مقام الجمع بقرینة قوة ملاک حکمه یکون الخطابان من المتعارضین فیعمل فیهما بمرجحات باب التعارض وبتقدیم أحدهما برجحانه یستکشف قوة ملاکه.

أقول: ما ذکره قدس سره فی هذا الأمر وفی الأمر الآتی لا یرجع إلی أمر محصّل معقول، فإنّه لا سبیل لنا إلی کشف الملاکات وکشف قوّة أحد الملاکین الموجودین فی فعل خارجاً إلاّ شمول الإطلاقات له بالعموم والإطلاق وامکان الأخذ بهما فیه وعلیه فإن کان الترکیب فی المجمع اتحادیّاً وورد الأمر فی أحد الخطابین بفعل والنهی فی الخطاب الآخر عن فعل ولم یکن العموم من وجه فی نفس متعلقی الوجوب والحرمة بل تلک النسبة حدثت بینهما من ناحیة الموضوع لکل من الأمر

ص :343

والنهی کما فی قوله «أکرم عالماً» وورد فی خطاب آخر «لا تکرم الفاسق» کان خطاب النهی مع خطاب الأمر من المتعارضین بالإضافة إلی المجمع یعمل فیه بقواعد المتعارضین إن لم یکن أحد الخطابین قرینة عرفیة علی المراد من الخطاب الآخر ولا یمکن فی المجمع جعل حکمین سواء کان فیه ملاکان أو لم یکن فیه ملاک اصلاً وأما بحسب مقام الدلالة والإثبات، فالروایتان الدالتان علی الحکمین متعارضتان، إذا أحرز أن المناط من قبیل الثانی، فلا بد من حمل المعارضة حینئذ بینهما من الترجیح والتخییر، وإلاّ فلا تعارض فی البین، بل کان من باب التزاحم بین المقتضیین، فربما کان الترجیح مع ما هو أضعف دلیلاً، لکونه أقوی مناطاً، الشَرح:

فإنّ إکرام العالم الفاسق لا یتحمل حکمین الترخیص والتحریم أو الأمر والنهی لا بنحو العرضیة فی کلا الحکمین ولا بنحو الطولیّة والترتب والمعیار فی التعارض بین الخطابین ولو بالإضافة إلی مورد اجتماعهما العلم بعدم جعل الحکمین فیه ولو کان منشأ العلم عدم إمکان جعلها.

وأمّا إذا کان الترکیب بین الفعلین اتحادیّاً والنسبة بین نفس عنوانی الفعلین عموماً من وجه فالأمر وإن کان کما سبق فی الفرض السابق من کون الخطابین بالإضافة إلی المجمع متعارضین فلابدّ من رفع الید عن الإطلاق فی أحد الخطابین المعین لو کان الخطاب الآخر قرینة عرفیة علی تعیین المراد إلاّ أنّه قد یتوهم فی الفرض جواز الإجتماع والأخذ بالإطلاق فی کل من الخطابین بالإضافة إلی المجمع حیث إنّ ایجاد متعلّق الأمر فی المجمع، زاید علی ایجاد الحرام فیه فیمکن أن یتصرف فی ملک الغیر بالسجود فیه ولا یصلّی أو یغسل وجهه ویدیه بالماء المغصوب ولا یقصد الوضوء فیکون متعلّق الأمر غیر متعلّق النهی حتی فی المجمع بل توهّم أنّه لو لم یعمّ المجمع خطاب الأمر والنهی بنحو العرضیة فیمکن شمول خطاب الأمر له بنحو الطولیة والترتب.

والقائل بامتناع الإجتماع فی موارد الترکیب الإتحادی یلتزم بتعارض الخطابین فی مورد الإجتماع فإن کان بین الخطابین جمع عرفی وقرینة علی رفع الید من أحد الخطابین فی المجمع فهو وإلاّ یجری علیهما حکم التعارض علی نحو التکافوء.

فلا مجال حینئذ لملاحظة مرجحات الروایات أصلاً، بل لا بد من مرجحات

ص :344

المقتضیات المتزاحمات، کما یأتی الإشارة إلیها.

نعم لو کان کل منهما متکفلاً للحکم الفعلی، لوقع بینهما التعارض، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، لو لم یوفق بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الإقتضائی بملاحظة مرجحات باب المزاحمة، فتفطن.

الشَرح:

وأمّا فی موارد الترکیب الإنضمامی حیث إنّ متعلّق الأمر خارجاً فی المجمع غیر متعلّق النهی فیه فالتحفظ علی کلا الإطلاقین مع وجود المندوحة ممکن فلیس بین الخطابین تعارض ولا بین الحکمین تزاحم علی ما تقدم وإذا لم تکن فی البین مندوحة یکون کل من الأمر والنهی بالإضافة إلی فاقد المندوحة من المتزاحمین ولا تصل النوبة إلی ملاحظة مرجحات التعارض أصلاً، هذا بناءاً علی جواز الإجتماع فی موارد الترکیب الإنضمامی وامّا بناءاً علی القول بالإمتناع فیه کما تقدم وجهه فی التعلیقة السابقة یجری علی موارد الترکیب الإنضمامی ما جری علی موارد الترکیب الإتحادی من رفع الید عن اطلاق أحد الخطابین لو کان اجتماعهما قرینة عرفیة علی التصرف فی أحدهما المعیّن وإلاّ یرجع إلی ما ذکر للمتعارضین المتکافئین.

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ مجرّد اجتماع ملاک الحکمین فی المجمع لا یوجب دخوله فی مسألة جواز الإجتماع بل یعتبر فیه أن لا یکون اطلاق متعلّق الأمر والترخیص فی التطبیق فیه أمراً مستحیلاً أی لغواً کما ذکرنا فی موارد الترکیب الإتحادی مع سرایة العموم من وجه إلی متعلق الوجوب والحرمة من ناحیة الموضوع لهما هذا بالإضافة إلی ما ذکره قدس سره فی مقام الثبوت وامّا ما ذکره قدس سره بالإضافة إلی المقام الإثبات ودلالة الخطابین فنذکر ما فیه فی ذیل التعلیقة علی الأمر التاسع.

ص :345

التاسع: إنه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب، أن یکون کل واحد من الطبیعة المأمور بها والمنهی عنها، مشتملة علی مناط الحکم مطلقاً[1]، حتی فی حال الاجتماع، فلو کان هناک ما دلّ علی ذلک من اجماع أو غیره فلا إشکال، ولو لم یکن إلاّ اطلاق دلیلی الحکمین، ففیه تفصیل وهو:

الشَرح:

اعتبار اشتمال متعلّق الحکمین علی المناط مطلقاً

[1] ذکر قدس سره فی هذا الأمر أنّه بعد الفراغ عمّا علم فی الأمر الثامن أنّ مورد الخلاف والنزاع فی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی ما إذا کان المجمع لعنوانی متعلّق الأمر والنهی مشتملاً علی ملاک کل من الطبیعة المأمور بها والطبیعة المنهی عنهما.

فإن علم ثبوت هذا الملاک فیه من غیر ناحیة خطابی التکلیفین من إجماع أو غیره فذلک المورد من موارد الخلاف فی مسألة جواز الإجتماع بلا إشکال وامّا إذا لم یعلم ذلک من ناحیة غیر الخطابین وأرید استفادته من نفس الخطابین ففی استفادته منهما تفصیل وهو أنّه قد یکون الإطلاق _ فی کل من الخطابین الشامل لمورد الإجتماع _ فی مقام بیان الحکم الإقتضائی بمعنی أنّ خطاب الأمر بفعل بعنوانه فی مقام بیان کل ما انطبق علیه عنوان المأمور به کاشف عن وجود الملاک فیه، وخطاب النهی مفاد إطلاقه، أنّ کل مورد انطبق علیه عنوان المنهی عنه فهو واجد لملاک الحرمة فیکون مورد اجتماعهما داخلاً فی موارد الخلاف فی جواز اجتماع الأمر والنهی وقد یکون مفاد إطلاق الخطابین ثبوت نفس الحکم الفعلی فی مورد انطباق العنوان المأمور به وانطباق العنوان المنهی عنه فمورد انطباقهما یکون من موارد اجتماع الأمر والنهی بناءاً علی القول بالجواز لاستکشاف ثبوت المقتضی لکل منهما علی القول المزبور إلاّ إذا علم خارجاً بکذب أحد الخطابین وأنّه لیس فی إن الإطلاق لو کان فی بیان الحکم الإقتضائی، لکان دلیلاً علی ثبوت المقتضی والمناط فی مورد الإجتماع، فیکون من هذا الباب، ولو کان بصدد الحکم الفعلی، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین علی القول بالجواز، إلاّ إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین، فیعامل معهما معاملة الشَرح:

ص :346

المجمع ملاک کل منهما فیعامل معهما معاملة المتعارضین.

وأمّا بناءاً علی القول بالإمتناع فالخطابان الوارد اطلاق کل منهما فی بیان الحکم الفعلی، متنافیان بالإضافة إلی المجمع لا یثبتان فیه معاً ولا یدلّ شیء منهما علی ثبوت ملاک الحکم فی المجمع لأنّ انتفاء أحدهما فیه کما یکون بثبوت مقتضیه مع وجود مانعه کذلک یمکن أن لا یکون له فی المجمع مقتض اصلاً إلاّ أن یجمع بین الخطابین بأن یکون اجتماعهما قرینة علی أنّ المراد من کل منهما، الحکم الإقتضائی فیحملان علیه وهذا فیما إذا لم یکن أحدهما أظهر من الآخر وإلاّ یحمل الظاهر منهما علی الحکم الإقتضائی ویلتزم بأنّ الحکم الفعلی هو مفاد الأظهر.

فتلخّص ممّا ذکر أنّه کلّما کان فی البین دلالة علی ثبوت المقتضی لکلا الحکمین أو لأحدهما فی المجمع، کان المورد من مسألة الإجتماع بلا فرق بین استفادة ذلک من غیر الخطابین أو من الخطابین الوارد کل منهما لبیان الحکم الإقتضائی وأمّا إذا کان مدلول کلّ من الخطابین هو الحکم الفعلی لا الإقتضائی فهما من المتعارضین حتی علی القول بالجواز فی مسألة الإجتماع إذا علم بکذب أحدهما بلا تعیین بمعنی عدم ثبوت الملاک لأحد الحکمین ولو فی المجمع وأمّا مع عدم العلم بذلک فهما متعارضان فی المجمع بناءاً علی القول بالإمتناع.

أقول: الخطابات الواردة فی بیان الأحکام والتکالیف مفادها ثبوت الحکم وفعلیّته فی موارد فعلیة موضوعه، وأمّا أنّ نفس الحکم غیر ثابت فی جمیع الموارد المتعارضین. وأما علی القول بالإمتناع فالإطلاقان متنافیان، من غیر دلالة علی ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الإجتماع أصلاً، فإن انتفاء أحد المتنافیین، کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له، یمکن أن یکون لأجل انتفائه، إلاّ أن یقال: إن قضیة التوفیق بینهما، هو حمل کل منهما علی الحکم الإقتضائی، لو لم یکن أحدهما أظهر، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما.

فتلخص أنه کلما کانت هناک دلالة علی ثبوت المقتضی فی الحکمین، کان من مسألة الإجتماع، وکلما لم تکن هناک دلالة علیه، فهو من باب التعارض مطلقاً، إذا کانت هناک دلالة علی انتفائه فی أحدهما بلا تعیین ولو علی الجواز، وإلاّ فعلی الإمتناع.

الشَرح:

ص :347

والثابت ملاکه، فلیس فی الخطابات ما یکون إطلاقه وارداً فی بیان ذلک، وما یظهر من کلامه قدس سره فی مقام بیان الحکم الإقتضائی هو بیان الملاک والذی نلتزم به ونحمل بعض الخطابات الشرعیة علیه فی مقام الجمع بین الخطابین هو أنّ الحکم الذی یتکفّل الخطاب لبیانه ثابت فی مورد ثبوت موضوعه ما لم یطرء علیه عنوان آخر ثبت له الحکم المخالف فیکون طریانه موجباً لثبوت الحکم المخالف والحکم الإقتضائی بهذا المعنی لا یکشف عن ثبوت ملاکه فی مورد طریان العنوان الآخر المحکوم بحکم آخر حیث إنّ ثبوت الحکم الثانی فیه وارتفاع الأوّل یمکن أن یکون بانحلال ملاک الحکم الأوّل نظیر طریان عنوان نجاة المؤمن علی الکذب حیث لا یکون فی الکذب المزبور فساد.

وبالجملة الحکم بأنّ الخطابین من المتعارضین لا یتوقف علی احراز فقد ملاک أحد الحکمین بل یتوقف علی العلم بعدم ثبوت کلا الحکمین ولو کان منشأ هذا العلم عدم جواز اجتماع الحکمین کما ذکرنا فی موارد الترکیب الإتحادی بین متعلقی العاشر: إنه لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الإمتثال[1] بإتیان المجمع بداعی الأمر علی الجواز مطلقاً، ولو فی العبادات، وإن کان معصیة للنهی أیضاً، وکذا الحال علی الإمتناع مع ترجیح جانب الأمر، إلاّ أنه لا معصیة علیه، وأما علیه وترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر به مطلقاً فی غیر العبادات، لحصول الغرض الموجب له، وأما فیها فلا، مع الإلتفات إلی الحرمة أو بدونه تقصیراً، فإنه وإن کان متمکناً __ مع عدم الإلتفات __ من قصد القربة، وقد قصدها، إلاّ أنه مع التقصیر لا یصلح لأن یتقرب به أصلاً، فلا یقع مقرباً، وبدونه لا یکاد یحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة، کما لا یخفی. وأما إذا لم یلتفت إلیها قصوراً،

الشَرح:

الأمر والنهی فی المجمع.

أضف إلی ذلک أنّ البحث فی جواز الإجتماع جار علی مذهب الأشعری المنکر لثبوت المقتضی للأحکام ولا یتم البحث علی ذلک المذهب أیضاً إلاّ علی النحو الذی ذکرناه.

ثمرة القول بالجواز والامتناع

[1] یمکن أن یقال إنّه قدس سره تعرض فی هذا الأمر للثمرة بین القول بجواز اجتماع

ص :348

الأمر والنهی والقول بعدم جوازه وحاصل ما ذکره أنّه بناءاً علی جواز اجتماع الأمر والنهی یکون الإتیان بالمجمع موجباً لسقوط الأمر وامتثالاً حتی فی العبادات فیما أتی به بداعی الأمر وأمّا علی القول بالإمتناع یکون الأمر کذلک فی موارد تقدیم الأمر علی جانب النهی فی المجمع.

والفرق بین القولین علی تقدیر تقدیم جانب الأمر أنّ الإتیان بالمجمع لا یکون معصیة علی الامتناع مع وتقدیم جانب الأمر بخلاف القول بجواز الإجتماع فانّ الإتیان بالمجمع مع کونه امتثالاً للأمر یکون معصیة أیضاً بالإضافة إلی النهی.

وقد قصد القربة بإتیانه، فالأمر یسقط، لقصد التقرب بما یصلح أن یتقرب به، لإشتماله علی المصلحة، مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً، فیحصل به الغرض من الأمر، فیسقط به قطعاً، وإن لم یکن امتثالاً له بناءً علی تبعیة الأحکام لما هو الأقوی من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محله.

مع أنه یمکن أن یقال بحصول الإمتثال مع ذلک، فإن العقل لا یری تفاوتاً بینه

الشَرح:

وأمّا بناءً علی الإمتناع وتقدیم جانب النهی یکون الإتیان بالمجمع موجباً لسقوط الأمر فی التوصلیات لاشتمال المجمع علی ملاک المأمور به علی ما تقدم وأمّا فی العبادات فلا یحکم بسقوط الأمر بالإتیان بالمجمع مع تنجّز الحرمة، کما فی صورة العلم بها أو الجهل بها تقصیراً فإنّ مع علم المکلف بعدم الأمر بالمجمع بل النهی عنه لا یمکن أن یتقرّب بالإتیان به، وفی صورة جهله تقصیراً وإن کان یمکن أن یقصد التقرب بالإتیان به ولکن بما أنّ المجموع یصدر عنه مبغوضاً لعدم کون جهله عذراً، لا یحصل التقرب المعتبر والغرض الموجب للأمر بالعبادة.

نعم إذا لم یکن حرمة المجمع منجّزة فی حقّه لغفلته وجهله بها قصوراً وقصد بالإتیان به التقرب، فالأمر بالعبادة یسقط لقصد التقرب بفعل صالح للتقرب مع عدم صدوره عنه مبغوضاً بل یصدر عنه حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً مع اشتماله علی المصلحة.

والفرق بین القول بالجواز والقول بامتناع الإجتماع مع تقدیم جانب الحرمة عند کون المکلف معذوراً هو أنّ الإتیان بالمجمع امتثال للأمر بالطبیعی علی القول

ص :349

بالجواز ولم تصدر عن المکلف معصیة لفرض جهله بها قصوراً، بخلاف القول بامتناع الإجتماع فالإتیان بالمجمع وإن لم یکن معصیة لفرض الجهل بحرمته قصوراً وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض الطبیعة المأمور بها، وإن لم تعمه بما هی مأمور بها، لکنه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.

ومن هنا انقدح أنه یجزی، ولو قیل باعتبار قصد الإمتثال فی صحة العبادة، وعدم کفایة الإتیان بمجرد المحبوبیة، کما یکون کذلک فی ضد الواجب، حیث لا یکون هناک أمر یقصد أصلاً.

وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً، یکون الإتیان

الشَرح:

إلاّ أنّ الإتیان المزبور لا یکون امتثالاً للأمر بالطبیعی وان کان مسقطاً للأمر به، لأنّ الإمتثال عبارة عن الإتیان بما یدخل فی متعلق الأمر بما هو متعلق الأمر والمجمع بناءاً علی الإمتناع وتقدیم جانب النهی لا یدخل فی متعلق الأمر بالطبیعی حیث إنّ النهی الواقعی عن المجمع قد قیّد متعلق الأمر بالطبیعی بغیر المجمع، وخروج المجمع عن متعلّق الأمر مبنی علی تبعیة الأحکام الواقعیة لما هو الأقوی من جهات المصالح والمفاسد فإنّه علی ذلک یکون تعلق النهی واقعاً بالمجمع موجباً لتقید متعلّق الأمر بغیره، بخلاف ما لو قیل بتبعیة الأحکام لما هو المؤثّر فعلاً للحسن والقبح لأنّ الحسن والقبح تابعین للمعلوم من المصالح والمفاسد علی ما حقّق فی محلّه.

وبالجملة اشتمال المجمع علی المصلحة وعدم صدوره عن القاصر قبیحاً _ لجهله بحرمته قصوراً _ بل صدوره عنه حسناً یوجب التقرب وسقوط الأمر بالطبیعی لتدارک ملاکه ولو سلّم أنّ الإتیان بمجرد المحبوبیة والملاک غیر کاف فی قصد التقرب بل لابدّ فی قصد التقرب من الإتیان بداعویة الأمر لأمکن أن یقال إنّ الجاهل القاصر یأتی بالمجمع بداعویة الأمر بالطبیعی فقصد الإمتثال حاصل غایة الأمر الطبیعی بلحاظ تعلّق الأمر به لا یعمّ المجمع والعقل لا یری تفاوتاً بین المجمع وسائر الافراد فی الوفاء بالغرض، وعدم عموم الطبیعی _ من جهة الأمر _ للمجمع إنّما بالمجمع امتثالاً، وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة، غایة الأمر أنه لا یکون مما تسعه بما هی مأمور بها، لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیة، وأما لو قیل بعدم التزاحم إلاّ فی مقام فعلیة الأحکام، لکان مما تسعه وامتثالاً لأمرها بلا کلام.

ص :350

الشَرح:

هو بلحاظ المانع لا لفقد المقتضی، وعدم العموم کذلک بناءاً علی القول بتزاحم جهات المصالح والمفاسد عند جعل الأحکام الواقعیة فمعناه لا یمکن جعل غیر الحرمة لفعل یکون فساده الواقعی أقوی من مصلحته وامّا إذا قیل بعدم التزاحم فی الجهات إلاّ فی مقام فعلیّة الأحکام فمعناه إمکان جعل الوجوب لذی مصلحة فیما لم یکن فساده موجباً للقبح فیدخل المجمع فی الطبیعی المأمور به بما هو مأمور به کما لا یخفی. وقد تحصّل من جمیع ما ذکر الفرق بین ما کان دلیل الحرمة مع دلیل الوجوب متعارضین وقدّم دلیل الحرمة علی الروایة الدالة علی الوجوب تخییراً أو ترجیحاً حیث لا یکون معه مجال لصحة الفعل، بلا فرق بین صورتی العلم والجهل وبین ما کان الخطابان من باب الإجتماع وقدّم جانب الحرمة مع القول بامتناع الإجتماع، حیث یحکم بصحة المجمع فی موارد الجهل قصوراً أو النسیان کذلک إمّا لوفاء المجمع بالغرض أو لموافقة الأمر ویکون الثواب علی الإتیان به من الثواب علی الإطاعة لا الثواب علی الإنقیاد، ولذا حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل مع الجهل بالحکم قصوراً مع أنّ جلّهم لولا کلّهم قائلون بامتناع الإجتماع وتقدیم جانب الحرمة ویحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر.

أقول: قد تقدم أنّه بناءاً علی امتناع الإجتماع وتقدیم جانب الحرمة لا یمکن احراز ملاک الواجب فی المجمع بلا فرق بین العبادات وغیرها فیحکم ببطلان الصلاة فی الدار المغصوبة أو نحوها ممّا یتّحد عنوان الحرام مع العبادة وجوداً، کما وقد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلا الحرمة والوجوب متعارضین، وقدم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً، حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً، وبین ما إذا کانا من باب الإجتماع.

وقیل بالإمتناع، وتقدیم جانب الحرمة، حیث یقع صحیحاً فی غیر مورد من

الشَرح:

هو مقتضی تقیید متعلّق الأمر بغیر المجمع.

نعم لو فرض سقوط التحریم عن المجمع واقعاً کما فی صورة الإضطرار والغفلة والنسیان عن حرمته فلا مانع عن الأخذ باطلاق الأمر بالطبیعی فی إحراز الترخیص

ص :351

فی التطبیق وکشف الملاک ویجری ذلک فی التوصلیات أیضاً فلا یحکم بسقوط الأمر فیها بمجرد الإتیان بالمجمع مع تقدیم جانب النهی.

ویلزم علی الماتن قدس سره أن یفتی بسقوط التکلیف بدفن المیت عن سائر المکلفین بمجرّد دفن أحد المکلفین، المیت فی أرض مغصوبة، وذلک لاشتمال الدفن المزبور علی ملاک الدفن فی ملک مباح، ومعه لا تکلیف علی الآخرین نعم علی الدافن نبش القبر لأنّ بقاء المیت فی ذلک المکان تصرف فی ملک الغیر بلا رضا مالکه، وهذا بخلاف سائر الناس فإنّه لا یجب علیهم الدفن إلاّ بعد نبش القبر.

وبالجملة تقدیم خطاب النهی فی مورد الإجتماع مقتضاه تقیید متعلق الأمر بغیر ذلک المجمع بلا فرق بین التوصلیات والتعبدیّات لأنّ النهی إذا تعلق عنوان انحلالی _ فمع الأمر بفعل بالعنوان الذی یتّحد فی بعض أجزائه أو قیوده من بعض المصادیق مع الفرد المنهی عنه _ لا یجتمع مع الترخیص فی تطبیق متعلق الأمر علی ذلک المصداق لا بنحو الإطلاق ولا بنحو الترتب، ومعه لا یمکن کشف ملاک متعلّق الأمر فی ذلک المجمع فیحکم بفساد ذلک المجمع وعدم اکتفائه فی سقوط الأمر بالفعل، إلاّ إذا سقط النهی عنه کما فی موارد الإضطرار والغفلة والنسیان أو قام دلیل موارد الجهل والنسیان، لموافقته للغرض بل للأمر، ومن هنا علم أن الثواب علیه من قبیل الثواب علی الإطاعة، لا الإنقیاد ومجرد اعتقاد الموافقة.

وقد ظهر بما ذکرناه، وجه حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة، مع النسیان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحکم إذا کان عن قصور، مع أن الجُلّ لولا الکُلّ قائلون بالامتناع وتقدیم الحرمة، ویحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر، فلتکن من ذلک علی ذکر.

الشَرح:

علی حصول الملاک وإجزاء المأتی به مع النهی الواقعی لمعذوریة المکلف کحدیث لا تعاد، حیث قلنا بأنّه لا بأس بشموله لموارد الجهل بالشبهة الموضوعیة بکون الساتر ملک الغیر لا یرضی بالتصرف فیه، أو کون مکان المصلی کذلک، ومع عدم قیام الدلیل علیه لا یحکم بالاجزاء لعدم دخول المجمع مع النهی الواقعی، فی متعلّق الأمر ولعدم کونه مشتملاً علی ملاکه.

والفرق بین التعارض فی المقام والتعارض فی سائر المقامات التی تکون

ص :352

النسبة بین الخطابین عموماً من وجه هو أنّ عدم ثبوت الحکمین للمجمع لعدم امکان اجتماعهما بمثابة من الوضوح لدوران أمر الحکم فی المجمع بین الثبوت والنفی کما فی موارد انطباق متعلّق النهی علی تمام متعلق الأمر فی المجمع کما فی قوله «أکرم العالم ولا تکرم الفاسق» أو «أکرم عالماً ولا تکرم الفاسق»، وفی سائر المقامات لیس عدم ثبوتهما فیه بذلک الوضوح کما إذا لم ینطبق تمام متعلق الأمر إلاّ علی ما یدخل فیه متعلق النهی جزءاً أو قیداً بحیث یتوهّم عدم المنافاة بین الترخیص فی التطبیق والنهی عمّا یدخل بعضاً فی متعلق الأمر جزءاً أو قیداً، هذا کلّه فی موارد الترکیب الإتحادی.

وأمّا فی موارد الترکیب الإنضمامی فقد ذکرنا أنّه مع المندوحه لا تزاحم بین .··· . ··· .

الشَرح:

الأمر بفعل والنهی عن فعل آخر بحیث یستلزم بعض مصادیق المأمور به للفعل المنهی عنه أو یتوقف علیه ولا بأس بالتحفظ فیه علی الترخیص، کما أنّ مع عدم المندوحة یمکن الأمر به علی نحو الترتّب وعلی کلّ من التقدیرین یحکم بصحة الإتیان بالمجمع حتی عبادة ویلتزم بسقوط الأمر معها.

وناقش المحقق النائینی قدس سره فی صحة الإتیان بالمجمع بنحو العبادة مع المندوحة وعدمها مع التزامه بجواز الإجتماع فی موارد الترکیب الإنضمامی وعدم سرایة الأمر إلی متعلّق النهی ولا سرایة النهی إلی متعلّق الأمر ووجه المناقشة وقوع المزاحمة بین الواجب والحرام فی مقام الإمتثال وذلک لوحدة الإیجاد بحیث لا یمکن الإشارة إلی الواجب خارجاً وتعیینه عن الحرام لاختلاطهما وامتزاح أحدهما بالآخر فیوجب ذلک کون الجامع بین الفعلین وموجدهما مرتکباً للقبیح ومع القبح الفاعلی لا یصحّ کون الفعل مقرّباً.

أقول: إذا کان للمجمع وجودین کما هو مقتضی کون الترکیب انضمامیاً یکون المجمع اثنین حتی ایجاداً لأنّ الإیجاد عین الوجود واختلافهما بالاعتبار حیث یضاف الشیء فی حصوله إلی فاعله فیکون حصوله ایجاداً، أو إلی نفس ذلک الشیء فیکون وجوداً وعلی ما مرّ من عدم سرایة أحد الحکمین من متعلّقه إلی متعلّق الآخر مع الترکیب الإنضمامی وکون القدرة المعتبرة شرطاً للتکلیف من غیر أن یقتضی

ص :353

التکلیف تعلقه بالطبیعی المقدور فی کل من حصصه یکون انطباق متعلّق التکلیف علی المأتی به انطباق الکلی علی فرده ولا معنی للصحة إلاّ الإتیان بمتعلق الأمر بداعویة ذلک الأمر.

إذا عرفت هذه الأمور، فالحق هو القول بالامتناع، کما ذهب إلیه المشهور، وتحقیقه علی وجه یتضح به فساد ما قیل، أو یمکن أن یقال، من وجوه الإستدلال لسائر الأقوال، یتوقف علی تمهید مقدمات:

إحداها: إنه لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادة فی مقام فعلیتها[1]،

الشَرح:

تضاد الأحکام

[1] ذکر قدس سره لإثبات إمتناع الإجتماع فی واحد معنون بعنوانین، مقدمات أربع:

المقدمة الأولی: أنّ الأحکام لا یکون بینها تضاد فی مقام الإنشاء فیمکن إنشاء حکم متعلق بفعل وانشاء حکم آخر بنفس ذلک الفعل وانّما یتحقق التضاد بین الأحکام فی مرتبة فعلیّتها فلا یمکن أن یتعلّق بفعل واحد حکمان فعلیّان لا لأجل أنّ تعلّقهما به من التکلیف بالمحال القبیح علی الحکیم بل لأنّ تعلّقهما به من التکلیف المحال، ألا تری أنّ المنع عن فعل والترخیص فیه ممتنع مع تمکّن المکلف من الجمع بین مقتضاهما باختیار ترکه حیث یکون آخذاً بمقتضی الحرمة والإباحة معاً ووجه الإمتناع انّ التحریم الفعلی یکون بارادة الزجر عنه ومع الترخیص الفعلی لا تتحقق ارادة الزجر ولذا یمتنع ذلک حتی عند الأشعری القائل بجواز التکلیف بما لا یطاق.

أقول: قد تقدّم منه قدس سره أنّ الحکم الواقعی فی جعله تابع للصلاح والفساد فی متعلّقه، فلو کان فی متعلّقه فساد غالب کیف یمکن جعل الحرمة والوجوب له معاً ولو بعنوانین، والإلتزام بعدم التنافی بینهما إلاّ فی مقام الفعلیة والوصول إلی مرتبة البعث والزجر، وقد ذکرنا أنّه لا معنی لفعلیّة الحکم إلاّ تحقق موضوعه خارجاً ویکون الحکم فعلیاً بتبع فعلیة موضوعه وإذا لم یکن بین الحکمین بحسب جعلهما تناف فکیف یتحقق التنافی فی فعلیتهما. والحاصل التنافی بین الجعلین یکون .··· . ··· .

الشَرح:

ص :354

بحسب المبدء والغرض من جعلهما ویلاحظ کل منهما فی مقام الجعل، وأمّا جعل الوجوب بفعل _ أی انشائه _ من غیر ملاحظة الملاک وترتّب إمکان الإنبعاث علیه، فلا یدخل فی التکلیف ودعوی أنّ فعلیة کل حکم انشائی یکون بارادة المولی متعلّقه فقد ذکرنا فی بحث الطلب والإرادة أنّ إرادة المولی تتعلّق بفعل نفسه لا بفعل العبد ولذا تکون إباحة الفعل فعلیة مع عدم تعلق ارادة المولی فی مواردها لا بفعل العبد ولا بترکه.

وذکر المحقق الإصفهانی قدس سره : فی ذیل کلام الماتن قدس سره فی هذا الأمر ما حاصله أنّ مسألة تضاد الأحکام وإن کان أمراً مشهوراً ولکنّه لا أصل له لما تقرّر فی محلّه أنّ التضاد والتماثل من الحالات الخارجیة للأمور العینیة ولیس الحکم بالإضافة إلی متعلّقه من الأمور العینیّة بلا فرق بین کون المراد من الحکم هو الإعتباری أی البعث والزجر الإعتباریان العقلائیان أو الإرادة _ یعنی الشوق _ والکراهة النفسیان فانّ البعث أو الزجر الإعتباری منتزع من الإنشاء بداعی جعل الداعی للعبد إلی الفعل أو الترک والإنشاء فی حقیقته مرکّب من أمرین أحدهما کیف مسموع وهو اللفظ وثانیهما کیف نفسانی وهو قصد ثبوت المعنی باللفظ، وقیام کل من اللفظ والقصد یکون بالمنشأ لا بالفعل القائم بالغیر خارجاً _ یعنی فعل المکلّف _ وما ینتزع عن الإنشاء أمر اعتباری قائم بالمعتبر لا بغیره، غایة الأمر البعث المطلق غیر المضاف إلی شیء لا یوجد فی نفس المعتبر فیکون مقوّم البعث القائم بنفس المعتبر هو الشیء المضاف إلیه ولا یعقل أن یکون المضاف إلیه فعل المکلف خارجاً لأنّ البعث یوجد ویعتبر سواء وجدت العینیّة الخارجیة من المکلف أم لا، وإلاّ لاستحال بعث العاصی بل مطلق البعث، لأنّ فعل العبد عند تحقق البعث غیر موجود فاللازم هو الإلتزام بأنّ وبلوغها إلی مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بین البعث نحو واحد فی زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان، وإن لم یکن بینها مضادة ما لم یبلغ إلی تلک المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها، کما لا یخفی، فاستحالة اجتماع الأمر والنهی فی واحد لا تکون من باب التکلیف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال، فلا یجوز عند من یجوز التکلیف بغیر المقدور أیضاً.

الشَرح:

ص :355

مقوم البعث والمضاف إلیه هو الفعل بوجوده العنوانی الفرضی المطابق لما فی أفق الأمر الإعتباری.

لا یقال: لا تجتمع المتضادات فی الفعل بوجوده العنوانی الفرضی فلا یکون الفعل الواحد بعنوانه معروضاً لوصفین متضادین أو متماثلین.

فإنّه یقال: ما یمتنع من ذلک هو الواحد الشخصی وامّا الواحد النوعی والجنسی ونحوهما ممّا له نحو من الکلیّة من دون تشخّص وتعیین وجودی فتجتمع فیه الأوصاف المتباینة بداهة أنّ طبیعی الفعل یتعلّق به النهی من قبل مولی والأمر به من قبل مولی آخر مع أنّ الفعل لا یخرج عن کونه طبیعیّاً بتعدد الموالی والعبید وتعدد الفاعل والسبب الموجد وکل ذلک لا دخل له فی تحقّق التضاد وعدمه بل المناط فیه وحدة الموضوع والمفروض امکان الإجتماع فی هذا الواحد.

فالمتحصّل أنّ البعث والزجر لیسا من الأحوال الخارجیة بل من الأمور الإعتباریة وانّ متعلّقهما لیس من الموجودات العینیّة بل العنوانیة والوحدة المفروضة فیها لیست شخصیة بل طبیعیة فلا موجب لتوهم اجتماع الضدین والمثلین من البعث بشیء والزجر عنه حتی فیما کان المتعلق لکل منهما عنواناً واحداً، نعم فی موارد وحدة العنوان محذور آخر وقد مرّ فی بحث المقدمة وسیجیء .··· . ··· .

الشَرح:

إنشاء اللّه تعالی، وحاصله عدم امکان الإنبعاث والإنزجار معها، ثم ذکر بعده عدم تعلّق الإرادة والکراهة بالحرکات الخارجیة، فإنّ کلاً من الشوق والکراهة عرض قائم بالنفس ومتعلّقهما مشخص لفردهما لا أنّه مقوم لطبیعتهما فانّ الشوق أو الکراهة لا یوجدان مطلقاً فی النفس بل یتشخصان بالمتعلّق، ویستحیل أن یکون ما هو خارج عن النفس مشخصاً لما فی النفس وإلاّ لزم أن تکون الحرکات الخارجیة الأینیة أو الوضعیة القائمة بالجسم نفسانیة خصوصاً فی الإرادة التشریعیة، بأن تکون الحرکات الخارجیة القائمة بالمکلّف مشخصة لإرادة المولی مضافاً إلی ما تقدّم من تحقّق البعث والزجر ومبدئهما وإن لم یوجد الفعل أصلاً فکیف یتشخص ارادة المولی بما لا یتحقق أصلاً، وحیث إنّ الشوق لا یتعلّق إلاّ بالحاصل من وجه والمفقود من وجه، إذ الحاصل من جمیع الجهات لا جهة فقدان فیه کی تشتاق إلیه النفس، والمفقود من

ص :356

جمیع الجهات لا ثبوت له کی یتعلق به الشوق، فیکون متعلّق الشوق کمتعلق الکراهة، الطبیعی المفروض بوجوده العنوانی والنفسانی، ولبساطته یکون شوق متشخص بمتعلّقه وکراهة متشخصة بمتعلقها، وإذا لم تکن الإرادة أو الکراهة عرضاً للمتعلّق فلا مورد لاجتماع الضدین أو المثلین فیهما(1).

أقول: البعث والزجر وإن کانا أمرین اعتباریین ویقوم الإعتبار بالمعتبر عند إنشائه وأنّ المضاف إلیه فی البعث والزجر هو الفعل بعنوانه المعبّر عنه بالمتعلّق، إلاّ أنّ المبعوث إلیه من الفعل الملحوظ بعنوانه هی الجهة المفقودة عند البعث وإلاّ لم یتعلق به البعث ویعبّر عنه بالإیجاد خارجاً، کما أنّ فی موارد الزجر وإن کان یتعلّق ثانیتها: إنه لا شبهة فی أن متعلق الأحکام، هو فعل المکلف وما هو فی الخارج یصدر عنه، وهو فاعله[1] وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه، بحیث لولا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهناً، لما کان بحذائه

الشَرح:

الزجر بالفعل بعنوانه إلاّ أنّ الجهة المزجور عنها هی ایجاده خارجاً، وإذا کانت الجهة المزجور عنها هی جهة الإیجاد علی نحو الإنحلال فکیف یعمّ متعلق البعث والجهة المبعوث إلیها من الفعل الملحوظ بعنوانه الجهة التی تعلّق الزجر بالفعل من ناحیتها، کما هو فرض الإنحلال فی النهی والإطلاق فی متعلّق الأمر.

ودعوی أنّ متعلق الزجر أو البعث واحد نوعی أو جنسی لا شخصی، لا تنفع فی دفع هذا التنافی فإنّ دفعه ینحصر بتغایر جهتی المبعوث إلیها والمزجور عنها بأن تکون حصة من الفعل مضافاً إلیه للبعث وحصة أخری مضافاً إلیه للزجر لتکون الجهة المبعوث إلیها غیر الجهة المزجور عنها.

وبالجملة لیس المدعی أنّ الأحکام فی مرتبة انشائها أو فعلیتها من المتضادات لیقال إنّ التضاد أو التماثل لا یجری فی الإعتباریات، بل المدعی أنّ الأحکام متنافیات فی جهة المبدء لها أو فی الغرض منها، فلا یمکن جعل أکثر من اعتبار واحد فی فعل واحد ولو کان بعنوانین، وامّا مسألة الشوق والکراهة وإن کانت خارجة عن الأحکام إلاّ أنّ فیهما أیضاً لا یمکن أن تتّحد الجهة المشتاق إلیها فیفعل مع الجهة

ص :357


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 308.

المکروهة حتی فیما لو کان المضاف إلیه للشوق أیضاً الفعل بعنوانه وفرض وجوده.

تعیین متعلّقات الأحکام

[1] بیان المقدمة الثانیة: أنّه قد یکون متعلق الأحکام _ وهو الفعل _ من العناوین الذاتیة کعنوان الأکل والضرب والقیام والحرکة إلی غیر ذلک ممّا یکون بإزائه عینیة خارجیة، وقد یکون من العناوین الإنتزاعیة المنطبقة علی ما له عنوان ذاتی لإضافته شیء خارجاً ویکون خارج المحمول، کالملکیّة والزوجیّة والرقیّة والحرّیة والمغصوبیّة، إلی غیر ذلک من الإعتبارات والإضافات، ضرورة أن البعث لیس

الشَرح:

إلی شیء آخر أو ملاحظته معه کعنوان الغصب والإفطار والإیذاء والتأدیب إلی غیر ذلک ممّا ینتزع عن الحرکة الخارجیة بملاحظة کونها فی ملک الغیر بلا رضاه أو عن الأکل والشرب بملاحظة کون المأکول أو المشروب ملک الغیر أو کون الآکل صائماً وهکذا.

ثمّ إنّ متعلقات الأحکام لیست هی الألفاظ الموضوعة أو المستعملة فی الطبایع والعناوین ولا نفس الطبایع والعناوین بما هی معانی الألفاظ، فانّه لا یترتب علی الطبایع والعناوین کذلک مصلحة أو مفسدة ولا سائر الأغراض بل یتعلّق بها الأحکام بما هی حاکیات عن الخارج، والمطلوب والمزجور عنه إنّما هو خارجیتها ویلزم علی ذلک أنّه لو کان المتعلّق من العناوین الإنتزاعیة ممّا لا یکون بإزائها خارجیّة غیر منشأ انتزاعها فالحکم والطلب والزجر لمنشأ الإنتزاع فانّه الموجود خارجاً. وبالجملة فالعناوین الملحوظة لمتعلقات الأحکام تکون ملحوظة بما هی حاکیات عن الخارج سواء کان ما فی الخارج ما بإزاءها أو منشأ انتزاعها کما فی العناوین التی من خارج المحمول، فما یصدر عن المکلف خارجاً الذی هو ایجاد للمتعلق او لمنشأ انتزاعه هو المطلوب والمزجور عنه والمرخص فیه، والعناوین الأصلیة أو الإنتزاعیة آلة اللحاظ لتحدید العینیة التی تکون متعلق الطلب والزجر والترخیص.

أقول: قد اختلط فی کلامه قدس سره الإعتباریات العرفیة بالإعتبارات العقلیة فإنّه یعبر عن الثانیة بالأمور الإنتزاعیة وتکون من خارج المحمول وأمّا الإعتبارات العرفیة فلیست لها عینیة خارجیة لا بنفسها ولا بمنشأ انتزاعها ولذا تکون قابلة للإلغاء والإبطال، فجعل الزوجیّة والرقیة والمغصوبیة والحریة والملکیة من خارج المحمول

ص :358

.··· . ··· .

الشَرح:

کما تری، فإنّ الإعتباریات تدخل فی الأحکام لموضوعاتها وتکون قابلة للإلغاء مع بقاء موضوعاتها بخلاف الإعتباریات العقلیّة التی لها منشأ انتزاع حقیقی فانّها غیر قابلة للإلغاء ولا تنعدم إلاّ بانعدام منشأ انتزاعها والإعتبارات یفرض لها حصول بإزائها خارجاً کالزوجیة والملکیة ویفرض لها حصول بمنشائها التی هی من قبیل الموضوع لها، لا لأنّ لمنشأ انتزاعها خصوصیة واقعیة بل تکون الخصوصیة أیضاً اعتباریة کالمغصوبیّة کما لا یخفی، وبالجملة فالتعرض لهذا الأمر إنّما هو لبیان عدم امکان اطلاق متعلق الوجوب بحیث یشمل ما تعلق به النهی.

وذکر المحقق الإصفهانی 1 فی التعلیق علی کلام الماتن 1 أنّه قد تقدم فی بحث تعلّق الأوامر بالطبایع أنّ الوجود الخارجی لا یقوم به الطلب وإذا لوحظ أنّ الإیجاد عین الوجود ذاتاً واختلافهما بالإعتبار فیعلم أنّ الطلب لا یقوم بالإیجاد الخارجی لأنّه عین الوجود، ومعنی تعلّق الشوق بالوجود والإیجاد کما مرّ أنّ القوة العاقلة کما لها قوة لحاظ الشیء بلحاظ الحمل الأولی کذلک لها قوة لحاظه بالحمل الشایع، فتلاحظ الصلاة الخارجیة مثلاً التی حیثیّتها حیثیة طرد العدم ویترتب علیها الغرض والأثر فیطلبها ویبعث نحوها، ومن الواضح أنّ البعث نحو الفانی لا ینافی قیام الغرض والأثر بالمفنیّ فیه.

والحاصل أنّ الصلاة الخارجیّة فی مقام تعلّق البعث والإرادة بمعنی إحضار العقل إیّاها وفرضها وتعلّق البعث بها إنّما هو لاخراجها عن الفرض والتقدیر إلی الفعلیّة، فالصلاة المفروضة فانیة فی الصلاة الخارجیة وهذا یصحّح البعث نحو الفانی مع قیام الغرض بالمفنیّ فیه ولا یقتضی سریان ما یقوم بالفانی إلی المفنی فیه فإنّه محال ولیس نسبة الوجود العنوانی إلی الوجود العینی نسبة الإتحاد والعینیّة(1).

نحوه، والزجر لا یکون عنه، وإنما یؤخذ فی متعلق الأحکام آلة للحاظ متعلقاتها، والإشارة إلیها، بمقدار الغرض منها والحاجة إلیها، لا بما هو هو وبنفسه، وعلی استقلاله وحیاله.

الشَرح:

ص :359


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 313.

أقول: إذا کان إخراج الصلاة عن الفرض والتقدیر إلی الفعلیة غرضاً من تعلّق الطلب والبعث نحو الفعل فلابدّ من أن یکون هذا الإخراج ملحوظاً للآمر حتی یشتاق إلیه وإذا کان أمراً ملحوظاً فلِمَ لم یتعلّق الطلب والبعث بنفس هذا الإخراج، غایة الأمر یکون لحاظه بالإیجاد والإخراج العنوانی فإنّه الملحوظ بالذات ولکن المفروض أنّ الآمر یراه فانیاً فی الإیجاد الملحوظ بالعرض وکأنّه یطلب ویجعل متعلق طلبه الإیجاد بالحمل الشایع، وإذا کان إیجاد الفعل أی فعلیّته مرخص فیها کما هو مقتضی إطلاق متعلّق الأمر فکیف یمکن أن یمنع عن إیجاد بعض افراده کما هو مقتضی انحلال متعلّق النهی.

وبالجملة التعبیر بسرایة الترخیص فی التطبیق أو سرایة الأمر إلی متعلّق النهی أنّه لا یمکن للمولی الترخیص فی تطبیق متعلق أمره بما یری تعلّق نهیه به، وتعدد العنوان فی ناحیة متعلق الأمر أو النهی لا یفید لأنّ المرخص فیه والمزجور عنه هو إعطاء العینیة الخارجیة للفعل وقد تقدم أنّ الطلب لیس عرضاً یقوم بمتعلّقه بل الطلب أمر إنشائی یکون قیام إنشائه بالمولی، ووعاء نفس الطلب المعتبر هو الخارج ولو بنحو الإعتبار القائم بالنفس، ویکون متعلق الطلب إیجاد الفعل ولو أنّ المتعلق حقیقة هو الملحوظ بالذات _ أی الإیجاد العنوانی الفانی فی الملحوظ بالعرض _ والفناء بل لحاظ العینیة أوجب تحقق الطلب ولو لم یحصل من العبد امتثال واطاعة کما تقدم فی التعلیقة السابقة.

وبالجملة الطلب الواقعی وهو التصدی لتحصیل الشیء والظفر به یکون مادام ثالثتها: إنه لا یوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا ینثلم به وحدته[1]، فإن المفاهیم المتعددة والعناوین الکثیرة ربما تنطبق علی الواحد، وتصدق علی الفارد الذی لا کثرة فیه من جهة، بل بسیط من جمیع الجهات، لیس

الشَرح:

لم یحصل الشیء ولم یظفر به، فکذلک الطلب الإعتباری المعبر عنه بالبعث نحو إیجاد الشیء فإنّ البعث _ مادام ظرف الإعتبار موجوداً _ یبقی مادام لم یحصل المبعوث إلیه وإذا حصل، ینتهی الطلب والبعث الإعتباری.

عدم استلزام تعدّد العنوان لتعدّد المعنون

[1] بیان المقدمة الثالثة: هو أنّ تعدد الوجه أی العنوان لا یلازم تعدّد المعنون

ص :360

خارجاً بأن یکون لأحد العنوانین خارجاً وجود وللعنوان الآخر وجود آخر فإنّ المفاهیم المتعددة والعناوین الکثیرة قد تنطبق علی الوجود الواحد بل علی الفارد الذی لا کثرة فیه حتی من ناحیة الحیثیات المختلفة والجهات المتغایرة أصلاً کالواجب سبحانه حیث إنّه مع بساطته ووحدته واَحَدیّته، تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة له الأسماء الحسنی والأمثال العلیا لکنّها بأجمعها حاکیة عن ذلک الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتّی وحسنک واحد وکلّ إلی ذاک الجمال یشیر

أقول: الکلام فی المقام فی عناوین الأفعال لا فی عناوین الذوات، وما ثبت بالبرهان القاطع هو أنّ ذات الحق جلّ وعلا وإن کانت لذاته صفات إلاّ أنّها لا تزید علی ذاته فإنّ الکثرة والترکیب یلازم الإمکان وذات الحق جلّ وعلا بذاته واجب الوجود. وأمّا صفات الأفعال فلم یقم برهان قاطع علی وحدتها بل ما یصدر عن ذات الحق بقدرته وعلمه اللذین هما عین ذاته وعلمه بإرادته الزایدة علی الذات، وتعدّد فیه حیث غیر حیث، وجهة مغایرة لجهة أصلاً، کالواجب تبارک وتعالی، فهو علی بساطته ووحدته وأحدیته، تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة، له الأسماء الحسنی والأمثال العلیا، لکنها بأجمعها حاکیة عن ذاک الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتی وحسنک واحد وکل إلی ذاک الجمال یشیر

الشَرح:

الإرادة بتعدد المراد وقد أشرنا سابقاً إلی أنّ ما اشتهر من (أنّ الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد) وهی القاعدة التی أسّسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الأوّل عنه لا تجری فی الفاعل المختار من ممکن الوجود فضلاً عن الفاعل الغنی القادر العالم بالذات فهذه القاعدة لا ترتبط بالمقام.

أمّا بالنسبة إلی الأفعال وعناوینها مما هو مورد الکلام فی المقام فإن کان عنوان الفعل متأصّلاً کعنوان الأکل والشرب والقیام والقعود فتعدده یوجب تعدد المعنون إلاّ إذا کان أحد العنوانین بالإضافة إلی الآخر من قبیل الخاص والعام، لما یأتی فی الأمر الآتی من أنّ الوجود الواحد لا یکون له إلاّ ماهیة واحدة وحقیقة نوعیة واحدة فتعدّدها موجب لتعدد المعنون وتعدد الوجود لا محالة، إلاّ إذا کان أحدهما أخص بالإضافة إلی الآخر، وأیضاً تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون إذا کان أحدهما

ص :361

منتزعاً عن شیء والعنوان الآخر منتزعاً عن شیء آخر أو کان أحدهما انتزاعیاً عن شیء والآخر أصلیّاً منطبقاً علی شیء آخر فینحصر عدم موجبیة تعدد العنوان لتعدد المعنون علی ما إذا کان أحد العنوانین متأصلا ومعنونه خارجاً منشاءً لانتزاع عنوان آخر، أو کلا العنوانین منتزعین عن شیء واحد باعتبارین، أو کان أحد العنوانین أخص بالإضافة إلی العنوان الآخر. وممّا ذکرنا یظهر أنّ الحرکة الخاصة المعبر عنها بالسجود تتّحد فی الصلاة مع الغصب خارجاً حیث إنّ الغصب عنوان انتزاعی عن تلک الحرکة بلحاظ کونها بغیر رضا مالک موضع السجود فیکون السجود تصرفاً غصبیاً وعدواناً رابعتها: إنه لا یکاد یکون للموجود بوجود واحد، إلاّ ماهیة واحدة[1] وحقیقة فاردة، لا یقع فی جواب السؤال عن حقیقته بما هو إلاّ تلک الماهیة، فالمفهومان المتصادقان علی ذاک لا یکاد یکون کل منهما ماهیة وحقیقة، وکانت عینه فی الخارج کما هو شأن الطبیعی وفرده، فیکون الواحد وجوداً واحداً ماهیة وذاتاً لا محالة، فالمجمع وإن تصادق علیه متعلقا الأمر والنهی، إلاّ أنه کما یکون واحداً وجوداً، یکون واحداً ماهیة وذاتاً، ولا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیة.

الشَرح:

علی الغیر وکذلک بالإضافة إلی الرکوع إذا قیل بأنّ الهویّ له دخل فی الصلاة أو فی تحقق الرکوع بأن کان الهوی مقوماً لعنوان الرکوع لا مقدمة له.

عدم ایجاب تعدد العنوان لتعدد الماهیة النوعیة

[1] المقدمة الرابعة: إنّ الوجود الواحد لا یکون له إلاّ ماهیة واحدة والمراد الماهیة النوعیة فالعنوانان المتصادقان علی واحد لا یمکن أن یکون کل منهما ماهیة نوعیة بل إمّا کلاهما من العناوین الإنتزاعیة أو أحدهما انتزاعی والآخر ذاتی، مثلاً المجمع بین عنوانی الغصب والصلاة أی الحرکة الخاصة کما لها وجود خاص کذلک یکون لها مهیة واحدة ویکون متعلق الأمر ومتعلق النهی واحداً وجوداً ومهیّة، فإنّ الوحدة بناءاً علی أصالة الوجود واضحة وبناءاً علی أصالة المهیة فلما تقدم فی المقدمة الثانیة من کون متعلّقی الأمر والنهی فعل المکلف وما یصدر عنه خارجاً والمفروض أنّ الماهیة الصادرة بناءاً علی أصالتها واحدة لما تقرر فی محلّه أنّ الواحد لا یتجنّس بجنسین وفصلین ففی موارد تعدد العنوان أحدهما من العناوین الإنتزاعیة

ص :362

العرضیة لا محالة.

وممّا ذکر یظهر عدم الفرق فی مسألة جواز الإجتماع وعدمه الإلتزام بأصالة ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والإمتناع فی المسألة، علی القولین فی تلک المسألة، کما توهم فی الفصول، کما ظهر عدم الإبتناء علی تعدد وجود الجنس والفصل فی الخارج، وعدم تعدده، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس والفصل له، وإن مثل الحرکة فی دار من أی مقولة کانت، لا یکاد یختلف حقیقتها وماهیتها ویتخلف ذاتیاتها، وقعت جزءاً للصلاة أو لا، کانت تلک الدار مغصوبة أو لا.

الشَرح:

الوجود أو بأصالة الماهیة فما عن الفصول من أنّ القول بالجواز مبنی علی أصالة الماهیة والقول بالإمتناع علی أصالة الوجود(1)، لا یمکن المساعدة علیه.

کما ظهر أیضاً عدم ابتناء القول بالجواز علی تعدد الجنس والفصل خارجاً والقول بالإمتناع علی عدم تعددهما، فإنّ الحرکة الخاصة المعبر عنها بالسجود أو الهوی إلی الرکوع من أی مقولة کانت لا معنی لکون عنوان الغصب فصلاً ونفس الحرکة جنساً بل تکون تلک الحرکة داخلة فی تلک المقولة، إنطبق علیها عنوان الغصب أم لا، بل لو فرض فی مورد تعلّق الأمر بالجنس والنهی بفصل منه یکون ذلک داخلاً فی موارد الأمر بالمطلق والنهی عن المقید سواء قیل بکون وحدة الجنس والفصل أو اتحادهما بالمعنی المذکور فی محلّه أم لا.

ص :363


1- (1) الفصول: 100.

إذا عرفت ما مهدناه، عرفت أن المجمع حیث کان واحداً وجوداً وذاتاً[1]، کان تعلق الأمر والنهی به محالاً، ولو کان تعلقهما به بعنوانین، لما عرفت من کون فعل المکلف بحقیقته وواقعیته الصادرة عنه، متعلقاً للأحکام لا بعناوینه الطارئة علیه، وأن غائلة اجتماع الضدین فیه لا تکاد ترتفع بکون الأحکام تتعلق بالطبائع

الشَرح:

أدلة القول بالجواز

[1] کأنّ نظره قدس سره إلی أنّ الأمور الأربعة ملاحظتها کافیة فی الإذعان بامتناع إجتماع الأمر والنهی ولو کان أحدهما متعلقاً بعنوان والآخر بعنوان آخر، وذلک لما تقدم فی المقدمة الثانیة من أنّ متعلقات الأحکام إنّما هی فعل المکلف خارجاً لا عنوان فعله، حیث إنّ رغبة المولی والملاک الملحوظ للمولی لیس فی عنوان الفعل بل فیما ینطبق علیه العنوان المعبّر عنه بالمعنون، وتعدّد العنوان لا یوجب کون الصادر عن المکلّف متعدّداً بحسب الخارج بأن یکون المجمع بحسبه فعلین، بل الصادر بحسب الخارج واحد معنون بکل من العنوانین، وغائلة محذور اجتماع الضدین وتنافی التکلیفین ترتفع بتعدّد الصدور والفعل خارجاً لا بتعنون الصادر بعنوانین لأنّ المتعلق لکل من الوجوب والتحریم لیس هو العنوان بل المعنون لو لاحظه المولی عند الأمر والنهی بالعنوان.

ولزوم محذور تعلّق الحکمین المتضادین فی مقتضاهما وملاکهما لا یندفع بالقول بأنّ متعلقات الأحکام الطبایع لا الافراد، وذلک لأنّ غایة تقریب القول بالجواز هو أنّ الطبایع _ بما هی مقیّدة بالوجود _ متعلقات لها، حیث إنّ الطبایع بما هی لیست إلاّ هی ولا تکون محصّلة للاغراض لیتعلّق بها الطلب، فاللازم أخذ الوجود فی متعلقاتها بحیث یکون التقید داخلاً ونفس القید _ أی الوجود _ خارجاً حتی یقتضی تعلّق الطلب بالطبیعی المقید بالوجود إیجاده. نظیر تقییده بسائر القیود وإلاّ فالوجود .··· . ··· .

الشَرح:

الخارجی مسقط للطلب فلا یمکن کونه متعلقاً للطلب وموجباً لثبوت البعث وحصوله.

ولکن هذا التقریب والتوجیه فاسد، وذلک فإنّ الطبیعی لا یمکن أن یتقید

ص :364

بوجوده فی مقام الطلب بالمعنی المذکور بأن یکون الوجود خارجاً عن متعلّق الطلب تقیّد العنوان به داخلاً فی متعلّقه، نظیر تقید الصلاة بالوضوء أو إلی القبلة ونحوهما، فإنّ التقیید لا یکون إلاّ فی مورد دخالته فی متعلّق الطلب بأن یکون الدخیل فیه التقید لا نفس القید، ووجود الشیء لا یزید علی الشیء فی مقام الطلب، حیث إنّ وجود الشیء خارجاً هو الأثر من طلبه والملاک المرغوب إلیه قائم بوجوده، ولیس للعنوان شأن إلاّ کونه حاکیاً عما تعلّق به الملاک والغرض ویلاحظ فی مقام الطلب فانیاً فی المعنون، وکأنّ المولی یطلب المعنون بلا توسیط ویضیف طلبه إلی إیجاد الشیء قبل أن یوجد غیر ملاحظ أیّة خصوصیة معه، ویلزم علی الطلب کذلک الترخیص فی تطبیقه وإیجاده بأیّ وجود وهذا لا یجتمع مع نهیه عن طبیعی آخر، حیث إنّ النهی المنع عن وجود الطبیعی بأی وجود وذلک لکون متعلق الترخیص عین متعلق النهی المفروض کونه انحلالیاً.

وبتعبیر آخر لیست الأحکام من قبیل الاعراض لمتعلقاتها لیقال إنّ الإیجاد لا یکون معروضاً للطلب والمنع، فإنّ الوجود الخارجی مسقط للطلب فکیف یکون معروضاً له بل الأحکام إنشاءات من فعل المولی یقوم به قیام الفعل بفاعله ونفس الحکم أمر إعتباری فی الخارج بمعنی کون الخارج ظرفاً له ویضاف إلی متعلّقه بعنوانه المشیر الفانی فی المعنون قبل وجوده.

ثم إنّه ظهر من المقدمة الرابعة أنّ الصادر عن المکلف خارجاً وجود واحد لا الأفراد، فإن غایة تقریبه أن یقال: إن الطبائع من حیث هی هی، وإن کانت لیست إلاّ هی، ولا تتعلق بها الأحکام الشرعیة، کالآثار العادیة والعقلیة، إلاّ أنها مقیدة بالوجود، بحیث کان القید خارجاً والتقید داخلاً، صالحة لتعلق الأحکام بها،

الشَرح:

وماهیة واحدة، وذکرنا فی المقدمة الأولی أنّ تعلّق الوجوب والحرمة بواحد غیر ممکن لتنافیهما فی مبدئهما ومقتضاهما، کما ذکرنا فی المقدمة الرابعة ما هو المعیار فی استلزام تعدّد العنوان لتعدّد المعنون وعلیه فإن کان ترکیب العنوانین فی المجمع من متعلقی الأمر والنهی اتحادیاً وینطبقان علی وجود واحد فلابدّ من الإلتزام بالإمتناع وإن کان ترکیبهما انضمامیاً بأن ینطبق کل منهما علی وجود غیر وجود الآخر فالمتعیّن هو القول بالجواز لتعدد المتعلقین خارجاً ولا محذور فی إجتماع

ص :365

الحکمین فی المجمع لما تقدّم من أنّ مقتضی تعلّق الأمر بالطبیعی عدم أخذ ما هو لازم الوجود أو ملازمه فی المتعلّق بل ولا أخذ خصوصیة أفراده، وکذا الحال فی ناحیة تعلق النهی بالطبیعی، فلا موجب لسرایة أحد الحکمین إلی متعلق الآخر سواء اجتمع النهی مع الترخیص فی التطبیق أو مع الأمر، غایة الأمر یکون الأمر بالطبیعی والنهی مع عدم المندوحة من المتزاحمین یراعی فیهما ثبوت الحکمین بنحو الترتّب.

ثمّ إنّه یظهر ممّا ذکرنا تمییز موارد الترکیب الإتحادی عن موارد الترکیب الإنضمامی فمثلاً إذا توضاء المکلف من الإناء المغصوب بنحو الإغتراف صحّ وضوئه لأنّ تصرفه فی الإناء بالإغتراف مغایر وجوداً للوضوء _ وهو غسل الوجه والیدین ومسح الراس والرجلین _ فیمکن الأمر بالوضوء المفروض حتی مع عدم المندوحة علی نحو الترتب فإنّ مع الإغتراف ثلاث مرّات یتمکن المکلف من الوضوء فیصحّ الأمر به علی تقدیر الإغترافات وعلی تقدیر ترکها یکون مکلّفاً .··· . ··· .

الشَرح:

بالصلاة مع التیمم.

وربّما یقال إنّ الأمر بالوضوء علی نحو الترتب یجری ولو مع الوضوء بنحو الإرتماس فی الإناء المغصوب فإنّ غسل العضو عبارة عن إیصال الماء إلی البشرة من الوجه والیدین والإیصال وهو مغایر وجوداً للارتماس _ أی وضع الوجه والیدین فی الماء _ ولذا لو کان علی یده أو وجهه حائل یمنع من وصول الماء إلی البشرة ووضع یده فی الاناء الغصبی المحتوی للماء لکان هذا الوضع کالوضع بلا حائل فی کون نفس الوضع غصباً محرماً دون إیصال الماء، مع عدم تحقق غسل العضو فی الأوّل لوجود الحائل.

وبالجملة غسل الید الذی هو إیصال الماء إلی البشرة بلا حائل إیجاد للوضوء ولیس حراماً والحرام جعل العضو فی الإناء فإنّه تصرّف فی ملک الغیر ولو مع الحائل وعدم تحقق الوضوء معه، فالترکیب بین الغصب والوضوء انضمامی.

إلاّ أن یقال إنّ الوضوء ولو یتحقق بوصول الماء إلی البشرة إلاّ أنّ إیصاله إلیها بمعنی إحاطة الماء البشرة، یکون بأمرین معاً أحدهما جعل الید فی الإناء والثانی

ص :366

رفع المانع عن العضو واتحاد متعلّق النهی مع أحد الأمرین عرفاً کاف فی الترکیب الإتحادی فتدبّر.

ثمّ إنّ ظاهر جماعة انّ التوضیّ والإغتسال من آنیة الذهب أو الفضة کالتوضئّ من الآنیة المغصوبة وظاهرهم أیضاً حرمة الأکل والشرب فی آنیة الذهب والفضة لا حرمة أخذ الطعام منها فقط ومن ثمّ یقع الکلام فی الفرق بین التوضیّ والأکل حیث إنّ ظاهرهم عدم حرمة نفس الوضوء فی فرض الإغتراف وحرمة الأکل والشرب.

ومتعلقا الأمر والنهی علی هذا لا یکونان متحدین أصلاً، لا فی مقام تعلق البعث والزجر، ولا فی مقام عصیان النهی وإطاعة الأمر بإتیان المجمع بسوء الإختیار.

أما فی المقام الأول، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن کانا متحدین فیما هو خارج عنهما، بما هما کذلک.

الشَرح:

والجواب أنّ الروایات الواردة فی أوانی الذهب والفضة علی طائفتین، ففی الأولی منهما ورد النهی عن الأکل والشرب فی آنیة الذهب أو الفضة(1)، وفی الثانیة ورد النهی عن آنیة الذهب والفضة غیر مقید بالأکل أو الشرب(2)، ومقتضی حذف المتعلق فی الطائفة الثانیة حرمة الفعل المناسب للاناء وهو وضع شیء فیها أو أخذه منها فلا دلالة للثانیة علی حرمة نفس التوضیء والإغتسال فی فرض الإغتراف، بخلاف الأکل والشرب بنحو الأخذ منهما فانّهما إمّا من الافعال المناسبة للاناء فیحرمان أو لأنّ مقتضی الطائفة الأولی حرمة نفس الأکل والشرب، ولذا عطفوا استعمالهما علی عدم جواز الأکل والشرب منهما دون التوضیء والإغتسال أو غیرهما من الأفعال.

وبالجملة إذا کان المحرم استعمالهما فلا یکون الوضوء والإغتسال منهما بالإغتراف متحداً مع المحرّم ولا یخفی أنّ هذا لو لم نقل بأنّ الطائفة الثانیة قرینة علی أنّ المحرم فی الأکل والشرب أیضاً وضع الطعام وأخذه منهما لا حرمة نفس

ص :367


1- (1) الوسائل: ج 2، باب 65 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 و 5 و 7 و 9 و 11، وج 16، باب61 من کتاب الأطعمة والأشربة، الحدیث 1 و 2.
2- (2) الوسائل: ج 2، باب 65، من أبواب النجاسات، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 10.

ازدراد الطعام والشراب، وقد ذکرنا التفصیل فی بحث الأوانی من کتاب الطهارة.

وأمّا الصلاة فی المکان المغصوب فإنّ أکثر أفعالها خارج عن الغصب ولیس وأما فی المقام الثانی، فلسقوط أحدهما بالإطاعة، والآخر بالعصیان بمجرد الإتیان، ففی أیّ مقام اجتمع الحکمان فی واحد؟.

وأنت خبیر بأنه لا یکاد یجدی بعد ما عرفت، من أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون لا وجوداً ولا ماهیة، ولا تنثلم به وحدته أصلاً، وأن المتعلق للأحکام هو المعنونات لا العنوانات، وأنها إنما تؤخذ فی المتعلقات بما هی حاکیات کالعبارات، لا بما هی علی حیالها واستقلالها.

الشَرح:

تصرفاً فی المکان المغصوب ولا فی فضائه کالتکبیرة والقراءة والتشهد والأذکار وغیرها والإستقرار المعتبر حال القراءة وغیرها بمعنی عدم حرکة الأعضاء، والقیام المعتبر فی الصلاة لیس بمعنی الکون فی المکان بل بمعنی استواء الأعضاء وعدم انحنائها نعم الإنتقال من حالة إلی أخری کالنهوض إلی القیام أو الهوی إلی الرکوع والسجود وإن کان تصرفاً فی الفضاء إلاّ أنّ حرمته لا تضرّ بصحة الصلاة لعدم کونه من أفعالها بل من مقدمات استواء الأعضاء والرکوع والسجود، نعم فی الهوی إلی الرکوع کلام فی أنّه داخل فی معنی الرکوع بحیث یکون مقوماً له أو لا؟ ولا یخفی أنّ ما یتّحد من أفعالها مع عنوان الغصب هو السجود فانّ مع وضع الأعضاء السبعة أو بعضها علی المغصوب یکون السجود المزبور منشاءً لانتزاع عنوان الغصب وکذا فیما إذا وضعها علی المباح الموضوع علی المغصوب بناءً علی اعتبار الإعتماد علی الأرض فی السجود فإنّ مع الإعتماد المزبور بالوضع علی المغصوب ولو مع الواسطة یتحقق الترکیب الإتحادی، ولکن فی إعتبار الإعتماد کما ذکر تأمّل، وعلیه یبتنی جواز الصلاة فی الطائرة الواقفة أو ا لمتحرکة فی الجوّ أو عدم جوازها حال الإختیار وامّا الصلاة فی السفینة فلا یبعد جوازها حتی حال الإختیار لظهور بعض الروایات(1) فی کما ظهر مما حققناه: أنه لا یکاد یجدی أیضاً کون الفرد مقدمة لوجود الطبیعی المأمور به أو المنهی عنه[1]، وأنه لا ضیر فی کون المقدمة محرمة فی

ص :368


1- (1) الوسائل: ج 4، باب 14 من أبواب القیام.

صورة عدم الإنحصار بسوء الإختیار، وذلک __ مضافاً إلی وضوح فساده، وأن الفرد هو عین الطبیعی فی الخارج، کیف؟ والمقدمیة تقتضی الإثنینیة بحسب الوجود، ولا تعدد کما هو واضح __ أنه إنما یجدی لو لم یکن المجمع واحداً ماهیة، وقد عرفت بما لا مزید علیه أنه بحسبها أیضاً واحد.

الشَرح:

جوازها وتمام الکلام فی الفقه.

[1] التزم میرزا القمی رحمه الله بجواز إجتماع الأمر والنهی فإنّ الطبیعی المتعلّق به الأمر غیر الطبیعی المتعلّق به النهی غایة الأمر أنّ ما تعلّق به الأمر یتحقّق بالفرد المنهی عنه ولا محذور فیه لأنّ الفرد مقدمة للطبیعی ولا ضیر فی حرمة مقدمة الواجب إذا لم ینحصر مقدمته علی الحرام.

أقول: لو کان الفرد مقدمة للطبیعی المأمور به والطبیعی المنهی عنه فلازم کون فرد مقدمة لکلّ منهما أن یتعلّق بالفرد المفروض کلّ من الوجوب الغیری والحرمة الغیریّة بلا تعدّد عنوان تقییدی وعدم جواز ذلک متسالم علیه عند الکلّ، مضافاً إلی ما ذکره الماتن قدس سره من أنّ الفرد عین الطبیعی ونفسه لا أنّه مقدمة له والمقدمیّة تقتضی الاثنینیّة بحسب الوجود کما مرّ فی بحث عدم کون الجزء مقدمه للکلّ مع أنّه لیس فی موارد الترکیب الإتّحادی ماهیتین ونوعیتین إحداهما متعلّقة للأمر والأُخری متعلّقة للنهی بل المجمع فی موارده کما أنّه واحد وجوداً واحد ماهیّة.

ص :369

ثم إنه قد استدلّ علی الجواز بأمور:

منها: إنه لو لم یجز اجتماع الأمر والنهی، لما وقع نظیره وقد وقع، کما فی العبادات المکروهة[1]، کالصلاة فی مواضع التهمة وفی الحمام والصیام فی السفر وفی بعض الأیام.

الشَرح:

معنی الکراهة فی العبادة

[1] استدلّ علی جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد بوقوعه فإنّ الوقوع یکشف عن جواز الإجتماع وعدم الإمتناع ویشهد لوقوعه ما ورد فی العبادات المکروهة حیث اجتمع فیها الکراهة والوجوب أو الکراهة والإستحباب وهذه الموارد علی ما ذکر الماتن قدس سره علی أقسام.

القسم الأوّل: أن تکون العبادة بعنوانها متعلّق النهی کصوم یوم عاشورا، فإنّ الأمر الإستحبابی تعلّق بصوم الأیام بنحو الإنحلال فیکون صوم کل یوم مستحبّاً من غیر أن یکون له بدل فی مقابل صوم یوم آخر ولا أن یکون نفسه بدلاً عن الآخر، وصوم یوم عاشورا مع أنّه مستحب نفسی متعلّق به النهی علی ما فی بعض الروایات وبالجملة اجتمع فیه الإستحباب والکراهة، ونظیره النوافل المبتدئة فإنّ الصلاة فی کل زمان خیر موضوع مع أنّه قد ورد النهی عنها فی بعض الأوقات.

والقسم الثانی: ما تعلّق النهی بالعبادة مع ثبوت بدل لها کما فی الأمر بالصلاة الیومیة مع النهی التنزیهی عن بعض أفرادها کالصلاة فی الحمام أو فی آخر الوقت ومن هذا القبیل اجتماع الوجوب مع الإستحباب کوجوب الصلاة الیومیة واستحباب الإتیان بها فی المسجد أو فی أوّل الوقت.

والقسم الثالث: ما تعلّق النهی فیه لا بنفس العبادة بل بعنوان ینطبق علی العبادة بیان الملازمة: إنه لو لم یکن تعدد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی مورد مع تعددها، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الإمتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، والتالی باطل، لوقوع اجتماع الکراهة والإیجاب أو الإستحباب، فی مثل الصلاة فی الحمام، والصیام فی السفر، وفی عاشوراء ولو فی الحضر، واجتماع الوجوب أو الإستحباب مع الإباحة أو الإستحباب، فی مثل الصلاة فی المسجد أو الدار.

ص :370

الشَرح:

أحیاناً أو بما یلازمها فیکون ترکیبه مع العبادة انضمامیاً کالصلاة فی مواضع التهمة بناءاً علی کراهة الکون فی مواضعها.

ذکر قدس سره جواباً إجمالیاً عن الإستدلال شرع فی الجواب التفصیلی عن کل من الأقسام الثلاثة. أمّا الجواب الإجمالی فهو أنّه إذا ثبت امتناع اجتماع الأمر والنهی فی واحد فلابدّ فی الموارد التی ورد فی الشرع ما ظاهره خلاف ذلک من حمله علی ما یخرج عن مورد الإمتناع حیث إنّ الظهور لا یصادم البرهان وحکم العقل القطعی بالإمتناع، مع أنّ فی بعض الموارد المستدل بها، تعلّق الأمر والنهی بفعل واحد بعنوانه والقائل بالجواز لا یلتزم بالجواز فیه بل یلتزم بالإمتناع ما لم یکن فی البین عنوانان خصوصاً فیما لم یکن فی البین مندوحة کما فی العبادات المکروهة التی لا بدل لها.

وأمّا الجواب التفصیلی: فإنّه قدس سره ذکر فی القسم الأوّل أنّ الکراهة _ التی هی من الأحکام الخمسة التکلیفیة _ تکون ناشئة عن حزازة ومنقصة فی متعلّقها والکراهة بهذا المعنی لا تتحقّق ولا تجتمع مع الأمر بالعبادة والحکم بصحتها فعلاً بل تکون بمعنی استحباب الترک الذی یکون فی الترک صلاح، امّا بانطباق عنوان حسن علی نفس الترک کعنوان مخالفة بنی أمیّة المنطبق علی ترک صوم یوم عاشورا، أو کون والجواب عنه أما إجمالاً: فبأنه لا بد من التصرف والتأویل فیما وقع فی الشریعة مما ظاهره الإجتماع، بعد قیام الدلیل علی الإمتناع، ضرورة أن الظهور لا یصادم البرهان، مع أن قضیة ظهور تلک الموارد، اجتماع الحکمین فیها بعنوان واحد، ولا یقول الخصم بجوازه کذلک، بل بالإمتناع ما لم یکن بعنوانین وبوجهین، فهو أیضاً لابد له من التفصی عن إشکال الاجتماع فیها لا سیما إذا لم یکن هناک مندوحة، کما فی العبادات المکروهة التی لا بدل لها، فلا یبقی له مجال للإستدلال بوقوع الإجتماع فیها علی جوازه أصلاً، کما لا یخفی.

وأما تفصیلاً: فقد أجیب عنه بوجوه، یوجب ذکرها بما فیها من النقض والإبرام طول الکلام بما لا یسعه المقام، فالأولی الإقتصار علی ما هو التحقیق فی حسم مادة الإشکال، فیقال وعلی اللّه الإتکال: إن العبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلق به النهی بعنوانه وذاته، ولا بدل له، کصوم یوم عاشوراء،

ص :371

والنوافل المبتدئة فی بعض الأوقات.

الشَرح:

الترک موجباً لحصول عنوان حسن معه، ولا یخفی أن تفویت صلاح الصوم وصلاح ترکه معاً ممکن کما إذا صام بلا قصد التقرب، وحیث لا یمکن استیفاء صلاح الفعل وصلاح الترک معاً یکون المورد من التزاحم کسائر المستحبات المتزاحمة فیحکم بالتخییر بینهما ما لم یکن أهمّ فی البین وإلاّ فیقدّم الأهم وإن کان موافقة الآخر أیضاً جائزاً ویقع صحیحاً، حیث إنّه فی نفسه أیضاً راجح وموافق للغرض کما هو الحال فی سائر المستحبات المتزاحمة، بل الواجبات المتزاحمة، وارجحیة الترک من الفعل کما ذکر لا توجب حزازة ومنقصة فی الفعل کما لو کان فی الفعل مفسدة راجحة علی صلاحه حتی لا یقع الفعل صحیحاً مع المفسدة الراجحة بناءاً علی امتناع اجتماع الأمر والنهی حیث إنّ الحزازة والمنقصة فی الفعل تمنع عن التقرب بالفعل، بخلاف ثانیها: ما تعلق به النهی کذلک، ویکون له البدل، کالنهی عن الصلاة فی الحمام.

ثالثها: ما تعلق النهی به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، کالصلاة فی مواضع التهمة، بناءً علی کون النهی عنها لأجل اتحادها مع الکون فی مواضعها.

أما القسم الأول: فالنهی تنزیهاً عنه بعد الاجماع علی أنه یقع صحیحاً، ومع ذلک یکون ترکه أرجح، کما یظهر من مداومة الأئمة علیهم السلام علی الترک، إما لأجل انطباق عنوان ذی مصلحة علی الترک، فیکون الترک کالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن کان مصلحة الترک أکثر، فهما حینئذ یکونان من قبیل المستحبین المتزاحمین، فیحکم بالتخییر بینهما لو لم یکن أهم فی البین، وإلاّ فیتعین الأهم وإن کان الآخر یقع صحیحاً، حیث إنه کان راجحاً وموافقاً للغرض، کما هو الحال فی سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات، وأرجحیة الترک من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فیه أصلاً، کما

الشَرح:

المقام فإنّ الفعل فیه صلاح من دون حزازة ومنقصة فیه کما إذا لم یکن ترکه راجحاً.

وبالجملة فالکراهة فی هذا القسم امّا بمعنی أرجحیة عنوان ینطبق علی الترک أو ملازمة الترک للعنوان الذی فیه صلاح من غیر أن ینطبق علی الترک بأن یکون ملازماً له فقط فیکون الأمر نظیر ما کان منطبقاً علی الترک، غایة الأمر أنّ الفرق بین

ص :372

الصورتین أنّ الطلب المتعلق بترک الفعل لیس بحقیقی بل بالعرض والمجاز، ومتعلق الطلب فی الحقیقة إنّما هو العنوان الذی یلازم وجوده ترک الفعل، بخلاف ما إذا انطبق العنوان الراجح علی نفس الترک فإنّ متعلق الطلب فی هذا الفرض نفس الترک نظیر تعلق النهی بالفعل فی المکروهات المصطلحة فإنّ الطلب فیها یتعلق بنفس ترکها والفرق بینها وبین المقام هو أن تعلّق الطلب بالترک فی المکروهات المصطلحة إنّما یکون لحزازة الفعل ومنقصته وفی المقام لمصلحة فی نفس الترک لما ینطبق یوجبها ما إذا کان فیه مفسدة غالبة علی مصلحته، ولذا لا یقع صحیحاً علی الإمتناع، فإن الحزازة والمنقصة فیه مانعة عن صلاحیة التقرب به، بخلاف المقام، فإنه علی ما هو علیه من الرجحان وموافقة الغرض، کما إذا لم یکن ترکه راجحاً بلا حدوث حزازة فیه أصلاً.

وإما لأجل ملازمة الترک لعنوان کذلک، من دون انطباقه علیه، فیکون کما إذا انطبق علیه من غیر تفاوت، إلاّ فی أن الطلب المتعلق به حینئذ لیس بحقیقی،

الشَرح:

علی الترک من العنوان الراجح.

ویمکن فی کلا الفرضین أی فیما انطبق علی الترک عنوان راجح أو کان الترک ملازماً لتحقق أمر راجح تعلّق النهی بالفعل بنحو الإرشاد إلی أفضلیة ترکه أو ملازمه وعلی ذلک یکون تعلّق النهی الإرشادی بالفعل علی نحو الحقیقة فی الإسناد لا بالعرض والمجاز فلا تغفل.

وأورد المحقّق النائینی قدس سره علی الجواب المزبور بأنّ الإلتزام بالصلاح فی ناحیة کل من الفعل والترک لا یصحّح تعلّق الطلب بکلّ منهما فإنّه من طلب الجمع بین النقیضین إذا کان المراد من طلب کل منهما الجمع بینهما، ولو کان المراد حصول أحدهما یکون من قبیل طلب الحاصل، وبالجملة الصلاح فی کل من الفعل والترک أو الصلاح فی کل من الضدین الذین لا ثالث لهما، وکذا الصلاح فی أحد المتلازمین مع الفساد فی الآخر یوجب التزاحم فی الملاکات فعلی الحاکم مع قوة أحد الملاکین رعایته بجعل الحکم علی مقتضاه وعلی تقدیر عدم رجحان أحدهما علی الآخر لا یکون فی البین طلب أصلاً نعم إذا کان الضدان مما لهما ثالث فیمکن الأمر بأحدهما تخییراً أو بأحدهما تعییناً.

ص :373

ثمّ قال قدس سره بعد هذه المناقشة التحقیق فی الجواب عن کراهة صوم یوم عاشورا بل بالعرض والمجاز، فإنما یکون فی الحقیقة متعلقاً بما یلازمه من العنوان، بخلاف صورة الإنطباق لتعلقه به حقیقة، کما فی سائر المکروهات من غیر فرق، إلاّ أن منشأه فیها حزازة ومنقصة فی نفس الفعل، وفیه رجحان فی الترک، من دون حزازة فی الفعل أصلاً، غایة الأمر کون الترک أرجح.

نعم یمکن أن یحمل النهی __ فی کلا القسمین __ علی الإرشاد إلی الترک الذی هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح وأکثر ثواباً لذلک، وعلیه یکون النهی علی نحو الحقیقة، لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.

الشَرح:

هو الإلتزام بأنّ متعلّق النهی فعل ومتعلّق الأمر فعل آخر ویظهر ذلک بملاحظة تعلق النذر بالعبادة المستحبة فی نفسها والإجارة المتعلّقة بالعبادة وبملاحظة الفرق بین النذر والإجارة فإنّه إذا نذر صیام یوم معیّن یتعلّق النذر بعین ما تعلّق به الأمر الإستحبابی فیکون الإستحباب المتعلّق بنفس العمل مندکاً فی الوجوب الناشی من جهة تعلّق النذر به ویکتسب الوجوب التعبدیة من الإستحباب ویندک الإستحباب فی الوجوب فیتعلّق وجوب واحد بصوم ذلک الیوم وهذا بخلاف تعلّق الإجارة بالمستحبّ فانّ الإجارة لا تتعلّق بما تعلّق به الأمر الإستحبابی حیث إنّ الإستحباب تعلّق بنفس العمل کزیارة بیت اللّه الحرام، وإذا استأجره أحد للحج عنه فلا یندکّ الأمر الإستحبابی فی الوجوب الناشی من قبل الإجارة لاختلاف متعلّقهما، فإنّ الأمر الإستحبابی یتعلّق بزیارة بیت اللّه الحرام والأمر الوجوبی بالزیارة عن المستأجر لا ذات الزیارة ولو عن نفسه لأنّ الزیارة عن نفسه لا تصحّح الإجارة ولا تکون مورد الغرض العقلائی إذا لا تقع عن الغیر بحیث یعطی الأجرة علیها، فیکون متعلّق الإستحباب نفس العمل، ومتعلق الوجوب ذلک العمل عن الغیر فیمکن الأمر الوجوبی فی طول الأمر الإستحبابی ولا مانع من ثبوت حکمین طولیین فی واحد .··· . ··· .

الشَرح:

وصوم یوم عاشورا من هذا القبیل لأنّ الأمر الإستحبابی قد تعلق بنفس الصوم فیه، والکراهة تعلّقت بالتعبّد بأمره الإستحبابی بأن یصوم یومها امتثالاً للأمر به استحباباً،

ص :374

فیختلف المتعلّقان نعم لو کان النهی تحریماً لاقتضی تقیید الأمر بغیر متعلّق النهی لکن النهی التنزیهی حیث یتضمّن الترخیص فی الفعل فلا ینافی بقاء الأمر الإستحبابی بحاله(1).

أقول: فی موارد الإجارة علی العمل إن لوحظ استحباب العمل عن الغیر کما ثبت ذلک فی الحج الندبی عن الحی أو المیت وکان متعلّق الإجارة أیضاً الحج عن الغیر فلا فرق بین نذر العمل الندبی والإجارة المفروضة فی أنّ الثابت بعد الإجارة أو النذر وجوب واحد یندک فیه الإستحباب ویکتسب الوجوب التعبدیة من الاستحباب المتعلّق بالعمل مع قطع النظر عن الإجارة والوفاء بالنذر، وإن کان متعلّق الإجارة عمل الأجیر عن نفسه کما إذا استوجر لواجب کفائی وفرضنا أنّ الإجارة کذلک صحیحة علی ما ذکرنا فی بحث جواز أخذ الأجرة علی الواجبات، فلا یکون الوجوب الناشی عن عقد الإجارة متّحداً مع الوجوب أو الإستحباب المتعلّق بذات العمل بل یکون من قبیل استحباب عمل أو وجوبه مع وجوب عمل آخر، والعمل الآخر الإتیان بالفعل عن الغیر.

والحاصل أنّ ظاهر النهی عن العمل الذی یعتبر فی صحته التقرب هو عدم تشریعه کالنهی عن صوم یوم العیدین، وإذا فرض قیام الدلیل علی صحته مع ورود النهی عنه فلا یمکن أن یکون هذا النهی بمعنی مرجوحیّة الفعل والمنقصة فیه لأنّ .··· . ··· .

الشَرح:

مرجوحیة الفعل مانعة عن التقرّب إلی اللّه تعالی فلابدّ من حمله علی ما لا ینافی الأمر به عبادة الکاشف عن الصلاح فیه فیما إذا أتی به بنحو التقرب إلی اللّه تعالی وذلک بأن یترک المکلف ذات الفعل لا أن یترک التعبد بالفعل، بأن یأتی بالفعل من غیر تعبّد.

وبتعبیر آخر إذا قلنا بجواز أخذ قصد التقرب فی متعلّق الأمر یتعلّق الأمر بصوم یوم عاشورا المأتی به بقصد التقرب ویتعلق النهی بذات الامساک بلا قصد التقرب بمعنی مطلوبیة ترک ذات الصوم أی ارتکاب المفطّر فیه فیکون الأمر والنهی من قبیل

ص :375


1- (1) أجود التقریرات 1 / 364.

الأمر بکل من الفعلین اللذین لهما ثالث حیث لا یمکن للمکلّف الجمع بین الصوم بنحو العبادة وارتکاب المفطر ولکن یمکن له ترکهما بأن أمسک عن المفطرات بلا قصد التقرب فلم یأتی بالصوم بنحو العبادة حتی یمتثل الأمر الإستحبابی بالصوم ولم یترک ذات الصوم بالأکل حتی یأتی بالمطلوب الآخر وبتعبیر آخر إذا کان الصلاح فی الفعل بقصد التقرب وفی ترک ذات الفعل یکون الفرض کالمستحبین المتزاحمین علی ما تقدم فی تقریر کلام الماتن قدس سره .

نعم من التزم کالماتن بعدم إمکان أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر وأنّه لابدّ فی الأمر التعبدی من کون الصلاح فی ذات الفعل حتی یمکن التقرب به فلا یمکن تصویر کون الفعل عبادة والأمر به تعبدیاً مع کون ترکه أرجح من فعله کما لا یخفی.

ثمّ لا یخفی أنّه کما ذکرنا فی بحث أخذ الأجرة علی الواجب أنّه لو قلنا بجواز أخذها فی العبادات فیما لم یکن أخذها علیها من أکل المال بالباطل، فلا یلازم جواز الأخذ جواز النیابة فیها عن الغیر بل النیابة فی العبادات وغیرها یحتاج إلی قیام الدلیل علی مشروعیة النیابة ولا یکفی فی جوازها مجرّد استحباب نفس العمل فإنّ وأما القسم الثانی: فالنهی فیه یمکن أن یکون لأجل ما ذکر فی القسم الأول، طابق النعل بالنعل[1]، کما یمکن أن یکون بسبب حصول منقصة فی الطبیعة المأمور بها، لأجل تشخصها فی هذا القسم بمشخص غیر ملائم لها، کما فی الصلاة فی الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فیه، لا یناسب کونها معراجاً، وإن لم یکن نفس الکون فی الحمام بمکروه ولا حزازة فیه أصلاً، بل کان راجحاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

ظاهر الأمر بصلاة اللیل مشروعیتها عن المکلف لا مشروعیة النیابة فیها حیث إنّ مشروعیة النیابة هو استحباب العمل عن الغیر وهذا لا یستفاد من الأمر الإستحبابی بذات العبادة أو بذات العمل غیر العبادی.

[1] وتقریب جریان الجواب عن القسم الأوّل فی هذا القسم أیضاً هو أن یقال: بأنّ الوجوب وإن لم یتعلّق بالصلاة فی الحمام مثلاً حیث إنّ متعلّقة طبیعی الصلاة وخصوصیة کونها فی الحمام خارجة عن متعلّق الأمر إلاّ أنّ مقتضی اطلاق الطبیعی هو اشتمال الصلاة فی الحمام علی نفس المصلحة الملزمة التی تکون فی الصلاة فی

ص :376

غیره، والنهی عن الصلاة فی الحمام لیس للمنقصة والحزازة فیها بل لمّا کان فی ترکها فی الحمام مصلحة غیر ملزمة لانطباق عنوان ذی مصلحة علی ترکها فیه أو کان یلازم ترکها فیه تحقق عنوان راجح خارجاً، کان المقام من تزاحم بعض افراد الواجب مع المستحب ومقتضی حکم العقل أولویة رعایة المستحب بامتثال الواجب بفرده الآخر غیر المزاحم مع المستحب حتی فیما کانت الصلاة فی الحمام من النوافل المبتدئة حیث یمکن ترکها فی الحمام بالإتیان بها خارجه ولو بعدم دخول الحمام.

ولکن ظاهر النهی فی هذا القسم هو الإرشاد إلی المنقصة فی متعلّق الأمر مع تطبیقه علی الفرد المنهی عنه وبیان ذلک أنّ النهی عن تطبیق متعلّق الأمر علی فرد وربما یحصل لها لأجل تخصصها بخصوصیة شدیدة الملاءمة معها مزیة فیها کما فی الصلاة فی المسجد والأمکنة الشریفة ، وذلک لأن الطبیعة المأمور بها فی حد نفسها، إذا کانت مع تشخص لا یکون له شدّة الملاءمة، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزیة، کالصلاة فی الدار مثلاً، وتزداد تلک المزیة فیما کان تشخصها بماله شدّة الملاءمة، وتنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة، ولذلک ینقص ثوابها تارة ویزید أخری، ویکون النهی فیه لحدوث نقصان فی مزیتها فیه إرشاداً إلی ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد، ویکون أکثر ثواباً منه، ولیکن هذا مراد من قال: إن الکراهة فی العبادة بمعنی أنها تکون أقل ثواباً، ولا یرد علیه بلزوم اتصاف العبادة التی تکون أقل ثواباً من الأخری بالکراهة، ولزوم اتصاف ما لا مزید فیه ولا منقصة بالإستحباب، لأنه أکثر ثواباً

الشَرح:

إذا لم یثبت فی التطبیق ترخیص کما فی النهی عن الصلاة فیما لا یؤکل لحمه، ظاهره الإرشاد إلی مانعیّة الخصوصیّة فیتقیّد متعلّق الأمر بغیر تلک الخصوصیة لا محالة ویعبّر عن تلک الخصوصیة بالمانع بخلاف ما إذا ثبت فیه ترخیص بأن یکون العمل مع الخصوصیة المنهی عنها صحیحاً فإنّ هذا النهی لا ینافی إطلاق المتعلّق لفرض جواز تطبیقه علیه وقد تقدم أنّ إطلاق المتعلق مقتضاه الترخیص فی تطبیقه علی أی فرد فیکون النهی مع إطلاق المتعلّق ظاهراً فی الإرشاد إلی المنقصة التی تحصل فی ملاک الطبیعی بما لا یسقطه عن المقدار اللازم من الملاک بل یکون النقص بالإضافة إلی تطبیقه علی فرد لا دخل للخصوصیة فی زیادة ملاک الطبیعی ولا فی نقصانه کما أنّه ربّما یکون تطبیقه علی فرد موجباً للزیادة فی ملاک الطبیعی بمقدار لا یلزم

ص :377

استیفاء تلک الزیادة، ولذا ینهی عن الصلاة فی الحمام ویؤمر بالصلاة فی المسجد وأوّل الوقت ولا ینهی ولا یؤمر بالصلاة فی البیت.

وبالجملة الأمر أو النهی فی هذا القسم أی فیما یکون للواجب افراد وابدال مما فیه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من کونه أقل ثواباً، إنما هو بقیاسه إلی نفس الطبیعة المتشخصة بما لا یحدث معه مزیة لها، ولا منقصة من المشخصات، وکذا کونه أکثر ثواباً، ولا یخفی أن النهی فی هذا القسم لا یصح إلاّ للإرشاد، بخلاف القسم الأول، فإنه یکون فیه مولویاً، وإن کان حمله علی الإرشاد بمکان من الإمکان.

وأما القسم الثالث: فیمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة المتحدة مع ذاک العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز[1]، وکان المنهی عنه به حقیقة ذاک

الشَرح:

للإرشاد إلی الکمال أو المنقصة فی الطبیعی بخصوصیة بعض الافراد أو بعض الابدال المعبّر عنهما بأکثریة الثواب أو أقلیته بالنسبة إلی نفس الطبیعة ولا وجه للإیراد علی تفسیر النهی فی هذا القسم من العبادة بأقلیّة الثواب بأنّ ردّ السلام والتحیة مثلاً أقل ثواباً من الإبتداء بالسلام فیکون ردّه مکروهاً وکذا بعض الواجب أقلّ ثواباً من الجهاد فی سبیل اللّه فیلزم کونه مکروهاً أو أنّ الصلاة فی الدار مستحبة لکونها أکثر ثواباً من الصلاة فی الحمام وذلک فإنّ المقیس علیه فی کون العبادة أقل ثواباً أو أکثر ثواباً هو الطبیعی بالتشخص الذی لا دخل للخصوصیة فی ملاکه زیادة ونقصاناً کما فی تشخص الصلاة بکونها فی الدار.

[1] ذکر قدس سره فی القسم الثالث أنّه یمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة تکلیفیاً ولکن تعلّقه بالعبادة بنحو المجاز فی الاسناد بأن یکون متعلّق النهی التنزیهی فی الحقیقة العنوان الذی ینطبق علی العبادة أو یلازم تلک العبادة فیکون ترکیب العنوان المنهی عنه مع متعلّق الأمر إتحادیاً فی الأوّل وانضمامیاً فی الثانی ویمکن أن یحمل النهی المتعلّق بالعبادة فی خطابه علی الإرشاد إلی إختیار غیره من افراد الواجب مثلاً إذا ورد النهی عن الصلاة فی مواضع التهمة یکون النهی إرشاداً إلی اختیار الصلاة فی غیر مواضعها لیستوفی ملاک العبادة بلا ابتلاء بحزازة الکون فی مواضع التهمة.

العنوان، ویمکن أن یکون علی الحقیقة إرشاداً إلی غیرها من سائر الأفراد، مما لا یکون متحداً معه أو ملازماً له، إذ المفروض التمکن من استیفاء مزیة العبادة، بلا

ص :378

ابتلاء بحزازة ذاک العنوان أصلاً، هذا علی القول بجواز الإجتماع.

وأما علی الإمتناع، فکذلک فی صورة الملازمة، وأما فی صورة الاتحاد وترجیح جانب الأمر __ کما هو المفروض، حیث إنه صحة العبادة __ فیکون حال النهی فیه حاله فی القسم الثانی، فیحمل علی ما حمل علیه فیه، طابق النعل بالنعل، حیث إنه بالدقة یرجع إلیه، إذ علی الإمتناع، لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلاّ من مخصصاته ومشخصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیة زیادة ونقیصة بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت.

الشَرح:

هذا بناءاً علی جواز اجتماع الأمر والنهی فی موارد الترکیب الإنضمامی والإتحادی فإنّ متعلّق الأمر والنهی بناءاً علی الجواز متعدّد لا یسری أحدهما إلی الآخر فلا مانع من اجتماع الوجوب والکراهة، ولکن بما أنّ المجمع بناءاً علی القول بالجواز واجد للحزازة فیکون النهی عن المجمع ارشاداً إلی إختیار غیره فی إمتثال الأمر، کما یمکن أن یکون النهی عنه بالعرض والمجاز حیث إنّ متعلّقه العنوان المتّحد أو الملازم.

وأمّا بناءاً علی القول بالإمتناع یدور أمر النهی عن المجمع بین الأمرین أیضاً _ من التکلیف والارشاد _ فی موارد الترکیب الإنضمامی، حیث إنّ إمتناع کون المجمع عبادة ومشتملاً علی الحزازة یختص بموارد الترکیب الإتحادی.

ثم علی القول بامتناع الإجتماع فیه مع فرض تقدیم جانب الأمر _ الذی یقتضی صحة العبادة _ لابدّ من حمل النهی عن المجمع علی الإرشاد إلی حصول المنقصة فی ملاک طبیعی المأمور به.

وقد انقدح بما ذکرناه، أنه لا مجال أصلاً لتفسیر الکراهة فی العبادة بأقلیّة الثواب فی القسم الأول مطلقاً، وفی هذا القسم علی القول بالجواز، کما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فیها، وأن الأمر الإستحبابی یکون علی نحو الإرشاد إلی أفضل الأفراد مطلقاً علی نحو الحقیقة، ومولویاً اقتضائیاً کذلک، وفعلیاً بالعرض والمجاز فیما کان ملاکه ملازمتها لما هو مستحب، أو متحداً معه علی القول بالجواز.

ولا یخفی أنه لا یکاد یأتی القسم الأول هاهنا، فإن انطباق عنوان راجح علی الفعل الواجب الذی لا بدل له إنما یؤکد إیجابه، لا أنه یوجب استحبابه أصلاً، ولو

ص :379

بالعرض والمجاز، إلاّ علی القول بالجواز، وکذا فیما إذا لازم مثل هذا العنوان، فإنه لو لم یؤکد الإیجاب لما یصحح الإستحباب إلاّ اقتضائیاً بالعرض والمجاز، فتفطن.

الشَرح:

وبتعبیر آخر یکون النهی عن العبادة فی هذا القسم فی موارد الترکیب الإتحادی وتقدیم جانب الأمر، نظیر النهی عن العبادة فی القسم الثانی فی کونه إرشاداً إلی أقلیّة الثواب لا نهیاً تکلیفیاً کاشفاً عن الحزازة فی متعلّقه، فإنّ هذا النهی غیر ممکن أن یجتمع مع صحة العبادة، وبالجملة الإلتزام بامتناع إجتماع الأمر والنهی فی موارد الترکیب الإتّحادی یوجب رفع الید عن النهی التنزیهی فی المجمع فیکون المجمع فرداً من متعلّق الأمر فعلاً وحیث إنّ ملاک النهی المغلوب فی المجمع یوجب نقصاناً فی ملاک الواجب فیکون الفرد المزبور أقل ثواباً بالإضافة إلی سائر أفراده، وفی الحقیقة الإتحاد مع العنوان المکروه المغلوب فی ملاک کراهته الموجب لسقوط الکراهة من أفراد الطبیعی الواجب وعلیه یلزم النقص فی ملاک الواجب وقلّة ثوابه کما تقدّم فی القسم الثانی.

لا یقال: ذکر الماتن قدس سره فی هذا القسم أنّ تعلّق النهی التکلیفی بالمجمع لانطباق العنوان المکروه علیه بالعرض والمجاز مع أنّه ذکر فی القسم الأوّل انّ تعلّق النهی .··· . ··· .

الشَرح:

بصوم یوم عاشورا، لانطباق العنوان الحسن علی ترکه من الحقیقة فما الفارق بین القسمین.

فإنّه یقال: الفرق ظاهر فإنّ الأمر الإستحبابی وإن تعلّق فی القسم الأوّل بعنوان ینطبق علی ترک الفعل إلاّ أنّ ترکه هو المطلوب حقیقة بناءاً علی الأمر الثانی المتقدم من أنّ متعلقات الأحکام ما یصدر عن المکلف خارجاً فعلاً أو ترکاً بخلاف هذا القسم فإنّه بناءاً علی جواز اجتماع الأمر والنهی حتی فی موارد الترکیب الإتّحادی یتعلّق النهی حقیقة بالعنوان من دون أن یسری إلی المعنون فیکون تعلق النهی فی الخطاب بالمعنون من اسناد النهی إلی غیر متعلّقة حقیقة ولذا ذکر قدس سره أنّ النهی عن المجمع بالعرض والمجاز نعم لو أرید من النهی عن المجمع حتی بناءاً علی جواز الإجتماع الإرشاد إلی إختیار سائر الافراد یکون تعلّقه به علی نحو الحقیقة لا المجاز

ص :380

فی الاسناد.

ثمّ إنّه قدس سره ذکر فی المقام ما ظاهره جواز الإجتماع فی موارد الترکیب الإنضمامی حیث ذکر هذا علی القول بجواز الإجتماع وامّا علی القول بالإمتناع فکذلک فی صورة الملازمة فإنّ مقتضی هذا الکلام أنّ النهی فی موارد الملازمة یحمل علی الکراهة التکلیفیة غایة الأمر یکون تعلّقها بالعبادة فی المجمع دون الملازم لها من المجاز فی الاسناد ولکنّه قدس سره لا یری جواز الإجتماع حتی فی موارد الترکیب الإنضمامی أیضاً حیث بنی علی عدم إمکان إختلاف المتلازمین فی الحکم إلاّ أن یعتذر أنّ الطبیعی الواجب فی الفرض لا یلازم المکروه حتی یلتزم بکون الکراهة فی الملازم اقتضائیة بل فرده یلازم المکروه، وحکم الفرد الترخیص فی التطبیق علیه وهذا لا ینافی کراهة لازمه لأنّ الکراهة أیضاً یلازمها الترخیص فی الفعل وبالجملة .··· . ··· .

الشَرح:

فلا یختلف المتلازمان لتکون الکراهة فی العنوان الملازم لفرد الواجب اقتضائیة وقد کرّر قدس سره ثبوت حکمین فعلیین فی موارد الترکیب الإنضمامی حتی بناءاً علی القول بالإمتناع عند تعرضه لاجتماع الوجوب والإستحباب حیث ذکر ما حاصله أنّ الأمر الإستحبابی المتعلّق بفرد من الواجب إلی کونه أفضل الافراد، إسناده إلی ذلک الفرد حقیقی سواء قیل بجواز الإجتماع أو بامتناعه.

نعم الإستحباب التکلیفی فی ذلک الفرد لا یکون فعلیا بل یکون اقتضائیاً علی نحو الحقیقة وانّما یکون الإستحباب فعلیاً علی القولین فیما کان العنوان الراجح ملازماً لذلک الفرد فیکون إسناد الاستحباب التکلیفی إلی الفرد المزبور مجازاً فانّ المستحب حقیقة هو الملازم الخارجی بنفسه أو بعنوانه، وکذلک یکون استحبابه فعلیاً فی مورد الترکیب الإتّحادی علی القول بالجواز، ولکن اسناد الإستحباب إلی الفرد مجاز بناءاً علی القول بالجواز، لأنّ المتعلق له هو العنوان ولا یسری حکمه إلی المعنون.

فقوله «علی القول بالجواز» قید لقوله «أو متّحد معه».

وبالجملة الإلتزام بثبوت حکمین فعلیین فی موارد الترکیب الإنضمامی حتی علی القول بالإمتناع لا یناسب ما بنی علیه فی بحث الضدّ من امتناع اختلاف

ص :381

المتلازمین فی الحکم، وکذا لا یناسب ما ذکره فی المقام فی آخر کلامه من أنّه لا یجری القسم الأول الذی ذکره فی العبادات المکروهة وهو ما لا بدل له فی إستحباب الواجب الذی لا بدل له، فانّه قدس سره ذکر أنّ انطباق العنوان الراجح علی الواجب الذی لا بدل له لا یوجب استحبابه أصلاً أی لا فعلاً ولا شأناً، بل یؤکّد إیجابه إلاّ علی القول بجواز الإجتماع فانّه علیه یکون المستحب هو العنوان الراجح ویکون .··· . ··· .

الشَرح:

اسناد الإستحباب إلی الواجب بالعرض والمجاز هذا فی الترکیب الإتّحادی وکذلک فی الترکیب الإنضمامی فانّ تحقّق عنوان راجح ملازم للواجب علی القول بالإمتناع لو لم یؤکّد وجوب الواجب لا یوجب تحقق استحباب فعلی فی البین وانّما یوجب تحقق استحباب شأنی یعنی اقتضائی یکون اسناد ذلک الإستحباب الشأنی إلی فعل الواجب بالعرض والمجاز فانّ المتعلّق به حقیقة هو ملازم الواجب لا نفس الواجب وظاهر هذا الکلام عدم جواز اختلاف المتلازمین فی الحکم الفعلی، إلاّ أن یعتذر بما ذکرنا قبل ذلک من أنّ ملازم الواجب لا یمکن أن یختلف حکمه مع حکم الواجب کما فی استحباب الملازم فی الواجب الذی لا بدل له، وامّا ملازم فرد الواجب فلا بأس بکون حکمه ترخیصیاً لأنّ الثابت أیضاً فی فرد الواجب الترخیص فی التطبیق لا الإلزام به ولعلّ قوله قدس سره فی آخر کلامه «فتفطّن» اشارة إلی ذلک.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ جواز الإجتماع الذی ذکره فی المقام فی موارد الترکیب الإنضمامی لا ینافی ما ذکره فی بحث الضد من عدم إمکان شمول الأمر بالطبیعی للفرد الذی یزاحم الواجب الأهم حیث إنّ الأمر بالواجب الآخر فوراً لا یجتمع مع الترخیص فی تطبیق الواجب الموسع علی الفرد المزاحم وإن کان ما ذکره غیر صحیح لما تقدم من عدم المزاحمة بین الواجب المضیق والموسع وإمکان الأمر بالمهمّ علی نحو الترتب علی تقدیر مزاحمته بالأهم إلاّ أنّ الغرض رفع التهافت بین کلامه فی المقام وبین ما ذکره فی بحث الضّد.

وذکر النائینی قدس سره أنّه لو کان کل من الأمر والنهی بمعنی الکراهة الإصطلاحیة متعلقاً بعنوان غیر العنوان المتعلق للآخر وکانا متصادقین فی واحد بأن یکون ترکیبهما فیه اتحادیاً یؤخذ بکلا الخطابین ولا یکون فی البین أیّ تقیید لا فی ناحیة

ص :382

.··· . ··· .

الشَرح:

متعلق الأمر ولا فی ناحیة متعلق النهی التنزیهی وإنّما یتعین التقیید فی مورد کون النهی تحریمیاً وذلک فإنّ الأمر المتعلّق بالطبیعی یلازم الترخیص فی تطبیقه علی أی فرد من افراده ولو کان النهی المتعلّق بالعنوان الآخر تحریمیاً لکان النهی عن المجمع منافیاً للترخیص فی تطبیق متعلّق الأمر علیه بخلاف ما إذا کان النهی تنزیهیّاً فإنّ النهی عن المجمع کذلک لا ینافی الترخیص فی تطبیق متعلّق الأمر علیه حیث إنّ النهی المزبور یتضمّن الترخیص فی الفعل فلا موجب للتقیید أصلاً(1).

أقول: ما ذکر قدس سره لا یصحّ بناءاً علی ما ذکروا من اعتبار کون الفعل ممّا یمکن أن یتقرّب به فی العبادات بأن یکون الفعل المزبور بحسب الملاک أرجح من ترکه، وثبوت الکراهة الإصطلاحیة فی الفعل تقتضی کون الفعل مرجوحاً وثبوت الحزازة فیه بحیث یصحّ التقرب بترکه، فصحّة الفعل عبادة تتوقف علی المصلحة الغالبة فی الفعل لیمکن التقرب به فالکراهة المصطلحة بمنشأها متنافیة مع العبادة سواء کانت العبادة واجبة أو مستحبة ولیس تنافیهما من جهة عدم إمکان موافقة الحکمین لیقال اختصاص ذلک بالنهی التحریمی.

والحاصل أنّ الأمر بعنوان وجوباً أو استحباباً مع النهی عن عنوان آخر مطلقاً تحریماً أو کراهة فی مورد اجتماع ذینک العنوانین مع کون ترکیبهما اتحادیاً، یقتضی رفع الید عن الإطلاق فی ناحیة أحد المتعلّقین نعم لو کان متعلّق الأمر الفعل بقصد التقرب وقلنا بإمکان انقلاب حزازة الفعل إلی الصلاح مع قصد التقرب فیمکن أن یکون الإتیان بذات الفعل المکروه مع قصد التقرب فیه راجحاً ومستحباً وقد احتملنا ومنها: إن أهل العرف یعدون من أتی بالمأمور به فی ضمن الفرد المحرم، مطیعاً وعاصیاً[1] من وجهین، فإذا أمر المولی عبده بخیاطة ثوب ونهاه عن الکون

الشَرح:

ذلک فی مثل کراهة صوم یوم عاشورا وعلیه فیمکن الأخذ بکلا الإطلاقین ولکن هذا یحتاج إلی دلیل خاص یکون مدلوله کون ترک الفعل أرجح من نفس الفعل وأنّ الفعل

ص :383


1- (1) أجود التقریرات 1 / 361.

مع قصد التقرب أرجح من ترکه وهذا غیر اجتماع الکراهة والترخیص فی تطبیق الواجب علی المجمع فی حال واحد.

الدلیل الثانی علی الجواز

[1] ذکر قدس سره _ فی الجواب عن الاستدلال بأنّ الأمر بالخیاطة والنهی عن الکون فی مکان خاصّ _ أنّ المثال لیس من باب الإجتماع فإنّ الکون المنهیّ عنه غیر متّحد مع خیاطة الثوب وجوداً ومورد الکلام فی مسألة جواز الإجتماع هو موارد الترکیب الإتحادی ولا یصدق فی موارده أنّ الآتی بمتعلق الأمر ومتعلق النهی مع اتحادهما وجوداً أنّه مطیع وعاص بل هو إمّا مطیع إذا قدّم جانب الأمر، أو عاصٍ إذا قدّم جانب النهی.

نعم، لا بأس بصدق الطاعة فی التوصلیات لحصول الغرض ولیست الطاعة هذه بمعنی امتثال الأمر وأمّا فی العبادات فلا یمکن حصول الغرض إلاّ مع سقوط الحرمة عن المجمع أو وقوعه عن المکلف غیر مبغوض علیه کما فی صورة الجهل بحرمته قصوراً کما تقدم.

أقول: کلامه أیضاً فی الجواب عن الاستدلال ظاهر فی أنّ الاختلاف فی مسألة جواز الاجتماع یختصّ بموارد الترکیب الاتحادی وبون بعید بین ذلک وبین ما ذکره المحقق النائینی قدس سره من أنّ الاختلاف فی مسألة جواز الاجتماع وعدمه یختصّ بموارد الترکیب الانضمامی، وأنّ الامتناع فی موارد الترکیب الاتّحادی متسالم علیه، وقد ذکرنا أنّ کلا الموردین مورد الخلاف، غایة الأمر القائل بالامتناع فی موارد فی مکان خاص، کما مثل به الحاجبی والعضدی، فلو خاطه فی ذاک المکان، عد مطیعاً لأمر الخیاطة وعاصیاً للنهی عن الکون فی ذلک المکان.

وفیه __ مضافاً إلی المناقشة فی المثال، بأنه لیس من باب الإجتماع، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً، کما لا یخفی __ المنع إلاّ عن صدق أحدهما، إما الإطاعة بمعنی الإمتثال فیما غلب جانب الأمر، أو العصیان فیما غلب جانب النهی، لما عرفت من البرهان علی الامتناع.

نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنی حصول الغرض والعصیان فی التوصلیات، وأما فی العبادات فلا یکاد یحصل الغرض منها، إلاّ فیما صدر من المکلف فعلاً غیر محرم وغیر مبغوض علیه، کما تقدم.

بقی الکلام فی حال التفصیل من بعض الأعلام، والقول بالجواز عقلاً والإمتناع

ص :384

عرفاً[1].

الشَرح:

الترکیب الانضمامی یعلّله بعدم امکان اختلاف المتلازمین فی الحکم دون اتّحاد متعلّقی الأمر والنهی خارجاً.

القول بالتفصیل بین الجواز عقلاً والامتناع عرفاً

[1] وأمّا التفصیل فی المسألة فی موارد الترکیب الاتحادی بین الالتزام بالجواز عقلاً وعدم الجواز عرفاً فلا وجه له، فإنّه لا سبیل إلی الإمتناع لأهل العرف فی حکمهم بالامتناع أوالجواز غیر عقلهم إلاّ أن یقال إنّ بعض الموارد التی یری العقل انّ فی المجمع وجودین أحدهما متعلّق الأمر والآخر متعلّق النهی یراهما العرف وجوداً واحداً، کما ذکرنا ذلک فی الوضوء بالماء المباح من الإناء المغصوب بنحو الارتماس حیث قلنا إنّ الوضوء بحسب الدّقة العقلیّة غیر وضع العضو فی الماء وادخاله فی الإناء ولکن العرف یری _ بالتسامح _ ارتماس العضو فی الاناء تصرفاً فیه ووضوءً، وفیه: إنه لا سبیل للعرف فی الحکم بالجواز أو الإمتناع، إلاّ طریق العقل، فلا معنی لهذا التفصیل إلاّ ما أشرنا إلیه من النظر المسامحی الغیر المبتنی علی التدقیق والتحقیق، وأنت خبیر بعدم العبرة به، بعد الاطلاع علی خلافه بالنظر الدقیق، وقد عرفت فیما تقدم أن النزاع لیس فی خصوص مدلول صیغة الأمر والنهی، بل فی الأعم، فلا مجال لأن یتوهم أن العرف هو المحکم فی تعیین المدالیل، ولعله کان بین مدلولیهما حسب تعیینه تناف، لا یجتمعان فی واحد ولو بعنوانین، وإن کان العقل یری جواز اجتماع الوجوب والحرمة فی واحد بوجهین، فتدبر.

الشَرح:

ولکن لا اعتبار بتسامحه فیما لو أمکن التفاته إلی مسامحته ولو بالتنبیه وإلاّ فلا یبعد الاعتبار به، وبالجملة لا اعتبار بالمسامحات العرفیة فی تطبیق العناوین علی مصادیقها فیما أمکن تنبّههم علیه إلاّ مع قیام دلیل خاص علی اعتبار مسامحتهم.

وتوجیه الجواز عقلاً والامتناع عرفاً هو بأنّ الأمر بالشیء ظاهره الأمر به فی مصادیق لا یعمّها خطاب النهی، فهذا یرجع إلی الجمع العرفی بین خطابی الأمر والنهی فیجوز عقلاً اجتماعهما فی واحد بوجهین وبعد فرض کون الترکیب بین العنوانین فی المجمع اتحادیاً لا یمکن أن یعمّه الخطابان معاً فیمتنع عرفاً.

ص :385

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص :1

اشارة

ص :2

کِفایَهُ الاصُول دُرُوس فی مَسائِلِ عِلم الاصُوُل

الجُزءُ الثَّالِث

مَبَاحِثُ الالفاظِ

ص :3

ص :4

تتمة المقصد الثانی

اشارة

وینبغی التنبیه علی أمور:

الأول: إن الاضطرار إلی ارتکاب الحرام، وإن کان یوجب[1] ارتفاع حرمته، والعقوبة علیه مع بقاء ملاک وجوبه __ لو کان __ مؤثراً له، کما إذا لم یکن بحرام بلا کلام، إلاّ أنه إذا لم یکن الاضطرار إلیه بسوء الاختیار، بأن یختار ما یؤدی إلیه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه حینئذ، وإن کان ساقطاً، إلاّ أنه حیث یصدر عنه مبغوضاً علیه وعصیاناً لذاک الخطاب ومستحقاً علیه العقاب، لا یصلح لأن یتعلق به الإیجاب، وهذا فی الجملة مما لا شبهة فیه ولا ارتیاب.

وإنما الإشکال فیما إذا کان ما اضطر إلیه بسوء اختیاره، مما ینحصر به التخلص عن محذور الحرام، کالخروج عن الدار المغصوبة فیما إذا توسطها بالاختیار فی کونه منهیاً عنه، أو مأموراً به، مع جریان حکم المعصیة علیه، أو بدونه، فیه أقوال، هذا علی الإمتناع.

وأما علی القول بالجواز، فعن أبی هاشم أنه مأمور به ومنهی عنه، واختاره الفاضل القمی، ناسباً له إلی أکثر المتأخرین وظاهر الفقهاء.

الشَرح:

التنبیه الأول: الاضطرار إلی ارتکاب الحرام

[1] کان الأولی للماتن قدس سره تغییر هذه العبارة فإنّها لا تخلو عن التعقید ودأبه قدس سره فی الکتاب هو الإیجاز بلا تعقید.

وقوله: «مؤثراً له» راجع إلی بقاء ملاک وجوبه، یعنی یبقی ملاک وجوبه مؤثراً فی الوجوب لو کان فیه ملاکه.

فمراده أنّه لا کلام ولا تأمّل فی ارتفاع حرمة الفعل وارتفاع استحقاق العقاب

ص :5

والحق أنه منهی عنه بالنهی السابق الساقط بحدوث الإضطرار إلیه، وعصیان له بسوء الإختیار، ولا یکاد یکون مأموراً به، کما إذا لم یکن هناک توقف علیه، أو بلا انحصار به، وذلک ضرورة أنه حیث کان قادراً علی ترک الحرام رأساً، لا یکون عقلاً معذوراً فی مخالفته فیما اضطر إلی ارتکابه بسوء اختیاره، ویکون معاقباً علیه، کما إذا کان ذلک بلا توقف علیه، أو مع عدم الإنحصار به، ولا یکاد یجدی توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لکونه بسوء الإختیار.

إن قلت: کیف لا یجدیه، ومقدمة الواجب واجبة؟

قلت: إنما یجب المقدمة لو لم تکن محرمة، ولذا لا یترشح الوجوب من الواجب إلاّ علی ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراکهما فی المقدمیة.

الشَرح:

علیه فی مورد الاضطرار إلیه ومع ارتفاع حرمته والعقاب علی ارتکابه لو کان فیه ملاک الوجوب یؤثر ذلک الملاک فی وجوبه فعلاً کتأثیر ملاک الوجوب فی وجوب فعل لم یکن بحرام أصلاً.

ولکن هذا ینحصر بما إذا لم یکن الاضطرار إلی _ الفعل الذی فیه ملاک الوجوب _ بسوء الاختیار وأمّا لو کان بسوء الاختیار کما إذا اضطر إلیه بارتکاب محرم آخر، أو ارتکاب فعل یعلم بأنّ ارتکابه ینجرّ إلی ارتکاب الحرام فحرمته الفعلیة وإن کانت ترتفع أیضاً إلاّ أنّ مبغوضیته واستحقاق العقوبة علیه یبقیان علی حالهما ولا یمکن أن یؤثر ملاک الوجوب فی وجوبه ولا شبهة فی ارتفاع الحرمة وبقاء المبغوضیة وعدم تأثیر ملاک الوجوب فی وجوبه فی الموارد التی لا ینحصر التخلّص عن الحرام الأهمّ فی ارتکاب الحرام المضطرّ إلیه بسوء الاختیار.

وأمّا فی مورد انحصار التخلّص عنه فی ارتکابه، ففیه خلاف کما فی الخروج عن الدار المغصوبة فیما إذا توسّطها بسوء الاختیار فهل التصرف الخروجی فیها

ص :6

وإطلاق الوجوب بحیث ربما یترشح منه الوجوب علیها مع انحصار المقدمة بها، إنما هو فیما إذا کان الواجب أهم من ترک المقدمة المحرمة، والمفروض هاهنا وإن کان ذلک إلاّ أنه کان بسوء الإختیار، ومعه لا یتغیر عما هو علیه من الحرمة والمبغوضیة، وإلاّ لکانت الحرمة معلّقة علی إرادة المکلف واختیاره لغیره، وعدم حرمته مع اختیاره له، وهو کما تری، مع أنه خلاف الفرض، وأن الإضطرار یکون بسوء الإختیار.

إن قلت: إن التصرف فی أرض الغیر بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام، بلا إشکال ولا کلام، وأما التصرف بالخروج الذی یترتب علیه رفع الظلم، ویتوقف علیه التخلص عن التصرف الحرام، فهو لیس بحرام فی حال من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر، المتوقف علیه النجاة من الهلاک فی الاتصاف بالوجوب فی جمیع الأوقات.

الشَرح:

منهی عنه، أو مأمور به مع جریان حکم المعصیة علیه، أو لا یجری علیه حکم المعصیة وجوه، هذا علی القول بامتناع اجتماع الأمر والنهی.

وأمّا بناءاً علی جواز الاجتماع قیل إنّه مأمور به ومنهی عنه واختاره الفاضل القمی قدس سره ناسباً له إلی أکثر المتأخرین وظاهر الفقهاء وقد اختار قدس سره أنّ التصرف الخروجی فیها منهی عنه بالنهی السابق الساقط بالاضطرار ویستحق العقاب علیه لکونه عصیاناً بالنهی السابق ولا یمکن أن یکون مأموراً به شرعاً کما إذا لم یکن فی البین توقف علیه للتخلّص عنه أو لم ینحصر التخلّص به؛ لأنّ المکلف کان متمکناً من ترکه بترک الدخول ولا یکون عند العقل معذوراً فی مخالفة النهی حتی مع اضطراره إلی ارتکابه بسوء إختیاره، وأنّ توقف انحصار التخلّص عن الحرام علیه لا یجدی فی وجوبه لکونه بسوء الاختیار هذا بالإضافة إلی مراد الماتن قدس سره .

لا یقال: إذا کان الحرام مضطراً إلیه بحیث لابدّ للمکلف من ارتکابه فلا یکون ملاک وجوبه مؤثراً فی وجوبه فإنّ ایجابه مع الاضطرار إلیه من طلب الحاصل.

ص :7

ومنه ظهر المنع عن کون جمیع انحاء التصرف فی أرض الغیر مثلاً حراماً قبل الدخول، وأنه یتمکن من ترک الجمیع حتّی الخروج، وذلک لأنه لو لم یدخل لما کان متمکّناً من الخروج وترکه، وترک الخروج بترک الدخول رأساً لیس فی الحقیقة إلاّ ترک الدخول، فمن لم یشرب الخمر، لعدم وقوعه فی المهلکة التی یعالجها به مثلاً، لم یصدق علیه إلاّ أنه لم یقع فی المهلکة، لا أنه ما شرب الخمر فیها، إلاّ علی نحو السالبة المنتفیة بانتفاء الموضوع، کما لا یخفی.

وبالجملة لا یکون الخروج __ بملاحظة کونه مصداقاً للتخلص عن الحرام أو سبباً له __ إلاّ مطلوباً، ویستحیل أن یتصف بغیر المحبوبیة، ویحکم علیه بغیر المطلوبیة.

الشَرح:

فإنّه یقال: الاضطرار إلی الارتکاب لا یخرج الفعل عن الاختیار بل یمکن عقلاً ترکه مع ارتفاع حرمته عقلاً کما إذا توقف حیاته علی أکل المیتة فإنّ إیجاب أکلها لا یکون من طلب الحاصل.

أضف إلی ذلک أنّ الحرام الساقط حرمته بالاضطرار کثیراً ما لا یکون تمام الواجب بل بعضه فیکون الأمر بذلک الواجب بعد سقوط الحرمة بالاضطرار إلی الحرام أمراً ممکناً کما فی الأمر بالصلاة مع الرکوع والسجود الاختیاریین للمحبوس فی الدار المغصوبة ظلماً ونظیر ذلک ما إذا أکره علی التصرف فی الماء المملوک للغیر ودار الأمر بین أن یستعمله فی وضوئه أو فی تصرف آخر فإنّه یتعین علیه صرفه فی وضوئه وبتعبیر آخر یخرج بالإکراه عن عنوان فاقد الماء.

حکم الصلاة حال الخروج

ثمّ یقع الکلام فی التصرف فی الدار المغصوبة بالخروج عن الغصب والتخلّص عنه فیما إذا توسّطها بسوء الاختیار فهل هو واجب شرعاً حیث التزم صاحب الفصول قدس سره أنّه واجب شرعاً مع جریان حکم المعصیة علیه، والتزم الشیخ

ص :8

قلت: هذا غایة ما یمکن أن یقال فی تقریب الإستدلال علی کون ما انحصر به التخلص مأموراً به، وهو موافق لما أفاده شیخنا العلامة (أعلی اللّه مقامه)، علی ما فی تقریرات بعض الأجلّة، لکنه لا یخفی أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترک الواجب، إنما یکون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل، وإن کان قبیحاً ذاتاً إذا لم یتمکن المکلف من التخلص بدونه، ولم یقع بسوء اختیاره، إما فی الإقتحام فی ترک الواجب أو فعل الحرام، وإما فی الإقدام علی ما هو قبیح وحرام، لولا أن به التخلص بلا کلام کما هو المفروض فی المقام، ضرورة تمکنه منه قبل اقتحامه فیه بسوء اختیاره.

وبالجملة کان قبل ذلک متمکناً من التصرف خروجاً، کما یتمکن منه دخولاً، غایة الأمر یتمکن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرد عدم التمکن منه إلاّ بواسطة لا یخرجه عن کونه مقدوراً، کما هو الحال فی البقاء، فکما یکون ترکه مطلوباً فی جمیع الأوقات، فکذلک الخروج، مع أنه مثله فی الفرعیة علی الدخول، فکما لا تکون الفرعیة مانعة عن مطلوبیته قبله وبعده، کذلک لم تکن مانعة عن مطلوبیته، وإن کان العقل یحکم بلزومه إرشاداً إلی اختیار أقل المحذورین وأخف القبیحین.

الشَرح:

الأنصاری قدس سره بوجوبه من غیر جریان حکم المعصیة علیه، واختاره المحقق النائینی قدس سره ، أو أنّه غیر مأمور به شرعاً بل منهی عنه بالنهی السابق الساقط فیقع عصیاناً ولکن العقل یرشد إلی اختیاره من باب ارشاده إلی ارتکاب أقل المحذورین کما علیه الماتن قدس سره .

فالصحیح هو قول الماتن قدس سره بتقریب: أنّ الحرکة فی الدار المغصوبة ولو للتخلّص عن الغصب داخل فی التصرف فی مال الغیر بلا رضاه وکان المکلّف متمکّناً عن ترکه ولو بترکه الدخول فیها ولذلک کان منهیاً عنه کالتصرف بالدخول فیها، وکما أنّ الدخول کان عصیاناً للنهی عن التصرف فیها کذلک الخروج عنها بعد

ص :9

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجاً وتخلصاً عن المهلکة، وأنه إنما یکون مطلوباً علی کل حال لو لم یکن الإضطرار إلیه بسوء الإختیار، وإلاّ فهو علی ما هو علیه من الحرمة، وإن کان العقل یلزمه إرشاداً إلی ما هو أهم وأولی بالرعایة من ترکه، لکون الغرض فیه أعظم،[ف] من ترک الإقتحام فیما یؤدی إلی هلاک النفس،أو شرب الخمر، لئلا یقع فی أشد المحذورین منهما، فیصدق أنه ترکهما، ولو بترکه ما لو فعله لأدّی لا محالة إلی أحدهما، کسائر الأفعال التولیدیة، حیث یکون العمد إلیها بالعمد إلی أسبابها، واختیار ترکها بعدم العمد إلی الأسباب، وهذا یکفی فی استحقاق العقاب علی الشرب للعلاج، وإن کان لازماً عقلاً للفرار عما هو أکثر عقوبة.

ولو سلم عدم الصدق إلاّ بنحو السالبة المنتفیة بانتفاء الموضوع، فهو غیر ضائر بعد تمکنه من الترک، ولو علی نحو هذه السالبة، ومن الفعل بواسطة تمکنه مما هو من قبیل الموضوع فی هذه السالبة، فیوقع نفسه بالاختیار فی المهلکة، أو یدخل الدار فیعالج بشرب الخمر ویتخلص بالخروج، أو یختار ترک الدخول والوقوع فیهما، لئلا یحتاج إلی التخلص والعلاج.

الشَرح:

الدخول، عصیان لذلک النهی السابق ومع وقوع الحرکة المزبورة عصیاناً لا یتعلّق بها الوجوب، فإنّ الشارع لا یأمر بما نهی عنه ولا بعصیان نهیه.

لا یقال: کیف یکون التصرف فیها بالخروج کالتصرف فیها بالدخول عصیاناً مع أنّ التصرف الخروجی فیها مقدمة للواجب وهو ترک الغصب وکونه خارج الدار المغصوبة، فالمفروض فی المقام نظیر ما إذا اضطرّ إلی شرب الماء المتنجس حفاظاً علی نفسه عن الهلاک حتی فیما کان اضطراره إلی شربه بسوء اختیاره کما إذا علم قبل دخوله فی المکان أنّه یضطرّ إلی شرب الماء المتنجس فیه إذا دخل فیه، ولو بنی علی أنّ الحرکة الخروجیة عصیان للنهی السابق المتعلّق بالدخول فکیف یجب إفراغ

ص :10

إن قلت: کیف یقع مثل الخروج والشرب ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً علیه عقلاً؟ مع بقاء ما یتوقف علیه علی وجوبه، و وضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة، ولو کان بسوء الاختیار، والعقل قد استقل بان الممنوع شرعاً کالممتنع عادةً أو عقلاً.

قلت: أولاً: إنما کان الممنوع کالممتنع، إذا لم یحکم العقل بلزومه إرشاداً إلی ما هو أقل المحذورین، وقد عرفت لزومه بحکمه، فإنه مع لزوم الإتیان بالمقدمة عقلاً، لا بأس فی بقاء ذی المقدمة علی وجوبه، فإنه حینئذ لیس من التکلیف بالممتنع، کما إذا کانت المقدمة ممتنعة.

الشَرح:

دار الغیر عن نفسه حیث إنّ الواجب لا ینحصر مقدمته علی الحرام ومع الانحصار إمّا أن یسقط وجوب الواجب أو یرتفع حرمة المقدمة، ولو فرض بقاء الواجب علی وجوبه فیکون ارتکاب تلک المقدمة حسناً عقلاً وواجباً غیریاً بالفعل شرعاً ومع قطع النظر عن توقّف الواجب علیها یکون قبیحاً ذاتاً ومحرّماً شرعاً.

والحاصل أنّ الالتزام بوقوع الحرکة الخروجیة فی الدار المغصوبة عصیاناً للنهی السابق الساقط مساوق للالتزام بسقوط التکلیف عن إفراغ نفسه عن الغصب.

فإنّه یقال: یلتزم بفعلیّة التکلیف بالأهمّ وهو إفراغ نفسه عن الغصب، ویکفی فی وجوبه فعلاً سقوط حرمة مقدّمته بالفعل وإرشاد العقل إلی اختیارها اقتصاراً علی أقلّ المحذورین، ولیس المراد أنّ الحرکة الخروجیة لم تکن محرّمة أصلاً أو لم تصدر عن المکلّف مبغوضاً فإنّ ذلک ینافی حرمة الغصب مطلقاً، بل لا یمکن الالتزام بعدم حرمة التصرّف الخروجی علی تقدیر الدخول بأن تکون تلک الحرکة علی تقدیر الدخول غیر محرّم لا یستحقّ المکلّف علیها عقاباً فإنّ هذا بمعنی تحریم الشیء علی تقدیر ترکه، فالحرکة الخروجیة محرّمة علی تقدیر ترک الدخول، وهذا من قبیل

ص :11

وثانیاً: لو سلم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإیجاب لا لزوم إتیانه عقلاً، خروجاً عن عهدة ما تنجز علیه سابقاً، ضرورة أنه لو لم یأت به لوقع فی المحذور الأشد ونقض الغرض الأهم، حیث إنه الآن کما کان علیه من الملاک والمحبوبیة، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فیه أصلاً، وإنما کان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلک إرشاداً کافٍ، لا حاجة معه إلی بقاء الخطاب بالبعث إلیه والإیجاب له فعلاً، فتدبر جیداً.

الشَرح:

طلب الحاصل، والمفروض أنّ الحرکة الخروجیة والاضطرار إلیها بسوء الاختیار ومعه لا ینتفی العقاب علیها وتقع مبغوضاً علیها لا محالة.

غایة الأمر یسقط النهی الفعلی عنها لعدم کونه رادعاً عنها لاضطراره إلی التصرّف فی الدار المغصوبة. ومع إرشاد العقل إلی اختیارها لکونها أقلّ محذوراً لا مانع عن أمر الشارع بما یتوقّف علیها أو نهیه عمّا یتوقّف ترکه علی ارتکابها.

ولا یکون أمره بذلک الواجب إیجاباً غیریاً للحرکة الخروجیة، فإنّ الوجوب الغیری لا یتعلّق بالمنهی عنه من المقدّمة، هذا أوّلاً.

وثانیاً: لو سلّم أنّ الأمر بذلک الواجب الأهم أیضاً یسقط لعدم إمکان إیجاب مقدّمته لکن سقوط إیجابه أیضاً کسقوط النهی عن الحرکة الخروجیة بسوء الاختیار حیث إنّه لو لم یدخل فی الدار المغصوبة لکان متمکّناً من ترک الغصب بأقسامه، کما أنّه لو لم یذهب إلی المکان المزبور لم یرتکب شرب النجس ولم یوقع نفسه فی المهلکة، والعقل فی مثل ذلک یرشد إلی شرب الماء المتنجّس اقتصاراً علی أقل المحذورین، فالساقط إیجاب ذی المقدّمة بالبعث إلیه فعلاً لا لزوم رعایته عقلاً، حیث کان وجوب التحفّظ علی النفس من الهلکة وحرمة إیقاعها فی الهلکة منجّزین قبل الدخول فی المکان المزبور.

ص :12

وقد ظهر مما حققناه فساد القول بکونه مأموراً به، مع إجراء حکم المعصیة علیه[1] نظراً إلی النهی السابق، مع ما فیه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة، ولا یرتفع غائلته باختلاف زمان التحریم والإیجاب، قبل الدخول وبعده، کما فی الفصول، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، وإنما المفید اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، وهذا أوضح من أن یخفی، کیف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول، عصیاناً للنهی السابق، وإطاعة للأمر اللاحق فعلاً، ومبغوضاً ومحبوباً کذلک بعنوان واحد، وهذا مما لا یرضی به القائل بالجواز، فضلاً عن القائل بالإمتناع.

الشَرح:

[1] ذکر فی الفصول أنّ التصرّف فی الدار بالحرکة الخروجیة موجب لاستحقاق العقاب علیها لکونها مخالفة للنهی السابق عنه الساقط بالدخول فعلاً للاضطرار إلیها، ولکنّها مقدّمة للتخلّص عن الغصب فتکون واجبة بالفعل ولا منع عن کون الفعل الواحد متعلّقاً لکلّ من الحرمة والوجوب بحسب زمانین(1).

وأورد علی ذلک الماتن قدس سره بأنّ الفعل الواحد لا یمکن أن یتعلّق به تکلیفان ولو فی زمانین ولا یرتفع محذور التکلیف المحال بتعدّد زمانی التکلیفین مع وحدة المتعلّق، وإنّما ترتفع الغائلة بتعدّد المتعلّق وإن کان زمان التکلیفین واحداً، والمفروض فی المقام وحدة المتعلّق وعدم التعدّد فیه حتّی من جهة العنوان حیث إنّ عنوان المقدّمة عنوان تعلیلی یتعلّق الوجوب الغیری بذات المقدّمة لا بعنوانها، کما تقرّر فی بحث المقدّمة.

أقول: یستفاد من کلامه قدس سره أنّ الحرکة الخروجیة منهیّ عنها بالنهی السابق

ص :13


1- (1) الفصول: 111.

کما لا یجدی فی رفع هذه الغائلة، کون النهی مطلقاً وعلی کل حال، وکون الأمر مشروطاً بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شیء کذلک، مع وجوبه فی بعض الأحوال.

وأما القول بکونه مأموراً به ومنهیاً عنه، ففیه __ مضافاً إلی ما عرفت من امتناع الإجتماع فیما إذا کان بعنوانین، فضلاً عما إذا کان بعنوان واحد کما فی المقام، حیث کان الخروج بعنوانه سبباً للتخلص، وکان بغیر إذن المالک، ولیس التخلص إلاّ منتزعاً عن ترک الحرام المسبب عن الخروج، لا عنواناً له __ أن الإجتماع ها هنا لو سلم أنه لا یکون بمحال، لتعدد العنوان، وکونه مجدیاً فی رفع غائلة التضاد، کان محالاً لأجل کونه طلب المحال، حیث لا مندوحة هنا، وذلک لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقیقة بما هو واجب أو ممتنع، ولو کان الوجوب أو الامتناع بسوء الإختیار، وما قیل إن الإمتناع أو الإیجاب بالاختیار لا ینافی الإختیار، إنما هو فی قبال استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غیر اختیاریة، بقضیة أن الشیء ما لم یجب لم یوجد.

الشَرح:

الساقط ولا تجب شرعاً مع کونها مقدّمة منحصرة للواجب الأهمّ تکلیفاً أو ملاکاً، وإنّما یرشد العقل إلی اختیارها للابتلاء بأقلّ المحذورین فیعاقب علیها کما یعاقب علی الدخول.

أمّا ما ذکره من کون الحرکة الخروجیّة کانت قبل الدخول فی الدار منهیاً عنها ویسقط النهی عنها بالدخول للاضطرار إلیها ولو بسوء الاختیار وکون السقوط بسوء الاختیار موجباً لاستحقاق العقاب علیها لاستحقاقه علی الدخول فیها، فهو أمر صحیح، لأنّ بقاء النهی عن تلک الحرکة بعد الدخول فی الدار لغو محض، فإنّ التکلیف إنّما یصحّ فیما إذا صحّ عند وصوله إلی المکلف أن ینضمّ إلیه حکم العقل بلزوم رعایته وموافقته، وهذا الانضمام کان قبل الدخول فی الدار، وأمّا بعده فالعقل یرشد إلی اختیار تلک الحرکة لا بلزوم رعایة النهی عنها الذی کان قبل الدخول،

ص :14

فانقدح بذلک فساد الاستدلال لهذا القول، بأن الأمر بالتخلص والنهی عن الغصب دلیلان یجب إعمالهما، ولا موجب للتقیید عقلاً، لعدم استحالة کون الخروج واجباً وحراماً باعتبارین مختلفین، إذ منشأ الاستحالة: إما لزوم اجتماع الضدین وهو غیر لازم، مع تعدد الجهة، وإما لزوم التکلیف بما لا یطاق وهو لیس بمحال إذا کان مسبباً عن سوء الإختیار، وذلک لما عرفت من ثبوت الموجب للتقیید عقلاً ولو کانا بعنوانین، وأن اجتماع الضدین لازم ولو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، والتکلیف بما لا یطاق محال علی کل حال، نعم لو کان بسوء الإختیار لا یسقط العقاب بسقوط التکلیف بالتحریم أو الإیجاب.

الشَرح:

وسقوط النهی عنها بعد الدخول فی الدار لیس معناه تعلیق تحریم الحرکة الخروجیة علی ترک الدخول فی الدار لیقال إنّ النهی المعلّق علی ترک الدخول من قبیل طلب الحاصل، بل سقوطه نظیر سقوطه بالإضافة إلی الدخول لکون الغایة من النهی عنها ترکها بترک الدخول فیها وکون بقائه بعد الدخول فیها لغواً مع إرشاد العقل إلی اختیارها لدفع الأفسد علی ما تقدّم.

وأمّا الالتزام بکونها مقدّمة منحصرة للواجب الأهمّ ومع ذلک لا یتعلّق بها الوجوب الغیری لعدم إمکان الأمر بالمنهی عنه ولو کان النهی والأمر فی زمانین، فلا یمکن المساعدة علیه.

أمّا أوّلاً، فلأنّ الدخول فی الدار والخروج عنها والبقاء فیها کلّها محرّمة بعنوان التصرّف فی ملک الغیر وماله بلا طیب نفسه، حیث إنّ التصرّف کذلک فی ملک الغیر ظلم وعدوان علیه، فکون المکلّف تارکاً للتصرف فی ملک الغیر وماله لیس واجباً شرعیاً وإنّما یکون ترک التصرّف ترکاً للحرام، ولکن الحرکة الخروجیة ملازمة لترک فرد آخر من الحرام وهو التصرّف البقائی لا أنّها مقدّمة لترک فرد آخر حتّی یقال بأنّ

ص :15

.··· . ··· .

الشَرح:

الواجب لا یمکن أن تنحصر مقدّمته علی المحرّم فعلاً.

وبالجملة سقوط النهی الفعلی عن الحرکة الخروجیة لکون بقاء النهی عنها لغواً مع إرشاد العقل إلی اختیارها.

ومن هنا یظهر أنّه لا مجال لما ذکره قدس سره من سقوط التکلیف خطاباً بالإضافة إلی الواجب الأهمّ، فإنّ تحریم التصرّف المکثی فی الدار المغصوبة لا یسقط، لأنّ بقاء النهی بالإضافة إلیه لیس بلغو، بل ینضمّ إلیه حکم العقل بلزوم رعایته.

وأمّا ثانیاً، لو أغمضنا عمّا ذکرنا وفرضنا المقدّمیة فی حرام سقطت حرمته بالعصیان أو بالاضطرار الیه، فالفعل الواحد لا یمکن أن یکون منهیاً عنه فی زمان ومأموراً به فی زمانٍ آخر فیما إذا کان الأمر به نفسیّاً کالنهی عنه فی السابق، لأنّ النهی عن الحرکة الخروجیة نفسیاً ینشأ عن مفسدة غالبة فیها ومع حفظ هذا الفساد الغالب کما هو المفروض لا یمکن الأمر بها نفسیاً لاقتضائه الصلاح الغالب ولو کان الأمر بها بعد الدخول فی الدار.

بخلاف ما إذا کان الأمر بها غیریاً کما هو الحال فی وجوب المقدّمة، فلا بأس بالأمر بها لسقوط النهی عنها، فإنّ النهی عنها قبل الدخول کان یستدعی ترکها بترک الدخول ومع سقوطه فلا بأس بالأمر الغیری بها الذی ملاکه توقّف الواجب الأهمّ علیها.

وبالجملة کما ذکرنا مراراً أنّ المنافاة بین الأمر بالشیء والنهی عنه تنشأ إمّا عن ملاک التکلیفین أو عن مقتضاهما، والمفروض أنّ النهی السابق قد سقط عن الاقتضاء بعد الدخول فلا مانع من الأمر بها ولو مع صدورها مبغوضة لأنّ هذا الأمر غیری یقتضی الفعل، ولکن لم ینشأ عن الصلاح فی المتعلّق.

ص :16

.··· . ··· .

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر: منافاة التکلیف النفسی للغیری تنشأ عن الاقتضاء، وإذا فرض سقوط التکلیف النفسی عن الاقتضاء فلا بأس بالأمر الغیری.

لا یقال: قد ذکر فی مبحث کون الاجازة کاشفة أو ناقلة فی العقد الفضولی إمکان جعل المبیع ملکاً لشخصین من حین العقد إلی زمن الاجازة، فبناءاً علی الکشف یکون المبیع ملکاً للبائع واقعاً قبل الاجازة وبعدها ملکاً للمشتری واقعاً، ولا منافاة بینهما لتعدّد زمانهما، وکما یمکن اعتبار المال الواحد ملکاً لاثنین بحسب اختلاف زمان الجعلین کذلک یمکن جعل تکلیفین وتعلّقهما بفعلٍ واحد فی زمانین.

فإنّه یقال: ما ذکر فی مثل الملکیة من أحکام الوضع مما یکون الصلاح فی نفس اعتبارها لا بأس به، حیث یمکن الصلاح فی اعتبار الملکیة للمالک الأصلی إلی زمان إجازته البیع الفضولی ویکون اعتبارها بعد إجازته للمشتری صلاحاً، وهذا بخلاف الأحکام التکلیفیة التی یکون الغرض منها الانبعاث أو الزجر عن المتعلّق، فلو کان الزجر عن فعل فی زمان فالغرض منه المنع عن إیجاده، ومع هذا الفرض کیف یمکن البعث إلی نفس ذلک الفعل المنهی عنه فی زمانٍ آخر أو علی تقدیر.

نعم إذا أمکن اختصاص النهی بغیر ذلک التقدیر فیمکن الأمر بذاک الفعل علی التقدیر الآخر، والمفروض أنّ اختصاص النهی عن الحرکة الخروجیة علی تقدیر عدم الدخول فی الدار المغصوبة غیر ممکن لأنّ لازمه النهی عن الشیء مشروطاً بترکه، فیدخل فی طلب الحاصل فی کون النهی لغواً، وهذا بخلاف الأحکام الوضعیة التی یکون الصلاح فی نفس جعلها ولو لخصوصیة فی موضوعها، فیمکن اختصاص تلک الخصوصیة مالم یحصل تقدیر آخر، ومع حصوله یکون الصلاح فی تغییر الاعتبار.

ص :17

.··· . ··· .

الشَرح:

نعم لا بأس بذلک عند سقوط النهی بعد الدخول لکون بقائه لغواً بالأمر الغیری بالحرکة الخروجیة.

بقی الکلام فیما ذکره المحقّق النائینی قدس سره لتأیید ما اختاره الشیخ الأنصاری قدس سره من عدم کون الحرکة الخروجیة محرّمة أصلاً، حیث قال: الحرکة الخروجیة حتّی بعد الدخول فی الدار لا تکون من الاضطرار إلی الحرام بسوء الاختیار، بل تکون واجبة من جهة ردّ المال إلی مالکه فإنّ ردّه إلیه فی غیر المنقول بالتخلیة بینه وبین مالکه ویشهد لکونها من ردّ المال إلی مالکه لا من الاضطرار إلی الحرام بسوء الاختیار أمور:

الأوّل: أنّ فی موارد الاضطرار إلی الحرام بسوء الاختیار لابدّ من أن یکون الفعل خارجاً عن سلطان العبد واختیاره، وبما أنّ الخروج لم یخرج عن الاختیار فلا یکون موجباً لسقوط العقاب، بخلاف ترک الحج بترکه المسیر إلیه فی زمان لا یتمکّن مع المسیر فی غیر ذلک الزمان من إدراک الحج، فیکون ترک الحج مع ترک المسیر إلیه فی الزمان المزبور ضروریاً، وأمّا الحرکة الخروجیة فإنّه بعد الدخول فی الدار تکون تلک الحرکة فی اختیار العبد لتمکنه من ترک الخروج بالمکث.

نعم یکون مع الدخول مضطراً إلی مقدارٍ ما من التصرّف فی تلک الدار بالمکث أو بالحرکة الخروجیة، وهذا غیر الاضطرار إلی الحرکة الخروجیة فالجامع مضطر الیه لا الخصوصیة، بل هذه الحرکة تدخل فی ردّ المال إلی مالکه نظیر ردّه الیه فی المنقولات فی عدم کونه غصباً وتعدّیاً علی المالک فی ماله لیکون منهیاً عنه قبل الدخول فی الدار، وتسقط حرمتها بالدخول بخطابها، لا بملاکها لیوجب استحقاق العقاب علیها(1).

ص :18


1- (1) أجود التقریرات 1 / 376.

.··· . ··· .

الشَرح:

وربّما یجاب عن هذا الوجه بأنّ الاضطرار إلی الحرکة الخروجیة من الاضطرار إلی الحرام بسوء الاختیار، فإنّ مع حرمة التصرّف فی الدار المغصوبة بالبقاء والمکث بغیر الحرکة الخروجیة یکون علی المکلّف اختیار الحرکة الخروجیة حسب إرشاد العقل، وهذا کافٍ فی صدق الاضطرار إلیها، ولذا لو کان الدخول لا بسوء الاختیار کما إذا دخل جهلاً أو نسیاناً أو إکراهاً کان المضطر إلیه هی الحرکة الخروجیة لا البقاء والمکث بغیرها، ولا یعتبر فی الاضطرار بسوء الاختیار أو بغیره خروج الشیء إلی الامتناع، وإنّما یعتبر ذلک فی الاضطرار إلی ترک الواجب، حیث إنّ المکلّف إذا ترک ما یتوقّف علیه فعل الواجب یکون ترکها مع ترک مقدّمتها ضروریاً، بخلاف الاضطرار إلی الحرام.

أقول: قد أشرنا إلی اختلاف الاضطرار وأنّه قد لا یوجب خروج الشیء إلی الامتناع، بلا فرق بین الواجب والحرام، کما إذا أحرز المکلف فی نهار شهر رمضان أنّه لو وقف فی مکان حارّ یضطر إلی شرب الماء لدفع عطشه العارض علیه، فإنّ مع وقوفه فی المکان المزبور لا یکون إفطاره ضروریاً وإنّما یترک صومه للتحفظ علی نفسه الذی وجوب حفظها أهمّ فیکون ترک الصوم من باب دفع الأفسد بالفاسد ولذا لو أمر الشارع بالصوم وترک الإفطار حتّی فی هذه الحال لم یکن من التکلیف بالممتنع.

نعم لا یمکن الأمر بالصوم فعلاً مع الأمر بالتحفّظ علی النفس فإنّه من التکلیف بما لا یطاق، ومع ذلک لتفویته ملاک الصوم الواجب یعاقب علیه.

وإذا تبیّن عدم الملازمة بین الاضطرار إلی الشیء بسوء الاختیار وخروجه إلی الامتناع فنقول التصرّف فی الدار بالدخول فیها والحرکة الخروجیة والبقاء فیها کلّها من التصرّف فی ملک الغیر بلا رضا صاحبه ومقتضی کون حرمة التصرّف انحلالیاً

ص :19

.··· . ··· .

الشَرح:

حرمة کلّ منهما.

غایة الأمر التکلیف المستفاد من الخطاب مع انحلاله یسقط بالإضافة إلی الدخول فیها بالعصیان، وکذا بالإضافة إلی الحرکة الخروجیة فإنّه بعد إرشاد العقل إلی اختیارها دفعاً للأفسد بالفاسد یکون نهی الشارع بالفعل لغواً ولکن یکون المکلف معاقباً علی ارتکاب الفاسد وإیقاع نفسه فی فساده.

وردّ المال إلی مالکه یجب شرعاً فیما لم یکن الاستیلاء علیه عدواناً کما فی ردّ الأمانات والاستیلاء علی مال الغیر غفلة أو إکراهاً أو جهلاً. وأمّا إذا کان عدواناً وظلماً فالفعل یرشد إلیه لتعنونه _ مالم یصل إلی ید المالک _ بالعدوان علیه لا الإحسان إلیه.

وبالجملة یجری علی التصرّف فی مال الغیر زمن الردّ إلی مالکه _ فیما کان وضع الید علیه عدواناً _ ما ذکر فی الحرکة الخروجیة فیما إذا کان الدخول فی دار الغیر عدواناً من کونه من دفع الأفسد بالفاسد وأنّه یسقط النهی عن التصرّف المزبور لإرشاد العقل إلی اختیاره مع أنّ المکلّف یعاقب علی التصرّف المزبور بالنهی السابق الساقط، نعم لا بأس بالأمر به غیریاً بناءاً علی کونه مقدّمة للتخلّص عن الحرام الأشد، ولکن قد تقدّم منع المقدّمیة.

الثانی: أنّ الموجب للدخول فی قاعدة الامتناع بالاختیار المسقط للتکلیف دون سقوط العقاب، أن یکون فی الفعل ملاک ملزم علی تقدیر القدرة علیه بالإتیان بمقدّمته الإعدادیة وعدم القدرة علیه بترک مقدّمتها کالحج فی الموسم، فإنّ بعد تحقّق الاستطاعة للمکلّف یکون فی حجّه ملاک ملزم، سواء خرج إلیه المکلّف أم ترک الخروج إلیه حتّی امتنع إدراک الموقفین فی زمانهما فیکون المکلّف معاقباً علی ترک الحج بسوء الاختیار وهذا بخلاف الحرکة الخروجیة فإنّها لا یمکن أن تتحقّق

ص :20

.··· . ··· .

الشَرح:

بدون الدخول فی الدار المغصوبة لیتعلّق بها التکلیف فعلاً أو ترکاً أو یکون فیها ملاک ملزم قبل الدخول(1).

وفیه أنّ کلاً من الدخول فی دار الغیر بلا رضا مالکها والحرکة الخروجیة فیها والتصرّف البقائی فیها محرّم بعنوان الغصب أو التصرّف فی مال الغیر ویکون ملاک تحریمها المفسدة الکامنة فی کلّ منها ولو مع الاختلاف فی الأشدّیة وعدمها، ویکفی ذلک فی النهی عن جمیعها قبل الدخول لتمکّن المکلّف من الاجتناب عن جمیعها بترک الدخول فیها وبعد الدخول فیها لابدّ من أحد الأمرین إمّا التصرّف البقائی أو الحرکة الخروجیة فقد أوقع نفسه فی الفساد باختیار الدخول فیها فیعاقب علی ما یختاره من الحرکة الخروجیة أو التصرّف البقائی، ولکن بما أنّ محذور الثانی أشدّ یرشد العقل إلی اختیار الأوّل لکون فساده أقلّ، ومع إرشاده إلیه یسقط النهی عنه بالدخول فیها کما تقدّم، فالعقاب علی ارتکابه الفاسد الذی کان منهیاً عنه، بلا فرق بین أن یکون سقوطه بامتناع الترک کمن ألقی نفسه من شاهق یموت بوقوعه علی الأرض لا محالة، فإنّ النهی عن قتل النفس یسقط بعد الإلقاء لامتناع ترکه، أو أن یکون سقوطه لإرشاد العقل إلی اختیاره حتّی لا یبتلی بالمحذور الأشد المعبّر عن ذلک بالاضطرار بسوء الاختیار.

وبتعبیر آخر: الامتناع بسوء الاختیار وإن کان یوجب سقوط التکلیف وثبوت العقاب إلاّ أنّ سقوط التکلیف وثبوت العقاب لا ینحصران بصورة امتناع الترک حتّی یقال إنّ الأمر فی الحرکة الخروجیة لیس کذلک فإنّها لا تمتنع بعد الدخول بل یتمکّن

ص :21


1- (1) أجود التقریرات 1 / 377.

.··· . ··· .

الشَرح:

المکلّف من اختیارها.

والثالث: أنّ فی مورد قاعدة الامتناع بالاختیار یکون الشیء مقدوراً بالإتیان بمقدّمته کالحج فی الموسم حیث یتمکّن المکلّف منه بالسیر فی زمان یدرک الموقفین بالخروج فی ذلک الزمان، وفیما نحن فیه تخرج الحرکة الخروجیة عن الاختیار بالإتیان بمقدّمتها یعنی الدخول فی الدار المغصوبة(1).

وفیه: أوّلاً: ما تقدّم من عدم انحصار سقوط التکلیف وثبوت العقاب علی صورة الامتناع بسوء الاختیار.

وثانیاً: المطلوب فی النواهی ترک الفعل، وترک الفعل لا یحتاج إلی المقدّمة، بل ربّما یکون ترکه بترک مقدّمته کما فی ترک الحرکة الخروجیة، فإنّه یکون بترک الدخول.

وثالثاً: أنّ ما ذکره من أنّ فی موارد الامتناع بالاختیار یکون الشیء مقدوراً بالإتیان بمقدّمته غیر صحیح، بل یکون الواجب مقدوراً بالتمکّن علی مقدّمته ولذا یثبت التکلیف به قبل الإتیان بمقدّمته.

والرابع: أنّ الحرکة الخروجیة واجبة فی الجملة ولو عقلاً، وهذا یکشف عن مقدوریتها، ومعه لم یکن ما یوجب سقوط خطابه شرعاً من باب الاضطرار(2).

وفیه: أنّه قد تقدّم عدم ملاک وجوب نفسی ولا غیری فیها وردّ المال إلی مالکه فی الفرض لیس واجباً شرعیاً زائداً علی دفع حرمة الغصب والتصرّف فی مال الغیر عدواناً بالغصب والتصرّف الأشدّ.

ص :22


1- (1) أجود التقریرات 1 / 377.
2- (2) أجود التقریرات 1 / 378.

.··· . ··· .

الشَرح:

ثمّ إنّه کما أشرنا سابقاً إلی عدم اختصاص الاضطرار بسوء الاختیار بموارد ارتکاب محرّم أو ترک واجب یضطرّ معهما إلی محرّم آخر أو ترک واجب آخر بل یجری فی ارتکاب محلّل یعلم أنّ مع ارتکابه یضطرّ إلی ترک الواجب أو فعل الحرام، فإنّ هذا أیضاً یعنی ارتکاب المحلّل فی نفسه من الاضطرار بسوء الاختیار فیما کان التکلیف بذلک الواجب أو النهی عن ذلک الحرام فعلیاً کما مثّلنا فی الوقوف فی مکان حار فی نهار شهر رمضان یضطرّ معه إلی شرب الماء؛ لأنّ مع فعلیة التکلیف بهما یکون مقتضی حکم العقل رعایتهما.

نعم، إذا لم یکن التکلیف فی زمان ارتکاب المحلّل فعلیاً فلا بأس بالارتکاب، فإنّ مقتضی حدیث رفع الاضطرار ارتفاع التکلیف فی ظرفه إلاّ إذا کان فی البین دلیل علی وجوب التحفظ علی القدرة علی امتثالهما فی ظرف التکلیف بهما.

لا یقال: یمکن التمسّک فی عدم حرمة الحرکة الخروجیة بحدیث الرفع(1)، وکذا ما دلّ علی أنّ کلّ شیء ممّا حرّم اللّه یکون حلالاً بطریان الاضطرار علیه ولو کان بسوء الاختیار کموثقتی سماعة وأبی بصیر(2).

فإنّه یقال: رافعیّة الاضطرار المستفادة من الحدیث تختصّ بغیر موارد سوء الاختیار، وصورة إدخال النفس فی الاضطرار یعدّ اختیاراً لا اضطراراً، فلا یعمّه حدیث الرفع الوارد فی مقام الامتنان.

وأمّا قوله علیه السلام : «ولیس شیء ممّا حرّم اللّه إلاّ وقد أحلّه لمن اضطرّ إلیه»

ص :23


1- (1) الوسائل: ج 11، باب 56 من أبواب جهاد النفس، الحدیث 1.
2- (2) الوسائل: ج 4، باب 1، من أبوب القیام، ح 6 و7.

.··· . ··· .

الشَرح:

فمنصرف عن صورة إیقاع النفس فی الاضطرار متعمّداً فی مثل الحرکة الخروجیة التی تکون حلّیتها بعد الدخول فی الدار المغصوبة موجبة للغویة حرمتها قبل الدخول علی ما مرّ.

الاضطرار إلی الجزء أو الشرط

وینبغی فی المقام التعرّض لأمرٍ، وهو أنّه إذا ثبت کون شیء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً لمتعلّق الأمر واضطرّ المکلّف إلی ترک الجزء أو الشرط أو الإتیان بالمانع فإن کان لدلیل الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة إطلاق بأن کان الدالّ علی الجزئیة والقیدیة خطاباً لفظیاً مثل قوله علیه السلام «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) أو قوله تعالی: «وإذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم»(2) فبالاضطرار إلی ترک الجزء أو الشرط أو فعل المانع یحکم بسقوط الأمر بذلک الواجب لحصول الاضطرار إلی ترک الواجب الذی مقتضی خطاب الجزء أو القید عدم حصوله بدونهما، إلاّ إذا قام دلیل خاص علی سقوط اعتبار الجزء أو القید لا أصل وجوب الفعل کما هو الحال فی الصلاة ونحوها، وکذا یجب الإتیان بأصل الواجب إذا لم یکن لدلیل اعتبار الجزء أو القید إطلاق وکان للأمر بذلک الفعل إطلاق، ووجوب أصل الفعل فی الفرض لیس لدلیل رفع الاضطرار بل للأخذ بإطلاق خطاب وجوبه حیث لم یثبت له تقیید بذلک الجزء أو القید فی هذه الحال.

وإذا لم یکن لشیء من دلیل وجوب الفعل ودلیل اعتبار الجزء أو القید إطلاق

ص :24


1- (1) الوسائل: ج 1، باب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 6.

.··· . ··· .

الشَرح:

یحکم بسقوط الواجب کما هو مقتضی أصالة البراءة عن وجوبه، وهذا بناءاً علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة. وأمّا بناءاً علی جریانه فیها ففی المقام تفصیل یذکر فی محلّه.

وقد ظهر مما تقدّم أنّه لو وجب التکفیر بعتق رقبة مؤمنة ولم یتمکّن المکلّف إلاّ من عتق رقبة کافرة لا یجب علیه عتقها، حیث إنّ حدیث الرفع یرفع ما لا یتمکّن علی امتثاله وهو عتق رقبة مؤمنة ولا یثبت وجوب غیره.

لا یقال: ما ذکر ینافی المستفاد من موثّقتی سماعة وأبی بصیر، ففی الأُولی «سألته عن الرجل یکون فی عینیه الماء فینتزع الماء منها فیستلقی علی ظهره الأیام الکثیرة أربعین یوماً أو أقل أو أکثر فیمتنع من الصلاة الأیام إلاّ إیماءاً وهو علی حاله فقال: لا بأس بذلک ولیس شیء ممّا حرّم اللّه إلاّ وقد أحلّه لمن اضطرّ إلیه»(1)، وفی الثانیة: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المریض هل تمسک له المرأة شیئاً فیسجد علیه ؟ فقال: لا، إلاّ أن یکون مضطرّاً لیس عنده غیرها ولیس شیء ممّا حرّم اللّه إلاّ وقد أحلّه لمن اضطرّ إلیه»(2)، فإنّ مقتضی الاستشهاد برفع الاضطرار سقوط ما یضطرّ إلی ترکه من الجزء أو القید عن الاعتبار دون وجوب أصل الواجب.

فإنّه یقال: مقتضی الاستشهاد سقوط وجوب الصلاة الاختیاریة عن المضطرّ إلی ترکها ووجوب مقدار الممکن من الصلاة لأهمّیة الصلاة وعدم سقوطها بحال، ولذا لا یتمسّکون فی اعتبار قاعدة المیسور بالحدیثین، ولو فرض أنّ ظاهرهما

ص :25


1- (1) الوسائل: ج 4، باب 1 من أبواب القیام، الحدیث 6.
2- (2) الوسائل: ج 4، باب 1 من أبواب القیام، الحدیث 7.

ثم لا یخفی أنه لا إشکال فی صحة الصلاة مطلقاً فی الدار المغصوبة علی القول بالاجتماع[1]، وأما علی القول بالامتناع، فکذلک، مع الاضطرار إلی الشَرح:

استشهاد الإمام علیه السلام برفع الاضطرار علی وجوب المقدار الممکن فهو من قبیل التقریب لا الاستشهاد حقیقة.

الاضطرار فی الوضعیّات

ومما ذکرنا یظهر الحال فی الاضطرار إلی عدم رعایة القید فی الموضوع للحکم الوضعی کما إذا اضطرّ إلی ترک رعایة قید فی المعاملة ونحوها مثل الاضطرار إلی طلاق زوجته بلا استشهاد عدلین، فإنّه لا یحکم بصحّة الطلاق المفروض أو اضطرّ المدعی إلی الإتیان بشاهدین غیر عدلین، حیث إنّ الاضطرار إلی ذلک لا یوجب اعتبار شهادة غیر العدلین، أو اضطرّ ولیّ المسلمین إلی نصب قاضٍ فاقد للوصف المعتبر فی القاضی النافذ قضائه، فإنّ الاضطرار فی أمثال ذلک لا یوجب ترتّب أثر واجد القیود علی فاقده، وذلک لأنّ ظاهر ما دلّ علی رافعیة الاضطرار أنّ الاضطرار إذا طرأ علی الفعل أو الترک یرفع المنع الذی کان فی ذلک الفعل أو الترک، وفی الموارد المزبورة لم یثبت مع قطع النظر عن الاضطرار منع عن الفعل أو الترک بل الثابت فیهما عدم الإمضاء والنفوذ، وعنوان الاضطرار رافع لا أنّه مثبت للحکم والنفوذ، والمانعیة للشیء عن الفعل تحصل من الأمر بالفعل المقیّد بعدم ذلک الشیء، وبالاضطرار إلی الإتیان به مع ذلک الشیء یرتفع وجوب أصل الفعل کما تقدّم، لأنّ ثبوت المانعیة له کان بذلک الأمر فیرتفع، ولکن لا یثبت الأمر بغیر المقیّد إلاّ بدلیلٍ آخر.

الصلاة فی الدار المغصوبة

[1] تعرّض قدس سره لحکم الصلاة فی الدار المغصوبة.

ص :26

الغصب، لا بسوء الإختیار أو معه ولکنها وقعت فی حال الخروج، علی القول

الشَرح:

أقول: ینبغی صرف الکلام فی حکم الصلاة فی الدار المغصوبة علی القول بامتناع الاجتماع فی موارد الترکیب الاتحادی وتقدیم جانب النهی فیها وأنّ حکم الصلاة فیها هل یختلف فی موردی الاضطرار إلی الغصب لا بسوء الاختیار، والاضطرار بسوء الاختیار، وکذا فی سعة الوقت أو فی ضیقه أم لا یختلف؟

بعد الفراغ من أنّ الصلاة فی الدار المغصوبة محکومة بالصحّة بناءً علی جواز اجتماع الأمر والنهی بلا فرق بین صورتی الاختیار والاضطرار وبلا فرق بین کون الاضطرار بسوء الاختیار أو من غیر سوء الاختیار کما تقدّم ذلک فی الأمر العاشر، والذی یتعیّن عند التأمّل والقول بعدم جواز الاجتماع وتقدیم جانب النهی هو الحکم بصحّة الصلاة فی الدار المغصوبة عند الاضطرار لا بسوء الاختیار بلا فرق بین سعة الوقت وضیقه، والتمکّن من الإتیان بها خارج تلک الدار ولو فی آخر الوقت أو عدمه، کلّ ذلک لسقوط النهی بالاضطرار فتدخل الصلاة المأتی بها فی تلک الدار فی إطلاق متعلّق الأمر، فیعمّه الترخیص فی التطبیق حتّی فی صورة تمکّن المکلّف من الإتیان بها قبل خروج الوقت عند ارتفاع اضطراره إلی الغصب لما ذکر من شمول إطلاق المتعلّق وثبوت الترخیص فی التطبیق.

ولکن مع ذلک فقد التزم المحقّق النائینی قدس سره من لزوم تأخیرها إلی خارج الغصب مع سعة الوقت والتمکّن من الإتیان بها خارجه، وإن لم یتمکّن من التأخیر کذلک یصلی فی الغصب مومیاً للرکوع والسجود، لکون الرکوع والسجود الاختیاریین من التصرّف الزائد علی التصرّف المضطرّ إلیه عرفاً، فیدخل الهوی إلی الرکوع والسجود فی التصرّف المنهی عنه وإن کان کلّ منهما بحسب النظر العقلی غیر زائد علی ما یضطرّ إلیه من التصرّف فی تلک الدار، فإنّ إشغال الجسم للمکان لا یختلف

ص :27

.··· . ··· .

الشَرح:

بالزیادة والنقیصة بحسب اختلاف هیئاته، ولکنّ هذا عقلاً، لا بحسب النظر العرفی المتّبع فی أمثال المقام(1).

وفیه: أنّه کما إذا دخل فی تلک الدار وهو قائم لا یکون جلوسه فیها تصرّفاً زائداً علی الکون فیها، والمفروض اضطراره إلی الکون المزبور کذلک کونه السجودیّ أو الرکوعیّ لا یکون زائداً علیه، وقد ذکر فی الجواهر أنّ من أوجب علی المضطرّ أن یصلّی فی الحالة التی کان علیها حین الدخول فی الغصب أظلم علی المحبوس ممن حبسه فیه.

هذا کلّه فیما إذا کان الاضطرار إلی الدار المغصوبة لا بسوء الاختیار.

وأمّا مع سوء الاختیار فمع سعة الوقت والتمکّن من الصلاة خارج الغصب قبل خروج وقتها یتعیّن علیه التأخیر، ومع عدم تمکّنه من الصلاة خارج الغصب ولو فی آخر الوقت یتعیّن علیه الصلاة فی الغصب ولکن مومیاً لسجوده، بل لرکوعه بناءاً علی أنّ الهوی إلی الرکوع یدخل فی الصلاة فإنّ مع وقوع السجود والهوی إلی الرکوع مبغوضاً لا یمکن الأمر بالصلاة مع الرکوع والسجود الاختیاریّین ولا یمکن الترخیص فیها لا مطلقاً ولا بنحو الترتّب کما ذکرنا استحالة الترتّب فی موارد الترکیب الاتحادی لمضادّة الأمر والنهی بحسب منشأهما حتّی مع سقوط النهی عن اقتضائه فتنتقل الوظیفة إلی الصلاة الاضطراریة التی لا تتحد مع الغصب بوجه.

ویتفرّع علی ذلک تأخیر الصلاة مع سعة الوقت والتمکّن من الإتیان بها خارج الغصب قبل خروج الوقت ولا یجوز الإتیان بها حتّی فیما أراد المکلف الإتیان بها فی حرکتها الخروجیة ولو قلنا بأنّ الحرکة الخروجیة لا یعمّها خطاب النهی عن الغصب

ص :28


1- (1) أجود التقریرات 1 / 381.

بکونه مأموراً به بدون إجراء حکم المعصیة علیه، أو مع غلبة ملاک الأمر علی النهی مع ضیق الوقت[1]، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنیان علی عدم اقتضاء الأمر

الشَرح:

أصلاً کما علیه الشیخ الأنصاری قدس سره وذلک فإنّه لو کانت الصلاة حال الحرکة الخروجیة مع الرکوع والسجود الاختیاریین فالبطلان من جهة أنّ المکث والاستقرار للرکوع والسجود غیر داخلین فی الحرکة الخروجیّة فیکون السجود أو الرکوع مکثاً محرّماً غیر صالح للتقرّب به، وإن کان الرکوع أو السجود بالإیماء بلا استقرار فالبطلان من جهة فقد الصلاة جزئها وشرطها الاختیاریین مع تمکّنه علیهما ولو فی آخر الوقت.

نعم مع ضیق الوقت وعدم تمکّن المکلّف من إدراک الصلاة قبل خروج وقتها یتعیّن علیه الصلاة حال الخروج بلا استقرار ومع الإیماء إلی الرکوع والسجود. هذا بناءً علی مبغوضیة الحرکة الخروجیة کما بنینا علیها.

وأمّا بناءً علی عدم حرمتها أصلاً فإن تمکّن المکلف من الرکوع والسجود الاختیاریین بلا استقرار کما إذا کان متمکّناً عند خروجه من رکوب عربة ونحوها ویصلی علیها حال حرکتها بالرکوع والسجود فهو، وإلاّ یصلی إیماءً حال الحرکة، فإنّ الهوی إلی الرکوع ولا أقلّ السجود غیر داخل فی الحرکة الخروجیة مع الوقوف لهما. وأمّا سائر أفعال الصلاة کالرکوع والسجود بالإیماء التی لا تتحد مع الغصب، فلا مانع عن الأمر بها.

وقد ظهر مما ذکرنا أنّ تسویة الماتن قدس سره (1) بین الصلاة فی الغصب عند الاضطرار لا بسوء الاختیار وبین الصلاة حال الخروج بناءاً علی أنّ الحرکة الخروجیة مأمور بها من غیر جریان حکم المعصیة علیها، غیر صحیح.

[1] مراده أنّه لو قیل بعدم جواز اجتماع الأمر والنهی وبعدم حرمة المجمع من

ص :29


1- (1) الکفایة: 174.

بالشیء للنهی عن الضد واقتضائه، فإن الصلاة فی الدار المغصوبة، وإن کانت مصلحتها غالبة علی ما فیها من المفسدة، إلاّ أنه لا شبهة فی أن الصلاة فی غیرها تضادها، بناءً علی أنه لا یبقی مجال مع إحداهما للأخری، مع کونها أهم منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب، لکنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزید علیه، فالصلاة فی الغصب اختیاراً فی سعة الوقت صحیحة، وإن لم تکن مأموراً بها.

الشَرح:

جهة تقدیم خطاب الأمر فیه علی خطاب النهی لقوّة ملاک الأمر وضعف ملاک النهی تکون الصلاة الاختیاریة فی الدار المغصوبة صحیحة بلا فرق بین کونها حال الخروج أو غیره، وهذا مع ضیق وقت الصلاة. وأمّا مع سعة الوقت فکذلک بناءاً علی عدم اقتضاء الأمر بشیء للنهی عن ضدّه.

أقول: الصلاة فی غیر المجمع مع سعة الوقت وتقدیم جانب الأمر لا تکون بخصوصها مأموراً بها لیقتضی الأمر بها النهی عن الصلاة فی الغصب لأنّ مع الإتیان بالصلاة فی المجمع لا یبقی مورد للصلاة بغیره، بل الصلاة بغیر المجمع فرد من الطبیعی المأمور به والواجب علی المکلف الطبیعی حصل بالمجمع أو بغیره فالصلاة بالمجمع لا یحسب ضدّاً للطبیعی الواجب.

وبالجملة بناءاً علی تقدیم جانب الأمر تکون الصلاة فی الدار المغصوبة صحیحة مع سعة الوقت وضیقها، سواء قیل باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه أم لا، ولکن هذا مجرّد فرض ولا وجه لتقدیم الأمر بالصلاة علی خطاب تحریم الغصب، من غیر فرقٍ بین سعة الوقت أو ضیقه کما یأتی. وبناءاً علی تقدیم خطاب النهی فلا تصحّ الصلاة فی الغصب إلاّ فی موارد سقوط النهی للاضطرار أو الإکراه أو الغفلة والنسیان أو شمول حدیث «لا تعاد» کما فی موارد الجهل عن قصور، ومع کون

ص :30

.··· . ··· .

الشَرح:

الاضطرار بسوء الاختیار یتعیّن الصلاة علی المضطرّ کذلک بالإیماء إلی رکوعه وسجوده بناءً علی العلم بعدم سقوط التکلیف بالصلاة عنه، کما لا یبعد ذلک، لأنّ التکلیف بالصلاة الاختیاریة مع حرمة الغصب من المتزاحمین فی مقام الامتثال ویتعیّن الصلاة بالإیماء لأنّها بدل اضطراری فیقدّم فی مقام الامتثال ما لیس له بدل علی ما له البدل، بل تحریم الغصب مع وجوب الصلاة الاختیاریة متزاحمان فی مقام الجعل، فلابدّ من أن لا یجعل الحرمة للغصب المنطبق علیه ولو عنوان بعض الصلاة لیجب _ علی المضطرّ إلی البقاء فی الغصب _ الصلاة الاختیاریة من حیث الرکوع والسجود أو لا یجب علیه الصلاة الاختیاریة لامتناع تعلّق الأمر النفسی بما یکون بتمامه أو بجزئه أو قیده مبغوضاً ولو بالنهی السابق الساقط کما فی الاضطرار إلی البقاء فی الغصب بسوء الاختیار.

لا یقال: القیام والقعود وإن لم یدخلا فی الصلاة جزءاً إلاّ أنّهما شرطان لأجزاء الصلاة من التکبیرة والقراءة والذکر والتشهد ولا فرق عندهم فی امتناع اجتماع الأمر والنهی بین کون المجمع للعنوانین تمام الواجب أو جزئه أو قیده.

وکیف یمکن الحکم علی المضطر بسوء الاختیار بوجوب الصلاة الاختیاریة من غیر ناحیة سجوده ورکوعه بأن یعتبر فی تکبیرته وقرائته ورکوعه بالإیماء القیام وفی تشهده وسلامه الجلوس ؟ مع أنّ کلاً من القیام والقعود کون غصبی مبغوض منهی عنه بالنهی السابق فلا یصلحان قیداً للواجب علی ما هو مسلک الامتناع؟

فإنّه یقال: القیام المعتبر فی الصلاة بمعنی استواء الأعضاء والقعود المعتبر فیها عدم استواء الساقین فلا یتّحد شیء منهما مع الغصب حیث إنّ الغصب ینتزع عن

ص :31

الأمر الثانی: قد مرّ __ فی بعض المقدمات __ أنه لا تعارض بین مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب)[1] علی الإمتناع، تعارض الدلیلین بما هما دلیلان حاکیان، کی یقدم الأقوی منهما دلالة أو سنداً، بل إنما هو من باب تزاحم المؤثرین والمقتضیین، فیقدم الغالب منهما، وإن کان الدلیل علی مقتضی الآخر أقوی من دلیل مقتضاه، هذا فیما إذا أحرز الغالب منهما، وإلاّ کان بین الخطابین تعارض، فیقدم الأقوی منهما دلالة أو سنداً، وبطریق الإنّ یحرز به أن مدلوله أقوی مقتضیاً، هذا لو کان کل من الخطابین متکفلاً لحکم فعلی، وإلاّ فلا بد من الاخذ بالمتکفل لذلک منهما لو کان، وإلاّ فلا محیص عن الإنتهاء إلی ما تقتضیه الأصول العملیة.

الشَرح:

وضع الرجلین علی الأرض المغصوبة وتحیّز البدن من فضاء المغصوب، فالترکیب بین الغصب والقیام والقعود المعتبرین فی أجزاء الصلاة انضمامی بخلاف الترکیب بین الغصب والسجود الاختیاری فإنّه اتحادی.

وبالجملة الأمر بالصلاة مع الرکوع والسجود إیماءً بالاضافة إلی النهی عن الغصب من المتزاحمین فی مقام الامتثال مع عدم المندوحة کما هو الفرض، فیمکن الأمر بالصلاة مترتباً علی مخالفة حرمة الغصب.

[1] تعرّض قدس سره فی هذا التنبیه إلی أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ المفروض فی باب اجتماع الأمر والنهی فی موارد الترکیب الاتحادی تحقّق ملاک کلّ من الأمر والنهی فی المجمع وعدم ثبوت کلا الحکمین فی المجمع لعدم إمکان تعلّق حکمین بواحدٍ، فیکون الثابت فیه فعلاً الحکم الذی ملاکه أقوی من ملاک الحکم الآخر.

والثانی: أنّ تخصیص خطاب الحکم الذی ملاکه مغلوب لیس من قبیل تخصیص العام أو تقیید المطلق فی بعض أفراده فی أن لا یثبت حکم العام أو المطلق

ص :32

.··· . ··· .

الشَرح:

فی ذلک الفرد أصلاً، بل تخصیص أحد الخطابین فی المجمع یختصّ بموارد فعلیة الحکم الأقوی ملاکاً، ومع عدم فعلیّته وسقوطه لمانع یؤثّر الملاک الذی کان مغلوباً فی الحکم الذی اقتضاه، کما إذا سقط النهی عن الغصب فی المجمع للاضطرار أو النسیان، فیجوز الإتیان بالمجمع صلاة فیکون امتثالاً للأمر بالصلاة.

الثالث: المرجحات التی ذکرت لتقدیم خطاب النهی علی خطاب الأمر فی المجمع.

فأشار إلی الأمر الأول بقوله «قد مرّ فی بعض المقدّمات أنّه لا تعارض بین مثل خطاب «صلّ» وخطاب «لا تغصب» علی الامتناع تعارض الدلیلین بما هما دلیلان حاکیان...(1) الخ».

وحاصله حیث کان المفروض تحقّق ملاک کلّ من الحکمین فی المجمع وعدم ثبوت کلا الحکمین فیه کما هو مقتضی مسلک الامتناع، فلابدّ من ملاحظة الأهم من الملاکین وأقواهما فیکون حکم المجمع تابعاً للملاک الغالب، ومع عدم غلبة شیء من الملاکین لا یثبت الوجوب والحرمة، بل یثبت حکم ثالث، هذا مع إحراز الغلبة أو التساوی، حیث لا ینظر مع إحراز أحدهما إلی قوّة الدلالة فی ناحیة أحد الخطابین وضعفها فی ناحیة الآخر، کما إذا کان الدلیل علی ما فیه الملاک الغالب مفهوماً وعلی ما فیه الملاک المغلوب منطوقاً، حیث لا قیمة لمقام الإثبات مع إحراز مقام الثبوت.

نعم إذا لم یحرز الغلبة فی ناحیة أحدهما أو تساویهما فإن کان مدلول أحد الخطابین الحکم الفعلی ومدلول الآخر حکماً آخر اقتضائیاً أو کان مدلول کلّ منهما

ص :33


1- (1) الکفایة: 174.

ثم لا یخفی أن ترجیح أحد الدلیلین وتخصیص الآخر به فی المسألة لا یوجب خروج مورد الإجتماع عن تحت الآخر[1] رأساً، کما هو قضیة التقیید والتخصیص فی غیرها مما لا یحرز فیه المقتضی لکلا الحکمین، بل قضیته لیس إلاّ خروجه فیما کان الحکم الذی هو مفاد الآخر فعلیاً، وذلک لثبوت المقتضی فی کل واحد من الحکمین فیها، فإذا لم یکن المقتضی لحرمة الغصب مؤثراً لها، الشَرح:

الحکم الفعلی ولکن کانت الدلالة فی ناحیة أحدهما أقوی یثبت للمجمع الحکم الفعلی أو الحکم الذی دلالة خطابه أقوی، حیث إنّ قوّة الدلیل تکشف عن کون مدلوله فعلیاً وثبوت الحکم الفعلی کاشف عن قوة ملاکه بطریق الان، وإذا لم یکن أحد الخطابین أقوی دلالة أو کان مدلول کلّ منهما هو الحکم الاقتضائی فلابدّ فی تعیین الحکم الفعلی للمجمع من الرجوع إلی أمر آخر ولو کان ذلک الأمر أصلاً عملیّاً.

أقول: قد تقدّم عدم دلالة خطاب الحکم علی ثبوت الحکم الاقتضائی بالمعنی الذی ذکره، یعنی الملاک، إلاّ عن طریق ثبوت الحکم الفعلی بالمعنی الذی ذکرنا، وإذا سقطت دلالته علی الحکم فلا موجب لدعوی ثبوت ملاکه.

نعم، الموجب لسقوط دلالته عن الاعتبار معارضته بخطاب الحکم الآخر، وإذا لم یشمل الخطاب الآخر لبعض الموارد فلا مانع من شمول خطاب الحکم الأوّل، فلا مورد للأصل العملی فی هذه المقامات مع تقدیم خطاب النهی المتعلّق بعنوان علی خطاب الأمر المتعلّق بعنوان آخر فیما إذا کان الترکیب بین العنوانین اتحادیاً علی ما یأتی.

[1] هذا بیان للأمر الثانی من الأمور الثلاثة.

وحاصل ما ذکره قدس سره أنّ تقیید أحد الخطابین أو تخصیصه فی مورد شمول الخطاب الآخر لا یوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الخطاب الوارد علیه التقیید أو التخصیص رأساً، کما هو الحال فی تقیید المطلق أو تخصیص العام فی

ص :34

لاضطرار أو جهل أو نسیان، کان المقتضی لصحة الصلاة مؤثراً لها فعلاً، کما إذا لم یکن دلیل الحرمة أقوی، أو لم یکن واحد من الدلیلین دالاً علی الفعلیة أصلاً.

فانقدح بذلک فساد الإشکال فی صحة الصلاة فی صورة الجهل أو النسیان ونحوهما، فیما إذا قدم خطاب (لا تغصب) کما هو الحال فیما إذا کان الخطابان من أول الأمر متعارضین، ولم یکونا من باب الإجتماع أصلاً، وذلک لثبوت المقتضی فی هذا الباب کما إذا لم یقع بینهما تعارض، ولم یکونا متکفلین للحکم الفعلی، فیکون وزان التخصیص فی مورد الإجتماع وزان التخصیص العقلی الناشئ من جهة تقدیم أحد المقتضیین وتأثیره فعلاً المختص بما إذا لم یمنع عن تأثیره مانع المقتضی، لصحة مورد الإجتماع مع الأمر، أو بدونه فیما کان هناک مانع عن تأثیر المقتضی للنهی له، أو عن فعلیته، کما مرّ تفصیله.

الشَرح:

بعض أفراده فی غیر ما نحن فیه مما لا یکون فیه المقتضی لکلا الحکمین، بل مقتضی التخصیص والتقیید فی مسألة اجتماع الأمر والنهی خروج المجمع عن أحد الخطابین فیما کان الحکم الذی مفاد الخطاب الآخر فی المجمع فعلیاً، وإذا لم یکن الحکم الذی ملاکه أقوی فعلیاً من جهة المانع، کما فی مورد الاضطرار أو الغفلة والنسیان والجهل، یثبت للمجمع الحکم الآخر المفروض ضعف ملاکه، فمثلاً إذا لم یؤثّر ملاک حرمة الغصب فی المجمع لأجل الغفلة عن الغصب أو جهل المکلّف تکون الصلاة صحیحة لتأثیر ملاکها، فیکون الفرض کما إذا لم یکن ملاک الحرمة أقوی، أو لم یکن فی البین معیّن لفعلیّة أحد الحکمین کما إذا کان خطاب کل من الحکمین اقتضائیاً، وکما تکون الصلاة مع عدم رجحان ملاک حرمة الغصب أو عدم المعیّن لفعلیّة أحدهما صحیحة فکذلک عند وجود المانع عن تأثیر ملاک الحرمة تکون صحیحة.

ص :35

.··· . ··· .

الشَرح:

فانقدح مما ذکرنا فساد الإشکال فی صحة الصلاة فی الدار المغصوبة فی صورة الجهل بالغصب أو الغفلة عنه مع فرض تقدیم خطاب النهی عن الغصب علی خطاب الأمر بالصلاة، ووجه الظهور أنّ تخصیص خطاب الأمر فی مورد الاجتماع وزان التخصیص العقلی الناشئ من تقدیم أحد المقتضیین وتأثیره فعلاً، وتأثیره الفعلی مختصّ بما إذا لم یمنع عن تأثیره مانع، وهذا الاختصاص فی التأثیر یقتضی صحّة مورد الاجتماع مع الأمر به کما فی صورة الغفلة والنسیان أو بدون الأمر، کما إذا کان المانع عن تأثیره موجباً لانتفاء الفعلیة عن الحکم الممنوع، أی النهی، کما فی صورة الجهل والتردّد فی الغصب.

فقوله قدس سره «المقتضی لصحّة مورد الاجتماع»(1) وصف للمختصّ فی قوله «من جهة تقدیم أحد المقتضیین وتأثیره فعلاً المختص بما إذا لم یمنع...(2) إلخ».

أقول: قد تقدّم أنّ مع تعلّق النهی بالتصرّف فی ملک الغیر ولو کان المکلّف معذوراً فی مخالفة النهی لا یمکن الترخیص فی تطبیق متعلّق الأمر بالمنهی عنه، ولذا لا تکون الصلاة فی الدار المغصوبة داخلة فی متعلق الأمر بالصلاة فی صورة الجهل والتردّد فی الغصب، وإذا لم یمکن دخولها فیه فلا کاشف عن ثبوت ملاک طبیعی الصلاة المأمور بها فی تلک الصلاة حتّی یحکم بصحتها.

نعم، هذا مع قطع النظر عن دلالة حدیث «لا تعاد» کما ذکرنا سابقاً.

وبالجملة الحکم بصحة المجمع وکون الإتیان بالطبیعی بتطبیقه علی المجمع

ص :36


1- (1) الکفایة: 176.
2- (2) الکفایة: 175.

وکیف کان، فلا بد فی ترجیح أحد الحکمین من مرجح، وقد ذکروا لترجیح النهی وجوهاً:

منها: إنه أقوی دلالة، لاستلزامه انتفاء جمیع الأفراد[1]، بخلاف الأمر.

الشَرح:

کافیاً، یختصّ بموارد الغفلة والنسیان ونحوهما مما یسقط فیها النهی عن المجمع واقعاً، ومع سقوطه یعمّ الأمر بالطبیعی تطبیقه علی المجمع.

وبالجملة، فدعوی الماتن قدس سره وغیره من تحقّق ملاک الواجب فی المجمع فی صورة تعلّق النهی به واقعاً ولو مع جهل المکلّف به لا یمکن المساعدة علیها فضلاً عن موارد تنجّز النهی المتعلّق به.

وأمّا ما ذکره قدس سره من عدم کون وزان التخصیص فی مسألة الاجتماع وتقدیم جانب النهی وزان التخصیص فی خطاب الأمر بالصوم والنهی عن صوم یوم العیدین، وأنّه لا یصحّ صومهما حتّی مع غفلة المکلّف عن کون الیوم یوم عید، فهو لأنّ النهی عن صوم یوم العیدین إرشاد إلی عدم مشروعیة الصوم فیهما بلا فرق بین الغافل وغیره، بخلاف النهی عن السجود فی الدار المغصوبة، فإنّه نهی عنه بعنوان التصرّف فی ملک الغیر بلا رضاه، وهذا النهی لا یعمّ الغافل عن کون الدار ملک الغیر، ومع عدم عمومه فیؤخذ بالإطلاق فی متعلّق الأمر کما مرّ.

الأوّل: ترجیح النهی فی المجمع لأقوائیّة دلالة النهی

[1] هذا شروع لبیان الأمر الثالث، وهو أنّه بناءاً علی امتناع الاجتماع یقدّم خطاب النهی فی مورد الاجتماع علی إطلاق متعلّق الأمر، وذلک لوجوه:

أوّلها: أنّ دلالة النهی علی حرمة المجمع أقوی من دلالة إطلاق متعلّق الأمر علی اندراجه تحت المتعلّق، وذلک فإنّ مدلول النهی عن الطبیعی طلب ترکه

ص :37

وقد أورد علیه بأن ذلک فیه من جهة إطلاق متعلقه بقرینة الحکمة، کدلالة الأمر علی الإجتزاء بأی فرد کان.

وقد أورد علیه بأنه لو کان العموم المستفاد من النهی بالاطلاق بمقدمات الحکمة، وغیر مستند إلی دلالته علیه بالإلتزام، لکان استعمال مثل (لا تغصب) فی بعض أفراد الغصب حقیقة، وهذا واضح الفساد، فتکون دلالته علی العموم من جهة أن وقوع الطبیعة فی حیز النفی أو النهی، یقتضی عقلاً سریان الحکم إلی جمیع الأفراد، ضرورة عدم الإنتهاء عنها أو انتفائها، إلاّ بالإنتهاء عن الجمیع أو انتفائه.

الشَرح:

ولا یتحقّق ترک الطبیعی عقلاً إلاّ بترک جمیع أفراده، فالمدلول الوضعی للنهی عن الطبیعی یستلزم عقلاً ترک أفراده، بخلاف الأمر بالطبیعی الذی یکفی فی الامتثال وسقوط التکلیف به صرف وجوده خارجاً ولکن إجزاء فرد ما عن صرف الوجود لا یستفاد من الأمر بالطبیعی إلاّ أنّه بعد جریان مقدّمات الحکمة فی ناحیة متعلّق الأمر.

وقد یورد علی هذا الفرق بأنّ النهی عن الطبیعی وإن استلزم ترک جمیع أفراده إلاّ أنّه أیضاً بعد جریان مقدّمات الحکمة فی ناحیة متعلّق النهی ویتعیّن أنّ المنهی عنه هو الطبیعی بلا قید، کما أنّ مقتضی إطلاق متعلّق الأمر بعد جریان مقدّماتها الاکتفاء بأیّ فرد منه.

وبالجملة العموم فی ناحیة کلّ من الأمر والنهی وإن اختلف _ لأنّه فی الأول بدلی، وفی الثانی شمولی _ إلاّ أنّ کلاًّ منهما إطلاقی یتوقّف علی تمامیة مقدّمات الإطلاق فی ناحیة المتعلّق لهما فلا موجب لتقدیم أحدهما علی الآخر عند دوران الأمر فی رفع الید عن أحدهما.

وربّما یجاب عن هذا الإیراد بالفرق بین النهی عن الطبیعی والأمر به، فإنّه لو لم

ص :38

قلت: دلالتها علی العموم والإستیعاب ظاهراً مما لا ینکر، لکنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما کذلک، إنما هو بحسب ما یراد من متعلقهما، فیختلف سعة وضیقاً، فلا یکاد یدلّ علی استیعاب جمیع الافراد، إلاّ إذا أرید منه الطبیعة مطلقة وبلا قید، ولا یکاد یستظهر ذلک مع عدم دلالته علیه بالخصوص، إلاّ بالإطلاق وقرینة الحکمة، بحیث لو لم یکن هناک قرینتها بأن یکون الإطلاق فی غیر مقام البیان، لم یکد یستفاد استیعاب أفراد الطبیعة، وذلک لا ینافی دلالتهما علی استیعاب أفراد ما یراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة علی أنه المقید أو المطلق.

الشَرح:

یکن دلالة النهی عن الطبیعی بترک جمیع أفراده عقلاً بالاستلزام لدلّ علی ترک بعض أفراده، ولکن لمّا کانت إرادة ترک البعض مجازاً، فکان ذلک دلیلاً علی أنّ العموم فیه لیس بالإطلاق، بل باستلزام طلب ترک الطبیعی _ الذی هو المدلول الوضعی للنهی _ عقلاً لترک جمیع أفراده.

وناقش الماتن قدس سره فی هذا الجواب بأنّ دلالة وقوع الطبیعة فی حیز النفی أو النهی وإن کان یستلزم العموم والاستیعاب إلاّ أنّ الاستیعاب والعموم إنّما هو بحسب ما یراد مما وقع فی حیزهما، فإن کان المراد منه _ أی من متعلّق النهی أو النفی _ الطبیعی بلا قید، فیقتضیان انتفاء جمیع أفراده أو الانتهاء عنها، ولابدّ من استظهار کون المتعلّق لهما کذلک من ملاحظة الإطلاق الموقوف علی مقدّمات الحکمة، بحیث لو لم یکن فی البین قرینة الحکمة _ بأن لم یکن المتکلّم فی مقام البیان بالإضافة إلی قیود المتعلّق _ لا یمکن أن یستفاد منهما استیعابهما لجمیع أفراد متعلّقهما.

إلاّ أن یدّعی کما أنّ لفظة «کل» وسائر أدوات العموم متکفّلة وضعاً لإفادة عدم القید لمدخولها واستیعاب الحکم الوارد فی الخطاب لجمیع أفراد مدخولها وهو

ص :39

اللّهمّ إلاّ أن یقال: إن فی دلالتهما علی الاستیعاب کفایة ودلالة علی أن المراد من المتعلق هو المطلق، کما ربما یُدعی ذلک فی مثل (کل رجل)، وإن مثل لفظة (کل) تدلّ علی استیعاب جمیع أفراد الرجل من غیر حاجة إلی ملاحظة إطلاق مدخوله وقرینة الحکمة، بل یکفی إرادة ما هو معناه من الطبیعة المهملة ولا بشرط فی دلالته علی الإستیعاب وإن کان لا یلزم مجاز أصلاً، لو أُرید منه خاص بالقرینة، لا فیه لدلالته علی استیعاب أفراد ما یراد من المدخول، ولا فیه إذا کان بنحو تعدد الدال والمدلول، لعدم استعماله إلاّ فیما وضع له، والخصوصیة مستفادة من دالّ آخر، فتدبر.

الشَرح:

الطبیعة المهملة ولابشرط مع قطع النظر عن دخولها ولا یحتاج فی إحراز أنّ المراد من مدخولها الطبیعی مطلقاً إلی إحرازه بمقدّمات الحکمة، کذلک النفی أو النهی بالإضافة إلی الطبیعی الواقع فی حیزهما.

وبتعبیر آخر: النفی أو النهی کأداة العموم بالإضافة إلی الطبیعة الواقعة فی حیزهما، ولکن بناءاً علی هذه الدعوی أیضاً لا یلزم المجاز لو أُرید من المدخول، الخاص، بالقرینة لا فی ناحیة کلّ، لدلالته علی استیعاب الحکم لمدخوله ولا فی ناحیة مدخوله إذا کان إرادة الخاص بنحو تعدّد الدال والمدلول، لعدم استعمال اللفظ الموضوع للطبیعی إلاّ فی معناه والخصوصیة مستفادة من دالّ آخر.

أقول: الرجوع إلی المتفاهم عند أهل المحاورة کافٍ فی الإذعان بالفرق بین مثل قول الشارع «کلّ بیع حلال» وبین قوله تعالی «أحلّ اللّه البیع» فإنّه وإن کان یستفاد منهما حلیّة جمیع البیوع إلاّ أنّ الاستفادة فی الثانی یکون بعنایة أمر خارجی یعبّر عنه بمقدّمات الإطلاق بخلاف الأوّل، فإنّ لفظ «کلّ» بمقتضی الوضع یفید استیعاب الحلّیة لجمیع أفراد البیع، وإذا ثبت هذا الفرق بین الأمر بالشیء والنهی عنه بأنّ الأمر بالشیء لا دلالة له بنفسه علی أنّ المتعلّق للطلب نفس الطبیعی من غیر

ص :40

.··· . ··· .

الشَرح:

دخالة قید بل یحتاج استفادة ذلک إلی ملاحظة مقدّمات الإطلاق فی ناحیته بخلاف النهی عن الشیء أو نفیه، فإنّ النهی أو النفی المتعلّق بشیء بنفسه کافٍ فی عدم دخالة قید فی المنهی أو المنفی، لا یصحّ أیضاً تقدیم خطاب النهی علی خطاب الأمر فی مسألة الاجتماع؛ لأنّ المفروض فی باب الاجتماع وجود خطابین، خطاب الأمر بالصلاة مثلاً، وخطاب النهی عن الغصب، فالعموم ولو کان فی الأوّل بالإطلاق وفی الثانی بالوضع إلاّ أنّه لا یوجب مجرّد ذلک تقدیم خطاب النهی وإنّما ذلک یوجب التقدیم إذا ذکر الأمر بها والنهی عنه فی خطاب واحد لیمنع الثانی عن تمامیة مقدّمات الإطلاق فی ناحیة الأمر بالصلاة.

وأمّا کون النهی فی خطاب منفصل فلا یمنع عند الماتن وأمثاله من انعقاد الاطلاق فی ناحیة خطاب الأمر بالصلاة، کما أصرّ علی ذلک فی باب تعارض الاطلاق مع العام الوضعی(1).

نعم، لو کان من مقدّمات الاطلاق عدم ورود القید ولو فی خطاب منفصل صحّ تقدیم خطاب النهی علی خطاب الأمر، وسیأتی فی محلّه البحث عنه وبیان الصحیح من المسلکین.

أضف إلی ذلک عدم ثبوت النفی أو النهی من أداة العموم فیما وقع فی حیزهما الطبیعی، بل لابدّ فی إثبات کون الطبیعی مطلقاً من ملاحظة مقدّمات الاطلاق کما هو الحال فی الأمر بالطبیعی.

نعم، ذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه وإن کان العموم فی ناحیة کلّ من الأمر بالصلاة

ص :41


1- (1) کفایة الأُصول: 247 و 450.

ومنها: إنّ دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة[1].

وقد أورد علیه فی القوانین، بأنه مطلقاً ممنوع، لان فی ترک الواجب أیضاً مفسدة إذا تعین.

الشَرح:

والنهی عن الغصب إطلاقیاً إلاّ أنّه لابدّ من تقدیم الاطلاق الشمولی علی البدلی؛ لأنّ الاطلاق البدلی المقتضی للاکتفاء فی الامتثال بأیّ فرد یحتاج إلی مقدّمة زائدة وهی إحراز تساوی أفراد الطبیعی فی الوفاء بالغرض، ومع الإطلاق الشمولی علی خلافه لا تتمّ هذه المقدّمة(1).

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّه یکفی فی إحراز التساوی فی الملاک عدم ذکر القید للمتعلّق وإلاّ کان علی المولی تقییده بذلک القید، ومجرّد إمکان اختلاف أفراد المنهی عنه فی الملاک بالشدّة والضعف ولزوم تساوی أفراد الطبیعی فی الوفاء بالملاک اللازم لا یوجب فرقاً بینهما.

وبتعبیرٍ آخر: کما أنّ مع شمول النهی لمورد لا یمکن أن یتعلّق به الأمر کذلک مع شمول الأمر لمورد لا یمکن أن یتعلّق به النهی، فالاطلاقان من الخطابین ینتفیان بناءاً علی أنّ مقدّمات الاطلاق عدم ورود البیان للقید ولو منفصلاً أو یتعارضان بناءاً علی أنّ من مقدّمات الإطلاق عدم بیان القید فی مقام التخاطب بخطاب المطلق.

[1] ثانیها: أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة، یعنی لو أخذ فی المجمع بمقتضی خطاب النهی لکان هذا رعایة لدفع المفسدة ولو أخذ فیه بمقتضی خطاب الأمر بالطبیعی، لکان هذا تقدیماً لرعایة المصلحة، وکلّما دار الأمر بین رعایة المفسدة بدفعها ورعایة المصلحة بجلبها یکون الأوّل متعیّناً فی بناء العقلاء، بل فی

ص :42


1- (1) أجود التقریرات 1 / 162.

ولا یخفی ما فیه، فإن الواجب ولو کان معیناً، لیس إلاّ لأجل أن فی فعله مصلحة یلزم استیفاؤها من دون أن یکون فی ترکه مفسدة، کما أن الحرام لیس إلاّ لأجل المفسدة فی فعله بلا مصلحة فی ترکه.

ولکن یرد علیه أن الأولویة مطلقاً ممنوعة، بل ربما یکون العکس أولی، کما یشهد به مقایسة فعل بعض المحرمات مع ترک بعض الواجبات، خصوصاً مثل الصلاة وما یتلو تلوها.

ولو سلم فهو أجنبی عن المقام، فإنه فیما إذا دار بین الواجب والحرام.

ولو سلم فإنما یجدی فیما لو حصل به القطع.

الشَرح:

حکم العقل، فیؤخذ به فی الشرعیات أیضاً.

وأورد علی ذلک فی القوانین بأنّ فی ترک الواجب أیضاً مفسدة فلا یحرز بتقدیم جانب الحرمة أولویة دفع المفسدة فیها.

ولکن لا یخفی ما فی هذا الإیراد فإنّه إن أُرید بالمفسدة فی ترک الواجب العقاب علی ترکه فمن الظاهر أنّ العقاب أثر تنجّز الوجوب المحرز بوجهٍ معتبر، ومع تعارض الخطابین فی المجمع لا یحرز الوجوب، کما لا یحرز خصوص الحرمة. وإن أُرید الأثر المترتب والفساد الکامن فی العمل فلا ینبغی التأمّل فی أنّ ترک الفعل حتّی الواجب لیس فیه فساد، بل الأثر یکون فی حصول الشیء صلاحاً أو فساداً.

نعم، ربّما ینطبق علی ترک الفعل عنوان حسن أو قبیح، ولکنّه خلاف الفرض فی المقام من تعلّق کلّ من الوجوب أو الحرمة بالفعل، وعلی ذلک بنینا سابقاً من أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه العام، وإنّ فی ترک الواجب لا یکون فساداً لیحرم نفسیاً، بل یفوت بالترک الصلاح اللازم فی الفعل.

ص :43

ولو سلم أنه یجدی ولو لم یحصل، فإنما یجری فیما لا یکون هناک مجال لأصالة البراءة أو الإشتغال، کما فی دوران الأمر بین الوجوب والحرمة التعیینیین، لا فیما تجری، کما فی محل الاجتماع، لأصالة البراءة عن حرمته فیحکم بصحته، ولو قیل بقاعدة الإشتغال فی الشک فی الأجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلاً إلاّ فعلیّة الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.

نعم لو قیل بأن المفسدة الواقعیة الغالبة مؤثرة فی المبغوضیة ولو لم یکن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غیر جاریة، بل کانت أصالة الإشتغال بالواجب لو کان عبادة محکمة، ولو قیل بأصالة البراءة فی الأجزاء والشرائط، لعدم تأتّی قصد القربة مع الشک فی المبغوضیة، فتأمل.

الشَرح:

والصحیح فی ردّ الأولویة أنّه لم یظهر أولویة لرعایة دفع المفسدة من جلب المصلحة مطلقاً، والشاهد لذلک ما نراه من إقدام العقلاء علی أمور یترتّب علیها الفساد لجلب المصالح التی تکون أهمّ فیسافرون فی الحرّ والبرد ویتحمّلون المشاق والمتاعب لجلب الأرباح، وکذا الحال فی الشرع فی موارد تزاحم الواجب والحرام کتزاحم وجوب حفظ النفس وحرمة الغصب والتصرّف فی مال الغیر.

ولو سلّم تمامیّة قاعدة أولویة دفع المفسدة من جلب المنفعة فمفادها أنّ الفاعل فی کلّ مورد دار أمره بین جلب المنفعة إلی نفسه أو دفع المفسدة عنه یختار دفع المفسدة عن نفسه، والمقام لا یدخل فی صغری تلک القاعدة، لأنّ الکلام فی المقام فی دوران أمر الفعل بین الواجب والحرام والواجب لا یلازم الصلاح للفاعل کما أنّ الحرام لا یلازم المفسدة له بل الشارع فی مقام جعل الأحکام یلاحظ صلاح الفعل وفساده نوعاً وإن لم یکن شیء منهما راجعاً إلی شخص الفاعل، وإلی ذلک أشار الماتن قدس سره بقوله: «ولو سلّم فهو أجنبی عن المقام» فإنّ الکلام فی المقام فیما دار

ص :44

.··· . ··· .

الشَرح:

الأمر بین کون الفعل واجباً أو حراماً، _ والشارع مع کون الفعل واحداً _ یجعل الحکم الذی ملاکه أقوی.

ومع تسلیم أنّ القاعدة تعمّ موارد رعایة المکلف الواجب والحرام، فلا تفید فی المقام أیضاً؛ لأنّ عمومها یشمل ما إذا کان فعل واجباً علی المکلف وفعل آخر حراماً بأن یکون الصلاح والفساد فی کلّ من الواجب والحرام معلومین، ولکن لعدم تمکّنه علی الجمع بینهما فی الامتثال دار أمره بین أن یراعی الواجب وصلاحه أو أن یراعی الحرام بترکه لدفع مفسدته.

ولا یشمل المقام الذی لا یعلم بثبوت الصلاح والفساداللازم رعایتهما معاً بل یعلم بثبوت أحدهما اجمالاً، وإلی ذلک یشیر بقوله «ولو سلّم فإنما یجدی ما لو حصل القطع».

ثمّ قال قدس سره : «ولو سلم» یعنی لو قلنا بعموم قاعدة أولویة دفع المفسدة عن جلب المنفعة، ولصورة عدم العلم بالواجب والحرام معاً بأن یحتمل وجوب الفعل أو حرمته، فتجری القاعدة فیه إذا لم یکن فی البین مرجعاً عند الشکّ فی حکمه من أصالة البراءة أو الاشتغال، کما فی دوران أمر الفعل بین المحذورین من الوجوب والحرمة علی التعیین، لا مثل المقام مما یکون جریان أصالة البراءة عن حرمة المجمع موجباً لصحّته عبادةً، حیث إنّ المانع عن عبادیته الحرمة الفعلیة المنتفیة بأصالة البراءة، ومع انتفائها وإحراز الصلاح فی المجمع یحصل بالإتیان به ما هو المعتبر فی کون شیء فرداً للواجب، ولذا یثبت صلاحیة للمجمع للتقرّب ووقوعه عبادةً حتی بناءاً علی الاشتغال فی مسألة دوران أمر الواجب بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین.

ص :45

.··· . ··· .

الشَرح:

نعم لو قیل بأنّ المفسدة الغالبة علی صلاح الفعل _ علی تقدیرها _ توجب مبغوضیة الفعل وعدم کونه صالحاً للتقرّب به، لتعیّن فی المقام علی المکلّف الاحتیاط والإتیان بغیر المجمع لیحرز صحة صلاته وعبادته حتّی بناءاً علی البراءة فی دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین، إذ مع احتمال المبغوضیة الواقعیة للمجمع لغلبة مفسدته لا یمکن للمکلّف التقرّب به، وأصالة البراءة عن الحرمة الواقعیة للمجمع بمعنی عدم کون المکلف مأخوذاً بتلک الحرمة علی تقدیرها، لا تنفی المبغوضیة الواقعیة علی تقدیرها.

أقول: الحرمة الواقعیة للمجمع _ علی تقدیرها _ هی التی توجب تضییق دائرة متعلّق الوجوب لأنّ تقییده بغیره لازم ثبوت الحرمة للمجمع واقعاً علی ما تقدّم من عدم إمکان إطلاق متعلّق الوجوب مع تعلّق الحرمة بالمجمع سواء کانت تلک الحرمة منجّزة أم لا.

إلاّ أنّ أصالة البراءة عن حرمة المجمع لا یثبت إطلاق متعلّق الوجوب، فاللازم فی اثبات إطلاقه وعدم تقیید الطبیعی إجراء البراءة عن وجوب الطبیعی المقیّد بغیر ذلک المجمع، ولا یعارض بأصالة البراءة عن وجوب الطبیعی بنحو اللابشرط، کما هو المقرّر فی بحث دوران أمر الواجب بین المطلق والمشروط ولو کان مجرّد احتمال المفسدة الغالبة موجباً لأصالة الاشتغال لجری ذلک فی الشبهة الموضوعیة أیضاً، ولم یجز الصلاة فی مکان یحتمل کونه ملک الغیر وهو غیر راضٍ بالتصرّف فیه مع أنّه تجری أصالة البراءة عن تقیید الصلاة بغیر ذلک المکان؛ لأنّ الشک فی الشبهة الحکمیة والموضوعیة من صغریات الشک فی مانعیة المکان.

ص :46

ومنها: الإستقراء، فإنّه یقتضی ترجیح جانب الحرمة علی جانب الوجوب، کحرمة الصلاة فی أیام الإستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناءین المشتبهین[1].

وفیه: أنه لا دلیل علی اعتبار الإستقراء، ما لم یفد القطع.

ولو سلم فهو لا یکاد یثبت بهذا المقدار.

ولو سلم فلیس حرمة الصلاة فی تلک الأیام، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام، لأن حرمة الصلاة فیها إنما تکون لقاعدة الإمکان والإستصحاب المثبتین لکون الدم حیضاً، فیحکم بجمیع أحکامه، ومنها حرمة الصلاة علیها لا لأجل تغلیب جانب الحرمة کما هو المدعی، هذا لو قیل بحرمتها الذاتیة فی أیام الحیض، وإلاّ فهو خارج عن محل الکلام.

الشَرح:

[1] ثالثها: الاستقراء، ولو تمّ هذا الوجه لکان مقتضاه تقدیم احتمال الحرمة فی موارد دوران أمر الفعل بین کونه واجباً أو حراماً، سواء کان الدوران لتعارض الخطابین أم لغیره، ورعایة التکلیف التحریمی فی موارد دوران الأمر بین امتثال التکلیف الوجوبی وبین ترک الحرام.

ویقال فی تقریب هذا الوجه: إنّ مقتضی الاستقراء أنّ الشارع قد قدّم رعایة احتمال الحرمة علی احتمال الوجوب، وهذا مستفاد من مثل حکمه علی المرأة بالاستظهار بترک عبادتها فی فرض استمرار الدم بعد أیام عادتها وقبل انقضاء عشرة أیام إذا احتملت تجاوز دمها العشرة، وحکمه بإراقة المائین والتیمّم للصلاة إذا انحصر أمر المکلّف فی التوضی ء من أحدهما مع علمه إجمالاً بنجاسة أحدهما وغیرهما مما لا یخفی علی المتتبع.

وأورد علی ذلک الماتن قدس سره بوجهین:

الأولّ: أنّ الاستقراء المعتبر ما یوجب الجزم بتقدیم الشارع رعایة احتمال

ص :47

ومن هنا انقدح أنه لیس منه ترک الوضوء من الإناءین، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس لیس إلاّ تشریعیاً، ولا تشریع فیما لو توضأ منهما احتیاطاً، فلا حرمة فی البین غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو کذلک، بل إراقتهما کما فی النص، لیس إلاّ من باب التعبد، أو من جهة الإبتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحکم الإستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانیة، إما بملاقاتها، أو بملاقاة الأولی، وعدم استعمال مطهر بعده، ولو طهر بالثانیة مواضع الملاقاة بالأولی.

نعم لو طهرت علی تقدیر نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلی التعدد وانفصال الغسالة لا یعلم تفصیلاً بنجاستها، وإن علم بنجاستها حین ملاقاة الأولی أو الثانیة إجمالاً، فلا مجال لاستصحابها بل کانت قاعدة الطهارة محکمة.

الشَرح:

الحرمة علی احتمال الوجوب فی جمیع موارد تردّد حکم الفعل بینهما، ولو بنی أنّه لا یعتبر الجزم أو الوثوق بل یکفی مجرّد الظن بالکبری فلا یحصل الظنّ بها من مثل مورد أو موردین.

ثانیاً: أنّ المثالین لیسا من تقدیم احتمال الحرمة علی احتمال الوجوب، فإنّ الحکم علی المرأة بترک عبادتها إنّما هو لقاعدة الإمکان فی الدم المفروض واستصحاب بقاء حیضها، وهذا بناءاً علی کون حرمة الصلاة علی الحائض ذاتیة، وأمّا بناءاً علی کونها تشریعیة فلا بأس بالصلاة، لاحتمال طهرها بالاستحاضة ولا تکون فی صلاتها کذلک احتمال الحرمة أصلاً، وبذلک یظهر الحال فی الوضوء بمائین اشتبه طاهرهما بنجسهما حیث لا حرمة فی الوضوء بالماء المتنجّس إلاّ تشریعاً، ولا تشریع فی الوضوء مع احتمال طهارة الماء، کما إذا توضّأ بأحدهما أوّلاً ثمّ غسل أعضاء وضوئه بالماء الثانی وتوضّأ به ثانیاً، فإنّه یحرز وضوئه بالماء الطاهر، فالحکم علیه بإراقة المائین والتیمّم لصلاته إنّما لأجل التعبّد أو لئلاّ یبتلی فی بدنه

ص :48

.··· . ··· .

الشَرح:

بالنجاسة المحکوم علیها بالبقاء حتی بعد التوضی ء بالماء الثانی إذ بوصول الماء الثانی إلی عضوه یعلم تفصیلاً بنجاسته إمّا بالماء الثانی أو بالماء الأول قبل ذلک، ومقتضی الاستصحاب بقائه علی نجاسته بعد تمام الغسل بالماء الثانی.

نعم لو کان الماء الثانی علی نحو یطهّر العضو المتنجس _ علی فرض طهارته _ بمجرّد وصوله إلیه بلا حاجة إلی التعدّد وانفصال الغسالة کما إذا کان کرّاً، فلا یعلم بنجاسة العضو تفصیلاً، ولکن یعلم بنجاسته إجمالاً، ولا یکون فی هذه الصورة لاستصحاب نجاسة العضو مورد، بل تجری فیه قاعدة الطهارة.

أقول: ما ذکره قدس سره من عدم کون الحکم فی الموردین من تقدیم احتمال الحرمة علی احتمال الوجوب لأنّ حرمة الصلاة علی الحائض وکذا حرمة الوضوء بالماء المتنجّس تشریعیة لا ذاتیة متینٌ جدّاً، ونذکر فی المسألة الآتیة أنّ النهی عن عبادة أو معاملة ظاهره الإرشاد إلی عدم التشریع أو عدم الإمضاء.

وأمّا ما ذکره من أنّ الحکم علی المرأة بالاستظهار لقاعدة الإمکان واستصحاب بقاء الحیض فغیر تامّ، فإنّ الحکم بترک عبادتها مع استمرار الدم بعد أیام عادتها قبل تمام العشرة لا یکون مقتضی قاعدة الإمکان ولا الاستصحاب، حیث إنّ الاستصحاب مقتضاه کون الدم المزبور استحاضة فیجب علیها أعمالها، وذلک فإنّ الشارع قد حکم علی ذات العادة مع استمرار دمها إلی ما بعد العشرة بحیضها مقدار عادتها والدم بعده استحاضة، ومقتضی الاستصحاب بقاء دمها إلی ما بعد العشرة، کما هو الصحیح من اعتبار الاستصحاب فی الأمور الاستقبالیة کالأمور الماضیة، فالاستصحاب فی بقاء حیضها أصل مسبّبی لا تصل النوبة إلیه مع جریان الأصل السببی.

ص :49

.··· . ··· .

الشَرح:

ومفاد قاعدة الإمکان علی ما هو الصحیح هو کون الدم حیضاً إذا اجتمع فیه ما هو المعتبر فی کونه حیضاً، ومما یعتبر فیه عدم تجاوزه عن العشرة وهذا الشرط مفقود بمقتضی الاستصحاب فی بقاء الدم واستمراره إلی ما بعدها.

والحاصل أنّ الحکم علی الحائض بالاستظهار وجوباً أو ندباً أو جوازاً مستفاد من الروایات من غیر أن یرتبط بتقدیم جانب احتمال الحرمة.

وأمّا الأمر بالتیمّم فهو تعبّد محض فیلتزم بوقوع التقیید فی دلیل اعتبار الوضوء للصلاة وذلک لتمکّن المکلّف فیالفرض من الصلاة بالطهارة المائیة بل ومع طهارة بدنه بأن یصلی بعد الوضوء بأحد المائین ویعید تلک الصلاة بعد الوضوء بالماء الثانی مع تطهیر الأعضاء قبله.

ودعوی ابتلائه باستصحاب الخبث بالإضافة إلی الصلوات الآتیة لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه یجوز الابتلاء بالخبث القطعی بالإضافة إلی الصلاة التی لم یدخل وقتها فضلاً عن الخبث الاستصحابی، ولا فرق فی الصورتین المتقدّمتین _ أی کون الماء الثانی أیضاً قلیلاً کالماء الأوّل أو کثیراً یطهر العضو بمجرّد وصوله إلی الماء _ من جهة جریان الاستصحاب فی نجاسة العضو فی کلّ منهما، غایة الأمر النجاسة المستصحبة فی صورة کرّیة الثانی تکون محرزة بالإجمال ولا یضرّ ذلک باستصحابها.

وما ذکره الماتن قدس سره من عدم جریان الاستصحاب فی صورة کونها محرزة إجمالاً بل تکون قاعدة الطهارة محکمة مبنی علی مسلکه فی تعاقب الحالتین والشکّ فی المتقدّم والمتأخّر منهما.

نعم، قد یقال: إنّ الاستصحاب فی نجاسة العضو مع إحراز نجاسته إجمالاً معارض باستصحاب طهارة الأعضاء عند استعمال الماء الطاهر الواقعی، حیث

ص :50

الأمر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الإضافات، بتعدد العنوانات[1] والجهات، فی أنه لو کان تعدد الجهة والعنوان کافیاً مع وحدة المعنون وجوداً، فی جواز الإجتماع، کان تعدد الإضافات مجدیاً، ضرورة أنه یوجب أیضاً اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً، فیکون مثل (أکرم العلماء ولا تکرم الفساق) من باب الإجتماع (کصلّ ولا تغصب) لا من باب التعارض، إلاّ إذا لم یکن للحکم فی أحد الخطابین فی مورد الإجتماع مقتضٍ، کما هو الحال أیضاً فی تعدد العنوانین، فما یتراءی منهم من المعاملة مع مثل (أکرم العلماء ولا تکرم الفساق) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما یکون بناءً علی الإمتناع، أو عدم المقتضی لأحد الحکمین فی مورد الإجتماع.

الشَرح:

یحتمل بقائها علی تلک الطهارة لاحتمال کون الطاهر هو الماء الثانی وبعد تساقط الاستصحابین یرجع إلی قاعدة الطهارة فیها وجریان الاستصحاب فی الطهارة کما ذکر، وإن نُوقش فیه بدعوی أنّه من الاستصحاب الفرد المردّد بین الطهارة السابقة قبل استعمال المائین المعلوم زوالها بعد ذلک وبین الطهارة الحادثة بعد ذلک المشکوک حدوثها، إلاّ أنّا ذکرنا فی بحث الاستصحاب أنّ خطاب النهی عن نقض الیقین بالشک یعمّ هذا القسم کما یعمّ الاستصحاب فی القسم الثانی من استصحاب الکلی وتمام الکلام فی بحث الاستصحاب.

التنبیه الثالث: تعدّد الإضافات

[1] قد ذکرنا فیما تقدّم أنّ الخلاف فی مسألة الاجتماع فی موارد الترکیب الاتحادی ینحصر فیما کانت النسبة بین نفس عنوانی الفعلین العموم من وجه بحیث یکون الإتیان بمتعلّق الأمر بالمجمع موجباً لتحقّق العنوان المحرّم من غیر عکس، بأن یکون ارتکاب المحرّم فی المجمع بنفسه لا یوجب انطباق عنوان متعلّق الأمر

ص :51

.··· . ··· .

الشَرح:

علیه، بل یحتاج انطباقه علی المجمع إلی ضمّ فعل ولو کان ذلک الفعل قصد عنوان الواجب کالأمر بالصلاة مع خطاب النهی عن الغصب أو الأمر بالوضوء مع خطاب النهی عنه، فإنّ مقتضی کون خطاب النهی عن الغصب انحلالیاً مبغوضیة نفس السجود فی المکان المغصوب، سواء انضمّ إلیه بقیة الصلاة أم لا. والأمر بالصلاة مقتضاه مطلوبیة السجود المزبور فیما إذا انضمّ إلیه بقیّة الصلاة، وکذا النهی عن الغصب فیما کان الماء ملک الغیر مع الأمر بالوضوء، فإنّ النهی عن الغصب یقتضی مبغوضیة استعمال الماء المغصوب ولو بغسل الوجه والیدین، فالفساد والمبغوضیة فی نفس استعماله بخلاف الأمر بالوضوء فإنّه یدلّ علی مطلوبیة الغسل إذا انضمّ إلیه قصد الوضوء، ففی نظائره یمکن دعوی عدم المنافاة بین مطلوبیة الکلّ ومبغوضیة الجزء.

وأمّا إذا کان عنوان المحرّم بحیث لو طبّق علی المجمع کان عنوان الواجب موجوداً لا محالة فالتکاذب والتنافی بین الخطابین فی الحکم والملاک ظاهر کما إذا کانت النسبة بین متعلّقی الأمر والنهی العموم من وجه وکانت النسبة بینهما کذلک ناشئة عن الموضوع للوجوب والحرمة، کما فی قوله: أکرم العلماء، وقوله: لا تکرم الفساق، أو قوله: أکرم عالماً، وقوله: لا تکرم الفاسق(1)، فالاطلاق فی ناحیة کل من الخطابین ینفی عن مورد اجتماعهما الحکم الوارد فی الخطاب الآخر وملاکه، فکیف یلتزم فیهما بثبوت الحکمین والملاکین فی المجمع.

ص :52


1- (1) لا یخفی أن المثال الأول هو المثال المذکور فی الکفایة: 180، لکن ارید التمثیل للأمر بالاطلاق البدلی حتی یکون مثالاً للترخیص فی التطبیق فالأولی التمثیل له بما مثل به شیخنا الأستاذ (دام ظله) وهو «اکرم عالماً».

.··· . ··· .

الشَرح:

وما عن المصنّف قدس سره من أنّ معاملة المتعارضین معهما مبنی علی الامتناع أو إحراز الملاک لأحد الحکمین لا یخفی ما فیه.

نعم، لا یبعد تقدیم خطاب لا تکرم الفاسق علی إطلاق خطاب أکرم عالماً بالوجه المتقدّم بین الحکم الترخیصی(1) والإلزامی.

وقد فرغنا عن بحث الاجتماع فی الدورة السابقة فی شهر شعبان المعظم سنة 1406 ه .ق وفی هذه الدورة سنة ذی الحجّة الحرام 1414 ه .ق والحمد للّه ربّ العالمین.

ص :53


1- (1) إنّ المقصود من الحکم الترخیصی هو الترخیص فی التطبیق لا الاستحبابی.

ص :54

فصل

فی أن النهی عن الشیء، هل یقتضی فساده أم لا؟

ولیقدم أمور:

الأول: إنه قد عرفت فی المسألة السابقة الفرق بینها وبین هذه المسألة[1]، وإنه لا دخل للجهة المبحوث عنها فی إحداهما، بما هو جهة البحث فی الأخری، وإن البحث فی هذه المسألة فی دلالة النهی بوجه یأتی تفصیله علی الفساد بخلاف تلک المسألة، فإن البحث فیها فی أن تعدد الجهة یجدی فی رفع غائلة اجتماع الأمر والنهی فی مورد الإجتماع أم لا؟

الشَرح:

اقتضاء النهی للفساد

الفرق بین مسألة الاقتضاء ومسألة الاجتماع

[1] یذکر فی المقام أُمور:

الأوّل: الفرق بین هذه المسألة ومسألة جواز اجتماع الأمر والنهی ودخول البحث عن هذه المسألة فی المسائل الأصولیة، وقد تقدّم أنّ الکلام فی المسألة السابقة فی مبحثین:

أحدهما: أنّ تعدّد العنوان مع الترکیب الاتحادی بین العنوانین یصحّح ثبوت حکمین بالإضافة إلی المجمع بأن لا یلزم من ثبوت الحکمین فیه محذور التکلیف بالمحال، أو أنّ وحدة العنوانین واتحادهما خارجاً یوجب لزوم المحذور من ثبوت الحکمین فی المجمع فلابدّ فیه من رفع الید عن إطلاق أحد الخطابین.

وثانیهما: فیما کان الترکیب بین العنوانین انضمامیاً بحیث ینطبق أحد العنوانین

ص :55

.··· . ··· .

الشَرح:

علی شیء خارجاً والعنوان الآخر علی غیره فکان الکلام فی إمکان الأخذ بکل من الإطلاقین فی مجمعهما المفروض کون ترکیبهما فیه انضمامیاً أو أنّ الأخذ بالإطلاقین فیه أیضاً کموارد الترکیب الاتحادی غیر ممکن للزوم المحذور الذی تقدّم ذکره فی المسألة السابقة، فلابدّ من رفع الید فی المجمع من أحد الاطلاقین.

وقد تقدّم أنّ الالتزام بالامتناع فی المورد الأوّل لا یستلزم الالتزام به فی المورد الثانی، وأنّه علی تقدیر الالتزام بالامتناع فی المورد الأول أو حتی فی المورد الثانی وتقدیم جانب النهی فی المجمع یکون النهی عنه من صغریات هذه المسألة التی یتکلّم فی منافاة حرمة العبادة لصحّتها وعدم إمکان اجتماعهما أو عدم منافاتها لها، وکذلک البحث فی النهی عن المعاملة وصحّتها سواء أُرید بالمعاملة معناها الخاص _ یعنی العقود والإیقاعات _، أو معناها العام _ یعنی ما یکون مقابل العبادة _. وبما أنّ نتیجة هذه المسألة تقع فی قیاس استنباط الحکم الکلّی الفرعی فیحکم بها، علی المعاملة المنهی عنها، بصحّتها وعلی العبادة المنهی عنها بفسادها، فیدخل البحث عنها فی المسائل الأُصولیة.

وقد ذکر المحقق العراقی قدس سره علی ما فی نهایة الأفکار عدم ارتباط هذه المسألة بالمسألة السابقة حتّی بناءاً علی امتناع اجتماع الأمر والنهی وتقدیم جانب النهی علی جانب الأمر، وبیان ذلک أنّ المبحوث عنه فی هذه المسألة اقتضاء النهی بوجوده الواقعی فساد متعلّقه بملاحظة کشفه ولو بالملازمة العرفیة عن عدم الملاک والمصلحة فی متعلّقه ولذا یدور الفساد مدار الوجود الواقعی للنهی، سواء کان المکلّف عالماً به أو جاهلاً أو غافلاً. وهذا بخلاف المسألة السابقة بناءاً علی الامتناع وتقدیم جانب النهی فإنّه یدور الفساد مدار العلم وتنجّز النهی لا مدار الوجود

ص :56

.··· . ··· .

الشَرح:

الواقعی للنهی، ولذا بنوا علی صحّة العبادة کالصلاة فی الدار المغصوبة من الجاهل القاصر أو الناسی، فلا یکون لإحدی المسألتین مساس بالأخری، ولا یبقی مجال لما ذکر فی الکفایة من أنّه بناءاً علی امتناع الاجتماع وتقدیم جانب النهی یکون مورد اجتماع العنوانین من صغریات مسألة اقتضاء النهی عن عبادة فسادها.

وبالجملة فالمبحوث عنه فی مسألة اقتضاء النهی فساد متعلّقه هو اقتضائه بوجوده الواقعی وکشفه عن خلوّ العبادة عن الصلاح.

وبتعبیرٍ آخر: تقدیم جانب النهی علی جانب الأمر فی باب اجتماع الأمر والنهی لیس لکشف خطاب النهی عن عدم الصلاح فی متعلّقه بل لاشتمال متعلّقه علی المفسدة الغالبة فی مورد الاجتماع، ومع تنجّز خطاب النهی یکون النهی مانعاً عن التقرّب بالمجمع فیفسد العبادة، بخلاف مورد عدم تنجّزه وکون المکلف معذوراً فی مخالفته حیث یمکن التقرّب بالإتیان بالمجمع لعدم صدوره مبغوضاً مع صلاحه بخلاف موارد النهی عن العبادة، فإنّ بطلان متعلّقه لعدم الصلاح فیه ولذا لو لم یکن النهی منجزاً وکان المکلف غیر مأخوذاً بالنهی المزبور لما صحّ الإتیان بمتعلّقه عبادةً لخلوّه عن الصلاح(1).

أقول: ذکرنا فی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی أنّ الکاشف عن الملاک والمصلحة فی الفعل إمّا الأمر به أو الترخیص فی تطبیق متعلّق الأمر علیه المستفاد من إطلاق متعلّق الأمر، ومع تقدیم خطاب النهی علی خطاب الأمر کما بنینا علی ذلک فی موارد الترکیب الاتحادی لا سبیل لنا إلی الکشف عن ملاک متعلّق الأمر فی المجمع، ولذا التزمنا ببطلان

ص :57


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 450.

الثانی: إنه لا یخفی أن عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنما هو لأجل أنه فی الأقوال قول بدلالته علی الفساد فی المعاملات[1]، مع إنکار الملازمة بینه وبین الشَرح:

المجمع فی موارد الجهل أی الشکّ والتردّد، وإن کان الجهل قصوریاً.

نعم، فی موارد النسیان والغفلة سقوط النهی عن المجمع واقعی، ومعه لا مانع من الأخذ بإطلاق المتعلّق بعد سقوطه، وأمّا الموارد التی أُشیر إلیها کالنهی عن صوم یوم العیدین ونهی المریض عن الصوم ونهی الحائض عن الصلاة والصوم من قبیل النهی الإرشادی إلی عدم مشروعیة متعلّقه بالأمر به وجوباً أو استحباباً، سواء کان المکلّف علی علمٍ من مرضه أو محرزاً یوم العید ونحوهما أم لا، فعدم الصحّة فیها للاطلاق فی النهی الإرشادی وعدم خطاب دالّ علی مشروعیتها مع الإطلاق المفروض.

وبالجملة بما أنّ الأمر بالطبیعی الصادق علی المجمع فی موارد الاجتماع موجود فیکون تقدیم خطاب النهی التکلیفی موجباً للتقیید فی ذلک الطبیعی ما دام النهی، وإذا سقط للنسیان أو الغفلة أو الاضطرار أو الإکراه لا بسوء الاختیار فلا مانع من الأخذ بإطلاق المتعلّق عند سقوط النهی، ومعه یؤخذ بمقتضی الاطلاق والترخیص فی التطبیق من الحکم بصحّة المجمع عبادة.

وجه جعل مسألة الاقتضاء فی مباحث الألفاظ

[1] ذکر قدس سره أنّ الوجه فی عنوان هذه المسألة وجعلها من مباحث الألفاظ هو أنّ فی الأقوال قول بدلالة النهی عن معاملة فسادها بالدلالة الالتزامیة اللفظیة مع الالتزام بعدم الملازمة بین حرمة معاملة وفسادها لإمکان إمضائها علی تقدیر إنشائها، وهذا فی المعاملة عقداً وإیقاعاً أو حتی فی المعاملة بالمعنی الأعم فقط. وأمّا فی العبادة فلیس للنهی عنها دلالة لفظیة علی فسادها بل الثابت علی تقدیره الملازمة بین حرمة

ص :58

الحرمة التی هی مفاده فیها، ولا ینافی ذلک أن الملازمة علی تقدیر ثبوتها فی العبادة إنما تکون بینه وبین الحرمة ولو لم تکن مدلولة بالصیغة، وعلی تقدیر عدمها تکون منتفیة بینهما، لإمکان أن یکون البحث معه فی دلالة الصیغة، بما تعم دلالتها بالإلتزام، فلا تقاس بتلک المسألة التی لا یکاد یکون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمل جیداً.

الشَرح:

عبادة وفسادها بلا فرق بین استفادة حرمتها من دالّ لفظی کصیغة النهی أو من غیره کالإجماع، وعلی تقدیر عدم الملازمة لا فرق بین الدال اللفظی علی حرمتها وبین غیره، فاللازم عنوان المسألة بحیث یعمّ کلاًّ من الملازمة بین الحرمة والفساد والدلالة الالتزامیة اللفظیة المشار إلیها بأن یکون المراد من الاقتضاء الکشف فیقال النهی عن فعل عبادة أو معاملة کاشف عن فساده، سواء کان کشفه عن الفساد بنفسه أو بالملازمة بین ثبوت مدلوله ثبوت الفساد، والبحث فی الکشف بالنحو الأول من البحث فی دلالة النهی وبالنحو الثانی بحث فی الملازمة.

أقول: ظاهر لفظ النهی فی عنوان النزاع هو قول المولی (لا تفعلوا کذا) أو (نهیتکم عن کذا) أو أشباه ذلک، فالمذکور فی عنوان النزاع اقتضاء القول المزبور مع کون المنهی عنه عبادة أو معاملة وعدم اقتضائه.

ولو کان حرمة عبادة ثبوتاً ملازماً لفسادها بحیث یمتنع انفکاک حرمتها عن فسادها فالکاشف عن فسادها حرمتها؛ لأنّ إحراز أحد المتلازمین ثبوتاً إحرازٌ للآخر منهما، فالقول المفروض لیس مقتضیاً لفساد العبادة ولا حرمتها بل المقتضی لفسادها _ أی الکاشف عنه _ نفس حرمة العبادة.

وقد تقدّم فی بحث مقدّمة الواجب کلام الماتن قدس سره من أنّه لو کان مقام الثبوت محلّ الکلام فلا معنی للکلام فی مقام الإثبات. نعم جعل البحث فی اقتضاء النهی

ص :59

.··· . ··· .

الشَرح:

أی دلالته علی الفساد صحیح فی المعاملات، حیث کان القائل باقتضاء النهی عن معاملة فسادها ملتزماً بعدم الملازمة ثبوتاً بین حرمة معاملة وفسادها ومدّعیاً دلالة النهی عنها علی فسادها بالدلالة الالتزامیة اللفظیة.

وبالجملة إن أُرید بالنهی عن شیء ظاهره وهو القول المشار إلیه فلا یدخل فی مورد الخلاف فی حرمة العبادة ولو کانت بغیر القول، وإن أُرید حرمة الشیء ثبوتاً فلا یدخل فی مورد الخلاف النهی عن المعاملة.

ذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام أنّه لو قیل بأنّ عدم الموجب لوهم الملازمة بین حرمة معاملة وفسادها اقتضی أن لا یجعل البحث فی ناحیة الملازمة الواقعیة بین حرمة معاملة وفسادها، فعدم الموجب لوهم عدم الملازمة بین حرمة عبادة وفسادها یقتضی أیضاً أن لا یجعل البحث فی النهی عن عبادة فی ناحیة الملازمة بین حرمتها وفسادها، قلنا بالفرق وانّ الموهم لصحة العبادة مع حرمتها موجود _ وهو تعدّد مورد الأمر والنهی _ وذلک لإمکان أن یقال بأنّه إذا تعلّق التحریم بالطبیعة المقیّدة مع طلب نفس الطبیعة فتعدّد مورد الأمر والنهی ولو بالإطلاق والتقیید یوهم عدم التنافی بین حرمة الطبیعة المقیّدة والتقرّب بذات الطبیعة المطلقة.

ثمّ قال: ویمکن القول بناءاً علی تضادّ الأحکام بأنّ ذات المطلق محفوظ فی الطبیعة المقیّدة، فلا تعدّد فی مورد الأمر والنهی حتّی ذهناً.

نعم، إذا قیل بعدم التضاد بین الأحکام کلیة فیصحّ اجتماع الحرمة مع الصحة لو لم یکن محذور آخر، فإنّه یمکن التقرّب بذات المطلق مع کون المقیّد هو المقیّد بما

ص :60

.··· . ··· .

الشَرح:

هو مقیّد کما یمکن اجتماع صلاح المطلق مع فساد المقیّد لأنّ الصلاح والفساد لا یکونان من المتضادّین دائماً کما أنّ صلاح السکنجبین دفع الصفراء وبتقیّده بزمان أو مکان مورثاً للحمی، فالأوّل مصلح للمزاج والثانی فساد له، فلا تنافی بین المحبوبیة من الجهة الأولی والمبغوضیة من الجهة الثانیة(1).

أقول: ظاهر کلامه قدس سره أنّ مورد الخلاف فی النهی عن المعاملة ینحصر فی دلالته علی فسادها بعد الفراغ عند الکلّ عن عدم المنافاة بین حرمة المعاملة ثبوتاً مع صحّتها، مع أنّ الأمر لیس کذلک، بل لیس هذا أیضاً مراد الماتن قدس سره لما یأتی من أنّ حرمة المعاملة بالمعنی السببی _ ولو بعنوان ینطبق علیها _ وإن کان لا ینافی صحتها إلاّ أنّه إذا کان التحریم عنها بالمعنی المسببی أو بعنوان ینطبق علی الوفاء بها فهو أیضاً مورد الخلاف فی المنافاة وعدمها کما سیأتی، ولا یعتبر فی المسألة الأصولیة أن یکون أصل ثبوت المحمول للموضوع رأساً محلّ الخلاف، بل یکفی کون الخلاف فی بعض فروض الموضوع کما هو الحال فی مبحث الملازمة بین حرمة عبادة وفسادها، فإنّ الملازمة فیما کان تحریمها غیریاً أو تنزیهیّاً وفی بعض صور تزاحم الملاکین محلّ الکلام.

وأمّا ما ذکره قدس سره من کفایة تعدّد مورد النهی والأمر ذهناً أو إمکان کون الطبیعی المطلق مقرّباً والمقیّد مبعّداً فقد تقدّم الکلام فیه فی بحث اجتماع الأمر والنهی، فلا نعید.

وذکر المحقق النائینی قدس سره أنّ المسألة عقلیّة ولا تکون من مباحث الألفاظ، وذلک فإنّ غایة ما یدلّ علیه النهی عدم الأمر بمتعلّقه، وأمّا عدم الملاک فی الفعل

ص :61


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 381.

الثالث: ظاهر لفظ النهی وإن کان هو النهی التحریمی، إلاّ أن ملاک البحث یعم التنزیهی[1]، ومعه لا وجه لتخصیص العنوان، واختصاص عموم ملاکه بالعبادات لا یوجب التخصیص به، کما لا یخفی. کما لا وجه لتخصیصه بالنفسی، فیعم الشَرح:

المنهی عنه لیحکم بفساده فلیس للنهی دلالة علیه، والسرّ فی ذکرهم مسألة اقتضاء حرمة العبادة فسادها فی مباحث الألفاظ هو أنّ الأصولیین لم یعنونوا للأحکام العقلیة غیر المستقلة من مباحث الاستلزامات باباً، ولذا ذکروها فی مباحث الألفاظ بمناسبة ما، هذا إذا قیل بصحّة العمل مع الملاک، وأمّا بناءاً علی عدم کفایته واشتراط الأمر بالفعل فی الحکم بصحته فلذکرها فی مباحث الألفاظ وجه لدلالة النهی عن عبادة علی عدم الأمر بها(1).

أقول: ما ذکره فی وجه جعل الاستلزامات فی ضمن مباحث الألفاظ صحیح إلاّ أنّ دلالة النهی علی عدم الأمر بالمنهی عنه وکذا عکسه لا تدخل فی الدلالة اللفظیة علی ما هو المصطلح عندهم وإلا یکون النهی عن العبادة کاشفاً عن عدم الملاک کما یأتی بیانه.

جریان النزاع فی النهی التنزیهی والغیری أیضاً

[1] تعرض قدس سره فی هذا الأمر للمراد من النهی فی عنوان النزاع، حیث یکون النهی تحریمیاً وتنزیهیاً ونفسیاً وغیریاً، وبنی علی ظاهر النهی وإن کان هو التحریمی ولکنّ المراد هو الأعمّ فیعمّ التنزیهی بأن یراد من النهی الوارد فی عنوان النزاع طلب ترک عبادة أو معاملة والقرینة علی التعمیم عموم ملاک الاقتضاء فإنّ الموجب لبطلان العبادة لا یختصّ بما إذا کان النهی عنها تحریمیاً بل یعمّ النهی التنزیهی أیضاً.

نعم، هذا التعمیم یختصّ بالنهی عن العبادة حیث لا موجب لتوهّم اقتضاء

ص :62


1- (1) أجود التقریرات 1 / 385.

الغیری إذا کان أصلیاً، وأما إذا کان تبعیاً، فهو وإن کان خارجاً عن محل البحث، لما عرفت أنه فی دلالة النهی والتبعی منه من مقولة المعنی، إلاّ أنه داخل فیما هو ملاکه، فإن دلالته علی الفساد علی القول به فیما لم یکن للإرشاد إلیه، إنما یکون لدلالته علی الحرمة، من غیر دخل لإستحقاق العقوبة علی مخالفته فی ذلک، کما توهمه القمی قدس سره ویؤید ذلک أنه جعل ثمرة النزاع فی أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده، فساده إذا کان عبادة، فتدبر جیداً.

الشَرح:

النهی التنزیهی عن معاملة فسادها حتّی بناءاً علی اقتضاء النهی التحریمی عن معاملة فسادها، ولکن اختصاص ملاک عموم النهی بالعبادة لا یوجب أن یراد بالنهی فی عنوان النزاع النهی التحریمی. غایة الأمر یمنع فی المعاملات اقتضاء مطلق النهی عنها فسادها ویلتزم بما إذا کان تحریمیاً أو یمنع اقتضاء النهی عنها فسادها حتّی إذا کان النهی تحریمیاً.

وأمّا النهی الغیری فیعمّه النهی فی عنوان الخلاف إذا کان أصلیّاً بأن کان له خطاب مستقل ولو کان الخطاب بالأمر بترکه، حیث لا موجب لتخصیص النهی فی عنوان الخلاف بما إذا کان النهی نفسیاً فإنّ استحقاق العقاب علی المخالفة والارتکاب لا دخل له فی اقتضاء النهی عن عبادة فسادها کما زعمه المحقّق القمی قدس سره (1). کیف؟ وقد جعلوا ثمرة الخلاف فی بحث اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضدّه الخاص، بطلان الضدّ الذی من قبیل العبادة مع أنّ النهی عنه بناءاً علی الاقتضاء غیری.

نعم، إذا کان النهی الغیری تبعیّاً فلا یدخل فی عنوان الخلاف حیث إنّ النهی

ص :63


1- (1) قوانین الأصول 1 / 102 فی المقدّمة السادسة.

.··· . ··· .

الشَرح:

الوارد فی عنوان الخلاف کما تقدّم ظاهر فیما کان من قبیل القول واللفظ، وأمّا النهی التبعی فهو من قبیل المعنی المستفاد من ثبوت الواجب النفسی بملاحظة الملازمة بین إیجابه وإیجاب ترک ضدّه الخاص إلاّ أنّ ملاک اقتضاء النهی الفساد موجود فی النهی التبعی أیضاً، حیث إنّ الموجب لبطلان عمل عبادة، حرمته، سواء کان للحرمة خطاب لفظی أم ثبتت من غیر الخطاب اللفظی.

أقول: مخالفة الأمر الغیری أو النهی الغیری لا یکون مبعّداً ولا یکون فی ارتکاب المنهی عنه بالنهی الغیری أیّة مبغوضیة علی ما تقدّم فی بحث الواجب النفسی والغیری، وإذا أمکن إحراز الملاک فی المحرّم الغیری فیمکن الإتیان به عبادة ووقوعه مقرّباً فلا اقتضاء فی النهی الغیری للفساد.

نعم ذکرنا أنّه مع النهی الغیری عن العبادة لا یمکن إحراز الملاک فیه حیث إنّ الکاشف عن الملاک إمّا الأمر أو الترخیص فی التطبیق، ولا یمکن اجتماع أیّ واحدٍ منهما مع النهی الغیری عن العبادة، فإنّ الأمر طلب الارتکاب والترخیص فی التطبیق إذن فی الارتکاب والمفروض أنّه منهی عنه.

وبالجملة مع النهی الغیری عن عبادة لا یمکن الأمر بها ولا الترخیص فیها؛ لأنّ النهی ولو کان غیریاً مع الأمر أو الترخیص فی التطبیق متنافیان فی المقتضی (بالفتح)، نعم إذا أحرز وجود ملاک المحبوبیة فی المنهی عنه غیریاً وأُتی به للتقرّب بالملاک أمکن الحکم بصحّته، ولکن هذا مجرّد فرض فی العبادات.

ومما ذکر یظهر أنّ اقتضاء الحرمة النفسیة الذاتیة عن عبادة فسادها لتنافی الحرمة النفسیة مع صحة العمل عبادة فی الملاک، بخلاف اقتضاء الحرمة الغیریة فإنّ

ص :64

.··· . ··· .

الشَرح:

اقتضائها بطلان العمل عبادة لعدم إمکان کشف الملاک للصحة مع تلک الحرمة، هذا کلّه فی النهی الغیری.

وأمّا النهی التنزیهی، فقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ الکلام فی اقتضاء النهی عن عبادة فسادها یختصّ بالنهی التحریمی، وأمّا إذا کان النهی تنزیهیاً وبمعنی الکراهة فلا اقتضاء فیه للفساد والوجه فی ذلک أنّ النهی التحریمی یقتضی الفساد لعدم إمکان ترخیص الشارع فی تطبیق الطبیعی المأمور به علی المنهی عنه للمضادّة بین الترخیص فی الفعل مع الإلزام بالترک حتی بنحو الترتّب ولکن النهی الکراهتی یتضمّن الترخیص فالترخیص فی التطبیق کاشف عن ثبوت الملاک بل إطلاق متعلّق الأمر وانطباقه علی متعلّق النهی الکراهتی، هذا فیما إذا کان الأمر بالطبیعی بمعنی طلب صرف وجوده.

وأمّا إذا کان مفاده شمول الطلب لکلّ فردٍ من أفراد الطبیعة ولو علی نحو البدل یکون النهی التنزیهی عن فردٍ منافیاً للأمر بذلک الفرد للمضادة بین طلب ذلک الفرد کما هو مقتضی الأمر به وطلب ترکه، والمصحّح لوقوع العمل عبادة إمّا الأمر به فعلاً أو وجود الملاک فیه، والأول لا یمکن مع تعلّق النهی الکراهتی عنه، والثانی غیر محرز لعدم الکاشف عنه حیث إنّ الکاشف عن الملاک إمّا الأمر أو الترخیص فی التطبیق وکلاهما مفقودان علی الفرض، ولکنّ الکلام فی النهی عن العبادة لیس فیما کان الأمر بالعبادة بنحو العموم الاستغراقی فیصحّ القول بأنّ النهی الکراهتی عن عبادة لا یقتضی فسادها(1).

ص :65


1- (1) أجود التقریرات 1 / 386.

.··· . ··· .

الشَرح:

أقول: متعلّق النهی إمّا العبادة الفعلیة أی الإتیان بالفعل بداعی الأمر به أو لمحبوبیته بنفسه عند الشارع أو بالطبیعی المنطبق علیه، فإن کان النهی عن العمل کذلک من غیر ترخیص فیه یکون النهی المزبور إرشاداً إلی عدم الأمر بالفعل وعدم محبوبیته عند الشارع کی یؤتی به عبادة فتکون حرمته تشریعیة لا محالة، ومع ثبوت الترخیص فی الإتیان به عبادة یکون النهی إرشاداً إلی قلّة ثوابها بالإضافة إلی سائر الأفراد والمصادیق کالنهی عن الصلاة فی بیوت النار والنهی عن صوم یوم عاشوراء کما تعرّضنا لذلک فی جواب شبهة اجتماع الأمر والکراهة فی العبادات.

وقد ذکرنا مراراً أنّ ظاهر النهی عن عبادة مع عدم ثبوت الترخیص فی الإتیان به بنحو العبادة هو الإرشاد إلی عدم تشریعها وفسادها ومع ثبوت الترخیص فی الإتیان به عبادة یکون النهی إرشاداً إلی قلّة ثوابها بالإضافة إلی سائر الأفراد والأمثال، وأمّا إذا فرض تعلّق النهی التحریمی بذات العمل حتّی ولو أتی به بغیر الوجه القربی بحیث تکون حرمته ذاتیة کما ینسب ذلک إلی بعض فی النهی عن صوم یوم العیدین فهذا النهی لا یکون إرشاداً إلی فساده عبادة بل الحرمة تلازم الفساد بمبدئها حیث إنّها تکشف عن الفساد فی نفس الفعل فلا یصلح للتقرّب به لا محالة.

وإذا فرض تعلّق النهی الکراهتی بذات العمل کذلک فهذا النهی کاشف عن الحضاضة فی الفعل بحیث یکون ترکه اجتناباً عن تلک الحضاضة ولا یمکن معها التقرّب بذلک الفعل بل یکون الإتیان به لکونه محبوباً للمولی افتراءاً علی اللّه ومشمولاً لقوله تعالی: «آللّهُ أذِنَ لَکُمْ أمْ عَلی اللّهِ تَفْتَرُونَ»(1)، فالنهی الکراهتی عن

ص :66


1- (1) سورة یونس: الآیة 59.

الرابع: ما یتعلق به النهی، إما أن یکون عبادة أو غیرها، والمراد بالعبادة __ هاهنا[1] __ ما یکون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالی، موجباً بذاته للتقرب من حضرته لولا حرمته، کالسجود والخضوع والخشوع له وتسبیحه وتقدیسه، أو ما لو تعلق الأمر به کان أمره أمراً عبادیاً، لا یکاد یسقط إلاّ إذا أتی به بنحو قربی، کسائر

الشَرح:

ذات العمل یکون منافیاً لوقوع شیء عبادة بمبدئها، ولذا ذکرنا أنّه لا معنی لأن تکون العبادة الفعلیه مکروهة وإنّما یتعلق النهی بها ارشاداً إلی قلّة الثواب بالإضافة إلی سائر الأفراد الناشئة من الحضاضة فی شیء من جوانبه لا فی نفس الفعل أو من استحباب عنوان آخر ینطبق ذلک العنوان علی ترکه عبادة کما ذکر ذلک الماتن قدس سره وغیره فی النهی عن صوم یوم عاشواء.

والمتحصّل إذا کان النهی التنزیهی متضمّناً للترخیص فی نفس الفعل لا فی الإتیان به بنحو العبادة یحکم ببطلانه عبادة وبوقوعه بنحو التشریع المحرم کما قیل بذلک فی قراءة الجنب والحائض بأکثر من سبع آیات.

المراد من العبادة فی البحث

[1] ذکر قدس سره أنّ المراد بالعبادة فی عنوان الخلاف أحد أمرین:

الأوّل: ما یکون بنفسه وعنوانه موجباً للتقرّب به إلی اللّه لولا حرمته فإنّ الفعل إذا کان فی نفسه ومع قطع النظر عن الأمر به کذلک فیطلق علیه العبادة ویدخل فی عنوان الخلاف، کما فی السجود للّه وتسبیحه وذکره وتقدیسه .

والثانی: أن یکون الفعل بحیث لو أمر به لما کان یسقط أمره إلاّ إذا أتی بقصد الامتثال والتقرب إلی اللّه کسائر أمثاله من العبادات کصوم یوم العیدین والصلاة فی أیام الحیض والصوم فی السفر.

ص :67

أمثاله، نحو صوم العیدین والصلاة فی أیام العادة، لا ما أمر به لأجل التعبد به، ولا ما یتوقف صحته علی النیة، ولا ما لا یعلم انحصار المصلحة فیها فی شیء، کما عرّف بکل منها العبادة، ضرورة أنها بواحد منها، لا یکاد یمکن أن یتعلق بها النهی، مع ما أورد علیها بالانتقاض طرداً أو عکساً، أو بغیره، کما یظهر من مراجعة المطولات، وإن کان الإشکال بذلک فیها فی غیر محله، لأجل کون مثلها من التعریفات، لیس بحد ولا برسم، بل من قبیل شرح الإسم کما نبهنا علیه غیر مرة، فلا وجه لإطالة الکلام بالنقض والإبرام فی تعریف العبادة، ولا فی تعریف غیرها کما هو العادة.

الشَرح:

أقول: فی تمثیل ذلک بالصلاة ما لا یخفی، فإنّها ذکر وقراءة ودعاء ورکوع وسجود للّه وکلّها بأنفسها عبادة. ثمّ تعرّض قدس سره لتعاریف العبادة.

فنقل عن بعضهم أنّ العبادة ما أمر به لأجل التعبّد به(1).

وعن بعض آخر العبادة ما یتوقّف صحته علی النیّة(2).

وعن ثالثٍ العبادة ما لا یعلم انحصار المصلحة فیها فی شیء(3).

إلاّ أنّ العبادة بواحد من المعانی الثلاثة غیر قابل لفرض تعلّق النهی بها، فإنّ الأمر لا یتعلّق بما هو متعلّق النهی وما هو متعلّق الأمر فعلاً لا یتعلّق به النهی، ومقتضی التعریف الأول أن یکون الفعل المتعلّق به الأمر متعلّقاً للنهی ولا یمکن فرض الصحّة فیما تعلّق به النهی حیث لا یتعلّق النهی بما فیه صلاح یوجب صحته مع قصد التقرّب به سواء علم انحصار صلاحه أو لم یعلم انحصار صلاحه فی شیء، مع أنّه یرد علی التعاریف المذکورة الانتقاض طرداً وعکساً فإنّ ربّ واجب توصلی

ص :68


1- (1) مطارح الأنظار: 158.
2- (2) قوانین الأُصول: 1 / 154.
3- (3) قوانین الأُصول: 1 / 154.

.··· . ··· .

الشَرح:

لا یعلم انحصار ملاکه فی شیء کالأمر بدفن الموتی بنحو المواراة مستقبلاً إلی القبلة، وقد یعلم بالمصلحة بل وانحصارها فی الواجب التعبدی کما فی الأمر بإعطاء الزکاة وأنّ الواجب التوصلی إذا کان من العناوین القصدیة یتوقّف صحته علی النیّة، کما یرد علی التعریف الأول بأنّه دوری حیث أخذ التعبّد به فی تعریفها فیکون من تعریف الشیء بنفسه، نعم یصحّ الاعتذار عن عدم تمامیة التعریفات بأنّها من قبیل شرح الاسم والمقصود الإشارة بها إلی العبادة بوجهٍ فلا بأس بعدم اطرادها وانعکاسها.

أقول: تعرّضه قدس سره للمراد من العبادة فی هذا الأمر ینبأ عن تخصیص العبادة _ فی نزاع اقتضاء النهی عن عبادة فسادها _ بأحد أمرین مما یدخلان فی العبادة بمعناها الأخص، کما أنّ تعرضه للمراد من المعاملة فی الأمر الخامس ینبأ عن عمومها لمطلق ما یکون قابلاً للاتصاف بالصحة بمعنی ترتّب الأثر المترقّب منها، وبالفساد بمعنی عدم ترتّب ذلک الأثر وینبأ عن عمومها للعقد والإیقاع وغیرهما مما یقبل الصحة والفساد، ویخرج عنها ما لا أثر له شرعاً أو لا یتخلّف عنه أثره کبعض أسباب الضمان کالاتلاف علی الغیر فإنّه موجب للضمان سواء کان منهیاً عنه أم لا؟

ولکنّ المحقّق النائینی قدس سره عکس الأمر وذکر أنّ المراد من العبادة معناها الأعمّ فیشمل کلّ فعل یصلح للتقرّب به لولا النهی، کغسل الثوب من الخبث، فإنّه یمکن التقرّب بغسله کما إذا کان لأجل الإتیان بالصلاة حیث إنّها مشروطة بطهارته وطهارة البدن، فیقع الکلام فی أنّه مع النهی عنه _ کما إذا کان غسله فی مکان مغصوب أو بماءٍ مغصوب _ هل یمکن التقرّب به أم لا؟ ولا ینافی ذلک ترتّب طهارته علی غسله کذلک حیث إنّ ترتّب الأثر علی ذات الفعل وعدم الفساد من هذه الجهة لا ینافی الفساد من جهة أُخری، وهی عدم وقوعه عبادة مع النهی عنه وأنّ المراد بالمعاملة

ص :69

.··· . ··· .

الشَرح:

کلّ أمر إنشائی یتسبّب به إلی أمر اعتباری شرعی ولو امضاءاً فینحصر المراد بالعقد والإیقاع، حیث إنّ المعاملة بالمعنی الآخر الأعم الشامل للتحجیر والحیازة وأمثالهما غیر داخلة فی مورد الخلاف، ولم یتوهم أحد دلالة النهی التکلیفی فیها علی الفساد کما أنّ المعاملة بالمعنی الأخص أی خصوص العقد المتوقّف علی الإیجاب والقبول غیر مراد فی المقام بل المراد ما یعمّ الإیقاع أیضاً کما مرّ(1).

أقول: المراد بالفساد فی العبادة _ کما یأتی بیانه فی الأمر السادس _ عدم تمامیتها الموقوفة علی صلاح المأتی به ملاکاً وعدم وقوعه مبغوضاً علی المکلّف، وعلیه فیعمّ المراد من العبادة فی عنوان الخلاف المعنیین اللذین ذکرهما الماتن قدس سره ، وما کان النهی عن الجزء من مصداق العبادة المأمور بها فعلاً أو القید من مصداقها فالأول کالصلاة فی الدار المغصوبة مع المندوحة حیث إنّ السجود من الصلاة المأتی بها منهی عنه علی ما تقدّم فی مبحث اجتماع الأمر والنهی، والثانی کالصلاة فی الساتر المغصوب مع تمکّنه علی الساتر المباح فلا وجه لتخصیص العبادة فی عنوان الخلاف بأحد المعنیین حیث إنّ الفرد الطبیعی لا یؤمر به بل الثابت فیه لولا النهی الترخیص فی التطبیق هذا مع المندوحة کما ذکرنا.

وأمّا مع عدمها فإمّا یسقط أصل التکلیف بالطبیعی المزبور أو یؤمر بالطبیعی الذی خلا عن ذلک الجزء أو الشرط کما فی الأمر بالصلاة إیماءً للرکوع والسجود والأمر بها عریاناً.

ومما ذکرنا یظهر وجه المناقشة فیما ذکره المحقّق النائینی قدس سره من بیان المراد

ص :70


1- (1) أجود التقریرات 1 / 387.

.··· . ··· .

الشَرح:

من العبادة فی المقام.

ووجه الظهور أنّ الأمر بغسل الثوب من نجاسته للصلاة علی تقدیر الوجوب الغیری فی المقدّمة لیس من الأمر بالعبادة لأنّ تمامیة غسل الثوب للصلاة حصول طهارته، والنهی عن الغسل بالماء المغصوب بعنوان التصرّف فی ملک الغیر بلا رضاه لیس من النهی فی العبادة ولا من قیدها لعدم کون غسل الثوب المتنجس قیداً للصلاة بل المأخوذ فی الصلاة طهارة الثوب والمفروض حصولها بعد الغسل المنهی عنه ولا یقاس بما إذا کان الفعل بنفسه قیداً للصلاة کما فی الستر فإنّ المنهی عنه فیما إذا کان الساتر مغصوباً بنفسه مصداق للقید المعتبر فی الصلاة المأمور بها، فیدخل فی عنوان الخلاف فی أنّ النهی عنه یقتضی فساد الصلاة فیه أم لا، لما ذکرنا من أنّ الترخیص فی تطبیق الطبیعی المأمور به علی المأتی به غیر ممکن حتی بنحو الترتب ومع عدم إمکانه لا یحرز الصلاح والملاک فی المأتی به بل یقع مبغوضاً بإیجاد قیده علی النحو المحرّم.

وإحراز طهارة الثوب بغسله بالماء المغصوب بإحراز تذکیة الحیوان وخروجه عن المیتة بذبحه بالسکّین المغصوب أو حتی مع غصب نفس الحیوان مستفاد من الأمر بغسل الثیاب فی الخطابات الشرعیة من النجاسات المختلفة ومن الأمر بقطع أوداج الحیوان مستقبلاً إلی القبلة مع ذکر اسم اللّه علیه فإنّ مثل هذه الأوامر إرشاد إلی أنّ تطهیر الثوب غسله وإخراج الحیوان عن کونه میتة ذبحه بهذا النحو، ومقتضی إطلاق الأمر الإرشادی عدم الفرق بین وقوع الغسل أو قطع الأوداج بنحو الغصب والعدوان أو بنحو التصرّف الحلال، والنهی عن الغصب لا یقیّد هذا الإطلاق لأنّ النهی التکلیفی عن الغصب وإن کان ینطبق علی الغسل والذبح المزبورین إلاّ أنّه

ص :71

الخامس: إنه لا یدخل فی عنوان النزاع إلاّ ما کان قابلاً للاتصاف بالصحة والفساد[1]، بأن یکون تارة تاماً یترتب علیه ما یترقب عنه من الأثر، وأخری لا کذلک، لإختلال بعض ما یعتبر فی ترتبه، أما ما لا أثر له شرعاً، أو کان أثره مما لا یکاد ینفک عنه، کبعض أسباب الضمان، فلا یدخل فی عنوان النزاع لعدم طروء الفساد علیه کی ینازع فی أن النهی عنه یقتضیه أو لا، فالمراد بالشیء فی العنوان هو العبادة بالمعنی الذی تقدم، والمعاملة بالمعنی الأعم، مما یتصف بالصحة والفساد، عقداً کان أو إیقاعاً أو غیرهما، فافهم.

الشَرح:

لا ینافی ترتّب الأثر فإنّ النهی عن الإیجاد وترتّب الأثر بعد الوجود لا یتنافیان، وهذا بخلاف الأمر بالستر فی الصلاة أو النهی عن الطواف عریاناً فإنّ الأمر والنهی فیهما إرشاد إلی أخذ الستر فی الصلاة والطواف قیداً، ومع القید المنهی عنه لا یبقی إطلاق فی ناحیة الطبیعی المأمور به ولا یمکن الترخیص فی التطبیق کما أوضحنا ذلک فی مبحث جواز اجتماع الأمر والنهی وامتناعه.

المراد من المعاملة فی البحث

[1] هذا الأمر لبیان أنّ المراد بالشیء فی عنوان النزاع، العبادة بالمعنی المتقدّم، والمعاملة بالمعنی الأعم وهو کلّ ما یقع تارةً بنحو یترتّب علیه الأثر المترقّب منه وأخری یقع بنحو لا یترتّب علیه ذلک الأثر فیوصف الأوّل بالصحّة والثانی بالفساد سواء کان ذلک الشیء من المعاملة بمعنی العقد والإیقاع أو من غیرهما کذبح الحیوان، حیث یترتّب علیه تذکیته تارةً ولا یترتّب علیه أخری، وکغسل الثوب من الخبث حیث یترتب علی غسله طهارته تارةً ولا یترتب علیه طهارته أخری.

نعم، ما لا ینفک ترتّب الأثر عنه کبعض أسباب الضمان مثل إتلاف مال الغیر

ص :72

.··· . ··· .

الشَرح:

فلا یدخل فی عنوان الخلاف لعدم طروّ الفساد علیه لیقع الخلاف فی أنّ النهی عنه یقتضی فساده أم لا.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام أنّه یمکن القول بأنّ ملاک اقتضاء النهی عن معاملة فسادها لا یجری فی غیر العقد والإیقاع فلا وجه لکون المراد من المعاملة معناها الأعم لیشمل الغسل بالإضافة إلی الطهارة من الخبث المترتبة علیه، وذلک فإنّ مبغوضیة التسبّب إلی المسبّب یمکن أن تکون مستلزمة لمبغوضیة المسبّب وعدم حصولها، وهذا الاستدعاء بنحو الملازمة العقلیة أو العرفیة بخلاف الغسل فإنّ مبغوضیته لا تستدعی عدم حصول الطهارة بوجه.

ثمّ ذکر الإیراد علی ذلک بأنّه کیف یفرق بین الملکیة المترتبة علی المعاملة والطهارة المترتبة علی غسل الثوب، فإنّه إن کان کلّ من الملکیة والطهارة أمراً واقعیاً کشف عنه الشارع وعن ترتبهما علی أسبابهما فلا تلازم بین المنع عن أسبابهما وترتّب مسبباتهما علی تقدیر أسبابهما، وإن کان کلّ منهما من الاعتبارات الشرعیة فالأمر کذلک برهاناً، وإن فرضت الملازمة بین حرمة السبب وبین عدم حصول مسبّبه فی الملکیة لتمّت الملازمة بین حرمة السبب وعدم حصول المسبّب فی الطهارة فلا یمکن الفرق بینهما.

وأجاب قدس سره عن الإیراد بالفرق بأنّ الملکیة لا تترتّب علی ذات السبب بل لابدّ فی الترتّب من القصد بأن یقصد المکلّف حصول الملکیة التی هی فعل مباشری للشارع وفعل تسبیبی من المالک، فیمکن أن یتوهّم أنّ مبغوضیة التسبیب القصدی تنافی اعتبارات الشارع، بخلاف ترتّب الطهارة علی غسل الثوب فإنّها من ترتّب المسبّب علی نفس السبب لا علی التسبّب إلی إیجاد اعتبار الشارع لیتنافی مبغوضیة

ص :73

السادس: إن الصحة والفساد وصفان إضافیان یختلفان بحسب الآثار والأنظار[1]، فربما یکون شیء واحد صحیحاً بحسب أثر أو نظر وفاسداً بحسب آخر، ومن هنا صح أن یقال: إن الصحة فی العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فیهما بمعنی واحد الشَرح:

التسبّب مع اعتبارها(1).

أقول: قد ذکرنا فی بحث البیع أنّ الملکیة الشرعیة لا تکون فعلاً تسبیبیاً للعاقد ولا ینشأها العاقد فإنّها فعل الشارع وحکمه ولا معنی لإیجاد شخص حکم الآخر واعتباره، وإنّما یعتبر العاقد الملکیة التی هی اعتبار نفسه ویبرزها لتحقّق عنوان المعاملة من البیع والهبة وغیر ذلک، ولذا قد یقصد المالک المعاملة مع علمه بفسادها شرعاً وأنّ شرعاً فی النهی عن معاملة بمعناها المصدری هو إیجادها _ إذ لا ینافی النهی عن الإیجاد مع إمضائها بعد وجودها فلا مورد لتوهم المنافاة عقلاً ولا عرفاً، فکما أنّ طهارة الثوب شرعاً بالغسل غیر منوط بأن یقصد الغاسل ترتّب تلک الطهارة کذلک الملکیة الشرعیة غیر منوطة بقصد العاقد حصولها ولو کان لتوهم المنافاة بین حرمة الإیجاد وبین اعتبار الشارع بعد الوجود وجه فی المعاملات کان ذلک الوجه جاریاً فی الطهارة أیضاً.

معنی الصحة والفساد

[1] ذکر قدس سره ما حاصله أنّ الصحّة فی العبادة والمعاملة بمعنیً واحد وهی التمامیة، کما أنّ الفساد فیهما بمعنی عدم التمامیة، ولکنّ التمامیة فی کلّ منهما بلحاظ ما هو الملحوظ فی کلّ منهما، فالملحوظ فی العبادة أمر والملحوظ فی المعاملة أمر آخر، کما أنّ الملحوظ فی العبادة یختلف بحسب الأنظار، فالملحوظ

ص :74


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 386.

وهو التمامیة، وإنما الإختلاف فیما هو المرغوب منهما من الآثار التی بالقیاس علیها تتصف بالتمامیة وعدمها، وهکذا الإختلاف بین الفقیه والمتکلم فی صحة العبادة، إنما یکون لأجل الإختلاف فیما هو المهم لکل منهما من الأثر، بعد الإتفاق ظاهراً علی أنها بمعنی التمامیة، کما هی معناها لغة وعرفاً.

الشَرح:

عند الفقهاء فی العبادة سقوط التعبّد بها ثانیاً بالإعادة أو القضاء، ولذا فسّر صحّة العبادة بسقوط القضاء وإعادتها.

والملحوظ عند المتکلمین حصول الامتثال الموجب لاستحقاق الثواب علیه عقلاً، ولذا فسّر صحتها بموافقة الأمر تارة وبموافقة الشریعة أخری.

وحیث إنّ الأمر فی الشریعة علی أقسام من الأمر الواقعی الأولی المعبّر عنه بالاختیاری، والأمر الواقعی الثانوی المعبّر عنه بالاضطراری، والأمر الظاهری، والأنظار مختلفة فی إجزاء الأخیرین عن الأمر الواقعی الأوّلی، فیمکن أن یکون الإتیان بالعبادة تامّة بنظر الفقیه والمتکلّم کما إذا أتی بالمأمور به الظاهری، فالفقیه الملتزم بأجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری عن الواقعی یصف العمل المذکور بالصحة، وکذلک المتکلّم القائل بأنّ الصحّة هی موافقة الشریعة ولو کان الأمر ظاهریاً، ثم إنّ هذا العمل غیر صحیح عند من التزم بعدم الاجزاء بعد کشف الخلاف وصحیح عند هذا المتکلّم، کما أنّ المتکلّم القائل بأنّ تمامیة العمل یحسب بالإضافة إلی الأمر الواقعی فالعمل المفروض مع کشف الخلاف غیر صحیح عنده، وصحیح عند الفقیه المتلزم بالاجزاء، وهذا الاختلاف بین الفقیه والمتکلّم أو بین فقیه وفقیه آخر لیس فی معنی الصحّة والفساد، بل کما تقدّم أنّ الصحّة عند الکلّ بمعنی التمامیة والفساد بمعنی عدم التمامیة، ولکنّ التمامیة وعدمها أمران إضافیان یختلفان بحسب المرغوب فی المعاملة وفی العبادة، وبحسب الأنظار فی الملحوظ

ص :75

فلما کان غرض الفقیه، هو وجوب القضاء، أو الإعادة، أو عدم الوجوب، فسر صحة العبادة بسقوطهما، وکان غرض المتکلم هو حصول الإمتثال الموجب عقلاً لإستحقاق المثوبة، فسرها بما یوافق الأمر تارة، وبما یوافق الشریعة أخری.

وحیث إن الأمر فی الشریعة یکون علی أقسام: من الواقعی الأولی، والثانوی، والظاهری، والأنظار تختلف فی أن الأخیرین یفیدان الإجزاء أو لا یفیدان، کان الإتیان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لأخر، أو مسقطاً للقضاء والإعادة بنظر، وغیر مسقط لهما بنظر آخر، فالعبادة الموافقة للأمر الظاهری، تکون صحیحة عند

الشَرح:

فی تمامیة العبادة وعدمها.

ثمّ إنّه قدس سره بعد بیان معنی الصحّة والفساد تعرّض لکون الصحّة والفساد فی کلّ من العبادة والمعاملة أمراً جعلیاً شرعیاً، أو حکماً عقلیاً، أو أمراً اعتباریاً انتزاعیاً عن الشیء الخارجی، فذکر أنّ الصحّة فی العبادات علی ثلاثة أقسام: قسم منها أمر اعتباری انتزاعی، وقسم منها من حکم عقلی، وقسم منها مجعول شرعی.

أمّا الأول: فإنّ توصیف العمل بالصحة باعتبار أنّ المأتی به مطابق لما تعلّق به الأمر وبالفساد باعتبار أنّه غیر مطابق لما تعلّق به الأمر أمران اعتباریان، منشأ اعتبارهما وانتزاعهما المطابقة وعدمها ولیسا من الأحکام العقلیة ولا من المجعولات الشرعیة.

والثانی: ما یدخل فی حکم العقل وهو سقوط القضاء والإعادة، فإنّه من حکم العقل المترتّب علی الإتیان بالمأمور به الاختیاری الواقعی، حیث لا یعقل ثبوت الإعادة والقضاء مع الإتیان به.

وبتعبیر آخر: کما أنّ استحقاق المثوبة مع الإتیان بالمأمور به الواقعی من حکم العقل علی الامتثال کذلک حکمه بسقوط التکلیف وعدم بقاء المجال للإعادة أو القضاء،

ص :76

المتکلم والفقیه، بناءً علی أن الأمر فی تفسیر الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهری، مع اقتضائه للإجزاء، وعدم اتصافها بها عند الفقیه بموافقته، بناءً علی عدم الإجزاء، وکونه مراعی بموافقة الأمر الواقعی وعند المتکلم، بناءً علی کون الأمر فی تفسیرها خصوص الواقعی.

تنبیه: وهو أنه لا شبهة فی أن الصحة والفساد عند المتکلم، وصفان اعتباریان ینتزعان من مطابقة المأتی به مع المأمور به وعدمها، وأما الصحة بمعنی الشَرح:

والصحة بهذا المعنی لا تدخل فی الحکم الشرعی الوضعی المجعول بالتبع کما توهّم.

الثالث: إنّ سقوط القضاء والإعادة عند الإتیان بالمأمور به الاضطراری أو بالمأمور به الظاهری بالإضافة إلی المأمور به الاختیاری أو الواقعی یکون أمراً مجعولاً ویحکم بالاجزاء تخفیفاً ومنّةً علی العباد مع ثبوت المقتضی لوجوب الإعادة أو القضاء کما تقدّم فی بحث الاجزاء، فیکون الحکم بالصحّة والفساد فی الإتیان بالمأمور به الاضطراری أو الظاهری بعد ارتفاع الاضطرار وکشف الخلاف من المجعول الشرعی لا من الوصف الانتزاعی.

نعم موارد جعل الصحة للمأمور به الاضطراری أو الظاهری یکون الاجزاء مجعولاً للطبیعی کالصلاة مع التیمّم حال عدم التمکّن من الماء ولو فی بعض الوقت فالمأتی به من الصلاة بتیمّم بما أنّه صرف الوجود لذلک الطبیعی المحکوم علیه بالاجزاء مجزٍ لا أنّ الاجزاء مجعول لخصوصه وإلی ذلک یشیر بقوله قدس سره : «نعم الصحة والفساد فی الموارد الخاصة لا یکاد یکونان مجعولین... إلخ»، هذا کلّه فی الصحّة فی العبادات.

وأمّا الصحّة فی المعاملات، فهی تکون مجعولة لا غیر، إذ لا معنی للصحة فیها _ عقداً وإیقاعاً أو غیرهما _ الاّ ترتّب الأثر والأثر مجعول للشارع ولو إمضاءً ولو لم

ص :77

سقوط القضاء والإعادة عند الفقیه، فهی من لوازم الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی الأولی عقلاً، حیث لا یکاد یعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزماً، فالصحة بهذا المعنی فیه، وإن کان لیس بحکم وضعی مجعول بنفسه أو بتبع تکلیف، إلاّ أنه لیس بأمر اعتباری ینتزع کما توهم، بل مما یستقل به العقل، کما یستقل باستحقاق المثوبة به وفی غیره، فالسقوط ربما یکون مجعولاً، وکان الحکم به تخفیفاً ومنةً علی العباد، مع ثبوت المقتضی لثبوتهما، کما عرفت فی مسألة الإجزاء، کما الشَرح:

یجعل الأثر المترقّب من المعاملة لم تتصف بالصحّة.

نعم هذا الجعل إنّما یکون بالإضافة إلی الطبیعی الواجد للقیود المجعول له الأثر بتلک القیود، وأمّا أشخاصها فالصحّة فیها بمعنی انطباق ذلک الطبیعی المجعول له الأثر علی الأشخاص الموجودة منها.

وبتعبیر آخر: الصحّة فی أشخاص المعاملة کالصحّة فی ا لشخص الموجود من المأمور به الاضطراری أو الظاهری وقد تقدّم أنّ الصحة فی الشخص من المأمور به الاضطراری کما تکون بانطباق الطبیعی المحکوم بالاجزاء علیه کذلک الصحّة فی شخص المعاملة تکون بانطباق الطبیعی المجعول له الأثر علی الموجود خارجاً من أفرادها.

وذکر المحقّق النائینی قدس سره _ بعد بیان أنّ الصحّة بمعنی التمامیة والفساد بمعنی عدم التمامیة لکن لا مطلقاً بل فی المورد القابل، فتقابل الفساد والصحة تقابل العدم والملکة _ أنّ التمامیة فی العبادة والمعاملة بالإضافة إلی الأثر المترتّب علی کلّ منهما ففی العبادة بالإضافة إلی أثرها الاعدادی أی الأثر المترتب علی العبادة بوجودها الخارجی من الصلاح المترتب علیها الذی هو ملاک محبوبیتها وفی المعاملة بلحاظ أثرها المعاملی کانتقال المالین.

والأمر الاعدادی المترتب علی العبادة وإن لم یکن متعلّق التکلیف لما تقدّم

ص :78

ربما یحکم بثبوتهما، فیکون الصحة والفساد فیه حکمین مجعولین لا وصفین انتزاعیین.

نعم، الصحة والفساد فی الموارد الخاصة، لا یکاد یکونان مجعولین، بل إنما هی تتصف بهما بمجرد الإنطباق علی ما هو المأمور به، هذا فی العبادات.

الشَرح:

فی بحث الواجب النفسی والغیری من دخالة بعض الأمور الخارجة عن اختیار المکلف أحیاناً فی ترتّب ذلک الأثر علی العمل، إلاّ أنّه لا منافاة بین خروجه عن دائرة التکلیف استقلالاً وضمناً، و بین کون العمل متّصفاً بالصحة لوجوده، ولعدم ترتّبه علی العمل یتّصف العمل بالفساد.

والطبیعی المتعلّق به الأمر لا یتصّف بالصحّة والفساد فی مقام تعلّق الأمر به، وإنّما الموصوف بهما المأتی به خارجاً، فیکون انطباق ذلک الطبیعی علی المأتی به هو الموجب لاتّصاف المأتی به بالصحة وعدم انطباقه الموجب لاتّصافه بالفساد فیکون المیزان فی اتصاف المأتی به بالصحة أو الفساد عند المکلف هو انطباق الطبیعی علی المأتی به وعدم انطباقه علیه والتعبیر بترتب الأثر الاعدادی وعدمه لکون الانطباق وذلک الترتب من المتلازمین، یغنی أحدهما عن الآخر.

وأمّا المعاملة فالأثر المترتب علیها وإن کان أمراً مجعولاً وجعله بإمضاء ما لها من الأثر عند العقلاء إلاّ أنّ المعاملة أیضاً فی مقام الجعل والإمضاء لا تتصف بالصحة والفساد وإنّما یکون المتصف بهما الموجود خارجاً حیث ینطبق علیه الموضوع للحلّیة والإمضاء تارةً، ولا ینطبق علیه أخری، والانطباق وعدمه أمر قهری لا تناله ید التشریع والجعل، ولهذا یصحّ أن یقال: إنّ الصحّة والفساد فی العبادات والمعاملات بمعنی الانطباق وعدمه، أی انطباق الطبیعی من المعاملة الممضاة أو الطبیعی المتعلّق به الأمر علی المأتی به، نعم الصحّة فی مورد المأمور به الاضطراری أو

ص :79

وأما الصحة فی المعاملات، فهی تکون مجعولة، حیث کان ترتب الأثر علی معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتیبه علیها ولو إمضاءً، ضرورة أنه لولا جعله، لما کان یترتب علیه، لأصالة الفساد.

نعم صحة کل معاملة شخصیة وفسادها، لیس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدمه، کما هو الحال فی التکلیفیة من الأحکام، ضرورة أن اتصاف المأتی به بالوجوب أو الحرمة أو غیرهما، لیس إلاّ لإنطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.

الشَرح:

الظاهری بالإضافة إلی الاختیاری والواقعی تکون مجعولة(1).

أقول: یجری بحث اقتضاء النهی عن العبادة فسادها فی موارد لا یجری فیها سقوط القضاء والأداء أو عدم سقوطهما ولا یجری فیها أیضاً بحث انطباق متعلّق الأمر علی المأتی به مع النهی عنه کما فی النهی عن صوم یوم العیدین بناءاً علی کون النهی عن صومهما من النهی التحریمی التکلیفی، حیث لا مورد لتوهّم سقوط الإعادة أو القضاء أو بحث انطباق متعلّق الأمر علی صومهما فإنّ صوم کلّ یوم مشروع صومه تکلیف مستقل لا ینطبق صیام أحد الأیام علی الآخر.

وبالجملة الانطباق وعدمه وکذا سقوط الإعادة والقضاء یختص بالموارد التی یتعلّق فیها الأمر بالطبیعی ویکون المطلوب صرف وجوده والنهی عن بعض مصادیقه بحسب جزئه أو قیده علی ما یأتی.

والصحیح أنّ المراد بصحّة العبادة فی المقام تمامیتها بالإضافة إلی التقرّب المعتبر فیها، ویکون البحث فی أنّ النهی عمّا تکون عبادة علی تقدیر الأمر به أو الترخیص فی التطبیق، یقتضی عدم صلاحیته للتقرب به فیجب معه الإعادة أو

ص :80


1- (1) أجود التقریرات 1 / 388.

.··· . ··· .

الشَرح:

القضاء فی موارد تعلّق الأمر بالطبیعی المطلوب صرف وجوده سواء کان الأمر به أدائیاً أو قضائیاً وأنّه لا یکون بالمنهی عنه امتثال وطاعة إذا کان المنهی عنه بحیث لو کان أمر به کان أمره تکلیفاً انحلالیاً استقلالیاً. هذا بالإضافة إلی العبادة.

وأمّا بالإضافة إلی المعاملة بمعنی العقد والإیقاع فیکون التمامیة فیها بحسب الأثر المترقّب منها ولو بنحو الإمضاء، لا بمعنی انطباق العنوان الممضی علی المأتی به وعدم انطباقه فإنّ الخطابات المتضمّنة لإمضاء المعاملات انحلالیة فقوله «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) إمضاء لما ینطبق علیه عنوان البیع بما له الأثر عند العقلاء، ولذا یستفاد بضمیمة مقدّمات الاطلاق العموم ولیس الأثر مجعولاً علی صرف وجود الطبیعی قبل حصوله لیکون الکلام فی أنّ النهی عن فردٍ ملازماً للضیق فی الطبیعی المتعلّق به الإمضاء بحیث لا ینطبق علی الفرد المنهی عنه، بل الکلام فی أنّ النهی عن إیجاده ینافی إمضائها بعد إنشائه أو لا منافاة بین مبغوضیة الإیجاد وجعل الأثر له بعد وجوده، وأمّا ترتّب الأثر الاعدادی فقد ذکر فی بحث التعبّدی والتوصّلی أنّ صحّة العبادة وعدمها لا یدور مداره.

بقی فی المقام أمر لا بأس بالتعرض له وهو أنّه قد ذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره کون الصحة بمعنی تمامیة المأتی به من حیث سقوط القضاء والإعادة من حکم العقل لیس بمعنی أنها مجعول عقلی یحصل بإنشائه وجعله بل کونه تماماً ومسقطاً للأمر بالإعادة والقضاء أمر واقعی انتزاعی حیث لا معنی للأمر الانتزاعی إلاّ أنّه أمر لا مطابق له خارجاً بل یکون له منشأ انتزاعی خارجی ولا منافاة بین کون مسقطیّة

ص :81


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.

.··· . ··· .

الشَرح:

الفعل للأمر بالإعادة أو القضاء أمراً واقعیاً انتزاعیاً واستقلال العقل بسقوطهما حیث أنّ استقلاله لیس بمعنی ثبوت المبدء وکونه بإنشاء العقل وجعله حیث إنّ شأن العقل الإدراک لا الجعل والإنشاء، فاستقلال إدراکه _ لا ثبوت المسقطیة _ بإنشائه.

ثمّ أتبع ذلک بأنّ الأمر فی استحقاق المثوبة من هذا القبیل، فإنّ الاستحقاق للمثوبة وإن کان أمراً عقلائیاً لأجل بناء العقلاء علی مدح الفاعل فیکون أصل الاستحقاق مجعولاً عقلائیاً، إلاّ أنّ سببیة المأتی به لهذا المجعول العقلائی مجعول تبعی تکوینی قهری لا أنّه من اللوازم المجعولة ببناء العقلاء(1).

أقول: ما ذکره قدس سره من عدم کون سقوط الإعادة والقضاء والموجبیه له مجعولاً عقلیاً بل العقل یدرک مع الإتیان بالعمل بلا خلل، عدم بقاء الأمر الأول وعدم الأمر بتدارکه فهو صحیح، إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من أنّه لیس شأن العقل إلاّ الإدراک فیمکن المناقشة فیه بأنّ ما ذکره من کون الاستحقاق من بناء العقلاء غیر صحیح فإنّ المدح یکون من العقلاء واستحقاقه بحکم العقل.

وأمّا ما ذکر قدس سره من أنّ سببیّة المأتی للاستحقاق أمر تکوینی فلم یظهر لی المعنی الصحیح منه، فإنّ السببیة بمعنی الموضوعیة لا غیر، ولا معنی لکون الحکم للمأتی به أمراً عقلیاً أو عقلائیاً ویکون موضوعیته له أثراً تکوینیاً لأنّ السببیة لحکم شرعی أو عقلی ینتزع من ثبوت الحکم لشیء قد جعله الحاکم موضوعاً له. نعم، منشأ الجعل قد یکون أمراً تکوینیاً.

وبالجملة لو کان استحقاق المثوبة ببناء العقلاء لکان الإتیان بمتعلّق الأمر من

ص :82


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 387.

السابع: لا یخفی أنه لا أصل فی المسألة یعوّل علیه، لو شک فی دلالة النهی علی الفساد[1]. نعم، کان الأصل فی المسألة الفرعیة الفساد، لو لم یکن هناک إطلاق أو عموم یقتضی الصحة فی المعاملة.

وأما العبادة فکذلک، لعدم الأمر بها مع النهی عنها، کما لا یخفی.

الشَرح:

غیر خلل موضوعاً لحکمهم بالاستحقاق، وعنوان الموضوعیة المعبّر عنها بالسببیة للحکم یتبع جعل الحکم، ونظیر ذلک الإمضاء المترتب علی المعاملات من العقلاء والشرع، فإنّ المعاملات لا تکون أسباباً لتلک الامضاءات بل تکون من قبیل الموضوع لها علی ما یأتی فی بیان الحکم الوضعی.

مقتضی الأصل فی مسألة الاقتضاء

[1] وینبغی أن یراد بالأصل البناء العقلائی کالذی ثبت فی بعض الأصول اللفظیة، حیث جرت سیرة العقلاء علی اعتبار الظهور لا البناء علی ثبوت الظهور أو البناء علی عدمه، هذا فیما إذا شکّ فی دلالة النهی عن عبادة أو معاملة علی الفساد بدلالة لفظیة، أمّا إذا شکّ فی الملازمة بین حرمة شیء وفساده نظیر الملازمة بین وجوب شیء ووجوب مقدّمته فلا أصل فی المقام، لکون الملازمة أو عدمها أمراً أزلیاً ولیست مجعولاً شرعیاً ولا کون الفساد أثراً شرعیاً لها.

نعم، لا بأس بالرجوع إلی الأصل العملی بل یتعیّن الرجوع إلیه فی المسألة الفرعیة إذا شکّ فی الاقتضاء وعدمه.

ولو کان المنهی عنه معاملة وشکّ فی فسادها للنهی التکلیفی عنها فالأصل یعنی الاستصحاب مقتضاه فسادها إذا لم یکن فی البین عموم أو إطلاق یقتضی إمضائها، مثلاً إذا ورد النهی عن البیع وقت النداء وشکّ فی صحته وفساده فیرجع

ص :83

.··· . ··· .

الشَرح:

فی الحکم بصحته إلی إطلاق دلیل الامضاء کقوله : «أَحَلَّ اللّهُ البَیْعَ»(1) و«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(2) ونحوهما لأنّ المفروض عدم ثبوت المقیّد للإطلاق والعموم کما هو فرض عدم ثبوت اقتضاء النهی عن البیع وقت النداء فساده کما یرجع إلی الإطلاق المزبور عند احتمال قید فی صحة البیع، وفساده بدونه، لو کان منشأ هذا الاحتمال أمراً آخر غیر النهی التکلیفی عن البیع بذلک القید.

وأمّا مع عدم العموم أو الإطلاق المثبت لإمضاء المعاملة وترتب الأثر علیها یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم إمضائها وعدم ترتّب أثر علیها ولا یضرّ کون الشبهة حکمیة لأنّ الموجب لعدم جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة تعارض الاستصحاب فی عدم الجعل مع الاستصحاب فی ناحیة المجعول وفی مثل المقام لا تعارض بینهما لتوافقهما بل ذکرنا فی بحث الاستصحاب أنّ مع الاستصحاب فی ناحیة عدم الجعل لا تصل النوبة إلی الاستصحاب فی ناحیة المجعول توافقا أو تخالفا، وکذا یرجع إلی استصحاب عدم إمضائها إذا کانت الشبهة موضوعیة إذا لم یوجد أصل حاکم علی الاستصحاب لإثبات ما هو الموضوع لصحتها أو فسادها، وإذا فرض النهی عن العبادة سواء کانت تلک العبادة مما لو کانت غیر منهی عنها لکانت متعلّقاً للأمر بها کما فی النهی عن صوم یوم العیدین أو کانت مورد الترخیص فی تطبیق الطبیعی المطلوب صرف وجوده علیها، ففی الفرضین یحکم ببطلانها لأنّ الحکم بصحة شیء عبادة موقوف علی الأمر بها أو الترخیص فی التطبیق أو وجود

ص :84


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.
2- (2) سورة النساء: الآیة 29.

.··· . ··· .

الشَرح:

ملاک فیه مع عدم وقوعه مبغوضاً والمفروض انتفاء الأوّلین ووقوعه مبغوضاً للنهی عنه مع عدم طریق لنا إلی إحراز الصلاح فیه بل النهی عنه طریق إلی إحراز الفساد أو الحزازة فی نفس الفعل ولا یصلح الفعل للتقرّب مع أحدهما.

وبالجملة فرض الشک فی صحّة العبادة مع تعلّق النهی التکلیفی بنفس العمل حتّی لو کان النهی المتعلّق بنفس العمل کراهة غیر ممکن، والذی یمکن هو فرض الشک فی الصغری بأن یتعلّق النهی بعبادة ویشکّ فی کون النهی عنه نهیاً تکلیفیاً أو إرشادیاً کما إذا تعلّق النهی بالصلاة فی مواضع التهمة ودار أمر النهی بین کونه تکلیفاً متعلّقاً بنفس الصلاة فی تلک المواضع أو أنّه نهی إرشادی إلی أنّ الصلاة المأتی بها بنحو العبادة فیها أقلّ ثواباً بالإضافة إلی الصلاة فی غیرها، ولم نقل بظهورها فی الإرشادی، ففی الفرض لو لم یکن فی البین إطلاق لفظی أو مقامی یثبت عدم تقیّد الصلاة _ المأمور بها وجوباً کما فی فریضة الوقت أو نافلة کما فی غیرها _ بعدم کونها فی موضع التهمة، یکون المورد من موارد تعلّق التکلیف بالصلاة ودوران أمرها بین الأقل والأکثر والمطلق والمشروط، والحکم فیه أصالة البراءة عن الاشتراط علی ما هو المقرّر فی بحثه، هذا فی موارد تعلّق الأمر بالطبیعی بمعنی طلب صرف وجوده.

وأمّا فی موارد کون الأمر بالعبادة انحلالیاً کما فی الأمر بصیام الأیام وتعلّق النهی بصوم یوم وتردّد النهی بین کونه تکلیفیاً متعلّقاً بذات الصوم أو کونه إرشاداً إلی کون الصوم بنحو العبادة أقلّ ثواباً، فیؤخذ بالإطلاق المثبت لمطلوبیة صیام کلّ یوم إذا ثبت هذا الإطلاق، ومع عدم ثبوته فمقتضی الأصل عدم مشروعیة صوم ذلک الیوم بمعنی عدم الأمر به ولو استحباباً فیحکم بفساده، هذا مع قطع النظر عمّا ذکرنا من ظهور النهی عن عبادة هو الإرشاد إلی عدم مشروعیتها لا حرمة نفس العمل

ص :85

الثامن: إن متعلق النهی إما أن یکون نفس العبادة، أو جزأها، أو شرطها الخارج عنها، أو وصفها الملازم لها کالجهر والإخفات للقراءة، أو وصفها الغیر الملازم کالغصبیة لأکوان الصلاة المنفکة عنها[1].

لا ریب فی دخول القسم الأول فی محل النزاع، وکذا القسم الثانی بلحاظ أن جزء العبادة عبادة، إلاّ أن بطلان الجزء لا یوجب بطلانها، إلاّ مع الاقتصار علیه، لا مع الإتیان بغیره مما لا نهی عنه، إلاّ أن یستلزم محذوراً آخر.

الشَرح:

تکلیفاً، ولذا مع ثبوت الترخیص فی الإتیان به بنحو العبادة یحمل النهی عنها علی الإرشاد إلی کونها أقلّ ثواباً.

أقسام النهی عن العبادة

[1] تعرّض قدس سره فی هذا الأمر لأقسام النهی عن العبادة ببیان المنهی عنه فیها و من نفس العبادة أو جزئها أو شرطها أو وصفها الملازم لها أو وصفها غیر الملازم لها وبیان مقتضی کلّ من أقسام النهی.

ولیس المراد من تعلّق النهی بنفس العبادة تعلّقه بالعبادة الفعلیة، حیث إنّ العبادة الفعلیة لا تقبل النهی عنها بل المراد أحد المعنیین المتقدّمین(1)، والمراد بجزء العبادة أنّه لولا النهی عنه لکان مقتضی خطاب الأمر بالطبیعی وقوعه جزءاً من الطبیعی أو جزءاً لمصداقه کالنهی عن قراءة سورة العزیمة فی الصلاة فإنّه لو لم یکن النهی کان مقتضی الأمر بالصلاة بسورة کاملة بعد الحمد وقوعها جزءاً من الصلاة المأتی بها، وهذا بناءً علی کون النهی عن قراءتها تکلیفاً، وأمّا إذا کان للإرشاد إلی

ص :86


1- (1) أی المذکورین فی کلام الماتن قدس سره من کون العمل بنفسه موجباً للتقرب، وکونه مما لا یسقط أمره الاّ إذا أتی به بقصد التقرب.

.··· . ··· .

الشَرح:

عدم صلوحها جزءاً فعدم صلوحها للجزئیة مدلول النهی لا لاقتضاء التحریم.

والفرق بین الجزء والشرط بعد کون الشرط کالجزء فی دخالته فی تمام العبادة المأمور بها انّ ما یطلق علیه الجزء بنفسه داخل فی العبادة التی تعلّق بها الأمر بخلاف الشرط فإنّ الداخل فی متعلّق الأمر لیس ما یطلق علیه الشرط، إذ ما یطلق علیه الشرط نفسه خارج عن متعلّق ذلک الأمر بل التقیّد به داخل فی متعلّق الأمر، ولذا لا یعتبر فی العبادة کون شرطها بقصد التقرّب، بخلاف الإتیان بجزئها.

نعم، لو کان الشرط بنفسه عبادة وقد أخذ التقیّد به فی متعلّق الأمر بالعبادة کالوضوء بالإضافة إلی الصلاة اعتبر التقرّب فی الإتیان بالشرط کالاعتبار فی الإتیان بالمشروط، وفی کون النهی عن شرط لم یکن عبادة فی نفسه، موجباً لسقوطه عن الصلاحیة للشرطیة، کلام یأتیإنشاء اللّه تعالی.

والمراد من الوصف اللازم ما لا ینفک المأتی به عنه ویتّصف به مع قطع النظر عن الأمور الخارجیة عنه کما فی وصفی الجهر والإخفات بالإضافة إلی القراءة، بخلاف الوصف المفارق فإنّ المأتی به یعنی العبادة تتصف به بلحاظ أمر خارج عنها کالمغصوبیة بالإضافة إلی أکوان الصلاة وسجودها ورکوعها فإنّها تتصف بها باعتبار عدم طیب نفس مالک المکان الذی یصلی فیه أو علیه.

حکم حرمة العبادة وجزئها

ثمّ ذکر الماتن قدس سره أنّه لا ینبغی الریب فی أنّ القسم الأوّل یعنی ما تعلّق النهی التحریمی بنفس العبادة بالمعنی المتقدّم داخل فی بحث اقتضاء النهی عن شیء لفساده، وکذا القسم الثانی، غایة الأمر بطلان الجزء کما هو مقتضی النهی عنه علی

ص :87

وأما القسم الثالث، فلا یکون حرمة الشرط والنهی عنه موجباً لفساد العبادة، إلاّ فیما کان عبادة[1]، کی تکون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به.

وبالجملة لا یکاد یکون النهی عن الشرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به، لو لم یکن موجباً لفساده، کما إذا کانت عبادة.

الشَرح:

القول بالاقتضاء، ولا یوجب بطلان العمل إذا تدارکه وأتی بغیر المنهی عنه.

نعم، إذا استلزم الإتیان بغیر المنهی عنه محذوراً آخر کالزیادة فی الصلاة بطل المأتی به رأساً، حیث إنّ الزیادة فی الصلاة کنقصها موجبة لبطلانها.

حکم حرمة شرط العبادة

[1] ذکر قدس سره إذا کان المنهی عنه شرط العبادة وکان الشرط بنفسه عبادة کما فی اشتراط الصلاة بالطهارات الثلاث یکون النهی عن نفس الشرط مقتضیاً لفساده فتفسد العبادة المشروطة به لا محالة، وأمّا إذا کان الشرط توصّلیاً فالنهی عنه لا یوجب فساد الشرط وعدم حصوله لتکون العبادة المشروطة به بفقد شرطه باطلة، کما إذا کان ساتر المصلی غصباً فالنهی عن الستر المزبور لا یقتضی کون صلاته بلا ساتر لتکون باطلة.

وذکر المحقّق النائینی قدس سره فی وجه عدم بطلان العبادة بالنهی عن شرطها أنّ ما هو المحرّم هو المعنی المصدری وما هو دخیل فی العبادة معناه الاسم المصدری، مثلاً ما هو المحرّم لبس الساتر المغصوب وهذا غیر مأخوذ فی الصلاة وما هو مأخوذ فیها معناه الاسم المصدری فلا یکون المحرّم بنفسه قیداً للصلاة لیوجب حرمته نقصاً فی الصلاة، وکذا الحال فی جمیع الشروط حتّی فی مثل الطهارات الثلاث، فإنّ ما هو عبادة فی نفسه ویکون فی بعض الفروض محرّماً کالوضوء بالماء المغصوب معناه المصدری وما هو مأخوذ فی الصلاة لیس نفس الوضوء أو الغسل أو التیمّم، بل

ص :88

.··· . ··· .

الشَرح:

المأخوذ فیها معناه الاسم المصدری الذی لا یکون عبادة یعنی الطهارة الحاصلة بها، ولذا یحکم بصحة الصلاة إذا صلّی المکلّف غفلة عن حاله وانکشف بعد الصلاة طهارته، ولو کان المأخوذ فی الصلاة نفس الوضوء عبادة، لزم قصده عند الإتیان بالصلاة.

نعم لا یحصل الشرط للصلاة یعنی الطهارة إلاّ بالوضوء والغسل والتیمّم بنحو العبادة، وإذا کان المعنی المصدری منهیاً عنه لا تصحّ ولا یحصل به الطهارة ولکن هذا غیر کون الشرط بالمعنی الاسم المصدری فی نفسه عبادة(1).

أقول: لیس بین المعنی المصدری والإسم المصدری إثنینیة بحسب الوجود الخارجی لیقال إنّ ما هو شرط للعبادة المعنی الاسم المصدری دون الآخر، بل الفرق بینهما بالاعتبار.

نعم، ربّما یکون للفعل أثر خارجی أو اعتباری بحیث یکون المأخوذ شرطاً فی العبادة ذلک الأثر دون الفعل الذی من قبیل السبب کما فی تقید الصلاة بطهارة الثوب والبدن، حیث تقدّم أنّ المأخوذ فی الصلاة طهارتهما دون غسلهما بعد تنجّسهما، بل الغسل محصّل للطهارة حتّی ما إذا کان الغسل محرّماً کما هو مقتضی الأوامر الإرشادیة بغسل الثوب والبدن من إصابة النجاسات لأنّ الإرشاد بطهارتهما بالغسل لا ینافی تحریم الغسل کما إذا کان بالماء المغصوب أو فی مکان مغصوب، وفی مثل ذلک لا ینافی حرمة الفعل حصول الأثر الذی هو شرط العبادة المأمور بها، ولکن ذکرنا فی بحث الوضوء أنّ الطهارة من الحدث لیس بأثرٍ للوضوء بل الوضوء بنفسه طهارة.

ص :89


1- (1) أجود التقریرات 1 / 399.

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا إذا کان الفعل بنفسه شرطاً للعبادة کما فی تقیّد الصلاة بالستر، فالحکم بصحّة الصلاة مع حرمته غیر ممکن، وذلک فإنّ الترخیص فی تطبیق الصلاة المقیّدة بالستر علی الصلاة مع الستر المحرّم یلزمه الترخیص فی الستر الحرام والترخیص لا یجتمع مع حرمته ومع عدم إمکان الترخیص فی التطبیق لا إطلاق فی الطبیعی المقیّد بالستر لیحرز الملاک فی الصلاة بالستر الحرام، وما هو الممکن من الترخیص فیه بنحو الترتّب هو الترخیص فی تطبیق طبیعی الصلاة وهو غیر مأمور به، فإنّ المأمور به هی الطبیعة المقیّدة بالستر وبین الأمرین بون بعید لا یشتبه علیک أحدهما بالآخر.

لا یقال: الأمر بالصلاة المتقیّدة بالستر والترخیص فی تطبیقها لا یقتضی الأمر بالقید أو الترخیص فیه کما یشهد بذلک موارد کون القید غیر اختیاری للمکلف کاشتراط الصلاة بوقوعها فی الوقت، وکما أنّ الأمر بالصلاة المتقیّدة بالوقت علی فرض دخول الوقت، کذلک یمکن الأمر أو الترخیص فی تطبیق الصلاة المتقیّدة بالستر علی تقدیر حصول الستر الحرام بنحو الترتّب وهذا الأمر أو الترخیص فی التطبیق لا ینافی تحریم ذلک التقدیر.

فإنّه یقال: بما أنّ دخول الوقت وبقائه خارج عن اختیار المکلّف فالأمر بالصلاة المتقیّدة بالوقت لا یقتضی إیجاد الوقت أو إبقائه بخلاف الصلاة المتقیّدة بالستر حیث إنّ الستر بقائه کحدوثه تحت اختیار المکلّف فالأمر بالصلاة المتقیّدة بالستر یقتضی إیجاد الصلاة المتقیّدة بإیجاد القید، حیث یکون تقیّد الصلاة بالستر بإیجاد القید بخلاف تقیّد الصلاة بالوقت فإنّ تقیّدها بالوقت یکون بالإتیان بالصلاة قبل خروج الوقت کما لا یخفی، هذا کلّه فیما کان الشرط توصّلیاً.

ص :90

وأما القسم الرابع، فالنهی عن الوصف اللازم مساوق للنهی عن موصوفه، فیکون النهی عن الجهر فی القراءة مثلاً مساوقاً للنهی عنها[1]، لاستحالة کون القراءة التی یجهر بها مأموراً بها، مع کون الجهر بها منهیاً عنه فعلاً، کما لا یخفی.

وهذا بخلاف ما إذا کان مفارقاً، کما فی القسم الخامس، فإن النهی عنه لا یسری إلی الموصوف، إلاّ فیما إذا اتحد معه وجوداً، بناءً علی امتناع الاجتماع، وأما بناءً علی الجواز فلا یسری إلیه، کما عرفت فی المسألة السابقة، هذا حال النهی المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف.

الشَرح:

وأمّا إذا کان ما یطلق علیه الشرط عملاً عبادیاً کالوضوء والغسل والتیمّم فاقتضاء النهی عنه فساده ثمّ فساد المشروط لعدم حصول شرطه لا یحتاج إلی مزید بیان.

حکم حرمة الوصف الملازم للعبادة

[1] إذا کان المنهی عنه الوصف اللازم للشیء فالنهی عن إیجاده یقتضی المنع عن إیجاد موصوفه ولو کان هذا الاقتضاء عقلیاً، ومعه لا یمکن الأمر بالموصوف أو الترخیص فی التطبیق، ولکن ظاهر عبارة الماتن قدس سره هو أنّ النهی عن الوصف عین النهی عن موصوفه، وما ذکرنا، هو أنّ مع النهی عن إیجاد الوصف لا یمکن الأمر والترخیص فی إیجاد الموصوف.

وإذا تعلّق النهی بعنوان تتّصف به العبادة نفسها أو جزئها أو شرطها فإن کان الاتصاف بمعنی الترکیب الاتحادی بین العنوانین فقد تقدّم فی بحث جواز اجتماع الأمر والنهی أنّ مع الترکیب الاتحادی وتقدیم جانب النهی لا یمکن تعلّق الأمر أو الترخیص فی التطبیق فی المجمع، فیترتّب علیه أنّ النهی یتعلّق بنفس العبادة أو جزئها أو شرطها. وأمّا فی موارد الترکیب الانضمامی فلا یسری النهی عن متعلّقه

ص :91

وأما النهی عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور، فحاله حال النهی عن أحدها[1] إن کان من قبیل الوصف بحال المتعلق. وبعبارة أخری: کان النهی عنها بالعرض، وإن کان النهی عنها علی نحو الحقیقة، والوصف بحاله، وإن کان بواسطة أحدها، إلاّ أنه من قبیل الواسطة فی الثبوت لا العروض، کان حاله حال النهی فی القسم الأول، فلا تغفل.

الشَرح:

خارجاً إلی غیره، فلا ینافی النهی مع صحّة العبادة لإمکان الترخیص فی التطبیق ولو بنحو الترتب علی عصیان النهی.

[1] قد یقال: لا یمکن النهی عن عبادة أصلاً لتعلّق الأمر بالعبادات فی خطاب الشرع وکلّما ورد النهی عنه ولو کان مولویاً فلیس عبادة بل المنهی عنه خصوصیة العبادة، والخصوصیة من قبیل الجزء أو الشرط أو الوصف، فنهی الحائض عن الصلاة نهی عن إیقاعها أیام حیضها، والنهی عن صوم یوم العیدین نهی عن إیقاعه فی ذلک الزمان، والمنهی عنه فی صوم الوصال یتعلّق بالاتصال بین الإمساکین أی الامساک فی اللیل إلی غیر ذلک.

ولکن لا یخفی أنّه لا مورد لهذا الکلام فیما کانت الخصوصیة متّحدة فی الخارج مع الطبیعی، فإنّ المنهی عنه حینئذٍ یکون الحصّة کنهی الحائض عن الصلاة أیام حیضها، فإنّ الصلاة فی کلّ وقت لها طلب مستقل کان بنحو الوجوب أو الاستحباب، وکذلک الحال فی صوم یوم العیدین، وإذا کانت للخصوصیة حصول آخر غیر حصول الطبیعی تکون تلک الخصوصیة تارةً من قبیل الواسطة فی الثبوت للنهی عن نفس العبادة کما فی النهی عن صوم الوصال حیث إنّ الإمساک عن المفطرات فی اللیل یوجب تعلّق النهی بالصوم فی النهار، وأخری تکون من قبیل الواسطة فی العروض ویکون المنهی عنه فی الحقیقة تلک الخصوصیة وتلک

ص :92

.··· . ··· .

الشَرح:

الخصوصیة إمّا أن تکون من قبیل الجزء أو الشرط أو الوصف.

فإذا کانت من قبیل الجزء فقد تقدّم أنّ فساده لا یوجب فساد أصل العبادة حیث أمکن إتمامها بالإتیان بغیر المنهی عنه إلاّ إذا کان الإتیان بالمنهی عنه موجباً للخلل فی العبادة من جهة أخری کالزیادة فی الصلاة والقران بین السورتین کما إذا شرع المکلّف بعد الحمد بقراءة سورة ریاءً فإنّ الإتیان بعدها بسورة أخری من غیر ریاء لا یصحّح الصلاة، کما أنّه إذا تعمّد بعد قراءة الحمد بقراءة سورة العزیمة وبعدها قرأ سورة أخری فتبطل صلاته للقران بین السورتین.

وذکر المحقق النائینی قدس سره أنّ العبادة مع الجزء المنهی عنه محکوم علیها بالفساد، سواء اقتصر المکلّف بالجزء المنهی عنه أم أتی بعد ذلک بغیره، وهذا فیما اعتبر فی ناحیة جزئها الوحدة ظاهر فإنّ مع الاقتصار علی الجزء المنهی عنه لا یصلح للجزئیة فتبطل العبادة لفقد الجزء، وکذلک مع الإتیان بغیره لأنّ الجزء بعد الحمد هی سورة بشرط لا ولو قلنا بجواز القران بین السورتین فالصلاة کذلک مع الإتیان بغیر سورة العزیمة أیضاً محکومة بالفساد؛ لأنّ تجویز القران بینهما لا یعمّ السورة المنهی عنها فلا یجوز القران بین السورتین بقراءة العزیمة، هذا مع أنّ تحریم جزء مقتضاه أخذ العبادة بالإضافة إلی المنهی عنه بشرط لا، سواء أتی بالمنهی عنه فی موضع الجزء کقراءة العزیمة بعد الحمد أو فی غیره کقراءتها بین السجدتین أو بعدهما.

وبالجملة یترتّب علی النهی عن جزء العبادة أمور ثلاثة:

الأوّل: کون العبادة بالإضافة إلی المنهی عنه بشرط لا، فیکون مانعاً عن العبادة.

الثانی: کون الإتیان به زیادة فی الفریضة سواء أتی بقصد الجزئیة أم بغیر قصدها، حیث لا یعتبر فی صدق الزیادة فی الفریضة الإتیان بقصد الجزئیة إذا کان

ص :93

.··· . ··· .

الشَرح:

المنهی عنه من جنس أجزاء العمل وإنّما یعتبر ذلک فیما کان المنهی عنه من غیر جنس أجزاء العمل.

والثالث: خروج المنهی عنه بالنهی، عن الذکر غیر المبطل للصلاة ودخوله فی التکلّم العمدی الموجب لبطلانها.

نعم، توهّم دخوله بالنهی عنه فی کلام الآدمی فاسد، أمّا إذا لم یکن الجزء مقیّداً بالوحدة، تبطل العبادة للأمور الثلاثة ولا یجری فیه المحذور الأوّل وهو نقص الجزء(1).

أقول: تحریم الجزء بالمعنی المتقدّم لا یستلزم کون المنهی عنه مانعاً عن العبادة بحیث تبطل العبادة بالإتیان به إن تدارک الجزء بغیر المنهی عنه.

نعم، النهی عن شیء عند الإتیان بالعبادة ظاهره الإرشاد إلی مانعیّته عنها، کما أنّ النهی عن جزء ظاهره الإرشاد إلی عدم صلوحه للجزئیة، وهذا غیر مورد الکلام فی المقام، فإنّ مفروض الکلام فی النهی التحریمی وإذا کان المنهی عنه هو الجزء بالمعنی المتقدّم فلا یکون الإتیان به بلا قصد الجزئیة موجباً لصدق الزیادة بل یتوقّف صدقها علی قصدها.

نعم، ورد النهی عن قراءة سورة العزائم لأنّ السجود الذی تستلزمه، زیادة فی الفریضة، ویستظهر منه أنّ الإتیان بسجود التلاوة فی الصلاة ولو بغیر قصد الجزئیة زیادة فی الصلاة فیلحق به الإتیان بالرکوع بغیر قصد الجزئیة، فإنّه أیضاً یکون زیادة فیها ولو من غیر قصد الجزئیة مع أنّ مبطلیة الزیادة تختصّ بالصلاة ونحوها ولا تجری

ص :94


1- (1) أجود التقریرات 1 / 397.

.··· . ··· .

الشَرح:

فی مطلق العبادة إلاّ أن تکون الإتیان بالزیادة موجباً لقصد التشریع وفقد قصد القربة فی نفس العبادة.

کما أنّ ما ذکره من أنّ النهی عن قراءة العزیمة یوجب خروجها عن الذکر والدعاء ودخولها فی التکلّم العمدی یختصّ بما إذا کان التکلّم فی العبادة مبطلاً لها کما فی الصلاة ولا یجری فی غیرها مع أنّ النهی لا یوجب خروج المنهی عنه عن عنوان قراءة القران والذکر والدعاء ودخوله فی التکلّم العمدی الموجب لبطلان الصلاة.

قال السید قدس سره فی العروة فی مبطلات الصلاة: وأمّا الدعاء بالمحرّم کالدعاء علی مؤمن ظلماً فلا یجوز، بل هو مبطل للصلاة(1)، ولکن ما ذکره قدس سره لا یخلو عن تأمّل، والوجه فی ذلک أنّ التکلّم تعمّداً منصرف عن القران والذکر والدعاء حتی مع النهی عنها فلا موجب لبطلان الصلاة مع عدم قصد الجزئیة وتمام الکلام موکول إلی بحث مبطلات الصلاة.

وقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ تعلّق الحرمة بالجزء بالمعنی المتقدّم لا توجب إلاّ بطلان نفس الجزء، وأمّا بطلان العبادة فلا، إلاّ إذا کان الإتیان بالمحرّم موجباً لجهة أخری مانعة عن صحتها کالزیادة فی الصلاة أو حصول القران بین السورتین أو قصد التشریع فی نفس العمل.

وأمّا إذا کان المنهی عنه شرط العمل فقد تقدّم الکلام فیه، والنهی عن أصل العبادة فیما إذا کان النهی عنها بالعرض حکمه حکم النهی عن الشرط فی بطلان العمل معه.

ص :95


1- (1) العروة الوثقی: ج 1، مسألة 9 من مبطلات الصلاة.

.··· . ··· .

الشَرح:

المانعیة عن العبادة وأقسامها

ولکن یبقی الکلام فی مانعیة شیء عن العبادة، وقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه یذکر للمانع أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما إذا کانت مانعیة شیء عن العبادة مستفادة من النهی الغیری عن ذلک الشیء، کما إذا ورد: لا تلبس مما لا یؤکل لحمه شیئاً فی صلاتک، نظیر استفادة شرطیة شیء من الأمر الغیری به مثل قوله : «إذا قُمْتُمْ إلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»(1).

الثانی: أن یستفاد المانعیة من تحریم العبادة مع شیء کالنهی عن الصلاة فی الذهب والحریر بناءاً علی کون النهی المفروض تکلیفاً نفسیاً.

الثالث: ما إذا کانت المانعیة ناشئة من تزاحم التکلیفین وعدم تمکّن المکلّف علی الجمع بینهما فی الامتثال، کتقیّد الصلاة بغیر الفرد المزاحم لإزالة النجاسة عن المسجد بناءاً علی أنّ الصلاة فی الفرض لا أمر بها أول الوقت أو لا ترخیص فی التطبیق علی الفرد المزاحم فیکون تنجّز التکلیف بالأهمّ یعنی الإزالة موجباً لتقیّد الصلاة بغیر الفرد المزاحم للإزالة. ثمّ إنّ إطلاق النهی الغیری فی القسم الأول یقتضی ثبوت المانعیة المطلقة، أی الساریة فی جمیع الحالات الطارئة للمکلّف من جهل أو اضطرار أو إکراه أو غیر ذلک، فیوجب إطلاقه _ مع ملاحظة أدلّة رفع الاضطرار والإکراه أو الضرر _ ارتفاع التکلیف بالصلاة المقیّدة بعدم ذلک المنهی عنه إذ جعل

ص :96


1- (1) سورة المائدة: الآیة 6.

.··· . ··· .

الشَرح:

المانعیة _ کما هو مفاد النهی الغیری _ یکون بالأمر النفسی بالعبادة المقیّدة بعدم المنهی عنه فلا یثبت الأمر بالخالی عنه، حیث إنّ أدلّة نفی الحرج والضرر والاضطرار نافیة لا مثبتة، ولذا یحتاج فی موارد ثبوت الأمر مع المانع إلی قیام دلیل خاص کما فی الصلاة، ویجری ذلک فی موارد عدم التمکّن من الجزء أو رعایة الشرط للجهل أو النسیان أو غیر ذلک.

وهذا بخلاف القسم الثالث فإنّه بارتفاع الأمر بالأهمّ سواء کان ارتفاعه واقعیاً کالاضطرار أو الإکراه علی ترکه أو ظاهریاً کما فی صورة الجهل بالأمر بالأهمّ یثبت الأمر بالمهمّ أو إطلاقه بحیث یعمّ الفرد الذی کان مع الأمر بالأهم، خارجاً عن الإطلاق أو لم یکن أمر به أصلاً، والوجه فی ثبوت الأمر بالمهم أو ثبوت الترخیص فی التطبیق أنّ الأمر بالأهمّ کان یزاحم الأمر بالمهم أو إطلاقه فی مرحلة الامتثال لا فی مقام الجعل والتشریع فمع عدم الأمر بالأهم أو مع عدم تنجّزه فلا تزاحم.

وأمّا القسم الثانی فهو متوسّط بین القسمین حیث إنّ الحرمة الواقعیة وإن لم تکن متنجّزة، للجهل، إلاّ أنّها تثبت المانعیة الواقعیة فلا تصحّ العبادة مع المانع الواقعی. وأمّا فی موارد سقوط الحرمة سقوطاً واقعیاً کالاضطرار إلی لبس الحریر والصلاة فیه فقد یقال بما أنّ الحرمة الواقعیة مرتفعة یترتّب علی ارتفاعها ارتفاع المانعیة عن لبسه فی الصلاة، ویترتب علی ما ذکر أنّه لو قیل بالاحتیاط فی الشبهة الموضوعیة للمانع فی القسم الأول، کما إذا شک فی ثوب أو ما یستصحبه المصلی أنّه مما لا یؤکل لحمه فلا یجب هذا الاحتیاط فی القسم الثانی من موارد الشک فی المانعیة، کما إذا شک فی أنّ ثوبه حریر أم لا حیث إنّ أصالة البراءة الجاریة عن لبسه حاکمة علی قاعدة الاشتغال فی المانعیة.

ص :97

.··· . ··· .

الشَرح:

ثمّ أورد قدس سره علی ما ذکر فی القسم الثانی من المانعیة بأنّه لم یظهر وجه لترتّب المانعیة فیه علی الحرمة بحیث ترتفع المانعیة واقعاً بسقوط الحرمة للاضطرار أو الإکراه علی لبس الحریر مثلاً أو ترتفع المانعیة ظاهراً بارتفاع الحرمة بجریان أصالة البراءة عن حرمة لبس اللباس المشکوک فی کونه حریراً أم لا، بل الصحیح عدم ترتّب المانعیة علی ثبوت الحرمة، وذلک فإنّ حرمة حصّة من العبادة _ کالصلاة فی ثوب حریر_ وإن کانت لا تجتمع مع إطلاق متعلّق الأمر بطبیعی تلک العبادة للمضادة بینهما، إلاّ أنّه قد تقدّم فی بحث الضدّین أنّ ثبوت أحدهما لا یکون علّة لارتفاع الآخر، فلا یکون ثبوت الحرمة لحصّة من العبادة علّة لارتفاع الاطلاق عن متعلّق الأمر وتقیّده بغیر تلک الحصة لیلزم من ارتفاع الحرمة عن تلک الحصة انتفاء التقیّد وثبوت الاطلاق فی ناحیة الطبیعی المتعلّق به الأمر، فلا مجال لتوهّم ثبوت الإطلاق وارتفاع التقیّد بمجرّد ارتفاع الحرمة عن تلک الحصّة.

أضف إلی ذلک أنّ ارتفاع الحرمة للاضطرار أو غیره لا یوجب ارتفاع ملاکها وارتفاع الحرمة لا یکشف عن ارتفاع الملاک ومع وجود ملاک الحرمة الغالب علی ملاک الأمر لا یصحّ المأتی به لأن یکون عبادة قابلة للتقرّب بها، اللّهمّ إلاّ أن یقال عدم ارتفاع ملاک الحرمة یختصّ بموارد ارتفاع الحرمة لعجز المکلف وعدم تمکّنه من الترک لا ارتفاعه بالاضطرار والحرج ونحوهما مما یکون الرفع فیه شرعیاً، حیث إنّ رفع الشارع الحرمة مع تمکّن المکلّف من رعایتها یکشف عن ثبوت الملاک فی غیر موارد رفعه، فلا کاشف للملاک فی موارد رفع الحرمة لیزاحم ملاک الأمر.

والمتحصل لا ترتّب بین ثبوت الإطلاق فی ناحیة الطبیعی المتعلّق به الأمر وبین ارتفاع الحرمة عن الحصة المنهی عنها، بل لو فرض الترتب بینهما فلا یکون هذا

ص :98

.··· . ··· .

الشَرح:

النحو من الترتب شرعیاً لتکون أصالة البراءة الجاریة فی ناحیة الحصّة حاکمة علی أصالة الاشتغال فی مورد احتمال المانعیة، حیث إنّ حکومة أصل علی أصل آخر ینحصر بما إذا کان الترتّب بینهما شرعیاً کما فی حکومة أصالة الطهارة الجاریة فی ناحیة الماء المغسول به الثوب المتنجس علی استصحاب نجاسة الثوب والترتّب فی المقام علی تقدیره عقلی ومن باب انّ انتفاء أحد الضدّین یلازم ثبوت الضدّ الآخر(1).

أقول: لم یظهر وجه مانعیة شیء للعبادة لأجل التزاحم بین التکلیفین، فإنّ التزاحم بینهما فی مورد یوجب عدم الأمر بالمهمّ مطلقاً أو فی عرض الأمر بالأهم وعند سقوط الأمر بالأهم واقعاً _ کالاضطرار أو الإکراه علی ترکه أو نسیانه _ لا أمر بالأهم لتقع المزاحمة بین الأمر به والأمر بالمهم، ومع ثبوته واقعاً _ ولو کان المکلّف معذوراً فی ترکه کما فی مورد الجهل بمعنی الشک _ یثبت الأمر بالمهم أیضاً بنحو الترتب کما ثبت بنحو الترتّب فی صورة تنجّز التکلیف بالأهمّ، ولو قیل بعدم إمکان الأمر بالمهم أصلاً مع تنجّز التکلیف بالأهم وأنّ المهم محکوم بالفساد لعدم الأمر به ولو بنحو الترتب ولا سبیل لإحراز الملاک فیه، لکان الحال مع عدم تنجّزه أیضاً کذلک، لأنّ الأمر بالأهم واقعاً مع الأمر بالمهم فی عرض واحد، من التکلیف بما لا یطاق ومن طلب الجمع بین الضدّین، ولزوم الإتیان بالمهمّ مع نفی وجوب الأهمّ بالأصل للتمسّک بإطلاق وجوب المهم والأمر به بعد عدم ثبوت المقیّد لوجوبه فی المورد ولو بالأصل إنّما هو فیما کان الأمر بالأهم والمهم من قبیل المضیّقین، وأمّا إذا کان الأمر بأحدهما مضیّقاً والآخر موسّعاً فقد تقدّم أنّه لا یتصوّر التزاحم بین الأمر

ص :99


1- (1) أجود التقریرات 1 / 400.

.··· . ··· .

الشَرح:

بالمضیّق والأمر بالموسّع کالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد والأمر بالصلاة فی أوّل الوقت وأنّ الصلاة فی أوّل الوقت محکومة بالصحة لإمکان الترخیص فی تطبیق طبیعی المأمور به علیها ولو بنحو الترتّب، ولو قیل بعدم إمکان الترخیص فی التطبیق فی مورد تزاحم الفرد ولو بنحو الترتب یکون الإتیان بالفرد من الطبیعی فی أول الوقت مع احتمال نجاسة المسجد محکوماً بالصحّة تمسکاً بإطلاق الطبیعی المتعلّق به الأمر، حیث لم یثبت فی الفرض المقیّد (بالکسر) لإطلاقه أو ثبت عدم المقیّد له ولو بالأصل الجاری فی ناحیة عدم وجوب الإزالة.

وأمّا ما ذکر فی القسم الثانی، ففیه أنّه لا فرق فی المتفاهم العرفی بین النهی عن شیء فی العبادة سواء کان کقوله «إذا قمت إلی الصلاة فلا یکن معک ما لا یؤکل لحمه» أو کقوله «لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه» أو «لا تصلّ فی الذهب والحریر» فی أنّه لا یستفاد منها إلاّ المانعیة لا تحریم العبادة، یعنی الحصة.

نعم، حرمة لبس الحریر والذهب للرجال _ ولو لم یکن فی الصلاة أو ساتره فیها _ مستفاد من خطابٍ آخر تعلّق النهی فیه بلبسهما للرجال، ولذا لا یکون سقوط الحرمة عن لبسهما بالاضطرار أو الإکراه أو النسیان موجباً لارتفاع المانعیة. وفی صحیحة محمد بن عبدالجبار قال: کتبت إلی أبی محمد علیه السلام أسأله هل یصلی فی قلسنوة حریر محض أو قلنسوة دیباج؟ فکتب علیه السلام : «لا تحلّ الصلاة فی حریر محض»(1)، وکقوله علیه السلام فی موثّقة عمّار: «لا یلبس الرجل الذهب ولا یصلیّ فیه»(2).

ص :100


1- (1) الوسائل: ج 3، باب 11 من ابواب المصلی، الحدیث: 2.
2- (2) الوسائل: ج 3، باب 30 من ابواب لباس المصلی، الحدیث: 4.

.··· . ··· .

الشَرح:

نعم، فی مورد الصلاة قام الدلیل علی عدم سقوطها بالاضطرار أو الإکراه علی بعض المانع وهذا أمر آخر، ولبس الحریر والذهب من هذا البعض ولو کان المنهی عنه ستر الرجل عورته بالحریر المحض لکان هذا النهی التحریمی موجباً فقط لتقیّد الصلاة بعدم کون ساتر المصلی حریراً، کما قیّد بعدم کون ساتره غصباً وإذا سقطت الحرمة للاضطرار أو الإکراه أو النسیان کانت صلاته فیه محکومة بالصحة، کما یسقط عن الشرطیة اشتراط کون ساتره غیر مغصوب مع الاضطرار إلی لبسه أو الإکراه علیه.

وعلی ذلک، فسقوط الحرمة عن لبس الحریر أو الذهب عند الاضطرار أو الإکراه علی لبس أحدهما لا یلازم سقوطهما عن المانعیة للصلاة، بخلاف سقوط الحرمة عن لبس ثوب الغیر بلا رضاه بالاضطرار أو الإکراه فإنّه یلازم سقوط اشتراط الصلاة بغیر الساتر المزبور ولو اضطرّ المکلّف أو أُکره علی لبس الحریر أو الذهب فی بعض الوقت دون البعض الآخر یتعیّن علیه تأخیر صلاته إلی زوال الاضطرار أو الإکراه، بخلاف ما إذا اضطرّ فی بعض الوقت إلی لبس المغصوب أو أُکره علیه، فإنّه یجوز له الصلاة فی الثوب المزبور فی فترة الاضطرار أو الإکراه، والفرق انّ اشتراط الصلاة بالساتر المباح استفید من حرمة التصرّف فی ملک الغیر بلا رضاه بخلاف اشتراطها بعدم کون لباس المصلّی من الحریر أو الذهب، فإنّ المانعیة فیهما غیر تابعة لحرمة لبسهما بل ناشئة من تقیّد طبیعی الصلاة المأمور بها بعدم لبسهما.

ولو شک فی ثوب أنّه حریر أو غیر حریر فبناءاً علی جریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیة یثبت باستصحاب عدم کونه حریراً، حلّیة لبسه وعدم مانعیته للصلاة، کما یثبت فی مورد الشک فی کون الثوب مما لا یؤکل لحمه، جواز الصلاة فیه، وإن منع عن جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی تصل النوبة إلی أصالة البراءة

ص :101

ومما ذکرنا فی بیان أقسام النهی فی العبادة، یظهر حال الأقسام فی المعاملة، فلا یکون بیانها علی حدة بمهم، کما أن تفصیل الأقوال فی الدلالة علی الفساد وعدمها، التی ربما تزید علی العشرة __ علی ما قیل __ کذلک، إنما المهم بیان ما هو الحق فی المسألة، ولا بد فی تحقیقه علی نحو یظهر الحال فی الأقوال، من بسط المقال فی مقامین:

الأول فی العبادات: فنقول وعلی اللّه الإتکال: إن النهی المتعلق بالعبادة بنفسها، ولو کانت جزء عبادة بما هو عبادة __ کما عرفت __ مقتضٍ لفسادها، لدلالته علی حرمتها ذاتاً] 1]، ولا یکاد یمکن اجتماع الصحة بمعنی موافقة الأمر أو الشَرح:

عن التکلیف بالصلاة المقیّدة بغیر الثوب المزبور المعبّر عنها بأصالة البراءة عن المانعیة کما ذکرنا فی مسألة اللباس المشکوک بأنّ المانعیة انحلالیة ولا مانع عن الرجوع إلی أصالة البراءة بالإضافة إلی الثوب المشکوک، ولو بنی علی أصالة الاشتغال وعدم جریان أصالة البراءة فلا فرق بین الشک فی کون ما استصحبه المصلّی من غیر المأکول وبین الشک فی کون الثوب حریراً، ففی مورد الشک فی کونه حریراً یجوز لبسه لأصالة الحلّیة فی لبسه ولکن لا یجوز الصلاة فیه إذا أمکن الصلاة فی غیره ولو فی آخر الوقت، حیث إنّ مانعیة لبس الحریر غیر ناشئة عن حرمة لبسه لترتفع بالتعبّد بحلّیة اللبس، بل ناشئة من تقیّد الصلاة بعدم لبسه، وهذا بخلاف تقیّد الصلاة بغیر الساتر المغصوب فإنّ الصلاة مقیّدة بعدم حرمة الستر لا بعدم کون الساتر ملک الغیر بلا رضاه وحصل التقیّد من حرمة الغصب، حیث إنّ المنافی لإطلاق الطبیعی حرمة الستر فأصالة الحلّیة فی مورد الشک فی کونه ملک الغیر تعبّد بعدم المانع، فتدبّر تعرف.

مقتضی النهی عن العبادة

[1] ذکر قدس سره أنّ النهی إذا تعلّق بنفس العبادة بالمعنی المتقدّم أو بالجزء منها

ص :102

الشریعة مع الحرمة، وکذا بمعنی سقوط الإعادة، فإنه مترتب علی إتیانها بقصد القربة، وکانت مما یصلح لأن یتقرب به، ومع الحرمة لا تکاد تصلح لذلک، ویتأتی قصدها من الملتفت إلی حرمتها، کما لا یخفی.

لا یقال: هذا لو کان النهی عنها دالاً علی الحرمة الذاتیة، ولا یکاد یتصف بها العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة علیها مع قصد القربة بها إلاّ تشریعاً، ومعه تکون محرمة بالحرمة التشریعیة لا محالة، ومعه لا تتصف بحرمة أخری، لإمتناع اجتماع المثلین کالضدین.

الشَرح:

یقتضی فسادها؛ لدلالته علی حرمة نفس العبادة أو نفس جزئها ولا یمکن اجتماع الحرمة مع الصحة سواء کان المراد بالصحة موافقة الشریعة والأمر أو بمعنی سقوط الإعادة والقضاء؛ لأنّ الصحّة بکلا المعنیین تتوقّف علی الإتیان بالعبادة بقصد التقرّب وکون العمل صالحاً به ومع حرمة العمل ومبغوضیّته لا یمکن أن یکون صالحاً للتقرّب به ولا یتأتّی قصد التقرّب من الملتفت إلی حرمته.

ثمّ تعرّض قدس سره لما یقال من أنّ الحرمة النفسیة لا تتعلّق بالعبادة أصلاً، فإنّ الفعل لا یکون معنوناً بالعبادة إلاّ إذا کان بقصد التقرّب ولا یتمکن المکلف من قصد التقرّب إلاّ بنحو التشریع ومع التشریع تکون حرمته تشریعیة ولا یمکن أن یتعلّق بها الحرمة النفسیة لامتناع اجتماع الحرمتین فی فعل واحد، کما لا یمکن تعلّق الحکمین المتضادّین به.

وأجاب عن ذلک بعدم المنافاة بین الحرمة الذاتیة والتشریعیة لتعدّد متعلّقهما لأنّ المراد بالعبادة فی تعلّق الحرمة النفسیة بها ما لو تعلّق به أمر لما کان یسقط بدون قصد التقرّب کصوم یوم العیدین وصلاة الحائض، أو ما تکون عبادة بنفسها لولا النهی عنه کالسجود للّه، فإنّه إذا فرض فی مورد المفسدة الغالبة فی السجود للّه لتعلّق به

ص :103

فإنه یقال: لا ضیر فی اتصاف ما یقع عبادة __ لو کان مأموراً به __ بالحرمة الذاتیة، مثلاً صوم العیدین کان عبادة منهیاً عنها، بمعنی أنه لو أمر به کان عبادة، لا یسقط الأمر به إلاّ إذا أتی به بقصد القربة، کصوم سائر الأیام، هذا فیما إذا لم یکن ذاتاً عبادة، کالسجود للّه تعالی ونحوه، وإلاّ کان محرماً مع کونه فعلاً عبادة، مثلاً إذا نهی الجنب والحائض عن السجود له تبارک وتعالی، کان عبادة محرمة ذاتاً حینئذ، لما فیه من المفسدة والمبغوضیة فی هذا الحال، مع أنه لا ضیر فی اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشریعیة، بناءً علی أن الفعل فیها لا یکون فی الحقیقة متصفاً بالحرمة، بل إنما یکون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، کما هو الحال فی التجری والإنقیاد، فافهم.

هذا مع أنه لو لم یکن النهی فیها دالاً علی الحرمة، لکان دالاً علی الفساد، لدلالته علی الحرمة التشریعیة، فإنه لا أقل من دلالته علی أنها لیست بمأمور بها، وإن عمها إطلاق دلیل الأمر بها أو عمومه، نعم لو لم یکن النهی عنها إلاّ عرضاً، کما

الشَرح:

النهی النفسی کما لو کان سجود الحائض للّه محرّماً، وهذه العبادة تتصّف بکلا قسمیها بالحرمة التشریعیة أیضاً، لکن المتعلّق للحرمة التشریعیة لیس نفس الفعل حقیقة بل قصد الإتیان به بداعویة الأمر بها والقصد کالتجری والانقیاد من أفعال القلب.

ولو أُغمض عن ذلک والتزم بدلالة النهی عن عبادة علی حرمتها التشریعیة فهذه الدلالة کافیة فی الدلالة علی فسادها حیث إنّه مع دلالته علی الحرمة التشریعیة یکون دالاًّ علی عدم الأمر بتلک العبادة حتی فیما کان فی البین إطلاق یقتضی الأمر بتلک العبادة لولا النهی عنها الدال علی حرمتها تشریعاً، کما هو الحال بالإضافة إلی صوم یوم العیدین والصلاة أیام الحیض والنفاس.

نعم، لو کان تعلّق النهی بالعبادة من المجاز فی الاسناد کتعلّق النهی بالصلاة فی

ص :104

إذا نهی عنها فیما کانت ضد الواجب مثلاً، لا یکون مقتضیاً للفساد، بناءً علی عدم اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضد الا کذلک أی عرضاً، فیخصص به أو یقید[1].

الشَرح:

أوّل الوقت مع وجوب الإزالة بناءاً علی عدم اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه فلا دلالة فی تعلّق النهی العرضی المجازی علی الفساد؛ لأنّ النهی فی هذا الفرض لیس تشریعیاً أیضاً بل إرشاد إلی امتثال الأمر بالإزالة وموافقة الأمر بها.

[1] یحتمل أن یکون مراده أنّ النهی التبعی المجازی عن الضدّ یخصّص العموم الوارد فی خطاب یعمّ الأمر بتلک العبادة أیضاً أو یقیّد إطلاقه، ولکنّ هذا التقیید والتخصیص عرضی مجازی، وفی الحقیقة العموم مخصّص أو الإطلاق مقیّد بنفس الأمر بالأهمّ والتخصیص والتقیید بالأمر بالأهم لا یقتضی فساد الضد إذا کان الضد عبادة لأنّ التخصیص والتقیید به لیس لفقد الملاک فی تلک العبادة أو مبغوضیّتها، ولو کانت غیریة کما إذا بنی علی اقتضاء الأمر بشیء النهی عن ضدّه بل لعدم إمکان الأمر بالضدّین فی زمانٍ واحد ویحتمل أن یکون مراده أنّ النهی التبعی العرضی لیس نهیاً عن متعلّقه حقیقة لیخصّص العموم فی خطاب الأمر أو یقیّد به إطلاقه.

أقول: لو کان الإشکال فی أنّه لا یمکن أن تکون العبادة بالمعنی المتقدّم حراماً ذاتاً وحراماً تشریعاً کان الإشکال واهیاً لا لما ذکره الماتن قدس سره من اختلاف المتعلّقین وتعدّدهما فإنّ المقرّر فی محلّه أنّ فی مورد التشریع یکون العمل خارجاً محرّماً فإنّه افتراء وکذب عملی علی اللّه .

وبتعبیر آخر: التشریع عنوان للعمل الخارجی ولا یقاس بالانقیاد والتجری فإنّهما لا یقبلان الوجوب والحرمة المولویین لعدم تغیّر الفعل المنقاد به أو المتجری به بعنوان الانقیاد والتجری عمّا کان علیه قبل عروضهما لعدم کون عنوانهما أمراً التفاتیاً.

نعم، الانقیاد کالإطاعة موجبة لاستحقاق المثوبة، کما أنّ التجری موجب

ص :105

.··· . ··· .

الشَرح:

لاستحقاق العقوبة کالعصیان، فلا ملاک فی البین للأمر النفسی أو النهی النفسی بل وجه وهن الإشکال هو أنّه لا موجب لامتناع تعلّق حکمین حکم بالفعل بالعنوان الأوّلی وحکم آخر مثله بعنوان ینطبق علی ذلک الفعل أحیاناً، کما إذا نذر المکلّف الإتیان بصلواته الیومیة فیتعلّق بالصلاة بعنوانها الأوّلی وجوب وبعنوان الوفاء بالنذر وجوب آخر.

غایة الأمر بتعلّقهما یتأکّد الوجوب عند النذر، وهکذا یمکن فی مفروض الکلام تعلّق الحرمة بنفس الصوم یوم العید وتعلّق حرمة أخری بعنوان التشریع إذا نوی عند صومه أنّه مطلوب للشارع فتکون الحرمة متأکّدة، بل الإشکال أنّه إذا ورد النهی عن صوم یوم العیدین أو عن صلاة الحائض فلا یمکن أن یستفاد من ذلک الخطاب الحرمة الذاتیة والتشریعیة معاً بأن یکون الخطاب المزبور ظاهراً فی کلٍّ من الحرمة التشریعیة والذاتیة، بل ظاهره خصوص الحرمة التشریعیة أو خصوص الحرمة الذاتیة.

نعم، الحرمة الذاتیة إذا استفیدت منه یستفاد حرمته التشریعیة من خطاب النهی عن الافتراء علی اللّه ، هذا ولکن قد تقدّم أنّ ظاهر النهی عن صوم یوم العیدین والصلاة أیام الحیض ونحوهما هو الإرشاد إلی عدم المشروعیة لا النهی التکلیفی فلا یدل علی التحریم لذات العمل ولا التشریع فی الإتیان بل بعد عدم مشروعیة العمل یکون الإتیان به بداعویة الأمر مع العلم بالحال تشریعاً مستفاداً حرمته مما دلّ علی حرمة الکذب والافتراء علی اللّه . وعلیه ففساد العمل لیس من جهة حرمته تشریعاً، بل لعدم مشروعیته بالأمر به وجوباً أو استحباباً.

ص :106

المقام الثانی فی المعاملات: ونخبة القول، أن النهی الدالّ علی حرمتها لا یقتضی الفساد، لعدم الملازمة فیها __ لغةً ولا عرفاً[1] __ بین حرمتها وفسادها أصلاً، کانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها.

بما هو فعل التسبیب أو التسبب بها إلیه، وإن لم یکن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام، وإنما یقتضی الفساد فیما إذا کان دالاً علی حرمة ما لا یکاد یحرم مع صحتها، مثل النهی عن أکل الثمن أو المثمن فی بیع أو بیع شیء.

الشَرح:

مقتضی النهی عن المعاملة

[1] وحاصله أنّ النهی عن معاملة بمعنی تحریمها لا یقتضی فسادها أی عدم إمضائها بما لها من الأثر سواء کان المنهی عنه هو الفعل المباشری للمکلّف من غیر أن یکون فی ناحیة المنشأ بها جهة مبغوضیة کما فی النهی عن البیع وقت النداء بناءاً علی أنّ النهی عنه وقت النداء تکلیفی، لا للإرشاد إلی إتیان صلاة الجمعة وامتثال وجوبها، فإنّ المحرّم تکلیفاً هو إنشاء البیع والاشتغال به بما هو فعل مفوّت لصلاة الجمعة لا ملکیة المبیع للمشتری والثمن للبائع، أم کان النهی عن المعاملة لمبغوضیة المنشأ من غیر أن یکون فی إنشائها بخصوصه من إیجابها وقبولها مبغوضیة، کما فی بیع المصحف من الکافر فإنّ المبغوض ملکیة المصحف له سواء کان بالبیع أو بالمصالحة أو بالهبة أو بغیر ذلک، أو کان المنهی عنه هو التسبیب الخاصّ والوصول به إلی المسبّب کما فی النهی عن البیع الربوی فإنّ المبغوض ملکیة الزیادة فی أحد العوضین المتجانسین بالبیع الجاری علیهما، وأمّا ملکیّتهما بالهبة مثلاً فلا حرمة لها کما أنّ بیع أحد المتجانسین بالآخر أی إنشائه المعبّر عنه بنفس السبب لا حرمة له.

ثمّ إنّ النهی عن المعاملة بالنحو الأخیر کالنهی عنها بأحد النحوین الأوّلین لا یقتضی فسادها حیث لا منافاة بین مبغوضیة المعاملة فی کلّ منها وإمضائها علی

ص :107

نعم لا یبعد دعوی ظهور النهی عن المعاملة فی الإرشاد إلی فسادها، کما أن الأمر بها یکون ظاهراً فی الإرشاد إلی صحتها من دون دلالته علی إیجابها أو استحبابها، کما لا یخفی، لکنه فی المعاملات بمعنی العقود والإیقاعات، لا المعاملات بالمعنی الأعم المقابل للعبادات، فالمعول هو ملاحظة القرائن فی. خصوص المقامات، ومع عدمها لا محیص عن الاخذ بما هو قضیة صیغة النهی من الحرمة، وقد عرفت أنها غیر مستتبعة للفساد، لا لغةً ولا عرفاً.

الشَرح:

تقدیر إنشائها فالملازمة بین النهی عنها وفسادها منتفیة لغةً وعرفاً.

نعم، النهی عن المعاملة یقتضی فسادها فیما کان النهی دالاًّ علی حرمة ما لا یمکن حرمته مع صحّتها کالنهی عن أکل الثمن أی التصرّف فیه فی بیع شیء کثمن الخمر أو النهی عن التصرّف فی المثمن کما فی النهی عن استعمال المیتة.

هذا کلّه مع قیام القرینة علی أنّ النهی عن المعاملة تکلیفی، وإلاّ فظاهر النهی عن معاملة هو الإرشاد إلی عدم إمضائها کما أنّ الأمر بها ارشاد إلی صحّتها کالنهی عن بیع الخمر أو المیتة، ولکنّ الظهور فی الإرشاد إنّما هو فی المعاملات بالمعنی الأخص یعنی العقود والإیقاعات، لا المعاملة بالمعنی الأعم المقابل للعبادات، فإنّ المعاملة إذا لم تکن من قبیل العقد والإیقاع ولم یکن فی البین قرینة علی أنّ النهی عنها للإرشاد یکون ظاهراً فی تحریمها، وقد علم أنّ تحریم المعاملة لا تستتبع فسادها لا لغةً ولا عرفاً.

أقول: ما ذکره قدس سره من انتفاء الملازمة بین النهی عن معاملة وفسادها لغةً وعرفاً لعلّه من اشتباه القلم، والصحیح انتفاء الملازمة عقلاً وعرفاً، حیث لا معنی للملازمة لغة إلاّ الدلالة الالتزامیة اللفظیة ومعناها عدم إمکان تصوّر معنی اللفظ بلا تصوّر المعنی الآخر عقلاً أو عرفاً.

ص :108

.··· . ··· .

الشَرح:

ومن الظاهر عدم انحصار الاقتضاء بالدلالة الالتزامیة لیعلّل عدم الاقتضاء بعدمها.

وأیضاً ما ذکره من أنّ المعاملة إذا لم تکن من العقد والإیقاع یکون ظاهر النهی عنها تحریمها تکلیفاً إذا لم تکن قرینة مقامیة علی خلافه لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ الفعل إذا کان موضوعاً لحکم بحیث ینتزع من ترتّب ذلک علیه عنوان الصحّة کغسل الثوب المتنجّس حیث یترتّب علیه طهارة الثوب، أو حلّیة أکل الحیوان المترتّبة علی ذبحه أو نحره أو صیده، ثمّ ورد النهی عن حصّة من ذلک الفعل أو بذلک الفعل مع خصوصیة کالنهی عن غسل المتنجس بالمضاف أو النهی عن الذبح بغیر الحدید، فظاهر النهی الإرشاد إلی عدم ترتّب الطهارة أو الذکاة لا مجرّد تحریم تلک الحصّة من الفعل ولا الفعل بتلک الخصوصیة، ولذا ذکرنا أنّ النهی عن تنخیع الذبیحة قبل زهاق الروح، ظاهره الإرشاد إلی المانعیة عن الذکاة.

وبالجملة النهی عن حصة من الفعل الموضوع للأثر أو النهی عنه مع خصوصیته ظاهره الإرشاد إلی عدم ترتب الأثر علی تلک الحصة أو مع تلک الخصوصیة وإنّما یکون النهی ظاهراً فی تحریم نفس الفعل تکلیفاً فی غیر ذلک.

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّ النهی عن معاملة قد یقتضی فسادها وقد لا یقتضی فسادها، وبیان ذلک أنّ النهی عن المعاملة إن کان غیریاً کالنهی عن بیع المجهول فظاهره کون الخصوصیة فیها مانعة عنها، فلا کلام فی دلالته علی الفساد؛ لأنّ صحتها مع کون تلک الخصوصیة مانعة عن إمضائها لا تجتمعان.

وأمّا إذا کان النهی عنها تحریمیاً نفسیّاً کما هو مورد الکلام فی المقام فلا یخفی أنّ المعاملة قد تطلق ویراد منها معناها المصدری أی إیجادها، وقد تطلق ویراد منها معناها الاسم المصدری، فعلی الأول لا منافاة بین مبغوضیة إیجادها وإمضائها علی

ص :109

.··· . ··· .

الشَرح:

تقدیر الإنشاء، فالنهی عنها بمعناها المصدری لا یقتضی فسادها، وهذا بخلاف ما إذا کان النهی عنها بمعناها الإسم المصدری کالنهی عن بیع المصحف من الکافر والعبد المسلم منه فالنهی عنها یقتضی فسادها؛ لأنّ صحة المعاملة تتوقف علی أمور ثلاثة.

الأول: کون المتبایعین مالکین للعوضین أو بحکم المالک.

الثانی: عدم الحجر علیهما أو علی أحدهما من جهة تعلق حق الغیر أو لغیر ذلک من أسباب الحجر لیکون له السلطنة الفعلیة علی التصرف.

الثالث: ایجاد المعاملة بسبب خاص. ونهی المالک أو من بحکمه ممن بیع ماله بمعناه الاسم المصدری معجز مولوی عن الفعل ومعناه عدم سلطنته علیه فیتخلّف به الشرط الثانی، ولذا تری أنّ الفقهاء یلتزمون بعدم صحّة الاجارة علی الواجبات المجانیة لأنّ مع خروج الفعل عن سلطان المالک بإیجاب الشارع وکونه مملوکاً له أو حقّاً له لا یمکن تملیکه لمن یأخذ الاجرة منه بإجارة أو بغیرها ومن ذلک حکمهم ببطلان بیع منذور الصدقة، فإنّ المکلّف بنذره التصدّق به یکون محجوراً عن کلّ ما ینافی الوفاء بنذره ومن ذلک حکمهم بفساد بیع شیء من شخص فیما إذا اشترط علیه فی عقد عدم بیعه منه، کما إذا باعه شیئاً واشترط علیه أن لا یبیعه من زید وغیر ذلک.

وبالجملة النهی عن معاملة بمعناه الاسم المصدری یوجب عدم السلطنة علیها.

لا یقال: یعتبر فی تعلّق النهی بشیء کونه مقدوراً لیتمکّن المکلّف من موافقته ومخالفته، ومع عدم صحّة المعاملة بالمعنی الاسم المصدری لا یکون المکلّف متمکّناً منها، أضف إلی ذلک أنّ أسامی المعاملات کأسامی العبادات أسامی للصحیحة منها فاللازم أن تکون المعاملة بالمعنی الاسم المصدری صحیحةً، ولذا قیل

ص :110

.··· . ··· .

الشَرح:

النهی عن معاملة یقتضی صحتها مطلقاً أو فیما کان المنهی عنها المعنی المسبّبی.

فإنّه یقال: لو کان المسبّب الذی یتعلّق النهی به هو المسبّب الشرعی کان ما ذکر وجیهاً، ولکنّ المنهی عنه هنا المسبّب العرفی المجتمع مع إمضاء الشارع وعدم إمضائه، لا الشرعی وفی هذه الصورة نهی الشارع عنها حجراً علی المکلّف ویستلزم عدم إمضاء الشرع، والمنهی عنه وهو المسبّب العرفی مقدور علی المکلّف قبل النهی وبعده بتمکّنه علی سببه، وفرق واضح بین عدم القدرة علی الملکیة العرفیة وعدم کونها ممضاة، فالمنافی للنهی عدم القدرة علیها لا عدم کونها ممضاة(1).

أقول: لو فرض تعلّق النهی بالمعاملة بمعناها الاسم المصدری وکان النهی عنها تکلیفاً لا إرشاداً إلی فسادها فغایة مدلول النهی مبغوضیة المنشأ فیها، أی صیرورة المبیع للمشتری بإزاء الثمن للبایع، وإذا کان المبغوض هو الملکیة باعتبار العرف أو المتعاقدین کما هو مقتضی بیانه فی إمکان النهی عن المعاملة بمعناه الاسم المصدری فلا تنافی المبغوضیة کذلک إمضائها، ومجرّد النهی عنها لا یوجب الحجر بالإضافة إلی المعنی المصدری، ولذا لو نذر فی المال بأن لا یبیعه بأزید من رأس المال من مؤمن، فباعه منه بالأزید یحکم بصحّته، وأمّا أخذ الأجرة علی بعض الواجبات بل عن بعض المستحبّات فلا یجوز لإلغاء المالیة عنها علی ما ذکر فی بحث المکاسب، وبیع منذور التصدّق به لا بأس به وضعاً، مع أنّه لا یتعلّق النهی بالبیع لأنّ الأمر بالوفاء بالنذر لا یقتضی النهی عن ضدّه الخاص، هذا فیما کان من قبیل نذر الفعل. وأمّا إذا کان من نذر النتیجة فبناءً علی صحّة نذرها فإن کان مطلقاً أو

ص :111


1- (1) أجود التقریرات 1 / 403.

.··· . ··· .

الشَرح:

مشروطاً بما هو حاصل حال البیع فعدم جوازه لعدم کون المال ملکاً للبائع وصیرورته ملکاً للمنذور له. وبیع الشیء من شخص علی أن لا یبیعه من فلان ولو فی عقدٍ خارجی کبیع منذور التصدّق محکوم بالصحة ولذا یوجب الخیار للمشروط له. هذا کلّه مع ما تقدّم من أنّه لا فرق بین المعنی المصدری والاسم المصدری إلاّ بالاعتبار وکون ألفاظ المعاملات کألفاظ العبادات أسامی للصحیحة مقتضاه تعلّق النهی بما یکون موضوعاً للصحة واللزوم، وقد ذکرنا أنّ النهی إذا کان تکلیفیاً لا یخرج متعلّقه عن الموضوع للصحة واللزوم.

نعم، إذا کان فی مورد الوفاء بالمعاملة مبغوضاً کبیع السلاح من أعداء الدین فیمکن الالتزام بفسادها فإنّ النهی عن الوفاء بالمعاملة لا یجتمع مع صحتها، وکذا فیما إذا لم یأمر الشارع بالوفاء بها کما إذا استأجر شخصاً علی عملٍ فی زمان کخیاطة ثوبه، ثم آجر الأجیر نفسه فی ذلک الزمان بعملٍ مضادٍّ للخیاطة، فإنّه یحکم ببطلان الاجارة الثانیة لأنّ أمر الشارع بالوفاء بالاجارة الأُولی لا یسقط بالاجارة الثانیة ولا یمکن الأمر بالوفاء بالاجارة الثانیة مع أمره بالوفاء بالأُولی.

ومن هذا القبیل إذا آجرت الزوجة نفسها علی عمل ینافی الإتیان به حقّ زوجها فلعدم الأمر بالوفاء بتلک الاجارة یحکم ببطلانها.

وما ذکره الماتن قدس سره من النهی عن التصرّف فی المثمن فی بیع أو عن التصرّف فی الثمن فی بیع شیء یدخل إمّا فی المنع عن الوفاء أو إلغاء المالیة عن أحد العوضین.

لا یقال: لا مانع عن الأمر بالوفاء بالاجارة الثانیة علی نحو الترتّب علی عدم الوفاء بالأُولی، وکذا الأمر للزوجة بالوفاء بإجارتها علی تقدیر عدم إطاعة زوجها.

ص :112

.··· . ··· .

الشَرح:

فإنّه یقال: لا مجال للترتب فی المعاملات فإنّ صحتها إمّا أن تکون تنجیزیة فیجب الوفاء بها وإمّا أن لا تکون، فلا أمر بالوفاء بها، وأمّا الصحة التقدیریة کالصحة علی فرض الترتب لا مجال لها فی المعاملات.

ثمّ إنّه ذکر الشیخ العراقی قدس سره عدم اقتضاء النهی التکلیفی عن معاملة فسادها سواء کان المنهی عنه هو السبب، أو التسبیب إلی المسبّب، أو المسبّب فإنّ مبغوضیة شیء منها لا ینافی صحتها ومؤثریتها فی النقل والانتقال خصوصاً فی النهی عن الأخیرین لاقتضاء النهی حصولهما، إذ مع عدم حصولهما لا معنی للنهی عنهما وتحریمهما.

نعم، إنّما یقتضی النهی التکلیفی للفساد فیما إذا کان النهی عن المعاملة للإرشاد إلی الخلل فیها أو کان النهی التحریمی متعلّقاً بلوازم صحة المعاملة کالنهی عن أکل الثمن أو المثمن والتصرّف فیهما مما لا یجتمع حرمته مع صحة المعاملة ونفوذها فیحکم بفسادها.

ثمّ قال: وإذا لم یکن منافاة بین مبغوضیة المعاملة وکونها مؤثرة فی النقل والانتقال فلا یکون موجب لدعوی اقتضاء الفساد، وبالنهی عنها تکلیفاً یخصّص ما دلّ علی الجواز تکلیفاً أو یقیّد به إطلاق الدلیل علی جوازها، ولا یکون ذلک موجباً للتخصیص أو التقیید فیما دلّ علی جوازها وضعاً بالعموم أو الاطلاق حتّی فیما إذا کان الجواز التکلیفی أو الوضعی مستفاداً من خطاب واحد، کقوله علیه السلام «الناس مسلّطون علی أموالهم»(1)، بناءاً علی القول بأنّ عمومه مثبت لجواز المعاملة تکلیفاً

ص :113


1- (1) غوالی اللئالی 2 / 138، الحدیث 383.

.··· . ··· .

الشَرح:

ووضعاً، فالنهی عن معاملة تکلیفاً یوجب تخصیص جوازه تکلیفاً ولا یخصّص عموم الجواز وضعاً.

نعم، لو کان النهی عن معاملة بمعنی مبغوضیة المعاملة بشراشر وجودها حتّی بالإضافة إلی حدودها الراجعة إلی الجعل والإمضاء لکان لدعوی منافاة صحتها مع مبغوضیتها کذلک مجال، ولکن من الواضح عدم قابلیة المعاملة بشراشر وجودها وحدودها للنهی عنها، فإنّ المعاملة کذلک أمر خارج عن تحت قدرة المکلّف فعلاً وترکاً، وإنّما القابل لتعلّق النهی هی المعاملة من ناحیة التوصّل إلی وجودها بالسبب فی ظرف تحقّق أصل الجعل من ناحیة الشارع، لأنّه هذا الذی یکون تحت اختیار العبد فعلاً أو ترکاً ومعلوم انّ مبغوضیة المعاملة من هذه الجهة غیر منافیة لإرادة الشارع الجعل والإمضاء وتأثیرها فی النقل والانتقال.

نعم قد یکون فی بعض الموارد النهی دالاًّ علی الفساد وعدم الإمضاء، ولکن ذلک بواسطة بعض القرائن الخارجیة کما فی البیع الربوی وبیع المصحف من الکافر، وعلی ذلک فالحکم بفساد المعاملة من جهة النهی عنها یحتاج إلی إحراز کون النهی عنها فی مقام الإرشاد إلی عدم الجعل والإمضاء وإلاّ فطبع النهی عن معاملة لا یقتضی إلاّ المولوی التحریمی الذی عرفت عدم اقتضائه الفساد، وقال فی آخر کلامه: هذا إذا کان النهی متعلّقاً بعنوان المعاملة أو بالسبب أو بالتسبّب إلی وجود المعاملة(1).

أقول: مقتضی ذیل کلامه قدس سره أنّ المسبب فی المعاملة لا یدخل فی متعلّق النهی وإنّما یتعلّق النهی إمّا بعنوان المعاملة أو بالسبب أو بالتسبّب إلی وجودها بالسبب،

ص :114


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 459.

.··· . ··· .

الشَرح:

ومن الظاهر أنّ عنوان المعاملة یکون بالسبب والتسبّب والمسبّب، وإذا کان المسبّب خارجاً عن قدرة المکلّف واختیاره _ لأنّه من فعل الشارع وجعله _ کان الداخل تحت الاختیار، السبب والتسبّب إلی المسبّب، فالنهی فی الحقیقة یتعلّق بأحدهما أو بکلیهما، والمبغوضیة کذلک لا تنافی حصول المسبّب بجعل الشارع وإمضائه مع أنّه تقدّم فی أوّل کلامه أنّ النهی عن التسبّب یقتضی صحّة المعاملة ونفوذها فإنّه لولا حصول المسبّب به لم یکن للنهی عن التسبّب بالسبّب تکلیفاً، معنی معقولاً.

وذکر قدس سره أیضاً فی کلامه المتقدّم أنّ ظاهر النهی عن المعاملة أو السبب أو التسبّب کونه تکلیفیاً لا إرشادیاً فالحمل علی الإرشاد یحتاج إلی قیام القرینة، مع أنّه قد تقدّم أنّ ظاهر النهی عن معاملة هو الإرشاد إلی عدم إمضائها، فیحتاج حمل النهی علی التکلیف إلی قیام قرینة ککون ملاک النهی عن البیع وقت النداء کون البیع مفوّتاً للصلاة، کما وقد تقدّم منّا مراراً أنّه لیس فی المعاملات سبب ومسبّب وتسبّب بل المعاملة أمر إنشائی اعتباری یعتبرها العاقد کسائر العقلاء وتقع مورد الإمضاء من العقلاء والشرع لا أنّ العاقد أو الموقع یوجد اعتبار الشرع وإمضائه أو یتسبّب إلی إمضائه حیث إنّ کثیراً من العاقدین لا یعتقدون بالشرع فضلاً عن إمضاء الشارع واعتباره، وحقیقة المعاملة اعتبار العاقد أمراً قابلاً للاعتبار والثبوت الاعتباری ویبرز ذلک المعتبر بقصد انطباق عنوان المعاملة علی اعتباره، والشرع قد یردع عنه وقد یمضیها.

ثم ذکر قدس سره فی ذیل کلامه السابق أنّ النهی إذا تعلّق بأجزاء السبب وشرائطه یکون کما فی العبادات محمولاً علی الإرشاد لبیان الکیفیة اللازمة فی السبب وما هو المانع والمخلّ بالمعاملة إلاّ أنّ الفرق بین المعاملة والعبادة هو أنّ النهی إذا شک فی أنّه إرشادی أو تحریمی فإنّ مقتضی الأصل کون النهی المتعلّق بنفس العبادة ارشاداً

ص :115

.··· . ··· .

الشَرح:

إلی عدم مشروعیتها بخلاف النهی المتعلّق بجزء العبادة أو شرطها فإنّ مقتضی أصالة البراءة عدم مانعیة المنهی عنه عن العبادة بخلاف المعاملات فإنّ مقتضی الأصل عدم مشروعیتها وإمضائها سواء کان المنهی عنه عنوان المعاملة أو غیره، فإنّ أصالة البراءة لا مورد لها فی المعاملات لا البراءة العقلیة ولا النقلیة، فإنّ مجری البراءة العقلیة احتمال العقاب ولا إلزام بالمعاملة حتّی تنفی العقوبة المحتملة من جهة الشک فی مانعیة المشکوک وإخلاله بالمعاملة، وأمّا البراءة النقلیة فمجراها الامتنان ولا امتنان فی المقام فی إثبات الصحة برفع المشکوک مانعیته لاستلزامه ثبوت وجوب الوفاء الذی هو خلاف الامتنان فی حقّه.

لا یقال: هذا بالإضافة إلی مثل حدیث الرفع مما کان مسوقاً فی مقام الامتنان ولا یجری فی مثل دلیل الحلّیة مما لا یکون کذلک فإنّه کما یجری أصالة الحلّیة فی موارد الشک فی الحلّیة التکلیفیة کذلک لا مانع عن جریانها فی المشکوک حلیته وضعاً، فیحکم فی موارد الشک فی المانعیة والمخلیة، بحلّیة نفس المعاملة المساوقة لنفوذها فی النقل والانتقال.

فإنّه یقال: دلیل أصالة الحلّیة لاختصاصه بالمشکوک حلّیته تکلیفاً غیر جارٍ فی المعاملات حتّی تقتضی صحتها ونفوذها، ولذا لم یتوهّم أحد من الأصحاب جریان هذه الأدلّة فی المعاملات لإثبات صحّتها بل أطبقوا علی جریان أصالة الفساد فیها، وهذا لا یکون إلاّ من جهة اختصاص أدلّتها بالحلّیة التکلیفیة کما هو واضح.

ولکن لا یخفی ما فیه: إذ لا مجال لجریان البراءة فی الشک فی المانعیة والمخلّیة فی المعاملات حتّی لو لم یکن الرفع فیما لا یعلمون امتنانیاً، أو قلنا بأنّ أصالة الحلّ تعمّ موارد الشک فی الحلّیة الوضعیة کالتکلیفیة، وذلک لأنّ التکلیف فی

ص :116

نعم ربما یتوهم استتباعها له شرعاً، من جهة دلالة غیر واحد من الأخبار علیه[1]، منها ما رواه فی الکافی والفقیه، عن زرارة، عن الباقر علیه السلام : (سأله عن مملوک تزوج بغیر إذن سیده، فقال: ذلک إلی سیده، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بینهما، قلت: أصلحک اللّه تعالی، إن الحکم بن عتیبة وإبراهیم النخعی وأصحابهما، یقولون: إن أصل

الشَرح:

العبادة غیر انحلالی بل تعلّق الطلب بصرف وجود الطبیعی، وإذا دار الأمر بین کون المتعلّق للوجوب هو الطبیعی بنحو اللابشرط أو الطبیعی بشرط شیء أو بشرط لا فالاصل فی ناحیة عدم تعلّق الوجوب بالمطلق غیر جارٍ للعلم باستحقاق العقاب علی ترکه بخلاف تعلّقه بالمشروط أو بالأکثر، فإنّ العلم بتعلّق التکلیف به غیر معلوم کما أنّ ترتّب العقاب علی ترکه غیر معلوم، فیجری الأصل فی ناحیة نفی التکلیف بالأکثر أو المشروط، وهذا بخلاف المعاملات فإنّ الإمضاء والنفوذ فیها انحلالی یترتّب الامضاء علی کلّ معاملة تحقّقت فی الخارج والإمضاء فی المعاملة الواجدة للشرط المشکوک فی شرطیته أو الفاقدة للمانع المشکوک مانعیته محرز والأصل أی مقتضی الاستصحاب عدم تعلّق الإمضاء فی فاقد الشرط المشکوک أو الواجد للمانع المشکوک فی مانعیته وإذا أُحرز عدم حلّیة تلک المعاملة وضعاً فلا مورد لأصالة الحل فیهما.

نعم یرجع إلی الأصل العملی فیما إذا لم یکن فی البین عموم أو إطلاق یقتضی الإمضاء والنفوذ، ومعه لا مجال له کما لا یخفی.

استظهار فساد المعاملة بالنهی من الروایات

[1] ربّما یستظهر من بعض الروایات أنّ تحریم معاملة عقداً أو إیقاعاً یستلزم فسادها، ففی المروی فی الکافی(1) والفقیه(2) عن زرارة عن الباقر علیه السلام «سألته عن

ص :117


1- (1) الکافی: ج 5، ص 478، باب المملوک یتزوج بغیر إذن مولاه، الحدیث 3.

النکاح فاسد، ولا یحل إجازة السید له، فقال أبو جعفر علیه السلام : إنه لم یعص اللّه، إنما عصی سیده، فإذا أجاز فهو له جائز) حیث دلّ بظاهره ان النکاح لو کان مما حرمه اللّه تعالی علیه کان فاسداً، ولا یخفی أن الظاهر أن یکون المراد بالمعصیة المنفیة هاهنا، أن النکاح لیس مما لم یمضه اللّه ولم یشرعه کی یقع فاسداً، ومن المعلوم استتباع

الشَرح:

مملوک تزوّج بغیر إذن سیّده فقال: ذاک إلی سیّده إن شاء أجاز وإن شاء فرّق بینهما، قلت أصلحک اللّه تعالی إنّ الحکم بن عتیبة وإبراهیم النخعی وأصحابهما یقولون أصل النکاح فاسد ولا یحلّ إجازة السیّد له، فقال أبو جعفر علیه السلام : إنّه لم یعص اللّه وإنّما عصی سیّده، فإذا أجاز فهو له جائز».

ووجه الاستظهار أنّ تعلیل صحّة النکاح فی فرض إجازة المولی بأنّ العبد لم یعص اللّه وإنّما عصی سیّده فإذا أجاز فهو له جائز، مقتضاه أنّ النکاح لو کان فیه معصیة اللّه کما إذا حرّمه الشارع یکون فاسداً، وهذا عبارة أخری عن الملازمة بین تحریم المعاملة وفسادها، وتوهّم أنّ نکاح العبد بلا إذن مولاه ورضاه أیضاً حرام شرعاً فاسد، فإنّ مجرّد إنشاء العبد النکاح بلا رضی مولاه لیس حراماً تکلیفاً بل حتی مع منعه أیضاً لا یکون الإنشاء محرّماً فإنّ نکاح العبد یعنی إنشائه کسائر تکلّمه لا یکون حراماً علیه.

ولکن مع ذلک لا دلالة فی الروایة علی الملازمة بین حرمة العقد تکلیفاً وبین فساده فإنّ المراد بمعصیة اللّه فی النکاح حکم الشارع بفساده فی نفسه مع قطع النظر عن إذن مولاه ورضاه کالنکاح بذات المحرم، ومراده علیه السلام أنّ هذا لم یحصل فی نکاح العبد وإنّما لا یتمّ نکاحه لنقصه من حیث إذن مولاه ورضاه وإذا أجاز یرتفع النقص ویتمّ النکاح.

والحاصل لیس المراد من معصیة اللّه فی الروایة مخالفة الحرمة التکلیفیة

ص :118

المعصیة بهذا المعنی للفساد کما لا یخفی، ولا بأس بإطلاق المعصیة علی عمل لم یمضه اللّه ولم یأذن به، کما أطلق علیه بمجرد عدم إذن السید فیه أنه معصیة.

وبالجملة: لو لم یکن ظاهراً فی ذلک، لما کان ظاهراً فیما توهم، وهکذا حال سائر الأخبار الواردة فی هذا الباب، فراجع وتأمل.

الشَرح:

لیتوهّم الملازمة بین تحریم معاملة تکلیفاً وبین فسادها، بل المراد بها فی مفروض الروایة فساد أصل النکاح وعدم إمضاء الشرع مع قطع النظر عن رضی المولی وعدم رضاه کما هو ظاهر النهی عن معاملة عقداً أو إیقاعاً، وإطلاق معصیة اللّه علی عدم إمضاء الشرع أصل المعاملة نظیر إطلاق معصیة السید وإرادة عدم إمضائه لا بأس به.

وربما یناقش فی هذا الجواب ویقال بأنّ نکاح العبد بلا إذن سیّده أیضاً عصیان اللّه ولکنّ الصحیح فی الجواب هو ما تقدّم فی مسألة جواز الاجتماع من انّ الوجوب والحرمة وغیرهما من الأحکام لا تسری من العنوان الذی تعلقت به إلی غیره حتّی إلی معنونه وظاهر الروایة أنّه إذا تعلّق النهی بعنوان النکاح فهذا یوجب فساده بخلاف ما إذا تعلّق نهی الشارع بعنوان آخر ینطبق علی النکاح خارجاً، فإنّ هذا لا یوجب فساده والأمر فی نکاح العبد بلا إذن مولاه کذلک حیث إنّ النهی لم یتعلّق بعنوان النکاح بل تعلّق بمخالفة السید والخروج عن رسوم عبودیته فهذا لا یوجب بطلان النکاح، وقد أیّد قدس سره ما ذکره بروایات أخری(1).

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ ظاهر الصحیحة أنّه لم یتحقّق فی الفرض عصیان اللّه من العبد لا أنّه لم یتعلّق الحرمة بعنوان نکاحه، بل ذکرنا أنّ إنشاء النکاح من العبد ولو بلا رضا مولاه استعمال للسانه ومقاطع الحروف وهذا لا یکون محرّماً علیه، ولو مع

ص :119


1- (1) تهذیب الأُصول: 1 / 334.

تذنیب: حکی عن أبی حنیفة والشیبانی دلالة النهی علی الصحة[1]، وعن الفخر أنه وافقهما فی ذلک، والتحقیق أن_ّه فی المعاملات کذلک إذا کان عن المسبب أو التسبیب، لإعتبار القدرة فی متعلق النهی کالأمر، ولا یکاد یقدر علیهما إلاّ فیما کانت المعاملة مؤثرة صحیحة، وأما إذا کان عن السبب، فلا، لکونه مقدوراً وإن لم یکن صحیحاً، نعم قد عرفت أن النهی عنه لا ینافیها.

الشَرح:

منع المولی کان یقول له مولاه لا تسلّم علی عدوّی أو علی جیرانی والمراد من عصیان مولاه العصیان الوصفی وهو عدم تحصیل إذنه ورضاه فی نکاحه وإذا أجاز تمّ النکاح ویدلّ علی ما ذکرنا ما فی الروایة الأخری(1) أنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللّه من النّکاح فی العدّة وأشباهه.

القول بدلالة النهی علی الصحة

[1] قد حکی عن أبی حنیفة والشیبانی دلالة النهی علی الصحة، ومقتضی إطلاق المحکی عنهما عدم الفرق بین النهی عن العبادة أو المعاملة. وقد استدلاّ علی دلالته علی الصحّة بلزوم تعلّق النهی بالمقدور ومع عدم الصحة لا تمکّن علی متعلق النهی.

وعن الفخر أنّه وافقهما علی ذلک، ولکنّ الماتن قدس سره قد قبل دلالة النهی فی المعاملات علی الصحة إذا لم یکن متعلّق النهی هو السبب بأن یکون متعلّق النهی المسبّب أو التسبیب إلیه، فإنّه لولا ترتّب المسبّب علی السبب لم یکن المسبب أو التسبیب إلیه مقدوراً لیمکن تعلّق النهی به، وکما أنّ الأمر لا یتعلّق بفعل غیر مقدور کذلک النهی والتحریم، وأمّا إذا کان متعلّق النهی هو السبب أی الإتیان به کالإتیان بالإیجاب والقبول فی عقد أو بالإیجاب فی إیقاع فلا ملازمة بین تحریمه وصحّته لکون

ص :120


1- (1) الوسائل: ج 14، باب 24 من أبواب نکاح العبید، ح 2.

وأما العبادات فما کان منها عبادة ذاتیة[1] کالسجود والرکوع والخشوع والخضوع له تبارک وتعالی، فمع النهی عنه یکون مقدوراً، کما إذا کان مأموراً به، وما کان منها عبادة لإعتبار قصد القربة فیه لو کان مأموراً به، فلا یکاد یقدر علیه إلاّ الشَرح:

الإتیان المزبور مقدوراً وإن لم یکن صحیحاً ومؤثراً فی النقل والانتقال مثلاً.

أقول: کلام الماتن هذا ینافی ما تقدّم من عدم اقتضاء حرمة المعاملة فسادها سواء کان المنهی عنه هو السبب بما هو فعل مباشری أو بالتسبیب وهو مضمونها أو بالتسبب بها إلیه.

وکأنّ مراده قدس سره أنّ المسبب فی المعاملة لا یتّصف حقیقةً بالصحة أو الفساد، بل بالوجود والعدم ومقتضی نهی الشارع عن المسبب کونه مقدوراً یمکن للعبد إیجاده، فلا یمکن النهی عنه مع عدم صحة المعاملة، وکذا الحال فی التسبیب إلیها، وهذا بخلاف السبب فإنّ الإیجاب والقبول یتّصف بالصحة والفساد بمفاد کان الناقصة ولا یقتضی النهی عنه تمامیته بحصول المسبّب.

ویبقی علی الماتن قدس سره الجواب عن الموارد التی یکون التسبیب فی المعاملة حراماً مع بطلانها کما فی الحرمة المتعلّقة بالبیع الربوی تکلیفاً.

والحق فی الجواب عن کلّ ذلک هو ما ذکرنا من أنّه لیس فی المعاملات سبب وتسبیب ومسبّب بالإضافة إلی أثرها الشرعی بل المعاملة بإنشائها ومضمونها موضوع للإمضاء الشرعی، والنهی عنها لا یقتضی الإمضاء ولا عدم الإمضاء، بل مفاده الزجر عن إیجاد الموضوع لا أکثر.

[1] قد تقدّم أنّ المحکی عن أبی حنیفة والشیبانی من دلالة النهی علی الصحّة یعمّ النهی عن العبادة.

ص :121

إذا قیل باجتماع الأمر والنهی فی شیء ولو بعنوان واحد، وهو محال، وقد عرفت أن النهی فی هذا القسم إنما یکون نهیاً عن العبادة، بمعنی أنه لو کان مأموراً به، کان الأمر به أمر عبادة لا یسقط إلاّ بقصد القربة، فافهم.

الشَرح:

وأورد الماتن قدس سره علیه: بأنّ النهی عن العبادة لا یقتضی صحتها فإنّ المنهی عنه إذا کانت عبادیته ذاتیة، أی لم یکن عبادیتها بالأمر بها وتعلّق بها النهی یحکم بفسادها مع النهی حیث تسقط بالتحریم عن قابلیة التقرّب، وأمّا إذا کانت عبادیتها بالأمر فقد تقدّم أنّ العبادة الفعلیة من هذا القسم غیر قابلة لتعلّق النهی بها لاستلزامه اجتماع الأمر والنهی فی شیءٍ واحد بعنوان واحد، فلابدّ من أن یکون متعلّق النهی ما تقدّم من أنّه لو فرض تعلّق الأمر به لم یکن یسقط إلاّ بقصد التقرّب، ومن الظاهر أنّ النهی عن العبادة بهذا المعنی لا یقتضی صحتها بل یقتضی فسادها لعدم قابلیة المنهی عنه للتقرب به، بل عدم الأمر بها المنکشف عن تعلّق النهی کافٍ فی الحکم بفسادها.

ص :122

المقصد الثالث

(فی المفاهیم)

ص :123

ص :124

المقصد الثالث: فی المفاهیم

اشاره

مقدّمة

وهی: إن المفهوم __ کما یظهر من موارد إطلاقه __ هو عبارة عن حکم إنشائی أو إخباری تستتبعه خصوصیة المعنی الذی أرید من اللفظ، بتلک الخصوصیة ولو بقرینة الحکمة[1]، وکان یلزمه لذلک، وافقه فی الإیجاب والسلب أو خالفه، الشَرح:

تعریف المفهوم

[1] حاصل ما ذکره قدس سره فی بیان المراد من المفهوم فی المقام هو أنّ المفهوم کما یظهر من موارد إطلاقه حکم إنشائی أو إخباری یکون لازماً للخصوصیة المستفادة من الکلام الدالّ علی حکم آخر سواء کانت دلالته علی تلک الخصوصیة بالوضع أو بالقرینة، فمثلاً عدم وجوب إکرام زید علی تقدیر عدم مجیئه حکم یلزم من الخصوصیة المستفادة من قوله «إذا جائک زید فأکرمه» حیث إنّ وجوب إکرامه علی تقدیر مجیئه حکم تدلّ علیه الجملة الشرطیة، مع دلالتها علی أنّ مجیئه هی العلّة المنحصرة لذلک الحکم، ویلزم من کونه علّة منحصرة له انتفاء وجوب إکرامه علی تقدیر عدم مجیئه.

وبتعبیر آخر: قد یلزم حکم من مجرّد ثبوت حکم آخر بلا توسیط دلالة کلامیة علی الخصوصیة کما إذا ورد فی الخطاب وجوب الکفارة علی من جامع فی نهار شهر رمضان، فإنّه یلزم علی هذا الحکم کون الجماع مفطراً وهذا لا یسمّی مفهوماً

ص :125

فمفهوم (إن جاءک زید فأکرمه) مثلاً __ لو قیل به __ قضیة شرطیة سالبة بشرطها وجزائها، لازمة للقضیة الشرطیة التی تکون معنی القضیة اللفظیة، وتکون لها خصوصیة، بتلک الخصوصیة کانت مستلزمة لها، فصح أن یقال: إن المفهوم إنما الشَرح:

وقد یکون الکلام دالاًّ علی الخصوصیة ولکن لا یلزم منها حکم غیر ما ذکر فی الکلام بلا فرق بین کون تلک الخصوصیة مدلولاً علیها بالوضع أو بقرینة الحکمة أو بغیرها کما فی قوله تعالی «أحَلَّ اللّهُ البَیْعَ»(1)، فإنّ مدلوله حلّیة البیع وشمولها لجمیع أفراده، وخصوصیة الشمول مستفادة من قرینة الحکمة المسمّاة بمقدّمات الإطلاق ولکن لا تلازم حکماً غیر ما دلّ علیه الکلام بل تلک الخصوصیة عین ثبوت الحکم دالاً علی الأفراد بنحو العموم المذکور لجمیع الأفراد، ولو کان قوله تعالی «أحَلَّ اللّهُ البَیْعَ» لکانت الخصوصیة مستفادة بالوضع، وعلی کلا التقدیرین فلا یدخل هذا فی المفهوم المصطلح المقابل للمنطوق، وعلیه فالمفهوم حکم غیر مذکور، سواء کان موضوعه مذکوراً أم لا والأوّل کما فی القضیة الشرطیة والثانی کما فی قوله (فی الغنم السائمة زکاة) فإنه بناءاً علی مفهوم الوصف یدلّ الوصف علی خصوصیة یلزم منها عدم الزکاة فی الغنم المعلوفة وعدم الزکاة فیها غیر مذکور حتّی بموضوعه.

ومما ذکر یظهر أنّ تعریف المفهوم بأنّه حکم إخباری أو إنشائی لغیر مذکور یختص بالثانی ولا یعمّ الأول مع إطلاق المفهوم علی کلّ منهما.

وبالجملة إذا کان الکلام دالاًّ علی خصوصیة یلزم من تلک الخصوصیة حکم لم یذکر فی الکلام، یکون الحکم غیر المذکور مفهوماً والحکم المذکور منطوقاً فالمفهوم المصطلح وصف للمدلول أی الحکم غیر المذکور ولذا یقال هل للقضیة الشرطیة

ص :126


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.

هو حکم غیر مذکور، لا أنه حکم لغیر مذکور، کما فسر به، وقد وقع فیه النقض والإبرام بین الأعلام، مع أنه لا موقع له کما أشرنا إلیه فی غیر مقام، لأنه من قبیل شرح الإسم، کما فی التفسیر اللغوی.

ومنه قد انقدح حال غیر هذا التفسیر مما ذکر فی المقام، فلا یهمنا التصدی

الشَرح:

دلالة علی المفهوم أو لا، وتوصیف نفس الدلالة بالمفهوم نظیر توصیف الدلالة بالمنطوق أحیاناً وذلک من قبیل الوصف بحال المتعلّق فیقال دلالة الکلام علی ذلک بالمنطوق ودلالته علی هذا بالمفهوم.

أقول: یبقی علی الماتن بیان الفرق بین مثل ما دلّ علی تحریم قول الابن لأبویه «أُف» حیث یستفاد منه حرمة شتمهما بالمفهوم، وبین ما دلّ علی وجوب الکفارة علی من جامع فی شهر رمضان، حیث یستفاد منه کون الجماع فی نهاره مفطراً فیلزم انفهام الحکم الآخر فی کلّ منهما من انفهام الحکم الأول الذی مدلول الکلام، لا أنّه یلزم من الخصوصیة المستفادة مع الحکم الأول.

أضف إلی ذلک ما یأتی من أنّ دلالة الکلام علی المفهوم لا یتوقف علی دلالته علی الخصوصیة المشار إلیها.

ولذا ذکر بعض الأعلام قدس سره أنّ المفهوم یطلق علی ما یکون المستفاد بالملازمة مخالفاً للحکم المذکور فی الکلام بالنفی والإثبات أو موافقاً له ولکن ثبت بالترقّی کما فی موارد المفهوم بالموافقة(1).

لکن یرد علی ذلک عدم وجود جامع بین الأمرین لیکون هو المفهوم.

وذکر المحقّق النائینی قدس سره أنّه إذا کان المدلول الالتزامی للجملة الترکیبیة من

ص :127


1- (1) مطارح الأنظار: 169.

لذلک، کما لا یهمنا بیان أنه من صفات المدلول أو الدلالة وإن کان بصفات المدلول أشبه، وتوصیف الدلالة به أحیاناً کان من باب التوصیف بحال المتعلق.

الشَرح:

اللزوم البین بمعنی الأخص فیطلق علیه المفهوم فی مقابل المنطوق وإذا کان المدلول الالتزامی من البین بالمعنی الأعم فتدخل فی الدلالة السیاقیة کما فی دلالة الإشارة والتنبیه والاقتضاء.

وبتعبیرٍ آخر: انفهام مفهوم ترکیبی من جملة ترکیبیة إذا استند إلی دلالة نفس الجملة یسمّی منطوقاً وإذا کان للزومه لمدلول الجملة فی نفسها فإن کان بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأخص یسمّی مفهوماً فالدلالة المفهومیة داخلة فی الدلالة اللفظیة بخلاف ما إذا کان بنحو اللزوم البیّن بالمعنی الأعم بأن یکون انفهام اللازم لانفهام مدلول نفس مدلول الجملة الترکیبیة محتاجاً إلی ضمّ مقدّمة عقلیة خارجیة کانفهام وجوب المقدّمة من وجوب ذیها فإنّ هذه الدلالة لا تدخل فی المنطوق ولا بالمفهوم بل تدخل فی الدلالة السیاقیة والاقتضاء ولا فرق فی _ انفهام اللازم من نفس انفهام مدلول الجملة الترکیبیة _ بین أن یکون انفهام اللازم من مدلول خطاب واحد کانفهام کون المواقعة فی نهار شهر رمضان موجباً للکفارة من قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم «کفّر» فی جواب من قال له «هلکت وأهلکت یا رسول اللّه واقعت أهلی فی نهار شهر رمضان»، أو من خطابین کدلالة الآیتین علی أقلّ الحمل، وعلی ما ذکر یدخل المفهوم فی الدلالة اللفظیة کدخول الدلالة الالتزامیة الثابتة فی الألفاظ المفردة کدلالة العمی علی البصر وحاتم علی الجود(1).

أقول: لیس انفهام وجوب المقدّمة من وجوب ذیها من اللزوم البیّن علی

ص :128


1- (1) أجود التقریرات 1 / 413.

وقد انقدح من ذلک أن النزاع فی ثبوت المفهوم وعدمه فی الحقیقة، إنما یکون فی أن القضیة الشرطیة أو الوصفیة أو غیرهما هل تدلّ بالوضع أو بالقرینة العامة علی تلک الخصوصیة المستتبعة لتلک القضیة الأخری، أم لا؟

الشَرح:

مصطلح القوم لا البیّن بالمعنی الأخص ولا البیّن بالمعنی الأعم، بل علی مصطلحهم إذا کان نفس لحاظ الملزوم وتعقّله کافیاً فی الانتقال إلی لازمه یسمّی اللزوم بیّناً بالمعنی الأخص وإذا احتاج الانتقال إلیه إلی ملاحظة النسبة بین اللازم والملزوم فاللزوم بیّن بالمعنی الأعمّ.

أضف إلی ذلک عدم معهودیة إطلاق المفهوم علی انفهام کون المواقعة موجباً للکفّارة من قوله صلی الله علیه و آله وسلم «کفّر» فی جواب السائل المزبور فی مقابل المنطوق، بل هو من استفادة الحکم الکلّی من الجواب للعلم بعدم دخالة خصوص ما فرضه السائل فی سؤاله فی ثبوت الحکم المذکور.

وذکر المحقّق العراقی قدس سره أنّ المفهوم المصطلح هو من الدلالة اللفظیة الالتزامیة وأنّ الفرق بین دلالة لفظ حاتم علی الجود وانوشیروان علی العدالة ودلالة الجملة الشرطیة أو الوصفیة علی المفهوم، أنّ ما یدلّ علیه الکلام فی الأول معنی افرادی بخلاف الثانی، فإنّ المدلول علیه باللزوم مفاد قضیة غیر مذکورة.

وبالجملة مراتب اللزوم علی معنی الکلام مختلفة، فتارةً یکون نقل مدلول الکلام إلی ذهن المخاطب کافیاً فی انتقاله إلی اللازم، وهذه الدلالة بالإضافة إلی اللازم من اللزوم البیّن بالمعنی الأخص، ویسمّی الانتقال إلی اللازم من سماع الکلام بالدلالة الالتزامیة اللفظیة، وأخری یکون الانتقال إلی اللازم محتاجاً إلی ملاحظة الملازمة بینهما والالتفات إلیها تفصیلاً لیتحقق بعده الانتقال إلی اللازم وذلک لخفاء الملازمة.

ص :129

.··· . ··· .

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر: إنّ الملازمة قد تکون خفیة بمثابة یحتاج الالتفات الیها إلی تحقیق النظر والتدبّر، ومن هذا القبیل ما یصدر عن أرباب العلوم من الإشکالات العلمیة فی أخذ بعضهم بعضاً بما یقتضیه کلامهم من التوالی الفاسدة، حیث إنّه لولا خفاء الملازمة علی صاحب الکلام لما یصدر عنه ما یلزم من التالی الفاسد، وقد تکون أقلّ خفاءً من السابقة وواضحة فی الجملة بنحو یکفی فی الانتقال إلی اللازم تصوّر الملزوم ولحاظ الملازمة من دون احتیاج إلی تدقیق النظر فی أصل الانتقال إلی الملازمة ویعبّر عن ذلک باللزوم البیّن بالمعنی الأعم وعن سابقه باللزوم غیر البیّن، وکما ذکرنا یعبّر عن القسم الأول باللزوم البیّن بالمعنی الأخص ووضوح الملازمة فی القسم الأول بحیث لا یحتاج الانتقال إلی اللازم فیه إلی لحاظ الملازمة تفصیلاً کما فی القسم الثانی ولا إجمالاً کما فی القسم الأخیر، ومن هذا الأخیر دلالة الآیتین علی أقلّ الحمل ستة أشهر.

ثمّ إنّ ما یطلق علیه المفهوم من اللازم هو القسم الأول بحیث یکون الانتقال إلی مدلول الکلام کافیاً فی الانتقال إلی اللازم، وحیث إنّ هذا النحو من اللزوم یتحقّق فی المعانی الإفرادیة أیضاً ولا یطلق علیها المفهوم المصطلح علیه فی مقابل المنطوق، عرّف المفهوم بأنّه حکم غیر مذکور أو حکم لغیر مذکور(1).

أقول: لو کان المفهوم المصطلح من اللزوم البیّن بالمعنی الأخص الذی ذکره قدس سره لما کان اختلاف فی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة أو الوضعیة کما لم یختلف أحد فی الانتقال إلی البصر من سماع لفظ العمی أو إلی حاتم من سماع لفظ الجود.

ص :130


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 468.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکنّ الذی یسهّل الخطب هو أنّ تطویل الکلام فی میزات الفارق بین المنطوق والمفهوم المصطلح علیه بلا طائل لعدم ترتّب أثر عملی علی خصوص أحدهما، وما یقال من أنّ فی مورد تعارض المنطوق والمفهوم یقدّم المنطوق علی المفهوم کلام لا أساس له، بل لا یقدّم ما لا یعدّ قرینة عرفیة علی التصرّف فی الآخر کما یأتی، مفهوماً کان أو منطوقاً.

ص :131

فصل

الجملة الشرطیة هل تدل علی الإنتفاء عند الإنتفاء، کما تدل علی الثبوت عند الثبوت بلا کلام، أم لا؟ فیه خلاف[1] بین الاعلام.

لا شبهة فی استعمالها وإرادة الإنتفاء عند الإنتفاء فی غیر مقام، إنما الإشکال والخلاف فی أن_ّه بالوضع أو بقرینة عامة، بحیث لا بدّ من الحمل علیه لو لم یقم علی خلافه قرینة من حال أو مقال، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة الدلیل علی الدلالة، بأحد الوجهین علی تلک الخصوصیة المستتبعة لترتب الجزاء علی الشرط، نحو ترتب المعلول علی علته المنحصرة.

وأما القائل بعدم الدلالة ففی فسحة، فإن له منع دلالتها علی اللزوم، بل علی مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الإتفاق، أو منع دلالتها علی الترتب، أو علی نحو الترتب علی العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسلیم اللزوم أو العلیة.

لکن منع دلالتها علی اللزوم، ودعوی کونها اتفاقیة، فی غایة السقوط، لانسباق اللزوم منها قطعاً، وأم_ّا المنع عن أن_ّه بنحو الترتب علی العلة فضلاً عن کونها منحصرة، فله مجال واسع.

الشَرح:

مفهوم الشرط

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ القضیة الشرطیة تدلّ علی المنطوق وهو ثبوت مضمون الجزاء عند ثبوت الشرط الوارد فیها، وهذا لا خلاف فیه، وإنّما الخلاف فی أنّ لها مدلول آخر أیضاً غیر مدلولها المنطوقی، وهو انتفاء سنخ الحکم الوارد فی الجزاء علی تقدیر انتفاء الشرط المسمّی بالمفهوم أم لا.

وذکر الماتن قدس سره أنّ دلالة القضیة الشرطیة علی ذلک _ سواء کان بالوضع أو

ص :132

ودعوی تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب علی العلة المنحصرة __ مع کثرة استعمالها فی الترتب علی نحو الترتب علی الغیر المنحصرة منها بل فی مطلق اللزوم __ بعیدة، عهدتها علی مدعیها، کیف؟ ولا یری فی استعمالها فیهما عنایة، ورعایة علاقة، بل إنما تکون إرادته کإرادة الترتب علی العلة المنحصرة بلا عنایة، کما یظهر علی من أمعن النظر وأجال البصر فی موارد الإستعمالات، وفی عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم فی مقام المخاصمات والاحتجاجات، وصحة الجواب بأنه لم یکن لکلامه مفهوم، وعدم صحته لو کان له ظهور فیه معلوم.

وأما دعوی الدلالة، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومیة إلی ما هو أکمل افرادها، وهو اللزوم بین العلة المنحصرة ومعلولها، ففاسدة جداً، لعدم کون الأکملیّة موجبة للإنصراف إلی الأکمل، لا سیما مع کثرة الاستعمال فی غیره، کما لا یکاد یخفی.

هذا مضافاً إلی منع کون اللزوم بینهما أکمل مما إذا لم تکن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا یوجب أن یکون ذاک الربط الخاص الذی لا بد منه فی تأثیر العلة فی معلولها آکد وأقوی.

الشَرح:

بالإطلاق بحیث یثبت هذا المدلول لها إذا لم تقم قرینة خاصة علی خلافها _ موقوفة علی إثبات أنّها تدلّ علی أنّ الشرط الوارد فیها علة منحصرة لسنخ الحکم الوارد فی الجزاء فیتعیّن علی القائل بالمفهوم لها من إثبات دلالتها علی هذه العلّیة ومعلولیة الجزاء. وأمّا القائل بعدم المفهوم لها فیمکن له منع دلالتها علی اللزوم والترتّب بدعوی أنّ مدلولها مجرّد ثبوت الحکم الوارد فی الجزاء وتحقّقه مع تحقّق الشرط ولو کان هذا الاجتماع من باب الاتفاق، أو یدّعی دلالتها علی کون الاجتماع بین مضمون الجزاء وتحقّق الشرط بنحو من اللزوم والربط ولکن لا دلالة لها علی کون

ص :133

.··· . ··· .

الشَرح:

الشرط فیها علّة لثبوت سنخ الحکم الوارد فی الجزاء فضلاً عن دلالتها علی کون الشرط علّة منحصرة لثبوت طبیعی الحکم الوارد فی جزائها.

ثمّ ذکر قدس سره انّ دعوی کون مدلولها مجرّد اجتماع مضمون الجزاء مع تحقّق الشرط ولو کان الاجتماع أمراً اتفاقیاً بعید عن ظهور الجملة الشرطیة، بل ظهورها فی کون اجتماعهما بنحو اللزوم والارتباط غیر قابل للإنکار.

نعم، دعوی عدم ظهورها فی کون ترتب الجزاء علی تحقّق الشرط من قبیل لزوم المعلول لعلّته فضلاً عن دلالتها علی کون الشرط هو العلّة المنحصرة للجزاء قابلة للتأمّل والمنع.

لکثرة استعمال الجملة الشرطیة فی الموارد التی لا یکون الشرط فیها علّة لثبوت الجزاء، أو الموارد التی لا یکون الشرط علّة منحصرة، بلا عنایة فی استعمالها فی مثل هذه الموارد، وبهذا یحرز أنّ کون الشرط هو العلّة المنحصرة للجزاء الوارد فیها، غیر داخل فی مدلولها، فیقال: (إذا حلّت الصلاة للمستحاضة حلّ لزوجها الدخول بها) وقوله: (إذا قصّرت أفطرت) وقوله: (إذا ذکر النبی صلی الله علیه و آله وسلم فصلّ علیه) إلی غیر ذلک من موارد الاستعمال التی من أمعن النظر فیها یجد عدم عنایة فی استعمال الجملة الشرطیة فیها، ویدلّ علی ما ذکر أیضاً عدم صحّة إلزام الخصم والأخذ بمفهوم کلامه فی مقام المخاصمات وصحّة جوابه أن_ّه لم یکن لکلامه مفهوم ولو کانت للقضیة الشرطیة دلالة علی المفهوم کدلالتها علی المنطوق لم یصحّ الجواب بعدم المفهوم لکلامه، کما لم یصحّ اعتذاره بأنّه لم یکن لکلامه دلالة علی المنطوق.

وربّما یدّعی أنّ ترتّب المعلول علی علّته المنحصرة من أکمل أفراد العلاقة اللزومیة فتنصرف العلاقة اللزومیة المستفادة من القضیة الشرطیة إلی أکمل أفرادها.

ص :134

إن قلت: نعم، ولکنه قضیة الإطلاق بمقدمات الحکمة[1]، کما أن قضیة إطلاق صیغة الأمر هو الوجوب النفسی.

قلت: أولاً: هذا فیما تمت هناک مقدمات الحکمة، ولا تکاد تتم فیما هو مفاد الحرف کما هاهنا، وإلاّ لما کان معنی حرفیاً، کما یظهر وجهه بالتأمل.

وثانیاً: تعینه من بین أنحائه بالاطلاق المسوق فی مقام البیان بلا معین، ومقایسته مع تعیّن الوجوب النفسی بإطلاق صیغة الأمر مع الفارق، فإنّ النفسی هو الواجب علی کلّ حال بخلاف الغیری، فإنّه واجب علی تقدیر دون تقدیر، فیحتاج بیانه إلی مؤونة التقیید بما إذا وجب الغیر، فیکون الإطلاق فی الصیغة مع مقدمات الحکمة محمولاً علیه، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب علی العلة المنحصرة، ضرورة أن کل واحد من أنحاء اللزوم والترتب، محتاج فی تعینه إلی القرینة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

وقد أجاب الماتن عن ذلک بوجهین:

اوّلاً: عدم کون أکملیة الفرد موجبة لانصراف اللفظ الدال علی ذات المطلق إلیه.

وثانیاً: کون شیء علّة منحصرة لا یوجب أن یکون لزوم معلوله له من أفضل وأکمل أفراد اللزوم، حیث إنّ الانحصار فی العلّیة لا یوجب کون تأثیرها فی معلولها أقوی وآکد من غیرها.

[1] وحاصله أنّه لا وجه لدلالة أداة الشرط _ فی القضیة الشرطیة الدالّة علی اللزوم والارتباط بین مضمون الجزاء وتحقّق الشرط _ علی أنّ اللزوم بنحو ترتّب المعلول علی علّته المنحصرة بالوضع، کما أنه لا وجه لدعوی ظهورها فی هذا النحو من اللزوم بالانصراف، لما تقدّم من أنّ صحّة استعمالها فی غیر موارد الترتّب المزبور بلا عنایة شاهد علی عدم کون استعمالها فی تلک الموارد بنحو المجاز کما أنّه

ص :135

ثم إنه ربما یتمسک للدلالة علی المفهوم بإطلاق الشرط[1]، بتقریب أنه لو لم یکن بمنحصر یلزم تقییده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده، الشَرح:

لا موجب لانصرافها إلی الترتّب کذلک، ولکنّ دلالتها علی الترتّب المزبور مقتضی إطلاق معنی الأداة، نظیر ما ذکر من أنّ مقتضی إطلاق صیغة الأمر الدالّة علی الطلب کون الطلب نفسیاً، حیث إنّ صیغة الأمر وإن کانت تستعمل فی موارد الطلب الغیری ولا تنصرف إلی الطلب النفسی إلاّ أنّ مقتضی إطلاق الطلب کونه نفسیاً وفی المقام أیضاً أداة الشرط الدالّة علی اللزوم بین الجزاء والشرط مقتضی إطلاقها کون اللزوم بنحو ترتّب المعلول علی علّته المنحصرة.

وأجاب عن ذلک أنّ مقدّمات الحکمة لا تجری فی ناحیة المعانی الحرفیة لعدم کونها ملحوظة إلاّ تبعاً لمعانی مدخولاتها علی ما مرّ فی معانی الحروف، ومع غضّ النظر عن ذلک فلا یقاس أداة الشرط علی إطلاق صیغة الأمر، وذلک لأنّ سنخ الوجوب فی النفسی والغیری مختلف، فإنّ نفس الوجوب فی النفسی فیه سعة من جهة وجوب شیء آخر وعدمه، بخلاف الوجوب الغیری فإنّ فی نفس الوجوب الغیری ضیق لا یحصل عند عدم وجوب شیء آخر، فیکون الإطلاق فی مقام الإثبات وعدم تقیید الأمر بفعل بوجوب الفعل الآخر دالاًّ علی کون الوجوب نفسیاً إذا تمّت مقدّمات الحکمة، بخلاف أنحاء اللزوم فإنّ الترتّب علی العلّة المنحصرة کالترتّب علی غیر المنحصرة یحتاج کلّ منهما إلی قرینة ومعیّن بلا تفاوت فی ناحیة حصول المعلول بحصول کلّ منهما، والأداة دالّة علی مطلق اللزوم لا علی اللزوم بنحو الترتّب علی العلّة فضلاً عن الترتّب علی العلة المنحصرة، وکلّ نحو من التلازم سواء کان بنحو الترتّب واللزوم أو بنحو الترتّب علی الملزوم والعلّة یحتاج إلی قرینة لا تدلّ الأداة علیهما بدونها.

[1] قد ذکر لدلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم وجهین آخرین أشار إلی أوّلهما

ص :136

وقضیة إطلاقه أنه یؤثر کذلک مطلقاً.

وفیه أنه لا تکاد تنکر الدلالة علی المفهوم مع إطلاقه کذلک، إلاّ أنه من المعلوم ندرة تحققه، لو لم نقل بعدم اتفاقه.

الشَرح:

بقوله «ربّما یتمسّک للدلالة علی المفهوم بإطلاق الشرط بتقریب أنّه لو لم یکن بمنحصر . . . إلخ».

وحاصل هذا الوجه: أنّ ظاهر مدلول الجملة الشرطیة کون الشرط فیها مؤثّراً فی ثبوت الجزاء وحصول مضمونه ولو لم یکن الشرط بمنحصر لما أثر وحده فیما إذا سبقه أو قارنه شرط آخر وقضیة إطلاق الشرط أنّه یؤثّر بمفرده سواء قارنه شیء آخر أو سبقه، ولو لم یکن الأمر کذلک کان علی المتکلّم تقیید الشرط بما یخرجه عن هذه الدلالة.

وأجاب الماتن قدس سره عن هذا الوجه بأنّ مدلول الجملة الشرطیة حصول الجزاء بحصول الشرط وأمّا أنّه المؤثّر الوحید أو أنّ المؤثّر هو الجامع او السابق معه فلا تعرّض لها لذلک.

نعم، لو فرض فی مورد ما ثبوت الإطلاق المقامی وتعرّض المتکلّم للمؤثّر فی الجزاء وکیفیة تأثیره ولم یذکر فی ذلک إلاّ الشرط لصحّ أن یقال أنّه یستفاد من الإطلاق الانحصار، ولکن هذا فرض اتفاقی ومدلول الجملة الشرطیة مجرّد ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط بنحو اللزوم والارتباط کما تقدّم.

الوجه الثانی ما أشار إلیه بقوله قدس سره : «أمّا توهّم أنّه مقتضی إطلاق الشرط بتقریب أنّ مقتضاه تعیّنه . . . إلخ» وحاصله لو کان الجزاء ثابتاً مع شرط آخر أیضاً لکان علی المتکلّم ذکر العدل للشرط، نظیر ما یقال إنّه لو کان الواجب تخییریاً لکان اللازم ذکر العدل له فی الخطاب.

وأجاب قدس سره عن ذلک بأنّ سنخ الوجوب التعیینی یغایر سنخ الوجوب التخییری

ص :137

فتلخص بما ذکرناه، أنه لم ینهض دلیل علی وضع مثل (إن) علی تلک الخصوصیة المستتبعة للإنتفاء عند الإنتفاء، ولم تقم علیها قرینة عامة، أما قیامها أحیاناً کانت مقدمات الحکمة أو غیرها، مما لا یکاد ینکر، فلا یجدی القائل بالمفهوم، انه قضیة الإطلاق فی مقام من باب الإتفاق.

وأما توهم أنه قضیة إطلاق الشرط، بتقریب أن مقتضاه تعینه، کما أن مقتضی إطلاق الأمر تعین الوجوب.

الشَرح:

ویحتاج أحدهما إلی ذکر القید له بذکر العدل بمثل (أو)، بخلاف التعیینی بحیث لو لم یکن المراد، مع عدم ذکر القید، هو التعیینی لکان المتکلّم فی مقام الإهمال أو الإجمال بخلاف الشرط، فإنّ نحو القضیة الشرطیة فیما إذا کان الشرط متعدّداً لا تختلف عمّا إذا کان الشرط واحداً.

وبتعبیرٍ آخر: لا تختلف نسبة إطلاق الشرط المذکور بعد أداة الشرط بین ما إذا لم یکن شرط آخر وما إذا کان فی البین شرط آخر، فعدم ذکر العدل له لا یخلّ بإطلاق الشرط علیه فیما إذا کان المتکلّم فی مقام بیان شرطیّته، إذن فذکر العدل له لا یحتاج إلیه إلاّ إذا کان المتکلّم فی مقام بیان تعداد الشرط، ویکون إطلاقه فی هذا المقام مقتضیاً لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وهذا الإطلاق مقامی ومن باب الاتفاق ولیس الکلام فیه.

أقول: قد تقدّم منه قدس سره فی بحث الواجب التخییری أنّ التعیینی لا یختلف سنخاً عن التخییری، إذا کان فی البین ملاک ملزم یحصل بکلّ من الفعلین أو الأفعال، فیکون الوجوب فی مثل ذلک متعلّقاً بالجامع، ومع ذلک إذا ورد فی الخطاب أمر بالفعل وشک فی أنّ وجوبه تخییری أو تعیینی بهذا المعنی، یتمسّک بالإطلاق وبعدم ذکر العدل له یحکم بکون وجوبه تعیینیاً وإذا أمکن إثبات کونه تعیینیاً بذلک

ص :138

.··· . ··· .

الشَرح:

فلا فرق بینه وبین إطلاق الشرط فی المقام فإنّ الشرط علی تقدیر وجود العِدل له یکون هو الجامع.

أضف إلی ذلک أنّ الشرط فی القضیة الشرطیة قید للحکم الوارد فی الجزاء کما اعترف به قدس سره فی بحث الواجب المشروط، وکما أنّ الخطاب یتضمّن الحکم ومتعلّقه وموضوعه، ویکون الأصل فیه کون المتکلّم فی مقام بیان قیود المتعلّق والموضوع، کذلک الأصل کونه فی مقام بیان قیود الحکم بلا فرق بین القیود الشمولیة أو البدلیة وإذا بُنی علی أنّ الشرط بحسب مقام الإثبات یکون قیداً لنفس الحکم فعدم ذکر قید آخر معه بنحو الجمع بالعطف بمثل واو الجمع، أو البدل بالعطف بمثل (أو)، یقتضی انتفاء الحکم الوارد فی الجزاء عند انتفاء القید المزبور وإذا ورد العدل فی خطاب آخر یجمع بین المفهوم فی الخطاب الأول والخطاب الثانی، بأن یحمل إطلاق النفی فی المفهوم علی غیر فرض حصول ذلک العدل، لأنّ ظاهر کلّ من الخطابین حدوث الحکم بحدوث الشرط.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ استفادة المفهوم من القضیة الشرطیة لا یرتبط بانفهام علّیة الشرط فیها فضلاً عن کونه علّة منحصرة، بل یتوقّف علی أن یکون الشرط قیداً لطبیعی الحکم الوارد فی الجزاء ومن البدیهی کونه قیداً لطبیعی الحکم إنّما هو لکون جعل الحکم بحسب المستفاد من الخطاب کذلک، وأمّا إذا لم یکن المستفاد من الخطاب فی مورد کذلک کما إذا کان المتعلّق للحکم الوارد فی الخطاب یصیر بلا موضوع أو بلا متعلّق عند انتفاء الشرط، کما إذا ورد فی الخطاب «إن رزقت ولداً فاختنه» حیث لا یمکن الختان بلا مولود، فلا مورد للمفهوم وکذلک إذا کان الوارد فی الشرط موضوعاً للحکم هو الشیء الخاص أو المقیّد من غیر أن یکون _ بحسب

ص :139

.··· . ··· .

الشَرح:

المستفاد من الخطاب _ قیداً للحکم، فإنّ انتفاء ذلک الحکم مع انتفاء الشرط یکون من قبیل انتفاء الحکم بانتفاء الموضوع، حیث إنّ الموضوع للحکم هو الشیء الخاص أو المقیّد وانتفائه یکون بانتفاء ذات الشیء وذات المقیّد تارة، وبانتفاء خصوصیته وقیده أخری، وعلی کلا التقدیرین فلا موضوع للحکم الوارد فی الجزاء مع عدم تحقّق الشرط، کقوله «إنْ جائَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا»(1)، فإنّ الموضوع لتبیّن نبأ الفاسق، ومع انتفاء الشرط لا تحقّق لهذا الموضوع.

نعم، یدخل الوارد فی الشرط موضوعاً _ فی بعض الموارد _ فی بحث مفهوم الوصف، وهذا کلام آخر، کما فی قوله: «إذا کان عندک غنم سائمة فزکّها»، وهکذا یلحق بفرض انتفاء الموضوع بانتفاء الشرط کلّ ما لم یمکن تحقّق متعلّق الحکم والتکلیف فیه فرض انتفاء الشرط، کما فی قوله : «لا تُکْرِهوا فَتَیاتِکُمْ علی البِغاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»(2)، فإنّ الإکراه المتعلّق به التحریم لا یتحقّق إلاّ مع إرادتهنّ التحصّن، فإنّ الإکراه عبارة عن حمل الغیر علی ما یکرهه، فعدم الحرمة مع عدم إرادتهنّ التحصّن، لانتفاء الإکراه، ولا ینافی ذلک حرمة ترغیبهنّ إلی البغاء فی غیر هذا الفرض فإنّ الترغیب والتسبیب إلی بغائهن مع إرادتهن البغاء فعل آخر لا یرتبط بالمفهوم، ونظیر ذلک ما إذا لم یکن نفس الحکم قابلاً للتکرار فی غیر مورد الشرط کما فی الوصیة بشیء لشخص أو وقفه علی طائفة، فإنّه یکون انتفاء الملکیة عن غیر الموصی له أو عن غیر الموقوف علیه عقلیاً، لا بدلالة الخطاب من غیر فرقٍ فی هذه

ص :140


1- (1) سورة الحجرات: الآیة 6.
2- (2) سورة النور: الآیة 33.

ففیه: أن التعین لیس فی الشرط نحواً یغایر نحوه فیما إذا کان متعدداً، کما کان فی الوجوب کذلک، وکان الوجوب فی کل منهما متعلقاً بالواجب بنحو آخر، لابد فی التخییری منهما من العِدل، وهذا بخلاف الشرط فإنه واحداً کان أو متعدداً، کان نحوه واحداً ودخله فی المشروط بنحو واحد، لا تتفاوت الحال فیه ثبوتاً کی تتفاوت عند الاطلاق إثباتاً، وکان الاطلاق مثبتاً لنحو لا یکون له عدل لإحتیاج ماله العِدل إلی زیادة مؤونة، وهو ذکره بمثل (أو کذا) واحتیاج ما إذا کان الشرط متعدداً إلی ذلک إنما یکون لبیان التعدد، لا لبیان نحو الشرطیة، فنسبة إطلاق الشرط إلیه لا تختلف، کان هناک شرط آخر أم لا، حیث کان مسوقاً لبیان شرطیته بلا إهمال ولا إجمال.

الشَرح:

الموارد بین التعبیر بالجملة الشرطیة أو بغیرها، کما لا یخفی.

لا یقال: ما الفرق بین القید للحکم والقید لموضوعه لیقال بعدم المفهوم فی موارد القید للموضوع إلاّ أن یلتزم بمفهوم الوصف، بخلاف موارد القید لنفس الحکم فیلتزم فیه بالمفهوم للقضیة مع أنّ قید الحکم وقید الموضوع سیّان فلا فرق بین أن یقال: الماء الکرّ لا ینفعل، وأن یقال: إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینفعل، أو بین أن یقال: المستطیع علیه الحج، وأن یقال: إذا استطاع المکلّف فعلیه الحج؟

فإنّه یقال: القید للحکم وإن کان یرجع إلی قید الموضوع ثبوتاً حیث یجعل الحکم علی فرض وجوده کسائر القیود للموضوع، ولکنّ الفرق بینهما بحسب مقام الإثبات فإنّه إذا علّق طبیعی الحکم المتعلّق بفعلٍ علی تحقّق شیء فمقتضی تعلیقه علی تحقّقه ارتفاع الحکم عن ذلک الموضوع علی تقدیر عدم تحقّق المعلّق علیه، بخلاف القضیة الحملیة وبیان القید لموضوع الحکم فإنّ مدلول الخطاب ثبوت الحکم للمقید فلا ینافی ثبوته لنفس المطلق أو للمطلق بقیدٍ آخر.

وبتعبیر آخر: المتفاهم العرفی من القضیة الشرطیة تعلیق الحکم المستفاد من

ص :141

بخلاف إطلاق الأمر، فإنه لو لم یکن لبیان خصوص الوجوب التعیینی، فلا محالة یکون فی مقام الإهمال أو الإجمال، تأمل تعرف. هذا مع أنه لو سلم لا یجدی القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا یکاد ینکر فیما إذا کان مفاد الإطلاق من باب الإتفاق.

ثم إنه ربما استدل المنکرون للمفهوم بوجوه:

أحدها: ما عُزی إلی السید من أن تأثیر الشرط، إنما هو تعلیق الحکم به، ولیس بممتنع أن یخلفه وینوب منابه شرط آخر[1] یجری مجراه، ولا یخرج عن

الشَرح:

القضیة الجزائیة علی تحقّق الشرط مثلاً إذا قیل یجب إکرام زید، یستفاد منه أنّ تمام مطلوب المولی إکرام زید ولا دخل فی مطلوبیة إکرامه لشیء آخر من حالات زید وحالات إکرامه، وإذا علّق هذا المضمون علی حصول أمر کمجیئه مثلاً، کما إذا قال إن جائک زید فأکرمه، یکون المستفاد أنّ مضمون القضیة الجزائیة الذی أشرنا إلیه معلّق علی تحقّق مجیئه ولا یفید فی تحقّق مضمون الجزاء مع عدم مجیئه وصول کتابه مثلاً وأنّه لو وصل کتابه قبل مجیئه لا یتحقق مضمون الجزاء بل تحققه یکون بمجیئه وإطلاق الشرط أی عدم ذکر العدل له فی مقام الإثبات ینفی حدوث مضمون الجزاء بحصول غیر المجیء، وأمّا تحقّق مضمون الجزاء بلا حصول المجیء ولا غیره أصلاً بأن یتحقّق مضمون الجزاء منجّزاً فهذا یدفعه نفس التعلیق الوارد فی القضیة الشرطیة لا إطلاق الشرط، کما لا یخفی.

[1] قد ظهر مما ذکرنا أنّ مقتضی القضیة الشرطیة هو أنّ الجزاء _ أی مضمون القضیة الجزائیة _ لیس حکماً منجزاً بأن یحصل مضمونه بلا تعلیق، وهذا مقتضی التعلیق بالشرط بأداته فی القضیة الشرطیة وضعاً، وأمّا دلالته علی عدم تحقّق مضمون الجزاء بحصول أمر آخر غیر ما ورد فی المقدّم فی الشرط فهو لإطلاق

ص :142

کونه شرطاً، فإن قوله تعالی: «واستشهدوا شهیدین من رجالکم»(1) یمنع من قبول الشاهد الواحد، حتی ینضم إلیه شاهد آخر، فانضمام الثانی إلی الأول شرط فی القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتین إلی الشاهد الأول شرط فی القبول، ثم علمنا أن ضم الیمین یقوم مقامه أیضاً، فنیابة بعض الشروط عن بعض أکثر من أن تحصی، مثل الحرارة، فإن انتفاء الشمس لا یلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قیام النار مقامها، والأمثلة لذلک کثیرة شرعاً وعقلاً.

الشَرح:

الشرط وعدم ذکر العدل له.

وعلیه فإذا وردت فی خطابٍ آخر _ القضیة الواردة فی الجزاء علی نحو التنجیز دون التعلیق بأن ورد فی خطاب: «الماء الراکد لا ینفعل» فلابدّ من رفع الید عن ظهور هذا الخطاب بظهور القضیة الشرطیة وضعاً فی قوله: «إذا بلغ الماء الراکد کرّاً لا ینفعل» حیث علّق اعتصام الماء الراکد علی بلوغه کرّاً، کما أنّه إذا فرض أنّه ورد فی خطاب: «الماء الراکد غیر الکر لا ینفعل» تقع المعارضة بین هذا الخطاب وبین مفهوم القضیة الشرطیة، فلابدّ من الرجوع إلی مرجّحات باب التعارض.

وأمّا إذا ورد فی خطابٍ آخر عدل للشرط الوارد فی القضیة الشرطیة کما إذا ورد بعد خطاب «إذا جائک زید فأکرمه» خطاب آخر «إذا وصل إلیک کتاب زید فأکرم زیداً»، فیرفع الید عن إطلاق المفهوم فی الخطاب الأوّل الدال علی عدم مطلوبیة إکرامه علی تقدیر عدم مجیئه فی صورة وصول کتابه، فتکون النتیجة ثبوت الطلب بإکرامه فی فرضی مجیئه، ووصول کتابه، علی ما سیأتی توضیحه فیما بعد من أنّ مقتضی الجمع هو الجمع بمفاد «أو» لا بمفاد واو الجمع.

ص :143


1- (1) البقرة : 282.

والجواب: أنه قدس سره إن کان بصدد إثبات إمکان نیابة بعض الشروط عن بعض فی مقام الثبوت وفی الواقع، فهو مما لا یکاد ینکر، ضرورة أن الخصم یدعی عدم وقوعه فی مقام الإثبات، ودلالة القضیة الشرطیة علیه، وإن کان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرد الإحتمال لا یضره، ما لم یکن بحسب القواعد اللفظیة راجحاً أو مساویاً، ولیس فیما أفاده ما یثبت ذلک أصلاً، کما لا یخفی.

ثانیها: إنه لو دلّ لکان بإحدی الدلالات، والملازمة کبطلان التالی ظاهرة، وقد أجیب عنه بمنع بطلان التالی، وأن الإلتزام ثابت، وقد عرفت بما لا مزید علیه ما قیل أو یمکن أن یقال فی إثباته أو منعه، فلا تغفل.

ثالثها: قوله تبارک وتعالی: «ولا تکرهوا فتیاتکم علی البغاء إن أردن تحصناً»(1).

وفیه ما لا یخفی، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطیة فیما لا مفهوم له أحیاناً وبالقرینة، لا یکاد ینکر، کما فی الآیة وغیرها، وإنما القائل به إنما یدعی ظهورها فیما له المفهوم وضعاً أو بقرینة عامة، کما عرفت.

الشَرح:

وبالجملة إذا وردت القضیة المتضمنة للحکم والموضوع معلّقاً علی شرط فی القضیة الشرطیة فمقتضی إطلاق الشرط ثبوت مضمون الجزاء بحدوث ذلک الشرط ولا ینفع فی تحقّق الحکم الوارد فی الجزاء حدوث غیره قبل الشرط الوارد أو بعده أو بدونه، وهذا الإطلاق ینفی العدل للشرط أو اعتبار تحقّق أمر آخر معه بأن یکون حصول الأمرین شرطاً کما هو معنی واو الجمع، وهو أیضاً مراد الماتن من الجواب عن استدلال السید قدس سره بقوله: «إنّ الخصم یدعی عدم الوقوع فی مقام الإثبات ودلالة القضیة الشرطیة علیه» ما ذکرنا من أنّ مدّعی المفهوم للقضیة الشرطیة یدّعی دلالتها علی عدم قیام شرط آخر مقام الشرط الوارد فی القضیة الشرطیة.

ص :144


1- (1) النور : 33.

بقی هاهنا أمور:

الأمر الأول: إنّ المفهوم هو انتفاء سنخ الحکم المعلق علی الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه[1]، ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه ولو ببعض قیوده، فلا یتمشی الکلام __ فی أن للقضیة الشرطیة مفهوماً أو لیس لها مفهوم __ إلاّ فی مقام کان هناک ثبوت سنخ الحکم فی الجزاء، وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممکناً، وإنّما وقع النزاع فی أن لها دلالة علی الإنتفاء عند الإنتفاء، أو لا یکون لها دلالة.

ومن هنا انقدح أنه لیس من المفهوم دلالة القضیة علی الإنتفاء عند الإنتفاء فی الوصایا والأوقاف والنذور والأیمان، کما توهم، بل عن الشهید فی تمهید القواعد، أنه لا إشکال فی دلالتها علی المفهوم، وذلک لأنّ انتفاءها عن غیر ما هو المتعلق لها، من الأشخاص التی تکون بألقابها أو بوصف شیء أو بشرطه، مأخوذة فی العقد أو مثل العهد لیس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب علیه، بل لأجل أنه إذا صار شیء وقفاً علی أحد أو أوصی به أو نذر له، إلی غیر ذلک، لا یقبل أن یصیر وقفاً علی غیره أو وصیة أو نذراً له، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصیة عن غیر مورد المتعلق، قد عرفت أنه عقلی مطلقاً ولو قیل بعدم المفهوم فی مورد صالح له.

الشَرح:

سنخ الحکم وشخصه

[1] حاصل مراده قدس سره انّ الکلام فی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة وعدمه، یختصّ بما إذا کان الحکم الوارد فی الجزاء حکماً یمکن أن یثبت سنخه فی غیر مورد الشرط ثبوتاً ویمکن أن لا یثبت، وأمّا الموارد التی لا یمکن أن یثبت سنخ الحکم فی غیر مورد الشرط لکون الحکم من قبیل الشخص کما فی موارد الوصیة بشیء لشخص، أو نذره، أو وقفه علی أشخاص فیکون انتفائه عن غیر مورد الوصیة والوقف والنذر من ارتفاع الحکم بانتفاء موضوعه، وهذا لا یرتبط بالمفهوم ولذا

ص :145

إشکال ودفع: لعلک تقول: کیف یکون المناط فی المفهوم هو سنخ الحکم؟ لا نفس شخص الحکم فی القضیة، وکان الشرط فی الشرطیة إنما وقع شرطاً بالنسبة إلی الحکم الحاصل بإنشائه دون غیره، فغایة قضیتها انتفاء ذاک الحکم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، وهکذا الحال فی سائر القضایا التی تکون مفیدة للمفهوم.

ولکنک غفلت عن أن المعلق علی الشرط، إنما هو نفس الوجوب الذی هو مفاد الصیغة ومعناها، وأما الشخص والخصوصیة الناشئة من قبل استعمالها فیه، لا تکاد تکون من خصوصیات معناها المستعملة فیه، کما لا یخفی، کما لا تکون الخصوصیة الحاصلة من قبل الإخبار به، من خصوصیات ما أخبر به واستعمل فیه إخباراً لا إنشاءً.

الشَرح:

لا یفرق التعبیر فی هذه الموارد بین الجملة الشرطیة والوصفیة واللقبیة.

ولکن قد یشکل علی الالتزام بالمفهوم بأنّ الحکم الثابت فی الجزاء فرد من الحکم ولو ثبت ذلک الحکم فی غیر مورد الشرط لکان فی الحقیقة فرد آخر من الحکم حصل بإنشاء آخر، وغایة القضیة الشرطیة ومقتضاها انتفاء الفرد الأول من الحکم بانتفاء الشرط الوارد فیها فمن أین یستفاد انتفاء الفرد الآخر من الحکم المعلّق علی حصول شرط آخر.

وأجاب الشیخ الأعظم قدس سره بأنّه لا مورد للإشکال فیما إذا کان الحکم فی القضیة الجزائیة بنحو الاخبار عن طبیعی الطلب المتعلّق بالفعل.

نعم، إذا کان الوارد فی الجزاء القضیة الإنشائیة یکون الحکم جزئیّاً کما إذا قیل: «إن جائک زید فأکرمه» فالمعلّق علی مجیئه معنی جزئی لا یکون له إطلاق، حیث إنّ الثابت بالإنشاء فرد من الطلب المنشأ بذلک القول إلاّ أنّه یستفاد أیضاً من القضیة

ص :146

وبالجملة: کما لا یکون المخبر به المعلق علی الشرط خاصاً بالخصوصیات الناشئة من قبل الإخبار به، کذلک المنشأ بالصیغة المعلق علیه، وقد عرفت بما حققناه فی معنی الحرف وشبهه، أن ما استعمل فیه الحرف عام کالموضوع له، وأن خصوصیة لحاظه بنحو الآلیّة والحالیّة لغیره من خصوصیة الاستعمال، کما أن خصوصیة لحاظ المعنی بنحو الإستقلال فی الإسم کذلک، فیکون اللحاظ الآلی کالاستقلالی، من خصوصیات الإستعمال لا المستعمل فیه.

وبذلک قد انقدح فساد ما یظهر من التقریرات فی مقام التفصی عن هذا الاشکال، من التفرقة بین الوجوب الإخباری والآءنشائی، بأنه کلی فی الأول، وخاص فی الثانی، حیث دفع الإشکال بأنه لا یتوجه فی الأول، لکون الوجوب کلیاً، وعلی الثانی بأن ارتفاع مطلق الوجوب فیه من فوائد العلیة المستفادة من الجملة الشرطیة، حیث کان ارتفاع شخص الوجوب لیس مستنداً إلی ارتفاع العلة المأخوذة فیها، فإنه یرتفع ولو لم یوجد فی حیال أداة الشرط کما فی اللقب والوصف.

الشَرح:

الشرطیة أنّ العلّة لطبیعی طلب إکرامه مجیئه فانتفاء وجوب إکرامه مع انتفاء مجیئه هو مقتضی هذه العلّیة.

ویرد علی ما ذکره قدس سره بأنّ غایة ما یستفاد منها انّ طلب إکرام زید عند مجیئه، لمجیئه وهذا لا یقتضی عدم طلب إکرامه عند وصول کتابه لوصول کتابه، خصوصاً إذا کانت الشرطیة کقوله: «إذا جائک زید فأکرمه».

وأورد الماتن قدس سره بأنّ معنی الهیئة والصیغة کما تقدّم فی معانی الحروف کمعانی الأسماء والخصوصیات الناشئة من الاستعمال لا تدخل فی المستعمل فیه، وکما أنّ الخصوصیات الناشئة من الإخبار لا تدخل فی المستعمل فیه کذلک الخصوصیات الناشئة من الإنشاء.

ص :147

وأورد علی ما تفصی به عن الاشکال بما ربما یرجع إلی ما ذکرناه، بما حاصله: إن التفصی لا یبتنی علی کلیّة الوجوب، لما أفاده، وکون الموضوع له فی الإنشاء عاماً لم یقم علیه دلیل، لو لم نقل بقیام الدلیل علی خلافه، حیث إنّ الخصوصیات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

وذلک لما عرفت من أن الخصوصیات فی الإنشاءات والإخبارات، إنما تکون ناشئة من الإستعمالات بلا تفاوت أصلاً بینهما، ولعمری __ لا یکاد ینقضی تعجبی __ کیف تجعل خصوصیات الإنشاء من خصوصیات المستعمل فیه؟ مع أنها کخصوصیات الإخبار، تکون ناشئة من الاستعمال، ولا یکاد یمکن أن یدخل فی المستعمل فیه ما ینشأ من قبل الاستعمال، کما هو واضح لمن تأمل.

الأمر الثانی: إنه إذا تعدد الشرط، مثل (إذا خفی الأذان فقصّر، وإذا خفی الجدران فقصّر)، فبناءً علی ظهور الجملة الشرطیة فی المفهوم[1]، لا بد من التصرف ورفع الید عن الظهور.

الشَرح:

وفیه کما ذکرنا فی معانی الحروف أنّ معانیها بذواتها متدلّیات فی معانی الأسماء ومدخولاتها ویکون جزئیة معانیها وکلّیتها بکلّیة مدخولاتها وجزئیتها، والمُنشئ بالإنشاء یعنی الطلب إذا کان متعلّقه وموضوعه ولو بحسب الحالات کلّیاً، لکان هو أیضاً کلّیاً، وتعلیق ذلک الکلّی _ کما هو مفاد القضیة الجزائیة علی تحقّق الشرط _ یقتضی انتفاء المدلول الکلّی علی تقدیر انتفاء الشرط علی ما تقدّم من أنّ ذلک مقتضی تعلیق الجملة الجزائیة أی مدلولها علی الشرط وضعاً وإطلاق الشرط الوارد فی القضیة الشرطیة.

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

[1] إذا تعدّد الشرط فی خطابین لجزاءٍ واحد بأن علم ولو من الخارج أنّ مع تحقّق الشروط لا یطلب الفعل مکرّراً لیجب علی المکلّف الوجودات من ذلک

ص :148

إما بتخصیص مفهوم کل منهما بمنطوق الآخر، فیقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطین.

وإما برفع الید عن المفهوم فیهما، فلا دلالة لهما علی عدم مدخلیة شیء آخر فی الجزاء، بخلاف الوجه الأول، فإن فیهما الدلالة علی ذلک.

وإما بتقیید إطلاق الشرط فی کل منهما بالآخر، فیکون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفیا وجب القصر، ولا یجب عند انتفاء خفائهما ولو خفی أحدهما.

وإما بجعل الشرط هو القدر المشترک بینهما، بأن یکون تعدد الشرط قرینة علی أن الشرط فی کل منهما لیس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما یعمهما من العنوان.

الشَرح:

الفعل، فبناءاً علی عدم المفهوم للقضیة الشرطیة لا معارضة بین الخطابین بل یؤخذ بمقتضی کلّ منهما وهو حصول ذلک الطلب بحصول کلّ واحد من الشرطین وجد معه الشرط الوارد فی الخطاب الآخر أم لا، کما إذا ورد فی خطاب «إذا خفی الأذان للمسافر یقصّر» وفی خطاب آخر «إذا خفی علیه الجدران یقصّر».

وأمّا بناءاً علی ظهور الجملة الشرطیة فی المفهوم یقع الکلام فی الجمع بینهما، وقد ذکر الماتن قدس سره فی الجمع بینهما وجوهاً:

الأوّل: أن یرفع الید عن المفهوم فی کلّ منهما بالمنطوق فی الخطاب الآخر ویکون نتیجة الجمع أنّه لا قصر للمسافر إلاّ مع خفاء الأذان أو مع خفاء الجدران.

والثانی: أن یرفع الید عن المفهوم فی کلّ من الشرطیتین ویثبت الحکم المزبور مع کلّ من الشرطین والفرق بین هذا الوجه والوجه الأوّل هو أنّه علی الأول یکون مقتضی المفهوم فی کلّ منهما عدم القصر مع فرضٍ ثالث بخلاف هذا الفرض فإنّه

ص :149

ولعل العرف یساعد علی الوجه الثانی، کما أن العقل ربما یعین هذا الوجه، بملاحظة أن الأمور المتعددة بما هی مختلفة، لا یمکن أن یکون کل منها مؤثراً فی واحد، فإنه لا بد من الربط الخاص بین العلة والمعلول، ولا یکاد یکون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالإثنین بما هما اثنان، ولذلک أیضاً لا یصدر من الواحد إلاّ الواحد، فلا بد من المصیر إلی أن الشرط فی الحقیقة واحد، وهو المشترک بین الشرطین بعد البناء علی رفع الید عن المفهوم، وبقاء إطلاق الشرط فی کل منهما علی حاله، وإن کان بناء العرف والأذهان العامیة علی تعدد الشرط وتأثیر کل شرط بعنوانه الخاص، فافهم.

الشَرح:

یتعیّن عند نفی القصر فی فرض ثالث التمسّک بدلیلٍ آخر أو یؤخذ بالأصل العملی.

الثالث: الجمع بین القضیتین الشرطیتین بتقیید الشرط فی أحدهما بحصول الشرط فی الآخر بحیث یکون التقیید بمفاد واو الجمع فیتعین فی وجوب القصر خفاء الأذان وخفاء الجدران فلا قصر مع عدم اجتماعهما.

الرابع: أن تکشف القضیتان عن کون الشرط فی وجوب القصر هو الجامع بینهما، مثلاً الموضوع لوجوب القصر حصول البعد الخاص المتحقّق مع خفاء الجدران وخفاء الأذان، والعرف یساعد علی الوجه الثانی من الجمع ویتعیّن الوجه الرابع عقلاً، وذلک لقاعدة «الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد» ومنه الحکم الوارد فی الجزاء فیستحیل أن یصدر إلاّ عن واحد، حیث إنّه لابدّ من الربط الخاص بین المعلول وعلّته ولا یمکن أن یرتبط الواحد بالإثنین بما هما إثنان فلابدّ من المصیر إلی أنّ الشرط للجزاء یکون واحداً وهو حصول المشترک والقدر الجامع بین الشرطین ویبقی المفهوم فی کلّ منهما بحاله غیر أنّه یراد بالشرط الوارد فی کلّ من القضیتین تحقّق ذلک الجامع، والظاهر عدم الفرق عملاً بین هذا الوجه والوجه الأوّل.

ص :150

.··· . ··· .

الشَرح:

والوجه الخامس: أن یرفع الید عن المفهوم فی خصوص إحدی القضیتین الشرطیتین وبقاء الآخر منهما علی المفهوم ولکن الالتزام بهذا الوجه غیر صحیح إلاّ أن یکون ما أبقی علی مفهومه أظهر.

أقول: لا یخفی أنّ المعارضة فی الحقیقة بین مفهوم کلّ منهما مع المنطوق فی الأخری وإذا رفع الید عن مفهوم إحداهما مع أنّ کلاًّ منهما قضیة شرطیة تبقی المعارضة بین مفهوم الثانیة مع منطوق الأُولی بحالها، فرفع الید عن المفهوم فی إحداهما بمجرّده لا ینفع، ولا وقع لهذا الوجه الخامس أصلاً، کما لا وقع للجمع بالوجه الثانی، فإنّه إنّما یرفع الید عن الظهور بمقدار دلالة القرینة علی خلاف أصالة التطابق، ولذا لو ورد فی خطاب الأمر بإکرام العلماء بالعموم الوضعی أو الإطلاقی وورد فی خطاب آخر النهی عن إکرام قسم من العلماء فلا یمکن رفع الید عن العموم والإطلاق طرّاً، ومن العجب جعل الماتن قدس سره الوجه الثانی أقرب الوجوه عرفاً، ولعلّ هذا من تبعات الالتزام بأنّ ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة مبتن علی دلالتها علی کون الشرط علّة منحصرة للجزاء، ومع العلم بحصول الجزاء بشیء آخر یعلم أنّه لیس من العلّة المنحصرة فلا مفهوم لها.

وأمّا الوجه الرابع فقد ذکرنا مراراً بأنّ قاعدة «الواحد لا یصدر إلاّ عن الواحد» أجنبیّة عن مثل المقام مما یکون ثبوت الحکم وتحقّقه بالجعل من الحاکم، والجعل فعل إرادی یحتاج إلی المرجّح وهو صلاح الفعل إمّا فی کلتا الصورتین أو فی صورة واحدة وعلی ذلک یدور الأمر فی المقام بین الوجه الأول والثالث حیث إنّ مقتضی الأول تقیید الشرط بمفاد (أو) والثالث تقییده بمفاد (واو) الجمع، إذ دلالة المفهوم تبعیة ولیست قابلة للتصرّف بنفسها بل بتبع التصرف فی المنطوق.

ص :151

.··· . ··· .

الشَرح:

وذکر المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله، أنّ ترجیح أحد التقییدین علی الآخر بلا موجب، ووجوب القصر مع اجتماع الشرطین متیقّن ففی غیره یؤخذ بالأصل اللفظی لو کان، وإلاّ بالأصل العملی.

وبیان ذلک: انّ لکلّ قضیة شرطیة بناءاً علی المفهوم ظهورین، ظهور فی حدوث الحکم الوارد فی الجزاء بحدوث الشرط بمعنی أنّ الحکم فی الحدوث لا یحتاج إلی ضمّ شرط آخر إلی الشرط الوارد فی تلک القضیة، وظهور فی عدم حصول الحکم عند عدم حدوث الشرط الوارد فیها، وکلّ من الظهورین إطلاقی، فإنّ الأول مستفاد من إطلاق الشرط وعدم عطف شیء آخر علیه بواو الجمع، والثانی مستفاد من إطلاق الشرط بمعنی عدم ذکر العدل له بأو، وإذا تعدّدت القضیة الشرطیة مثل: «إذا خفی الأذان فقصّر وإذا خفی الجدران فقصّر» یحصل العلم الإجمالی بورود القید علی أحد الإطلاقین، فلا یمکن الأخذ بشیء منهما والمتیقّن ثبوت وجوب القصر عند تحقّق الشرطین وفی غیره یرجع إلی الأصل علی ما مرّ(1).

وذکر المحقّق العراقی قدس سره _ بعد بیان عدم إمکان التصرّف فی مفهوم القضیة الشرطیة بمنطوق القضیة الشرطیة الأخری حیث إنّ المفهوم مدلول تبعی لازم للخصوصیة فی المنطوق فیکون مرجع تقیید المفهوم فی أحدهما مع إبقاء منطوقه بحاله إلی التفکیک بین اللازم وملزومه وذلک یستدعی لابدّیة التصرّف فی عقد الوضع یعنی الشرط فی کلّ من القضیتین، إمّا برفع الید عن ظهورهما فی الاستقلال وعدم توقّف حصول الجزاء بعد حصول أحد الشرطین علی حصول الشرط الآخر،

ص :152


1- (1) أجود التقریرات 1 / 425.

.··· . ··· .

الشَرح:

أو برفع الید عن ظهورهما فی الانحصار أی عدم حصول الجزاء بحصول شیء آخر، وبما أنّ رفع الید عن ظهور الشرط فی الاستقلال یوجب بطلان ظهوره فی الانحصار بخلاف رفع الید عن الانحصار فإنّه یبقی معه ظهور الشرط فی الاستقلال والضرورات تتقدّر بقدرها فتکون النتیجة حصول الجزاء بأوّل الشرطین، فإن تمّ ذلک فهو، وإلاّ تصل النوبة إلی الأصل العملی ومقتضاه وجوب التمام عند الذهاب إلی السفر إلی أن یحصل الشرطان _ أی خفاء الاذان وخفاء الجدران _ وبقائه علی القصر فی الایاب إلی أن ینتفی کلا الخفائین(1).

أقول: لا یخفی ما فیه، فإنّ کون الضرورات تتقدّر بقدرها لا تعدّ من القرائن العرفیة، مع أنّ دلالة القضیة الشرطیة علی الانحصار تنتزع من دلالتها علی جهتین:

الأولی: دلالتها علی تحقّق الجزاء بتحقّق الشرط ولو بانفراده.

والثانیة: عدم تحقّق الجزاء بتحقّق شیء آخر، والمرتفع بتقیید الشرط بواو الجمع هو إطلاق الجهة الأُولی المعبّر عنها بمدلول المنطوق، وأمّا الجهة الثانی وهی دلالتها علی عدم تحقّق الجزاء مع انتفاء الشرط الوارد فیها فهی باقیة بحالها إذ مع التقیید بواو الجمع لا یکفی فی تحقّق الجزاء حصول الشرط الآخر بانفراده.

وبالجملة فالأمر فی المقام یدور بین أن یرفع الید عن إطلاق الشرط فی کلّ من الشرطیتین بتقییده بواو الجمع أو تقییده بأو العاطفة، ولابدّ فی تقدیم أحدهما من معیّن کما تقدّم فی کلام المحقّق النائینی قدس سره ومع عدم القرینة علی التعیین یرجع إلی الأصل.

ص :153


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 485.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکن یمکن أن یقال بأنّ تقیید إطلاق کلّ من الشرطین بواو الجمع بلا موجب لعدم المعارضة بین إطلاقهما من هذه الجهة، وإنّما المعارضة بین إطلاق کلّ منهما المقتضی لثبوت المفهوم وبین أصل المنطوق فی الآخر، وهذه المعارضة وإن کانت ترتفع بتقیید کلّ شرط بواو الجمع إلاّ أنّ التقیید لابدّ من وروده علی الظهورین الذین بینهما تنافٍ، والتنافی کما ذکرنا بین المفهوم لإحدی القضیتین وبین المنطوق من الأخری، ولذا لو بنی علی إنکار المفهوم للقضیة الشرطیة لما کان بینهما تنافٍ وکان کلّ شرط یثبت حصول ذلک الجزاء بانفراده.

وبالجملة بما أنّ المعارضة فی المقام تنحصر بالمفهوم فی کلٍّ منهما مع أصل المنطوق فی الأخری فیرفع الید عن الإطلاق فی کلٍّ من الشرطیتین بقرینة أصل المنطوق فی الأخری، فیکون التقیید بمفاد أو العاطفة.

لا یقال: ما ذکر من عدم المعارضة بین منطوق کلّ واحدٍ من الشرطیتین مع قطع النظر عن المفهوم فیهما یختصّ بما إذا أمکن تکرّر حدوث الحکم فی حقّ المکلّف مع حدوث کلّ من الشرطین کما إذا ورد «إذا قرأت آیة السجدة فاسجد» وورد فی خطابٍ آخر «إذا أصغیت إلی قراءة آیة السجدة فاسجد» فاستمع المکلّف إلی قراءتها ثمّ قرأها فإنّ علیه إتیان سجدتین فیرفع الید بناءً علی المفهوم من إطلاق کلّ مفهوم بالمنطوق الوارد فی الآخر، نظیر «إذا جائک زید فأکرمه» وورد فی خطابٍ آخر «إذا وصل إلیک کتابه فأکرمه» حیث لا مانع من الالتزام بحدوث طلب إکرامه بحدوث کلّ من الشرطین لانحصار التعارض بینهما بناءً علی المفهوم بإطلاق الشرطین المقابل للعطف ب_(أو) فیجمع بین مفهوم کلّ منهما ومنطوق الآخر بالتقیید فی الشرطین بمفاد أو العاطفة. وأمّا إذا علم عدم تکرّر الحکم أصل الجعل بحدوث کلّ من

ص :154

.··· . ··· .

الشَرح:

الشرطین مع تحقّقهما کما فی قوله «إذا خفی الأذان فقصّر وإذا خفی الجدران فقصّر» حیث یعلم بعدم وجوب أزید من خمس صلوات علی المکلّف فی کلّ یوم ولیلة یقع التعارض بین الشرطیتین بالإضافة إلی أحد الإطلاقین من غیر معیّن، ولذا لو لم نقل بالمفهوم أیضاً لوقع التعارض بین المنطوقین لظهور کلّ منهما فی حدوث وجوب القصر بحصوله حتّی فیما إذا کان حصول الآخر قبله.

والحاصل أنّه لا یمکن فیهما أن یکون کلّ من خفاء الأذان وخفاء الجدران موضوعاً لوجوب القصر، نظیر مجیء زید ووصول کتابه، وعلیه فیعود ما تقدّم من أنّه لو قیل بعدم المفهوم للقضیة الشرطیة یکون مفاد الشرطیتین وجوب صلاة الظهر قصراً بخفاء الأذان وحدوث وجوب قصر آخر بخفاء الجدران مع أنّ المعلوم عدم ثبوت کلا الحکمین معاً بل الثابت وجوب صلاة واحدة قصراً، فلابدّ من أن یکون الموضوع له إمّا خفاء الأذان وخفاء الجدران معاً أو أحدهما بلا تعیین، ولابدّ من تقیید الشرطین حتّی بناءاً علی عدم المفهوم أیضاً، إمّا بمفاد واو الجمع أو بمفاد أو العاطفة، ومع عدم القرینة لخصوص أحدهما تکون الشرطیتان مجملتین یحکم بوجوب القصر عند خفاءهما معاً، وفی غیره یرجع إلی أصل لفظی أو عملی علی ما تقدّم فی کلام المحقق النائینی قدس سره .

فإنّه یقال: فی فرض العلم باتّحاد الجزاء فی الشرطیتین وأنّ الصلاة الواجبة علی المکلّف قصراً لا تزید علی صلاة واحدة نعلم قطعاً بعدم تکرار حدوث وجوب القصر بحدوث کلّ من الشرطین سواء کان الموضوع لوجوب القصر مجموع الخفائین أو خصوص الحاصل منهما أوّلاً، وعلی ذلک فظهورهما فی حصول الجزاء وحدوثه فی فرض حدوثهما تدریجاً ملغیً عن الاعتبار یقیناً.

ص :155

.··· . ··· .

الشَرح:

ویتمسّک بإطلاق کلّ منهما یعنی الإطلاق المقابل لمفاد واو الجمع ویحکم بأنّه یکفی فی وجوب القصر حصول أیّ منهما لعدم العلم بخلاف هذا الإطلاق فی شیء من الشرطیتین وینحصر التعارض بینهما علی صورة الالتزام بالمفهوم فی کلّ منهما مع المنطوق الآخر، والمنشأ لهذا التعارض هو إطلاق کلّ من الشرطین فی کلّ من القضیتین، أی الإطلاق المقابل ل(أو) العاطفة، فتدبّر جیّداً.

لا یقال: المعارضة وإن کانت بین المفهوم لکلٍّ من القضیتین والمنطوق من الأخری بناءاً علی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة إلاّ أنّ المنطوق فی القضیة الأخری لیس بأخصّ من المفهوم حتّی یرفع الید عن مفهوم کلّ منهما بالمنطوق فی الأخری، بل النسبة بین المفهوم لکلٍّ منهما والمنطوق من الأخری العموم من وجه، وذلک فإنّ المفهوم لقوله: «إذا خفی الأذان فقصّر» عدم القصر مع عدم خفاء الأذان سواء اقترن مع عدم خفاء الأذان، خفاء الجدران أو شیء آخر، کما أنّ المنطوق فی القضیة الأخری ثبوت القصر مع خفاء الجدران، کان معه خفاء الأذان أو لم یکن، وإذا لم یکن فی البین خفاء الأذان ولکن کان غیر خفاء الجدران کبرودة الهواء مثلاً یؤخذ بالمفهوم بلا معارض، وإذا کان فی البین خفاء الجدران مع خفاء الأذان یؤخذ بالمنطوق فی قوله: «إذا خفی الجدران فقصّر» بلا معارض، وإذا خفی الجدران ولم یخف الأذان تقع المعارضة بین المفهوم النافی لوجوب القصر وبین المنطوق الدالّ علی ثبوت القصر مع خفاء الجدران فلا وجه لتقدیم إطلاق المنطوق ورفع الید عن إطلاق المفهوم مع أنّ دلالة کلّ منهما علی مورد المعارضة بالإطلاق.

فإنّه یقال: ما ذکر خلط بین الإطلاق المقابل لواو الجمع وبین الإطلاق المقابل ل_(أو) العاطفة، وقد بیّنا علی ما مرّ لا معارضة بین القضیتین الشرطیتین بالإضافة إلی

ص :156

الأمر الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فلا إشکال علی الوجه الثالث[1]، وأما علی سائر الوجوه، فهل اللازم لزوم الاتیان بالجزاء متعدداً، حسب تعدد الشروط؟ أو یتداخل، ویکتفی بإتیانه دفعة واحدة؟.

فیه أقوال: والمشهور عدم التداخل، وعن جماعة __ منهم المحقق الخوانساری __ التداخل، وعن الحلی التفصیل بین اتحاد جنس الشروط وتعدده.

والتحقیق: إنه لما کان ظاهر الجملة الشرطیة، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه، أو بکشفه عن سببه، وکان قضیته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط، کان الشَرح:

إطلاقهما المقابل لواو الجمع، وإنّما تکون المعارضة بین الإطلاق المقابل لأو العاطفة من إحدی القضیتین مع أصل ثبوت المنطوق فی الأخری بناءاً علی القول بالمفهوم فإنّه علی القول بالمفهوم یکون مفهوم قوله: «إذا خفی الأذان فقصّر» لیس مع عدم خفاء الأذان موضوع وموجب آخر لقصر الصلاة سواء کان ذلک الآخر خفاء الجدران أو غیره، ومدلول المنطوق للقضیة الأخری أنّ خفاء الجدران بنفسه موجب لوجوب القصر فی الصلاة، وبما أنّ خفاء الجدران بنفسه موجب لقصر الصلاة کما هو أصل منطوق قوله «إذا خفی الجدران فقصّر» یکون هذا المدلول أخصّ من المدلول الإطلاقی لقوله «إذا خفی الأذان فقصّر» المعبّر عن لازم هذا المدلول الإطلاقی بالمفهوم، فلاحظ ولا تغفل.

تداخل الأسباب والمسبّبات

[1] إذا تعدّدت القضیة الشرطیة وقد ذکر فی کلّ منها حکم من سنخٍ واحد متعلّق بطبیعی الفعل کما إذا ورد فی خطاب «إذا أجنبت فاغتسل» وفی خطابٍ آخر «إذا مسست میتاً فاغتسل»، فقد ذکر الماتن قدس سره أنّه إذا بنی فی الأمر السابق علی الوجه الثالث وهو رفع الید فی کلّ من الشرطیتین عن الإطلاق المقابل لواو الجمع

ص :157

الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقیقة أو وجوداً محالاً، ضرورة أن لازمه أن یکون الحقیقة الواحدة __ مثل الوضوء __ بما هی واحدة، فی مثل (إذا بلت فتوضزأ، وإذا نمت فتوضأ)، أو فیما إذا بال مکرراً، أو نام کذلک، محکوماً بحکمین متماثلین، وهو واضح الاستحالة کالمتضادین.

فلا بد علی القول بالتداخل من التصرف فیه: إما بالإلتزام بعدم دلالتها فی هذا الحال علی الحدوث عند الحدوث، بل علی مجرد الثبوت، أو الإلتزام بکون متعلق الجزاء وإن کان واحداً صورة، إلاّ أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط، متصادقة علی واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتکالیف متعددة، حسب تعدد الشروط، إلاّ أن

الشَرح:

فلا إشکال فی هذا الأمر أیضاً، حیث یلتزم بأنّ تحقّق الجنابة والمسّ یعنی مجموعهما یوجب الغسل علی المکلّف. ولکن لا یخفی عدم توقّف الکلام فی هذا الأمر علی الالتزام بالمفهوم للقضیة الشرطیة، بل یجری علی القول بعدم المفهوم یکتفی بالإتیان بصرف وجود ذلک الفعل لأنّ مع تعدّد الشرط أیضاً یحصل حکم لها أیضاً، فإنّ المهم فی المقام علاج المنافاة بین ظهور الشرط فی کلٍّ من الشرطیتین بحدوث الجزاء عند حدوث الشرط وظهور الجزاء الوارد فیهما فی أنّه حکم واحد متعلّق بطبیعی الفعل ویطلب صرف وجوده ومقتضی ظهور کلّ شرط فی حدوث الجزاء عند حدوثه هو تعدّد الحکم ثبوتاً بتعدّد الشرط بأن یحصل مع کلّ شرط فرد من ذلک الحکم فتکون النتیجة حصول وجوبات متعدّدة عند حصول الشروط، وبما أنّ کلّ حکم لابدّ من تعلّقه بغیر ما تعلّق به الحکم الآخر فیقتضی تعدّد الحکم الإتیان بالمتعدّد من الطبیعی کما علیه القائل بعدم التداخل فی المسببات، أو واحد متعلّق بطبیعی ذلک الفعل ثبوتاً، کما هو مقتضی وحدة الجزاء إثباتاً وهذا معنی التداخل فی الأسباب.

ص :158

الإجتزاء بواحد لکونه مجمعاً لها ، کما فی (أکرم هاشمیاً وأضف عالماً)، فأکرم العالم الهاشمی بالضیافة، ضرورة أنه بضیافته بداعی الأمرین، یصدق أنه امتثلهما، ولا محالة یسقط الأمر بامتثاله وموافقته، وإن کان له امتثال کل منهما علی حدة، کما إذا أکرم الهاشمی بغیر الضیافة، وأضاف العالم غیر الهاشمی.

إن قلت: کیف یمکن ذلک __ أی الامتثال بما تصادق علیه العنوانان __ مع استلزامه محذور اجتماع الحکمین المتماثلین فیه؟

الشَرح:

وعلی ذلک، فمن أخذ بظهور کلّ من الشرطیتین فی حدوث الحکم بحدوث کلّ شرط حیث إنّ الجزاء فی هذا الأمر قابل للتعدّد والتکرار فقد أنکر التداخل فی الأسباب، ومن أخذ بظاهر الجزاء وأنّ الوارد فی کلّ من الشرطیتین حکم واحد ثبوتاً التزم بالتداخل فی الأسباب، وهذا الکلام یجری حتّی فیما کان الحکم الواحد وارداً فی القضیة الحملیة کما إذا ورد فی خطاب أنّ النوم موجب للوضوء أو الجنابة موجبة للغسل، وورد فی خطابٍ ثانٍ أنّ البول موجب للوضوء أو أنّ مسّ المیت یوجب الغسل.

وممّا ذکر ظهر أنّ ما ذکره الماتن قدس سره من عدم الإشکال فی الحکم بناءاً علی الوجه الثالث فی الأمر السابق لا یمکن المساعدة علیه، وذلک فإنّ الجزاء فی الأمر السابق کان غیر قابل للتکرار بحسب الحکم وکان التعارض منحصراً بین المفهوم لکلٍّ من القضیتین ومنطوق الأخری، بخلاف هذا الأمر فإنّ الحکم فی الجزاء یقبل التعدّد فیمکن للقائل بالوجه الثالث فی الأمر السابق إنکار التداخل فی الأسباب فی هذا الأمر مع إنکاره التداخل فی المسبّبات.

وبالجملة المنافاة فی المقام بین ظهور الجزاء فی الشرطیتین مع ظهور شرطهما فإنّ مقتضی ظهور الجزاء فیهما وحدة الحکم مع حصول الشرطین ومقتضی ظهور الشرطین هو استقلال کلّ منهما فی الموضوعیة حتّی مع حصولهما، ولا ترتبط هذه

ص :159

قلت: انطباق عنوانین واجبین علی واحد لا یستلزم اتصافه بوجوبین، بل غایته أن انطباقهما علیه یکون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له، مع أنه __ علی القول بجواز الإجتماع __ لا محذور فی اتصافه بهما، بخلاف ما إذا کان بعنوان واحد، فافهم.

أو الإلتزام بحدوث الأثر عند وجود کل شرط، إلاّ أنه وجوب الوضوء فی المثال عند الشرط الأول، وتأکد وجوبه عند الآخر.

الشَرح:

المنافاة بالقول بالمفهوم للجملة الشرطیة کما بیّنا.

ثمّ إنّه لو لم یثبت ظهور القضایا فی شیء مع وحدة الجزاء الوارد فیهما إثباتاً ووصلت النوبة إلی الأصل العملی فالأصل عند احتمال التداخل فی الأسباب هو التداخل، لأنّ حصول حکم واحد عند تحقّق الشرط الوارد فیهما محرز وحدوث الزائد مشکوک یدفع بالأصل، کما أنّه إذا أحرز تعدّد الحکم عند تحقّق الشرطین واحتمل التداخل فی المسبّبات فمقتضی الأصل علی ما ذکروه عدم التداخل، لأنّ الاشتغال بالتکلیفین مع حدوث الشرطین محرز والأصل بقاء الثانی بعد الإتیان بالفعل مرّة.

نعم، بناءاً علی إنکار اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة فیمکن أن یقال بأنّ ثبوت الحکم الآخر بعد الإتیان بالفعل مرّة غیر محرز فیرفع بحدیث الرفع.

لا یقال: لا مجال للبراءة فی المقام حتّی بناءاً علی عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف فی الشبهات الحکمیة، لأنّ العلم بحدوث التکلیفین مع حصول الشرطین یقتضی إحراز امتثال کلّ منهما.

فإنّه یقال: لیس فی البین ما یقتضی لزوم الاحتیاط فی کلّ مورد یشک فی سقوط التکلیف وعدم حصول امتثاله، بل هذا یختصّ بموارد عدم جریان البراءة عن التکلیف، کما فی أطراف العلم الإجمالی، سواء کانت الشبهة موضوعیة أم حکمیة

ص :160

ولا یخفی أنه لا وجه لأن یصار إلی واحد منها، فإنه رفع الید عن الظاهر بلا وجه، مع ما فی الأخیرین من الاحتیاج إلی إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق علی واحد، وإن کان صورة واحداً سمی باسم واحد، کالغسل، وإلی إثبات أن الحادث بغیر الشرط الأول تؤکد ما حدث بالأول، ومجرد الإحتمال لا یجدی، ما لم یکن فی البین ما یثبته.

الشَرح:

مثلاً إذا تردّدت وظیفة المکلّف بین القصر والتمام فلا یمکن أن یجری البراءة عن وجوب إحدی الصلاتین بعد الإتیان بالأخری بدعوی أنّ تعلّق التکلیف بالثانیة وثبوته بعد الإتیان بالأولی غیر محرز، وذلک فإنّ وجوب المأتی بها أوّلاً غیر محرز أیضاً وأصالة البراءة عن وجوب التمام مثلاً بعد الإتیان بالصلاة قصراً کانت معارضة من قبل، بأصالة البراءة عن وجوب الأولی، وکذا لا تجری البراءة فی الشبهة الموضوعیة کما لو شک فی الإتیان بوظیفة الوقت، فإنّ الاستصحاب فی ناحیة عدم الإتیان بها یعیّن بقاء وجوبها، هذا کلّه فیما إذا کان الجزاء الوارد فی القضیة الشرطیة قد تضمّن حکماً تکلیفیاً.

وأمّا إذا کان وضعیاً، فالأصل عند الشک فی تداخل الأسباب هو التداخل أیضاً، لأنّ الأصل عدم حدوث الزائد علی الحکم الوضعی الواحد. وإن کان الشک فی تداخل المسبّبات فتختلف الموارد، فتارةً یقتضی الأصل عدم التداخل، کما إذا مسّ میّتاً بعد برودته وأجنب، وقلنا بأنّ الطهارة المشروط بها الصلاة أمر مسبّبی یحصل بالوضوء والغسل أو التیمّم، وعلیه فإذا اقتصر المکلّف علی غسل واحد لا نحرز حصول تلک الطهارة، ومقتضی الأصل عدم حصولها، بخلاف ما إذا اغتسل لکلّ من المسّ والجنابة فانّه یجزی حصولها، ولو قلنا بأنّ الطهارة عنوان لنفس تلک الأفعال فاشتراط الصلاة من المکلّف بالغسل الآخر بعد اغتساله بأحدهما غیر محرز،

ص :161

إن قلت: وجه ذلک هو لزوم التصرف فی ظهور الجملة الشرطیة، لعدم امکان الأخذ بظهورها، حیث إن قضیته اجتماع الحکمین فی الوضوء فی المثال، کما مرت الإشارة إلیه.

قلت: نعم، إذا لم یکن المراد بالجملة __ فیما إذا تعدد الشرط کما فی المثال __ هو وجوب وضوء مثلاً بکل شرط غیر ما وجب بالآخر، ولا ضیر فی کون فرد محکوماً بحکم فرد آخر أصلاً، کما لا یخفی.

الشَرح:

ومقتضی البراءة عدم اشتراط صلاته بغسلٍ آخر بعد اغتساله لأحدهما، وهذا یساوی التداخل فی المسبّبات بحسب النتیجة.

فالمحقّق النائینی قدس سره وإن ذکر اختلاف الموارد فی التداخل فی المسبّبات بحسب الوضع ولکن التزم بعدم التداخل فیها فی التکالیف، کما أنّ بعض الأعلام قدس سرهم التزم بأنّ الأصل عدم التداخل فی المسبّبات بلا فرقٍ بین الوضع والتکلیف، وقد ذکرنا بأنّ مقتضی الأصل العملی فی التکالیف التداخل وفی الوضع یختلف ولا یفرق فیما ذکرنا من الأصل العملی بین القول بأنّ الأغسال طبائع مختلفة أو أنّها حقیقة واحدة، کما یظهر ذلک للمتأمّل.

وکیف کان فالاحتمالات فی دفع المنافاة بین ظهور الجزاء فی وحدة الحکم وظهور الشرط فی التعدّد _ أی حدوث الحکم بحدوث کلّ من الشرطین أو الشرائط أو حدوث الحکم بحدوث کلّ فرد من أفراد الشرط _ أربعة:

الأوّل: کون المراد من کلّ قضیة شرطیة فعلیة الحکم الوارد فی الجزاء حین حدوث کلّ شرط _ سواء کان حدوث ذلک الحکم حین حدوث الشرط الوارد فیها أو من قبل حدوثه، کما إذا کان حدوثه مسبوقاً بحدوث شرطٍ آخر أو فردٍ آخر _ ففی هذه الصورة لا دلالة للقضیة الشرطیة بحدوث الحکم عند حدوث الجزاء، بل یدلّ فیما

ص :162

إن قلت: نعم، لو لم یکن تقدیر تعدد الفرد علی خلاف الإطلاق.

قلت: نعم، لو لم یکن ظهور الجملة الشرطیة فی کون الشرط سبباً أو کاشفاً عن السبب، مقتضیاً لذلک أی لتعدد الفرد، و بیاناً لما هو المراد من الإطلاق.

وبالجملة: لا دوران بین ظهور الجملة فی حدوث الجزاء وظهور الإطلاق ضرورة أن ظهور الإطلاق یکون معلقاً علی عدم البیان، وظهورها فی ذلک صالح لأن یکون بیاناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا یلزم علی القول بعدم التداخل تصرف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل کما لا یخفی.

فتلخص بذلک، أن قضیة ظاهر الجملة الشرطیة، هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشرط.

الشَرح:

إذا کان مسبوقاً بحصول شرط آخر علی بقاء ذلک الحکم، ولا فرق فی ذلک بین الشروط المتعدّدة من أجناس مختلفة أو من سنخ واحد، کما فی انحلال القضیة الشرطیة ودلالتها علی حصول الجزاء بکلّ من وجودات الشرط، وهذا الوجه یناسب القول بالتداخل فی الأسباب.

الثانی: أن یکون مفاد کلّ من القضایا الشرطیة حدوث الحکم بحدوث کلّ شرط أو بکلّ وجود من الشرط، فیکون الثابت فی الجزاء الأحکام المتعدّدة بحسب مقام الثبوت بأن یکون المتعلّق للحکم ثبوتاً عنواناً غیر العنوان المتعلّق به الحکم الثانی وهکذا، إلاّ أنّ الحکم فی مقام الإثبات تعلّق بشیءٍ واحد، لأنّ مع الإتیان به تسقط جمیع تلک الأحکام لانطباق المتعلّق فی کلّ من تلک الأحکام علی ذلک الشیء المأتی به، نظیر ما إذا وجب إکرام العالم ووجب ضیافة الهاشمی، فأکرم المکلّف عالماً هاشمیاً بالضیافة.

لا یقال: کیف یتعلّق بالفعل الواحد تکلیفان؟

ص :163

.··· . ··· .

الشَرح:

فإنّه یقال: مضافاً إلی أنّه لا بأس به بناءاً علی جواز الاجتماع حیث إنّ المفروض علی هذا الوجه تعدّد العنوان ثبوتاً فیجتمع فی المجمع حکمان، وأمّا علی القول بالامتناع فحدوث کلّ حکم بحدوث کلّ شرط إنّما هو بالإضافة إلی غیر مورد الاجتماع، وأمّا بالإضافة إلی المجمع فلا یحدث الحکم بل یکون تعنونه بعنوانین موجباً لانتزاع صفة الوجوب له، وهذا فی الحقیقة تداخل فی المسبّبات إذا قصد المکلّف الإتیان بالمجمع لامتثال التکلیفین.

الثالث: أن تدلّ کلّ من القضایا الشرطیة بحدوث الحکم عند حدوث الشرط، غایة الأمر یکون الحادث عند حصول الشرط فیما لم یکن مسبوقاً بحدوث شرطٍ آخر نفس الحکم، وإذا کان مسبوقاً به یکون الحاصل تأکّد الحکم الأوّل کما أنّ الأمر کذلک فیما إذا حصل الشرطان دفعةً ویلزم علی ذلک أیضاً التداخل فی المسبّب وکلّ هذه الاحتمالات الثلاث خلاف ظاهر القضیة الشرطیة الانحلالیة أو خلاف ظاهر القضایا الشرطیة، فیحتاج المصیر إلی کلّ واحد منها إلی قیام قرینة علیه، کما فی الوضوء من موجباته، فإنّ الدلیل قام علی عدم الوجوب النفسی للوضوء، بل وجوبه شرطی والشرط للصلاة ونحوها صرف وجوده، حیث إنّ ظاهر کلّ قضیة شرطیة حدوث الجزاء بحدوثه وأنّ الثابت بحدوث الشرط حکم مستقل لا تأکّد ما حدث، کما أنّ الالتزام بتعدّد العنوانین بحیث ینطبقان علی واحد کمثال الأمر بإکرام العالم وضیافة الهاشمی یحتاج إلی تقدیر لا یقتضیه مقام الإثبات.

الرابع: أن یکون الحادث مع کلّ شرط أو مع کلّ وجود من الشرط حکماً مستقلاًّ یقتضی امتثالاً مستقلاًّ.

لا یقال: الوارد فی الجزاء حکم واحد متعلّق بفعلٍ واحد، ولا یتعلّق بالفعل

ص :164

.··· . ··· .

الشَرح:

الواحد أکثر من تکلیفٍ واحد وحکم واحد.

فإنّه یقال: حدوث تکلیف آخر بحدوث فرد آخر من الشرط أو بحصول شرط آخر یکون قرینة علی أنّ المطلوب بالتکلیف الثانی وجود آخر من ذلک، والمتعیّن فی الجمع هو هذا الوجه، لظهور القضیة الشرطیة فی الانحلال وظهور القضایا الشرطیة فی تعدّد الحکم المستقل.

وبالجملة الالتزام بذلک یلازم التصرّف فی متعلّق الحکم الوارد فی الجزاء، حیث إنّ ظاهر الأمر بفعلٍ طلب صرف وجوده، فیرفع الید عن هذا الظهور فیما إذا تکرّر الشرط بعد حصوله أو حدث شرط بعد حصول الآخر، ولا بأس بهذا التصرّف فإنّ الظهور فی طلب صرف الوجود ناشٍ عن إطلاق المتعلّق للطلب وعدم تقییده بمثل مرّة أخری وبوجود آخر، وإلاّ لو قال: اغتسل بعد اغتسالک لزال هذا الظهور ولا یخفی أنّ ظهور القضیة الشرطیة فی انحلال الحکم بانحلال الشرط أو ظهور کلّ قضیة شرطیة فی حدوث الحکم الوارد فیه وضعی. لما تقدّم من أنّ الجملة الشرطیة بحسب الدلالة الوضعیة ظاهرة فی کون الشرط قیداً لنفس الحکم الوارد فی الجزاء، والمفروض أنّ الجزاء فی هذا الأمر قابل للتکرار فیکون هذا الظهور بیاناً للقید فی ناحیة المتعلّق.

وبالجملة الظهور الوضعی للکلام یمنع عن انعقاد الظهور الاطلاقی فی کلّ مورد یکون مقتضی الوضع خلاف الإطلاق، ولا یدور الأمر بین رفع الید عن أحد الظهورین لأنّ مع الظهور الوضعی لیس فی البین ظهور إطلاقی وهذا الوجه الرابع هو الذی اختاره الماتن قدس سره فی المقام.

أقول: ظهور القضیة الشرطیة فی حدوث الحکم بحدوث الشرط الوارد فیها

ص :165

.··· . ··· .

الشَرح:

وإن کان وضعیاً إلاّ أنّ عموم الحدوث لما إذا احدث قبله بحصول سبب آخر له فهو بالإطلاق، وعلیه لو ورد فی خطاب «إذا زلزلت الأرض تجب صلاة الآیات إلاّ أن تجب صلاتها قبل الزلزال بالخسوف»، وورد فی خطابٍ آخر «إذا خسف القمر تجب صلاة الآیات إلاّ أن تجب صلاتها بالزلزال قبله»، فلا یکون فی البین مجاز فی استعمال القضیة الشرطیة، بل یکون تقیید فی حدوث الحکمین بصورة عدم سبق حدوث الشرط الآخر، ومقتضی هذا التقیید هو التداخل فی الأسباب، فعدم التداخل یکون ببقاء ظهور کلّ من القضیتین الشرطیتین فی إطلاق الحدوث، وإطلاق الحدوث ظهور بالإطلاق، کما أنّ ظهور القضیة الجزائیة فی أنّ المتعلّق للطلب صرف وجود الطبیعی بالاطلاق أیضاً وصرف وجود الطبیعی غیر قابل للتکرار ولا یقبل الطلب المتعدّد، فالأمر یدور بین التحفّظ علی ظهور کلّ من الجملتین الشرطیتین فی إطلاق حدوث الحکم ورفع الید عن إطلاق المتعلّق فی الجزاء بتقیید متعلّق الطلب فیه بوجود غیر ما یتعلّق به الوجوب الآخر وبین أن یتحفظ بالإطلاق فی ناحیة الجزاء ویرفع الید عن الظهور فی إطلاق کلّ منهما فی حدوث حکمه بحدوث شرطه.

وذکر المحقق العراقی قدس سره أنّه یؤخذ بظهور التعلیق فی کلٍّ من الشرطیتین فی الاستقلال لحدوث الحکم بحدوث الشرط ویرفع الید عن الظهور فی القضیة الجزائیة فی أنّ المطلوب صرف وجود الطبیعی، لأنّ التحفّظ بظهور الجزاء یقتضی رفع الید عن الظهور فی التعلیق فی ناحیة الحکم فی کلّ من القضیتین، یعنی دلالة کلّ منهما علی حدوث الحکم بحدوث شرطه بخلاف الأخذ بظهورهما فإنّه یوجب رفع الید عن ظهور القضیة الجزائیة حیث إنّ لها فی کلّ من القضیتین ظهور واحد، ومن الظاهر أنّه کلّما دار الأمر بین رفع الید عن ظهورین أو ظهور واحد یتعیّن الثانی لأنّ

ص :166

.··· . ··· .

الشَرح:

ارتکاب المحذور یتقدّر بقدر الضرورة، وعلی تقدیر الإغماض عن ذلک یؤخذ أیضاً بظهور الشرطیتین فی الاستقلال بالإضافة إلی الحکم وذلک لأنّ الجزاء کما أنّه تابع للشرط ثبوتاً _ لأنّ الشرط من علل حصوله _ کذلک تابع للشرط إثباتاً، وهذه التبعیة أوجبت التصرف فیه عند دوران الأمر بین التصرّف فیه أو التصرّف فی ظهور الشرط، حیث إنّ ظهوره فی الشرطیة والاستقلالیة أقوی من ظهور الجزاء لکونه تابعاً(1).

أقول: العلم الإجمالی بعدم إرادة ظهور أو عدم إرادة ظهورین آخرین لا یوجب تقدیم التصرّف فی الظهور الواحد، وإنّما یوجبه فیما إذا انحلّ العلم الإجمالی بأن یعلم بعدم إرادة الظهور علی کلّ تقدیر، ویحتمل عدم إرادة الآخر أیضاً مع أنّ رفع الید عن ظهور کلّ واحدٍ من الجزائین تصرّف فی ظهورین وإن کان ظهور کلّ منهما مساویاً لظهور الآخر أو عینه، وأمّا کون ظهور الجزاء تبعیاً لظهور الشرط فهو أوّل الکلام وکون الجزاء ثبوتاً تابع للشرط فهو من قبیل تبعیة الحکم للموضوع لا من تبعیة المعلول لعلّته وتبعیة الحکم للموضوع تابع للجعل وکیفیة الاعتبار من الجاعل، والکلام فی المقام فی کشف کیفیة الجعل والاعتبار فیما إذا تعدّد الشرط وذکر فی الخطاب جزاء واحد فهل ظاهره وحدة الحکم، سواء حدث أحدهما أو کلاهما ولو مترتّباً أم لا ؟

والصحیح فی المقام أن یقال: إذا ورد فی خطاب الشارع صم یوماً، وورد فی خطابٍ آخر أیضاً صم یوماً، فالالتزام بوحدة الحکم وکون الخطاب الثانی تأکیداً للأوّل، ظهور سیاقی ناشٍ من وحدة الخطابین صورة، وکأنّ المعنی المستفاد من

ص :167


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 486.

وقد انقدح مما ذکرناه، أن المجدی للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التی ذکرناها، لا مجرد کون الأسباب الشرعیة معرفات لا مؤثرات، فلا وجه لما عن

الشَرح:

الثانی عین المراد من الأوّل، فوحدة الحکم المستفاد منهما ثبوتاً إنّما هو لوحدة الخطابین صورة فی مقام الإثبات، فإذا علّق کلّ منهما علی حصول شرط غیر ما فی الآخر من الشرط، خرج الخطابان عن الوحدة فی الصورة، ویکون مقتضی التعلیق بکلٍّ من الشرطیتین حصول الحکم بکلٍّ منهما غیر ما یحصل بالآخر، وهذا لا یکون إلاّ مع تعدّد المتعلّق ومطلوبیة کلّ فردٍ من الطبیعی عند حصول الشرط االمعلّق علیه حدوث الحکم، فتعدّد الحکمین ولو کان بالإطلاق یعدّ قرینة عرفیة علی المراد من متعلّق الحکم.

وبتعبیرٍ آخر: إطلاق متعلّق الطلب وکون المطلوب صرف وجود الطبیعی ینافی عقلاً تعدّد الطلب، لا أنّه قرینة عرفیة علی وحدة الطلب، بخلاف تعدّد الطلب فإنّ تعدّد الشرط فی القضیتین قرینة عرفیة علیه ومقتضی تعدّد الطلب اختلاف المتعلّقین ولو بالوجود الأول والثانی، وظهور القضیة الشرطیة فی انحلال الشرط وحدوث کلّ فرد من الحکم بحدوث کلّ فردٍ من الشرط أیضاً یوجب الانحلال فی القضیة الجزائیة.

والمتحصّل کون الدلالتین المتخالفتین فی کلّ منهما بالإطلاق لا یمنع عن کون أحدهما قرینة عرفیة علی عدم إرادة الأخری من دون عکس، وإن شئت فلاحظ ما إذا ورد فی خطاب «إذا ظاهر الرجل فعلیه عتق رقبة» وورد فی خطابٍ آخر «إذا ظاهر الرجل یعتق رقبة مؤمنة» فدلالة الخطاب الثانی علی تعیّن عتق رقبة مؤمنة أیضاً بإطلاق المتعلّق، ولکن مع ذلک لا یدور الأمر بین حمل الطلب فی الثانی علی الاستحباب بتقییده بالترخیص فی الترک أو تقیید المتعلّق فی الخطاب الأول بالإیمان، بل الإطلاق فی ناحیة الطلب فی الخطاب الثانی قرینة عرفیة علی عدم إرادة الإطلاق من المتعلّق فی الخطاب الأول، ولعلّ مراد الماتن قدس سره أیضاً من عدم

ص :168

الفخر وغیره، من ابتناء المسألة علی أنها معرفات أو مؤثرات[1]، مع أن الأسباب الشرعیة حالها حال غیرها، فی کونها معرفات تارة ومؤثرات أخری، ضرورة أن الشرط للحکم الشرعی فی الجمل الشرطیة، ربما یکون مما له دخل فی ترتب الحکم، بحیث لولاه لما وجدت له علة، کما أنه فی الحکم الغیر الشرعی، قد یکون

الشَرح:

الإطلاق للجزاء مع ظاهر الجملة الشرطیة یرجع إلی ما ذکرنا، لعدم التصریح فی کلامه بأنّ ظهور الجملة الشرطیة فی الحدوث عند الحدوث _ ولو مع تعدّد الشرط _ مدلول وضعی لها.

التفصیل بین معرفیة الأسباب الشرعیة ومؤثریّتها

[1] حکی عن فخر المحققین قدس سره وغیره أنّ القول بالتداخل عند تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء صورةً، مبنیّ علی کون الأسباب الشرعیة للأحکام معرفات لها لا مؤثّرات، والقول بأنّها معرفّات یلازم القول بالتداخل فی الأسباب لجواز تعدّد المعرّف لشیءٍ واحد، بخلاف الالتزام بأنّها مؤثّرات فإنّ مقتضی تأثیر کلّ سبب تعدّد الحکم وحصول الأثر لکلّ مؤثّر.

وقد ذکر الماتن قدس سره أنّ القول بالتداخل یبتنی علی أحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة لا علی مجرّد کون الشرط معرّفاً، أو سبباً، لاحتمال کون کلّ شرط معرّفاً لسبب مستقلّ وله مسبّب مستقل واحتمال کون التأثیر فی کلّ شرط مختصّاً بما إذا لم یسبقه شرط آخر مع أنّ الأسباب الشرعیة حالها حال غیر الأسباب الشرعیة فی کون الشرط مؤثّراً تارةً ومعرّفاً للمؤثّر أُخری، کما إذا قیل «إذا انسدّ باب الأمیر فلا یدخل علیه أحد» فإنّ انسداد بابه معرّف لعدم تهیُّئ الأمیر لاستقبال القادم مع أنّ ظهور الشرطیة هو الحدوث عند حدوث الشرط فی الصورتین.

نعم، لو أُرید من المعرّفیة فی الأسباب الشرعیة عدم کون نفس خسوف القمر،

ص :169

أمارة علی حدوثه بسببه، وإن کان ظاهر التعلیق أن له الدخل فیهما، کما لا یخفی.

نعم، لو کان المراد بالمعرفیة فی الأسباب الشرعیة أنها لیست بدواعی الأحکام التی هی فی الحقیقة علل لها، وإن کان لها دخل فی تحقق موضوعاتها، بخلاف الأسباب الغیر الشرعیة، فهو وإن کان له وجه، إلاّ أنه مما لا یکاد یتوهم أنه یجدی فیما همّ وأراد.

الشَرح:

أو زلزال الأرض، مثلاً داعیاً إلی جعل وجوب صلاة الآیات بل لها دخل فی تحقّق موضوعات الأحکام التی لحاظها کان داعیاً إلی جعل الأحکام بخلاف الأسباب غیر الشرعیة فإنّها بنفسها دخیلة أو کاشفة عمّا له دخل فی ثبوت جزائها فهذا أمرٌ صحیحٌ، ولکن لا دخل له فی التداخل وعدمه.

وذکر المحقق النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله أنّ العلّة تطلق تارةً علی ملاک الحکم وأخری علی مقتضیه وثالثة علی موضوعه، والمعرّف یطلق علی ما یکون معلولاً ولازماً عقلیاً للشیء، حیث یکون إحراز المعلول واللازم کاشفاً ومعرّفاً لعلّته وملزومه ویطلق المعرّف علی الملازم العادی أیضاً للشیء بحیث یمکن انفکاکه عنه عقلاً ولا یصحّ إطلاق المعرّف علی ملاک الحکم ومقتضیه وموضوعه ومنه الشرط فی المقام لتقدّم کلّ ذلک علی الحکم والمعرّف بمعنی المعلول واللازم العقلی یکون متأخراً عن معرَّفه (بالفتح) ولا یصحّ إطلاق المعرّف بمعنی الملازم العادی علی موضوع الحکم لعدم إمکان تخلّف الموضوع عن حکمه.

نعم، یمکن إطلاق المعرّف بمعنی الملازم العادی علی ملاک الحکم المجعول، حیث إنّ الملاک یمکن أن یتخلّف عن الحکم بأن یثبت الحکم فی موارد فقده أیضاً، کما فی وجوب العدّة، حیث یثبت وجوبها فی موارد عدم اختلاط المیاه

ص :170

ثم إنه لا وجه للتفصیل بین اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه[1]، واختیار عدم التداخل فی الأول، والتداخل فی الثانی، إلاّ توهم عدم صحة التعلق بعموم اللفظ فی الثانی، لأنه من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم یوجد إلاّ السبب الواحد، بخلاف الأول، لکون کل منها سبباً، فلا وجه لتداخلها، وهو فاسد.

الشَرح:

وعدم الاشتباه فی الأنساب.

والحاصل أنّ الشرط فی القضیة الشرطیة لا یکون من المعرّف بمعنی المعلول للحکم أو اللازم العقلی، ولا الملازم العادی له، فلا یصحّ إطلاق المعرّف علیه وعلی فرض صحّة الإطلاق لا یکون موجباً للتداخل لأنّ مجرّد احتمال تعدّد المعرِّف (بالکسر) ووحدة المعرَّف (بالفتح) لا یوجب رفع الید عن ظهور الجملة الشرطیة فی تعدّد الحکم الوارد فی الجزاء بتعدّد الشرط سواء کان تعدّده بالانحلال أو فی قضیتین أو أکثر.

أقول: ما ذکره أخیراً من أنّه لا یعتنی باحتمال وحدة المعرَّف (بالفتح) مع ظهور القضیة الشرطیة فی کون الشرط معرّفاً لحکم غیر ما یکون معرّفاً فی الأخری صحیح، إلاّ أنّ ما ذکره قدس سره من انحصار إطلاق المعرِّف (بالکسر) علی الموارد الثلاثة التی ذکرها لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ اشتعال النار فی البیت معرّف لخرابها، ونزول المطر علی أرض صالحة للزراعة معرّف لحیاتها، إلی غیر ذلک من موارد الإطلاق.

[1] وقد تلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ مقتضی القضیتین الشرطیتین _ أی إطلاق الشرط والحکم فیها _ عدم التداخل فی الأسباب والمسبّبات، وکذا الحال فیما إذا تکرّر الشرط فی مثل قوله «إذا قرأت آیة السجدة فاسجد لها» فقرأها المکلّف مرّتین أو أزید حیث إنّ مقتضی انحلال الشرط فی القضیة الشرطیة أنّها بمنزلة قوله «إذا قرأت آیتها مرّة فاسجد وإذا قرأتها ثانیة فاسجد مرة أخری» وهکذا، فکلّ قراءة موضوع مستقلّ لوجوب سجدة مستلقه، فیقتضی کلّ شرط وجوبها وتعدّد الحکم قرینة علی

ص :171

فإن قضیة اطلاق الشرط فی مثل (إذا بلت فتوضأ) هو حدوث الوجوب عند کل مرة لو بال مرّات، وإلاّ فالأجناس المختلفة لا بد من رجوعها إلی واحد، فیما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرت إلیه الإشارة، من أن الأشیاء المختلفة بما هی مختلفة لا تکون أسباباً لواحد، هذا کله فیما إذا کان موضوع الحکم فی الجزاء قابلاً للتعدد.

وأما ما لا یکون قابلاً لذلک، فلا بد من تداخل الأسباب، فیما لا یتأکد المسبب، ومن التداخل فیه فیما یتأکد.

الشَرح:

تعدّد المتعلّق.

ولکن قد یقال: إنّ عدم التداخل فیما کانت الشروط المتعدّدة من أجناس مختلفة، وأمّا إذا کان تعدّده بانحلال الشرط فمقتضی ظاهر القضیة الشرطیة التداخل «یعنی التداخل فی الأسباب» حیث إنّ ظاهر القضیة الشرطیة هو أنّ الحکم مترتب علی وجود جنس الشرط ووجود الجنس یحصل بأوّل وجود منه، فمع تکرّر وجود الشرط لم یحصل إلاّ سبب واحد، فیکون مسبّبه أیضاً واحداً، بخلاف ما إذا حصل الشرط من القضیتین الشرطیتین فإنّ وجود کلّ جنس سبب مستقل.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ الشرط إذا کان قابلاً للتکرّر وکذا الجزاء المترتّب علیه فظاهر الجملة الشرطیة أنّ کلّ وجود من الشرط موضوع لفردٍ من الحکم الوارد فی الجزاء إذا لم یکن فی البین قرینة علی الخلاف، کما یظهر ذلک من ملاحظة موارد استعمال الجملة الشرطیة وإلاّ فبما أنّ الجملة الجزائیة واحدة حتّی مع تعدّد القضیة الشرطیة یمکن دعوی قرینیة وحدة الجزاء علی أنّ المترتب مع تحقّق الشرطین صرف وجود الحکم الوارد فی القضیة الجزائیة وترتب صرف وجود الحکم علی کلّ من الشرطین مع انفرادهما ومع اجتماعهما کاشف عن أنّ الموضوع له هو الجامع

ص :172

.··· . ··· .

الشَرح:

بینهما الذی یکون صرف وجوده غیر قابل للتکرار.

ویستثنی ممّا ذکر من عدم الانحلال موارد ثلاثة:

الأوّل: أن لا یقبل الجزاء الوارد فی القضیة الشرطیة التعدّد لعدم إمکان انحلال الشرط وتعدّده، کما إذا ورد فی خطاب «من أفطر فی نهار شهر رمضان فعلیه عتق رقبة»، حیث إنّ الإفطار فی یوم واحد لا یتکرّر بتکرّر الأکل أو تعدّد ارتکاب المفطر، فإنّ نقض الإمساک فیه یحصل بارتکاب المفطر الأول فلا إفطار بالارتکاب ثانیاً.

نعم، لا یجوز فی شهر رمضان الارتکاب بعد الإفطار بل یجب الإمساک ولکنّه مجرّد تکلیف لا یوجب مخالفته الکفّارة، ونظیر ذلک عدم إمکان تکرار الفعل المتعلّق به حکم الجزاء، کما فی وجوب القتل حدّاً فإنّ مع وجوب قتل شخص بحصول موجبه لا یمکن أن یتعلّق به وجوب قتل آخر بارتکاب موجب آخر نعم، حقّ القتل قصاصاً قابل للتعدّد.

ومنه عدم تکرار الوجوب الشرطی بتکرّر البول أو النوم حیث إنّ الوجوب الشرطی یحصل بالأوّل من الموجبات ویحصل انتقاض الطهارة به وما هو شرط للصلاة هو صرف وجود الطهارة، وهذه الأمثلة مع عدم إمکان تکرار السبب تدخل فی هذا المورد، ومع عدم إمکان تکرّر الجزاء تدخل فی التداخل فی السبب.

الثانی: فی موارد قیام نصّ فیها علی التداخل فی المسبّب، کما فی تداخل الأغسال بناءاً علی أنّها حقائق مختلفة، حیث ورد فی صحیحة زرارة(1) إجزاء غسل واحد فی صورة اجتماع الأغسال.

ص :173


1- (1) الوسائل: ج 2، باب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.

.··· . ··· .

الشَرح:

نعم، بناءاً علی عدم تعدّد أنواعها یأتی فیها ما تقدّم فی الوضوء.

الثالث: ما إذا ورد فی خطاب، الأمر بفعلٍ وفی الآخر أمر بفعلٍ آخر، وکانت النسبة بین الفعلین عموماً من وجه، أو کان الأمر وارداً فی خطاب بفعلٍ مضافاً إلی عنوان وفی خطابٍ آخر الأمر بذلک الفعل ولکن مضافاً إلی عنوان آخر وکانت النسبة بین العنوانین عموماً من وجه کما فی قوله (أکرم عالماً وأکرم هاشمیاً) فإنّ بالإتیان بالمجمع یسقط کلا الأمرین. ودعوی أنّه کیف یمکن تعلّق حکمین بالمجمع قد تقدّم الجواب عنها فی تقریر کلام الماتن قدس سره سابقاً.

ثمّ إنّه قد بقی فی المقام أمر، وهو أنّه لو کان الوارد فی ناحیة الشرط فی القضیة الشرطیة أموراً متعدّدة عطف بعضها علی بعض بواو الجمع وجعل مجموها شرطاً لتحقّق الجزاء یعنی قیداً للحکم الوارد فیه أو أخذ بعضها وصفاً لبعض آخر وجعل الموصوف بالوصف والمقیّد بما هو مقیّد شرطاً وقیداً للحکم الوارد فی الجزاء، فإنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّه کلّما زاد علی الشرط من القیود یکون المفهوم أوسع حیث ینتفی الحکم الوارد فی الجزاء بانتفاء کلّها أو بعضها ولو بانتفاء واحدٍ منها.

فیقع الکلام عند ما کان الوارد فی الجزاء حکماً عامّاً إیجاباً أو سلباً فی أنّ المفهوم للقضیة الشرطیة فی ناحیة الجزاء هو السلب الجزئی، أو الإیجاب الجزئی، أو أنّه فی الإیجاب الکلّی السلب الکلّی، وفی السلب الکلّی، الإیجاب الکلّی أو أنّه لا کلّیة فی ناحیة المفهوم ولا جزئیة، بل المفهوم قضیة مهملة بلا تعیین کلّیتها أو جزئیتها وإن کانت الجزئیة متیقّنة علی کلّ حال.

وقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره تفصیلاً فی المقام وحاصله: أنّه لو کان المعلّق علی

ص :174

.··· . ··· .

الشَرح:

الشرط عموم الحکم فی الجزاء یکون المفهوم قضیة جزئیة، وإن کان المعلّق علی الشرط نفس الحکم الانحلالی والاستغراقی الوارد فی الجزاء یکون الثابت فی ناحیة المفهوم القضیة الکلّیة أیضاً، وتعیین أنّ المعلّق علی الشرط عموم الحکم أو نفس الحکم العام والانحلالی یکون بالاستظهار من الخطاب فإن کان المذکور فی الجزاء من الأداة الإسمیة کلفظة «کلّ» یحصل تعلیق معانیها علی الشرط، ولو کان المذکور من أداة العموم غیر الاسم کالنکرة فی سیاق النفی أو النهی، فظاهره تعلیق الحکم العام والانحلالی کما فی قوله علیه السلام «إذا بلغ الماء قدر کرٍ لم ینجّسه شیء»(1) فإنّ الجزاء فیه بمنزلة أن یقال: إذا بلغ الماء کرّاً ولا ینجسه بول، و لا ینجسه غائط، ولا دم ولا وقوع میتة وهکذا، وکلّ واحد من هذه الأحکام معلّق علی بلوغ الماء کرّاً، فیکون المفهوم انتفاء کلّ منها بانتفاء الشرط، فتکون النتیجة الإیجاب الکلّی، وهذا بخلاف ما إذا کان المعلّق علی الشرط کلّ هذه الأحکام فإنّ المفهوم معه یکون إیجاباً جزئیاً لانتفاء عموم السلب بالإیجاب الجزئی.

والحاصل أنّه لا ینظر فی المقام إلی ما ذکره أهل المیزان من أنّ نقیض السلب الکلّی الإیجاب الجزئی وأنّ نقیض الإیجاب الکلی السالبة الجزئیة فإنّ ما یذکره أهل المیزان من الأحکام لا تجری علی ظاهر الخطابات، والمفهوم فی المقام یدخل فی الظهور العرفی.

ثمّ قال قدس سره لا ثمرة فی المثال فی التکلّم فی أنّ المفهوم لقولهم:: «إذا کان الماء

ص :175


1- (1) الوسائل: ج 1، باب 9، من أبواب الماء المطلق، الحدیث: 1 و2 و6، لا یخفی أنّ المنقول فی الوسائل انّما هو بهذا التعبیر «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء».

.··· . ··· .

الشَرح:

کرّاً لا ینجّسه شیء» إیجاب جزئی أو کلّی للتسالم علی عدم الفرق بین النجاسات وأنّه إذا ثبت تنجّس الماء القلیل بوقوع قطرة بول یکون کذلک بإصابته سائر النجاسات فلا طائل فی التکلّم فی أنّ المراد بالشیء فی ناحیة المفهوم جمیع النجاسات أو بعضها.

لا یقال: هذا یتمّ بالإضافة إلی الأعیان النجسة، وأمّا بالإضافة إلی المتنجّس فإن کان عامّاً یحکم بتنجّس الماء القلیل بالمتنجّس مطلقاً، وإلاّ فلا سبیل إلی إثبات کون المتنجّس منجّساً للماء القلیل مطلقاً.

فإنّه یقال: لیس المراد بالشیء فی المنطوق جمیع الأشیاء حتّی الطاهرة منها، بل المسلوب عن منجّسیته للماء مع کریته، ما تکون منجسة لسائر الأشیاء الطاهرة، وعلی ذلک فإن کان المتنجس منجّساً للشیء الطاهر فیدخل فی المنطوق فیحکم بأنّه لا ینجس الماء إذا کان کرّاً وینجّسه علی تقدیر عدم کرّیته فالأشیاء الطاهرة لا تکون داخلة فی المنطوق ولا فی المفهوم(1).

أقول: قد ذکرنا عند التکلّم فی تعلیق الحکم الوارد فی الجزاء علی حصول الشرط الوارد فی القضیة الشرطیة، أنّ مقتضی التعلیق أن لا یثبت ذلک الحکم بحصول شیء آخر غیر الشرط الوارد فیها ولا یقوم شیء آخر مقامه، وإذا کان الحکم الوارد فی الجزاء عامّاً أو مطلقاً انحلالیاً فلا یثبت ذلک الحکم العام أو المطلق الانحلالی مع عدم حصول ذلک الشرط وإن حصل شیء آخر غیر ذلک الشرط، وإذا کان عدم ثبوت حکم العام أو الانحلالی علی نحوین بأن لا یثبت أصل الحکم بدون

ص :176


1- (1) أجود التقریرات 1 / 420.

.··· . ··· .

الشَرح:

ذلک الشرط أصلاً أو ثبت أصله بلا عموم وانحلال فلا دلالة فی القضیة الشرطیة لا فی ناحیة منطوقه ولا فی ناحیة مفهومه علی تعیین أحد النحوین، فمفاد قولهم علیهم السلام : «إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء» أنّ عدم تنجّس الماء بشیء لا یکون بشیء آخر یقوم مقام کرّیته. غایة الأمر هذا بالإطلاق کما تقدّم وإذا دلّ دلیل علی أنّ الماء القلیل إذا کانت له مادّة فلا ینجّسه شیء، یکون تقییداً للمفهوم بخلاف ما إذا قام الدلیل علی أنّ الماء مع قلّته یتنجّس بالأعیان النجسة ولا یتنجّس بالمتنجّسات، فإنّه لا منافاة بین هذا الخطاب والمفهوم لقولهم علیهم السلام : «إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء».

وإن شئت قلت الحکم الاستغراقی المعلّق علی الشرط ینتفی مع انتفاء الشرط ولا یقوم مقام الشرط غیره، فالانحلال الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره فی ناحیة الجزاء والتزامه بأنّ کلّ واحد من الأحکام الانحلالیة معلّق علی الشرط، أمر لا یساعده الاستعمالات العرفیة، فإنّه إذا قیل «إذا غضب الأمیر لا یتکلّم أحد» مفهومه أنّه لا ینوب مقام غضبه شیء فی ثبوت هذا الحکم لا أنّه إذا لم یغضب یتکلّم کلّ أحد، فالانحلال فی القضیة الشرطیة بحسب تحقّق الشرط بأیّ فردٍ من أفراد موضوع الحکم فالماء سواء کان مالحاً أو غیر مالح، صافیاً أو غیر صافٍ، حارّاً أو بارداً، لا یتنجس مع کرّیته، فلا انحلال للجزاء من غیر هذه الجهة، فلاحظ وتدبّر.

ص :177

فصل

الظاهر أنه لا مفهوم للوصف وما بحکمه مطلقاً، لعدم ثبوت الوضع، وعدم لزوم اللغویة بدونه[1]، لعدم انحصار الفائدة به، وعدم قرینة أخری ملازمة له، وعلیّته فیما إذا استفیدت غیر مقتضیة له، کما لا یخفی، ومع کونها بنحو الإنحصار

الشَرح:

مفهوم الوصف

[1] المراد بالوصف فی المقام هو المعتمد علی الموصوف وما بحکمه من سائر القیود التی یکون المقیّد معها محکوماً بحکم فیقع الکلام فی أنّ للوصف أو سائر القیود وضعاً دلالة علی انتفاء الحکم أی سنخه عن فاقد الوصف أو القید أم لا؟

وبتعبیرٍ آخر: توصیف الموضوع بوصف أو قید وجعل الموصوف بما هو موصوف أو المقیّد بما هو مقیّد موضوعاً لحکم، هل فیه دلالة علی أنّ الموجب لثبوت سنخ ذلک الحکم هو وصفه أو قیده، بحیث یلزم من انتفائهما انتفاء سنخ ذلک الحکم عن مورد فقدهما أم لا ؟

ولا یخفی أنّ الوصف أو ما بحکمه بحسب الترکیب الکلامی والظهور العرفی قید لمفهوم إنفرادی من الموضوع أو المتعلّق أو قید لنفس الحکم فلا یکون فیهما دلالة علی المفهوم لأنّ ذکر حکم لشیء موصوف أو مقیّد لا یقتضی نفی سنخه عن غیره.

نعم، إذا فهم فی مورد بقرینة خاصّة من مقام أو مقال أنّ الوصف هو الموجب للحکم أی ثبوت سنخ الحکم فیکون سنخه منتفیاً عن الفاقد ولکن هذا لا یعدّ من مفهوم الوصف نظیر ما تقدّم من المفهوم للقضیة الشرطیة.

لا یقال: لو لم یکن للوصف دلالة علی انتفاء سنخ الحکم عن مورد فقده فلا یکون ذلک الوصف قیداً احترازیاً وکذا الحال فی غیره من القیود مع أنّ الأصل فی

ص :178

موارد حمل المطلق علی المقید

وإن کانت مقتضیة له، إلاّ أنه لم یکن من مفهوم الوصف، ضرورة أنه قضیة العلة الکذائیة المستفادة من القرینة علیها فی خصوص مقام، وهو مما لا إشکال فیه ولا کلام، فلا وجه لجعله تفصیلاً فی محل النزاع، ومورداً للنقض والإبرام.

الشَرح:

القیود هو الاحترازیة.

فإنّه یقال: معنی کون القید احترازیاً انّ الموضوع فی الخطاب الشیء الخاص فلا دلالة له علی ثبوته أو عدم ثبوته لغیر ذلک الخاص.

وأمّا أنّ الحکم فی مقام الثبوت سنخه منحصر فی ذلک الخاص فلا دلالة للوصف أو لسائر القیود علی ذلک، لأنّ ثبوت شیءٍ لشیءٍ وإثباته له لا ینافی ثبوت سنخه لغیر ذلک الخاص أیضاً فی مقام الثبوت.

لا یقال: لو لم یکن للوصف ولسائر القیود مفهوم لما تعیّن حمل المطلق علی المقیّد لعدم المنافاة فی ثبوت الحکم لکلٍّ منهما.

فإنّه یقال: حمل المطلق علی المقیّد لا یبتنی علی دلالة الوصف أو ما بحکمه علی المفهوم لأنّ الموجب لحمله علی المقیّد أمران:

أحدهما: إحراز وحدة الحکم ثبوتاً من حیث إنّه لا یمکن تعلّق حکم واحد بمتعلّقین، ومقتضی خطاب المطلق تعلّق الحکم به ومقتضی خطاب المقیّد تعلّقه بالمقیّد، وخطاب المقیّد قرینة علی أنّ المراد بالأوّل ثبوتاً هو الثانی فیحمل المطلق علیه، ولو کان الجمع بین الخطابین لأجل المفهوم لکان الأولی إبقاء المطلق علی إطلاقه والتصرّف فی خطاب المقیّد بحمله علی أفضل الأفراد، لأنّ دلالة خطاب المقیّد علی عدم تعلّق الحکم بغیر المقیّد بالمفهوم، ودلالة المطلق علی ثبوت الحکم وتعلّقه به بالمنطوق، ودلالة المنطوق أقوی من المفهوم کما قیل.

ویشهد لکون وجه حمل المطلق علی المقیّد وحدة الحکم لا ثبوت المفهوم

ص :179

ولا ینافی ذلک ما قیل من أن الأصل فی القید أن یکون احترازیاً، لأنّ الإحترازیة لا توجب إلاّ تضییق دائرة موضوع الحکم فی القضیة، مثل ما إذا کان بهذا الضیق بلفظ واحد، فلا فرق أن یقال: جئنی بإنسان أو بحیوان ناطق، کما أنه الشَرح:

للقید، أنّه لا یحمل المطلق علی المقیّد فیما إذا کان مفاد المطلق حکماً انحلالیاً، کما إذا ورد فی خطاب، النهی عن إکرام الفاسق، وفی خطاب آخر النهی عن إکرام الفاسق المبدع فیؤخذ بکلٍّ منهما ویحکم بالنهی عن إکرام کلٍّ منهما.

ثانیهما: ما إذا کان مضمون أحدهما مخالفاً للآخر فی الإیجاب والسلب وهذا لا یرتبط بتوهّم دلالة الوصف علی المفهوم أصلاً.

لا یقال: لو لم یکن للوصف مفهوم أصلاً فما فائدة ذکره فی الخطاب وأخذه فی موضوع الحکم أو متعلّقه؟

فإنّه یقال: فائدة ذکره فی الخطاب لا تنحصر فی الانحصار وانتفاء سنخ الحکم عن مورد فقد الوصف، فإنّه یمکن أن تکون المصلحة فی بیان الحکم تدریجاً فیذکره للمقیّد أوّلاً ثمّ لمطلقه بعد حین، أو یذکر للموصوف أو المقیّد بذلک القید أوّلاً ثمّ لذات الموصوف أو المقیّد بوصفٍ آخر أو مع قیدٍ آخر لملاحظة کون واجد القید أو الوصف مورد الابتلاء ونحو ذلک.

وقد ذهب سیدنا الاستاذ قدس سره إلی أنّ للوصف قسماً من المفهوم لا کثبوته للقضیة الشرطیة، بل بمعنی أنّ تقیید الموضوع فی الخطاب بوصفٍ أو قید آخر من غیر أن یکون للوصف أو القید المذکورین دخلاً فی ثبوت الحکم لذات الموصوف والمقیّد وإن کان أمراً ممکناً، بأن یکون ذکر القید فی الخطاب لنکتة أخری ککونه مورد الابتلاء أو التدریج فی البیان أو غیر ذلک، إلاّ أنّ کلّ ذلک خلاف الظاهر، إذ ظاهر الخطاب هو أنّ القید المذکور له دخل فی ثبوت الحکم وجعله، ولازم ذلک عدم

ص :180

لا یلزم فی حمل المطلق علی المقید، فیما وجد شرائطه إلاّ ذلک، من دون حاجة فیه إلی دلالته علی المفهوم، فإنه من المعلوم أن قضیة الحمل لیس إلاّ أن المراد بالمطلق هو المقید، وکأنه لا یکون فی البین غیره، بل ربما قیل: إنه لا وجه للحمل لو کان بلحاظ المفهوم، فإن ظهوره فیه لیس بأقوی من ظهور الشَرح:

ثبوت الحکم لذات الموصوف أو ذات المقیّد کما هو مقتضی أصالة التطابق بین مقام الإثبات والثبوت وأمّا عدم جعل سنخ ذلک الحکم للموصوف بوصفٍ آخر أو للمقیّد بقیدٍ آخر ونفیه عنهما فلا دلالة للقضیة الوصفیة علیه، ولعل هذا معنی کون الأصل فی القیود الاحترازیة(1).

أقول: إذا ورد فی خطاب، النهی عن إکرام الفاسق وفی خطابٍ آخر النهی عن إکرام الفاسق المبدع، أو ورد فی خطاب «فی الغنم زکاة» وفی خطابٍ آخر «فی الغنم المعلوفة زکاة» لا مفرّ من الالتزام برفع الید عن الإطلاق فی الأوّل من الخطابین بالثانی منهما، کما یرفع الید عن الإطلاق فی قوله «الماء طاهر لا ینجّسه شیء» بالمفهوم من «قولهم إذا کان الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء».

ثم لا یخفی إنّ فی أصالة التطابق بالمعنی المذکور تأمّل، لإمکان أن یکون الحکم فی مقام الثبوت أیضاً بحسب الجعل تدریجیّاً بعد کونه انحلالیاً فیعتبره لواجد القید أوّلاً ثمّ یعتبره لغیر الواجد أیضاً ویبیّنهما بخطابین فالثانی هو المطلق بعد ما بیّن الأوّل بالخطاب المقیّد.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی وجه دلالة الوصف علی المفهوم أنّ دلالة الوصف علی انتفاء سنخ الحکم عن ذات الموضوع فی فرض فقد الوصف لا یحتاج

ص :181


1- (1) المحاضرات 5 / 133.

المطلق فی الإطلاق، کی یحمل علیه، لو لم نقل بأنه الأقوی، لکونه بالمنطوق، کما لا یخفی.

وأما الإستدلال علی ذلک __ أی عدم الدلالة علی المفهوم __ بآیة «وربائبکم الشَرح:

إلی أزید من استفادة علّیة الوصف للحکم، وظاهر الخطاب أنّ الوصف بعنوانه دخیل فی الحکم الثابت للموضوع، ولو کان للحکم علّة أخری لما کان الوصف بعنوانه دخیلاً فی ثبوته بل بما هو جامع بینه وبین غیره یکون دخیلاً فی الحکم الثابت.

لا یقال: هذا إذا استفید العلّیة من الوصف واستفادتها منه أوّل الکلام.

فإنّه یقال: إنّ احترازیة القید کما هی الأصل کافلة لذلک، فإنّ معناها تمامیة الموضوع للحکم بالوصف، وهذا عین معنی الشرط للشیء، والحاصل أنّ الوصف بعنوانه دخیل فی طبیعی الوجوب لا شخص هذا الوجوب، وهذا یقتضی انتفاء الطبیعی بانتفاء الوصف، وهذا عین ما تقدّم فی مفهوم الشرط من أنّ إناطة الحکم بشیء _ وصفاً کان أو غیره _ یقتضی الانحصار، ولکن کلّ ما ذکر مبنی علی اقتضاء تعدّد الحکم لکون المؤثّر هو الجامع بینهما والکلام فی البرهان علی ذلک إلاّ أنّه متسالم علیه بینهم(1).

ویرد علیه نقضاً وحلاًّ:

أمّا نقضاً: فلو کان الأمر کذلک لما احتاج استفادة المفهوم من الوصف إلی اعتماده علی الموصوف بل یجری فی مثل قوله «أکرم العالم» حیث إنّ اقتضاء عنوان العالم لإکرام من ینطبق علیه یقتضی أن لا یجب إکرام غیره وإلاّ لما کان عنوان العالم بما هو مقتضیاً لطبیعی وجوب الإکرام، بل کان المقتضی له هو الجامع بینه وبین

ص :182


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 435.

اللاتی فی حجورکم»(1) ففیه أن الاستعمال فی غیره أحیاناً مع القرینة مما لا یکاد ینکر، کما فی الآیة قطعاً، مع أنه یعتبر فی دلالته علیه عند القائل بالدلالة، أن لا یکون وارداً مورد الغالب کما فی الآیة، ووجه الاعتبار واضح، لعدم دلالته معه علی الإختصاص، وبدونها لا یکاد یتوهم دلالته علی المفهوم، فافهم.

الشَرح:

عنوان الهاشمی مثلاً.

وأمّا الحلّ: فإنّ الحکم _ أی الوجوب أو غیره _ أمر اعتباریّ، یعتبره المولی، ومعنی کون الوصف دخیلاً فی ذلک الحکم _ أی وجوب الإکرام مثلاً _ انّ لحاظ الموضوع مع الوصف یکون داعیاً للمولی إلی اعتبار الوجوب وطلب إکرامه، ولا ینافی أن یکون لحاظه مع وصف آخر أیضاً داعیاً له إلی جعل مثل الحکم المجعول للموصوف بالوصف الآخر، ویمکن أیضاً أن لا یکون الصلاح فی جعل الحکم للموصوف بالوصف فقط بل الصلاح کان فی جعله لذات الموصوف مطلقاً بنحو الانحلال إلاّ أنّ الصلاح فی تدریجیة الجعل اقتضی اعتباره للموصوف بالوصف المزبور أوّلاً لکون صلاحه أقوی لزوماً فی الرعایة ثمّ جعله لذات الموصوف یعنی الفاقد للوصف أیضاً لئلاّ یجتمع فی الموصوف بالوصف المذکور حکمان.

والحاصل أنّ قوله «أکرم العالم العادل» لا یتضمّن إلاّ ثبوت الطلب وتعلّقه بإکرام من ینطبق علیه عنوان العالم العادل، وأما تعلّق الطلب بإکرام الموصوف بوصفٍ آخر کالعالم الهاشمی أو لسائر أفراد العالم علی ما تقدّم فی تدریجیة الجعل فلا دلالة للکلام المفروض علیه لا نفیاً ولا إثباتاً، فتدبّر.

ص :183


1- (1) النساء : 23.

تذنیب: لا یخفی أنه لا شبهة فی جریان النزاع، فیما إذا کان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه، فی مورد الإفتراق من جانب الموصوف[1]، وأما فی غیره، ففی جریانه إشکال أظهره عدم جریانه، وإن کان یظهر مما عن بعض الشافعیة، حیث قال: (قولنا فی الغنم السائمة زکاة، یدلّ علی عدم الزکاة فی معلوفة الإبل) الشَرح:

[1] قد تکون النسبة بین الوصف وموصوفه العموم والخصوص المطلق بأن یکون الوصف أخصّ من موصوفه مطلقاً کما لو ورد فی الخطاب «لا تدخل المرأة الحائض المسجد»، وقد تکون النسبة بینهما العموم من وجه کما فی قوله «فی الغنم السائمة زکاة»، وقد یکون الوصف أعمّ من الموصوف کما یقال «الشیطان عدوّ للإنسان»، وقد تکون النسبة بین الوصف والموصوف التساوی کما یقال «الشیطان عدوّ للإنسان الذی خلقه اللّه من طین».

ثمّ إنّه لا تأمّل فی أنّ الوصف الأخصّ من موصوفه داخل فی النزاع ولو کانت أخصّیته من وجه، ویقع الکلام فی أنّ الوصف یقتضی ارتفاع سنخ الحکم عن ذات الموصوف الفاقد لذلک الوصف أم لا ؟ بأن کان ذات الموصوف موجوداً ولکن فاقداً للوصف، ویکون ذلک، مع کون النسبة عموماً من وجه، مورد الافتراق من جانب الموصوف.

وأمّا إذا کان الافتراق من جانب الموصوف والوصف کما فی الإبل المعلوفة حیث لا یصدق علیه الغنم ولا السائمة فقد یظهر عن بعض الشافعیة(1) انّ ما ورد «فی الغنم السائمة زکاة» له دلالة علی عدم الزکاة فی الإبل المعلوفة، فکأنّ توصیف الغنم بالسائمة فی بیان تعلّق الزکاة یقتضی أن تکون العلّة المنحصرة فی وجوبها کون

ص :184


1- (1) المتحوّل للغزالی: 222.

جریانه فیه، ولعل وجهه استفادة العلیة المنحصرة منه.

وعلیه فیجری فیما کان الوصف مساویاً أو أعم مطلقاً أیضاً، فیدل علی انتفاء سنخ الحکم عند انتفائه، فلا وجه فی التفصیل بینهما وبین ما إذا کان أخص من وجه، فیما إذا کان الإفتراق من جانب الوصف، بأنه لا وجه للنزاع فیهما، معللاً بعدم الموضوع، واستظهار جریانه من بعض الشافعیة فیه، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

الشَرح:

الحیوان سائماً.

أقول: لو کان الأمر کذلک فلابدّ من الالتزام بوجوب الزکاة فی الحیوان المملوک فیما إذا کانت سائمة کالبغل والخیل السائمتین، وعلیه یجری النزاع فیما إذا کان الوصف أعمّ مطلقاً من موصوفه، حیث إنّ مقتضی علّیة الوصف أن یثبت الحکم الوارد للموصوف فی غیر ذلک الموصوف أیضاً لتحقّق الوصف فیه أیضاً علی الفرض.

نعم، لا معنی للنزاع فی الوصف المساوی لعدم ترتّب ثمرة عملیّة علیه، لعدم تخلّف االوصف عن الموصوف الوارد فی الخطاب، وما فی عبارة الماتن قدس سره من لزوم جریانه فیه أیضاً کالوصف الأعمّ لا یمکن المساعدة علیه. اللّهمّ إلاّ أن یقال: لازم التساوی عدم ثبوت ذلک الحکم فی موارد یسلب عنه الوصف والموصوف فیکون مفهومه دلیلاً اجتهادیاً علی عدم الثبوت.

وکیف کان فلا وجه لما حکی عن التقریرات(1) من جریان النزاع فیما کانت النسبة بین الوصف والموصوف أعمّ من وجه حتّی بالإضافة إلی مورد افتراق

ص :185


1- (1) مطارح الأنظار: 182.

فصل

هل الغایة فی القضیة تدل علی ارتفاع الحکم عما بعد الغایة، بناءً دخول الغایة فی المغیّی، أو عنها وبعدها[1]، بناءً علی خروجها، أو لا؟

فیه خلاف، وقد نسب إلی المشهور الدلالة علی الإرتفاع، وإلی جماعة منهم السید والشیخ، عدم الدلالة علیه.

الشَرح:

الوصف وعدم جریانه فی الوصف الأعمّ والمساوی.

مفهوم الغایة

[1] الکلام فی المقام فیما إذا کانت الأداة مستعملة بمعنی الغایة، لا ما إذا استعملت بمعنی واو العاطفة کما فی قول القائل «أکلت السمکة حتّی رأسها» فإنّ العطف _ لإدخال الجزء الخفی أو الفرد الخفی _ خارج عن بحث المفاهیم.

ثمّ انّ الاحتمالات فی الغایة الواردة فی الخطاب ثلاثة:

الأوّل: أن تکون الغایة قیداً لموضوع الحکم کما فی قوله «فَاغْسِلُوا وُجُوْهَکُمْ واَیدیَکُم إلی المَرَافِقِ»(1)، حیث إنّ الید تطلق ویراد منها تارةً رؤوس الأصابع والأنامل کما فی قوله کتبت بیدی، وأخری یراد منها الأصابع کما فی قوله : «السّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أیْدِیَهُما»(2)، وثالثة إلی الزند کما یقال لا بأس للمرأة أن تستر وجهها ویدیها، ورابعة یراد منها إلی فوق الزند کالساعد أو إلی المرفق أو إلی المنکب فیقال قطعت یده، وعلی ذلک فلابدّ فی تعیین المقدار المغسول فی الوضوء

ص :186


1- (1) سورة المائدة: الآیة 6.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 38.

والتحقیق: إنه إذا کانت الغایة بحسب القواعد العربیة قیداً للحکم، کما فی قوله: (کلّ شیء حلال حتی تعرف أنه حرام)، و «کلّ شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر»(1)، کانت دالّة علی ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلک منها، کما لا یخفی، وکونه قضیة تقییده بها، وإلاّ لما کان ما جعل غایة له بغایة، وهو واضح إلی النهایة.

وأما إذا کانت بحسبها قیداً للموضوع، مثل (سر من البصرة إلی الکوفة)، فحالها حال الوصف فی عدم الدلالة، وإن کان تحدیده بها بملاحظة حکمه وتعلق الطلب به، وقضیته لیس إلاّ عدم الحکم فیها إلاّ بالمغیّی، من دون دلالة لها أصلاً علی انتفاء سنخه عن غیره، لعدم ثبوت وضع لذلک، وعدم قرینة ملازمة لها ولو غالباً، دلت علی اختصاص الحکم به، وفائدة التحدید بها کسائر أنحاء التقیید، غیر منحصرة بإفادته کما مرّ فی الوصف.

الشَرح:

من ذکر القرینة وتحدید المراد من الید.

نعم، لا یبعد ظهورها عند الإطلاق فی المعنی الثالث وعلی ذلک فلا دلالة للآیة المبارکة علی اعتبار بدء الغسل من المرافق أو الأنامل واعتبار کونه من المرافق عندنا ثابت بالنصّ بل بضرورة المذهب.

الثانی: أن یکون قیداً لمتعلّق الحکم والتکلیف، یعنی الفعل المتعلّق به الوجوب أو غیره کما فی مثل قوله علیه السلام : «إذا زالت الشمس، فقد دخل وقت الظهر والعصر جمیعاً إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ثمّ إنّک فی وقت منها حتّی تغرب الشمس»(2)، حیث إنّ ظاهره کون الغایة تحدیداً للصلاة والطهور لا لوجوبهما فقط.

الثالث: أن یکون قیداً لنفس الحکم لا لمتعلّقه ولا لموضوعه کما فی قوله علیه السلام :

ص :187


1- (1) سورة النساء: الآیة 23.
2- (2) الوسائل: ج 3، باب 4 من أبواب المواقیت، الحدیث 5.

ثم إنه فی الغایة خلاف آخر، کما أشرنا إلیه، وهو أنها هل هی داخلة فی المغییّ بحسب الحکم؟ أو خارجة عنه؟ والأظهر خروجها، لکونها من حدوده، فلا تکون محکومة بحکمه، ودخوله فیه فی بعض الموارد إنما یکون بالقرینة، وعلیه تکون کما بعدها بالنسبة إلی الخلاف الأول، کما أنه علی القول الآخر تکون محکومة بالحکم منطوقاً، ثم لا یخفی أن هذا الخلاف لا یکاد یعقل جریانه فیما إذا کان قیداً للحکم، فلا تغفل.

الشَرح:

«ثمّ قد حلّ له کلّ شیء إلاّ النساء، حتّی یطوف بالبیت طوافاً آخر ثمّ قد حلّ له النساء»(1).

ولا یخفی أنّه لو کانت الغایة قیداً لنفس الحکم فلا ینبغی التأمّل فی دلالة تقییده بها علی انتفاء الحکم بحصول الغایة کما تقدّم فی مفهوم الشرط، بخلاف ما إذا کانت الغایة قیداً للموضوع أو المتعلّق فإنّ دلالتها علی انتفاء الحکم بعدها فیما إذا کان الحکم قابلاً للتکرار مبتنیة علی دلالة الوصف علی المفهوم، لأنّ المذکور غایة للموضوع أو المتعلّق، قید لهما لا للحکم.

والمهمّ فی المقام البحث عن أمرین:

أحدهما: انّ الغایة الواردة فی خطاب الحکم مع عدم القرینة هل لها ظهور فی کونه قیداً لنفس الحکم نظیر ظهور الجملة الشرطیة فی کون الشرط فیها قیداً لنفس مضمون الجملة الجزائیة وتعلیقه علیه، أو لها ظهور فی رجوعها إلی الموضوع أو المتعلّق، أو یکون الخطاب من هذه الجهة مجملاً.

قد یفصّل فی المقام ویقال بأنّ للکلام ظهوراً فی کونه قیداً للمتعلّق فیما إذا کان

ص :188


1- (1) الوسائل: ج 10، باب 13 من أبواب الحلق والتقصیر، الحدیث 2.

.··· . ··· .

الشَرح:

الدالّ علی الحکم الهیئة وما لا یتضمّن معنیً إسمیّاً وکان المتعلّق مذکوراً فی الخطاب نظیر قوله «کُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّن الخَیْط الأبْیَضِ مِنَ الخَیْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ من الفجر ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إلی اللَّیْلِ»(1)، وله ظهور فی رجوع الغایة إلی نفس الحکم فیما إذا کان الحکم مستفاداً من المادة التی لها معنیً إسمی مع عدم ذکر المتعلّق فی الخطاب کقوله یحرم الخمر أو المیتة إلاّ أن یضطرّ إلیهما، وأمّا مع ذکر المتعلّق کما فی قوله یجب الصیام إلی اللیل فلا یستفاد کونها غایة للطلب أو الفعل.

وبالجملة إذا کانت الغایة قیداً للمتعلّق أو الموضوع فیدخل الکلام فی الغایة فی مفهوم الوصف والقید، بخلاف ما إذا کانت قیداً لنفس الحکم، فإنّ دلالتها علی المفهوم أقوی من دلالة القضیة الشرطیة علی انتفاء الحکم، حیث إنّه لا معنی لکونها غایة لنفس الحکم إلاّ مع انتفائه بحصولها ولکن لا ظهور لکونها قیداً لنفس الحکم إلاّ فی المورد المذکور حیث إنّ ظهورها فی کونها قیداً للمعنی الحدثی یوجب کونها قیداً لنفس الحکم لعدم ذکر المتعلّق وکون الحکم مستفاداً من المعنی الإسمی.

أقول: ولعلّ استظهار صاحب الکفایة قدس سره رجوع الغایة إلی الحکم فی مثل قوله علیه السلام : «کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه»(2)، وکذا قوله «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر»(3) دعاه إلی الاستدلال بهما علی اعتبار الاستصحاب فإنّ المذکور فی کلٍّ منهما حکمان: الأوّل: حکم علی الأشیاء بحلّیتها أو طهارتها

ص :189


1- (1) سورة البقرة: الآیة 187.
2- (2) الوسائل: ج 12، باب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.
3- (3) الوسائل: ج 2، باب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

.··· . ··· .

الشَرح:

بعناوینها الأوّلیّة، وهذا الحکم واقعی وإن ورد التخصیص علیه فی موارد متعدّدة. والثانی: استمرار هذا الحکم، أی الحلّیة والطهارة إلی حصول العلم بالقذارة والحرمة، وهذا یکون استصحاباً.

ولکن لا یخفی ما فیه لما ذکرنا فی مفهوم الشرط أنّ قید الحکم یکون قیداً لموضوعه ثبوتاً لا محالة وإنّما جعل قیداً لنفس الحکم فی الخطاب لیقتضی انتفاء سنخه مع ارتفاعه وانتفائه، وفی الروایتین إذا جعل العلم بالحرمة أو العلم بالقذارة قیداً للشیء المحکوم علیه بالحلّیة والقذارة یکون مفادهما قاعدة الحلّیة والطهارة، ولذا ذکرنا فی مبحث الأصول العملیة أنّ مفادهما قاعدتی الحلّیة والطهارة، وأنّ الشیء غیر المعلوم حرمته أو قذارته ما دام کذلک، یحکم بحلّیته وطهارته فاستظهار اعتبار الاستصحاب منهما لا وجه له.

وقال المحقق العراقی قدس سره ما حاصله: أنّه لو کان المعلّق علی الغایة النسبة الحکمیة فی الکلام نحو أکرم زیداً إلی اللیل أو حتّی یقدم الحاج، لکان للکلام مفهوم لعین ما تقدّم فی مفهوم الشرط حیث إنّ التعلیق علی الشرط راجع إلی تعلیق مضمون الجزاء حدوثاً، وفی الغایة إلی تعلیق المضمون علی الغایة بقاءً.

وبتعبیرٍ آخر: لو کان فی البین ما یدلّ علی کون الغایة قیداً لموضوع الحکم أو متعلّقه فلا یکون فی البین مفهوم لما تقدّم وجهه فی مفهوم الوصف، بل وکذلک فیما کانت الغایة قیداً لنفس الحکم لا النسبة الحکمیة کما یقال: «یجب من طلوع الفجر إلی غروب الشمس الجلوس فی المسجد» فإنّه لا دلالة لذلک إلاّ علی انتفاء شخص هذا الحکم لا ارتفاع سنخه وإنّما تختصّ الدلالة علی ارتفاع السنخ بما إذا کانت

ص :190

.··· . ··· .

الشَرح:

النسبة الحکمیة المعبّر عنها بالمضمون مغیّاة بغایة(1).

أقول: وحدة الحکم بوحدة متعلّقه وموضوعه، کما أنّ تعدّده یکون فی فرض تعدّد المتعلّق أو الموضوع، وإذا فرض أنّ الغایة فی الکلام لم تؤخذ فی ناحیة المتعلّق والموضوع، بل ثبت لمتعلّق واحد وموضوع واحد حکم مغیّی، فمقتضی ذکر الغایة انتهائه من ذلک الموضوع بحصولها، فلا یکون لذلک المتعلّق والموضوع سنخ ذلک الحکم لأنّ سنخ الحکم لا یتعدّد مالم یتعدّد المتعلّق والموضوع. وعلی ذلک فلا فرق بین أن یقال اجلس فی المسجد إلی اللیل أو یجب إلی اللیل الجلوس فی المسجد.

نعم، قد تقدّم فی مفهوم الوصف أنّه لا دلالة لمثل قوله «یجب عند مجیء زید إکرامه» علی ارتفاع الحکم بارتفاع مجیئه فإنّ ذکر الظرف لحدوث الحکم لا ینافی بقائه بعد ارتفاع ذلک الظرف بخلاف تقیید الحکم بالغایة فإنّ ثبوته بعد تلک الغایة خلف، وبما أنّه لا اختلاف فی ناحیة المتعلّق والموضوع فلا محاله یرتفع سنخ الحکم وهذا بخلاف ما إذا کانت الغایة قیداً للمتعلّق فإنّه لا ینافی تقیید المتعلّق لثبوت حکم آخر للمتعلّق الآخر وهو الفعل بعد تلک الغایة، وکذا الحال فی ناحیة کونها قیداً للموضوع.

نعم، إذا کان فی البین قرینة علی کون المولی فی مقام بیان تمام الحکم ثبوتاً واقتصر بذکر الغایة للمتعلق أو الموضوع کما فی آیة الوضوء کان الاقتصار بذکر الحکم للفعل أو الموضوع المغیّی کاشفاً عن عدم الحکم لغیر المغیّی.

ص :191


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 497.

.··· . ··· .

الشَرح:

دخول الغایة فی المغیّی وعدمه

وثانیهما: إذا کانت الغایة قیداً للموضوع أو المتعلّق ففیها خلاف آخر وهو کون الغایة داخلة فی حکم المغیّی بحیث یکون الخارج عن حکم المغیّی ما بعد الغایة لا نفسها، أو أنّ الغایة أیضاً کما بعدها خارجة عن حکم المغیّی، وهذا النزاع یجری فیما کان للفعل أو الموضوع قطعات ثلاث، قبل الغایة وحال الغایة وحال ما بعدها، کما فی غسل الید إلی المرفق، فهل یراعی غسل المرفق أیضاً أو أنّ ما یعتبر غسله هو ما یتلوه المرفق.

وأمّا إذا کان للفعل قطعتین حالة قبل الغایة وحالة الغایة فلا ینبغی التأمّل فی خروج الغایة عن حکم المغیّی کما فی قوله : «أَتِمُّوا الصِّیامَ إلی اللَّیْلِ»(1)، فإنّ للإمساک زمانین: النهار واللیل، فإذا جعل مجیء اللیل غایة، یرتفع الإمساک الواجب آن دخول اللیل فلا یجب الإمساک فی ذلک الآن، وهذا النزاع بعنوانه لا یجری فیما کان الشیء غایة لنفس الحکم، لأنّ معنی دخول الغایة فی المغیّی جریان حکم المغیّی علیه ودخول الغایة فیها بحسب الحکم، وإذا کان المغیّی نفس الحکم فلا معنی لثبوته بعد حصول غایته، وذکر الماتن قدس سره خروج الغایة عن المغیّی سواء کان المغیّی نفس المتعلّق أو الموضوع إذا لم یکن فی البین قرینة علی الخلاف لأنّ ظاهر الغایة أنّها حدّ للمغیّی بحسب الحکم المذکور له، وحدّ لذلک المغیّی فراجع الاستعمالات وتأمّل.

ص :192


1- (1) سورة البقرة: الآیة 187.

فصل

لا شبهة فی دلالة الاستثناء علی اختصاص الحکم __ سلباً أو إیجاباً __ بالمستثنی منه ولا یعمّ المستثنی[1]، ولذلک یکون الاستثناء من النفی إثباتاً، ومن الإثبات نفیاً، وذلک للإنسباق عند الإطلاق قطعاً، فلا یعبأ بما عن أبی حنیفة من عدم الإفادة، محتجاً بمثل (لا صلاة إلاّ بطهور) ضرورة ضعف احتجاجه:

أولاً: یکون المراد من مثله أنه لا تکون الصلاة التی کانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فیها صلاة، إلاّ إذا کانت واجدة للطهارة، وبدونها لا تکون صلاة علی وجه، وصلاة تامة مأموراً بها علی آخر.

وثانیاً: بأن الإستعمال مع القرینة، کما فی مثل الترکیب، مما علم فیه الحال لا دلالة له علی مدعاه أصلاً، کما لا یخفی.

ومنه قد انقدح أنه لا موقع للاستدلال علی المدعی، بقبول رسول اللّه صلی الله علیه و آله إسلام من قال کلمة التوحید، لإمکان دعوی أن دلالتها علی التوحید کان بقرینة الحال أو المقال.

الشَرح:

مفهوم الاستثناء

[1] لا ینبغی التأمّل فی دلالة الاستثناء علی اختصاص الحکم بالمستثنی منه وعدم شموله للمستثنی سواء کان الاستثناء من الإیجاب أو النفی، وعدم شموله للمستثنی هو الوجه فی کون الاستثناء من النفی ایجاباً ومن الایجاب نفیاً.

وقد حکی المناقشة فی ذلک عن أبی حنیفة قائلاً بعدم دلالة الاستثناء فی مثل «لا صلاة إلاّ بطهور» فإنّه لا یمکن الالتزام بحصول الصلاة بالطهارة خاصّة.

ص :193

.··· . ··· .

الشَرح:

وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بوجهین فی المتن وبثالثٍ فی الهامش:

الأوّل: إنّ نفیها مع عدم الطهارة هو حکم المستثنی منه فی فرض حصول تمام أجزاء الصلاة وشرائطها غیر الطهارة، فیکون مفاد الاستثناء تحقّق الصلاة مع فرض حصول أجزائها بشرائطها إذا حصلت الطهارة، والحاصل أنّ المنفی فی ناحیة المستثنی منه هو حصول الصلاة علی الصحیحی، وحصول التمام بناءً علی الأعمی والحکم بالنفی کما هو الحال فی سائر الاستثناءات یختصّ بالمستثنی منه ولا یعمّ المستثنی فیکون ظاهر التعبیر اشتراط الصلاة بالطهارة مطلقاً.

الثانی: انّ استعمال أداة الاستثناء فی غیر ما ذکر _ ممّا لا یدلّ معه علی الاختصاص مع القرینة _ مما لا ینکر، والقرینة فی هذا الترکیب هی کون المستثنی منه فی المثال مرکّباً من الأجزاء والشرائط وانتفاء المرکّب بانتفاء أحد أجزائه وشرائطه، وعدم تحقّقه بمجرّد وجود شرط من شرائطه، والغرض من الاستثناء فی مثل هذا الترکیب بیان شرطیّة الطّهارة وانتفاء الصلاة مع انتفائها.

الثالث: بأنّ المنفی فی مثل «لا صلاة إلاّ بطهور» هو الإمکان لا الحصول، بمعنی أنّ الصلاة لا یمکن تحقّقها بلا طهارة ویمکن مع حصول الطهارة.

أقول: لا یصحّ هذا الأخیر لأنّ الصلاة ممکنة بالتمکّن من الطهارة ومن سائر أجزائها وشرائطها ولا تکون ممکنة بمجرّد الطهارة.

والحاصل أنّه لا یفرق بین کون المنفی تحقّق الصلاة أو إمکانها حیث لا تتحقّق ولا تکون ممکنةً بمجرّد حصول الطهارة، والصحیح فی الجواب هو الوجه الأوّل وهو أنّ الصلاة المزبور تحقّق أجزائها وشرائطها لا تحصل بلا طهارة، وإذا انضمّ إلیها الطهارة تحصل، فإن کان لفظ الصلاة إسماً للتامّ فلا یتحقّق المسمّی وإن کان إسماً

ص :194

والاشکال فی دلالتها علیه __ بأن خبر (لا) اما یقدّر (ممکن) أو (موجود)[1] وعلی کل تقدیر لا دلالة لها علیه، أما علی الأول: فإنه حینئذ لا دلالة لها إلاّ علی إثبات إمکان وجوده تبارک وتعالی، لا وجوده، وأما علی الثانی: فلانها وإن دلت علی وجوده تعالی، إلاّ أنه لا دلالة لها علی عدم إمکان إله آخر __ مندفع، بأن المراد من الإله هو واجب الوجود، ونفی ثبوته ووجوده فی الخارج، وإثبات فرد منه فیه __ وهو اللّه __ یدلّ بالملازمة البینة علی امتناع تحققه فی ضمن غیره تبارک وتعالی، ضرورة أنه لو لم یکن ممتنعاً لوجد، لکونه من أفراد الواجب.

الشَرح:

للأعم فلا یحصل ما هو متعلّق الأمر والمطلوب من المکلّف.

وربّما یستدلّ لدلالة الاستثناء علی الحصر أی عدم جریان الحکم المذکور للمستثنی منه علی المستثنی بکلمة التوحید حیث إنّ کونها اعترافاً بوحدانیة ذات الحقّ (جلّ وعلا) لا یتمّ إلاّ بالحصر وعدم جریان النفی علی المستثنی.

ولکن لا یخفی ما فی الاستدلال حیث یمکن دعوی دلالتها علی التوحید بالقرینة لا بمقتضی وضع أداة الاستثناء والقرینة هی دعوة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم الناس إلی ترک آلهتهم والاعتراف بالذی فطر السموات والأرض والذی خلق ما فیهما وما بینهما.

وبتعبیرٍ آخر: کان المراد من کلمة التوحید معلوماً وهو نفی الالوهیة عن غیر ذات الحقّ (جلّ وعلا) وإثباتها للّه تعالی خاصّة.

[1] ینبغی فی المقام التکلّم فی أمور:

أحدها: ما ذکره الماتن قدس سره بقوله «والإشکال فی دلالتها علیه... إلخ» وتقریره:

أنّه قد یناقش فی کون کلمة «لا إله إلاّ اللّه» کلمة التوحید بأنّه إن قدّر خبر «لا»

ص :195

ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء علی الحکم فی طرف المستثنی بالمفهوم، وأنه لازم خصوصیة الحکم فی جانب المستثنی منه التی دلت علیها الجملة الاستثنائیة، نعم لو کانت الدلالة فی طرفه بنفس الاستثناء لا بتلک الجملة، کانت بالمنطوق، کما هو لیس ببعید، وإن کان تعیین ذلک لا یکاد یفید.

الشَرح:

الوجود، فلا یدلّ الکلام علی عدم إمکان إله آخر، وإن قدّر الإمکان فلا تدلّ علی الوجود للّه ، وکلمة التوحید لابدّ من أن تشتمل علی نفی الإمکان عن غیر اللّه وإثبات وجوده .

ویجاب بأنّها تصحّ أن تکون کلمة التوحید علی کلا التقدیرین، غایة الأمر انّه علی تقدیر الوجود یکون الاعتراف بفعلیة ذات الحقّ جلّ وعلا بالمطابقة، وبامتناع إله آخر بالملازمة، لأنّ الواجب بالذات لا یقبل الإمکان، الخاص وإذا فرض جهته مردّدة بین الوجوب والامتناع یکون الاعتراف بعدمه اعترافاً بعدم إمکانه، وعلی تقدیر الإمکان یکون الاعتراف بامتناع إله آخر بالمطابقة والاعتراف بوجوده بالملازمة لأنّ استثناء اللّه عن الامتناع یلازم الاعتراف بوجوده لعدم إمکان فرض الإمکان الخاص فی المقام.

أقول: المشرکون فی ذلک الزمان بل فی کلّ العصور والأزمنة لم یعتقدوا بوجوب الوجود لآلهتهم لیکون ادّعائهم بوجود الالهة واعترافهم بها التزاماً بوجوب وجودهم، ودعوی نفی الوجود ملازماً للاعتراف بالامتناع، ألا تری عبدة الاصنام والطاغوت، فهل کانوا معتقدین بأنّ الصنم الذی هو مصنوع بأیدیهم أو أیدی آبائهم واجب الوجود، وهکذا عبدة النار أو الحیوان هل کانوا یرون کلّ نار أو کلّ فرد من ذلک الحیوان واجب الوجود؟ کلاّ وابداً.

وأجاب المحقق النائینی قدس سره عن المناقشة بوجهٍ آخر وهو عدم الحاجة إلی

ص :196

.··· . ··· .

الشَرح:

تقدیر خبر لکلمة «لا» النافیة للجنس کما هو کذلک فی «لولا» الامتناعیة و«لیس» التامة فإنّها غیر محتاجة إلی الخبر، ویکون المراد من المنفی فی کلمة التوحید نفی تقرّر الشیء فی وعائه المناسب له، والوعاء المناسب لتقرّر المعبود مرحلتا الإمکان والوجود وأنّه لا تقرّر بحسبهما لغیر اللّه (1).

ولا یخفی ما فیه لرجوعه إلی تقدیر کلّ من الإمکان والوجود.

والصحیح فی الجواب أنّ المنفی ب_(لا) هو الوجود، فالمقدّر بحسب المتفاهم العرفی موجود، والمراد بالإله المنفی هو المعبود بالحقّ والاستحقاق، فیکون إثبات وجود اللّه وقطع النفی فیه «جلّ وعلا» توحیداً فإنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم عرّف ذات الحقّ «جلّ وعلا» بأنّه واحد لا شریک له لم یتّخذ صاحبةً ولا ولداً لم یلد ولم یولد حیٌّ قیّوم دائمٌ أزلیّ فطر السموات والأرض وما بینهما، لأنّ امتناع إله آخر یکون من لوازم الاعتراف بوجوده لا من لوازم نفی وجود غیره کما هو ظاهر الماتن قدس سره .

وهذا هو الأمر الثانی من الأمور التی ینبغی التکلّم فیها فی المقام، وحاصله أنّ المستفاد من القضیة الاستثنائیة عدم جریان الحکم المذکور للمستثنی منه علی المستثنی، فهل هذا من قبیل المفهوم بمعنی أنّ عدم ثبوت الحکم المذکور للمستثنی من لوازم انحصاره بالمستثنی منه فتکون لفظة «لا» حرفاً معناها تلک الخصوصیة التی تقوم بمفاد الجملة المشتملة علی المستثنی منه، أو أنّ ثبوت خلافه للمستثنی هو معنی لفظة «إلاّ» حیث یتضمّن معنی الفعل المعبّر عنه ب_(أستثنی) فیدخل عدم ثبوت الحکم الوارد فی ناحیة المستثنی منه للمستثنی من المنطوق.

ص :197


1- (1) أجود التقریرات 1 / 440.

.··· . ··· .

الشَرح:

اختار الماتن قدس سره فی أوّل کلامه الأوّل، ونفی البعد عن الثانی فی آخر کلامه، ولا أدری أنّه کیف جعل الأوّل ظاهراً مع نفیه البعد عن الثانی.

ولکن لا یترتب علی هذا البحث ثمرة عملیة بعد کون المعیار فی الاعتبار هو الظهور من غیر فرقٍ بین کونه منطوقاً أو مفهوماً، وما قیل من تقدیم المنطوق علی المفهوم عند تعارضهما أمر لا أساس له بل اللازم ملاحظة أنّ أیّاً منهما یحسب قرینة عرفیة علی المراد من الآخر، فقد یکون المفهوم لکونه أخصّ وقد یکون الأمر بالعکس ولکن مع ذلک لا یبعد کون دلالة الجملة الاستثنائیة علی قطع الحکم الوارد فی الخطاب عن المستثنی من قبیل المفهوم ولذا نری بالوجدان فرقاً بین قوله أکرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم، وقوله أکرم العلماء ولا تکرم فسّاقهم، حیث إنّ الفرق هو الخصوصیة التی نعبّر عنها بمدلول «إلاّ» القائمة بالجملة المستثنی منه، فتدبّر.

الأمر الثالث: أنّ لفظة «إلاّ» تستعمل وصفیّة وتستعمل استثنائیة، الأوّل کما فی قوله: «العلماء إلاّ زید أکرمهم» والثانی کما فی قوله: «أکرم العلماء إلاّ زیداً» وتکون «إلاّ» فی موارد استعمالها وصفاً بمعنی «غیر» فیکون مفاد الخطاب الأوّل العلماء الموصوفون بأنّهم غیر زید أکرمهم، بخلاف الثانی فإنّه بمعنی الاستثناء.

لا یقال: لم یظهر کون «إلاّ» فی الأوّل بمعنی، غیر معنی الاستثناء.

فإنّه یقال: الاستثناء إخراج المستثنی عن الحکم المذکور للمستثنی منه، وهذا لا یکون إلاّ بعد فرض ثبوت الحکم للمستثنی منه، بخلاف «إلاّ» الوصفیة فإنّه یرد فیها الحکم علی الموصوف بغیر المستثنی، وما ذکر من دلالة الاستثناء علی الحصر بمعنی عدم جریان الحکم المذکور للمستثنی منه علی المستثنی، بخلاف ما إذا کانت إلاّ وصفیة فإنّ دلالتها علی الحصر وعدمها مبنی علی مفهوم الوصف فیما کان

ص :198

.··· . ··· .

الشَرح:

الوصف موجباً للتقیید والتضییق.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر فی الکلام بین کون «إلاّ» وصفیة أو استثنائیة یحمل علی الاستثناء دون الوصف لظهورها فی کونها بمعنی الاستثناء، وإرادة الوصف یحتاج إلی قرینة، وإذا قال «لیس لزید علیَّ عشرة إلاّ درهم» فإن کان بمعنی الوصف فلا یثبت لزید شیء حیث إنّ معناها علی الوصف العشرة التی من وصفها غیر درهم واحد، لیست علیّ، بخلاف ما إذا کان بمعنی الاستثناء فإنّه یکون اعترافاً لزید بدرهمٍ واحد، فیحمل هذا القول علی الثانی.

ومما ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره فی الشرائع(1) فی باب الإقرار أنّه إذا قال «لیس علیَّ عشرة إلاّ درهماً» فلا یثبت علیه شیء غیر صحیح، حیث إنّه لو لم یکن نصب الدرهم قرینة علی کونه مستثنی فلا ینبغی التأمّل فی ظهور «إلاّ» بنفسه فی الاستثناء.

ووجه الحکم فی المسالک(2) وأنّه لا یکون لزید شیء، بأنّ الاستثناء علی تقدیر وروده قبل الحکم بأن یستثنی الدرهم من العشرة ثمّ یدخل النفی، یَکون الحکم وارداً علی مجموع المستثنی والمستثنی منه فلا یکون اعترافاً بشیء، وإذا کان بعده بأن ورد النفی علی العشرة ثمّ ورد الاستثناء علی النفی فیکون إثباتاً واعترافاً بالدرهم الواحد.

وفیه أنّ ورود الاستثناء قبل الحکم عبارة أخری عن جعل إلاّ وصفیة، حیث لا یتحقّق الاستثناء قبل الحکم علی المستثنی منه، وظاهر الخطاب المزبور هو

ص :199


1- (1) الشرائع: کتاب الإقرار، الجواهر 35 / 87.
2- (2) المسالک 2 / 171 السطر 26، الطبعة الحجریة.

ومما یدلّ علی الحصر والاختصاص (إنما) وذلک لتصریح أهل اللغة بذلک، وتبادره منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة[1].

ودعوی __ أن الإنصاف أنه لا سبیل لنا إلی ذلک، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة، ولا یعلم بما هو مرادف لها فی عرفنا، حتی یستکشف منها ما هو المتبادر منها __ غیر مسموعة، فإن السبیل إلی التبادر لا ینحصر بالانسباق إلی أذهاننا، فإن الإنسباق إلی أذهان أهل العرف أیضاً سبیل.

الشَرح:

الاستثناء بحسب الحکم علی ما تقدّم.

وذکر المحقق النائینی قدس سره أنّه لو قال «لزید علیّ عشرة إلاّ درهماً» تعیّن کونه استثناءً فیثبت علیه التسعة لا تمام العشرة الذی هو مقتضی جعل إلاّ وصفیة، وذلک فإنّ «إلاّ» لو کانت وصفیة لما صحّ نصب المستثنی(1).

ولکن لا یخفی أنّ هذا لا یتمّ فی محاورات عامّة الناس ممن لا یراعون فی خطاباتهم القواعد العربیة والإعراب والبناء، ألا تری أنّه لو سأل القاضی أحد الناس: ألیس علیک عشرة دراهم لزید؟ فقال: نعم، یؤخذ بالعشرة مع أنّه بحسب القواعد العربیة ومن یراعی قوانین لسان العرب یفید هذا الجواب إنکار الدین، ومن هنا قیل أنّهم لو أجابوا فی جواب قوله «أَلَسْتُ بِرَبّکُمْ» بنعم لکفروا، ولذلک أیضاً ذکرنا فی الفرع الذی تعرّض له فی الشرائع أنّه اعتراف بالدراهم، لا لنصب الدرهم بل لکون ظاهر الخطاب استعمال إلاّ استثنائیة لا وصفیة.

دلالة «إنّما» علی الحصر

[1] وممّا یدلّ علی الحصر والاختصاص کلمّة «إنّما»، فتستعمل تارةً فی حصر

ص :200


1- (1) أجود التقریرات 1 / 438.

.··· . ··· .

الشَرح:

الموضوع الوارد فی الخطاب علی الحکم بأن لا یکون لذلک الموضوع حکم أو محمول آخر سواء کان ذلک فی الأحکام الشرعیة کما فی قوله: إنّما العصیر حرام، أی لیس له حکم النجاسة أیضاً، أو کان فی غیرها کقوله «إِنَّما الحَیوةِ الدُّنْیا لَهْوٌ وَلَعِبٌ»(1)، بمعنی أنّه لا یثبت للدنیا وصف غیره.

نعم، ربّما یکون الحصر فی غیر الإنشائیات ادّعائیاً، وفی الإنشائیات والأحکام إضافیاً کما هو الحال فی الحصر بأداة الاستثناء أیضاً.

وأخری فی حصر الحکم علی الموضوع فلا یثبت ذلک الحکم فی غیره کقوله علیه السلام : «إنّما الحکرة فی الحنطة والشعیر والتمر والزیت والسمن والزبیب»(2)، «وإنّما وضع الزکاة علی الحنطة والشعیر والتمر والزبیب والذهب والفضة والغنم والبقر والإبل»(3).

ثمّ إنّ الخلاف فی کون المستفاد من حصر الموضوع علی المحمول أو حصر المحمول علی الموضوع مفهوماً أو منطوقاً کالخلاف فی الحصر المستفاد من الاستثناء غیر مهمّ، وإنّما المهمّ إحراز ظهورها فی الحصر. ویمکن إثبات ظهورها فیه بتبادر الحصر إلی أذهان أهل اللسان والمحاورة ولا یتوقّف إحراز ذلک منها علی

ص :201


1- (1) سورة محمد صلی الله علیه و آله وسلم : الآیة 36.
2- (2) الوسائل: ج 12، باب 27 من أبواب آداب التجارة، الحدیث 4 والحصر الوارد فی هذا الحدیث إنما هو ب_ (إلاّ) لا (انّما) نعم فی الحدیث 1 باب 28 بعده وارد بلفظة إنّما، لکن یختلف مضمونه.
3- (3) الوسائل: ج 6، باب 8 من أبواب ما تجب فیه الزکاة، الحدیث 16 مع اختلاف یسیر، إلیک نص الحدیث: عن أبی عبداللّه علیه السلام انّ الزکاة إنّما تجب جمیعها فی تسعة أشیاء حضها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بفریضتها فیها . . . الخبر.

وربما یعد مما دلّ علی الحصر، کلمة (بل) الاضرابیة[1]، والتحقیق أن الإضراب علی أنحاء:

منها: ما کان لأجل أن المضرب عنه، إنما أتی به غفلة أو سبقه به لسانه، فیضرب بها عنه إلی ما قصد بیانه، فلا دلالة له علی الحصر أصلاً، فکأنه أتی بالمضرب إلیه ابتداءً، کما لا یخفی.

ومنها: ما کان لأجل التأکید، فیکون ذکر المضرب عنه کالتوطئة والتمهید لذکر المضرب إلیه، فلا دلالة له علیه أیضاً.

ومنها: ما کان فی مقام الردع، وإبطال ما أثبت أولاً، فیدل علیه وهو واضح.

الشَرح:

وجود مرادف لها فی لغتنا لنلاحظ ذلک المرادف کما ناقش فی دلالتها علیه بذلک الشیخ الأعظم قدس سره (1). ومع الإغماض عن ذلک فلا ینبغی التأمّل فی أنّ الهیئة الترکیبیة التی توجب إظهار الحصر فی لغتنا یؤتی بدلها بکلمة «إنّما» فی لغة العرب، مثلاً إذا قیل بالفارسیة: «اینست و جز این نیست، زکاة به نه چیز گذاشته شده» یقال فی لغة العرب «إنّما وضع الزکاة علی تسعة أشیاء».

نعم لا یثبت هذا الظهور بتصریح أهل اللغة کما هو ظاهر کلام الماتن قدس سره ، فإنّه لا اعتبار بقولهم فی تعیین الظهورات، بمعنی أنّه لا یثبت الظهور بتصریحهم.

دلالة (بل) الاضرابیة علی الحصر

[1] وممّا یدلّ علی الحصر _ یعنی الحصر الإضافی _ (بل) الاضرابیة، والمراد بالحصر الإضافی فیها دلالتها علی عدم ثبوت الحکم الوارد فی الخطاب للموضوع قبلها ویثبت للمذکور بعدها، کما إذا قیل: یجب إکرام زید بل عمرو، وهذا فیما إذا

ص :202


1- (1) مطارح الأنظار: 188.

ومما یفید الحصر __ علی ما قیل __ تعریف المسند إلیه باللام[1]، والتحقیق أنه لا یفیده إلاّ فیما اقتضاه المقام، لأن الأصل فی اللام أن تکون لتعریف الجنس، کما أن الأصل فی الحمل فی القضایا المتعارفة، هو الحمل المتعارف الذی ملاکه مجرد الاتحاد فی الوجود، فإنه الشائع فیها، لا الحمل الذاتی الذی ملاکه الاتحاد الشَرح:

کان الإضراب عن الموضوع وأمّا إذا کان الإضراب عن الحکم والمحمول فیدلّ علی عدم ثبوت الحکم الأوّل وأنّ الثابت للموضوع هو الحکم المذکور بعدها کما إذا قیل: یحرم إکرام زید بل یجب، وهذا مع عدم إمکان الحکمین للموضوع ظاهر.

ثمّ إنّ دلالتها علی الحصر بالمعنی المتقدّم موقوفة علی عدم کون الإضراب للغفلة بأن لا یؤتی بالموضوع الأوّل أو الحکم الأوّل بلا قصد وبنحو سبق اللسان، حیث إنّ هذا النحو من الإضراب لا یقتضی نفی الحکم عن الموضوع الذی قبلها ونفی الحکم الوارد قبلها عن الموضوع، ولذا ربّما یصرّح المتکلّم بأنّ ما سبق به لسانی لا أدری واقع أم لا، وکذا یتوقّف دلالتها علی الحصر علی عدم کونها مستعملة فی مقام التأکید والتمهید لما یذکر بعدها، المعبّر عنها فی بعض الأحیان بکون الإضراب للترقّی وإلاّ یثبت الحکم لکلا الموضوعین أو یثبت کلا الحکمین ولا یبعد أن یقال إنّ «بل» الإضرابیة وما هو بمفادها فی خطاب لا یحمل علی کون الإضراب للغفلة عمّا ذکر أوّلاً، فإنّ عدم الخطأ والغفلة عن التکلّم کسائر الأفعال أصل عقلائی وأمّا کونها للتأکید والتمهید أو للإضراب المقتضی للحصر فیحتاج کلّ منهما إلی قرینة معیّنة کما لا یخفی.

اقتضاء تعریف المسند إلیه للحصر

[1] قد عدّ من أداة الحصر لام التعریف الداخلة علی المسند إلیه، وقد تقدّم أنّ الحصر یکون بالإضافة إلی المحمول تارةً، وبالإضافة إلی الموضوع أخری بأن

ص :203

بحسب المفهوم، کما لا یخفی، وحمل شیء علی جنس وماهیة کذلک، لا یقتضیاختصاص تلک الماهیة به وحصرها علیه، نعم، لو قامت قرینة علی أن اللام للاستغراق، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق، أو علی أن الحمل علیه کان ذاتیاً لأفید حصر مدخوله علی محموله واختصاصه به.

وقد انقدح بذلک الخلل فی کثیر من کلمات الأعلام فی المقام، وما وقع منهم من النقض والإبرام، ولا نطیل بذکرها فإنه بلا طائل، کما یظهر للمتأمل، فتأمل جیداً.

الشَرح:

لا یثبت لذلک الموضوع غیر ذلک الحکم والمحمول، وظاهر کلام الماتن قدس سره أنّ تعریف المسند إلیه یعنی المبتدأ یقتضی الحصر، یعنی حصر المبتدأ علی الخبر واختصاصه به بأن لا یکون لذلک المبتدأ خبر آخر إذا کانت اللام للاستغراق أو کان مدخولها مراداً بنحو الإطلاق والإرسال أو کان الحمل ذاتیاً، إذ مع اتحاد الموضوع والمحمول من حیث المفهوم لا یمکن حصول أحدهما بدون الآخر.

ولکن کلّ ذلک یحتاج إلی قیام قرینة علی إرادته بحسب المقام فإنّ اللاّم ظاهرها إرادة نفس الجنس والحمل ظاهر فی کونه حملاً شائعاً، فاتّحاد شیء مع ذات الجنس وجوداً لا ینافی اتّحاده مع آخر، أی اتّحاد ذات الجنس مع شیء آخر بأن یحمل علی ذات الجنس شیء آخر، لأنّ لذات الجنس حصص تتحد إحداها مع شیء وأُخراها مع شیءٍ آخر، کما لا یخفی.

أقول: المعروف فی کلمات علماء الأدب أنّ تقدیم ما یکون حقّه التأخیر مع إدخال اللام علیه یفید الحصر کما إذا قیل: القائم زید، أو: انّ العالم بکر، أو: الأمیر خالد، والحق بذلک تعریف المسند فی الکلام کقوله: زید العالم، وبکر القائم.

ولا یبعد القول بدلالة الأوّل علی الحصر، لأنّ تعیین ما یصدق علیه الجنس فی شیء لا یقبل التوسعة، لازمه انحصاره علی المحمول ولو کان هذا التعیین فی بعض

ص :204

.··· . ··· .

الشَرح:

الاستعمالات أو أغلبها ادّعائیاً لا حقیقیاً، ولعلّه إلی ذلک یرجع ما أفاده المحقّق الاصفهانی قدس سره فی المقام حیث قال: «ویمکن تقریب إفادته للحصر بأنّ المعروف عند أهل المیزان _ ولعلّه کذلک عند غیرهم أیضاً _ انّ المعتبر فی طرف الموضوع هو الذات وفی طرف المحمول هو المفهوم حتّی فی الأوصاف العنوانیة المجعولة موضوعات فی القضایا، فالقائم مثلاً وإن کان مفهوماً کلّیاً لم یؤخذ فیه ما یوجب اختصاصه بشیءٍ خاصّ إلاّ أنّ جعله موضوع القضیة حقیقة، لا بعنوان تقدیم الخبر، فاعتباره موضوعاً اعتباره ذاتاً، فهو _ بما هو _ ذات واحدة لا یعقل أن تعرضه خصوصیات متباینة کخصوصیة الزیدیة والعمرویة والبکریة بل لا یکون الواحد إلاّ معروضاً لخصوصیة واحدة فاعتبار المعنی الکلّی ذاتاً بجعله موضوعاً، وفرض المحمول أمراً غیر قابل للسعة والشمول هو المقتضی للحصر دائماً لا تقدیم الخبر ولا تعریف المسند إلیه، بمعنی إدخال اللاّم علیه»(1).

ص :205


1- (1) نهایة الدرایة 1 / 443.

فصل

لا دلالة للّقب ولا للعدد علی المفهوم، وانتفاء سنخ الحکم عن غیر موردهما أصلاً[1]، وقد عرفت أن انتفاء شخصه لیس بمفهوم، کما أن قضیة التقیید بالعدد منطوقاً عدم جواز الاقتصار علی ما دونه، لأنه لیس بذاک الخاص والمقید، وأما الشَرح:

مفهوم اللّقب والعدد

[1] المراد باللّقب ما هو أعم فیشمل الجامد والوصف غیر المعتمد علی موصوف ولا ینبغی التأمّل فی أنّ تعلّق الحکم فی الخطاب بعنوان یعدّ من الاسم الجامد أو الوصف _ کما فی قوله «أکرم العالم» _ لا یقتضی انتفاء سنخ الحکم عن مورد لا ینطبق علی ذلک العنوان أو الوصف، حیث إنّ ثبوت شیء لشیء لا ینافی ثبوت سنخه لغیره وهذا ظاهر.

وکذا لا مفهوم للعدد سواء ذکر العدد فی ناحیة متعلّق الحکم أو موضوعه فإنّه إذا اعتبر العدد فی ناحیة متعلّق التکلیف لا یکون الإتیان بالأقلّ أو الأکثر امتثالاً للتکلیف المزبور کاعتبار أربع رکعات فإنّ تحدید کلّ من صلاتی الظهرین بها فی ناحیتی القلّة والکثرة معناه أنّ الإتیان بالأقلّ من الأربع والأکثر منها لا یکون امتثالاً للتکلیف بالصلاتین، وهذا لا یرتبط بالمفهوم، کما أنّه لو کان التحدید بلحاظ الأقلّ فقط لا یکون الإتیان بالأقلّ من العدد امتثالاً ولا یضرّ الإتیان بالأکثر، بل ربّما یکون الإتیان بالأکثر أفضل کتحدید الذکر الأصغر فی الرکوع والسجود بثلاث مرات فلا یجزی الإتیان بالأقل من الثلاثة، وأمّا الزیادة فلا بأس بها بل یکون أفضل.

وکذا الحال فیما کان العدد مذکوراً فی ناحیة الموضوع کما إذا ورد فی خطاب «یجتنب الصائم عن ثلاثة: الأکل والشرب والنساء» فلا دلالة لها علی عدم کون غیر

ص :206

الزیادة فکالنقیصة إذا کان التقیید به للتحدید بالإضافة إلی کلا طرفیه، نعم لو کان لمجرد التحدید بالنظر إلی طرفه الأقل لما کان فی الزیادة ضیر أصلاً، بل ربما کان فیها فضیلة وزیادة، کما لا یخفی، وکیف کان، فلیس عدم الاجتزاء بغیره من جهة دلالته علی المفهوم، بل إنما یکون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ فی المنطوق، کما هو معلوم.

الشَرح:

الثلاثة مفطراً، إلاّ إذا کان المتکلّم فی مقام بیان جمیع المفطرات وتعدادها واقتصر علی ذکر عددٍ معیّن، فیستفاد عدم کون غیرها مفطراً من الإطلاق المقامی لا من ذکر العدد، ولذا لو ورد فی خطابٍ آخر الأمر بالاجتناب عن شیء رابع کالارتماس فإمّا أن یرتفع الإطلاق المقامی رأساً أو یرفع الید عنه بالإضافة إلی ذلک الرابع، کما یرفع الید عن الإطلاق اللفظی بمثل ذلک الخطاب، فیما إذا ورد فی خطاب «لا یضرّ الصائم ما صنع إلاّ ثلاث خصال: الأکل والشرب والنساء»(1) فإنّه إذا ورد نهی الصائم عن الارتماس فیرفع الید عن إطلاق المستثنی منه بتقییده بغیر الارتماس علی ما تقدّم فی تقریب مفهوم الشرط والاستثناء.

ص :207


1- (1) الوسائل: ج 7، باب 1 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1.

ص :208

ص :209

ص :210

المقصد الرابع: فی العام والخاص

اشارة

فصل

قد عرّف العام بتعاریف، وقد وقع من الأعلام فیها النقض بعدم الاطراد تارة والانعکاس أخری[1] بما لا یلیق بالمقام، فإنها تعاریف لفظیة، تقع فی جواب السؤال عنه ب_ (ما) الشارحة، لا واقعة فی جواب السؤال عنه ب_ (ما) الحقیقیة، کیف؟ وکان المعنی المرکوز منه فی الأذهان أوضح مما عرف به مفهوماً ومصداقاً، الشَرح:

تعریف العام

[1] ذکر قدس سره انّ العام قد عرّف بتعاریف مختلفة فی کلماتهم ونوقش فیها بعدم الاطراد والانعکاس، ولکن لا مورد للمناقشات لأنّ ما ذکر لیس من التعریف بمعنی الحدّ أو الرسم بل المقصود تحدید ما یراد من لفظ العام فیکون ما ذکر من قبیل ما یقع فی جواب (ما) الشارحة، لا تحدید الشیء بجنسه وفصله أو بسائر خواصّه وآثاره بحیث یمتاز عن سائر الأشیاء، ولیس أیضاً بیان المعنی بتمام قیوده حتّی یتعیّن سعته وضیقه لعدم الحاجة إلی ذلک إذ المعنی المرتکز فی الأذهان للعام أوضح مما عرّف به ولذا یکون صدق ذلک المعنی المرتکز وعدم صدقه منشأ النقض علی التعاریف بعدم اطرادها وانعکاسها والمعرّف لابدّ أن یکون أجلی هذا أولاً.

وثانیاً: إنّ الأحکام المترتبة علیه نظیر اعتبار ظهور العام عند الشک فی التخصیص أو بعد ورود المخصّص إلی غیر ذلک کلّها أحکام مترتبة علی ما یحمل علیه عنوان العام لا علی نفس عنوانه، والغرض من تعریف العام بیان ما یکون مشیراً

ص :211

ولذا یجعل صدق ذاک المعنی علی فرد وعدم صدقه، المقیاس فی الإشکال علیها بعدم الإطراد أو الانعکاس بلا ریب فیه ولا شبهة یعتریه من أحد، والتعریف لابد أن یکون بالأجلی، کما هو أوضح من أن یخفی.

فالظاهر أن الغرض من تعریفه، إنما هو بیان ما یکون بمفهومه جامعاً بین ما لا شبهة فی أنها أفراد العام، لیشار به إلیه فی مقام إثبات ما له من الأحکام، لا بیان ما هو حقیقته وماهیته، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الکلام بحسب الأحکام من أفراده ومصادیقه، حیث لا یکون بمفهومه العام محلاً لحکم من الأحکام.

الشَرح:

إلی تلک المصادیق المعروفة المرتکزة معانیها، المترتبة علیها الأحکام الآتیة.

ثمّ إنّ اتّصاف تلک المصادیق بعنوان العام لأجل الاشتمال کلٍّ منها علی معنیً یصلح للانطباق علی کثیرین مع ما یدلّ علی إرادة جمیع تلک الانطباقات، فلاحظ «کلّ عالم» فی قوله «أکرم کلّ عالم» فإنّه یوصف بأنّه عام لکونه متضمّناً لما یصلح للانطباق علی کثیرین انطباق الکلّی علی فرده ومصداقه للفظة «کلّ» الدالة علی إرادة جمیع تلک الانطباقات المعبّر عن تلک الانطباقات بشمول المعنی.

وعلی ذلک فلا یکون مثل لفظ «عشرة» من صیغ العموم لأنّها بنفسها لا تتضمن ما یصدق علی کثیرین ولا ما یدلّ علی إرادة جمیع تلک الانطباقات، فلو قیل «عشرة أثواب» مثلاً لا یکون المجموع عامّاً لأنّ الثوب وإن صلح للانطباق علی کثیرین إلاّ أنّ العشرة لا تدلّ علی إرادة جمیع تلک الانطباقات بل علی إرادة مقدار خاص کما لا یخفی.

لا یقال: یوصف الجمع المعرّف باللاّم بالعموم مع أنّه لیس کما ذکر حیث إنّ مدلوله کلّ فرد لا کلّ مجموع و مجموع.

فإنّه یقال: الدالّ علی العموم لیس لام التعریف فقط، بل هی مع هیئة الجمع.

ص :212

ثم الظاهر أن ما ذکر له من الأقسام: من الاستغراقی والمجموعی والبدلی إنما هو باختلاف کیفیة تعلق الأحکام[1] به، وإلاّ فالعموم فی الجمیع بمعنی واحد، وهو شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه، غایة الأمر أن تعلق الحکم به تارة بنحو یکون کل فرد موضوعاً علی حدة للحکم، وأخری بنحو یکون الجمیع موضوعاً واحداً، بحیث لو أخل بإکرام واحد فی (أکرم کل فقیه) مثلاً، لما امتثل أصلاً، بخلاف الصورة الأولی، فإنه أطاع وعصی، وثالثة بنحو یکون کل واحد موضوعاً علی البدل، بحیث لو أکرم واحداً منهم، لقد أطاع وامتثل، کما یظهر لمن أمعن النظر وتأمل.

الشَرح:

وبتعبیرٍ آخر: العلماء فی قوله «أکرم العلماء» یتضمّن معنی لفظ «عالم» وهیئة الجمع مع الألف واللاّم دالّة علی إرادة جمیع انطباقاته فیکون جمیع الانطباقات المعبّر عنها بشمول المعنی هو العموم وکلّ ما یکون دالاًّ لفظیاً علی شمول المعنی أی إرادة جمیع انطباقاته هو العامّ والدالّ علی الشمول یدخل فی أداة العموم کلفظة (کل) المرادف للفظ (هر) فی اللغة الفارسیّة.

أقول: مثل قوله: کلّ هؤلاء فی مثل أکرم کلّ هؤلاء من القضایا الخارجیة عامّ مع أنّه لیس فیه دلالة علی شمول الانطباقات لأنّه لیس مدخول کلّ فی المثال عنواناً کلیّاً لیکون له انطباقات، فیتعیّن أن یراد من أداة العموم والشمول ما یدلّ علی استیعاب مدخوله سواء کان الاستیعاب بحسب الانطباقات أو غیرها من الإشارة ونحوها.

أقسام العام

[1] یقسّم العام إلی الاستغراقی والمجموعی والبدلی، ومراده قدس سره انّ العموم فی جمیعها بمعنیً واحد وهو إرادة جمیع الانطباقات وتقسیمه إلی أقسامٍ ثلاثة

ص :213

وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغیرها لآحادها المندرجة تحتها لیس من العموم، لعدم صلاحیتها بمفهومها للانطباق علی کل واحد منها، فافهم.

الشَرح:

باعتبار تعلّق الحکم بتلک الانطباقات، حیث إنّ الحکم المتعلّق بتلک الانطباقات یکون حکماً واحداً لکون الملاک الموجب للحکم واحداً قائماً بمجموع تلک الانطباقات فیکون العام مجموعیاً، وأخری یکون الملاک انحلالیاً قائماً بکلّ واحدٍ من تلک الانطباقات فیکون الحکم الثابت للعامّ أیضاً انحلالیاً بحیث یکون کلّ فردٍ موضوعاً مستقلاًّ للحکم، فلو أخلّ بالحکم فی بعض الأفراد علی الأوّل لما کان امتثال أصلاً، بخلاف الفرض الثانی فإنّه یکون مخالفة لبعض الأحکام وموافقة للبعض الآخر، وربّما یکون کلّ واحد موضوعاً للحکم علی البدل بحیث لو راعی الحکم فی واحد من الانطباقات أطاع الحکم وامتثل ویسمّی الأوّل عامّاً مجموعیاً والثانی عامّاً استغراقیاً والأخیر عامّاً بدلیّاً.

وبالجملة انقسام العموم إلی أقسامٍ ثلاثة بلحاظ الحکم الثابت للانطباقات، ولذا یکون مدلول صیغ العموم فی الاستغراقی والمجموعی مع قطع النظر عن الحکم واحداً، ولیس المراد من اتّصاف العام بالمجموعی والاستغراقی والبدلی لحاظها موقوفاً علی جعل الحکم، نظیر لحاظ المکلّف عالماً بالحکم أو جاهلاً به، بأن یکون لحاظها من الانقسامات الثانویة، بل المراد أنّ لحاظ مجموع الانطباقات، أو کلّ واحد منها، أو واحد من أیٍّ منها یکون فی مقام جعل الحکم، لأنّ ما یرید جعله إمّا حکم واحد لمجموع الانطباقات أو أحکام انحلالیة لکلٍّ من الانحلالات أو حکم واحد لواحدٍ منها علی البدل ولذا قد یکون لکلٍّ منها صیغة تخصّه، مثلاً لفظة «کلّ» لا یصحّ استعمالها فی مورد العام البدلی ولفظة «أیّ» لا یصحّ استعمالها فی مورد العام المجموعی فاختلاف الصیغ مقتضاه اختلاف لحاظ الانطباقات فی مقام الحکم

ص :214

.··· . ··· .

الشَرح:

لها، کما لا یخفی.

وعن المحقّق النائینی قدس سره أنّ العام البدلی لیس من أقسام العموم، لأنّ الحکم المجعول فیه واحد لم یتعلّق بمدخول الأداة بجمیع انطباقاته بل تعلّق بالطبیعی المقیّد بالوحدة کما هو مدلول النکرة.

وبتعبیرٍ آخر: لا یکون فی ناحیة الحکم شمول لجمیع الانطباقات بل لا یتعلّق الحکم فی مورده بالافراد أصلاً وإنّما یسقط التکلیف بفردٍ لحصول الطبیعی به، وهذا بخلاف العموم الاستغراقی أو المجموعی فإنّ کلّ فردٍ من أفراد الطبیعی متعلّق لحکمٍ استقلالیّ فی الأوّل ولحکمٍ ضمنیّ فی الثانی، فیستوعب الحکم لجمیع الانطباقات، بخلاف العموم البدلی فإنّه لا شمول للحکم فیه للانطباقات لا بنحو الاستقلال والانحلال ولا بنحو الضمنیة والاندراج(1).

وقد صحّح الشیخ العراقی قدس سره کون العام البدلی من أقسام العام، وذکر ما ملخّصه أنّ للعام تقسیمین:

أحدهما: تقسیمه إلی العموم البدلی وغیر البدلی، وهذا التقسیم لیس بلحاظ الحکم والملاک، بل بلحاظ کیفیة العموم والشمول وسیر الطبیعی المدخول علیه الأداة فی أفراده حیث یلاحظ من الطبیعی سریانه وانطباقاته تارةً بنحو العرضیة بحیث یعبّر عنه ب_ (هذا وذاک وذلک) وهکذا، واخری یلاحظ سریانه وانطباقاته بنحو البدلیة ویعبّر عنه ب_ (هذا أو ذاک أو ذلک) وهکذا، فقولک: أیّ رجلٍ فی مقابل قولک کلّ الرجال وجمیع الرجال.

ص :215


1- (1) أجود التقریرات 1 / 443.

.··· . ··· .

الشَرح:

ثانیهما: تقسیم العام غیر البدلی وسیر الطبیعی فی انطباقاته بنحو العرضیة بلحاظ الحکم والملاک إلی قسمین استغراقی ومجموعی، حیث إنّ الحکم وملاکه إن کان فی کلّ واحدٍ من تلک الانطباقات فالعموم استغراقی وإن کان فی مجموعها فالعموم مجموعی فیکون العموم البدلی قسیماً لمقسم العام الاستغراقی والمجموعی، لا قسیماً لنفس العموم الاستغراقی أو المجموعی، حیث انقسام العموم غیر البدلی إلیهما بلحاظ الحکم والملاک بخلاف تقسیم العام إلی البدلی وغیر البدلی، فإنّ سریان الطبیعی فی انطباقاته بنحو العرضیة والبدلیة من الواقعیات غیر المحتاجة فی تحقّقهما إلی لحاظ الحکم والملاک(1).

ثمّ ذکر قدس سره فی آخر کلامه أنّ نفس السریان إلی الأفراد یکون عرضیاً فی کلٍّ من العام الاستغراقی والمجموعی والبدلی، وإنّما یکون التفاوت بین العام البدلی وغیره فی أنّ التطبیق فی العام البدلی بدلی بخلاف غیره، فإنّ التطبیق فی غیره یکون عرضیاً. فقولک: جئنی برجل أیّ رجل یکون دالاًّ علی الاستیعاب فی الأفراد، غایته یکون التطبیق تبادلیاً بخلاف قولک: أکرم کلّ عالم، فإنّ الاستیعاب والتطبیق فیه یکون عرضیاً(2).

أقول: کلامه فی الأخیر شاهد علی کون سریان الطبیعی فی انطباقاته عرضیة ولکن التطبیق التبادلی لابدّ من أن یکون باعتبار أمر، ولیس فی البین إلاّ إرادة جعل الحکم أو مقام الامتثال، وکلام المحقق النائینی قدس سره ناظر إلی کونه فی مقام الامتثال

ص :216


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 505.
2- (2) نهایة الأفکار 1 / 506.

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا الحکم فیجعل لصرف وجود الطبیعی أو المقیّد بالوحدة.

ولکنّ الصحیح انّ هذا النحو من جعل الحکم لا یخرج العام البدلی عن العموم وذلک فإنّ هذا النحو من جعل الحکم یستلزم الترخیص فی تطبیق الطبیعی علی أیّ وجود أو تعمیم الحکم فی انطباقه علی أیّ فردٍ منه، وإذا کان هذا الشمول بحسب الترخیص فی التطبیق أو التعمیم فی الانطباق، مستفاداً من الاطلاق _ أی إطلاق المتعلّق أو الموضوع فکذلک یمکن أن یکون مستفاداً من دلالة الدالّ اللفظی علیه بالوضع أیضاً کلفظة (أیّ) کما فی قولک: جئنی برجل أیّ رجل.

دوران العام بین المجموعی والاستغراقی

ثمّ إنّه إذا دار الأمر فی عامٍّ بین کونه موضوعاً بنحو المجموعی أو الاستغراقی، یحمل علی الاستغراقی، لأنّ اعتبار الحکم لمجموع الأفراد بما هی مجموع یحتاج إلی عنایة زائدة فی مقام الثبوت والإثبات. أمّا مقام الثبوت فلأنّه زائداً علی لحاظ نفس الأفراد لابدّ من لحاظها أمراً واحد یقوم به ملاک الحکم، وهذا یحتاج إلی البیان فی مقام الإثبات بخلاف العام الاستغراقی فإنّه لا یحتاج إلی أزید من لحاظ نفس الأفراد وجعل الحکم لها فی عرض واحد.

لا یقال: لابدّ من حمل العام علی المجموعی إلاّ مع قیام القرینة علی الاستغراقی وذلک لأنّ الموضوع للحکم فی مقام الإثبات هو عنوان الکلّ وهذا العنوان لا ینطبق علی الفرد لیثبت له الحکم استقلالاً بل ینطبق علی تمام الأفراد وهذا الکلام یجری حتّی فیما کان استفادة العموم من الهیئة الترکیبیة التی لا تدخل علی الأسماء مثل لام التعریف الداخلة علی الجمع، فإنّ وجه دلالة الجمع المحلّی

ص :217

.··· . ··· .

الشَرح:

باللاّم هو أنّ اللاّم تکون إشارة إلی مرتبة معیّنة من الجمع، وحیث لا معیّن لمرتبة منه إلاّ الأخیرة منها، یکون الحکم ثابتاً لتلک المرتبة لا لفردٍ وفرد.

فإنّه یقال: لفظة «کلّ» لیست عنواناً للموضوع، بل هی دالّة علی إرادة المتکلّم جمیع انطباقات مدخولها فتکون الانطباقات بنفسها موضوعاً للحکم ولازمه انحلال ذلک الحکم.

وبتعبیرٍ آخر: کما أنّ العنوان فی الانطباق علی کلّ من وجوداته مستقلّ کذلک فی الحکم لها بذلک العنوان، ویجری هذا الکلام فی الجمع المحلّی بالألف و اللام حتّی بناءاً علی أنّ العموم فیه لیس بدلالة الألف و اللاّم وهیئة الجمع علی إرادة المدخول بانطباقاته بل باقتضاء المرتبة المتعیّنة من أفراد الجمع، فإنّ ظاهر الخطاب لحاظ أفراد تلک المرتبة بما أنّ کلّ مرتبة منها فرد لا لحاظ أنّ المجموع شیء واحد، فإنّ هذا النحو من اللحاظ والحکم بحسب المتفاهم العرفی یحتاج إلی بیان القید ولحاظ الوحدة.

وقد یقال: إنّه لیس الوجه فی إفادة الجمع المحلّی باللاّم العموم، تعیّن المرتبة الأخیرة من الجمع، وذلک لأنّ عدم تعیّن سائر المراتب لا یقتضی إرادة تمام الأفراد بل یمکن إرادة أقلّ الجمع حیث إنّه متعیّن فی الثلاثة.

ویجاب: بأنّ أقلّ الجمع متعیّن من حیث العدد لا بحسب الخارج وإذا کانت الألف و اللاّم إشارة إلی المرتبة المتعیّنة بحسب الخارج فیتعیّن إرادة تمام الأفراد، ویؤکّد ذلک أنّه لو کانت هیئة الجمع مع الألف و اللاّم موضوعة للعموم لکان استعمال الجمع المحلّی بالألف و اللاّم فی موارد العهد الذکری أو الخارجی الآخر مجازاً.

ص :218

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکن یمکن الجواب بوجه آخر، بالالتزام بأنّ هیئة الجمع مع الألف و اللاّم تدلّ علی العموم وضعاً بأن وضع مجموعهما لما یرادف لفظ کلّ، وإذا دخلتا علی الطبیعی دلّ علی الاستغراق، فقوله «المُطَلَّقاتِ یَتَرَبَصْنَ»(1) یرادف قوله (کلّ مطلّقة تتربّص)، ولکن لکلّ من الألف و اللاّم وهیئة الجمع وضعٌ مستقلّ، حیث إنّ الألف و اللاّم وضعت لتعیّن المدخول خارجاً أو ذهناً أو ذکراً وهیئة الجمع وضعت لإرادة أزید من الفردین من الطبیعة وعلی ذلک فلا یلزم فی استعمال الجمع المحلّی الألف و باللاّم فی موارد العهد الذکری أو الذهنی أو الخارجی مجازیة أصلاً، کما لا یخفی.

ص :219


1- (1) سورة البقرة: الآیة 228.

فصل

لا شبهة فی أن للعموم صیغة تخصه __ لغة وشرعاً __ کالخصوص کما یکون ما یشترک بینهما[1] ویعمهما، ضرورة أن مثل لفظ (کل) وما یرادفه فی أی لغة کان تخصه، ولا یخص الخصوص ولا یعمه، ولا ینافی اختصاصه به استعماله فی الخصوص عنایة، بادعاء أنه العموم، أو بعلاقة العموم والخصوص.

الشَرح:

صیغ العموم

[1] وکأنّ مراده قدس سره أنّ للعموم صیغة تخصّه کلفظ (کلّ) وما یرادفه، کما أنّ للخصوص صیغة تخصّه کلفظ بعض وما یرادفه، وأمّا ما یکون مشترکاً بینهما فلعلّه یشیر إلی ما یذکره فی النکرة الواقعة فی سیاق النهی أو النفی، فإنّه قدس سره ذکر فیها أنّ النفی أو النهی وإن اقتضیا انتفاء الطبیعی أو ترکه إلاّ أنّ الطبیعی الواقع فی حیزهما فی نفسه مهمل فلابدّ من تعیین أنّه مرسل ولا بشرط أو مقیّد ومشروط، وإذا عیّن ولو بمقدّمات الإطلاق أنّه مرسل ولا بشرط نفیه أو نهیه یقتضی عقلاً انتفاء تمام أفراده أو ترک جمیعها، کما أنّه إذا کان مقیّداً ومشروطاً یقتضی النفی أو النهی عقلاً انتفاء أفرادهما المقیّدة أو ترکها.

وبالجملة، فسلب الطبیعی بالنفی أو النهی لا یقتضی إلاّ سلب المراد من مدخول النفی أو النهی، وبما أنّ المتیقّن من مدخولهما البعض فلا یقتضی مجرّد النفی أو النهی الاستیعاب فی کلّ ما یصلح أن ینطبق علیه مدخلوهما من أفراده.

ویمکن أن یقال بجریان ذلک فی مثل لفظ کلّ مما یکون دلالته علی العموم وضعیاً لا عقلیاً، حیث یمکن دعوی أنّ لفظة (کلّ) موضوعة للدلالة علی استیعاب الحکم بالإضافة إلی أفراد المراد من المدخول لا بالإضافة إلی کلّ ما یصلح أن ینطبق

ص :220

ومعه لا یصغی إلی أن إرادة الخصوص متیقنة، ولو فی ضمنه بخلافه، وجعل اللفظ حقیقة فی المتیقن أولی، ولا إلی أن التخصیص قد اشتهر وشاع، حتی قیل: (ما من عام إلاّ وقد خص)، والظاهر یقتضی کونه حقیقة، لما هو الغالب تقلیلاً للمجاز، مع أن تیقن إرادته لا یوجب اختصاص الوضع به، مع کون العموم کثیراً ما یراد، واشتهار التخصیص لا یوجب کثرة المجاز، لعدم الملازمة بین التخصیص والمجازیة، کما یأتی توضیحه، ولو سلم فلا محذور فیه أصلاً إذا کان بالقرینة، کما لا یخفی.

الشَرح:

علیه الطبیعی المدخول، ولذا لا ینافی دلالتها علی الاستیعاب بتقیید المدخول بقیودٍ کثیرة.

نعم، لا یبعد عند إطلاق مدخول کل بمعنی عدم ذکر القید له، أن تکون لفظة (کلّ) ظاهرة فی استیعاب الحکم لجمیع أفراد الطبیعة المدخول فیها.

ثمّ ذکر انّ الحال فی المحلّی باللاّم جمعاً کان أو مفرداً، کذلک بناءاً علی أنّ المحلّی باللاّم أیضاً یفیّد العموم فیکون العموم فیه حاصلاً فیما إذا لم یذکر للمدخول قید ولکن کون المحلّی باللاّم موضوعاً للاستیعاب والعموم محلّ منع، لعدم وضع اللاّم ولا مدخوله لذلک وعدم وضع آخر للمرکّب منهما، کما لا یخفی.

ص :221

فصل

ربما عد من الألفاظ الدالة علی العموم، النکرة فی سیاق النفی أو النهی، ودلالتها علیه لا ینبغی أن تنکر عقلاً، لضرورة أنه لا یکاد یکون طبیعة معدومة، إلاّ إذا لم یکن فرد منها بموجود، وإلاّ کانت موجودة، لکن لا یخفی أنها تفیده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقید، وإلاّ فسلبها لا یقتضی إلاّ استیعاب السلب، لما أرید منها یقیناً، لا استیعاب ما یصلح انطباقها علیه من أفرادها، وهذا لا ینافی کون دلالتها علیه عقلیة، فإنها بالإضافة إلی أفراد ما یراد منها، لا الأفراد التی یصلح لإنطباقها علیها، کما لا ینافی دلالة مثل لفظ (کل) علی العموم وضعاً کون عمومه بحسب ما یراد من مدخوله، ولذا لا ینافیه تقیید المدخول بقیود کثیرة.

نعم لا یبعد أن یکون ظاهراً عند إطلاقها فی استیعاب جمیع أفرادها، وهذا هو الحال فی المحلی باللام جمعاً کان أو مفرداً __ بناءً علی إفادته للعموم __ ولذا لا ینافیه تقیید المدخول بالوصف وغیره، وإطلاق التخصیص علی تقییده، لیس إلاّ من قبیل (ضیق فم الرکیة )، لکن دلالته علی العموم وضعاً محل منع، بل إنما یفیده فیما إذا اقتضته الحکمة أو قرینة أخری، وذلک لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمرکب منهما، کما لا یخفی، وربما یأتی فی المطلق والمقید بعض الکلام مما یناسب المقام.

الشَرح:

أقول: ما نفی عنه البعد فی مثل لفظة کلّ لا یجری فی مثل اسم الجنس الواقع فی حیز النفی أو النهی، بل لابدّ فی اقتضائهما عقلاً للاستیعاب لکلّ ما یصلح أن ینطبق علیه اسم الجنس من إثبات أنّ المراد من اسم الجنس الطبیعی بلا شرط وهذا یحتاج إلی الإحراز بمقدّمات الحکمة کما لا یخفی، وهذا یجری فی المحلّی باللاّم بناءاً علی عدم الوضع للعموم کما تقدّم فیکون ظاهراً فی الاستیعاب عند عدم تقییده.

ص :222

فصل

لا شبهة فی أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فیما بقی فیما علم عدم دخوله فی المخصص مطلقاً ولو کان متصلاً، وما احتمل دخوله فیه أیضاً إذا کان منفصلاً[1]، کما هو المشهور بین الأصحاب، بل لا ینسب الخلاف إلاّ إلی بعض أهل الخلاف.

وربما فصّل بین المخصص المتصل فقیل بحجیته فیه، وبین المنفصل فقیل بعدم حجیته، واحتج النافی بالاجمال، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصیات، وتعیین الباقی من بینها بلا معیّن ترجیح بلا مرجّح.

الشَرح:

التمسّک بالعام بعد التخصیص

[1] یؤخذ بالعام _ أی بأصالة عمومه _ بعد ورود التخصیص علیه فیما إذا شک فی ورود مخصّص آخر بلا فرقٍ بین کون تخصیصه بالمتصل أو بالمنفصل، وکذا یؤخذ به فیما تردّد کون فرد للعام من أفراد العنوان المخصّص بالشبهة المصداقیة أو بالشبهة المفهومیة إذا کان تخصیص العام بالمنفصل، وأمّا إذا کان بالمتصل فلا مجال للتمسّک بالعام المخصّص فیه، وعلیه فاذا ورد فی خطاب «أکرم کلّ عالم» وورد فی خطاب آخر «لا تکرم العالم الفاسق» وشک فی أنّ الفاسق خصوص من ارتکب الکبیرة أو یعمّ المرتکب للصغیرة أیضاً، فإنّه یتمسّک بأصالة العموم فی ناحیة خطاب «أکرم کلّ عالم» فی العالم الذی لم یرتکب إلاّ صغیرة، ویحکم بجریان حکم العام علیه، وهذا بخلاف ما إذا کان المخصّص متّصلاً کما إذا کان الخطاب «أکرم کلّ عالم غیر فاسق» فإنّه لا ظهور لهذا الخطاب فی ثبوت الحکم للعالم المرتکب للصغیرة فقط حتّی یؤخذ بأصالة الظهور فی ناحیته، ویظهر تفصیل ذلک بعد التعرّض للأقوال

ص :223

والتحقیق فی الجواب أن یقال: إنه لا یلزم من التخصیص کون العام مجازاً، أما فی التخصیص بالمتصل، فلما عرفت من أنه لا تخصیص أصلاً، وإن أدوات العموم قد استعملت فیه، وإن کان دائرته سعة وضیقاً تختلف باختلاف ذوی الأدوات، فلفظة (کل) فی مثل (کل رجل) و (کل رجل عالم) قد استعملت فی العموم، وإن کان أفراد أحدهما بالإضافة إلی الآخر بل فی نفسها فی غایة القلّة.

وامّا فی المنفصل، فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فیه وکون الخاص قرینة علیه، بل من الممکن قطعاً استعماله معه فی العموم قاعدة، وکون الخاص مانعاً عن حجیة ظهوره تحکیماً للنص، أو الأظهر علی الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه لا مجال للمصیر إلی أنه قد استعمل فیه مجازاً، کی یلزم الإجمال.

الشَرح:

فی جواز التمسّک بالعام بعد ورود المخصّص علیه والوجوه المذکورة لها، فنقول:

الأقوال فی المسألة ثلاثة:

الأوّل: عدم جواز التمسّک بالعام بعد ورود المخصّص علیه، بلا فرقٍ بین کون المخصّص متصلاً أو منفصلاً.

والثانی: جواز التمسّک به مطلقاً.

والثالث: جواز التمسّک بالعام فی المخصّص المتصل دون المنفصل.

وهذه الأقوال الثلاثة تجری أیضاً فیما إذا شکّ فی خروج بعض الأفراد عن العام لا من جهة الشک فی ضیق العنوان المخصّص أو سعته، بل من جهة عدم إرادتها کعدم إرادة الأفراد المندرجة تحت العنوان المخصّص.

وأمّا إذا کان الشک من جهة ضیق عنوان المخصّص وسعته المعبّر عنه بموارد

ص :224

لا یقال: هذا مجرد احتمال، ولا یرتفع به الإجمال، لاحتمال الاستعمال فی خصوص مرتبة من مراتبه.

فإنه یقال: مجرد احتمال استعماله فیه لا یوجب إجماله بعد استقرار ظهوره فی العموم، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجیة تحکیماً لما هو الأقوی، کما أشرنا إلیه آنفاً.

وبالجملة: الفرق بین المتصل والمنفصل، وإن کان بعدم انعقاد الظهور فی الأول إلاّ فی الخصوص، وفی الثانی إلاّ فی العموم، إلاّ أنه لا وجه لتوهم استعماله مجازاً فی واحد منهما أصلاً، وإنما اللازم الالتزام بحجیة الظهور فی الخصوص فی الأول، وعدم حجیة ظهوره فی خصوص ما کان الخاص حجة فیه فی الثانی، فتفطن.

وقد أجیب عن الاحتجاج، بأن الباقی أقرب المجازات.

الشَرح:

إجمال عنوان المخصّص فسیأتی الکلام فیه فی الفصل الآتی إن شاء اللّه تعالی فانتظر.

دلیل القول الأوّل

وعمدة ما استدلّ به القائل بعدم جواز التمسّک بالعام بعد ورود التخصیص علیه هو أنّ ورود خطاب المخصّص علی العام یکشف عن عدم استعماله فی العموم وسائر مراتب العام مختلفة ومتعدّدة ولا قرینة علی تعیین أیّة منها، فیکون خطاب العام مجملاً فلا یصلح للتمسّک به.

ولعلّ المفصّل بین المخصّص المتصل والمنفصل یری الإجمال وعدم تعیین مرتبة من المراتب الباقیة إذا کان المخصّص منفصلاً، وأمّا إذا کان المخصّص متّصلاً فاتّصاله قرینة علی استعماله فی تمام الباقی فیصلح العام المزبور للتمسّک به إذا شک فی إرادة تمام الباقی.

ص :225

.··· . ··· .

الشَرح:

وأجاب الماتن قدس سره عن الاستدلال بأنّه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ التخصیص بالمتصّل لا یوجب التجوّز لا فی ناحیة أداة العموم ولا فی ناحیة مدخولها، فإنّ الأداة کما تقدّم موضوعة للدلالة علی استیعاب الحکم لجمیع ما ینطبق علیه عنوان المدخول، والمدخول کما یأتی فی باب المطلق والمقیّد موضوع للطبیعی الذی یکون فی نفسه لا بشرط، بالإضافة إلی القیود الوجودیة والعدمیة حتّی بالإضافة إلی کون الطبیعی لا بشرط بالإضافة إلیهما، فلفظ (عالم) فی «أکرم کلّ عالم عادل» استعمل فی ذلک الطبیعی وتقییده بکونه عادلاً أو غیر فاسق فهو بدالٍّ آخر، ففی النتیجة تکون الدلالة علی العام المخصّص بتعدّد الدالّ والمدلول من غیر أن یکون فی البین استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، بل إطلاق التخصیص علی هذا النحو من التقیید من باب ضیّق فم الرکیّة، ففی الحقیقة لیس فی البین عموم مخصّص.

نعم لو کان من قبیل «أکرم کلّ عالم إلاّ الفاسق» فباعتبار الانحلال فی المستثنی کان لإطلاق التخصیص علیه وجه، ولکنّه غیر صحیح أیضاً.

وأمّا إذا کان التخصیص بمنفصل فالخاص المنفصل لا یکشف عن عدم استعمال العام فی خطابه فی العموم بأن لا یقصد المتکلّم بیان الحکم لجمیع ما ینطبق علیه مدخول الأداة، بل یکشف عن عدم تطابق الحکم الوارد فی ذلک الخطاب إثباتاً مع الحکم ثبوتاً فی مورد دلالة الخاص المنفصل وبأنّ الحکم ثبوتاً أضیق مما ورد فی خطاب العام المقصود تفهیمه بذلک الخطاب.

والحاصل، قد یکون الحکم الوارد فی خطاب العام مطابقاً تماماً لما اعتبره ثبوتاً المعبّر عنه بالمراد الجدّی، وقد لا یکون مطابقاً تماماً، والخاص المنفصل یکشف عن عدم تطابقه بالإضافة إلی مورد دلالة الخاص لا عن عدم قصده تفهیم

ص :226

.··· . ··· .

الشَرح:

الحکم بنحو العموم بخطاب العام، ولذا لا یکون الظفر بالمخصّص موجباً لانحلال ظهور العام وإنّما ینحلّ به أصالة التطابق المعبّر عنها بحجّیة الظهور، فیکون الخاص مزاحماً للعام فی حجّیته بناءاً علی أنّ تقدیم الخاص علی العام یکون من باب أقوی الظهورین، کما علیه ظاهر الماتن قدس سره أو لأنّ الخاص یحسب قرینة عرفیة علی المراد الجدّی من العام فیکون اعتبار دلیل الخاص حاکماً علی ما دلّ علی اعتبار ظهور العام، وإن کان الصحیح فی وجه تقدیمه علی خطاب العام هو کون الخاص قرینة عرفیة، ولهذا الکلام مقام آخر.

نعم، یبقی فی المقام کلام فی وجه تأخیر خطاب الخاص عن خطاب العام وعدم الإتیان به علی نحو المخصّص المتّصل وتفهیم أنّ الحکم مستوعب لجمیع ما ینطبق علیه المدخول مع فرض کون الحکم فی مقام الثبوت والإرادة الجدّیة علی خلاف ذلک العموم.

ویظهر من کلام الماتن قدس سره أنّ هذا لضرب القانون لیکون مرجعاً عند الشک فی الصدق ونحوه.

ولکن أورد المحقّق النائینی قدس سره علی ورود العام قانوناً، بأنّ إعطاء الحکم بنحو العموم قانوناً لیرجع إلیه عند الشک غیر صحیح، لأنّ ضرب القانون علی نحو القاعدة فی ظرف الشک فی الواقع وإن کان مما لا ینکر فی صحّته کما فی الاستصحاب وقاعدتی الحلّیة والطهارة إلاّ أنّ ورود التخصیص علی مثل هذه العمومات قلیل جداً فإنّه یکون تقدیم خطاب أو قاعدة علیها من باب الحکومة أو الورود، والعمومات التی مورد الکلام هی المتکفّلة لبیان الأحکام الواقعیة، وهذه العمومات لا تکون قانوناً لظرف الشک فی الواقع وکشف أحکام الثبوت منها، وإنّما

ص :227

وفیه: لا اعتبار فی الأقربیة بحسب المقدار، وإنما المدار علی الأقربیة بحسب زیادة الانس الناشئة من کثرة الإستعمال، وفی تقریرات بحث شیخنا الأستاذ قدس سره فی الشَرح:

عمل العقلاء بها لکونها ظهورات وکاشفات معتبرة إلی الأحکام الواقعیة.

وبتعبیرٍ آخر: مدالیلها الأحکام الثابتة للأشیاء والأفعال بعناوینها الواقعیة الأوّلیة أو الثانویة مع قطع النظر عن علم المکلّفین وجهلهم بها فکیف تکون تلک المدلولات أحکاماً لظرف الشک(1).

أقول: لا یخفی أنّه لیس مراد الماتن من إیراد العام قانوناً کون مدلوله حکماً ظاهریاً مضروباً لحال الشک لیرد علیه ما ذکر، بل العام وارد لبیان الحکم الواقعی وتفهیم عموم الحکم لجمیع ما ینطبق علیه مدخول الأداة، ومع کون الحکم ثبوتاً علی خلاف مدلول ذلک العام فی بعض أفراده یکون عدم الإتیان بالمخصّص المتصل بداعی تمکین المکلّف من التمسّک بأصالة التطابق بین مدلول العام ومقام الثبوت فی مثل مورد الشک فی فردیّته لعنوان الخاص لإجماله مفهوماً، أو أنّه باقٍ تحت العام، وأصالة التطابق فی ناحیة العام فی نفسها حکم ظاهری ترتفع بأصالة التطابق فی ناحیة خطاب الخاص ومع عدم جریانها فیه لإجمال عنوان الخاص و مع عدم جریانها فیه لإجمال عنوان الخاص یؤخذ بها فی ناحیة العام کما یأتی. أضف إلی ذلک جواز الإتیان بالخاصّ منفصلاً حتّی فی موارد تبیّن مفهومه وعدم إجماله فإنّ مصلحة تأخیر البیان لیسهل علی الناس تعلّم الأحکام وأخذها من الاغراض التی یجوز لأجلها ذکر الخاص منفصلاً حتّی فیما إذا کان متأخراً عن وقت الحاجة.

ص :228


1- (1) أجود التقریرات 1 / 449.

مقام الجواب عن الاحتجاج، ما هذا لفظه[1]: والأولی أن یجاب بعد تسلیم مجازیة الباقی، بأن دلالة العام علی کل فرد من أفراده غیر منوطة بدلالته علی فرد آخر من أفراده، ولو کانت دلالة مجازیة، إذ هی بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غیرها فی مدلوله، فالمقتضی للحمل علی الباقی موجود والمانع مفقود، لأن المانع فی مثل المقام إنما هو ما یوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلی الباقی لإختصاص المخصص بغیره، فلو شک فالأصل عدمه، انتهی موضع الحاجة.

الشَرح:

[1] هذا تعرّض لما أجاب به الشیخ قدس سره علی ما فی تقریراته عن إشکال تعدّد المجازات بحسب المراتب وعدم قرینة معیّنة للمراد منها.

وحاصل جوابه قدس سره أنّه بناءاً علی کون تخصیص العام موجباً لمجازیة استعماله لا یوجب ذلک سقوطه عن الاعتبار فی تمام الباقی، والوجه فی ذلک أنّ دلالة العام علی إرادة فرد من أفراده غیر منوطة بدلالته علی إرادة الفرد الآخر منه، سواء کان ذلک العام مخصّصاً أو لم یخصّص أصلاً، وکما أنّ العام یدلّ علی شمول الحکم لکلّ فردٍ من أفراده قبل أن یرد علیه تخصیص، فکذلک لا تتغیّر هذه الدلالة بالإضافة إلی الأفراد الباقیة تحته بعد ورود التخصیص علیه، فالمجازیة فی العام المخصّص، لعدم شموله لأفراد الخاص لا لشمولها للأفراد الباقیة، وإن شئت قلت: دلالة العام علی الأفراد الباقیة مستندة إلی الوضع کصورة عدم ورود الخاص، حیث إنّ إرادة فرد من أفراده غیر منوطة بإرادة فرده الآخر، غایة الأمر عدم إرادة بعض منها وهو ما یدخل فی عنوان الخاص یکون موجباً لاتّصافه بالمجاز وتکون المجازیة بعدم إرادة ذلک البعض وعدم إرادته یحتاج إلی القرینة، حیث إنّ الخاص قرینة علی عدم إرادته ومع عدم ثبوت خاصٍّ آخر یؤخذ بدلالة العام لأصالة عدم المانع یعنی قرینة أُخری علی

ص :229

قلت: لا یخفی أن دلالته علی کل فرد إنما کانت لأجل دلالته علی العموم والشمول، فإذا لم یستعمل فیه واستعمل فی الخصوص __ کما هو المفروض __ مجازاً، وکان إرادة کل واحد من مراتب الخصوصیات مما جاز انتهاء التخصیص إلیه، واستعمال العام فیه مجازاً ممکناً، کان تعین بعضها بلا معین ترجیحاً بلا مرجح، ولا مقتضی لظهوره فیه، ضرورة أن الظهور إمّا بالوضع وإمّا بالقرینة، والمفروض أنه لیس بموضوع له، ولم یکن هناک قرینة، ولیس له موجب آخر، ودلالته علی کل فرد علی حدة حیث کانت فی ضمن دلالته علی العموم، لا یوجب ظهوره فی تمام الباقی بعد عدم استعماله فی العموم، إذا لم تکن هناک قرینة علی تعیینه، فالمانع عنه وإن کان مدفوعاً بالأصل، إلاّ أنه لا مقتضی له بعد رفع الید عن الوضع، نعم إنما یجدی إذا لم یکن مستعملاً إلاّ فی العموم، کما فیما حققناه فی الجواب، فتأمل جیداً.

الشَرح:

عدم إرادة البعض الآخر(1).

ولکن لا یخفی عدم تمامیة ما ذکره، والوجه فی ذلک أنّ استعمال العام وإرادة کلّ واحدٍ من أفراده لیس من قبیل استعمال اللفظ فی أکثر من معناه لیکون استعماله فی فرد کاستعماله فی أکثر الأفراد، بأن لا تختلف الإرادة بالإضافة إلی المعانی المتعددة، بل یکون الاختلاف بإرادة معنیً آخر عند إرادة الأکثر وعدم إرادة المعنی الآخر عند عدم استعماله فی الأکثر.

وبتعبیرٍ آخر: یکون إرادة المعنی الآخر عند استعماله فی کلا المعنیین الحقیقی والمجازی، بإرادةٍ مستقلّة غیر الإرادة المستقلّة بالإضافة إلی معناه الحقیقی، وعدم استعماله إلاّ فی معناه الحقیقی لا یوجب انضمام تلک الإرادة المستقلة إلی الإرادة

ص :230


1- (1) مطارح الأنظار: 192.

.··· . ··· .

الشَرح:

بالإضافة إلی معناه الحقیقی.

وهذا بخلاف العام فی موارد التخصیص فإنّ العام ککلّ عالم عند استعماله فی معناه الحقیقی یراد منه معنی العالم بنحو اللابشرط بجمیع انطباقاته فکلّ من تلک الانطباقات مرادة بإرادة ضمنیة، وفی مورد التخصیص یراد منه العالم المشروط بجمیع انطباقاته أیضاً ولکن بما أنّ غیر المرتبة الأخیرة متعدّدة وتمام الباقی أحد المعانی للعالم المشروط بجمیع انطباقاته أو إحدی المراتب التی یدّعی أنّ أفرادها تمام انطباقات العالم اللابشرط، فلابدّ فی تعیینه إلی نصب القرینة علی إرادته والمفروض أنّ الخطاب الخاص ولو فی المنفصل لا یکشف إلاّ عن عدم إرادة المتکلّم المرتبة الأخیرة من العموم.

ودعوی أقربیة تمام الباقی إلی المدلول الوضعی للعام قرینة علی تعیینه ممنوعة، لأنّ مجرّد الأقربیة مالم یکن مأنوساً فی الأذهان لا یوجب انصراف اللفظ إلیه.

وذکر المحقّق الاصفهانی قدس سره فی توجیه کلام الشیخ قدس سره أنّ الخاص یزاحم الدلالة التضمنیة للعام، والدلالات التضمنیة للعام لا یتبع بعضها بعضاً وإنّما کلّها تتبع الدلالة المطابقیة للعام، وحیث إنّه لم یثبت المزاحم والمانع لسائر الدلالات التضمنیة فیکشف ذلک عن ثبوت دلالة مطابقیة للعام تحوی تلک الدلالة المطابقیة _ أی الخاص _ وسائر الدلالات التضمنیة التی لم تثبت لها مزاحم وتبعیة الدلالات التضمنیة من حیث ثبوتها للدلالة المطابقیة لا تنافی تبعیة الدلالة المطابقیة لتلک الدلالات التضمنیة من حیث الإثبات.

وبالجملة الخاصّ إنّما یزاحم الدلالة التضمنیة للعام وتسقط تلک الدلالة المطابقیة بسقوط تلک الدلالة التضمنیة، وبعدم المزاحم لسائر الدلالات التضمنیة

ص :231

.··· . ··· .

الشَرح:

یستکشف ثبوت دلالة مطابقیة تحوی سائر الدلالات التضمنیة.

وبتعبیرٍ آخر: تبعیة المدلولات التضمنیة للمدلول المطابقی ثبوتاً لا تنافی تبعیة الدلالة المطابقیة للمدلولات التضمنیة إثباتاً وسقوطاً.

لا یقال: غایة ما ذکر أنّ سقوط بعض الدلالات التضمنیة لا ینافی ثبوت سائر الدلالات التضمنیة الکاشفة عن ثبوت دلالة مطابقیة للعام بحیث تحوی تلک الدلالات، والکلام فی ثبوت المقتضی لثبوت سائر الدلالات التضمنیة.

فإنّه یقال: فإنّا نعلم بثبوت دلالة مطابقیة للعام لا محالة، حیث إنّ المتکلّم لا یتکلّم بکلام العام لاغیاً وإذا انضمّ خطاب الخاص المخصّص إلی خطاب العام الواردین من متکلّم واحد أو متکلمین یکونان بمنزلة المتکلّم الواحد کالخطابین الصادرین عن إمامین معصومین کشف ذلک عن استعمال العام فی معنیً لا یکون معه مزاحم لتلک الدلالات التضمنیة. فالمراتب المناسبة للعام وإن کانت متعدّدة وکلها فی عرض واحد، إلاّ أنّ المدلولات التضمنیة بعضها فی طول بعض آخر ولا تصل النوبة إلی المدلولات التضمنیة التی أقلّ مقداراً إلاّ مع ثبوت المزاحم لما هو أکثر منه مقداراً، فلا وقع للقول بأنّه کما لا مانع بالإضافة إلی تمام الباقی کذلک لا مانع بالإضافة إلی الأقلّ منه(1).

أقول: مرجع ما ذکره قدس سره إلی انّ الخاص ولو کان منفصلاً یکون قرینة معیّنة للمرتبة المرادة من العام المخصّص، وقد تقدّم انّ خطاب الخاص یکشف عن عدم استعمال المتکلّم العام فی الطبیعی اللابشرط بجمیع انطباقاته بحکم العقل، لا أنّ

ص :232


1- (1) نهایة الدرایة 2 / 452.

.··· . ··· .

الشَرح:

خطاب الخاص ناظر إلی بیان المراد أی المستعمل فیه للعام، بل هو ناظر إلی بیان عدم ثبوت الحکم الوارد فی خطاب العام للأفراد الداخلة فی عنوان الخاص ثبوتاً، ولا یلزم لغویة خطاب العام مع عدم تعیین المرتبة المرادة لأنّ العام یعمل به إلی مرتبة لا یجوز انتهاء التخصیص إلیها، کما لا یخفی.

وممّا ذکرنا یظهر الجواب عمّا ذکره الشیخ العراقی قدس سره فی الجواب عن الإشکال المتقدّم من أنّ دلالة العام علی حکم باقی الأفراد ثابتة لا تختلف، سواء ورد علیه التخصیص أم لا، فورود التخصیص علی العام متّصلاً أو منفصلاً یمنع عن ظهوره بالإضافة إلی الأفراد التی داخلة فی عنوان المخصّص، وذلک کما إذا کان الخطّ المرسوم أوّلاً مترین ثم أُزیل منه بعضه فإنّ الباقی منه هو البعض المرسوم أوّلاً، والاختلاف والتغییر إنّما هو فی الحد.

وبالجملة شمول العام للأفراد الباقیة بعد ورود خطاب الخاص هو الشمول الذی کان لولا ورود الخاص وإنّما یزول شموله للأفراد الداخلة تحت عنوان الخاص فحسب، ولا یختلف الحال بین أن یسمّی شموله للباقی حقیقة أو مجازاً ولا تجری أصالة الحقیقة فی المقام لأنّها إنّما تجری مع عدم إحراز المراد، والمراد من العام فی المقام محرز وهو تمام الباقی من سائر الأفراد(1).

ووجه الظهور أنّ دلالة العام _ لولا ورود التخصیص علیه _ علی الأفراد، باقیة لکونها من أفراد الطبیعی المراد بنحو اللابشرط، وقد استعمل مدخول الأداة فیه ودلّ الأداة علی إرادة المتکلّم جمیع انطباقاته، بخلافه بعد ورود خطاب الخاص فإنّه

ص :233


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 512.

.··· . ··· .

الشَرح:

یکشف عن استعمال مدخولها فی الطبیعی المشروط، فشمول الحکم الوارد علی العام لتمام الباقی من الأفراد موقوف علی کون الطبیعی المشروط بحیث ینطبق علی کلّ فردٍ من أفراد الطبیعی المشروط المراد لتدلّ الأداة علی إرادة جمیعها والمفروض عدم القرینة المعیّنة لذلک الطبیعی الذی یستعمل فیه مدخول الأداة بنحو المجاز، ولذا یصیر خطاب العام بعد التخصیص مجملاً یقتصر فی حکمه علی الأفراد التی لا یجوز انتهاء التخصیص إلاّ إلیها علی ما تقدّم.

ص :234

فصل

إذا کان الخاص بحسب المفهوم مجملاً، بأن کان دائراً بین الأقل والأکثر[1[ وکان منفصلاً، فلا یسری إجماله إلی العام، لا حقیقة ولا حکماً، بل کان العام متبعاً فیما لا یتبع فیه الخاص، لوضوح أنه حجة فیه بلا مزاحم أصلاً، ضرورة أن الخاص إنما یزاحمه فیما هو حجة علی خلافه، تحکیماً للنص أو الأظهر علی الظاهر، لا فیما لا یکون کذلک، کما لا یخفی.

وإن لم یکن کذلک بأن کان دائراً بین المتباینین مطلقاً، أو بین الأقل والأکثر فیما کان متصلاً، فیسری إجماله إلیه حکماً فی المنفصل المردّد بین المتباینین، وحقیقة فی غیره:

أما الأول: فلأن العام __ علی ما حققناه __ کان ظاهراً فی عمومه، إلاّ أنه لا یتبع ظهوره فی واحد من المتباینین اللذین علم تخصیصه بأحدهما.

وأما الثانی: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام، لاحتفاف الکلام بما یوجب احتماله لکل واحد من الأقل والأکثر، أو لکل واحد من المتباینین، لکنه حجة فی الأقل، لأنه المتیقن فی البین.

فانقدح بذلک الفرق بین المتصل والمنفصل، وکذا فی المجمل بین المتباینین والأکثر والأقل، فلا تغفل.

الشَرح:

التمسّک بالعام فی الشبهة المفهومیة للخاص

[1] إذا ورد الخاص علی خلاف حکم العام وکان الخاص بحسب مفهومه مجملاً بحیث لا یعلم سعة معناه أو ضیقه وکان خطاب الخاص منفصلاً یؤخذ بخطاب الخاص فی المتیقّن ویؤخذ فی المشکوک دخوله فی عنوان الخاص، بالعام

ص :235

.··· . ··· .

الشَرح:

کما إذا ورد فی خطاب الأمر بإکرام العلماء وورد فی خطابٍ آخر النهی عن إکرام العالم الفاسق، وتردّد الأمر بین کون المراد بالفاسق خصوص المرتکب للکبیرة أو مطلق العاصی ولو کان مرتکباً للصغیرة بلا إصرارٍ، فإنّه یؤخذ بعموم العام فی المرتکب للصغیرة غیر المصرّ علیها ویرتفع إجمال المخصّص من حیث الحکم.

هذا فیما کان المخصّص المجمل منفصلاً عن خطاب العام، وأمّا إذا کان بنحو المخصّص المتصل کقوله: «أکرم کلّ عالم إلاّ الفاسق منهم» فلا یصحّ التمسّک بالعام فی مورد الإجمال لسرایة إجمال المخصّص إلی العام وعدم انعقاد ظهور له فی العموم.

وإذا کان الخاص المجمل مردّداً أمره بین المعنیین المتباینین کما إذا ورد فی خطاب الأمر بإکرام العلماء وورد فی خطاب النهی عن إکرام زید ودار الأمر بین کون المراد من زید هو زید بن عمرو أو زید بن بکر فإنّ العام یسقط عن الاعتبار بالإضافة إلی کلّ من المحتملین وذلک لقیام الأمارة علی عدم تطابق ظهور العام فی أحدهما للواقع فلا یصلح للأخذ به فی شیءٍ منهما من غیر فرقٍ بین ما إذا کان الخاص متصلاً أو منفصلاً.

لا یقال: إذا کان الخاص منفصلاً عن خطاب العام وکان عدم تطابق ظهور العام للواقع بالإضافة إلی أحد المتباینین محرزاً بالوجدان فالأمر کما ذکر للعلم الإجمالی بورود التخصیص للعام فی أحدهما، وأمّا إذا کان عدم تطابق ظهور العام للواقع غیر محرز بالوجدان بأن کان الخاص من قبیل الامارة المعتبرة کالخبر العادل فهو لإجماله وتردّده بین المتباینین لا یکون حجّة فی شیء منهما ولا فی أحدهما لا بعینه، حیث إنّه لا دلیل علی اعتبار المدلول الالتزامی بعد سقوط المدلول المطابقی عن الاعتبار کما یأتی فی بحث تعارض الأدلة وبیان عدم صلاحیة المتعارضین لنفی الثالث.

ص :236

.··· . ··· .

الشَرح:

وعلیه، فلا وجه لرفع الید عن العموم بالإضافة إلی کلٍّ من زیدبن عمرو وزید بن بکر فی المثال، بل یؤخذ فیهما بالعموم کما یؤخذ به فی سائر الأفراد، حیث من یحتمل طلب إکرام کلّ منهما ثبوتاً لاحتمال عدم صدق خطاب الخاص المظنون فی شیءٍ منهما.

فإنّه یقال: إجمال الخاص بمعنی عدم ظهوره إنّما هو بالإضافة إلی خصوصیة أیّ من الزیدین بمعنی تعیینه، وأمّا بالإضافة إلی کون أحدهما غیر مراد جدّاً فی المقام فهو ظاهر ولا یکون ذلک من المدلول الالتزامی للدلیلین المتعارضین لیکون سقوطهما عن الاعتبار بالإضافة إلی المدلول المطابقی موجباً لانتفاء المدلول الالتزامی أصلاً أو اعتباراً.

وأمّا عدم اعتبار المدلول الالتزامی تبعاً لعدم اعتبار المدلول المطابقی لإجماله، فهو غیر ثابت وذلک لأنّ سقوط المدلول الالتزامی فی المتعارضین إنّما هو لوقوع التکاذب بینهما، حتّی فی ذلک المدلول الالتزامی بخلافه فی المقام، فإنّه فی الحقیقة فی المآل مدلول انحلالی ضمنی.

وإن شئت قلت: حجّیة ظهور العام المعبّر عنها بأصالة التطابق تثبت بسیرة العقلاء ولا فرق فی قیام سیرتهم علی ترک تلک الأصالة بین ما کان الخاص المردّد بین المتباینین قطعیاً أو کان ثابتاً بمثل خبر الثقة.

لا یقال: کیف یؤخذ بمدلول العام فی غیر المتیقّن من مدلول الخاص المنفصل، مع أنّه لا أثر لمقام الإثبات مع إحراز مخالفة مقام الثبوت له.

وبتعبیرٍ آخر: یکون الخاص المنفصل المجمل مفهوماً المردّد بین السعة والضیق کاشفاً عن أنّ الموضوع ثبوتاً لطلب الإکرام لیس کلّ عالم بل المتصف بعدم کونه فاسقاً أو لیس بفاسق فیکون حصول الموضوع فی العالم المحتمل فسقه

ص :237

وأما إذا کان مجملاً بحسب المصداق، بأن اشتبه فرد وتردد بین أن یکون فرداً له أو باقیاً تحت العام[1]، فلا کلام فی عدم جواز التمسک بالعام لو کان متصلاً به، ضرورة عدم انعقاد ظهور للکلام إلاّ فی الخصوص، کما عرفت.

وأما إذا کان منفصلاً عنه، ففی جواز التمسک به خلاف، والتحقیق عدم الشَرح:

بالشبهة المفهومیة مشکوکاً، فکیف یحکم بوجوب إکرامه أخذاً بظهور العام؟

فإنّه یقال: الخاص المنفصل یکشف عن عدم ثبوت طلب الإکرام بالإضافة إلی ما هو فرد للعنوان الوارد فی الخاص، وأمّا بالإضافة إلی ما یشک فی سعة مفهوم ذلک العنوان فلا کشف فیه ومدلول خطاب العام. وإن کان انحلالیاً إلاّ أنّه یعلم بخطاب الخاص عدم ثبوت الحکم الوارد فی خطاب العام بالإضافة إلی الأفراد التی یکشف الخاص عن عدم ثبوت حکم العام لها ثبوتاً وأمّا فیما لا کشف لخطاب الخاص بالإضافة إلیها فلا موجب لرفع الید عن أصالة التطابق فی ناحیة خطاب العام وظهوره کما أشرنا إلیه فی بیان مقتضی السیرة العقلائیة الجاریة فی اتباع الظهورات.

التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة للخاص

[1] إذا علم حال فردٍ أنّه من أفراد العام، واحتمل اندراجه فی عنوان الخاص حتّی لا یثبت له حکم العام لا لإجمال عنوان الخاص کما تقدّم، بل للشک فی ذلک الفرد بالشبهة الخارجیة، فلا ینبغی التأمّل فی أنّه لا یجوز التمسک فی الفرد المشکوک بالعام لإثبات حکمه فی ذلک الفرد فیما إذا کان الخاص متصلاً، کما إذا قال «أکرم کلّ عالم، لا یرتکب کبیرة ولا یصرّ علی الصغیرة» وشک فی عالمٍ أنّه یرتکب الکبیرة أو یصرّ علی الصغیرة أم لا، حیث إنّ ظهور العام من الأول مقصور علی إکرام عالم خاص وصدقه علی المشکوک غیر محرز وخطاب الحکم علی نحو القضیة الحقیقیة لا یعیّن مصداقه فلابدّ من إحراز المصداق خارجاً لیحرز ثبوت حکم العام المقیّد فیه.

ص :238

جوازه، إذغایة ما یمکن أن یقال فی وجه جوازه، أن الخاص إنما یزاحم العام فیما کان فعلاً حجة، ولا یکون حجة فیما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب (لا تکرم فسّاق العلماء) لا یکون دلیلاً علی حرمة إکرام من شک فی فسقه من العلماء، فلا یزاحم مثل (أکرم العلماء) ولا یعارضه، فإنه یکون من قبیل مزاحمة الحجة بغیر الحجة، وهو فی غایة الفساد، فإن الخاص وإن لم یکن دلیلاً فی الفرد المشتبه فعلاً، إلاّ أنه یوجب اختصاص حجیة العام فی غیر عنوانه من الأفراد، فیکون (أکرم العلماء) دلیلاً وحجة فی العالم غیر الفاسق، فالمصداق المشتبه وإن کان مصداقاً للعام بلا کلام، إلاّ أنه لم یعلم أنه من مصادیقه بما هو حجة، لإختصاص حجیته بغیر الفاسق.

الشَرح:

وأمّا إذا کان الخاص منفصلاً فقد یقال بإمکان إثبات حکم العام له مع الشکّ کذلک بدعوی أنّ خطاب العام ظاهر فی تعلّق الوجوب بإکرام کلّ من ینطبق علیه عنوان العام، والخاص المنفصل حجّة علی رفع الید عن ظهور العام بالإضافة إلی الأفراد التی احرز دخولها تحت عنوان الخاص. وأمّا بالإضافة إلی من ینطبق علیه عنوان العام ولا یحرز اندراجها فی عنوان الخاص فلا حجّة علی رفع الید عن ظهور العام، ولا وجه للإغماض عن أصالة التطابق علی وزان ما تقدّم فی إجمال المخصّص المنفصل ودوران أمره بین الأفراد القلیلة والکثیرة.

ولکن لا یخفی الفرق بین المقامین وأنّه لا یمکن التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة للخاص، بخلاف موارد الشبهة المفهومیة لعنوانه، فإنّه بإجمال الخاص ودوران أمره بین الأفراد القلیلة والکثیرة، یتعیّن فیها الرجوع إلی ظهور العام، والوجه فی ذلک أنّ الخاص یکون قرینة عرفیة علی المراد الجدّی من العام بسقوط أصالة التطابق فی ناحیته باعتبار خطاب الخاص فی مدلوله، ولیس مدلول خطاب الخاص مع إجماله بأزید من الأفراد التی تدخل فی المعنی الضیّق، فیرفع الید عن أصالة

ص :239

وبالجملة العام المخصص بالمنفصل، وإن کان ظهوره فی العموم، کما إذا لم یکن مخصصاً، بخلاف المخصص بالمتصل کما عرفت، إلاّ أنه فی عدم الحجیة إلاّ فی غیر عنوان الخاص مثله، فحینئذ یکون الفرد المشتبه غیر معلوم الإندراج تحت إحدی الحجتین، فلا بد من الرجوع إلی ما هو الأصل فی البین، هذا إذا کان المخصص لفظیاً.

الشَرح:

الظهور فی ناحیة العام بالإضافة إلیها، بخلاف الخاص المبیّن إذا شکّ فی مصداقه بالشبهة الخارجیة فإنّ معه یکون الموضوع ما صحّ انطباق عنوانه وعدم انطباق عنوان الخاص علیه، وصدق هذا الموضوع المعتبر فی حکم العام علی المشتبه بالشبهة الخارجیة غیر محرز، ولا یقاس بالخاص المنفصل المجمل حیث ذکرنا أنّه لإجماله لا یکشف عن تقیید العام ثبوتاً إلاّ بالإضافة إلی الأفراد التی تکون داخلة فی مدلول خطاب الخاص بعنوانه، والمفروض أنّه لا دلالة للخاص إلاّ بالإضافة إلی أفراده، فیکون رفع الید عن أصالة التطابق فی ظهور العام بالنسبة إلی غیر مورد انطباق الضیق بلا قرینة علی خلافه.

وبتعبیرٍ آخر: اتّصاف الخطاب بالحجّیة بالإضافة إلی الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة لا یتوقّف علی إحراز الموضوع فی ذلک بحسب الخارج، ولذا یفتی الفقیه فی الوقائع بتلک الکبری بلا نظر إلی وجود الموضوع للحکم خارجاً، ومع انفصال الخاص وتبیّن مدلوله لا یکون خطاب العام حجة علی حکمه بنحو العموم بل یتقیّد اعتبار ظهوره بعدم انطباق عنوان الخاص علی ما ینطبق علیه عنوان العام، فخطاب أکرم کلّ عالم بعد ورود خطاب لا تکرم الفاسق من العالم یکون حجّة علی تعلّق الوجوب بإکرام کلّ عالم لا ینطبق علیه عنوان الفاسق، یعنی إذا تبیّن مفهومه فمجموع الخطابین حجّة علی أنّ الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة هو وجوب

ص :240

.··· . ··· .

الشَرح:

إکرام کلّ عالم الذی لا یرتکب الکبیرة ولا یصرّ علی الصغیرة، وفعلیة هذا العنوان خارجاً یوجب فعلیة حکم العام، فالخطابان مع إحراز الصغری حجة علی الحکم الفعلی، وأمّا مع عدم إحراز الصغری فالحکم وإن أمکن أن یکون فعلیاً کما إذا کان فرد عالماً ولم یعلم ارتکابه الکبیرة أو إصراره علی الصغیرة إلاّ أنّ الخطابین لا یعیّنان تحقّق الصغری أی فعلیة العنوان الذی یکون العام حجّة فیه بعد التخصیص، بل الأمر کذلک حتّی إذا کان مدلول خطاب العام حکماً بنحو القضیة الخارجیة ومدلول خطاب الخاص قضیة حقیقیة، إذ بتقیّد الموضوع فی خطاب العام بعدم انطباق عنوان الخاص علی الخارج، یکون الموضوع فی القضیة الحقیقیّة عین المأخوذ فی العام مع القید المدلول علیه فی الخاص.

وبالجملة تعیین الموضوع للحکم خارجاً من حیث التحقّق وعدمه خارج عن عهدة الخطاب المتضمّن لبیان الحکم بنحو القضیة الخارجیة.

نعم، إذا لم یکن الخاص کالعام علی نحو القضیة الحقیقیّة بأن لم یوکّل إحراز الموضوع فی خطاب الخاص إلی المکلّف کقوله «أکرم هؤلاء» مشیراً إلی جماعة من الجلساء، ثمّ قال: «لا تکرم هؤلاء» مشیراً إلی بعضٍ منهم، وشک فی وقوع الإشارة الثانیة إلی زید وعمرو وبکر أو هم مع خالد فإنّه یتمسّک بالعام فإنّ المثال یدخل فی إجمال خطاب الخاص ودوران الأمر بین کون المراد منه هو الأقل أو الأکثر ولیس من قبیل التمسّک بالعام فی شبهته المصداقیة، فلا تغفل.

وذهب الشیخ العراقی قدس سره إلی أنّ الموضوع لحکم العام لا یتقیّد بورود خطاب الخاص بل یکون الموضوع لحکمه هو الموضوع له قبل وروده، وأوضح ذلک بأنّه کما أنّ انقضاء فرد أو أفراد من العام بموت أو نحوه لا یوجب تقییداً فی الموضوع

ص :241

.··· . ··· .

الشَرح:

لحکم العام کذلک خروج فرد أو أفراد منه بخطاب الخاص لا یوجبه وإذا ورد فی خطاب «أکرم کلّ عالم» ثمّ ورد فی خطاب آخر «لا تکرم زیداً العالم» أو کان خطاب العام «أکرم کلّ عالم إلاّ زیداً» لا یکون الموضوع لحکم العام إلاّ الانطباقات لعنوان العام، وکما أنّ موت زید لا یوجب تقییداً فی ناحیة الموضوع لحکم العام ولا تعنونه بعنوان وجودی أو عدمی کذلک فی إخراجه عن حکم العام لا یوجبه وذلک لقصور ملاک الحکم فیه أو فی غیره، وهذا بخلاف باب الإطلاق والتقیید فإنّ خطاب القید یکون مقیّداً للمطلق الذی علّق علیه الحکم ویوجب تعنونه بعنوان عدمی أو وجودی ولذا لو شک فی مصداق القید لم یقل أحد بجواز التمسّک بخطاب المطلق فی ذلک المصداق المشتبه، کالشک فی طهارة ماءٍ مثلاً فیما إذا شک فی أنّه لاقی النجاسة أم لا؟ فلا یمکن التمسّک بإطلاق ما دلّ علی کون الماء مطهّراً من الحدث والخبث، هذا کلّه بلحاظ مقام الثبوت.

وأمّا بالنسبة إلی مقام الإثبات فقد یحرز أنّ الخطاب مقیّد، کما لو ورد بلسان الاشتراط أو نفی الحقیقة مثل قوله علیه السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور»، وقد یعلم أنّه من قبیل المخصّص للعام کقوله: «لا تکرم زیداً» بعد قوله: «أکرم کلّ عالم» أو کقوله: «أکرم کلّ عالمٍ إلاّ زیداً».

وقد یتردّد بین کون الخطاب الخاص مخصّصاً أو مقیّداً، کما إذا قال «أکرم کلّ عالم» ثمّ ورد «لا تکرم الفسّاق من العلماء» حیث یدور الأمر بین کونه مقیّداً بأن یکون الموضوع لطلب الإکرام کلّ عالم غیر فاسق أو کونه مخصّصاً بأن یخرج عن حکم العام الانطباقات المندرجة فی عنوان الفاسق من العلماء، نظیر خروج زید وعمرو وخالد من وجوب إکرام العلماء، وکما أنّ خروج أفرادٍ منه لا یوجب تقیید العام

ص :242

.··· . ··· .

الشَرح:

وتعنونه فکذلک خروج انطباقات الفاسق من العلماء لا یوجبه فالباقی یطلب إکرامهم بما هم انطباقات العالم ولا یطلب إکرام انطباقات الفاسق من العلماء، إمّا لقصور المقتضی أو للابتلاء بالمزاحم أو غیر ذلک.

وعلی ذلک، فلو کان الموضوع للحجیة هو الظهور التصوری لکلّ خطابٍ، أی ما یتبادر منه إلی ذهن السامع لعلمه بالوضع ولو کان المتکلّم غیر شاعر أو غیر ملتفت بمعنی أنّه إذا صدر هذا الکلام من متکلّم مرید لإظهار مراده الواقعی یکون ذلک الظهور التصوری حجّة علی مراده الواقعی والظهور التصوری فی کلّ من خطابی العام والخاص من المتزاحمین فی الأفراد التی یعلم أنّها من انطباقات الخاص، وحیث إنّ الظهور التصوری للخاص فی تلک الأفراد أقوی من جهة الکشف عن مراده الواقعی من ظهور العام فیؤخذ فیها بظهور خطاب الخاص وأمّا بالإضافة إلی ما لا یعلم انطباقه فی عنوان الخاص، فلا تزاحم بین الظهورین فیؤخذ فیه بظهور خطاب العام، هذا فیما کان خطاب الخاص مخصّصاً.

وأمّا إذا کان مقیّداً للعام بأن یکون الموضوع لطلب الإکرام العالم غیر الفاسق، فلا یمکن الأخذ بخطاب العام فی الفرد المشکوک لعدم إحراز کونه من مصادیق المقیّد، وعلیه فإن لم یعلم أنّ خطاب الخاص مخصّص أو مقیّد یمکن الحکم باعتبار الظهور التصوری للعام بالإضافة إلی الفرد المشکوک، حیث إنّ أصالة إطلاق العام غیر جاریة بالإضافة إلی الانطباقات المحرزة أنّها داخلة فی عنوان الخاص للعلم بخروجها عن حکم العام سواء کان بتقییده أو بتخصیصه وتجری أصالة الإطلاق فی ناحیة العام وعدم تقیّده بغیر عنوان الخاص لاندراج الفرد المشکوک فی حکم العام والنتیجة الأخذ بالظهور التصوری للعام فی ذلک الفرد المشکوک.

ص :243

.··· . ··· .

الشَرح:

ولکن ذکر فی آخر کلامه أنّ الموضوع للحجیة لیس الظهور التصوری للخطاب، فإنّ الظهور یعتبر لکونه کاشفاً نوعیاً عن الواقع والکاشف النوعی هو الظهور التصدیقی بأن یعلم أنّ الغالب إرادة المتکلّم ذلک المعنی من الکلام المزبور وبما أنّ هذا غیر حاصل بالإضافة إلی کون المتکلّم فی مقام تعیین أنّ الفرد الخارجی من أفراد العام وغیر داخل فی عنوان المخصّص فإن کان الشک فی الفرد من جهة الشبهة الحکمیة فی أنّ المتکلّم أخرج الفرد المزبور عن حکم العام أو لم یخرجه فلا بأس بالتمسّک بالعام وإثبات أنّه لم یخرج عن حکم العام. وأمّا إذا شک فیه من جهة الشبهة المصداقیة لعنوان الخاص فلا یعتبر لعدم الظهور التصدیقی بالإضافة إلی تعیین حال الفرد خارجاً من جهة بقائه تحت عنوان العام أو کونه داخلاً فی عنوان الخاص المحرز خروجه عن العام(1).

أقول: حیث انتهی کلامه إلی بیان أنّ الوجه فی عدم جواز التمسّک بالعام فی موارد الشبهة المصداقیة لعنوان الخاص هو أنّ العام لا تعرّض له لبقاء فرد تحته أو دخوله فی العنوان الخاص وهذا عین الوجه الذی ذکرناه من أنّ خطاب الخاص إذا کان بمفاد القضیة الحقیقیة دون الخارجیة لا یمکن التمسّک بخطاب العام لأنّ تشخیص انطباق عنوان العام علی فردٍ وعدم انطباق عنوان الخاص علیه خارج عن مدلولهما وموکول إلی إحراز المکلّف علی ما تقدّم.

وأمّا عدم التقیید فی عنوان العام بخطاب لا تکرم زیداً ولا تکرم عمرواً فالوجه فیه هو کون خطاب الخاص قضیة خارجیة، وقد تقدّم أنّ خطابه إذا کان بمفاد القضیة

ص :244


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 524-519.

.··· . ··· .

الشَرح:

الخارجیة یکون الشک فی حکم فردٍ آخر من الشک فی تخصیص آخر فی خطاب العام لا من الشک فی الشبهة المصداقیة لعنوان الخاص، کما لا یخفی.

ثمّ إنّ الموضوع للاعتبار والحجّیة لیس المعنی التصوری، أی ما یخطر بالبال من الألفاظ المسموعة علی الهیئة الترکیبیة، ولو من غیر شاعر أو مجنون، بل الموضوع له المدلول الاستعمالی التصدیقی، أی ما یصحّ إسناده إلی المتکلّم وأنّه أراد تفهیم هذا المعنی من کلامه وخطابه، وهذا المدلول الاستعمالی قد یوافق مراده الجدّی وقد لا یوافقه أصلاً أو تماماً والسیرة العقلائیة جاریة علی البناء علی التطابق بین المدلول الاستعمالی والمراد الجدی مالم تقم قرینة عرفیة علی عدم تطابقهما، وقد مرّ أنّ الکلام الملقی من المولی بمفاد القضیة الحقیقیة غیر دالّ علی تعیین الموضوع للحکم الوارد فیه وتمییزه بحسب الخارج حتّی بمدلوله الاستعمالی، بل مدلوله الاستعمالی بیان الحکم لذلک الموضوع علی تقدیر فعلیة الموضوع خارجاً، وعلی ذلک فتعیّن أنّ الفرد المشکوک بالشبهة الخارجیة غیر داخل فی العنوان المبیّن للخاص وأمر خارج عن مدلول خطابی العام والخاص. بل غایة ما یقتضیه أصالة التطابق فی ناحیة خطاب الخاص أنّ حکم العام ثبوتاً یثبت فی العالم الذی لا ینطبق علیه عنوان الخاص، وبعد کشفه عن ذلک فکیف یؤخذ بعموم العام أی بأصالة التطابق لإثبات أنّ المشتبه مصداقاً محکوم بحکم العام وغیر داخل فی عنوان الخاص. ولا یقاس ذلک بموارد إجمال خطاب الخاص من حیث المفهوم ودوران الأمر بین سعة معناه وضیقه فإنّه مع الإجمال لا دلالة فی ناحیة خطاب الخاص إلاّ علی أنّ الموضوع لحکم العام مقیّد بعدم کون مصداق العام مما یدخل فی المعنی الضیّق حیث إنّ القرینة فرع الدلالة، ولذا یؤخذ بأصالة التطابق فی ناحیة العام

ص :245

وأما إذا کان لبیاً، فإن کان مما یصح أن یتّکل علیه المتکلم[1]، إذا کان بصدد البیان فی مقام التخاطب، فهو کالمتصل، حیث لا یکاد ینعقد معه ظهور للعام إلاّ فی الخصوص، وإن لم یکن کذلک، فالظاهر بقاء العام فی المصداق المشتبه علی حجیته کظهوره فیه.

الشَرح:

بالإضافة إلی عدم دلالة الخاص علی خلافه فما ذکره المحقق العراقی قدس سره من أنّ أصالة العموم فی ناحیة العام أمارة علی الفرد المشکوک بالشبهة الخارجیة وأنّه غیر داخل فی أفراد الخاص وجعل الأمارة للشبهة المصداقیة من شأن الشارع غیر مبتنٍ علی أساسٍ صحیح بعدما ذکرنا من سقوط أصالة التطابق فی ناحیة عموم العام بالإضافة إلی کلّ ما یدخل فی العنوان المبیّن من الخاص، فتدبّر.

المخصّص اللبّی

[1] کلّ ما تقدّم من المباحث إنّما کان بالإضافة إلی المخصّص اللفظی، وأمّا بالإضافة إلی المخصص اللبّی، کالإجماع والسیرة، فذکر الماتن قدس سره ما حاصله:

أنّه إذا کان المخصّص اللبی بمثابة من الوضوح بحیث یمنع عن انعقاد ظهور العام فی العموم فلا یمکن التمسّک به فی مورد الشبهة المصداقیة لذلک المخصّص، بل حکمه حکم العام المتصل به المخصّص اللفظی کما فی قوله «إِنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیْرٌ» فإنّه لا ظهور فی ناحیة «کلّ شیء» بالإضافة إلی الممتنعات، بل مفاده أنّه لا یشذّ عن قدرته أیّ شیء ممکن ولو شک فی إمکان شیء وامتناعه لا یمکن الأخذ بهذا العموم لإثبات إمکانه ومن هنا لم یتمسک به أحد لإثبات جواز التعبّد بالامارة غیر المفیدة للعلم وجداناً.

وأمّا إذا لم یکن المخصّص اللبّی بهذه المثابة بحیث ینعقد معه ظهور للعام فی العموم لکونه مما لا یلتفت إلیه إلاّ بعد التأمّل والنظر فیمکن التمسّک بالعام فی

ص :246

والسرّ فی ذلک، أن الکلام الملقی من السید حجة، لیس إلاّ ما اشتمل علی العام الکاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلا بد من اتباعه ما لم یقطع بخلافه، مثلاً إذا قال المولی: (أکرم جیرانی) وقطع بأنه لا یرید إکرام من کان عدواً له منهم، کان أصالة العموم باقیة علی الحجیة بالنسبة إلی من لم یعلم بخروجه عن عموم الکلام، للعلم بعداوته، لعدم حجة أخری بدون ذلک علی خلافه، بخلاف ما إذا کان المخصص لفظیاً، فإن قضیة تقدیمه علیه، هو کون الملقی إلیه کأنه کان من رأس لا یعم الخاص، کما کان کذلک حقیقة فیما کان الخاص متصلاً، والقطع بعدم إرادة العدو لا یوجب انقطاع حجیته، إلاّ فیما قطع أنه عدوه، لا فیما شک فیه، کما یظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولی لو لم یکرم واحداً من جیرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته علی مخالفته، وعدم صحة الإعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة، کما لا یخفی علی من راجع الطریقة المعروفة، والسیرة المستمرة المألوفة بین العقلاء التی هی ملاک حجیة أصالة الظهور.

الشَرح:

الشبهة المصداقیة للمخصّص اللبّی، وذلک لأنّ الکلام الملقی إلی المکلّف بعنوان الحجّة واحد وهو خطاب العام ورفع الید عنه بالإضافة إلی الأفراد التی یحرز حکم العقل فیها من رفع الید عن حجّة بحجّةٍ أخری وهی العلم بعدم ثبوت حکم العام لها، وأمّا بالإضافة إلی الأفراد التی لا یحرز کونها مورداً لحکم العقل یکون رفع الید فیها عن خطاب العام من رفع الید عن الحجّة بلا علم بالخلاف کما إذا قال لعبده «أکرم جیرانی» وجزم العبد بأنّ مولاه لا یرید إکرام عدوّه یکون رفع الید عن ظهور خطاب العام بالإضافة إلی المحرز عداوته عذراً، بخلاف رفع الید بالإضافة إلی المحتمل عداوته، ویظهر ذلک لمن سار مع السیرة المألوفة فی المحاورات، فانّ العرف یری ظهور العام حجّة إلاّ بالإضافة إلی الأفراد التی أُحرز حکم العقل فیها.

ص :247

وبالجملة کان بناء العقلاء علی حجیتها بالنسبة إلی المشتبه هاهنا بخلاف هناک، ولعله لما أشرنا إلیه من التفاوت بینهما، بإلقاء حجتین هناک، تکون قضیتهما بعد تحکیم الخاص وتقدیمه علی العام، کأنه لم یعمه حکماً من رأس، وکأنه لم یکن بعام، بخلاف هاهنا، فإن الحجة الملقاة لیست إلاّ واحدة، والقطع بعدم إرادة إکرام العدو فی (أکرم جیرانی) مثلاً، لا یوجب رفع الید عن عمومه إلاّ فیما قطع بخروجه من تحته، فإنه علی الحکیم إلقاء کلامه علی وفق غرضه ومرامه، فلا بد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوی علی خلافه.

بل یمکن أن یقال: إن قضیة عمومه للمشکوک، أنه لیس فرداً لما علم بخروجه من حکمه بمفهومه، فیقال فی مثل (لعن اللّه بنی أُمیة قاطبة): إن فلاناً وإن شک فی إیمانه یجوز لعنه لمکان العموم، وکل من جاز لعنه لا یکون مؤمناً، فینتج أنه لیس بمؤمن، فتأمل جیّداً.

الشَرح:

ولعلّ الموجب للفرق بین المخصّص اللفظی المنفصل واللبّی من قبیل هذا القسم فی نظرهم، هو أنّ ما یلقی الی المکلّف بعنوان الحجّة خطابان ویکون مقتضی الجمع العرفی بینهما تقیید موضوع العام بما لا ینطبق علیه عنوان المخصّص ففی النتیجة یکونان بمنزلة خطاب واحد، بخلاف المخصّص اللبّی فإنّ الملقی بعنوان الحجة خطاب واحد ولا تنافی بین الحجّتین لیجمع بینهما بالتقیید بل رفع الید عن العموم لکون العلم فی مورد إحراز حکم العقل حجّة ذاتاً، بخلاف ما لم یحرز حکمه فیه.

أقول: الموجب لعدم جواز التمسّک بعموم العام فی الشبهة المصداقیة لعنوان الخاص الوارد فی خطاب منفصل هو کشف خطاب الخاص عن تقیّد موضوع العام ثبوتاً، بعدم انطباق العنوان الوارد فی خطاب الخاص علی فرده، وبعد هذا الکشف لا قیمة لظهور العام فی کون الموضوع لحکمه عنوان العام بنحو اللابشرط

ص :248

.··· . ··· .

الشَرح:

ولا لانطباقه علی فرد کذلک.

ومن الظاهر أنّه لا فرق فی هذا الکشف بین کون الخاص وارداً فی خطاب منفصل أو ثبت بدلیل لبّی من إجماعٍ أو سیرة المتشرّعة أو حکم العقل، فإنّه لو ورد فی الخطاب لزوم تغسیل المیّت وقام الإجماع علی عدم وجوب تغسیل المقتول بالقصاص یکون الإجماع کاشفاً عن تقیید الموضوع لوجوب التغسیل بعدم انطباق المقتول قصاصاً علی المیّت، ومع الشک فی میّت بالشبهة الخارجیة فی کونه مقتولاً قصاصاً لا یفید العموم بالإضافة إلی لزوم تغسیله.

وبالجملة بعد انکشاف التقید فی الموضوع لحکم العام ثبوتاً لا مورد لأصالة التطابق لا لصدق العام علی المشکوک، بل لأنّ عنوانه بنحو اللابشرط لیس بموضوع لحکمه ثبوتاً.

نعم، ربّما یتوهم انّ الخاص اللبّی إذا کان من حکم العقل لا یکون کاشفاً عن تقیّد موضوع العام بوصفٍ وجودی أو عدمی، لأنّ الموضوعات فی الأحکام العقلیة هی الملاکات لا العناوین حتّی یتقیّد بها العام فی کونه موضوعاً لحکمه.

ولکنّه مندفع: بأنّ حکم العقل لا یکون من قبیل الجزئی بل من الکلّی، غایة الأمر یکون الحکم متعلّقاً بما هو الملاک.

وبتعبیرٍ آخر: یکون العنوان التعلیلی فی الحکم العقلی عنواناً تقییدیاً کحسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان، أو حکمه بلزوم الإطاعة والاجتناب عن المعصیة، أو حکمه بلزوم دفع الضرر المحتمل وهکذا، فإذا ورد فی خطاب أنّه لا یحلّ مال امرءٍ مسلم إلاّ بطیب نفسه، یکون مخصّصاً بما إذا لم یکن التصرّف فیه

ص :249

.··· . ··· .

الشَرح:

إحساناً إلی مالکه وإنقاذاً له أو لماله عن الهلاکة والتلف، ولو شک فی موردٍ أنّ التصرّف المعیّن إنقاذ للمالک من الهلکة فلا یمکن الحکم بحرمته بالأخذ بالعموم المفروض حیث إنّ حکم العام وإن لم یتقیّد بملاکه إلاّ أنّه متقیّد بعدم ملاک الإنقاذ، وقد تقدّم(1) أنّ مع کون الخاص حکماً بنحو القضیة الحقیقیة لا یجوز التمسّک بالعام، سواء کان مدلوله أیضاً بمفاد القضیة الحقیقیة أو الخارجیة.

نعم، إذا کان خطاب العام بمفاد القضیة الخارجیة أو الحقیقیة واستفید منه أنّ المتکلّم بنفسه أحرز عدم انطباق عنوان آخر مخالف فی حکمه لحکم العام علی الأفراد الخارجیة التی یحویها العموم کما فی قوله علیه السلام : «لعن اللّه بنی أُمیة قاطبة» حیث إنّ مباشرته علیه السلام بلعن بنی أمیة بنحو العموم مقتضاه إحرازه عدم وجود مؤمن صالح فیهم، ففی مثل ذلک یؤخذ بالعموم ولا یبعد أن یقال إنّ قول المولی لعبده «أکرم جیرانی» من هذا القبیل.

بقی فی المقام أمران:

أحدهما: أنّه قد یقال: إذا کان الوارد فی خطاب الخاص عنواناً وجودیاً مستثنی عن حکم العام یستفاد من الخطابین أنّ عنوان العام مقتضٍ لحکمه وإنّما یمنع عنه تحقّق عنوان الخاص فیکون تحقّقه مانعاً ومزاحماً عن تأثیر العام وفعلیة حکمه فی فرده، ففی مورد الشک فی تحقّق عنوان الخاص یؤخذ بمقتضی العام لأصالة عدم المانع وعدم المزاحم له.

وفیه: أنّ قاعدة المقتضی والمانع فی نفسها لا أساس لها وإن أُرید بأصالة عدم

ص :250


1- (1) تقدم فی الصفحة 238.

.··· . ··· .

الشَرح:

المانع موارد جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم کون الفرد من العام وأنّه داخلاً فی عنوان الخاص، ففی هذه الصورة یلزم إحراز الموضوع لحکم العام فی فرده بعدم کونه مصداقاً لعنوان الخاص کما یأتی، وإلاّ فلا یمکن إثبات حکم العام بمجرّد الشک فی وجود المانع بعد إحراز المقتضی.

الثانی: ما إذا ثبت حرمة إکرام زید ودار الأمر بین کون المراد منه زید العالم حتی یکون خطاب النهی عن إکرامه مخصّصاً لخطاب إکرام کلّ عالم وبین کون المراد منه غیر العالم لیکون خروجه عن خطاب العام بالتخصّص، وحیث لم یقم فی الفرض قرینة علی تخصیص العام یکون عمومه متّبعاً فإنّ المقام من موارد الشک فی التخصیص وینحلّ العلم الإجمالی بحرمة إکرام واحدٍ من المسمیین بزید بالعموم الدال علی إکرام کلّ عالم والعموم لا یقل عن سائر الأمارات القائمة علی نفی التکلیف فی بعض أطراف العلم الموجبة لانحلاله.

ولکن قد یقال: إنّ العام المفروض لا یمکن الأخذ به فی زید العالم فضلاً عن کونه موجباً لانحلال العلم الإجمالی بحرمة إکرام أحد المسمیین بزید، وذلک فإنّ العام لا یقاس بالبینة القائمة بتعیین المعلوم بالإجمال أو بالخبر الدال علی وجوب إکرام زید العالم، حیث إنّ الخبر المفروض بضمیمة العلم الإجمالی الحاصل بحرمة إکرام أحدهما یکون دالاًّ علی حرمة إکرام زید الآخر.

وبتعبیرٍ آخر: للخبر الدال علی إکرام زید العالم مدلول التزامی یؤخذ به، وهذا بخلاف العام فإنّه متضمّن للحکم بعنوان القضیة الحقیقیة ولا نظر له إلی خصوص الافراد فلا یکون موجباً لانحلاله بل یکون العلم الإجمالی بحرمة إکرام أحد الزیدین موجباً لسقوط العموم عن الاعتبار.

ص :251

إیقاظ: لا یخفی أن الباقی تحت العام بعد تخصیصه بالمنفصل أو کالإستثناء من المتصل، لما کان غیر معنون[1] بعنوان خاص، بل بکل عنوان لم یکن ذاک بعنوان الخاص، کان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد __ إلاّ ما شذ __ ممکناً، فبذلک یحکم علیه بحکم العام وإن لم یجز التمسک به بلا کلام، الشَرح:

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ العام وإن لم یتکفّل لبیان الحکم الفعلی ابتداءً إلاّ أنّه یثبته بعد ضمّ صغراه إلیه، وبضمّ العلم الإجمالی یکون کاشفاً عن أنّ المحرّم هو إکرام زید الآخر، ودعوی أنّه لا حاجة فی انحلال العلم إلی هذا الإثبات بل یکفی فیه مجرّد العلم الإجمالی بحرمة إکرام أحدهما لا یخفی ما فیها، فإنّه لو لم یحرز بعموم العام أنّ المنهی عن إکرامه زید الآخر لکان حرمة إکرام زید الآخر مجری لأصالة البراءة، فیوجب العلم الإجمالی المفروض سقوط عموم العام وسقوط أصالة البراءة فی کلّ من الزیدین عن الاعتبار.

وبالجملة هذا المثال من أمثلة موارد إجمال الخطاب الآخر بعموم العام، فتدبّر.

إحراز الفرد المشکوک بأصالة العدم الأزلی

[1] لا یخفی أنّ الخاص یکون کاشفاً عن تقیّد موضوع العام إمّا ثبوتاً فقط کما فی الخاص المنفصل، أو حتّی إثباتاً کما فی المتصل الذی بمفاد الاستثناء نعم التقید لیس إلاّ هو عدم اتصاف فرده بعنوان الخاص وعدم انطباق عنوان الخاص علیه.

وعلیه فإن کانت الحالة السابقة فی الفرد المشتبه دخوله فی عنوان الخاص عدم اتصافه به وعدم دخوله تحته، یکون مقتضی الاستصحاب فی ناحیة عدم انطباق عنوان الخاص علیه بقائه تحت العام، کما إذا کانت الحالة السابقة اتصافه بعنوان الخاص واندراجه تحته یکون الاستصحاب فی ناحیة اتصافه به وانطباق

ص :252

ضرورة أنه قلما لا یوجد عنوان یجری فیه أصل ینقح به أنه مما بقی تحته، مثلاً إذا شک أن امرأة تکون قرشیة، فهی وإن کانت وجدت اما قرشیة أو غیرها، فلا أصل یحرز أنها قرشیة أو غیرها، إلاّ أن أصالة عدم تحقق الإنتساب بینها وبین قریش تجدی فی تنقیح أنها ممن لا تحیض إلاّ إلی خمسین، لأن المرأة التی لا یکون بینها وبین قریش انتساب أیضاً باقیة تحت ما دلّ علی أن المرأة إنما تری الحمرة إلی خمسین، والخارج عن تحته هی القرشیة، فتأمل تعرف.

الشَرح:

عنوان الخاص علیه مخرجاً لذلک الفرد عن العموم.

نعم، إذا تبادل الحالتان فی فردٍ بأن اتّصف بعنوان الخاص فی زمان ولم یکن متصفاً به فی زمان آخر واشتبه المتقدّم بالمتأخّر فلا یمکن الاستصحاب فی ناحیة الاتصاف وفی ناحیة عدم الاتصاف للمعارضة بین الاستصحابین أو لعدم جریان الاستصحاب فی ناحیتهما أصلاً، ولکن تبادل الحالتین کذلک قلیل ولذا قال الماتن قدس سره «یکون إحراز المشتبه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد _ إلاّ ما شذّ _ ممکناً».

والحاصل أنّه فی المصداق المشتبه یمکن فی غالب موارده إحراز الموضوع بضمّ الوجدان إلی الأصل فیقال إنّ زیداً عالم وجداناً وبالاستصحاب فی ناحیة عدم کونه فاسقاً یحرز أنّه مصداق لما هو الموضوع لوجوب الإکرام وهذا فیما کانت الحالة السابقة للفرد الاتصاف بذلک العنوان أو عدم الاتصاف بمفاد کان الناقصة أو لیس الناقصة ظاهر.

وأمّا إذا کانت الحالة السابقة للفرد بنحو السالبة بانتفاء الموضوع مع ترتّب حکم العام ثبوتاً علی السالبة بانتفاء المحمول ففیه کلام، وهو أنّ الاستصحاب فی عدم انطباق عنوان الخاص علی فرد لیس له حالة سابقة، وعدم حصول ذلک العنوان بمفاد لیس التامّة لا یثبت نفی انطباق عنوان الخاص علیه بمفاد لیس الناقصة أو أنّه

ص :253

.··· . ··· .

الشَرح:

لا یثبت اتصاف الفرد بنفیه کما هو مفاد القضیة المعدولة مثلاً إذا شک فی کون مرأة قرشیة أم لا، فهی فی الواقع إمّا قرشیة وإمّا غیر قرشیة، أو أنّها إمّا تکون قرشیة أو لا تکون، ولکن لیس لاتصافها بالقرشیة أو عدمها حالة سابقة بمفاد کان الناقصة. غایة الأمر یصدق قولنا أنّها لم تکن بقرشیة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، ونفی هذا الانتساب لا یثبت أنّها بعد وجودها لیست بقرشیة أو أنّها غیر قرشیة.

وذکر الماتن قدس سره أنّ الاستصحاب فی عدم انتساب المرأة إلی قریش یکفی فی الحکم علیها بأنّها تحیض إلی خمسین سنة المستفاد من قوله «کل امرأة تحیض إلی خمسین إلاّ أن تکون قرشیة»(1)، فإنّ استثناء القرشیة وأنّها تحیض إلی ستین سنة وإن أوجب تقیّد الموضوع المأخوذ فی خطاب العام إلاّ أنّ التقیید لیس بمفاد العدم النعتی المعبّر عنه بمفاد کان الناقصة والقضیة المعدولة، حتّی یکون الموضوع للتحیّض إلی خمسین سنة، کلّ امرأة غیر القرشیة، لیقال لیس لهذا الموضوع _ أی العدم النعتی وکون المرأة غیر القرشیة _ حالة سابقة لیستصحب، والموجود من الحالة السابقة هو العدم المحمولی المعبّر عنه ب_(لیس) التامّة، ولیقال إنّ نفی الانتساب إلی قریش بهذا المفاد لا یثبت کون المرأة المفروضة غیر قرشیة، بل التقیید الحاصل بمفاد الاستثناء المتصل أو الخاص المنفصل هو مفاد السالبة المحصّلة فإنّ العام بعد التخصیص یبقی موضوعاً لحکمه إلاّ أنّه یتقیّد بأن لا ینطبق علی مصداقه عنوان الخاص بأن یسلب عمّا یصدق علیه عنوان العام، عنوان الخاص، ونفی

ص :254


1- (1) لم أظفر علی هذا التعبیر فی الروایات بل ما ظفرت علیه هو هذا التعبیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا بلغت المرأة خمسین سنة لم تر حمرة إلاّ أن تکون من قریش. الوسائل: ج 2، باب 31 من أبواب الحیض.

.··· . ··· .

الشَرح:

اتصاف الموجود من فرد العام بعنوان الخاص یکفی فیه العدم فی الحالة السابقة ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، حیث إنّ نفی الاتصاف والعرض لا یتوقف علی وجود الموضوع والمعروض بل الاتصاف والعرض فی وجوده یحتاج إلی الموضوع والمعروض، ولذا کما تصدق السالبة المحصلة فی مورد السالبة بانتفاء المحمول کذلک تصدق فی مورد السالبة بانتفاء الموضوع.

وبالجملة، الموضوع لحکم العام بعد الاستثناء أو بعد ورود الخاص المنفصل وإن صار مقیداً بالعدم بمفاد السالبة بانتفاء المحمول ولکن یکفی فی إحراز هذا الموضوع، الاستصحاب فی نفی الاتصاف بمفاد السالبة بانتفاء الموضوع، حیث إنّ بعد وجود الموضوع وبقاء النفی السابق فی ناحیة الاتصاف _ یعنی بقاء عدم الاتصاف بعنوان الخاص علی حاله _ یتحقّق موضوع العام ویحرز قیده بمفاد السالبة بانتفاء المحمول.

وبتعبیرٍ آخر: لا یقاس مفاد لیس الناقصة بمفاد کان الناقصة، حیث یعتبر فی جریان الاستصحاب بمفاد کان الناقصة حصول الاتصاف سابقاً سواء کان اتصاف الشیء بأمر وجودی، أو بأمر عدمی کما هو مفاد القضیة المعدولة، بخلاف الاستصحاب فی ناحیة نفی الاتصاف بمفاد لیس الناقصة الذی هو مفاد السالبة المحصلة، فإنّه یحرز مفادها بنحو السالبة بانتفاء المحمول، ولو کانت الحالة السابقة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ المنکر للاستصحاب فی العدم الأزلی فی المقام إن أراد أنّ الموضوع لحکم العام بعد ورود التخصیص لا یبقی علی إطلاقه وإنّما یتقیّد باتصاف فرده بغیر عنوان الخاص الذی مفاده العدم النعتی المعبّر عنه

ص :255

.··· . ··· .

الشَرح:

بمفاد القضیة المعدولة فقد بیّنا أنّه لا یستفاد من الاستثناء أو خطاب الخاص إلاّ اعتبار نفی عنوان الخاص فی فردٍ ینطبق علیه عنوان العام بنحو السالبة المحصّلة، وإن أراد أنّ الاستصحاب فی العدم المحمولی أو ما هو مفاد السالبة بانتفاء الموضوع لا یثبت السلب الناقص وما هو مفاد السالبة بانتفاء المحمول، فقد ذکرنا أنّ السالبة بانتفاء الموضوع سلب ناقص، ولکن إذا أُحرز بقاء السلب بعد وجود الموضوع یثبت مفاد السالبة بانتفاء المحمول وهذا المقدار یکفی لتحقق الموضوع إذا الموضوع مرکب من أمر وجودی وعدمی بمفاد واو الجمع.

ومما ذکرنا یظهر الخلل فیما ذکره المحقّق النائینی قدس سره فی وجه عدم إحراز الفرد المشتبه فی عدم کونه من أفراد الخاص بالأصل فی العدم الأزلی، حیث ذکر أنّ الأوصاف القائمة بوجود العام سواء کان الوصف من العناوین المتأصلة أو الانتزاعیة إمّا أن یکون العام مطلقاً فی موضوعیته بالإضافة إلی تلک الأوصاف أو مقیّداً بقیامها بالعام أو بعدم قیامها، وإذا ورد فی الخطاب «کل امرأة تحیض إلی خمسین سنة إلاّ القرشیة» أو ورد فی خطاب «تحیض کل امرأة إلی خمسین سنة» وورد فی خطابٍ آخر «تحیض القرشیة إلی ستین» یکون الموضوع لحکم العام _ أی المرأة _ مقیّداً بکونها غیر القرشیة، حیث لا یمکن إبقاء العام علی إطلاقه لأنّه ینافی الاستثناء بالمتصل أو خطاب الخاص المنفصل والمرأة بقید القرشیة موضوع لحکم مخالف، فیتعیّن أن یکون الموضوع لحکم العام المرأة المقیّدة بعدم القرشیة والاستصحاب فی عدم انتساب المرأة إلی قریش لا یثبت أنّها متصفة بعدم القرشیة(1).

ص :256


1- (1) أجود التقریرات 1 / 464.

.··· . ··· .

الشَرح:

والوجه فی الاشکال هو أنّ العام وإن کان لا یبقی علی إطلاقه ثبوتاً أو حتی إثباتاً فی الاستثناء بالمتصل فی کونه موضوعاً لحکمه إلاّ أنّ القید هذا لیس مفاده الاتصاف بعدم القرشیة بنحو القضیة المعدولة کما هو مفاد کان الناقصة، بل غایة دلالة الاستثناء أو خطاب الخاص أنّ موضوع العام مقیّد بأن لا ینطبق علیه عنوان الخاص، یعنی مقیّد بعدم الاتصاف بعنوان الخاص لا الاتصاف بعدم الخاص. وقد تقدّم أنّ عدم الوصف للموصوف لا یحتاج إلی ثبوت الموصوف کما فی ثبوت الوصف ولیس قائماً به کقیام العرض به فإنّ العرض والوصف فی ثبوته یحتاج إلی الموصوف، وإذا کان المقیّد بالعدم المحمولی موضوعاً لحکم وکانت الحالة السابقة السالبة بانتفاء المحمول وأحرز وجود الموضوع بالوجدان کفی فی إحراز قیده جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم الوصف، حیث إنّ تقیّد الموضوع بالعرض بنحو القیام مختصّ بفرض وجود العرض والوصف وأمّا فی فرض عدمه ففی الحقیقة یکون الموضوع بمفاد واو الجمع، بأن یوجد ذات الموضوع ولا یکون له وصف، واعتبار تقیّد الموضوع بعدم الوصف بأن یکون المفاد مفاد القضیّة المعدولة یحتاج إلی قرینة ودلیل، والفرق بین تقیّد العام بوصف عدم عنوان الخاص وبین تقیّده بعدم التوصیف بعنوان الخاص وعدم انطباق عنوانه علیه مما لا یکاد یخفی، ومما یساعد علیه الاستثناء أو خطاب الخاص هو التقیید بالنحو الثانی دون الأول، وعلی ذلک فیمکن إثبات الموضوع لحکم العام بضمّ ما یجری فیه الاستصحاب إلی ما هو محرز بالوجدان.

وإن شئت قلت الارتباط بین الوصف والموصوف بمفاد کان الناقصة فی ناحیة ثبوت الوصف لا فی ناحیة نفی الوصف ولذا یصحّ سلب شیء ونفیه عن شیء حتّی

ص :257

.··· . ··· .

الشَرح:

مع عدم الارتباط بینهما فی الوجود، کقوله «لیس الإنسان بحجر» وقبحه إنّما هو لکونه من اللغو وبیان الواضحات، بخلاف السلب فی موارد یحتمل ثبوت العنوان المنفی للشیء کما هو ظاهر.

ومما ذکر یظهر الحال فی الصلاة فی اللباس المشکوک فی أنّه من أجزاء ما لا یؤکل بناءاً علی أنّ المأخوذ فی الصلاة عدم وقوعها فیه، حیث یصحّ أن یقال: کان زمان لم یکن فیه صلاة فیما لا یؤکل لحمه، ولا واقع مقارنتها مع أجزاء ما لا یؤکل، وبعد الإتیان بالصلاة نحتمل بقاء واقع عدم مقارنتها مع اجزاء ما لا یؤکل بحاله، فیحرز بضمّ الوجدان إلی الأصل حصول متعلّق الأمر.

نعم، إذا کان عدم لبس غیر مأکول اللحم أو عدم حمله معتبراً فی ناحیة المصلی فیجری الاستصحاب بمفاد لیس الناقصة حیث إنّ الشخص لم یکن لابساً ولا حاملاً لما لا یؤکل لحمه قبل لبس المشکوک أو حمله، ومقتضی الاستصحاب بقائه علی ما کان بعد لبسه أو حمله له، وأمّا إذا کان مأخوذاً فی ناحیة اللباس والمحمول یکون الاستصحاب فی عدم انتساب اللباس أو المحمول إلی ما لا یؤکل لحمه _ کالاستصحاب فیعدم کون الصلاة فیما لا یؤکل _ من الاستصحاب فی العدم الأزلی، کعدم انتساب المرأة إلی قریش.

وربّما یدّعی بما أنّ الثوب أو المحمول کان موجوداً فی الخارج بصورةٍ ما من الصور النوعیة ولم یکن جزءاً من أیّ حیوان فیمکن الاستصحاب بمفاد السالبة بانتفاء المحمول، ولکنّ الصحیح أنّه بالدقّة العقلیة وإن کان کذلک إلاّ أنّه بنظر العرف لا یکون موجوداً قبل تکوّن الحیوان، سواء کان مما یؤکل أو مما لا یؤکل، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد ینسب إلی المشهور أنّهم یقولون بجواز التمسّک بالعام فی الشبهة

ص :258

.··· . ··· .

الشَرح:

المصداقیة لعنوان المخصّص ویستظهر ذلک من حکمهم بالضمان فیما دار أمر الید علی مال الغیر بکونه ید ضمان أو غیرها، ولکن ذکر بعض الأصحاب أنّ حکمهم بالضمان لقاعدة المقتضی والمانع نظراً إلی أنّ الید مقتضیة للضمان، وکونها ید أمان، مانعة عن ذلک وإذا شک فی وجود المانع بعد إحراز المقتضی یحکم بعدمه، وذهب بعض آخر إلی انّ الحکم بالضمان غیر مبنی علی شیء من الوجهین بل من جهة الاستصحاب فی عدم کون الید أمانیّة ولو بنحو الاستصحاب فی العدم الأزلی حیث إنّ الموضوع للضمان وضع الید علی مال الغیر مع عدم الاستیمان وإذا أُحرز وضعها علی المال وجری

الاستصحاب فی عدم الاستیمان یتمّ الموضوع لضمان المال.

أقول: قد تقدّم عدم جواز التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة لعنوان المخصّص بل عموم حدیث «علی الید»(1) لضعفه لا یحسب من العام الذی ورد علیه التخصیص وقاعدة المقتضی والمانع لا أساس لها کما ذکرنا.

نعم، الموضوع لضمان المال وضع الید علی مال الغیر بغیر استیمان من مالکه أو ولّی مالکه أو من الشرع وإذا أُحرز وضع الید وجری الأصل فی عدم الاستیمان یتمّ الموضوع لضمان المال وقد ذکرنا أنّ هذا هو الموضوع لضمان المال فی سیرة العقلاء ویستفاد ذلک من الأدلة الشرعیة من التعلیلات الواردة فی نفی ضمان التالف بکون ذی الید أمیناً.

وقد ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم اتصاف الفرد بعنوان المخصّص من صغریات ما یحرز فیه الموضوع للحکم بضمّ الوجدان

ص :259


1- (1) سنن أبی داود: 3، 296/3561، لم أظفر علیه فی المصادر الحدیثة عندنا.

.··· . ··· .

الشَرح:

إلی الأصل وضابط ما یحرز فیه الموضوع کذلک هو أنّ الموضوع إذا کان فی لسان الدلیل مرکّباً من المعروض وعرضه یکون الموضوع بمفاد کان الناقصة لا محالة وترتّب هذا الحکم علی المصداق المشتبه یتوقّف علی ثبوت الحالة السابقة بمفاد کان الناقصة، وإذا لم تکن الحالة السابقة بمفاد کان الناقصة یکفی فی نفی الحکم المزبور جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم عرضه حتّی فیما کانت الحالة السابقة بنحو السالبة بارتفاع الموضوع فإنّ مع إحراز ذات الموضوع وإحراز عدم عرضه ولو بالأصل یتمّ مفاد السالبة بانتفاء المحمول، وکذا فیما إذا کان الشیء مع عدم ثبوت الوصف والعرض موضوعاً لحکم کالحکم بفساد الصلاة فیما کانت الصلاة فیما لا یؤکل لحمه فإنّ الموضوع لصحتها لیست وقوعها فیما یؤکل ولذا تصحّ الصلاة فیما إذا لم یکن ثوبه من أجزاء الحیوان أصلاً ولا مستصحباً له، بل الموضوع للفساد الصلاة فیما لا یؤکل لحمه ومع إحراز نفس الصلاة وإحراز أنّه لا یستصحب ما لا یؤکل لحمه، أو أنّ الّذی معه لم یکن مما لا یؤکل لحمه، یحرز الموضوع لصحتها، ولا یعارض باستصحاب عدم کون لباسه أو ما علیه مما یؤکل، فإنّه غیر موضوع لصحتها کما تقدّم، هذا کلّه بالإضافة إلی العرض ومعروضه.

وأمّا إذا کان الموضوع مرکّباً من عرض وغیر معروضه أومن عرضین لمعروض واحد أو لمعروضین أو من معروضین فلابدّ من لحاظ خطاب الحکم فإن کان موضوعه عنوان بسیط انتزاعی مثل عنوان التقدّم والتأخّر والتفاوت ونحوها فبإحراز أحد الجزئین بالوجدان والآخر بالأصل، لا یحرز ذلک العنوان البسیط المنتزع عن واقعهما ویتفرّع علی ذلک ما عن الشیخ الانصاری قدس سره من عدم إحراز إدراک الجماعة برکوع المأموم مع شکّه فی بقاء الإمام فی الرکوع عند وصوله إلی حدّه فإنّ الموضوع

ص :260

وهم وإزاحة: ربما یظهر عن بعضهم التمسک بالعمومات فیما إذا شک فی فرد، لا من جهة احتمال التخصیص، بل من جهة أخری[1]، کما إذا شک فی صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فیستکشف صحته بعموم مثل (أوفوا الشَرح:

لإدراک الجماعة هو رکوع المأموم الداخل فی الصلاة وتقارن رکوعه مع رکوع الإمام کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «إذا أدرک الإمام وهو راکع فقد أدرک الرکعة»(1)، حیث إنّ مقتضاه کیفیة رکوعه من کونه حال رکوع الإمام.

وأمّا إن کان الموضوع للحکم نفس الأمرین وواقع اجتماعهما فبإحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل بمفاد واو الجمع، یتمّ إحراز الموضوع، ولا یخفی أنّ الموضوع فی ضمان التلف کذلک فإنّ موضوعه مرکّب من الاستیلاء علی مال الغیر بلا إذن منه فی إتلافه مجاناً، ومن عدم کون المستولی أمیناً، فإذا أُحرز الاستیلاء وضمّ إلیه عدم إذن مالکه فی إتلافه مجاناً أو عدم استیمانه یتمّ الموضوع للضمان وذلک لأنّه لا یعقل التقیید والنعتیة فی جوهرین، أو عرضین أو عرض وغیر محلّه، فیکون الموضوع للحکم _ مع عدم أخذ العنوان الانتزاعی _ هو واقع تحقّقهما فی الزمان أی واقع المقارنة، أو التقدّم أو التأخّر کما لا یخفی.

التسمک بالعموم لا من جهة احتمال التخصیص

[1] إذا کان الخطاب الدالّ علی المتعلق مجملاً، وکان إجماله بالإضافة إلی المتعلق بعنوانه الاولی، کما یقال بأنّ قوله : «إِذا قُمْتُمْ إلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوْهَکُمْ»(2) مجمل بالإضافة إلی الوضوء أو الاغتسال بالجلاب ونحوه ولا إطلاق له

ص :261


1- (1) الوسائل: ج 5، باب 45 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 1.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 6.

بالنذور) فیما إذا وقع متعلقاً للنذر، بأن یقال: وجب الإتیان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وکل ما یجب الوفاء به لا محالة یکون صحیحاً، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به، وربما یؤید ذلک بما ورد من صحة الإحرام والصیام قبل المیقات وفی السفر إذا تعلق بهما النذر کذلک.

الشَرح:

بالنسبة إلی الصلاة مع الوضوء أو الغسل به، فیمکن رفع هذا الإجمال بالإطلاق أو العموم فی الخطاب الدالّ علی حکم عنوان ینطبق علی ذلک الوضوء أو الغسل لأنّ ثبوت الحکم بالعنوان الثانی للوضوء أو الغسل، یلازم ثبوت الحکم الأوّلی له بعنوانه الأوّلی، کما إذا نذر الوضوء أو الاغتسال بالجلاّب فیؤخذ بعموم قوله (أَوْفُوا بِالنّذُورِ) فی الحکم بوجوبه مع النذر، وإذا وجب حال النذر جاز الدخول به فی الصلاة حال النذر بل مطلقاً لثبوت الملازمة بین وجوب الإتیان به بعنوان الوفاء بالنذر وبین جواز الاکتفاء به فی الدخول فی الصلاة ونحوها مما هو مشروط بالطهارة، ویؤیّده ما ورد فی جواز الإحرام قبل المیقات والصیام فی السفر بالنذر.

وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بأنّه إذا کان الموضوع للحکم فی الخطاب الدالّ علیه بالعنوان الثانوی الفعل الذی له الحکم الکذائی بالعنوان الأوّلی کما فی وجوب الوفاء بالنذر فإنّ وجوب الوفاء لم یتعلّق بالنذر مطلقاً بل فیما کان المنذور راجحاً شرعاً استحباباً أو وجوباً وکذا فی الحکم بوجوب إطاعة الوالد فإنّه لم یتعلّق الوجوب بإطاعته فی کلّ فعل یأمر الوالد به أو ینهی عنه، بل فیما إذا کان الفعل مباحاً بعنوانه الأوّلی ولم یکن من قبیل الأمر بترک الواجب أو فعل الحرام، ففی مثل ذلک لا یمکن التمسّک بالخطاب الدالّ علی الحکم بالعنوان الثانوی حیث إنّ التمسّک به من قبیل التمسّک بالعام لا فی الشبهة المصداقیة لعنوان المخصّص، بل من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة لنفس عنوان العام أو المطلق.

ص :262

.··· . ··· .

الشَرح:

وقد تقدّم أنّ البحث فی التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة لعنوان المخصّص ینحصر فیما إذا کان التخصیص متّصلاً بمفاد الاستثناء أو منفصلاً، وأمّا إذا کان الخطاب دالاًّ علی تقیید العام بعنوان وجودی کما إذا قال (أکرم کلّ عالم عادل) أو ورد فی خطابٍ آخر (أکرم العالم إذا کان عادلاً) وشک فی عدالة عالم، یکون التمسّک فی إثبات وجوب إکرامه من التمسّک بالعام فی شبهته المصداقیة حیث إنّ الموضوع لوجوب الإکرام هو العالم العادل علی الفرض.

وبالجملة بقاء العام موضوعاً لحکمه معنوناً بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاص من غیر تعنون بعنوان آخر، ینحصر فی الموارد التی یکون التخصیص بمفاد الاستثناء ولا یعمّ ما إذا کان بمفاد التقیید بعنوان آخر کما فی المثال، وذکر قدس سره أنّه إذا کان الحکم بالعناوین الثانویة من غیر أن یؤخذ فی ثبوت ذلک الحکم ثبوت الحکم بالعنوان الأوّلی کما إذا قیل بأنّ الموضوع لوجوب الوفاء بالحلف هو الإتیان بالمحلوف علیه من غیر اعتبار کونه راجحاً بعنوانه الأوّلی فیمکن إثبات جواز ذلک الفعل بالأخذ بالإطلاق أو العموم فی خطاب الحکم بالعنوان الثانوی، ویمکن إثبات صحة الوضوء بالجلاب أو الغسل به إذا حلف علیه أخذاً بوجوب الوفاء بالحلف وعدم جواز حنثه ولکن هذا أیضاً مجرّد فرض بالإضافة إلی وجوب الوفاء بالحلف فإنّ المأخوذ فیه أیضاً کون المحلوف علیه جائزاً شرعاً والجواز فی مثل الوضوء أو الغسل اللذان هما من العبادات المحتاجة إلی المشروعیة موقوف علی الأمر بهما وجوباً أو استحباباً ومع عدم إحراز ذلک کما هو الفرض لا یحرز شمول وجوب الوفاء له وحرمة الحنث لحلفه.

والحاصل أنّ الوجوب المستفاد من خطاب الأمر بالوفاء بالحلف مشروط

ص :263

والتحقیق أن یقال: إنه لا مجال لتوهم الإستدلال بالعمومات المتکلفة لأحکام العناوین الثانویة فیما شک من غیر جهة تخصیصها، إذا أخذ فی موضوعاتها أحد الأحکام المتعلقة بالأفعال بعناوینها الأولیة، کما هو الحال فی وجوب إطاعة الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه فی الأمور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنه معه لا یکاد یتوهم عاقل أنه إذا شک فی رجحان شیء أو حلیته جواز التمسک بعموم دلیل وجوب الإطاعة أو الوفاء فی رجحانه أو حلیته.

نعم لا بأس بالتمسک به فی جوازه بعد إحراز التمکن منه والقدرة علیه، فیما لم یؤخذ فی موضوعاتها حکم أصلاً، فإذا شک فی جوازه صح التمسک بعموم دلیلها فی الحکم بجوازها، وإذا کانت محکومة بعناوینها الأولیة بغیر حکمها بعناوینها الثانویة، وقع المزاحمة بین المقتضیین، ویؤثر الأقوی منهما[1] لو کان الشَرح:

بالقدرة علی المحلوف علیه وفی مثل الوضوء بالجلاب لا یحرز هذا الشرط لیتمسّک بخطاب وجوب الوفاء، هذا کلّه فیما کان الخطاب الدالّ علی حکم الفعل بعنوانه الأوّلی مجملاً.

تزاحم العنوان الأولی مع الثانوی

[1] یعنی إذا لم یکن الخطاب الدالّ علی الحکم بالعنوان الأوّلی مجملاً بل کان مبیّناً ولکن کان الخطاب الدالّ علی حکمه بالعنوان الثانی مخالفاً لحکمه بالعنوان الأوّلی، کما إذا کان الخطاب الدالّ علی حکمه بالعنوان الأوّلی وجوباً والخطاب الدال علی حکمه بالعنوان الثانوی مقتضیاً لحرمته، وقعت المزاحمة بین المقتضیین ویؤثّر الأقوی منهما لو کان فی البین وإلاّ لا یحکم بأحدهما لاستلزامه الترجیح بلا مرجّح فیحکم بحکم آخر کالإباحة فی الفرض.

أقول: لو فرض الاختلاف فی مدلولی الخطابین أحدهما دالّ علی حکم الفعل

ص :264

فی البین، وإلاّ لم یؤثر أحدهما، وإلاّ لزم الترجیح بلا مرجح، فلیحکم علیه حینئذ بحکم آخر، کالإباحة إذا کان أحدهما مقتضیاً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً.

وأما صحة الصوم فی السفر بنذره فیه __ بناءً علی عدم صحته فیه بدونه __ وکذا الإحرام قبل المیقات، فإنما هو لدلیل خاص، کاشف عن رجحانهما ذاتاً فی السفر وقبل المیقات، وإنما لم یأمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع یرتفع مع النذر، وإما لصیرورتهما راجحین بتعلق النذر بهما بعد ما لم یکونا کذلک، کما ربما یدلّ علیه ما فی الخبر من کون الإحرام قبل المیقات کالصلاة قبل الوقت.

لا یقال: لا یجدی صیرورتهما راجحین بذلک فی عبادیتهما، ضرورة کون وجوب الوفاء توصلیاً لا یعتبر فی سقوطه إلاّ الإتیان بالمنذور بأیّ داع کان.

الشَرح:

بعنوانه الأوّلی والآخر علی حکمه بعنوانه الثانوی یقدّم الدالّ علی الحکم بالعنوان الثانوی کما هو مقتضی الجمع العرفی بین الخطابین ولهذا یقدّم خطاب نفی الحرج أو الضرر علی الخطابات الدالّة علی ثبوت التکالیف فی الأفعال بعناوینها الأوّلیة، وقد تقدّم فی بحث جواز اجتماع الأمر والنهی اختلاف مقام التزاحم فی الملاک عن مقام التزاحم فی الامتثال وأنّ التزاحم فی الملاک یدخل فی موارد تعارض خطابی الحکمین.

وأمّا مسألة نذر الصوم فی السفر أو الإحرام قبل المیقات فقد أجاب الماتن قدس سره عنهما بوجوهٍ ثلاثة:

الأوّل: أنّ صحتهما لیست لاقتضاء خطاب وجوب الوفاء بالنذر مشروعیتهما بعدما لم یکونا مشروعین بل صحتهما لکونهما قبل النذر أیضاً راجحین، غایة الأمر لم یؤمر بهما لمانع عن الأمر به وجوباً أو استحباباً ویرتفع ذلک المانع عند النذر، فما دلّ علی صحتهما عند النذر کاشف عن رجحانهما النفسی مع قطع النظر عن نذرهما

ص :265

فإنه یقال: عبادیتهما إنما تکون لأجل کشف دلیل صحتهما عن عروض عنوان راجح علیهما، ملازم لتعلق النذر بهما، هذا لو لم نقل بتخصیص عموم دلیل اعتبار الرجحان فی متعلق النذر بهذا الدلیل، وإلاّ أمکن أن یقال بکفایة الرجحان الطارئ علیهما من قبل النذر فی عبادیتهما، بعد تعلق النذر بإتیانهما عبادیاً ومتقرباً بهما منه تعالی، فإنه وإن لم یتمکن من إتیانهما کذلک قبله، إلاّ أنه یتمکن منه بعده، ولا یعتبر فی حصة النذر إلاّ التمکن من الوفاء ولو بسببه، فتأمل جیداً.

الشَرح:

والأمر بهما بعنوان الوفاء بالنذر.

الثانی: أنّ الصیام فی السفر أو الإحرام قبل المیقات کما لا أمر بهما قبل النذر کذلک لا رجحان لهما وإنّما یحدث الرجحان لهما لا بسبب تعلّق النذر بل لانطباق عنوان ذی صلاح علیهما فی ذلک الحال اتفاقاً، والروایات المشار إلیها دالّة علی تعلّق الأمر العبادی بهما حین تعلّق النذر فیکونان کسائر المستحبّات العبادیة التی یتعلّق بها النذر.

الثالث: أنّ ما دلّ علی اعتبار الرجحان فی متعلّق النذر مع قطع النظر عن النذر من قبیل الاطلاق أو العموم فیرفع الید عنه بالدلیل الخاص الوارد فی نذر الإحرام قبل المیقات والصوم فی السفر، حیث إنّ مقتضی ما ورد فیهما أنّه إذا تعلّق النذر بالإحرام بقصد التقرّب أو بالصوم کذلک یجب الوفاء بنذرهما ویتمکّن المکلّف من قصد التقرّب بهما بقصد الأمر بالوفاء بنذرهما فیکفی الرجحان الطاری ء بالنذر فی صحة النذر إذا قام دلیل خاص فی مورد حصول الرجحان فیهما بالنذر، حیث یتمکّن مع حصوله بالنذر من الإتیان بالمنذور بنحو التقرّب ویکفی فی صحة تعلّق النذر التمکّن من المنذور ولو بعد تعلّق النذر.

أقول: الاحتمال الأوّل ضعیف، حیث لا یمکن الالتزام بکون الإحرام قبل

ص :266

بقی شیء، وهو أنه هل یجوز التمسک بأصالة عدم التخصیص؟ فی إحراز عدم کون ما شک فی أنه من مصادیق العام، مع العلم بعدم کونه محکوماً بحکمه، مصداقاً له [1]، مثل ما إذا علم أن زیداً یحرم إکرامه، وشک فی أنه عالم، فیحکم علیه بأصالة عدم تخصیص (أکرم العلماء) أنه لیس بعالم، بحیث یحکم علیه بسائر ما لغیر العالم من الأحکام.

الشَرح:

المیقات والصوم فی السفر فی نفسهما راجحین ولم یؤمر بهما لمانع یرتفع مع النذر فإنّ لازمه الحکم بصحة الإتیان بهما بلا نذر أیضاً إذا أتی بهما بداعی الملاک الموجود فیهما.

دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص

[1] بقی فی المقام أمرٌ، وهو أنّه إذا أحرز أنّ حکم العام غیر ثابت لموردٍ وشک فی أنّه فرد من العام وقد خرج عنه تخصیصاً، أو أنّه لیس فرداً للعام وأنّ خروجه بالتخصّص، کما إذا أحرز أنّ زیداً لا یجب إکرامه ودار الأمر بین کونه عالماً وعدم وجوب إکرامه لخروجه عن خطاب أکرم کلّ عالم أو أنّه لیس بعالم وأنّه خارج تخصّصاً، فإن کان خروجه عن خطاب العام تخصّصاً فلا یترتب علیه سائر ما یترتب علی عنوان العالم من الأحکام، فهل یمکن فی الفرض الرجوع إلی أصالة عموم العام لإثبات أنّ خروجه کان لعدم کونه عالماً بحیث تکون أصالة العموم طریقاً متّبعاً إلی إحراز حال المشتبه أو أنّه لابدّ فی ترتیب سائر الأحکام وعدمه من الرجوع إلی أمرٍ آخر ولا تکون أصالة العموم طریقاً إلی إحراز عدم کونه فرداً للعام؟

الصحیح هو الثانی، لأنّ أصالة العموم کسائر الأصول اللفظیة یرجع إلیها عند الشک فی المراد لا ما إذا أُحرز مراد المتکلّم وکان الشک فی کیفیة الإرادة، حیث أنّ اعتبار الظهورات ببناء العقلاء وبناء العقلاء محرز فی صورة الشک فی المراد، ولذا

ص :267

فیه إشکال، لإحتمال اختصاص حجیتها بما إذا شک فی کون فرد العام محکوماً بحکمه، کما هو قضیة عمومه، والمثبت من الأصول اللفظیة وإن کان حجة، إلاّ أنه لا بد من الإقتصار علی ما یساعد علیه الدلیل، ولا دلیل هاهنا إلاّ السیرة وبناء العقلاء، ولم یعلم استقرار بنائهم علی ذلک، فلا تغفل.

الشَرح:

لا یمکن إثبات الوضع بأصالة الحقیقة، والشک فی المقام لیس من الشکّ فی المراد من خطاب العام، حیث یعلم أنّ حکمه لا یعمّ زیداً والشک فی کیفیة إرادة حکمه وأنّه بالتخصیص أو بالتخصّص.

ومن فروع المقام علی ما قیل فی ماء الاستنجاء، فإنّه غیر منجّس جزماً، ولکن عدم کونه منجساً إمّا من جهة رفع الید عن عموم ما دلّ علی تنجّس الماء القلیل بملاقاة المتنجّس الحامل لعین النجاسة أو من جهة تخصیص ما دلّ علی تنجیس الماء القلیل المتنجّس.

وبتعبیر آخر: یدور الأمر فی قاعدة تنجیس الماء المتنجس بالإضافة إلی ماء الاستنجاء بین التخصّص بأن یکون ماء الاستنجاء طاهراً وبین التخصیص بأن یکون نجساً، ولکنّه غیر منجّس للطاهر الذی یلاقیه، ولو أمکن إثبات کونه طاهراً لعموم القاعدة وأصالة عدم ورود التخصیص علیه یترتّب علیه آثار الماء الطاهر من جواز استعماله ورفع الخبث به.

ولکن لا یخفی أنّ قاعدة تنجیس کل ماء قلیل متنجّس وکذا تنجّس کلّ ماء قلیل لاقی نجساً اصطیادیة ولم یرد فیهما خطاب عام، وإلاّ لتعیّن الأخذ بعموم خطاب ما دلّ علی تنجّس الماء القلیل لکون الشک فیه، فی المراد، ولکنّ ظاهر ما دلّ علی نفی البأس عن ماء الاستنجاء(1) طهارته.

ص :268


1- (1) الوسائل: ج 1، باب 13 من أبواب الماء المضاف.

فصل

هل یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فیه خلاف، وربما نفی الخلاف عن عدم جوازه[1]، بل ادعی الإجماع علیه، والذی ینبغی أن یکون محل الکلام فی المقام، أنه هل یکون أصالة العموم متبعة مطلقاً؟ أو بعد الفحص عن المخصص والیأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص فی الجملة، من باب الظن النوعی للمشافه وغیره، ما لم یعلم بتخصیصه تفصیلاً، ولم یکن من أطراف ما علم تخصیصه إجمالاً، وعلیه فلا مجال لغیر واحد مما استدل به علی عدم جواز العمل به قبل الفحص والیأس.

الشَرح:

التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصّص

[1] قد استدلّ علی عدم جواز التمسّک بالعمومات الواردة فی الکتاب والسنّة قبل الفحص عن مخصصاتهما فی الأخبار، بالعلم الإجمالی بوجود المخصّصات لهما.

وربّما یورد علی ذلک بأنّ لازمه عدم لزوم الفحص عن المخصّص بعد الظفر بمقدار من المخصّصات بحیث یحتمل عدم وجود مخصّص آخر فی البین لسائر العمومات مما لم یفحص عن مخصّصاتها مع أنّ الدعوی عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن وجود المخصّص له ولو بعد انحلال العلم الإجمالی المزبور، وقد ذکروا مثل هذا الاستدلال فی اعتبار الفحص فی الرجوع إلی الأصول العملیة، وأنّه لا تجری أصالة البراءة قبل الفحص فی الأخبار وغیره عن الدلیل علی التکلیف للعلم الإجمالی بوجود التکالیف فی الوقائع فیکون الرجوع إلیها موجباً لمخالفة تلک التکالیف.

ص :269

.··· . ··· .

الشَرح:

وأورد علی ذلک بأنّ لازم هذا الاستدلال جواز الرجوع إلی أصالة البراءة فی الشبهة الحکمیة مع الظفر بمقدار من التکالیف بحیث یحتمل انحصار التکالیف الواقعیة بذلک المقدار وحاصل المناقشة علی الاستدلال فی المقامین أنّه لا عبرة بالعلم الإجمالی بعد انحلاله إلی مقدار متیقّن والشک فی الزائد علی ذلک المقدار.

وأنکر المحقّق النائینی قدس سره علی المناقشة فی المقامین ووجّه الاستدلال علی لزوم الفحص فیهما بأنّ انحلال العلم الإجمالی بالظفر بمقدارٍ من المخصّصات أو التکالیف إنّما هو فیما إذا لم یکن فی البین علم إجمالی آخر بحیث یکون مقتضی عدم انحلاله الاحتیاط فی الباقی ومثّل له بما إذا علم المکلّف بأنّه مدیون لزیدٍ بمقدارٍ من المال وعلم أیضاً أنّه سجّل تمام دینه له فی دفتره الخاص بحیث یمکن معرفة مقداره تفصیلاً بالرجوع إلیه، وفی مثل هذا المورد یکون العلم بالعلامة وضبط الدین فی الدفتر مانعاً عن الرجوع إلی أصالة البراءة فی المقدار الزائد إلاّ إذا لم یجده فی الدفتر بعد المراجعة إلیه، وفیما نحن فیه العلم الإجمالی بوجود المخصّصات للعمومات لا یقتضی الفحص بعد الظفر بمقدارٍ منها یحتمل انحصارها بها إلاّ أنّ العلم الإجمالی بالعلامة وهی وجودها فی الکتب المعتمدة علیها من کتب الأخبار من قبیل العلم الإجمالی المقتضی لعدم جواز الرجوع إلی العمومات قبل الفحص والعلم الإجمالی الأوّل لا یقتضی لزوم الفحص بعد الانحلال لا أنّه یقتضی عدم لزومه والعلم الإجمالی بالعلامة یقتضی لزومه(1).

وذکر سیدنا الاستاذ قدس سره فی تعلیقته علی کلام استاذه قدس سره بأنّه إنّما یوجب العلم

ص :270


1- (1) أجود التقریرات 1 / 484 _ 486.

.··· . ··· .

الشَرح:

الإجمالی الآخر الذی له علامة عدم جواز الرجوع فی الزائد إلی الأصل إذا لم یکن المعلوم بالإجمال الآخر فی نفسه مردّداً بین الأقلّ والأکثر، کما إذا علم بنجاسة بعض الإناءات المتعدّدة وعلم أیضاً بنجاسة إناء زید من تلک الإناءات وإذا ظفرنا بمقدار یعلم نجاسته لا یکون الظفر بهذا المقدار موجباً لجواز ارتکاب الباقی بالرجوع إلی أصالة الطهارة أو البراءة فیها، لأنّ العلم بنجاسة إناء زید من تلک الإناءات یمنع عن الرجوع إلیهما.

وأمّا إذا کان إناء زید مردّداً أیضاً بین الأقلّ والأکثر وظفرنا بمقدار من النجس مع العلم بأنّ بعض ذلک المقدار هو إناء زید فلا مانع من الرجوع إلی أصالة الطهارة أو البراءة فی الباقی ولذا لا یجب الاحتیاط فیما فقد الدفتر إحصاءه(1).

أقول: الظاهر عدم الفرق بین الصورتین وأنّ العلم الإجمالی بنجاسة إناء زید لا یوجب الاجتناب عن الباقی منها مع احتمال کون إناء زید فی جملة ما أحرز نجاسته بالتعیین، حیث إنّ المیزان فی الاحتیاط فی الأطراف سقوط الأصل النافی فیها بالمعارضة لکون جریانه فی کلٍّ منها موجباً للترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، وجریانه فی البعض دون البعض بلا معیّن وإذا کان المعلوم بالإجمال الذی له علامة بحیث یحتمل اتّحاده مع المعلوم بالإجمال الآخر فلا یکون الرجوع إلی الأصل النافی فی غیر المقدار المعلوم تفصیلاً موجباً لأحد المحذورین ویجری ذلک فی الدین أیضاً فإنّه لا مانع عن الرجوع إلی أصالة البرائة فی غیر المقدار المتیقّن وترک الرجوع إلی الدفتر إذا احتمل أنّ الموجود فی

ص :271


1- (1) أجود التقریرات 1 / هامش ص 484.

فالتحقیق عدم جواز التمسک به قبل الفحص، فیما إذا کان فی معرض التخصیص[1] کما هو الحال فی عمومات الکتاب والسنة، وذلک لأجل أنه لولا القطع باستقرار سیرة العقلاء علی عدم العمل به قبله، فلا أقل من الشک، کیف؟ وقد ادعی الإجماع علی عدم جوازه، فضلاً عن نفی الخلاف عنه، وهو کافٍ فی عدم الجواز، کما لا یخفی.

الشَرح:

الدفتر هو مقدار ما أحرز اشتغال ذمته به.

نعم قد ادّعی الشیخ الانصاری قدس سره الإجماع علی عدم جواز الرجوع إلی أصالة البراءة من غیر فحص عن مقداره وفی مسألة الشک فی بلوغ المال قدر النصاب أو الشک فی الاستطاعة، ولکنّ الإجماع أمر آخر لا یرتبط بمسألة کون المعلوم بالإجمال ذا علامة وعدمها.

التفصیل فی وجوب الفحص

[1] قد ذکر الماتن قدس سره فی المقام أنّه بعد الفراغ عن اعتبار ظهور العام وأنّه کسائر الظهورات من الظنون الخاصّة، یقع الکلام فی أنّه هل یعتبر ظهوره مطلقاً مالم یعلم بورود التخصیص علیه تفصیلاً ولم یکن من أطراف ما علم بورود التخصیص علیه إجمالاً من غیر لزوم الفحص عن وجود المخصّص له، أو أنّه لا یعتبر ظهوره إلاّ بعد الفحص والیأس عن وجوده ومعه لم یبق مجال للاستدلال علی لزوم الفحص بغیر واحدٍ من الوجوه التی استدلّ بها علی لزوم الفحص کالعلم الإجمالی بورود المخصّصات للعمومات من الکتاب والسنّة.

ثمّ اختار قدس سره أنّه لا یجوز التمسّک بأصالة العموم إذا کان فی معرض التخصیص کما فی عمومات الکتاب والسنّة، بخلاف ما إذا لم یکن فی معرضه وذلک فإنّ العمدة فی دلیل اعتبار الظهورات هی السیرة العقلائیة علی اتباع الظهورات ولم

ص :272

.··· . ··· .

الشَرح:

یحرز جریان سیرتهم علی اتباع الظهورات للعمومات التی فی معرض التخصیص إلاّ بعد الفحص وعدم الظفر به، بل یکفی فی عدم اعتبارها عدم إحراز اتّباع ظهوراتها قبل الفحص مع أنّه قد ادّعی الإجماع علی لزوم الفحص ونفی الخلاف فیه وعدم إحراز اتّباعها کافٍ فی اشتراط لزوم الفحص، وهذا بخلاف ما إذا لم یکن العام فی معرض التخصیص کما فی غالب العمومات الواردة فی ألسنة أهل المحاورة، فإنّه لا ینبغی التأمل فی أنّهم یأخذون بظهوراتها بلا فحص عن المخصّص لها.

أقول: لیس المراد من کون العام فی معرض التخصیص مجرّد وجود الخاص أو الظنّ به علی خلاف العام، وإلاّ لزم عدم جواز التمسّک به فیما إذا احتمل وجوده بعد الفحص أو ظنّ به بعد الفحص وعدم الظفر به أیضاً، بل المراد أنّ المتکلّم بخطاب العام إذا کانت عادته علی إلقاء العام وعدم إرادة العموم ثبوتاً واعتاد علی تفهیم مراده بذکر الخطاب المنفصل لم تکن أصالة العموم متبعة فی خطاباته المشتملة علی العمومات قبل الفحص والمراجعة إلی مظان وجود ذکر المخصّص لها.

ولیس المراد أیضاً أنّه إذا کانت عادته کذلک لم ینعقد للعام ظهور استعمالی فی العموم حتی یقال إنّ مع إحراز کون المتکلّم کذلک لا یتمّ مقدّمات الإطلاق فی خطابه المطلق کما یأتی الکلام فی ذلک إن شاء اللّه تعالی، بل المراد _ بعدما کانت أداة العموم بحسب وضعها دالّة علی أنّ الحکم الوارد فی الخطاب یعمّ جمیع ما ینطبق علیه العنوان الواقع فی حیّزها بلا حاجة إلی مقدّمات الإطلاق _ هو أنّ أصالة التطابق المعبّر عنها بحجّیة الظهور مقصورة علی ما بعد الفحص عن مظانّ وجود الخاص علی خلاف العام، وقبل ذلک لا تعتبر فی العمومات التی فی مظان ورود الخاص علی خلافها کما لا یعتبر سائر الظهورات إذا کانت فی معرض ورود القرائن علی خلافها.

ص :273

وأما إذا لم یکن العام کذلک، کما هو الحال فی غالب العمومات الواقعة فی السنة أهل المحاورات، فلا شبهة فی أن السیرة علی العمل به بلا فحص عن مخصص، وقد ظهر لک بذلک أن مقدار الفحص اللازم ما به یخرج عن المعرضیة له[1]، کما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التی استدل بها من العلم الإجمالی به أو حصول الظن بما هو التکلیف، أو غیر ذلک رعایتها، فتختلف مقداره بحسبها، کما لا یخفی.

الشَرح:

ومما ذکرنا یظهر عدم الفرق بین الفحص عن الخاص الوارد علی خلاف العام وبین الفحص عن الدلیل علی ثبوت التکلیف فی الواقعة فی موارد الرجوع إلی الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة، حیث لا یتمّ موضوع الاعتبار قبل الفحص لا فی المقام ولا فی تلک الشبهات، غایة الأمر المعتبر فی المقام هو کون الظهور الاستعمالی، طریقاً إلی الواقع من حیث التنجیز أو التعذیر أو کونه علماً بالواقع اعتباراً وفی مورد الأصول العملیة اعتبار کون الجهل بالواقع عذراً أو کونه _ عند تعلقه بالبقاء مع إحراز ثبوته وحدوثه _ علماً بالواقع، وما فی کلام الماتن قدس سره من أنّ الفحص فی المقام عمّا یزاحم المقتضی وفی الأصول العملیة عمّا یتمّ به المقتضی، غیر تامّ إلاّ علی مسلکه من أنّ تقدیم خطاب الخاص علی خطاب العام من جهة العمل بأقوی الحجّتین لا من باب الأخذ بالقرینة لعدم اعتبار الظهور الاستعمالی مع العلم بمخالفته للمراد الجدّی حیث ذکرنا أنّه لا اعتبار به قبل الفحص عن القرینة علی خلافه.

مقدار الفحص

[1] لا یخفی أنّ العمومات الواردة فی الکتاب والسنّة فی معرض التخصیص بالإضافة إلی الخصوصات المنفصلة الواردة فی الأخبار المأثورة فی کتب الأخبار

ص :274

ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل، باحتمال أنه کان ولم یصل، بل حاله حال احتمال قرینة المجاز، وقد اتفقت کلماتهم علی عدم الاعتناء به مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها، کما لا یخفی.

إیقاظ: لا یذهب علیک الفرق بین الفحص هاهنا، وبینه فی الأصول العملیة، حیث إنه هاهنا عما یزاحم الحجة، بخلافه هناک، فإنه بدونه لا حجة، ضرورة أن العقل بدونه یستقل باستحقاق المؤاخذة علی المخالفة، فلا یکون العقاب بدونه بلا بیان والمؤاخذة علیها من غیر برهان، والنقل وإن دلّ علی البراءة أو الاستصحاب فی موردهما مطلقاً، إلاّ أن الإجماع بقسمیه علی تقییده به، فافهم.

الشَرح:

المعتمدة عند علمائنا، وأمّا بالإضافة إلی غیرها فلا معرضیة لها وعلیه فإذا فحص فی مظان وجود المخصّص واطمئنّ أو یأس عن وجودها فیؤخذ بأصالة العموم فی خطاب العام، بل الحال کذلک بالإضافة إلی العمومات والمطلقات الواردة فی الروایات، فلا مورد للإشکال بأنّه إذا کان اعتبار ظهور العامّ مشروطاً بخروجه عن المعرضیة فعدم الظفر بالخاص علی خلافه فیما بأیدینا من الروایات لا یوجب خروجه عن المعرضیة.

ص :275

فصل

هل الخطابات الشفاهیة مثل: (یا أیها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعم غیره من الغائبین، بل المعدومین؟

فیه خلاف[1]، ولابد قبل الخوض فی تحقیق المقام، من بیان ما یمکن أن یکون محلاً للنقض والإبرام بین الأعلام.

فاعلم أنه یمکن أن یکون النزاع فی أن التکلیف المتکفل له الخطاب هل یصح تعلقه بالمعدومین، کما صح تعلقه بالموجودین، أم لا؟ أو فی صحة المخاطبة معهم، بل مع الغائبین عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجیه الکلام إلیهم، وعدم صحتها، أو فی عموم الألفاظ الواقعة عقیب أداة الخطاب، للغائبین بل المعدومین، وعدم عمومها لهما، بقرینة تلک الأداة.

الشَرح:

الخطابات الشفاهیة

[1] یقع الکلام فی المقام فی جهاتٍ:

الأُولی: فی إمکان جعل التکلیف علی المعدومین فی زمان الجعل من الذین لا یوجدون بعد ذلک فی العصور المتتالیة مع الموجودین فی زمان الجعل، بأن یکون المنشأ (بالفتح) فی الخطاب هو التکلیف علی کلّ فردٍ من أفراد المکلّفین من الموجودین فی زمان الجعل ومن یوجد بعد ذلک بحسب الأزمنة المتتالیة والمتعاقبة.

الثانیة: هل یمکن للمتکلّم مخاطبة المعدومین زمان الخطاب، والغائبین عن مجلس التخاطب، أو توجیه کلامه إلی الغائبین والمعدومین ممن یوجدون بعد ذلک؟

ص :276

ولا یخفی أن النزاع علی الوجهین الأولین یکون عقلیاً، وعلی الوجه الأخیر لغویاً.

إذا عرفت هذا، فلا ریب فی عدم صحة تکلیف المعدوم عقلاً، بمعنی بعثه أو زجره فعلاً، ضرورة أنه بهذا المعنی یستلزم الطلب منه حقیقة، ولا یکاد یکون الطلب کذلک إلاّ من الموجود ضرورة، نعم هو بمعنی إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر، لا استحالة فیه أصلاً، فإن الإنشاء خفیف المؤونة، فالحکیم (تبارک وتعالی) ینشئ علی وفق الحکمة والمصلحة، طلب شیء قانوناً من الموجود والمعدوم حین الخطاب، لیصیر فعلیاً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلی إنشاء آخر، فتدبر.

الشَرح:

الثالثة: هل العناوین الواقعة بعد أداة الخطاب تختصّ بمن ینطبق علیه عنوان المشافه والحاضر مجلس التخاطب أو أنّها تبقی علی عمومها کما إذا لم تکن واقعة فی تلو تلک الأداة؟

وذکر الماتن قدس سره فی الجهة الأولی ما حاصله: أنّه لا بأس بإنشاء التکلیف علی المعدوم زمان الإنشاء، بأن ینشأ بقوله «أقِیموا الصّلاةَ» وجوبها، بعدد الموجودین إلی قیام الساعة، بحیث یکون الطلب المنشأ فعلیاً وطلباً حقیقیاً بالإضافة إلی الواجدین لشرائط البعث والزجر من الموجودین، وإنشائیاً بالإضافة إلی غیرهم بأن تکون فعلیته فی حقّهم عند وجودهم وحصول شرائط البعث والزجر لهم، فإنّ التکلیف الإنشائی خفیف المؤنة حیث إنّ قوامه یکون بالتلفظ بقصد حصول ما یحصل بالاعتبار ونظیر هذا الإنشاء فی غیر التکلیف والطلب، إنشاء الملکیة للبطون المتأخّرة فی الوقف الخاص، فإنّ الواقف حین وقفه ینشأ ملکیة العین للبطون بحسب زمان وجودهم وانقضاء البطن السابق علیهم بحیث تنشأ الملکیة لهم مع

ص :277

ونظیره من غیر الطلب إنشاء التملیک فی الوقف علی البطون، فإن المعدوم منهم یصیر مالکاً للعین الموقوفة، بعد وجوده بإنشائه، ویتلقی لها من الواقف بعقده، فیؤثر فی حق الموجود منهم الملکیة الفعلیة، ولا یؤثر فی حق المعدوم فعلاً، إلاّ استعدادها لأن تصیر ملکاً له بعد وجوده، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقاً.

وأما إذا أنشئ مقیداً بوجود المکلف ووجدانه الشرائط، فإمکانه بمکان من الإمکان.

الشَرح:

الموجودین فی زمان واحد بإنشاء واحد.

لا یقال: هذا الإنشاء أی إنشاء الطلب بالإضافة إلی المعدومین لغو.

فإنّه یقال: فائدته عدم الحاجة إلی إنشاء الطلب ثانیاً بخطابٍ آخر عند حصول شرائط الطلب الفعلی.

أقول: یمکن أن یستظهر مما ذکرنا أنّ الغرض یحصل بإنشاء الطلب لکلّ فردٍ من أفراد المکلّف بنحو القضیة الحقیقیة وإظهاره بخطاب واحد بأن یکون المنشأ هو الطلب من حین انطباق عنوان البالغ العاقل وغیرهما من القیود، وإلاّ فإنشاء الطلب من حین عدمه وعدم انطباق عنوان البالغ العاقل علیه من اللغو الظاهر، والأمر فی إنشاء الوقف الخاص أیضاً کذلک، وإذا فرض کون مضمون الخطاب هو الحکم المجعول بعنوان القضیة الحقیقیة أمکن کونه طلباً حقیقیاً بأن یکون الغرض منه الانبعاث والزجر من حین فعلیة العنوان المأخوذ للمکلّف علی ما تقدّم بیانه فی بحث الواجب المشروط، غایة الأمر فعلیة المجعول من التکلیف تکون بفعلیة العنوان المأخوذ فیه موضوعاً.

وبالجملة المجعول من التکلیف فی الخطابات الانحلالیة المتضمّنة للحکم بنحو القضیة الحقیقیة مبدئه زمان فعلیة عنوان الموضوع ویمکن جعله بفرض فعلیة

ص :278

وکذلک لا ریب فی عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقیقة، وعدم إمکانه[1]، ضرورة عدم تحقق توجیه الکلام نحو الغیر حقیقة إلاّ إذا کان موجوداً، وکان بحیث یتوجه إلی الکلام، ویلتفت إلیه.

ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب، مثل أدوات النداء، لو کان موضوعاً للخطاب الحقیقی، لأوجب استعماله فیه تخصیص ما یقع فی تلوه بالحاضرین، کما أن قضیة إرادة العموم منه لغیرهم استعماله فی غیره، لکن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم یکن موضوعاً لذلک، بل للخطاب الإیقاعی الإنشائی، فالمتکلم ربما یوقع الخطاب بها تحسّراً وتأسفاً وحزناً مثل:

یا کوکباً ما کان أقصر عمره ..............................

أو شوقاً، ونحو ذلک، کما یوقعه مخاطباً لمن ینادیه حقیقة، فلا یوجب استعماله فی معناه الحقیقی __ حینئذ __ التخصیص بمن یصح مخاطبته، نعم لا یبعد دعوی الظهور، انصرافاً فی الخطاب الحقیقی، کما هو الحال فی حروف الاستفهام والترجی والتمنی وغیرها، علی ما حققناه فی بعض المباحث السابقة، من کونها موضوعة للإیقاعی منها بدواع مختلفة مع ظهورها فی الواقعی منها انصرافاً، إذا لم یکن هناک ما یمنع عنه، کما یمکن دعوی وجوده غالباً فی کلام الشارع، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحکم فی مثل: (یا أیها الناس اتقوا) و (یا أیها المؤمنون) بمن حضر مجلس الخطاب، بلا شبهة ولا ارتیاب.

الشَرح:

ذلک العنوان کما لا یخفی.

[1] وذکر قدس سره فی الجهتین الثانیة والثالثة أنّه لا یصحّ خطاب المعدوم خطاباً حقیقّیاً بأن یراد من المعدوم التفاته إلیه، بل لا یمکن توجیه الکلام إلیه وإلی المخاطب الغائب حقیقة، حیث إنّ المعدوم بل الغائب غیر صالح للتوجیه المزبور.

ص :279

ویشهد لما ذکرنا صحة النداء بالأدوات، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عنایة، ولا للتنزیل والعلاقة رعایة.

وتوهّم کونه ارتکازیاً، یدفعه عدم العلم به مع الإلتفات إلیه، والتفتیش عن حاله مع حصوله بذلک لو کان مرتکزاً، وإلاّ فمن أین یعلم بثبوته کذلک؟ کما هو واضح.

وإن أبیت إلاّ عن وضع الأدوات للخطاب الحقیقی، فلا مناص عن إلتزام اختصاص الخطابات الإلهیة بأداة الخطاب، أو بنفس توجیه الکلام بدون الأداة کغیرها بالمشافهین، فیما لم یکن هناک قرینة علی التعمیم.

الشَرح:

وعلی ذلک فإن کانت أدوات النداء والخطاب موضوعة للخطاب الحقیقی فیوجب استعمالها فیه تخصیص العنوان الواقع فی تلوها بالحاضرین بخلاف ما إذا لم تکن مستعملة فی الخطاب الحقیقی أو النداء الحقیقی فإنّه لا یوجب اختصاص العنوان الواقع فی تلوها بهم.

ثمّ ذکر قدس سره أنّ الظاهر کون الأدوات موضوعة للنداء والخطاب الإیقاعیین فالمتکلّم ربّما یوقع الخطاب بأداة النداء تحسّراً وتأسّفاً وحزناً مثل (یا کوکباً ما کان أقصر عمره) أو شوقاً أو نحو ذلک کما یوقع الخطاب بداعی طلب التفاته حقیقة، وعلی ذلک فلا یوجب استعمالها فی معناها الموضوع لها التخصیص بمن یصحّ مخاطبته حقیقة.

نعم، لا یبعد انصرافها إلی أنّ الداعی للمتکلم إلی إیقاع الخطاب إرادته حقیقة إذا لم یکن فی البین ما یمنع عن هذا الانصراف کما هو الحال فی أداة الاستفهام والترجی والتمنی وغیرهما مما تقدم فی بحث الطلب والإرادة من أنّها موضوعة للمعنی الانشائی الإیقاعی منها وتکون عند الاستعمال فیها منصرفة إلی کون الداعی

ص :280

وتوهم صحة إلتزام التعمیم فی خطاباته تعالی لغیر الموجودین، فضلاً عن الغائبین، لإحاطته بالموجود فی الحال والموجود فی الإستقبال، فاسد، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحیة المعدوم بل الغائب للخطاب، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا یوجب نقصاً فی ناحیته تعالی، کما لا یخفی، کما أن خطابه اللفظی لکونه تدریجیاً ومتصرم الوجود، کان قاصراً عن أن یکون موجهاً نحو غیر الشَرح:

إلی الإیقاع والإنشاء وجودها الواقعی ما لم یکن فی البین ما یمنع عن الانصراف ویمکن دعوی وجود ما یمنع عن الانصراف المزبور غالباً فی کلام الشارع، والمانع وضوح عدم اختصاص الحکم الذی یتضمنه الخطاب فی مثل یا أیها الناس ویا أیها المؤمنون بالحاضر مجلس الخطاب.

أقول: یصحّ من المتکلّم توجیه کلامه إلی کلّ من یمکن أن یصل إلیه کلامه الذی له نحو بقاء ولو اعتباراً کما إذا کان مکتوباً فی لوحة أو غیرها أو مضبوطاً ومسجّلاً فی شریط مثلاً، فإنّ إرادة توجیهه إلی السائرین حتّی بحسب العصور المتأخرة والأزمنة المتعاقبة بقصد تفهیم کلّ من یحصل له _ ولو مستقبلاً _ العنوان الکذائی، أمر ممکن لا امتناع فیه.

نعم، لا یمکن قصد ذلک إذا لم یکن لکلامه نحو بقاء لیصل إلی الآخرین بأن یقصد منه تفهیم کلّ من یحصل له فی ظرف وجوده العنوان الواقع تلو الأداة ویرید جلب نظره والتفاته إلیه، وفی هذه الصورة لا یکون النداء والخطاب إلاّ بنحو الدعاء وتنزیل الغائب والمعدوم بمنزلة الموجود ومخاطبته إظهاراً لشوقه للمخاطبة معه أو تحسراً أو تحزناً لا إرادة توجیه الکلام إلیه حقیقة، طلباً لالتفاته حقیقة.

وبالجملة إذا کان الکلام بحیث یمکن وصوله إلی من یرید توجهه وجلب التفاته إلیه یصحّ النداء والخطاب حقیقة فیما لا یکون فی البین ما یمنع عن هذا

ص :281

من کان بمسمع منه ضرورة، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل یا أیها الناس اتقوا فی الکتاب حقیقة إلی غیر النبی صلی الله علیه و آله بلسانه[1].

وأما إذا قیل بأنه المخاطب والموجه إلیه الکلام حقیقة وحیاً أو إلهاماً، فلا محیص إلاّ عن کون الأداة فی مثله للخطاب الإیقاعی ولو مجازاً، وعلیه لا مجال لتوهم اختصاص الحکم المتکفل له الخطاب بالحاضرین، بل یعم المعدومین، فضلاً عن الغائبین.

الشَرح:

القصد والإرادة کما هو الحال فی الخطابات القرآنیة.

خطابات القرآن الکریم

[1] وحاصله أنّ ما تقدّم _ من أنّه لو کان المراد بأدوات النداء ونحوها فی الکتاب المجید، الخطاب حقیقة لأوجب ذلک اختصاص ما یقع فی تلوها بالحاضرین بخلاف ما إذا کان المراد منها الخطاب الإیقاعی الإنشائی فإنّه لا ینافی بقاء ما وقع فی تلوها علی عمومه _ مبنی علی أنّ المخاطب بتلک النداءات والخطابات غیر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من الناس والمؤمنین بأن یکون ما یجری علی لسان النبی صلی الله علیه و آله وسلم هو الخطاب الصادر والمخلوق للّه .

وأمّا إذا بنی علی أنّ المخاطب فیها النبی صلی الله علیه و آله وسلم وقد ألقی الخطاب إلیه إلهاماً أو وحیاً فیتعین کون الأداة للخطاب الإیقاعی وإن قیل انّه المعنی المجازی للأدوات، لأنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم لا یکون من النساء ولا کل الرجال والمؤمنین وغیر ذلک من العناوین التی دخلت علیها أداة النداء والخطاب.

أقول: لا أظنّ أن یلتزم أحد بأنّ ما کان یجری علی لسان النبی صلی الله علیه و آله وسلم هو کاللفظ المخلوق من الشجرة الذی تکلّم به لموسی (علی نبینا وآله وعلیه السلام) بل ما کان یجری علی لسانه صلی الله علیه و آله وسلم کان إیصالاً لخطابه إلی الناس بنحو الحکایة عما

ص :282

.··· . ··· .

الشَرح:

أُوحی إلیه، ولکونه واسطة فی الإبلاغ علی ما تقدّم، یصحّ مخاطبة من یصل إلیه الکلام المزبور، وقد یکون الخطاب شاملاً للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم وقد لا یشمله نظیر خطاب نساء النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، وقد یکون الخطاب مختصاً به کقوله : «یا أیُّها النَّبِیّ إِنَّا أرْسَلْنَاکَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً»(1) و«قُلْ لأَزْواجِک إنْ کُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَیاةَ الدُّنْیا»(2).

ص :283


1- (1) سورة الأحزاب: الآیة 45.
2- (2) سورة الأحزاب: الآیة 28.

فصل

ربما قیل: إنّه یظهر لعموم الخطابات الشفاهیة للمعدومین ثمرتان:

الأولی: حجیة ظهور خطابات الکتاب لهم کالمشافهین[1].

وفیه: إنه مبنی علی اختصاص حجیة الظواهر بالمقصودین بالإفهام، وقد حقق عدم الإختصاص بهم. ولو سلم، فاختصاص المشافهین بکونهم مقصودین بذلک ممنوع، بل الظاهر أن الناس کلهم إلی یوم القیامة یکونون کذلک، وإن لم یعمهم الخطاب، کما یومئ إلیه غیر واحد من الأخبار.

الشَرح:

ثمرة شمول الخطاب للمعدومین

[1] قیل تظهر ثمرة الخلاف فی صحّة خطاب الغائبین بل المعدومین فی مقامین:

أحدهما: أنّه بناءاً علی شمول الخطابات للغائبین والموجودین فی العصور المتتالیة أنّه یصحّ لهم التمسّک بظواهر تلک الخطابات وأنّها تعتبر فی حقهم کما کانت معتبرة فی حقّ الحاضرین عند الخطاب فإنّهم لو قیل بعمومها یکونون بعد وجودهم کالحاضرین فی کونهم مقصودین بالإفهام من الخطابات.

ولکن لا یخفی أنّ ظواهر تلک الخطابات معتبرة سواء قیل بکون المقصود بالافهام خصوص الحاضرین أو حتی الغائبین والمعدومین بعد وجودهم، وسواء قیل بدخولهم فی تلک العناوین أم لا، حیث ثبت فی باب حجیة الظواهر عدم اختصاص اعتبارها بالمقصودین بالافهام، وذلک لما ثبت فی محلّه أنّه لا تختص حجیة الظهور بالمقصود بالافهام، ولذا لو أرسل المولی إلی عبده کتاباً یأمر فیه بقتل زید ووقع الکتاب بید شخصٍ آخر، یصحّ منه أن ینسب إلی المولی أنّه أمر عبده بقتل زید، ولو کان اعتبار الظهور مقصوراً علی المقصود بالافهام لما صحّ له هذه النسبة. مع

ص :284

الثانیة: صحة التمسک بإطلاقات الخطابات القرآنیة بناءً علی التعمیم، لثبوت الأحکام لمن وجد وبلغ[1] من المعدومین، وإن لم یکن متحداً مع المشافهین فی الصنف، وعدم صحته علی عدمه، لعدم کونها حینئذ متکفلة لأحکام غیر المشافهین، فلا بد من إثبات اتحاده معهم فی الصنف، حتی یحکم بالاشتراک مع المشافهین فی الأحکام، وحیث لا دلیل علیه حینئذ إلاّ الإجماع، ولا إجماع علیه إلاّ فیما اتحد الصنف، کما لا یخفی.

الشَرح:

أنّ اختصاص الخطاب بشخصٍ لا یلازم کونه هو المقصود بالافهام فقط، بل الخطابات القرآنیة بناءً علی اختصاصها بالمشافهین من قبیل ما لو کتب المولی إلی أحد عبیده «یا عبدی علی عبیدی أن یتعلموا الکتابة» ویظهر کون خطابات القرآن الکریم کذلک لمن لاحظ الأخبار الواردة فی شأن القرآن وأنّه یجری مجری الشمس والقمر وإذا نزلت آیة فی قوم فانقرضوا وماتوا فلا تمت الآیة بانقراضهم(1).

[1] الظاهر أنّ القائل بالثمرة الثانیة یدّعی تمامیة مقدّمات الحکمة فی حقّ الغائبین والمعدومین بناءً علی عموم الخطابات فیصحّ فی حقّ من وجد وبلغ التمسّک بتلک الإطلاقات فی ثبوت الأحکام الواردة فی الخطابات علی العناوین المنطبقة علیه بعد وجوده وبلوغه.

وأمّا بناءً علی اختصاص الخطابات بالحاضرین فلا یصحّ التمسّک بها لعدم تمامیة ما هو من مقدّماته وهو أنّه لو لم یثبت هذا الحکم لعنوانه من غیر دخالة قید، بل کان القید دخیلاً ومعتبراً فی ثبوته، لکان عدم ذکره فی الخطاب نقضاً للغرض.

وبیان ذلک أنّه إذا ورد الحکم فی الخطاب علی عنوان ینطبق علی الموجود

ص :285


1- (1) البحار 92 / 94، باب أنّ للقرآن ظهراً وبطناً الحدیث: 47 نقلاً عن تفسیر العیاشی 1 / 10.

ولا یذهب علیک، أنه یمکن إثبات الاتحاد، وعدم دخل ما کان البالغ الآن فاقداً له مما کان المشافهون واجدین له، بإطلاق الخطاب إلیهم من دون التقیید به، وکونهم کذلک لا یوجب صحة الإطلاق، مع إرادة المقید معه فیما یمکن أن یتطرق الفقدان، وإن صح فیما لا یتطرق إلیه ذلک. ولیس المراد بالاتحاد فی الصنف إلاّ الاتحاد فیما اعتبر قیداً فی الأحکام، لا الاتحاد فیما کثر الاختلاف بحسبه، والتفاوت بسببه بین الأنام، بل فی شخص واحد بمرور الدهور والأیام، وإلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراک للغائبین __ فضلاً عن المعدومین __ حکم من الأحکام.

ودلیل الاشتراک إنما یجدی فی عدم اختصاص التکالیف بأشخاص المشافهین، فیما لم یکونوا مختصین بخصوص عنوان، لو لم یکونوا معنونین به لشک فی شمولها لهم أیضاً، فلولا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاک العنوان فی الحکم، لما أفاد دلیل الاشتراک، ومعه کان الحکم یعم غیر المشافهین ولو قیل باختصاص الخطابات بهم، فتأمل جیداً.

الشَرح:

فی زمان صدور الخطاب ومن یوجد فی العصور المتأخّرة، واحتمل دخالة أمر آخر فی ثبوته مما کان الموجودین فی زمان الخطاب واجدین له، فبناءً علی عموم الخطابات للغائبین والمعدومین یحکم بعدم دخالته فی الحکم المفروض، حیث إنّه لو کان دخیلاً فیه لوجب التصریح به فی الخطاب، لئلاّ ینتقض غرض المتکلّم بالإضافة إلی الغائبین والمعدومین المقصودین فی توجیه الخطابات، وهذا بخلاف ما إذا بنی علی اختصاصها بالمشافهین والحاضرین فإنّ مدلول تلک الخطابات والمقصود منها بیان الأحکام فی حقّ الحاضرین والموجودین فی ذلک الزمان، وأمّا عدم التعرّض للقید المفروض وعدم ذکره لهم فلا محذور فیه لأنهم کانوا واجدین له، ولکن تسریة تلک الأحکام إلی الموجودین بعد ذلک الزمان إنّما کان بضرورة

ص :286

فتلخص: أنه لا یکاد تظهر الثمرة إلاّ علی القول باختصاص حجیة الظواهر لمن قصد إفهامه، مع کون غیر المشافهین غیر مقصودین بالإفهام، وقد حقق عدم الإختصاص به فی غیر المقام، وأشیر إلی منع کونهم غیر مقصودین به فی خطاباته (تبارک وتعالی) فی المقام.

الشَرح:

الاشتراک فی التکلیف والإجماع، والضرورة والإجماع إنّما یجریان فی موارد إحراز الاتحاد فی الصنف بأن یتحقّق فی المعدومین بعد وجودهم وبلوغهم ما هو تمام الموضوع للحکم السابق الثابت فی حقّ الحاضرین ومع احتمال دخالة القید المفروض لا یمکن هذا الإحراز.

وأجاب الماتن قدس سره عن هذه الثمرة: بأن هذا فیما کان القید المحتمل دخالته أمراً لازماً للحاضرین المشافهین، بحیث لا یتخلّف ولا ینفک عنهم، وأمّا إذا کان مما یتطرّق التخلّف والفقدان ولو فی أواخر عمرهم کاحتمال دخل حضور النبی صلی الله علیه و آله وسلم مثلاً فی ثبوت الحکم فیتمسّک بالإطلاق لاثبات عدم دخالته فی ثبوت الحکم لهم وإذا أُحرز عدم دخالته تمسّکاً بالإطلاق لتمامیة مقدّماته فی حقّهم ثبت فی حقّ المعدومین بعد وجودهم وبلوغهم لقضاء الضرورة والإجماع المشار إلیهما، وما یحتمل دخالته فی ثبوت الأحکام هی الأمور التی لا تکون من لوازم ذات الحاضرین زمان الخطاب بحیث یمتنع انفکاکهما عن ذواتهم، بل من قبیل الأمور التی تعدّ من المقارنات والمفارقات، وإلاّ لم یمکن إثبات حکم للمعدوم بضرورة الاشتراک فی التکلیف والإجماع، لأنّه لا یحرز مع احتمال دخالة ما کان من قبیل لازم الذات للحاضرین، اتحاده فی عنوان لو لم یکن للحاضر لما کان یثبت له الحکم.

وبالجملة المحتمل دخالته هو ما کان یمکن تطرّق عدم دخالته فی حقّ الحاضرین أیضاً، ومع إثبات عدم دخالته فی حقّهم بالإطلاق یثبت ذلک الحکم

ص :287

.··· . ··· .

الشَرح:

للمعدومین بعد وجودهم وبلوغهم بقاعدة الاشتراک والإجماع.

أقول: إذا بنی علی أنّ الخطاب الصادر عن المتکلّم وإن لم یکن متوجّهاً إلی المعدومین فی ذلک الزمان حتی بلحاظ زمان وجودهم وبلوغهم إلاّ أنّ قصد التفهیم وإظهار الحکم لا یختصّ بهم وانّ غرض المتکلّم بیان الحکم بنحو یستفید _ من خطابه إلی الحاضرین _ کل من وصل إلیه ذلک الخطاب ولو بطریق النقل إلی آخر الزمان ففی مثل ذلک لا یصحّ للمتکلّم _ مع دخالة قید فی موضوع حکمه وتخلّف ذلک القید عن الغائبین أو المعدومین بعد وجودهم _ إهماله وعدم بیانه متصلاً بخطابه أو منفصلاً عنه، مباشرة أو تسبیباً.

وعلیه فإذا لم یرد ذکر للقید المحتمل، یصحّ التمسّک بالإطلاق من غیر توسیط انضمام الإجماع والضرورة علی الاشتراک فی التکلیف حتی فیما إذا فرض کون القید المحتمل من قبیل اللازم لخصوص الحاضرین أو الموجودین فی ذلک الزمان فإنّه لو کان ذلک القید دخیلاً فعدم التعرّض لدخالته نقض للغرض ویمکن أن یکون ما ذکرنا هو مراد الماتن قدس سره مما ذکره فی آخر کلامه.

ص :288

فصل

هل تعقب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده، یوجب تخصیصه به أو لا؟

فیه خلاف بین الأعلام[1] ولیکن محل الخلاف ما إذا وقعا فی کلامین، أو فی کلام واحد مع استقلال العام بما حکم علیه فی الکلام، کما فی قوله تبارک وتعالی: (والمطلقات یتربصن) إلی قوله (وبعولتهن أحق بردهن) وأما ما إذا کان مثل: (والمطلقات أزواجهن أحق بردهن)، فلا شبهة فی تخصیصه به.

والتحقیق أن یقال: إنه حیث دار الأمر بین التصرف فی العام، بإرادة خصوص ما أُرید من الضمیر الراجع إلیه، أو التصرف فی ناحیة الضمیر: إما بإرجاعه إلی بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلی تمامه مع التوسع فی الإسناد، بإسناد الحکم المسند إلی البعض حقیقة إلی الکل توسعاً وتجوزاً، کانت أصالة الظهور فی طرف العام سالمة عنها فی جانب الضمیر، وذلک لأن المتیقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور فی تعیین المراد، لا فی تعیین کیفیة الإستعمال، وإنه علی نحو الحقیقة أو المجاز فی الکلمة أو الإسناد مع القطع بما یراد، کما هو الحال فی ناحیة الضمیر.

الشَرح:

تعقّب العام بضمیر الخاص

[1] إذا تعقّب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده ففیه صورتان:

الأُولی: أن یذکر فی الخطاب عامّ ویرد بعده حکم یتّصل بموضوعه ضمیر یرجع إلی بعض أفراد ذلک العام، من غیر أن یکون حکم آخر لنفس العام کما إذا ورد فی الخطاب مثلاً «المطلّقات أزواجهن أحقّ بردّهن» ولا ینبغی التأمل فی تخصیص العام بذلک الضمیر ولکن المراد من تخصیص العام عدم عموم ذلک الحکم لجمیع أفراده بحسب مقام الثبوت، وإلاّ فیمکن إظهار الحکم لجمیع أفراد العام بحسب

ص :289

.··· . ··· .

الشَرح:

الإثبات مع عدم تطابقه لمقام الثبوت فی جمیع أفراده، کسائر موارد قیام القرینة علی عدم عموم الحکم ثبوتاً.

الثانیة: ما إذا کان العام فی ذلک الخطاب محکوماً بحکم وکان للضمیر الراجع إلیه أو ما أُضیف إلی ذلک الضمیر حکم آخر یختصّ أو یرجع إلی بعض أفراد العام کما فی قوله «المُطَلَّقات یَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثة قُرُوء . . . وَبعُولتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنّ»(1) فامّا أن یلتزم بالتخصیص فی العام أو بالاستخدام فی الضمیر.

فیقع الکلام فی أنّ الضمیر المزبور المراد منه بعض أفراد العام هل یعدّ قرینة علی تخصیص العام بأن یکون الحکم المذکور للعام أیضاً مختصاً بالأفراد المرادة من الضمیر، أو أنّه لا یحسب قرینة علی ذلک فیؤخذ _ فی ناحیة حکم العام _ بعمومه مع الالتزام بأنّ الحکم الثانی مختصّ ببعض أفراده فیکون استعمال الضمیر من باب الاستخدام؟

والصحیح هو الثانی فإنّ أصالة التطابق فی ناحیة حکم العام جاریة ولا یعارضها أصالة الظهور _ فی ناحیة الضمیر _ فی المراد منه هو المراد من مرجعه، وذلک لأن اعتبار أصالة الظهور بمقتضی سیرة العقلاء تختص بموارد الشک فی مراد المتکلّم ولا تجری فی موارد العلم بالمراد والشک فی کیفیة الإرادة، والمراد من الضمیر وحکمه معلوم فی الفرض وانّ حقّ الزوج فی الرجوع بزوجته المطلّقة یختصّ بالمطلّقة الرجعیة فیکون الشک فی کیفیة إرادته وأنّه هل هو بنحو الاستخدام أو التوسع فی الإسناد أو بنحو آخر بأن یکون المراد من مرجعه علی طبق ظهور الضمیر

ص :290


1- (1) سورة البقرة: الآیة 228.

وبالجملة: أصالة الظهور إنما یکون حجة فیما إذا شک فیما أرید، لا فیما إذا شک فی أنه کیف أرید، فافهم، لکنه إذا انعقد للکلام ظهور فی العموم، بأن لا یعد ما اشتمل علی الضمیر مما یکتنف به عرفاً[1]، وإلاّ فیحکم علیه بالاجمال، ویرجع إلی ما یقتضیه الأصول، إلاّ أن یقال باعتبار أصالة الحقیقة تعبداً، حتی فیما إذا احتفّ بالکلام ما لا یکون ظاهراً معه فی معناه الحقیقی کما عن بعض الفحول.

الشَرح:

ویعبّر عنه بأصالة عدم الاستخدام وعدم التوسّع فی الإسناد ومع الشک کذلک لا مجری لأصالة عدم الاستخدام وعدم التوسع فی الإسناد هذا ما ذکر فی المقام.

ولکن لا یخفی أنّ اختصاص الحکم الثانی ببعض أفراد العام مع عموم الحکم المذکور للعام لا یوجب الاستخدام ولا التوسعة فی الإسناد بنحو الادّعاء بأن یدّعی بعض الأفراد الذی أرید من الضمیر بالإضافة إلی الحکم الثانی کل أفراد العام بل کما أنّ المراد الاستعمالی من العام جمیع أفراده فی مقام الإثبات کذلک المراد الإستعمالی من الضمیر تمام أفراد العام.

غایة الأمر قام الدلیل علی أنّ رجوع الزوج إلی زوجته المطلّقة یکون فی عدّتها الرجعیة، فتسقط أصالة التطابق الجاریة فی ناحیة الحکم الثانی، ولا موجب لسقوطها بالإضافة إلی الحکم الأوّل. وما تقدّم من الماتن قدس سره إنّما یتمّ فیما أُحرز أنّ المراد الإستعمالی من الضمیر بعض المطلّقات مع أنّه لا موجب للإلتزام بذلک.

[1] ظاهر کلامه أنّ اتباع الظهور فی ناحیة العام المتعقّب بضمیره ینحصر علی ما إذا لم یعدّ الحکم المذکور للضمیر من القرینة المکتنفة بالعام أو مانعة عن ظهوره، فإنّه إذا کانت قرینة علی حکم العام أو مانعة عن انعقاد ظهوره فی العموم فلا مورد لأصالة العموم، بل علی تقدیر إجماله یرجع فی غیر المتیقن إلی حجة أخری ولو کانت أصلاً عملیاً کما فی قوله «رأیت أسداً وضربته» فإنّ الضرب المتعلّق بالضمیر

ص :291

.··· . ··· .

الشَرح:

فی الخطاب قرینة علی کون المراد من مرجعه الرجل الشجاع ولو لم یکن هذا قرینة فلا أقلّ من إجمال مرجعه. اللّهمّ إلاّ أن یقال باعتبار أصالة الحقیقة تعبّداً فی مورد الشک فی المراد لا لاعتبار أصالة الظهور فإنّه لو قیل باعتبارها تعبّداً ینتفی بها إجمال الخطاب.

أقول: لعلّ مراده من أصالة الحقیقة مجرّد التمثیل للأصول اللفظیة وإلاّ فالمورد من موارد أصالة العموم لأنّ التخصیص لا یوجب المجازیة.

وما ذکره قدس سره من کون الحجة الأخری _ أی الأصول العملیة التی یرجع إلیها بعد الحکم بالاجمال _ قرینة فهو خارج عمّا نحن فیه ولا یقاس المقام بقرینیة حکم الضمیر فیه بل یتعیّن فی المقام ما ذکرنا من الرجوع إلی أصالة العموم.

ص :292

فصل

قد اختلفوا فی جواز التخصیص بالمفهوم المخالف، مع الإتفاق علی الجواز بالمفهوم الموافق[1]، علی قولین، وقد استدل لکل منهما بما لا یخلو عن قصور.

الشَرح:

تخصیص العام بمفهوم الموافقة

[1] یثبت المفهوم الموافق للکلام بالفحوی تارة وهو أن یکون ملاک الحکم المستفاد بالملازمة من المنطوق أقوی من ملاک الحکم المذکور کما فی قوله «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ»(1)، حیث یستفاد منه بالفحوی حرمة ضربهما وبغیر الفحوی أخری بأن یکون المفهوم مساویاً مع الحکم المذکور بحسب الملاک کما فی قوله: «حرّم الخمر لکونه مسکراً أو لإسکاره» فیستفاد منهما حرمة سائر المسکرات وإن لم یدخل فی عنوان الخمر.

وناقش المحقّق النائینی قدس سره فی استفادة حرمة سائر المسکرات من الثانی والتزم باستفادتها من الأوّل بدعوی الفرق بینهما وأنّ عنوان المسکر فی الأول واسطة فی العروض فتکون الحرمة للمسکر حقیقة فتثبت فی الخمر وفی غیر الخمر، بخلاف الثانی فإنّ الإسکار فیه واسطة فی الثبوت والموضوع للحرمة هو الخمر ومن المحتمل أن یکون لإسکاره خصوصیة فلا یمکن التعدّی إلی سائر المسکرات.

ولکن لا یخفی ما فی الفرق فإنّ احتمال دخالة خصوصیة الخمر فی حرمته لا یمنع عن ظهور التعلیل فی أنّ الموجب لحرمته هو الإسکار ویتعدّی إلی سائر المسکرات.

ص :293


1- (1) سورة الإسراء: الآیة 23.

.··· . ··· .

الشَرح:

ثمّ إنّه إذا کان المفهوم الموافق أخصّ من العام کما إذا ورد فی خطاب «لا تشتم أحداً» وورد فی خطابٍ آخر «لا بأس بشتم أعوان الظلمة» یکون مفهومه الموافق نفی البأس عن شتم نفس الظلمة، ولا ینبغی التأمّل فی تخصیص العام به فإنّه لا مجری لأصالة العموم فی ناحیة العام مع قیام القرینة علی أنّ الحکم الوارد فیه لا یعم ثبوتاً بعض أفراده والمفهوم الموافق الخاص کالخاص المنطوقی قرینة علی ذلک.

وأمّا إذا کانت النسبة بین العام ومفهوم الموافقة العموم من وجه کما إذا ورد فی خطاب «اضرب کلّ فاسق متجاهر بفسقه حتی یرتدع»، فإنّ العموم المزبور یعمّ ما إذا کان الفاسق المتجاهر أب الضارب أو أمّه فتقع المعارضة بینه وبین مفهوم الموافقة لقوله «فلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ»(1) والنسبة العموم من وجه فیجتمعان فی الأب والأم المتجاهرین بفسقهما وفی مثل ذلک لا موجب لرفع الید عن عموم کلّ فاسق فی قوله «اضرب کل فاسق یتجاهر بفسقه» أو ترجیح المفهوم الموافق.

نعم، إذا کان المنطوق أخصّ مطلقاً من العام ولکن کان مفهومه أعمّ من وجه بالنسبة إلی العام کما إذا ورد فی خطاب «لا تکرم الفسّاق» وورد فی خطابٍ آخر «أکرم الفاسق من خدّام العلماء» الدالّ بمفهومه الموافق علی إکرام نفس العلماء یرفع الید عن عموم «لا تکرم الفسّاق» بالإضافة إلی العالم الفاسق وذلک لأنّ قوله «أکرم الفاسق من خدّام العلماء» أخصّ بالإضافة إلی العام فیخصّص العام به والمفروض أنّ تخصیص العام به یلازم تخصیصاً آخر وهو طلب إکرام نفس العالم الفاسق.

ص :294


1- (1) سورة الإسراء: الآیة 23.

وتحقیق المقام: أنه إذا ورد العام وما له المفهوم فی کلام أو کلامین، ولکن علی نحو یصلح أن یکون کل منهما قرینة متصلة للتصرف فی الآخر] 1]، ودار الأمر بین تخصیص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة علی کل منهما إن کانت بالاطلاق بمعونة مقدمات الحکمة، أو بالوضع، فلا یکون هناک عموم، ولا مفهوم، لعدم تمامیة مقدمات الحکمة فی واحد منهما لأجل المزاحمة، کما فی مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر کذلک، فلا بد من العمل بالأصول العملیة فیما دار فیه بین العموم والمفهوم، إذا لم یکن مع ذلک أحدهما أظهر، وإلاّ کان مانعاً عن انعقاد الظهور، أو استقراره فی الآخر.

ومنه قد انقدح الحال فیما إذا لم یکن بین ما دل علی العموم وما له المفهوم، ذاک الارتباط والاتصال، وأنه لا بد أن یعامل مع کل منهما معاملة المجمل، لو لم یکن فی البین أظهر، والا فهو المع_ول، والقرینة علی التصرف فی الآخر بما لا یخالفه بحسب العمل.

الشَرح:

تخصیص العام بمفهوم المخالفة

[1] وحاصله أنّه قد یکون العام والمنطوق الذی له مفهوم المخالفة فی کلام أو فی کلامین متصلین بحیث یعدّان خطاباً واحداً کقوله : «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیْبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتصْبَحُوا عَلی مَا فَعَلْتُمْ نادِمِیْنَ»(1) حیث إنّ مدلول التعلیل عدم جواز الاعتماد علی غیر العلم، سواء کان غیر العلم خبر العادل أم غیره، ومفهوم الشرطیة _ علی القول به _ اعتبار خبر العدل کان مفیداً للعلم أم لا، وکانا علی نحو یصلح أن یکون کلّ منهما قرینة للتصرف فی الآخر، فاذا کان کلّ من المفهوم والعموم مستفاداً من الإطلاق، ففی مثله لا یتم شیء من الإطلاقین لا فی المفهوم

ص :295


1- (1) سورة الحجرات: الآیة 6.

.··· . ··· .

الشَرح:

ولا فی ناحیة التعلیل لعدم تمامیة مقدّمات الحکمة فی ناحیة واحدٍ منهما، وکذا الحال فیما إذا کان کلّ من العام والمفهوم بالوضع کما إذا قیل بأنّ ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة بالوضع لا بإطلاق الشرط، علی ما تقدّم فی وجه دلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم.

وأمّا إذا کان أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق فلم یتعرّض له الماتن قدس سره وإنّما ذکر المزاحمة فی الصورتین فقط، ما إذا کان دلالتهما بالإطلاق أو بالوضع.

وذکر انّ فی هاتین الصورتین، یرجع إلی الأُصول العملیة واستثنی من ذلک ما إذا کان أحدهما أظهر فإنّ الأظهر یمنع عن انعقاد الظهور فی الآخر کما إذا کان الأظهر فی أول الخطاب، أو عن استقراره کما إذا کان فی آخره.

وأمّا إذا کان المفهوم المخالف فی خطاب والعام فی خطابٍ آخر فإن لم یکن أحدهما أظهر کما لو کانت النسبة بینهما العموم من وجه فیسقط کلا الظهورین عن الاعتبار وهذا هو المراد من إجمالهما وإلاّ فیقدّم الأخصّ الذی هو الأظهر فیکون قرینة علی التصرّف فی الآخر بتصرّف لا یخالف ذلک التصرّف الأظهر بحسب العمل به.

أقول: إذا کان المفهوم المخالف بالإضافة إلی العام من قبیل الحاکم فلا ینبغی التأمّل فی لزوم الأخذ بالمفهوم بلا فرقٍ بین اتصال العام بخطاب المنطوق وانفصاله وبلا فرق بین کون دلالة العام علی العموم وضعیة أم إطلاقیة کما فی قوله «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیْبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ»(1) وذلک فإنّ خطاب العام کسائر الخطابات التی مفادها قضیة حقیقیة غیر ناظرة إلی إثبات عنوان الموضوع وتعیین

ص :296


1- (1) سورة الحجرات: الآیة 6.

.··· . ··· .

الشَرح:

تحقّقه خارجاً بل مفاده ثبوت الحکم للموضوع علی تقدیر تحقّقه وفعلیّته، وإذا کان مفاد مفهوم المخالفة عدم کون شیء فرداً لذلک العام فیؤخذ به وبمدلول العام، من غیر تنافٍ بینهما، ومفاد الآیة الکریمة بناءً علی ثبوت المفهوم لها أنّه إذا کان الجائی بالخبر عادلاً فالمخبر به محرز ومعلوم، ومقتضی التعلیل عدم جواز الاعتماد علی غیر العلم فتکون النتیجة خروج مورد شمول المفهوم عن حکم العام ثبوتاً.

وأمّا إذا کان المفهوم المخالف بالإضافة إلی العام من قبیل الخاص والعام کما لو ورد: «کلّ صفرة رأتها المرأة استحاضة» وورد: «إذا رأت الصفرة فی غیر أیامها فهی استحاضة» فإنّ مقتضی الشرطیة عدم کونها استحاضة إذا رأتها أیام حیضها، ومقتضی العموم عدم الفرق بین تلک الصفرة وغیرها فی کون کلٍّ منهما استحاضة ففی الفرض یقدّم المفهوم الأخصّ علی عموم العام حتّی فیما کان العام متّصلاً بالمنطوق ودلالته علی العموم وضعیاً، وکانت دلالة القضیة الشرطیة علی المفهوم بإطلاق الشرط، بمعنی عدم ذکر العدل له علی ما تقدّم بیانه فی مفهوم الشرط وذلک فإنّ الخاص قرینة عرفیة علی المراد الجدّی من دون العکس، ومع التعبّد بالقرینة لا موضوع لأصالة التطابق فی ناحیة عموم العام.

وإن شئت قلت: أصالة الظهور أو الإطلاق فی ناحیة الخاص حاکمة علی أصالة العموم فی ناحیة العام إذ بالتعبّد بالخاص تثبت القرینة علی عدم إرادة العموم فی ناحیة العام کما إذا ورد فی خطاب «لا تشتم أحداً من الناس» وورد متصلاً أو منفصلاً الأمر بشتم الفاسق، وشک فی أنّ المراد بالفاسق مطلقه أو خصوص المتجاهر بفسقه، فإنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّ أصالة الإطلاق فی ناحیة الخاص توجب رفع الید عن عموم النهی عن شتم الناس ولو قلنا بأنّ اسم الجنس الواقع فی سیاق النهی یفید

ص :297

.··· . ··· .

الشَرح:

العموم، وعلی ما ذکرنا تکون أصالة الإطلاق الجاریة فی ناحیة الشرط فی القضیة الشرطیة حاکمة علی أصالة العموم.

وأمّا إذا کانت النسبة بین المفهوم والعام العموم من وجه فلا یعدّ شیء منهما قرینة عرفیة علی الآخر فیتساقطان فی مورد اجتماعهما.

نعم قد یقال بأنّه إذا کانت الدلالة علی العموم بالوضع فیؤخذ به لتمامیة الظهور فی ناحیته وعدم تمامیة الإطلاق فی ناحیة الشرط وتمام الکلام فی ذلک فی بحث تعارض العامین من وجه.

ص :298

فصل

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة، هل الظاهر هو رجوعه إلی الکل[1] أو خصوص الأخیرة، أو لا ظهور له فی واحد منهما، بل لابد فی التعیین من قرینة؟ أقوال.

والظاهر أنه لا خلاف ولا إشکال فی رجوعه إلی الأخیرة علی أیّ حال، ضرورة أن رجوعه إلی غیرها بلا قرینة خارج عن طریقة أهل المحاورة، وکذا فی صحة رجوعه إلی الکل، وإن کان المتراءی من کلام صاحب المعالم رحمه الله حیث مهّد مقدمة لصحة رجوعه إلیه، أنه محل الإشکال والتأمل.

الشَرح:

تعقب الاستثناء للجمل المتعددة

[1] ذکر قدس سره ما حاصله: أنّ رجوع الاستثناء إلی الأخیرة متیقّن لأنّ رجوعه إلی غیرها خاصة من الجمل بلا نصب قرینة خلاف طریقة أهل المحاورة، ولذا یقع الکلام فی المقام فی أنّ له ظهوراً فی رجوعه إلی الکلّ، أو یختصّ بالأخیرة، أو لا ظهور له فی شیء منهما والصحیح هو الأخیر ولکن لا تأمل فی رجوعه إلی الأخیرة، کما لا تأمل فی صحة رجوعه إلی الجمیع.

ولکن یظهر من کلام صاحب المعالم قدس سره أنّه قد یتوهم عدم جواز رجوعه إلی الجمیع، وأنّ صحة رجوعه إلی الجمیع، مبنی علی جواز استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معناه حیث التزم قدس سره بأنّ لفظة «إلاّ» أو سائر الأدوات لیست بالإضافة إلی أفراد الاستثناء من قبیل الألفاظ المشترکة بل غایتها أنّ وضعها عام والموضوع له فیها خاص، فهی موضوعة بالوضع العام لخصوصیات الإخراج، لا لکلّ إخراج وضع مستقل حتّی یکون مشترکاً، بل بوضع واحد لجمیع الإخراجات إلاّ أنّ تعیین کلّ

ص :299

وذلک ضرورة أن تعدد المستثنی منه، کتعدد المستثنی، لا یوجب تفاوتاً أصلاً فی ناحیة الأداة بحسب المعنی، کان الموضوع له فی الحروف عاماً أو خاصاً، وکان المستعمل فیه الأداة فیما کان المستثنی منه متعدداً هو المستعمل فیه فیما کان واحداً، کما هو الحال فی المستثنی بلا ریب ولا إشکال، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا یوجب تعدد ما استعمل فیه أداة الإخراج مفهوماً، وبذلک یظهر أنه لا ظهور لها فی الرجوع إلی الجمیع، أو خصوص الأخیرة، وإن کان الرجوع إلیها متیقناً علی کل تقدیر، نعم غیر الأخیرة أیضاً من الجمل لا یکون ظاهراً فی العموم لإکتنافه بما لا یکون معه ظاهراً فیه، فلا بد فی مورد الإستثناء فیه من الرجوع إلی الأصول.

الشَرح:

إخراج یحتاج إلی القرینة کالمشترک(1).

وأجاب عنه فی الکفایة بأنّ لفظة «إلاّ» _ فیما إذا أُرید الاستثناء من الجمیع _ تستعمل فی النسب الإخراجیة المتعدّدة، ولکن بما أنّ وضعها عامّ فلا یکون استعمالها من استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معناه.

ولکن لا یخفی ضعفه وضعف التوهّم فإنّ لفظة «إلاّ» مثلاً فی مورد رجوع الاستثناء إلی جمیع الجمل یراد منها النسبة الخارجیة الواحدة، حیث إنّ تعدّد المخرج منه کتعدّد الخارج لا یوجب تعدّد النسبة الخارجیة فالمستعمل فیه لا یخرج عن کونه نسبة إخراجیة واحدة، ولو فرض أنّ الموضوع له النسبة الإخراجیة الجزئیة _ کما هو مقتضی القول بالوضع العام والمستعمل فیه الخاص _ لکانت لفظة «إلاّ» مستعملة فی تلک النسبة الجزئیة وإن کان الموضوع له فیها عامّاً کوضعها فتکون إرادة

ص :300


1- (1) المعالم: 361، تحقیق البقال، طبع النجف.

اللّهمّ إلاّ أن یقال بحجیة أصالة الحقیقة تعبداً، لا من باب الظهور، فیکون المرجع علیه أصالة العموم إذا کان وضعیاً، لا ما إذا کان بالإطلاق ومقدمات الحکمة، فإنه لا یکاد یتم تلک المقدمات مع صلوح الإستثناء للرجوع إلی الجمیع، فتأمل.

الشَرح:

تلک النسبة الجزئیة بنحو تطبیق المستعمل فیه علیها، ومن ذلک یظهر انّ احتمال رجوع الاستثناء لجمیع الجمل کاحتمال اختصاصه بالأخیرة، فلا یکون لها ظهور فی أحدهما ولا یکون أیضاً لسائر الجمل ظهور فی العموم لاحتفافها بما یمنع عن ظهورها فی العموم فیرجع إلی غیره من الدلیل أو الأصل العملی.

إلاّ أن یلتزم باعتبار أصالة الحقیقة تعبّداً لا من باب حجّیة الظهور فإنّه علی القول بکون أصالة الحقیقة معتبرة تعبّداً لا من باب حجّیة الظهور یؤخذ بها فی سائر الجمل إذا کان عمومها وضعیاً بخلاف ما إذا کان إطلاقیاً موقوفاً علی تمامیة مقدّمات الإطلاق فإنّ مع الاستثناء بعد الجمل واحتمال رجوعه إلی الجمیع لا تتمّ مقدّمات الإطلاق.

أقول: رجوع الاستثناء إلی الجمیع لا یوجب کون استعمال العام مجازاً لیرجع إلی أصالة الحقیقة فی نفیه کما تقدّم نظیر ذلک سابقاً.

وللمحقق النائینی قدس سره فی المقام تحقیق حاصله: أنّ الاستثناء لا یرجع إلاّ إلی عقد الوضع فهو تارة لا یتکرّر بأن لا یذکر العنوان العام إلاّ فی الجملة الأُولی کقوله «أکرم العلماء وأضفهم وأحسن إلیهم إلاّ الفسّاق منهم» ففی مثل ذلک یرجع الاستثناء إلی تمام الجمل لأنّ الاستثناء المتصل لابدّ من رجوعه إلی العنوان العام ومعه یقع التخصیص بالإضافة إلی جمیع الأحکام الواردة قبله، وأخری یتکرّر عقد الوضع بأن یتکرر العنوان فی الجملة الأخیرة کما إذا قال: (أکرم العلماء وأحسن إلیهم وجالس العلماء إلاّ الفسّاق منهم) وفی مثل ذلک یرجع التخصیص إلی العام الأخیر حیث یجد الاستثناء محلّه فیه ولا موجب معه لرفع الید عن العموم بالإضافة إلی غیر الأخیرة.

ص :301

.··· . ··· .

الشَرح:

وما فی الکفایة وغیرها من أنّ اتصال الاستثناء یقتضی اکتناف الکلام بما یصلح للقرینیّة وهو یوجب عدم انعقاد الظهور بالإضافة إلی سائر الجمل فی العموم لا یمکن المساعدة علیه فإنّ الممانعة تکون فیما إذا صحّ للمتکلّم الاتّکال علیه فی بیان التخصیص لتمام العمومات والمفروض أنّه لا یصحّ الاکتفاء فی بیان المخصّص لجمیعها بالاستثناء بعد العام الأخیر، ومن هذا القبیل قوله «وَالَّذِیْنَ یَرْمُوْنَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلُدُوْهُمْ ثَمانِیْنَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَداً وَأُولئِک هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاّ الّذِیْنَ تابُوا»(1)، فإنّ وجدان الاستثناء محلّه فی عنوان «أولئک» یوجب رفع الید عن عمومه ویؤخذ بالعموم فی الباقی.

وبهذا یظهر ما لو کان عنوان العام مکرّراً فی الجملة الوسطی دون ما بعدها کما فی قوله: «أکرم العلماء وجالس العلماء وأحسن إلیهم إلاّ الفسّاق» فإنّ الاستثناء فی الفرض لجملة «جالس العلماء» وما بعدها لأنه یجد محلّه فیها ویدخل فیه ما بعدها وأمّا الجملة الأُولی فلا موجب لرفع الید عن عمومها(2).

وعن سیدنا الاستاذ قدس سره فی المقام قسمان آخران.

أحدهما: یلحق بما إذا لم یتکرّر عقد الوضع _ یعنی العنوان العام _ فی رجوع الاستثناء إلی الجمیع، وهذا فیما کانت العناوین العامة متعدّدة ولکن لم یتکرّر الحکم فی الخطاب کما إذا قال «أکرم العلماء والأشراف والشیوخ إلاّ الفسّاق» فإنّ الاستثناء فی مثله یرجع إلی الجمیع لأنّ العمومات هذه بمنزلة عام واحد، کأنّه قال أکرم هؤلاء

ص :302


1- (1) سورة النور: الآیة 4.
2- (2) أجود التقریرات 1 / 496.

.··· . ··· .

الشَرح:

الطوائف إلاّ الفسّاق منهم.

وثانیهما: یلحق بما إذا تکرّر العنوان العام وهذا فیما یتکرّر الحکم الوارد فی الخطاب کما إذا قال «أکرم العلماء والأشراف وأکرم الشیوخ إلاّ الفسّاق» فإنّ الاستثناء فی مثله یرجع إلی ما تکرّر فیه الحکم لتکرّر العنوان لأنّ تکرّر الحکم قرینة عرفیة علی قطع الکلام عما سبق فیرجع الاستثناء إلیه وما بعده إذا کان بعده عام(1).

أقول: ما ذکر المحقق النائینی قدس سره من أنّ الاستثناء مع تکرّر عقد الوضع فی الجملة الأخیرة، یرجع إلیه فقط ویؤخذ فی الباقی بأصالة العموم کما فی قوله «أکرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلاّ الفسّاق» لأنّ الاستثناء یجد محلّه فیه ولا مجال معه لدعوی الإجمال فی العمومات السابقة حیث إنّها لو کانت مخصّصة أیضاً لما صحّ للمتکلّم الاعتماد علی ذلک الاستثناء فی بیان عدم عمومها، لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه مع الإجمال لا یعمل بالعموم وعدم العمل بالعموم یشترک مع التخصیص عملاً وهذا المقدار یکفی بأن لا یقع المکلف فی محذور الأخذ بالعموم مع أنّه لو کان منشأ الأخذ بأصالة العموم هو ما ذکر للزم الالتزام بجواز الأخذ بها فی مورد إجمال المخصّص المتصل بالإضافة إلی غیر القدر المتیقّن فی التخصیص، بدعوی أنه لو کان الخارج هو الأکثر لما صحّ للمتکلّم فی بیان تفهیمه الاکتفاء بالاستثناء المزبور بأن یقال إنّه لا یمکن أن یکون مراده بیان خروج الأکثر فیؤخذ فی غیر القدر المتیقن بأصالة العموم، هذا أوّلاً.

وثانیاً تفرقته قدس سره بین تکرار العام بنحو الضمیر فی الجملات وتکراره باسم

ص :303


1- (1) أجود التقریرات 1 / هامش ص 496.

.··· . ··· .

الشَرح:

الإشارة بأنّ الثانی من قبیل تکرار عقد الوضع دون الأول لا یمکن المساعدة علیه أیضاً، فإنّ الضمیر کما أنّه إشارة إلی مرجعه معنیً کذلک اسم الإشارة، واختلاف کیفیة الإشارة لا دخل له فی الظهور حیث لا یفهم أهل المحاورة فرقاً بین قوله «أکرم العلماء وأضف أولئک إلاّ من یعصی اللّه» وبین قوله «أکرم العلماء وأضفهم إلاّ من یعصی اللّه» وبهذا یظهر الخلل فیما ألحقه بتکرار عقد الوضع، من تکرار الحکم کقوله أکرم العلماء وأکرم الشیوخ إلاّ الفساق فی رجوع الاستثناء إلی قوله أکرم الشیوخ.

نعم، لا یبعد أن یکون مثل قوله «أکرم العلماء وأضفهم وأحسن إلیهم إلاّ الفسّاق» ظاهر فی رجوع الاستثناء إلی الجمیع، لأنّ المرجع المذکور للضمائر ومنها الضمیر فی المستثنی هو العام المذکور أولاً، ولازم عودها إلیه ورود التخصیص علی جمیعها، کما لا یخفی.

ص :304

فصل

الحق جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص[1] کما جاز بالکتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرینة القطعیة من خبر الواحد، بلا ارتیاب، لما هو الواضح من سیرة الأصحاب علی العمل بأخبار الآحاد فی قبال عمومات الکتاب إلی زمن الأئمة علیهم السلام ، واحتمال أن یکون ذلک بواسطة القرینة واضح البطلان.

الشَرح:

تخصیص الکتاب بخبر الواحد

[1] ذکر قدس سره أنّه کما یجوز تخصیص العام من الکتاب المجید بالخاص من الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرینة کذلک یجوز تخصیصه بخبر الواحد المعتبر بعنوانه کخبر الواحد الثقة أو العدل والموثوق به علی ما تقدم فی بحث اعتبار خبر الواحد، نعم إذا کان الخبر معتبراً من باب الانسداد الموجب لاعتبار مطلق الظن فقد تقدّم الکلام فیه عند التکلّم فی باب الانسداد.

واستدلّ قدس سره علی تخصیص عموم الکتاب بخبر الواحد بالسیرة الجاریة من أصحابنا إلی زمان الأئمة: بل وفی زمانهم علی العمل بالخصوصات المرویة عنهم: فی مقابل عمومات الکتاب واحتمال أن الخصوصات المرویة عنهم علیهم السلام کانت بالقرائن القطعیة مجازفة مع أنه لو لم یکن خبر الواحد المروی عنهم: موجباً لرفع الید عن عموم الکتاب لا یبقی للخبر الواحد المعتبر مورد إلاّ نادراً، حیث إنّه یندر خبر واحد لم یکن علی خلافه عموم الکتاب بل وجود النادر أیضاً محلّ تأمّل.

ثمّ ذکر قدس سره أنه لو لم یجز رفع الید عن عموم الکتاب بخبر الواحد بدعوی أن الکتاب قطعی صدوراً لم یجز رفع الید عن عموم الخبر المتواتر بالخبر الواحد

ص :305

مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحکمه، ضرورة ندرة خبر لم یکن علی خلافه عموم الکتاب، لو سلم وجود ما لم یکن کذلک.

وکون العام الکتابی قطعیاً صدوراً، وخبر الواحد ظنیاً سنداً، لا یمنع عن التصرف فی دلالته الغیر القطعیة قطعاً، وإلاّ لما جاز تخصیص المتواتر به أیضاً، مع أنه جائز جزماً.

والسر: أن الدوران فی الحقیقة بین أصالة العموم ودلیل سند الخبر، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرینیة علی التصرف فیها، بخلافها، فإنها غیر صالحة لرفع الید عن دلیل اعتباره، ولا ینحصر الدلیل علی الخبر بالإجماع، کی یقال بأنه فیما لا یوجد علی خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنیة یسقط وجوب العمل به.

الشَرح:

الخاص لأنّ المتواتر کالکتاب قطعیّ من حیث الصدور، مع أنّه لم یعهد من العلماء طرح الخبر الخاص فی مقابل عموم الخبر المتواتر والوجه فی ذلک ما تقدّم من أنّ الخاص قرینة عرفیة علی المراد الجدی من العام، ومع دوران الأمر بین التصرّف فی أصالة العموم ورفع الید عن دلیل سند خبر الواحد بدلیل اعتبار سنده یثبت القرینة علی خلاف أصالة العموم، بخلاف أصالة العموم فإنّها لا تعدّ قرینة لرفع الید عن اعتبار سند خبر الواحد، وحمل اعتباره علی اعتبار خبر لا یکون علی خلاف عموم الکتاب أو عموم الخبر المتواتر لا وجه له، إذ لا ینحصر دلیل اعتبار الخبر بالإجماع لیقال لا إجماع علی العمل به إذا کان علی خلاف عموم الکتاب، کیف وقد تقدّم استمرار السیرة علی العمل بالأخبار الخاصة فی قبال العمومات الکتابیة، وما ورد فی غیر واحد من الروایات من لزوم طرح الأخبار المخالفة للقرآن وضربها علی الجدار وأنها ممّا لم یقله الإمام علیه السلام یراد منها المخالفة التی لا یکون الخبر المخالف من قبیل القرینة، بل لا یعدّ المعدود من القرینة مخالفاً للقرآن عرفاً فینحصر المراد

ص :306

کیف؟ وقد عرفت أن سیرتهم مستمرة علی العمل به فی قبال العمومات الکتابیة، والأخبار الدالّة علی أن الأخبار المخالفة للقرآن یجب طرحها أو ضربها علی الجدار، أو أنها زخرف، أو أنها مما لم یقل به الإمام علیه السلام ، وإن کانت کثیرة جداً، وصریحة الدلالة علی طرح المخالف، إلاّ أنه لا محیص عن أن یکون المراد من المخالفة فی هذه الأخبار غیر مخالفة العموم، إن لم نقل بأنها لیست من المخالفة عرفاً، کیف؟ وصدور الأخبار المخالفة للکتاب بهذه المخالفة منهم علیهم السلام کثیرة جداً، مع قوة احتمال أن یکون المراد أنهم لا یقولون بغیر ما هو قول اللّه تبارک وتعالی واقعاً __ وإن کان هو علی خلافه ظاهراً __ شرحاً لمرامه تعالی وبیاناً لمراده من کلامه، فافهم.

الشَرح:

منه بما إذا کان مدلوله مبایناً للکتاب مطلقاً أو فی مورد الاجتماع.

ویمکن أن یراد من تلک الأخبار هو انّ قولهم: لا یکون بخلاف قول اللّه واقعاً وإن کان علی خلاف ظاهر الکتاب فهو شارح ومبین لمراده من کلامه.

أقول: ما ذکره قدس سره من سیرة أصحاب الأئمة والمتشرعة علی العمل بالخصوصات المنقولة بطریق الثقاة فی مقابل العمومات صحیح، إلاّ أنّ الاستدلال علی ذلک بأنّه لولا العمل بخبر الواحد الخاص لما کان خبر الواحد معتبراً إلاّ فی موارد نادرة لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ الأخبار الواردة فی اجزاء العبادات وشرائطها وموانعها مما لیس فی مقابلها عموم أو إطلاق من الکتاب کثیرة، حیث إنّ الخطابات الواردة فی الکتاب فی العبادات جلّها مجملة أو لا إطلاق فیها فضلاً عن العموم لأنّها لیست فی مقام بیان أجزائها وشرائطها وموانعها غالباً، وإنّما تکون فی مقام التشریع والتکلیف بها، ولذا یکون المرجع عند فقد الدلیل علی جزئیة شیء أو شرطیته أو مانعیته لها، الأصل العملی، لا التمسک بتلک الخطابات بل یمکن دعوی

ص :307

والملازمة بین جواز التخصیص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن کان مقتضی القاعدة جوازهما، لإختصاص النسخ بالإجماع علی المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعی إلی ضبطه، ولذا قلّ الخلاف فی تعیین موارده، بخلاف التخصیص.

الشَرح:

مثل ذلک بالإضافة إلی غیر العبادات أیضاً فی الجملة، کما فی الشک فی بعض الأمور المعتبرة.

وأمّا ما ذکره من احتمال أن یکون المراد من الأخبار الواردة فی طرح المخالف، هو المخالف لمراده واقعاً وأنّهم علیهم السلام لا یخالفون المراد الواقعی من الکتاب، فیدفعه: أنّ هذا الاحتمال لا یناسب ما ورد فی عرض الخبر المنقول عنهم علیهم السلام علی الکتاب وطرح ما یکون مخالفاً له، فإنّ هذا الضابط ینافی الاحتمال المذکور إذ مقتضی هذا الاحتمال المذکور ملاحظة ظاهر الکتاب مع ظاهر الخبر والمفروض أنّه لا سبیل لنا إلی المراد الواقعی للّه إلاّ من طریق ظاهر الکتاب کما لا یخفی علی المتأمّل.

ص :308

فصل

لا یخفی أن الخاص والعام المتخالفین، یختلف حالهما ناسخاً ومخصصاً ومنسوخاً[1]، فیکون الخاص: مخصصاً تارة، وناسخاً مرة، ومنسوخاً أخری، وذلک لأن الخاص إن کان مقارناً مع العام، أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به، فلا محیص عن کونه مخصصاً وبیاناً له.

وإن کان بعد حضوره کان ناسخاً لا مخصصاً، لئلا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة فیما إذا کان العام وارداً لبیان الحکم الواقعی، وإلاّ لکان الخاص أیضاً مخصصاً له، کما هو الحال فی غالب العمومات والخصوصات فی الآیات والروایات.

الشَرح:

العام والخاص المتخالفان

[1] قد ذکر قدس سره ما حاصله أنّه إذا اقترن خطاب الخاص بزمان خطاب العام أو ورد خطاب الخاص قبل حضور وقت العمل بخطاب العام، فلا ینبغی التأمّل فی کون الخاص مخصّصاً ویکشف أنّ المدلول الاستعمالی للعام لم یکن مطابقاً للمراد الجدّی من العام بجمیع أفراده، وکذلک الأمر فیما ورد خطاب الخاص بعد حضور وقت العمل بخطاب العام ولکن لم یکن الداعی للمولی من خطاب العام مجرّد الکشف عن تمام ما کان فی مقام الثبوت، بل کان الداعی إلیه الکشف عن ذلک المقام فی الجملة، وجعل الحجة _ یعنی المعذّر _ بالإضافة إلی الباقی لمصلحة فی جعلها.

وهکذا الحال إذا ورد الخاص بعد ذلک ولو بزمانٍ غیر قصیر ولکن کان قرینة علی عدم ثبوت حکم العام للعنوان الداخل فی الخاص من الأوّل، کما هو الحال فی

ص :309

وإن کان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص، فکما یحتمل أن یکون الخاص مخصصاً للعام، یحتمل أن یکون العام ناسخاً له، وإن کان الأظهر أن یکون الخاص مخصصاً، لکثرة التخصیص، حتی اشتهر (ما من عام الا وقد خص) مع قلة النسخ فی الأحکام جداً، وبذلک یصیر ظهور الخاص فی الدوام __ ولو کان بالاطلاق __ أقوی من ظهور العام ولو کان بالوضع، کما لا یخفی، هذا فیما علم تاریخهما.

وأما لو جهل وتردد بین أن یکون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره، فالوجه هو الرجوع إلی الأصول العملیة.

الشَرح:

عمومات الکتاب والسنة، حیث ورد الخصوصات علی خلافها _ بعد زمان _ فی الروایات الصادرة والمنقولة عن المعصومین علیهم السلام .

لا یقال: علی ذلک یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة وهذا من المولی الحکیم، قبیح.

فإنّه یقال: إذا کان فی جعل المعذّر للمکلّف صلاحاً فلا محذور فیه، ویکفی فی الصلاح تسهیل طریق تلقّی الأحکام تدریجاً وتسهیل العمل بها لئلاّ یفرّ الناس عنها لکلفتها.

نعم، إذا لم یکن فی البین صلاح وکان الخطاب لمجرّد الکشف عن مقام الثبوت فلا یصحّ من الحکیم تأخیر خطاب الخاص إلی ما بعد وقت العمل بالعام، وإذا فرض ورود الخاص کذلک یکون خطاب الخاص ناسخاً لعموم العام وکاشفاً عن ثبوت حکم العام واقعاً إلی زمان ورود الخاص.

ویتفرّع علی ذلک أنّه لو ورد خطاب الخاص بعد خطاب العام ولم یعلم أنّه قبل حضور وقت العمل بالعام لیکون مخصّصاً أو أنّه ورد بعد حضور وقت العمل

ص :310

وکثرة التخصیص وندرة النسخ هاهنا، وإن کانا یوجبان الظن بالتخصیص أیضاً، وأنه واجد لشرطه إلحاقاً له بالغالب، إلاّ أنه لا دلیل علی اعتباره، وإنما یوجبان الحمل علیه فیما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، لصیرورة الخاص لذلک فی الدوام أظهر من العام، کما أشیر إلیه، فتدبر جیداً.

ثم إن تعین الخاص للتخصیص، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به، إنما یکون مبنیاً علی عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، وإلاّ فلا یتعین له، بل یدور بین کونه مخصصاً وناسخاً فی الأول، ومخصصاً ومنسوخاً فی الثانی، إلاّ أن الأظهر کونه مخصصاً، وإن کان ظهور العام فی عموم الأفراد أقوی من ظهوره وظهور الخاص فی الدوام، لما أشیر إلیه من تعارف التخصیص وشیوعه، وندرة النسخ جداً فی الأحکام.

الشَرح:

به لیکون ناسخاً أو یحتمل کونه ناسخاً فلا سبیل إلی تعیین کونه ناسخاً أو مخصّصاً، ولو ترتّب علی کونه ناسخاً أو مخصّصاً أثر عملی فلا بدّ فیه من الرجوع إلی الأصول العملیة، وکثرة التخصیص وقلّة النسخ لا یوجب إلاّ الظن بکونه مخصّصاً لا ناسخاً ولا اعتبار بالظنّ.

وهذا بخلاف ما ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص المتقدّم، فإنّ الخاص المتقدّم، إمّا منسوخ بالعام المتأخّر أو أنّه مخصّص للعام المتأخّر، وبما أنّ ظهور الخاص فی دوام حکمه، ولو کان بالإطلاق، أقوی من ظهور العام فی العموم بحسب أفراده ولو کانت هذه الدلالة بالوضع، یکون الخاص المتقدّم قرینة علی تخصیص العام وهذا التقریب لا مورد له فی الخاص إذا ورد بعد العام وتردّد أمره بین کونه ناسخاً لعموم العام أو مخصّصاً له، فإنّه کما ذکر یرجع فیه إلی الأصول العملیة وذلک لأنّ الدوام فی العام المتقدّم مقطوع العدم وإنّما یتردّد الأمر فیه بین انقطاعه

ص :311

.··· . ··· .

الشَرح:

من الأول لیکون الخاص مخصّصاً أو فیما بعد لیکون الخاص ناسخاً وحیث لا معین لأحدهما فیرجع إلی الأصول العملیة.

وبالجملة الخاص من حیث زمان الورود مجمل بخلاف صورة ورود العام بعد حضور العمل بالخاص فإنّه لا إجمال فی ناحیة الخاص غایة الأمر ینافیه ظهور العام فی العموم.

ثم ذکر قدس سره فی آخر کلامه أنّ تعیّن الخاص لکونه مخصّصاً فیما إذا ورد خطابه قبل حضور العمل بالعام أو ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص یبتنی علی عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل وإلاّ فلا یتعیّن الخاص للتخصیص بل یدور أمره بین کونه ناسخاً أو مخصّصاً إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام وبین کونه مخصّصاً أو منسوخاً إذا ورد العام قبل حضور العمل بالخاص.

أقول: لم یظهر الفرق بین کون الخاص مخصّصاً أو ناسخاً لعموم العام مع فرض وقوع النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام، نعم، الفرق بینهما بالإضافة إلی المولی العرفی موجود ولکن الفرق بالإضافة إلی الأحکام الشرعیة والأثر العملی المترتب علی فعل المکلف فغیر واضح.

وأمّا العام المتأخر فلا معنی لتردّد کون الخاص المتقدّم مخصّصاً للعام المتأخّر أو کون العام المتأخر ناسخاً للخاصّ قبل حضور وقت العمل بالخاص، بل یتعین کون الخاص مخصّصاً وإلاّ کان خطاب الخاص مع نسخه قبل حضور وقت العمل به لغواً محضاً وهذا من المولی الحکیم غیر ممکن.

وأیضاً ما ذکره قدس سره من أنّ الخاص إذا ورد بعد خطاب العام ولکن تردّد أمره بین

ص :312

.··· . ··· .

الشَرح:

أن یکون وروده قبل حضور وقت العمل بالعام لیکون مخصّصاً للعام أو بعد حضوره لیکون ناسخاً فاللازم الرجوع إلی الأصول العملیة، یلزم علیه أنّه لو کان خطاب العام فی الکتاب المجید والخاص منقولاً عن الأئمة علیهم السلام بخبر الواحد أن لا یجوز رفع الید بذلک الخبر عن عموم الکتاب بل یتعیّن العمل بالعام وإلغاء الخاص المزبور رأساً لأنه لم یثبت فی الفرض کون الخاص المکشوف بالخبر عن الإمام علیه السلام وارداً قبل حضور وقت العمل بعموم العام، ولا یجوز نسخ الکتاب بخبر الواحد فیکون رفع الید به عن عموم الکتاب من رفع الید عن الحجة من غیر إحراز حجة علی خلافها.

ودعوی أنّه لا یحتمل وجود الناسخ للکتاب فی الأخبار المرویة عن الأئمة علیهم السلام لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه یحتمل أن یکون الناسخ مستودعاً عندهم بإیداع النبی صلی الله علیه و آله وسلم لیظهروه فی الزمان المناسب أو کان الخاص المروی عنهم علیهم السلام کاشفاً عن الخاص الصادر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم بعد حضور وقت العمل بالعام الوارد فی الکتاب المجید.

والصحیح فی الجواب أنّه لا مورد للرجوع إلی الأصول العملیة فی فرض تردّد الخاص بین وروده قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده بل لا یکون خطاب الخاص کاشفاً عن ثبوت مدلوله من حین تشریع الحکم الذی تضمّنه خطاب العام دائماً.

وبتعبیرٍ آخر: خطاب الخاص قرینة عرفیة علی عدم إرادة العموم بحسب المراد الجدّی حین صدور خطاب العام، بلا فرقٍ بین کون خطابیهما مقترنین أو کان أحدهما قبل الآخر أم بعده فإنّ ظاهر خطاب النهی عن البیع الربوی هو أنّ الحکم الثابت له عند التشریع عدم الإمضاء، فیکون الجمع بینه وبین مثل قوله : «أحلّ

ص :313

.··· . ··· .

الشَرح:

اللّه البَیْع» أو «أوْفُوا بالعقُودِ» انّ الإمضاء واللزوم ثبوتاً فی غیر ما ینطبق علیه عنوان الربا ولا ینظر فی ذلک إلی زمان الصدور فإنّ حمل خطاب الخاص علی أنّه حکم ثانٍ لبعض أفراد العام ثبوتاً، بعد ثبوت حکم العام لتلک الأفراد إلی زمان طویل أو قصیر یحتاج إلی قرینة خاصّة، وإلاّ فظاهر کلّ الخطابات الکشف عن مقام تشریع الأحکام وإن وردت خطاباتها تدریجاً لما تقدّم من ملاحظة مصلحة التدریج فی البیان.

وقد ذکرنا أنّ قبح تأخیر البیان لیس من قبیل قبح الظلم فی کونه ذاتیاً بل لأجل وقوع المکلّف معه فی مخالفة الحکم الواقعی وعدم علمه به، وأمّا لو کان فی تأخیر البیان صلاح أو کان ذلک لاهتمام الناس بالتحفّظ علی ما یتعلّمون من الأحکام، وعدم فرارهم عن تعلّمها والعمل بها، وعدم إعراضهم عن أوصیاء النبی صلی الله علیه و آله وسلم بتخیل عدم حاجتهم إلیهم علیهم السلام ، فلا محذور فیه.

ومما ذکرنا یظهر ثبوت المخصّصات والمقیّدات لعمومات الکتاب المجید ومطلقاته، عن الأئمة علیهم السلام بحیث یحصل الوثوق بعدم کون التخصیص والتقیید ثابتاً قبل بیانهم علیهم السلام ، لا یوجب نسخ الأحکام المستفادة من عمومات الکتاب أو مطلقاته، لیتوهّم عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد، وکذلک الحال فی العمومات والمطلقات الصادرة عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالإضافة إلی ما ورد من الخاص والمقیّد الصادرین عن الأئمة:، وقد ذکرنا تأخّر ورود الخاص عن العام حتّی بزمان غیر قصیر، لا یکون نسخاً ولا کاشفاً عن الناسخ.

فما عن المحقّق العراقی قدس سره : من أنّ الخاص إذا کان مقدّما علی العام، فالأصل الجهتی فیه، یتعارض مع الأصل الدلالی فی العام، وحیث لا ترجیح لأحدهما یتساقطان، ویکون المرجع استصحاب حکم الخاص، فینتج نتیجة التخصیص. وأمّا

ص :314

ولا بأس بصرف الکلام إلی ما هو نخبة القول فی النسخ[1]، فاعلم أن النسخ وإن کان رفع الحکم الثابت إثباتاً، إلاّ أنه فی الحقیقة دفع الحکم ثبوتاً، وإنما اقتضت الحکمة إظهار دوام الحکم واستمراره، أو أصل إنشائه وإقراره، الشَرح:

إذا کان الخاص متأخّراً عن العام وصادراً بعد حضور وقت العمل بالعام وکان مخصّصاً للعام ولو بإطلاقه بأن کشف عن ثبوت مدلوله من الأول ومن حین ورود العام لوقعت المعارضة بین ظهوره وظهور العام فی ثبوت حکمه لجمیع الأفراد، فیتساقطان ومع تساقط الظهورین یکون المرجع هو الأصل العملی فتارة یکون مقتضاه موافقاً للتخصیص کما إذا کان مفاد العام حکماً إلزامیاً مثل وجوب إکرام العلماء، وکان مفاد الخاص حکماً ترخیصیاً مثل: عدم وجوب إکرام زید العالم، وأخری یکون مقتضاه موافقاً للنسخ کما إذا کان مفاد العام حکماً ترخیصیاً، مثل: عدم وجوب إکرام العلماء وکان مفاد الخاص حکماً إلزامیاً مثل: وجوب إکرام زید، حیث مقتضی أصالة البراءة هو عدم وجوب إکرام زید إلی زمان ورود الخاص فینتج النسخ(1). لا یمکن المساعدة علیه، لما ذکرنا أنّ الخاص قرینة عرفیة علی المراد من العام، تأخّر عن العام أو تقدّم علیه، والتأخیر عن زمان الحاجة لا یکون قرینة علی النسخ لأنّ البیان قد یتأخّر لمصلحة فی تأخیره علی ما تقدّم.

حقیقة النسخ

[1] لا یخفی أنّ النسخ بمعناه الحقیقی بالإضافة إلی الأحکام هو إلغاء الحکم المجعول، نظیر الفسخ فی المعاملة بعد عقدها، ولا یتصور النسخ بهذا المعنی حقیقة، ممّن لا یتصوّر فی حقّه الجهل بجهات الفعل، دون من یمکن فی حقّه الجهل

ص :315


1- (1) نهایة الأفکار 1 / 557.

مع أنه بحسب الواقع لیس له قرار، أو لیس له دوام واستمرار، وذلک لأن النبی صلی الله علیه و آله الصادع للشرع، ربما یلهم أو یوحی إلیه أن یظهر الحکم أو استمراره مع اطلاعه علی حقیقة الحال، وأنه ینسخ فی الإستقبال، أو مع عدم اطلاعه علی ذلک، لعدم إحاطته بتمام ما جری فی علمه (تبارک وتعالی)، ومن هذا القبیل لعله یکون أمر إبراهیم بذبح إسماعیل.

وحیث عرفت أن النسخ بحسب الحقیقة یکون دفعاً، وإن کان بحسب الظاهر رفعاً، فلا بأس به مطلقاً ولو کان قبل حضور وقت العمل، لعدم لزوم البداء المحال فی حقه (تبارک وتعالی)، بالمعنی المستلزم لتغیر إرادته تعالی مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة، ولا لزوم امتناع النسخ أو الحکم المنسوخ، فإن الفعل إن کان مشتملاً علی مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهی عنه، وإلاّ امتنع الأمر به، وذلک لأن الفعل أو دوامه لم یکن متعلقاً لإرادته، فلا یستلزم نسخ أمره بالنهی تغییر إرادته، ولم یکن الأمر بالفعل من جهة کونه مشتملاً علی مصلحة، وإنما کان إنشاء الأمر به أو إظهار دوامه عن حکمة ومصلحة.

الشَرح:

فإنّ الجاهل بها لخفاء جهة فی الفعل یتخیّل أنّ فیه صلاحاً ملزماً فیأمر به ویبعث نحوه ثم یلتفت إلی جهة الفساد فیه فیلغی أمره به، نظیر من یعتقد أنّ فی المعاملة الکذائیة ربح وافر وبعد العقد یلتفت إلی کونها خاسرة، فیفسخها بخیار أو إقالة، والنسخ بهذا المعنی یمکن وقوعه قبل حضور وقت العمل وبعده کما یحصل الفسخ فی الاجارة قبل عمل الأجیر أو بعده ولا یخفی أنّ استمرار الحکم وإلغائه خارجان عن مدلول خطابی الأمر والنهی لأنّ بقائه أو إلغائه متأخّران عن مرتبة الجعل، سواء کان المجعول حکماً مؤقتاً أو مستمراً ولابدّ عند الشک فی هذا النسخ کالشک فی بقاء العقد أو فسخه من قبل ذی الخیار من استصحاب عدم النسخ کالاستصحاب فی عدم فسخ المعاملة.

ص :316

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا النسخ المتصور فی الأحکام الشرعیة فلا یعقل أن یکون بالمعنی المتقدّم فإنّه إن کان الصلاح أو الفساد محدوداً أو مؤقتاً فیعتبر الشارع وجوبه أو حرمته إلی ذلک الحدّ والوقت وإن کان مطلقاً ودائمیاً فیعتبر وجوبه أو حرمته مطلقاً ودائماً، هذا بحسب مقام الثبوت، حیث یقال إنّ النسخ فی الأحکام یرجع إلی التقیید والتخصیص بحسب الزمان.

نعم، ربما یکون خطاب الحکم بحسب مقام الإثبات مطلقاً ویأتی خطاب المقیّد والمخصّص بحسب الزمان، عند حلول ذلک الزمان، وکما أنّه ربّما یکون المراد الجدّی من العام والمطلق، عدم العموم والإطلاق بحسب الأفراد ویؤتی بالمخصّص أو المقیّد بعد ذلک فکذلک الحال فی خطاب المخصّص أو المقیّد بحسب الأزمان وکما أنّه یؤخذ بالعموم والإطلاق بحسب الأفراد مع عدم ثبوت الخاص والمقید وکذلک الحال بالإضافة إلی الشک فی التخصیص والتقیید بحسب الأزمان.

وبالجملة، المتّبع هو الإطلاق من جهة الزمان وإثبات المجعول هو الحکم المستمرّ بحسب الأزمان هذا بالإضافة إلی الخطابات المتضمّنة للتکالیف والأحکام حقیقة کما هو ظاهر الخطاب الشرعی.

وأمّا الحکم المنشأ لا بداعی الطلب الحقیقی بل بدواعٍ أُخر من التهدید والاعتذار أو إظهار حال العبد وغیر ذلک مما لا یکون الداعی إلی الإنشاء إلاّ تحقّق صورة الحکم فیمکن النسخ فیه قبل العمل بمعنی إظهار أنّ المنشأ کان صورة الحکم من غیر تعلّق غرض فی الإتیان بالمتعلّق أصلاً، لأنّ الصلاح الداعی إلی الإنشاء والإبراز إنّما کان فی نفس إبراز الحکم لا فی نفس الحکم واقعاً.

وفی الحقیقة، لیس هذا القسم من قبیل الحکم والأمر والنهی حقیقةً من الأول

ص :317

وأما البداء فی التکوینیات[1] بغیر ذاک المعنی، فهو مما دل علیه الروایات المتواترات، کما لا یخفی، ومجمله أن اللّه تبارک وتعالی إذا تعلقت مشیته تعالی بإظهار ثبوت ما یمحوه، لحکمة داعیة إلی إظهاره، ألهم أو أوحی إلی نبیه أو ولیه أن یخبر به، مع علمه بأنه یمحوه، أو مع عدم علمه به، لما أشیر إلیه من عدم الإحاطة بتمام ما جری فی علمه، وإنما یخبر به لأنه حال الوحی أو الإلهام لإرتقاء نفسه الزکیة، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات اطلع علی ثبوته، ولم یطلع علی کونه معلقاً علی أمر غیر واقع، أو عدم الموانع، قال اللّه تبارک وتعالی: (یمحو اللّه ما یشاء ویثبت) الآیة، نعم من شملته العنایة الإلهیة، واتصلت نفسه الزکیة بعالم اللوح المحفوظ الذی هو من أعظم العوالم الربوبیة، وهو أم الکتاب، یکشف عنده الواقعیات علی ما هی علیها، کما ربما یتفق لخاتم الأنبیاء، ولبعض الأوصیاء، کان عارفاً بالکائنات کما کانت وتکون.

الشَرح:

وإن جعله الماتن قدس سره وغیره ممن تبعه من قسم الحکم، وما کان من التردید فی کلامه من ابتناء وقوع النسخ علی إمکانه قبل حضور وقت العمل کان یرید هذا المعنی من النسخ، وقد ذکرنا أنّه لیس من قسم الحکم حقیقة لیقال إنّه نسخ، بل هو إنشاء صورة الحکم بحیث یترائی للمخاطب أنّه حکم واقعی ثم حین النسخ یکشف عن حقیقته.

حقیقة البداء فی التکوینیات

[1] قد ذکر الماتن قدس سره انّ البداء فی التکوینیات مما ثبت وقوعه بالروایات المتواترة والمراد منه لیس تغیّر إرادة اللّه ومشیئته لما تقدّم من امتناعه علی اللّه بل المستفاد من تلک الأخبار وجهان:

أوّلهما: أنّ اللّه قد یکشف لنبیّه أو ولیّه (صلوات اللّه وسلامه علیهما) وقوع شیء یمحوه فیوحی أو یلهم إلیهما أن یخبرا وقوع ذلک الشیء مع علمهما بعدم

ص :318

نعم مع ذلک، ربما یوحی إلیه حکم من الأحکام، تارة بما یکون ظاهراً فی الإستمرار والدوام، مع أنه فی الواقع له غایة وأمد یعینها بخطاب آخر، وأخری بما یکون ظاهراً فی الجد، مع أنه لا یکون واقعاً بجد، بل لمجرد الإبتلاء والإختبار، کما أنه یؤمر وحیاً أو الهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غیره مما لا یقع، لأجل حکمة فی هذا الإخبار أو ذاک الإظهار، فبدا له تعالی بمعنی أنه یظهر ما أمر نبیه أو ولیه بعدم إظهاره أولاً، ویبدی ما خفی ثانیاً.

وإنما نسب إلیه تعالی البداء، مع أنه فی الحقیقة الإبداء، لکمال شباهة إبدائه تعالی کذلک بالبداء فی غیره، وفیما ذکرنا کفایة فیما هو المهم فی باب النسخ، ولا داعی بذکر تمام ما ذکروه فی ذاک الباب کما لا یخفی علی أولی الألباب.

الشَرح:

وقوعه وأنّه یمحوه اللّه أو مع عدم علمهما بالمحو المزبور لأنّ النبی أو الولی لا یحیط بتمام ما جری فی علمه لأنّ حال الوحی أو الإلهام ترتقی نفسه الزکیة وتتصل بلوح المحو والإثبات فیطّلع علی وقوع شیء ولا یطلع علی کونه معلّقاً علی أمرٍ غیر واقع، أو علی عدم المانع، قال اللّه : «یَمْحُو اللّه ما یَشاءُ وَیُثْبِت»(1)، وکلّ من إظهاره ، وقوعه، والأمر بالإخبار به، إنّما هو لمصلحة داعیة إلی ذلک من ترتّب توبة الناس علیه أو انبعاثهم إلی عمل خیر خاص، أو غیر ذلک مما یظهر للعباد بعد ذلک.

ثانیهما: أنّ من شملته العنایة الإلهیة فاتّصلت نفسه الزکیة بعالم اللوح المحفوظ الذی هو من أعظم العوالم الربوبیة وهو أمّ الکتاب الذی ینکشف عنده الواقع علی ما هو علیه، کما قد اتّفق ذلک لخاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله وسلم وبعض الأوصیاء علیهم السلام فیعرف الکائن علی ما یکون، ومع ذلک یؤمر وحیاً أو إلهاماً، بوقوع عذاب أو غیره مما لا یقع لحکمة

ص :319


1- (1) سورة الرعد: الآیة 39.

ثم لا یخفی ثبوت الثمرة بین التخصیص والنسخ، ضرورة أنه علی التخصیص یبنی علی خروج الخاص عن حکم العام رأساً، وعلی النسخ، علی ارتفاع حکمه عنه من حینه، فیما دار الأمر بینهما فی المخصص، وأما إذا دار بینهما فی الخاص والعام، فالخاص علی التخصیص غیر محکوم بحکم العام أصلاً، وعلی النسخ کان محکوماً به من حین صدور دلیله، کما لا یخفی.

الشَرح:

داعیة إلی هذا الاخبار، ثم یظهر ما أمر نبیّه أو ولیه عدم إظهاره فی الابتداء من عدم وقوع العذاب أو غیره ویبدی ما خفی علی العباد ثانیاً، فیکون البداء من اللّه بمعنی الإبداء والإظهار، وإطلاق البداء علی هذا الإبداء لشباهته بالبداء من غیره صورة من ثبوت الشیء فی المستقبل أو الإخبار به أوّلاً وظهور خلافه ثانیاً مما کان خفیاً علی من بیده الإثبات والقرار والاخبار.

أقول: الأخبار الواردة فی البداء(1) متواترة إجمالاً، وقد ورد فی بعضها أنّ البداء مما یعبد به اللّه ، وأنّه تعظیم للّه ، وأنّه ما بعث نبیّاً إلاّ وقد ألزم أن یعلم أنّ اللّه یقدّم ما یشاء ویؤخّر ما یشاء، وأنّ للّه علمین علم مخزون لا یعلمه إلاّ هو فمن ذلک یکون البداء، وعلم علّمه ملائکته ورسوله وأنبیائه فنحن نعلمه، وأنّ من الأمور أمور موقوفة عند اللّه یقدّم ما یشاء ویؤخّر منها ما یشاء إلی غیر ذلک.

ولیتّضح مفاد الاخبار لابدّ من ملاحظة أمرین:

الأوّل: عدم تخلّف العلم عن المعلوم، فالعلم المخزون عند اللّه لا یتخلّف عن المعلوم خارجاً، وإلاّ لم یکن علماً، سواء کان حضوریاً أو حصولیاً، ولکنّ هذا العلم أیضاً لا یوجب خروج المعلوم _ إذا کان فعلاً من الافعال _ عن قدرة الفاعل واختیاره،

ص :320


1- (1) الأصول من الکافی 1 / 146 باب البداء.

.··· . ··· .

الشَرح:

وإلاّ تخلّف العلم عن المعلوم أیضاً فإنّ المعلوم هو الفعل بمشیئة الفاعل واختیاره.

الثانی: أنّ إرادة اللّه ومشیئته من صفات الفعل وبها یکون الخلق وتکوین الأشیاء ولیست من صفات الذات، فالعلم منه وإن کان عین القدرة والحیاة إلاّ أنّ إرادته التی بها یکوّن الأشیاء غیر العلم والقدرة.

فما کان فی علمه المکنون المخزون لا یکون فیه تغییر ولا تبدیل ولا محو ولا إثبات، ویعبّر عنه باللوح المحفوظ وقضائه المحتوم، وما لم یکن فی المکنون من علمه فیجری فیه التبدیل والمحو والاثبات وهو قضاء اللّه غیر المحتوم والبداء یتبع هذا القضاء بمعنی أنّ ما جری فی قضائه غیر المحتوم المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات، ومنه علمه الذی یظهر لملائکته ورسله وأنبیائه فإنّه قد یکون الشیء فی هذا القضاء بنحو التعلیق والتقدیر، فلو کان هذا مخالفاً لما فی قضائه المحتوم وقع فیه البداء أی تغییر وتبدیل، وذلک لعدم حصول المعلّق علیه، أو حصول تقدیر آخر، والموجب لعدم حصوله مختلف فقد یکون تضرّع العبد وابتهاله لربّه وتوسّله بالأولیاء المقرّبین لدیه وتوسیط شفاعتهم علیهم السلام کما ورد فی دفع البلاء بالدعاء ورد القضاء به فعن حماد بن عثمان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال سمعته یقول: إنّ الدعاء یردّ القضاء ینقضه کما ینقض السلک وقد ابرم ابراماً(1) و عن الحسن بن علیّ الوشاء عن أبی الحسن علیه السلام قال: کان علی بن الحسین علیه السلام یقول: الدعاء یدفع البلاء النازل ما لم ینزل(2). وغیرهما من الأخبار الواردة فی أبواب الدعاء أو أمر آخر مما ورد فی ترتّب الحسنة علی التوسلات والعبادات

ص :321


1- (1) الوسائل: ج 4، باب 7 من أبواب الدعاء، الحدیث 4 و 8.
2- (2) الوسائل: ج 4، باب 7 من أبواب الدعاء، الحدیث 4 و 8.

.··· . ··· .

الشَرح:

والزیارات والصدقات إلی غیر ذلک من أفعال الخیر وکذا بالأفعال السیّئة والمعاصی مما ورد فیها من ترتّب السیّئة والشرور والنحوسات.

ومما ذکرنا یظهر ضعف الوهم بأنّ الأدعیة والتوسلات کلّها لا توجب إلاّ نحو تقرّب إلی اللّه تقرّباً منزلیة ولا یدفع بها البلاء ولا یجلب بها نفع، نظیر المریض وتأوهه، حیث لا یجدی لشفائه ولا یوجب تخفیف ألمه.

وهذا الوهم تکذیب للکتاب المجید، مثل قوله : «وَإذا سَألَک عِبَادِی عَنِّی فَإنِّی قَرِیْبٌ أُجِیْبُ دَعْوَةَ الدّاعی إِذا دَعانِی»(1)، قوله: «أَمَّنْ یُجِیْبُ المُضْطَرّ إذا دَعاهُ وَیَکْشِفُ السّوْءَ»(2)، إلی غیر ذلک من الآیات الکثیرة والأخبار المتواترة وهذا الوهم التزام بما قالت الیهود علی ما حکی اللّه سبحانه عنهم فی قوله تعالی: «یَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أیْدِیْهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا»(3).

وبالجملة، البداء بمعنی التغیّر فی الإرادة لانکشاف الخطأ أو الجهل بالواقع غیر معقول بالإضافة إلی اللّه ، بل بالإضافة إلیه من تخلّف المعلّق علیه فی قضائه غیر المحتوم، عمّا فی علمه المخزون وفی هذه الموارد قد یقع الأخبار عن النبی أو الوصی بما فی لوح المحو والإثبات ثم یظهر تخلّفه عمّا فی لوحه المحفوظ لما أشرنا إلیه من موجب التخلّف «یَمْحُو اللّه ما یَشاءُ وَیُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمّ الکِتابِ»(4).

ص :322


1- (1) سورة البقرة: الآیة 186.
2- (2) سورة النمل: الآیة 62.
3- (3) سورة المائدة، الآیة 64.
4- (4) سورة الرعد: الآیة 39.

ص :323

ص :324

المقصد الخامس: فی المطلق والمقیّد والمجمل والمبین

اشارة

فصل

عرف المطلق بأنه: ما دل علی شائع فی جنسه[1]، وقد أشکل علیه بعض الأعلام، بعدم الإطراد أو الإنعکاس، وأطال الکلام فی النقض والإبرام، وقد نبهنا فی غیر مقام علی أن مثله شرح الإسم، وهو مما یجوز أن لا یکون بمطرد ولا بمنعکس، فالأولی الإعراض عن ذلک، ببیان ما وضع له بعض الألفاظ التی یطلق علیها المطلق، أو من غیرها مما یناسب المقام.

الشَرح:

تعریف المطلق

[1] قد ذکروا فی تعریف المطلق بأنّه ما دلّ علی شایع فی جنسه والمراد بالموصول اللفظ، فإنّ الموصوف بالدلالة هو اللفظ دون المعنی، کما أنّ المراد بالشایع، هی الحصة التی تعمّ الحصص المندرجة تحت جنس واحد مثل «رجل» فی قوله أکرم رجلاً.

لکن أشکل بأنّه لو کان المراد بالمطلق ذلک، لم یطّرد التعریف ولم ینعکس لدخول بعض الأسماء فی التعریف المذکور کأیّ رجل فی قوله «أکرم أیّ رجل» ولا یدخل فی التعریف المذکور أیضاً اسم الجنس، فإنّ اسم الجنس لا یدلّ علی الحصة، بل علی نفس الجنس أی الطبیعی.

وذکر الماتن قدس سره انّ التعریف من قبیل شرح الإسم حیث یراد منه تبدیل لفظ بلفظ آخر أوضح فی الدلالة علی المعنی، ولو من جهة، وهذا لا یعتبر فیه الإطراد والإنعکاس فلا موجب للنقض بعدمهما.

ص :325

فمنها: اسم الجنس، کإنسان ورجل وفرس[1] وحیوان وسواد وبیاض إلی غیر ذلک من أسماء الکلیات من الجواهر والأعراض بل العرضیات، ولا ریب أنها موضوعة لمفاهیمها بما هی هی مبهمة مهملة، بلا شرط أصلاً ملحوظاً معها، حتی لحاظ أنها کذلک.

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنی، وصرف المفهوم الغیر الملحوظ معه شیء أصلاً الذی هو المعنی بشرط شیء، ولو کان ذاک الشیء هو الإرسال والعموم البدلی، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شیء معه الذی هو الماهیة اللابشرط القسمی، وذلک لوضوح صدقها بما لها من المعنی، بلا عنایة التجرید عما هو قضیة الإشتراط والتقیید فیها، کما لا یخفی، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم علی فرد من الأفراد، وإن کان یعم کل واحد منها بدلاً أو استیعاباً، وکذا المفهوم اللابشرط القسمی، فإنه کلی عقلی لا موطن له إلاّ الذهن لا یکاد یمکن صدقه وانطباقه علیها، بداهة أن مناطه الإتحاد بحسب الوجود خارجاً، فکیف یمکن أن یتحد معها ما لا وجود له إلاّ ذهناً؟

الشَرح:

أقول: یمکن أن یقال إنّ معناه الإرتکازی أوضح ممّا ذکر فی التعریف لاحتیاج توضیح الشایع فی جنسه إلی التکلّف والتوجیه ففی کون ما ذکر من قبیل شرح الإسم أیضاً تأمّل.

ثمّ ذکر أنّ الأولی الاعراض عن تعریف المطلق والتعرض لبیان المعنی الموضوع له فی بعض الألفاظ التی یطلق علیها المطلق، والتعرض لمعنی بعض الألفاظ التی لا یطلق علیها المطلق ولکن التعرض لمعانیها یناسب المقام.

الموضوع له فی أسماء الأجناس

[1] من الألفاظ التی یطلق علیها المطلق، اسم الجنس من الأسماء الموضوعة

ص :326

.··· . ··· .

الشَرح:

للطبیعی سواء کان ذلک الطبیعی من قسم الجوهر کالإنسان والحیوان، أو من قسم العرض کالسواد والبیاض، أو من قسم العرضی، والمراد بالعرضی المعنی الإعتباری الإنشائی کالزوجیة والنیابة وغیرهما ممّا ینشأ بالعقد أو الإیقاع، فاسم الجنس موضوع لنفس المعنی المعبّر عنه باللابشرط المقسمی حیث لم یلاحظ فیه خصوصیة زایدة ولو کانت تلک الخصوصیة انطباقه علی کثیرین بنحو الإستغراق أو البدلیة، وبتعبیر آخر یلاحظ المعنی حتی مع قطع النظر عن لحاظه کذلک فیکون المراد من اللابشرط هو اللابشرط المقسمی، بخلاف لحاظ المعنی بما أنّه لم یؤخذ فیه جمیع الخصوصیات کما هو المراد من الماهیة اللابشرط القسمی. والوجه فی وضعه لما ذکر صدق معنی اسم الجنس علی الفرد الواحد، ولو کان المأخوذ فیه الإستیعاب أو العموم البدلی _ کما هو مفاد المعنی اللابشرط القسمی عند الأصولیین، ویصدق علیه بشرط شیء باصطلاح أهل المعقول _ لما صدق علی الفرد الواحد، کما أنّه لو کان عدم لحاظ الخصوصیة ملحوظاً فی معناه لما کان یصدق علی الخارجیات؛ لأنّ موطن اللحاظ الذهن فیصیر المعنی المقید بعدم اللحاظ من الکلی العقلی ومن المعنی الذی لا موطن له إلاّ الذهن.

وبالجملة اسم الجنس غیر موضوع للمعنی بشرط شیء، بأن یکون السریان «شمولاً أو بدلاً» قیداً للمعنی، ولا موضوعاً للمعنی الملحوظ فیه عدم لحاظ شیء الذی یکون المعنی مع هذا اللحاظ من الماهیة اللابشرط القسمی، والشاهد لعدم وضعه بأحد النحوین صدق معنی الإسم علی الفرد الواحد، والمعنی بشرط العموم لا یصدق علیه، کما أنّ المعنی الملحوظ فیه عدم لحاظ شیء معه، کلّی عقلی لا یصدق علی الخارجیات، فإنّ اللحاظ لا موطن له إلاّ الذهن والمقیّد بأمر ذهنی یکون موطنه الذهن لا الخارج.

ص :327

.··· . ··· .

الشَرح:

وذکر المحقق النائینی قدس سره ما حاصله أنّ أسماء الأجناس غیر موضوعة للکلیات الطبیعیة التی تکون من اللابشرط القسمی، وذلک فإنّ المعنی قد یلاحظ فیه تغایره مع ما هو متحد معه باعتبار آخر کما فی المادة بالإضافة إلی الصورة حیث یلاحظ کل منهما بنحو یکون غیر الآخر، ولا یصحّ حمل أحدهما علی الآخر کما تقدم فی بحث المشتق فی لحاظ المبدأ بالإضافة إلی الذات، وفی هذا القسم الماهیة بشرط لا تکون بالإضافة إلی الإتحاد، ولذا لا یحمل أحدهما علی الآخر، ویقابلها لحاظ الماهیة لا بشرط بالإضافة إلی الإتحاد مع الآخر، بحیث یحمل أحدهما علی الآخر کما فی الجنس والفصل ومعنی المشتق بالإضافة إلی الذات، فإنّ الجنس یحمل علی الفصل، والفصل علی الجنس ویحملان علی النوع المرکب منهما والماهیة بنحو لا بشرط المقابل للمهیة بشرط لا بهذا المعنی خارجة عن محل الکلام فی المقام، والقسم الآخر منها هی المهیة بشرط لا من الخصوصیات، بمعنی أن لا یکون معها شیء من الخصوصیات اللاحقة بها، ویعبّر عنها بالمهیة المجرّدة، وهی بهذا الإعتبار تکون من الکلیات العقلیة التی یمتنع صدقها علی الخارجیات، ویقابلها الماهیة بنحوین آخرین.

الأوّل: المهیة بشرط شیء ونعنی بها الماهیة الملحوظة فیها اقترانها بخصوصیة من الخصوصیات اللاحقة بها، سواء کانت تلک الخصوصیة وجودیة أم عدمیّة، ویعبّر عنها بالماهیة المخلوطة والماهیة بهذا الإعتبار ینحصر صدقها فی الافراد الواجدة للخصوصیة، ویمتنع صدقها علی فاقدها.

والثانی: المهیة المعتبرة لا بشرط بمعنی أنّه لا یعتبر فیها شیء من خصوصیة لحوق شیء أو عدم لحوقه ویعبّر عن هذا القسم بالماهیة المطلقة والملحوظة بنحو اللابشرط القسمی، وهذا هو المراد من المطلق فی المقام وفی سائر المباحث التی یذکر فیها المطلق والمهیة بهذا الإعتبار تصدق علی جمیع الافراد المقترنة

ص :328

.··· . ··· .

الشَرح:

بالخصوصیة التی تغایر خصوصیة بعضها عن خصوصیة بعضها الآخر، ثمّ إنّ الکلی الطبیعی هو اللابشرط القسمی لا المقسمی الذی یکون جامعاً بین الماهیة بشرط لا والماهیة بشرط شیء والماهیة لا بشرط، فإنّ الکلّی الطبیعی هو الجامع بین الافراد الخارجیة الممکن صدقه علیها فهو حینئذ قسیم للکلی العقلی الممتنع صدقه علی الافراد الخارجیة، ولا یمکن أن تکون المهیة المعتبرة علی نحو تصدق علی الافراد الخارجیة متحققة فی ضمن المهیة المعتبرة علی نحو یمتنع صدقها علی ما فی الخارج، فلا مناص عن الإلتزام بکون الجامع بین الأقسام هی الماهیة الجامعة بین ما یصحّ صدقه علی ما فی الخارج وما یمتنع صدقه علیه فتلک الماهیة الجامعة بین الافراد الخارجیة تصدق علی ما فی الخارج لتحققها بالماهیة المعتبرة بنحو اللابشرط القسمی الصادقة علی ما فی الخارج، ولا تکون قابلة للصدق علی الکلی العقلی، وبتعبیر آخر الکلی الطبیعی الجامع بین الافراد الخارجیه یستحیل أن تکون هی الماهیة الجامعة للأقسام.

وممّا ذکر ظهر الفرق بین الماهیة بنحو اللابشرط المقسمی وبین الماهیة بنحو اللابشرط القسمی، وانّ الأوّل مأخوذ بنحو اللابشرط بالإضافة إلی الأقسام الثلاثة من الماهیة بشرط لا الذی یلاحظ فیها الماهیة بنحو الموضوعیة، ومن الماهیة بشرط شیء الملحوظ معه الماهیة بنحو المرآتیة إلی بعض وجوداتها المعبّر عن ذلک بالماهیة المخلوطة، ومن الماهیة اللابشرط بذاتها الملحوظة بنحو المرآتیة إلی جمیع وجوداتها ویمکن معه صدقها علی کثیرین وتکون جامعة بین أفرادها الخارجیة المساوقة للکلی الطبیعی وتسمّی بالماهیة اللابشرط القسمی، ویقع الکلام فی أنّ أسماء الأجناس هل هی موضوعة لهذا القسم من المهیة التی فی ذاتها لا بشرط

ص :329

.··· . ··· .

الشَرح:

بالإضافة إلی خصوصیة وجودیة أو عدمیة لبعض الافراد، لا أنّها مقیّدة بلحاظ عدم لحاظ الخصوصیة حتی یکون کلیاً عقلیاً کما زعمه صاحب الکفایة، أو أنّها موضوعة للمقسم للأقسام الثلاثة المتقدمة _ من الماهیة الملحوظة بعدم لحوق شیء بها، والتی ینظر إلیها بنحو الموضوعیة، والماهیة المشروطة المعبّر عنها بالمخلوطة، والماهیة التی بذاتها لا بشرط التی لا ینظر إلیها بنحو الموضوعیة، بل بنحو المرآتیة إلی وجوداتها _ ویعبّر عن المقسم للأقسام الثلاثة المذکورة بالماهیة بنحو اللابشرط القسمی المعبّر عنها بالکلی الطبیعی، أو أنّها موضوعة لنفس الماهیة التی تکون جهة جامعة بین الأقسام؛ أی الماهیة المجردة والمخلوطة واللابشرط القسمی، الحق هو الثانی وفاقا لسلطان العلماء ومن تأخّر عنه والشاهد لذلک صحة استعمال أسماء الأجناس فی کل قسم من الأقسام الثلاثة بلا عنایة فی استعمالها فی شیء منها، فإنّه کما یصح أن یقال: الإنسان ضاحک، یصح أن یقال: الإنسان نوع، والإنسان العالم خیر من الإنسان الجاهل، وإذا کان استعمال اسم الجنس فی الماهیة المأخوذة بشرط لا أو بشرط شیء، کاستعماله فی الماهیة بنحو اللابشرط القسمی فی عدم الحاجة إلی إعمال العنایة ولحاظ العلاقة، کشف ذلک عن کون الموضوع له لإسم الجنس هی الجهة الجامعة بین الأقسام الثلاثة، ویعبّر عن تلک الجهة باللابشرط المقسمی، أضف إلی ذلک انّ حکمة الوضع فی الألفاظ تقتضی ذلک، فإنّ الحاجة قد تدعو إلی إفادة نفس تلک ا لجهة الجامعة ولیس بإزائها لفظ غیر اسم الجنس فیکون تفهیم کل منها بنحو تعدد الدالّ والمدلول إذا تعلق الغرض بإفادة قسم من أقسامها وبذلک یستغنی عن تعدد الوضع.

ثمّ ذکر قدس سره أنّه إذا ورد اسم الجنس فی خطاب الحکم فنفس وقوعه موضوعاً

ص :330

.··· . ··· .

الشَرح:

للحکم أو متعلقاً له قرینة علی لحاظ المعنی بنحو المرآتیة لا الموضوعیة، فإثبات هذا المقدار لا یحتاج إلی قرینة أخری، وإنّما تجری مقدمات الحکمة ویحتاج إلی جریانها لإحراز عدم لحاظه بنحو المرآتیة بالإضافة إلی بعض وجوداتها بنحو تعدّد الدال والمدلول فإثبات أنّ الملحوظ بنحو الکلی الطبیعی من غیر دخالة لبعض وجوداته یکون بقرینة الحکمة ومقدمات الإطلاق(1).

أقول: الماهیة الملحوظة من حیث هی مع قطع النظر عما یلحقها _ حتی لحاظ کونها ملحوظة بقصر النظر إلی نفسها، غیر الجهة الجامعة التی یکون الملحوظ فیها لحاظها بالإضافة إلی ما یلحق بها، المسماة بالمجردّة تارة وبالمخلوطة أخری وبالمطلقه ثالثة، والماهیة التی یکون النظر إلی نفسها ولم یلاحظ فیها حتی قصر النظر إلی نفسها هی الموضوع له لأسماء الأجناس، ولذا یتوقف استفادة الإطلاق منها وأنّها بنحو اللابشرط القسمی الذی قال المحقق النائینی قدس سره انه موضوع للحکم، علی ضم مقدمات الحکمة، وامّا لو کانت أسماء الأجناس موضوعة للماهیة الملحوظة بنحو اللابشرط القسمی، لما کان استفادة الإطلاق منها محتاجاً إلی انضمام مقدمات الحکمة، بل کان مقتضی وضعها، شمول الحکم لجمیع انطباقاتها بمقتضی الوضع.

والحاصل أنّ لحاظ الطبیعی ساریاً فی جمیع انطباقاته ووجوداته أو فی أی منها بحیث یکون الملحوظ مفاد العموم الإستغراقی أو البدلی أجنبیّ عن مدلول أسماء الأجناس، وکذا عن الکلّی الطبیعی، فإنّ الکلی الطبیعی قابل للصدق علی الکثیرین

ص :331


1- (1) أجود التقریرات 1 / 522، الأمر السادس.

ومنها: علم الجنس کأسامة، والمشهور بین أهل العربیة أنه موضوع للطبیعة لا بما هی هی، بل بما هی متعینة بالتعین الذهنی[1] ولذا یعامل معه معاملة المعرفة الشَرح:

لا أنّه لوحظ فانیاً فی جمیع وجوداته بنحو الإستغراق أو البدل.

وما ذکر قدس سره من کون الکلی الطبیعی متمحضاً فی کونه جامعاً بین الوجودات والافراد الخارجیة، وأنّه حقیقة مشترکة بینها المعبّر عنها باللابشرط القسمی، وأنّه قسیم للمهیة المأخوذة بشرط لا _ الممتنع صدقها علی الافراد الخارجیة المعبّر عنها بالکلی العقلی فی کلماتهم _ لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ الکلی الطبیعی لا یدخل فیه الوجود، ولذا یتصف بالعدم، ولا یدلّ اللفظ الموضوع له علی شیء من وجوداته وخصوصیات وجوده إلاّ بدال آخر، ولکن یمکن أن یراد مع خصوصیة من وجوداته بدال آخر، کما أنّ إرادة بعض وجوداته، أو مطلق وجوده، أو کل وجوداته، یکون بدال آخر، حیث إنّه لا بشرط بالإضافة إلی إرادتها، بل یمکن أن یقال: إنّ الماهیة التی لوحظت نفسها حتی مع قطع النظر عن لحاظ أنّها اقتصرت علی لحاظ نفسها قسم من الماهیة الملحوظة، فلا تکون مقسماً للماهیة التی یذکر لها أقسام، لاختلاف لحاظها فإنّ المقسم لا یلاحظ إلاّ فی ضمن الأقسام لها، ولا یلاحظ إلاّ بنحو الإشارة إلیه فی لحاظ أقسامها، فالماهیة التی هی مقسم لأقسامها التی تنتهی إلی أربعة أقسام هی الموضوع له لأسماء الأجناس، ویصح استعمالها فی أقسامها بتعدد الدال والمدلول، وعلی کل تقدیر یحتاج استفادة الإطلاق الذی یختلف مقتضاه بحسب المقامات إلی أمر آخر غیر مقتضی وضع أسماء الأجناس، وذلک الأمر الآخر المغایر للدّال الوضعی هو مقدمات الحکمة علی ما تقدم.

الموضوع له فی علم الجنس

[1] من الألفاظ التی یطلق علیها المطلق باعتبار معناه علم الجنس کأسامة،

ص :332

بدون أداة التعریف.

لکن التحقیق أنه موضوع لصرف المعنی بلا لحاظ شیء معه أصلاً کاسم الجنس، والتعریف فیه لفظی، کما هو الحال فی التأنیث اللفظی، وإلاّ لما صح حمله علی الأفراد بلا تصرف وتأویل، لأنه علی المشهور کلی عقلی، وقد عرفت أنه لا یکاد صدقه علیها مع صحة حمله علیها بدون ذلک، کما لا یخفی، ضرورة أن التصرف فی المحمول بإرادة نفس المعنی بدون قیده تعسف، لا یکاد یکون بناء القضایا المتعارفة علیه، مع أن وضعه لخصوص معنی یحتاج إلی تجریده عن خصوصیته عند الإستعمال، لا یکاد یصدر عن جاهل، فضلاً عن الواضع الحکیم.

الشَرح:

والمشهور عند علماء الأدب أنّه موضوع للمعنی لا بما هو هو، بل بما هو متعیّن بالتعیّن الذهنی، ولذا یعامل معه معاملة المعرفة مع عدم دخول أداة التعریف.

وذکر الماتن قدس سره أنّه لا فرق بین معنی اسم الجنس وعلم الجنس، فإنّه کإسم الجنس موضوع لذات المعنی بلا لحاظ شیء معه أصلاً، وانّ التعریف فیه لفظی کما فی التأنیث اللفظی، ویشهد لذلک صحة حمله علی أفراده من غیر تصرف فی معناه، ولو کان التعین الذهنی مأخوذاً فیه بأن وضع اللفظ بازاء المعنی بما هو ملحوظ لکان کلیاً عقلیاً _ والمراد بالکلّی العقلی ما یکون موطنه الذهن مع حکایته عن الکثیرین نظیر حکایة الصورة المنقوشة عن ذی الصورة من غیر أن یصح حملها علیه _ لما أمکن حمله علی الخارجیات إلاّ بالتجرید، مع أنّ أخذ قید فی معنی اللفظ بحیث یحتاج عند استعماله إلی تجرید معناه عنه، لغو محض لا یصدر عن الحکیم.

أقول: کما أنّه لا مجال لأخذ التعین الذهنی فی معنی علم الجنس کذلک لا مجال لتوهم أخذ التعین الخارجی فی معناه بأن یکون الموضوع له هو المعین الخارجی، فإنّه لیس للتعیّن الخارجی معنی إلاّ الوجود الخارجی، فیلزم أن لا یتبادر من علم

ص :333

ومنها: المفرد المعرف باللام، والمشهور أنه علی أقسام[1]: المعرف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه، علی نحو الاشتراک بینها لفظاً أو معنی، والظاهر أن الخصوصیة فی کل واحد من الأقسام من قِبَل خصوص اللام، أو من قِبَل قرائن المقام، من باب تعدد الدال والمدلول، لا باستعمال المدخول لیلزم فیه المجاز أو الإشتراک، فکان المدخول علی کل حال مستعملاً فیما یستعمل فیه الغیر المدخول.

والمعروف أن اللام تکون موضوعة للتعریف، ومفیدة للتعیین فی غیر العهد الذهنی، وأنت خبیر بأنه لا تعین فی تعریف الجنس إلاّ الإشارة إلی المعنی المتمیز بنفسه من بین المعانی ذهناً، ولازمه أن لا یصح حمل المعرف باللام بما هو معرف علی الأفراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّ بالتجرید، ومعه لا فائدة فی التقیید، مع أن التأویل والتصرف فی القضایا المتداولة فی العرف غیر خالٍ عن التعسف.

هذا مضافاً إلی أن الوضع لما لا حاجة إلیه، بل لا بد من التجرید عنه وإلغائه الشَرح:

الجنس الطبیعی، فإنّ لازم ما ذکر، کون الوضع فی علم الجنس عاماً والموضوع له خاصاً.

ودعوی أنّ الموضوع له لعلم الجنس هو نفس الطبیعی وتعینه بلحاظ ظرف الوضع واستعماله فلا یکن المساعدة علیها، فإنّه إن أُغمض عن کون ذات المعنی معیّناً ذهناً عند الإستعمال والوضع، فالأمر فی اسم الجنس أیضاً کذلک، وإن أخذ هذا قیداً للوضع یکون أخذه لغواً محضاً فإنّ أخذ شیء _ لا یتخلّف المعرف باللام ویوجد قهراً عند الوضع وعند الإستعمال _ فی وضع اللفظ یعدّ من اللغو المحض.

الموضوع له فی المعرف باللام

[1] ممّا یطلق علیه المطلق، المفرد المعرف باللام إذا أرید منه الجنس أو الإستغراق، وأمّا المعهود سواء کان خارجیاً أو ذکریاً أو ذهنیاً کقوله «قَدْ رَضِی اللّهُ

ص :334

فی الإستعمالات المتعارفة المشتملة علی حمل المعرف باللام أو الحمل علیه، کان لغواً، کما أشرنا إلیه، فالظاهر أن اللام مطلقاً یکون للتزیین، کما فی الحسن والحسین، واستفادة الخصوصیات إنما تکون بالقرائن التی لابد منها لتعینها علی کل حال، ولو قیل بإفادة اللام للإشارة إلی المعنی، ومع الدلالة علیه بتلک الخصوصیات لا حاجة إلی تلک الإشارة، لو لم تکن مخلة، وقد عرفت إخلالها، فتأمل جیداً.

وأما دلالة الجمع المعرف باللام علی العموم مع عدم دلالة المدخول علیه، فلا دلالة فیها علی أنها تکون لأجل دلالة اللام علی التعین، حیث لا تعین إلاّ للمرتبة المستغرقة لجمیع الأفراد، وذلک لتعین المرتبة الأخری، وهی أقل مراتب الجمع، کما لا یخفی.

الشَرح:

عَنِ الْمُؤْمِنِیْنَ إذْ یُبَایعُونَک تَحْتَ الشَّجَرَةِ»(1) وقوله «کَما أرْسَلْنا إلی فِرعَونَ رَسُولاً* فَعَصی فِرعونُ الرَّسُوْل»(2)، فلا یکون من المطلق، وذکر الماتن قدس سره أنّ الإلتزام بکون کلّ من التعیّن الجنسی والإستغراقی والعهدی من مدلول المفرد المحلی باللام، بأن وضع المفرد المحلی باللام للجنس المعیّن تارة وللإستغراق أخری، وللعهد بأقسامه ثالثة، أو الإلتزام بوضعه لبعضها واستعماله فی باقیها مجازاً غیر صحیح، بل المدخول یستعمل فیما وضع له إسم الجنس وخصوصیة الإستغراق والتعین والعهد علی تقدیرها مستفادة من دالّ آخر بتعدّد الدال والمدلول، ویحتمل بدواً أن یکون الدالّ علیها نفس اللام أو غیرها من القرینة الحالیة أو المقالیة ولکن المشهور عند علماء الأدب أنّ اللام موضوعة لتلک الخصوصیات من تعیین الجنس أو استغراق

ص :335


1- (1) سورة الفتح: الآیة 8.
2- (2) سورة المزمّل: الآیتان 15 و16.

.··· . ··· .

الشَرح:

جمیع الافراد أو التعیین الخارجی أو الذکری دون الذهنی فإنّها لا تفید التعیین فی العهد الذهنی.

ولکن التعیین بالإضافة إلی الخارج أو المذکور علی تقدیره یکون بالقرینة، وکذا بالإضافة إلی المعهود ذهناً بحسب خارجه، وامّا التعیین بالإضافة إلی الجنس فلا معنی له إلاّ تعیّنه بحسب اللحاظ واللحاظ لو کان قیداً للمعنی لما صدق علی الخارجیات فإنّ الوجود الذهنی الذی هو اللحاظ لا وعاء له إلاّ الذهن، والتعین بمعنی آخر غیر متصوّر، ووضع اللفظ لمعنی مع الإحتیاج فی استعمالاته إلی التجرید لغو فالصحیح أنّ اللام لم توضع لمعنی بل هی لمجرّد تزیین اللفظ کما فی «الحسن والحسین» وغیر ذلک من الأعلام، والدلالة علی الخصوصیات علی تقدیر إرادتها تکون بدالّ آخر کقوله أکرم هذا الرجل فإنّ العهد الخارجی مستفاد من الإشارة الخارجیة.

أقول: یمکن أن یقال بحسب ما یبدو فی النظر، بأنّ مرادهم فی بیان الفرق بین إسم الجنس وعلم الجنس هو أنّ الثانی موضوع للجنس بوصف التعیّن وأنّه لا یکون موضوعاً لمعنی یوصف بأنّه نکرة ولا لما یمکن أن یطرء علیه إرادة التنکیر ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، بخلاف إسم الجنس فإنّه لا بشرط بالإضافة إلی التنکیر فی الإستعمال ولو بنحو تعدّد الدال والمدلول، وإذا کان مرادهم ذلک _ یعنی انّ معنی إسم الجنس لا بشرط بالإضافة إلی إرادة التنکیر وعدمها، ولو بدالّ آخر، بخلاف علم الجنس، فإنّه یکون بشرط لا، بالإضافة إلی عروضه _ فإنّه یمکن أن یجری هذا الفرق بین المفرد المحلّی باللام وغیر المحلّی أیضاً فإنّ الثانی یکون لا بشرط بالإضافة إلی إرادة التنکیر بخلاف الأوّل فإنه یکون بشرط لا، وممّا ذکرنا من التوجیه یظهر أنّ خصوصیة العهد الخارجی أو الذکری أو الذهنی تستفاد من القرائن ولا یکون

ص :336

.··· . ··· .

الشَرح:

فی اللام دلالة إلاّ علی أنّ المراد لا یکون بنحو النکرة فتدبّر. هذا کلّه بالإضافة إلی المفرد المحلّی.

وأمّا الجمع المعرف باللام فیقع الکلام فی کیفیة دلالته علی العموم، وقد ذکر الماتن قدس سره أنّ دلالته علیه لیست لوضع اللام للتعیین، وحیث لا تعیّن فی مراتب الجمع إلاّ فی المرتبة الأخیرة تکون دلالته علی العموم من هذه الجهة، وذلک لأنّه لو کان موضوعاً للتعیین فالمرتبة الأولی من الجمع أیضاً کالمرتبة الأخیرة متعیّنة فیکون مثل قوله «أکرم العلماء» محتملاً لأحد أمرین من طلب اکرام جمیع العلماء أو ثلاثة من أفراد العالم.

ولکن لا یخفی ما فیه: فإنّ مراد المستدل کون مرتبة خاصة متعیّنة مطلقاً حتی بحسب الخارج والمرتبة المتعینة کذلک هی المرتبة الأخیرة، وامّا المرتبة الأولی فهی متعینة بحسب العدد الخاص فیحتمل الإنطباق علی کل ثلاثة من أفراد الجنس.

ثمّ ذکر بعد ذلک أنّ الجمع المحلّی باللام لو کان دالاًّ علی العموم فلابدّ من الإلتزام للجمع المحلّی بوضع آخر غیر وضع المدخول وأنّ المجموع من اللام ومدخوله لإفادة تمام الافراد من جنس مدخولها المعبّر عنه بالإستغراق.

ولعلّ نظره قدس سره فی ذلک إلی ما قد یقال بأنّه لو کانت اللام موضوعة للتعیین لکان مدلول الجمع المعرّف باللام کل الجمع فلا یکون اکرام واحد من العلماء امتثالاً للحکم أصلاً إذا کان الخطاب بقوله «أکرم العلماء»، ولکن هذا القول علیل لما ذکر فی بحث العام والخاص من ظهور عنوان الجمع فی الخطاب فی لحاظه مشیراً إلی الأفراد فی الحکم لها علی نحو الإنحلال، ولحاظ الجمع بما هو جمع بحیث یکون للمجموع حکم واحد یحتاج إلی القرینة، ولذا لا یفرق بین قوله «أکرم العلماء من

ص :337

فلا بد أن یکون دلالته علیه مستندة إلی وضعه کذلک لذلک، لا إلی دلالة اللام علی الإشارة إلی المعین، لیکون به التعریف، وإن أبیت إلاّ عن استناد الدلالة علیه إلیه، فلا محیص عن دلالته علی الإستغراق بلا توسیط الدلالة علی التعیین[1]، فلا یکون بسببه تعریف إلاّ لفظاً، فتأمل جیداً.

الشَرح:

البلد» وبین قوله «أکرم علماء البلد» فی کون الحکم إنحلالیاً إستغراقیاً.

[1] ظاهره أنّه لو بنی علی دلالة اللام علی الإستغراق فلابدّ من الإلتزام بأنّها موضوعة لما وضع له لفظة «کل» إذا کان مدخولها صیغة الجمع لا أنّها موضوعة للتعیین ولا یکون التعیین إلاّ بإرادة الإستغراق.

أقول: یلزم علی ذلک أنّها لو استعملت فی العهد الخارجی مثلاً کقوله (أکرم هؤلاء العلماء) لکان الإستعمال مجازاً بخلاف ما إذا قیل بأنّها موضوعة للتعیین فإنّ فی مورد العهد الخارجی یکون المتعین، موجوداً بالفعل وفی موارد إرادة الإستغراق أیضاً متعیّناً ولو فی طول الزمان.

ثمّ إنّه لم یثبت أنّ اللام الداخلة علی صیغة الجمع کقوله «أکرم العلماء» مع قطع النظر عن مقدمات الإطلاق تدلّ علی العموم، بل مدلولها علی ما تقدم عدم إرادة الجمع بنحو النکرة فمثل قوله «أکرم علماءً» أو «صم أیّاماً» یدلّ علی طلب إکرام جمع من العلماء وصوم أیّام بنحو النکرة، ولازم دخولها علی صیغة الجمع فی مثل قوله «أکرم العلماء» أن یکون الجمع معیناً فإن قامت قرینة حالیة أو مقالیة علی ذلک المعین کما فی قوله «أکرم هؤلاء العلماء» أو «علماء البلد» إلی غیر ذلک فهو، وإلاّ تتعیّن المرتبة الأخیرة فإنّ إرادتها لا تحتاج إلی قرینة خاصة، بل یکفی فیها مع کون المتکلم فی مقام البیان عدم تعیین سائر المراتب مع إمکانه، وقد تقدم نظیر ذلک فی المفرد المعرّف باللام، حیث قلنا إنّ غایة مدلولها عدم إرادة المدخول بنحو

ص :338

ومنها: النکرة مثل (رجل) فی (وجاء رجل من أقصی المدینة) أو فی (جئنی برجل) ولا إشکال أن المفهوم منها فی الأول، ولو بنحو تعدد الدالّ والمدلول، هو الفرد المعین[1] فی الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الإنطباق علی غیر واحد من أفراد الرجل.

کما أنه فی الثانی، هی الطبیعة المأخوذة مع قید الوحدة، فیکون حصة من الرجل، ویکون کلیاً ینطبق علی کثیرین، لا فرداً مردداً بین الأفراد.

الشَرح:

النکرة، ولذا لا نفهم فرقاً بین قوله «أکرم هذا الرجل» وقوله بالفارسیة «اکرام کن این مرد را» مع أنّ لفظ (مرد) فی لغة الفرس، لا یکون بنفسه نکرة، بل بمعنی إسم الجنس المحتاج فی جعله نکرة إلی ضمّ الدال علیها.

وممّا ذکرنا یظهر وجه استفادة العهد الذکری من مثل قوله «کَمَا أَرْسَلْنا إلی فِرْعَوْنَ رَسُوْلاً فَعَصَی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ»(1)، وعدم استفادة ذلک لو قیل أرسلنا إلیهم رسولاً فعصوا رسولاً.

الموضوع له فی النکرة

[1] لا ینبغی التأمّل فی عدم الإختلاف فی معنی النکرة فی موردی الاخبار والإنشاء بحسب نفس دلالة النکرة، بل معناها فی نفسها الوجود الواحد والحصة الواحدة من الطبیعی، غایة الأمر انطباق معناها علی الخارج فی موارد الاخبار یکون قهریاً فالمنطبق علیه بحسبه فرد معین أو حصة معیّنة بما أنّ ذلک الفرد والحصّة غیر محرزة عند السامع بخصوصیته یتردّد ما ینطبق علیه مدلولها بین أفراد وحصص، وهذا بخلاف موارد التکلیف فإنّ تطبیق الحصة علی الخارج بید المکلف، ولذا

ص :339


1- (1) سورة المزّمل: الآیتان 15 و 16.

وبالجملة: النکرة __ أی ما بالحمل الشائع یکون نکرة عندهم __ إما هو فرد معین فی الواقع غیر معین للمخاطب، أو حصة کلیة، لا الفرد المردد بین الأفراد، وذلک لبداهة کون لفظ (رجل) فی (جئنی برجل) نکرة، مع أنه یصدق علی کل من جئ به من الأفراد ولا یکاد یکون واحد منها هذا أو غیره، کما هو قضیة الفرد المردد، لو کان هو المراد منها، ضرورة أن کل واحد هو هو، لا هو أو غیره، فلا بد أن تکون النکرة الواقعة فی متعلق الأمر، هو الطبیعی المقید بمثل مفهوم الوحدة، فیکون کلیاً قابلاً للانطباق، فتأمل جیداً.

إذا عرفت ذلک، فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقیقة علی اسم الجنس والنکرة بالمعنی الثانی، کما یصح لغة. وغیر بعید أن یکون جریهم فی هذا الإطلاق علی وفق اللغة، من دون أن یکون لهم فیه اصطلاح علی خلافها، کما لا یخفی.

الشَرح:

یکون له التخییر فی التطبیق فکل من التردد والتخییر خارج عن مدلولها، ویستفاد منها بتعدّد الدال والمدلول.

ولا یخفی أنّه کما لا یطلق المطلق علی النکرة فی مثل قوله «رأیت أسداً» کذلک لا یطلق علی إسم الجنس إذا قال «رأیت الأسد» فیما إذا کان اللام للجنس، وإنّما یطلق علیهما المطلق فی مثل قوله «أعتق رقبة» أو «أعتق الرقبة» علی حد سواء فتفرقة الماتن بین إسم الجنس والنکرة، کغیره، غیر صحیح، وذلک لأنّ إسم الجنس موضوع للطبیعی المهمل والنکرة للحصة المهملة عندهم فهما مع قطع النظر عن الحکم لا یوصفان لا بالإطلاق ولا بالتقیید، وإنّما یوصفان بأحدهما فی مرحلة تعلّق الحکم والتکلیف، وتوضیح ذلک أنّ الطبیعی المدلول علیه بإسم الجنس أو الحصة المدلول علیها بالنکرة قد یقع موضوعاً للحکم أو متعلقاً للتکلیف من غیر دخالة

ص :340

نعم لو صح ما نسب إلی المشهور، من کون المطلق عندهم موضوعاً لما قید بالإرسال والشمول البدلی، لما کان ما أرید منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق، إلاّ أن الکلام فی صدق النسبة، ولا یخفی أن المطلق بهذا المعنی لطروء القید غیر قابل، فإن ماله من الخصوصیة ینافیه ویعانده، بل وهذا بخلافه بالمعنیین، فإن کلاً منهما له قابل، لعدم انثلامهما بسببه أصلاً، کما لا یخفی.

وعلیه لا یستلزم التقیید تجوزاً فی المطلق، لإمکان إرادة معنی لفظه منه، وإرادة قیده من قرینة حال أو مقال، وإنما استلزمه لو کان بذاک المعنی، نعم لو أرید من لفظه المعنی المقید، کان مجازاً مطلقاً، کان التقیید بمتصل أو منفصل.

الشَرح:

للخصوصیات فی ملاک الحکم والتکلیف، فإنّ الطبیعی أو الحصة التی معنی النکرة، وإن لم یتحقق خارجاً إلاّ بالخصوصیة، إلاّ أنّ الخصوصیات قد تکون بحیث لا دخل لها فی ملاک الحکم أو متعلّق التکلیف، ونتیجة مقدمات الحکمة علی ما یأتی رفض الحاکم والمولی تلک الخصوصیات عن الموضوع أو المتعلق فی مقام جعل الحکم والتکلیف لا جمعها، حیث إنّ أخذها مع عدم دخالتها فیهما بلا موجب، فیکون مفاد قوله «أحل اللّه البیع» بعد إحراز الإطلاق ورفض القیود ثبوت الحلیة للطبیعی بلا دخل لخصوصیة دون أخری، فإخراج الموضوع عن الإهمال وصیرورته مطلقاً إنّما هو بجریان مقدمات الحکمة، کما أنّ إخراج المتعلّق عن الإهمال إلی الإطلاق یکون بجریانها، بحیث یکون مفاد قوله «أعتق رقبة» بعد إحراز مقدماتها، أعتق أی رقبة.

ولا یخفی أنّ الماتن والمحقق النائینی التزما بلزوم إجراء مقدمات الحکمة فی العام الوضعی أیضاً إذ إثبات أنّ مدخول «کلّ» و«أی» وغیرها من الأداة، مأخوذ عنواناً للوجودات من غیر لحاظ خصوصیة أخری، لا یکون إلاّ بمقدمات الحکمة وبعد إحراز ذلک یکون ثبوت الحکم وتعلّقه لکل واحد من الوجودات بنحو الإستغراق أو

ص :341

.··· . ··· .

الشَرح:

البدل، بدلالة لفظ «کل» أو «أیّ» أو نحوهما ویکون العموم لفظیاً بخلاف مثل «أحَلَ اللّهُ البَیْعَ»، فإن تعلّق الحلیة لکل بیع بعد إحراز مقدمات الإطلاق، بدلالة العقل، لا بدلالة اللفظ.

ولکن لا یخفی ما فیه فإنّ نسبة انّ المتکلم قد ذکر حلیة کل بیع فی مثل أحل اللّه کل بیع، لا یتوقف علی جریان مقدمات الحکمة فی المدخول، بخلاف قوله «أحَلَ اللّهُ البَیْعَ»، فإنّه لا یصح نسبة تفهیم العموم إلی اللّه إلاّ بملاحظة تمامیة مقدمات الحکمة.

ص :342

فصل

قد ظهر لک أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلاّ علی الماهیة المبهمة وضعاً[1]، وأن الشیاع والسریان کسائر الطوارئ یکون خارجاً عما وضع له، فلا بد فی الدلالة علیه من قرینة حال أو مقال أو حکمة، وهی تتوقف علی مقدمات:

إحداها: کون المتکلم فی مقام بیان تمام المراد، لا الإهمال أو الإجمال.

ثانیتها: انتفاء ما یوجب التعیین.

ثالثتها: انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب، ولو کان المتیقن بملاحظة الخارج عن ذاک المقام فی البین، فإنه غیر مؤثر فی رفع الإخلال بالغرض، لو کان بصدد البیان، کما هو الفرض، فإنه فیما تحققت لو لم یرد الشیاع لأخلّ بغرضه، حیث إنه لم ینبه مع أنه بصدده، وبدونها لا یکاد یکون هناک إخلال به، حیث لم یکن مع انتفاء الأُولی، إلاّ فی مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثانیة، کان البیان بالقرینة، ومع انتفاء الثالثة، لا إخلال بالغرض لو کان المتیقن تمام مراده، فإن الفرض أنه بصدد بیان تمامه، وقد بینه، لا بصدد بیان أنه تمامه، کی أخل ببیانه، فافهم.

الشَرح:

مقدمات الحکمة

[1] قد ظهر ممّا تقدم أنّ توصیف موضوع الحکم أو متعلّق التکلیف بالإطلاق إنّما یکون فی مقام تعلّق الحکم، وامّا نفس الموضوع أو المتعلّق مع لحاظ معناه الافرادی مهمل فالخروج عن الإهمال فی مقام تعلّق الحکم یکون امّا بالتقیید؛ أی بیان القید، أو بالإطلاق المستفاد من مقدمات الحکمة. وقد ذکرنا أنّ الإطلاق فی موضوع الحکم بحیث یعمّ جمیع انطباقاته ووجوداته أو فی متعلّق الحکم بحیث یحصل بأیّ وجود منه أو فی الحکم بحیث یجعل فی صورتی حصول الشیء

ص :343

ثم لا یخفی علیک أن المراد بکونه فی مقام بیان تمام مراده، مجرد بیان ذلک وإظهاره وإفهامه، ولو لم یکن عن جد، بل قاعدة وقانوناً، لتکون حجة فیما لم تکن حجة أقوی علی خلافه، لا البیان فی قاعدة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة، فلا یکون الظفر بالمقید __ ولو کان مخالفاً __ کاشفاً عن عدم کون المتکلم فی مقام البیان، ولذا لا ینثلم به إطلاقه وصحة التمسک به أصلاً، فتأمل جیداً.

وقد انقدح بما ذکرنا أن النکرة فی دلالتها علی الشیاع والسریان __ أیضاً __ تحتاج فیما لا یکون هناک دلالة حال أو مقال من مقدمات الحکمة، فلا تغفل.

بقی شیء: وهو أنه لا یبعد أن یکون الأصل فیما إذا شک فی کون المتکلم فی مقام بیان تمام المراد، هو کونه بصدد بیانه، وذلک لما جرت علیه سیرة أهل المحاورات من التمسک بالإطلاقات فیما إذا لم یکن هناک ما یوجب صرف وجهها إلی جهة خاصة، ولذا تری أن المشهور لا یزالون یتمسکون بها، مع عدم إحراز کون مطلقها بصدد البیان، وبعد کونه لأجل ذهابهم إلی أنها موضوعة للشیاع والسریان، وإن کان ربما نسب ذلک إلیهم، ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسک بها بدون الإحراز والغفلة عن وجهه، فتأمل جیداً.

الشَرح:

وعدمه یتوقف علی تمامیة أمور:

الأوّل: إحراز أنّ المتکلم فی مقام بیان تمام المراد؛ یعنی المراد الإستعمالی بأن یحرز أن ما وقع فی الخطاب موضوعاً أو متعلقاً یرید المتکلّم بیان تمام قیود ذلک الموضوع أو المتعلّق والحکم، فی مقابل جعل الموضوع أو المتعلق أو حکمه فی الخطاب مهملاً أو مجملاً من حیث القیود، ولا یخفی أنّ عدم الإهمال والإجمال فی کل خطاب صادر عن متکلم حکیم، هو الأصل الأولی.

الثانی: عدم ذکره فی الخطاب قرینة علی القید، ولم یکن فی غیر الخطاب

ص :344

ثم إنه قد انقدح بما عرفت __ من توقف حمل المطلق علی الإطلاق، فیما لم یکن هناک قرینة حالیة أو مقالیة علی قرینة الحکمة المتوقفة علی المقدمات المذکورة __ أنه لا إطلاق له فیما کان له الإنصراف إلی خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره فیه، أو کونه متیقناً منه، ولو لم یکن ظاهراً فیه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الإنصراف، کما أنه منها ما لا یوجب ذا ولا ذاک، بل یکون بدویاً زائلاً بالتأمل، کما أنه منها ما یوجب الإشتراک أو النقل.

لا یقال: کیف یکون ذلک وقد تقدم أن التقیید لا یوجب التجوز فی المطلق أصلاً. فإنه یقال: مضافاً إلی أنه إنما قیل لعدم استلزامه له، لا عدم إمکانه، فإن استعمال المطلق فی المقید بمکان من الإمکان، إن کثرة إرادة المقید لدی إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزیة أنس، کما فی المجاز المشهور، أو تعیناً واختصاصاً به، کما فی المنقول بالغلبة، فافهم.

الشَرح:

قرینة علیه أیضاً.

والثالث: عدم مانع فی البین من بیان القید أو إقامة القرینة علیه.

فاذا تمت هذه الأمور یکون مدلول الخطاب بملاحظتها، انّ الطبیعی بلا قید، موضوع للحکم أو متعلّق له ویصح نسبة ذلک إلی المتکلم، وانّ ظاهر خطابه ثبوت حکمه للطبیعی بلا دخالة أمر آخر فیه وجوداً وعدماً، أو أنّ الطبیعی أو الحصة متعلقة لحکمه وطلبه، وأنّ حکمه مجعول علی تقدیر وجود الشیء الآخر وعدمه ومقتضی أصالة التطابق بین المراد الإستعمالی الجدّی هو أنّ الحکم الذی استفدنا من خطابه هو المراد الجدّی المعبّر عنه بمقام الثبوت، وإذا ورد بعد ذلک خطاب علی اعتبار قید فی الموضوع أو المتعلق أو حتی فی ثبوت الحکم لا یکون الخطاب المفروض موجباً لانثلام الظهور الإطلاقی أیضاً، بل یکون کاشفاً عن عدم تطابق المراد

ص :345

.··· . ··· .

الشَرح:

الإستعمالی مع المراد الجدّی بالإضافة إلی مورد القید ویؤخذ بالظهور المشار إلیه بالإضافة إلی غیر مورده إذا شک فی التطابق من جهة سائر القیود المحتملة.

والحاصل أنّ المراد بالبیان فی مقدمات الإطلاق البیان بالإضافة إلی قیود الموضوع والمتعلّق ونفس الحکم الوارد فی الخطاب لا البیان علی قید الموضوع أو المتعلّق ثبوتاً وبحسب الإرادة الجدیة کما هو المراد من البیان فی قاعدة «قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة»، ولذا لا یعتبر فی البیان فی تلک القاعدة اقترانه بخطاب الحکم، بل یعتبر وروده قبل حضور وقت العمل بذلک الحکم، ولو بخطاب منفصل عن ذلک الخطاب بکثیر، بل یجوز التأخیر عن وقت العمل أیضاً إذا کان فی التأخیر صلاح علی ما تقدم، واستشهد الماتن قدس سره بأنّ ورود المقیّد لا یکون کاشفاً عن عدم کون المتکلم بخطاب المطلق فی مقام البیان، لعدم انثلام الظهور الإطلاقی مع ورود القید منفصلاً، وعدم انثلام صحة التمسک بالإطلاق عند الشک من جهة سائر القیود.

ولکن لا یخفی ما فی الإستشهاد فإنّه بورود القید منفصلاً یعلم أنّ المتکلم لم یکن فی مقام البیان بالإضافة إلی مورد القید، وامّا بالإضافة إلی غیره من القیود المحتملة فأصالة کونه فی مقام البیان بحالها باقیة ولم یرد منها ما ینافیها.

وبتعبیر آخر: یرفع الید عن الأصل العقلائی بکون المتکلم فی مقام بیان مراده الواقعی بخطابه، بمقدار الکاشف عن الخلاف لا أنّه یرفع الید عنه رأساً.

نعم لو کان المطلق موضوعاً للحصة الخاصة من الماهیة وهی المقیدة بالاطلاق دون الأعم منها وما یر علیها القید لأمکن دعوی أنّ ورود الخطاب المشتمل علی القید یکون کاشفاً عن عدم استعماله فی الموضوع له، وحیث إنّ استعماله فی الباقی بعد التقیید لتعدده لا معیّن له فیکون الخطاب _ یعنی خطاب المطلق _ مجملاً

ص :346

.··· . ··· .

الشَرح:

لا یصحّ التمسک به أصلاً، ولذا التزم المحقق النائینی قدس سره (1) بأنّ المراد بالبیان فی البابین واحد، وأنّه یرتفع نفس الإطلاق بالإضافة إلی مورد القید لارتفاع موجبه من حین وروده، وهی مقدمات الحکمة غایة الأمر الإطلاق محفوظ بالإضافة إلی سائر القیود فیؤخذ به لتمامیة مقدماته بالإضافة إلیها.

وإن شئت فلاحظ الأصل العملی مع الدلیل الإجتهادی، فإنّه یرتفع الموضوع للأصل العملی من حین ورود خطاب التکلیف والظفر به، ولا یکون وصوله موجباً لارتفاع الأصل العملی بالإضافة إلی الأزمنة السابقة بأن یکون کاشفاً عن عدم الموضوع للأصل العملی من الأوّل.

ویترتّب علی المسلکین ما إذا تعارض الخطابان بالعموم من وجه، وکانت دلالة أحدهما بالوضع، والآخر بالإطلاق، کما إذا ورد فی خطاب، الأمر بإکرام العالم، وورد فی خطاب آخر النهی عن إکرام أیّ فاسق، فیؤخذ فی مورد الإجتماع بالعموم الوضعی لأصالة التطابق فی ناحیته، ویرتفع معه مقدمات الحکمة فی ناحیة خطاب المطلق.

وبالجملة: فالإطلاق الذی یحکم العقل غیر داخل فی مدلول اللفظ، فیرتفع من حین ورود البیان بالإضافة إلی القید.

أقول: الإهمال فی معنی المطلق بالإضافة إلی القیود اللاحقة، والخصوصیّات انّما هو بملاحظة الدالّ الآخر فی مقام استعماله، ولا یکون تقییده فی مقام الإستعمال موجباً لخلاف الوضع، ولکن مع عدم التقیید فیه یکون إظهاراً لعدم

ص :347


1- (1) أجود التقریرات 1 / 531.

.··· . ··· .

الشَرح:

دخالة القید فی الموضوع أو المتعلق، بل فی الحکم بعد فرض أنّ المولی فی مقام تفهیم تمام الموضوع والمتعلق وتمام الحکم مع عدم الإتیان بما یدلّ علی القید مع تمکّنه من الإتیان به.

وبالجملة فمع تمامیة مقدمات الإطلاق فی مقام استعمال المطلق یکون تمامیة تلک المقدمات موجبة لظهور الخطاب فی کون الموضوع أو المتعلق، بل الحکم مطلقاً بالإضافة إلی القید المحتمل، وبأصالة التطابق بین المراد الإستعمالی والمراد الجدی یستکشف الحکم بموضوعه ومتعلّقه فی مقام الثبوت، نظیر أصالة التطابق بین المراد الإستعمالی والجدی فی العام الوضعی.

ثمّ إنّه قد ذکر الماتن قدس سره فی المقدمة الأولی: کون المتکلم فی مقام بیان تمام المراد لا الإهمال والإجمال، وذکر فی المقدمة الثانیة: عدم ما یوجب التعیین وکأنّ مراده عدم ذکر القید أو عدم وجود قرینة علیه فی البین عند ورود خطاب المطلق مع تمکّن المکلّف من ذکرها علی تقدیر إرادة المقیّد.

وذکر فی المقدمة الثالثة انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب وأمّا المتیقن بملاحظة الخارج عن ذلک المقام فلا یضر بالإطلاق، وأوضح فی المقدمة الثالثة بأنّه لو کان القدر المتیقن فی مقام التخاطب هو الموضوع للحکم الوارد فی الخطاب المشتمل علی المطلق، فقد بیّن الحکم له، غایة الأمر لا یکون للخطاب دلالة علی ثبوت الحکم أو عدم ثبوته لغیر ذلک القدر المتیقن وهذا غیر ضائر.

أقول: هذا صحیح بالإضافة إلی الخطاب الذی یکون عنوان الموضوع فیه مجملاً مردّداً بین الأقل والأکثر، کما إذا ورد فی الخطاب لا تکرم الفاسق وتردّد من الفاسق بین مرتکب المعصیة مطلقاً وخصوص مرتکب الکبیرة.

ص :348

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا إذا لم یکن لعنوان الموضوع إجمال کذلک، بل کان بعض الافراد متیقناً بحسب الإرادة، کما إذا قیل فی الجواب عن إکرام العالم العادل (أکرم العالم)، فالظاهر عدم الفرق بینه وبین المتیقن بحسب الخارج فی عدم کونه مانعاً عن التمسک بالإطلاق، کما هو المتعارف فی المحاورات وعلیه الطریقة المتداولة عند الفقهاء العظام فی أبواب الفقه من التمسک باطلاق الجواب، وإن وقع السؤال عن مورد خاص، وفرد مخصوص، وأنّ وقوع شیء فی السؤال لا یحسب قرینة علی تقیید الإطلاق الوارد فی الجواب، ولا مانعاً من التمسک بالظهور الإطلاقی، أو إنعقاده.

تنبیه: قد ذکر المحقق النائینی قدس سره أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید لیس من تقابل الإیجاب والسلب لأنّ التقیید عبارة عن أخذ قید فی موضوع الحکم أو متعلّقه أو فی نفس الحکم، والإطلاق عبارة عن عدم أخذ هذا القید، فإنّ التقابل بین الإیجاب والسلب لا یمکن فیه اجتماع المتقابلین ولا ارتفاعهما، ومن الظاهر إمکان ارتفاع الإطلاق والتقیید معاً کما فی موارد الإهمال، وکون القید من الإنقسامات الثانویة المتوقفة لحاظه علی جعل الحکم واعتباره ککون المکلف عالماً بالحکم المجعول للموضوع أو التکلیف المتعلق بالفعل، أو جاهلاً به، وکالإتیان بالمتعلّق بداعی الأمر به.

بل الصحیح أنّ التقابل بینهما تقابل العدم والملکة فیحمل الإطلاق علی عدم التقیید فی مورد یمکن فیه أخذ ذلک القید کما فی ا لقیود التی هی من الإنقسامات الأوّلیة والمراد بها إمکان تقسیم الموضوع أو المتعلّق إلی تلک الأقسام مع قطع النظر عن الحکم علیه، فالموارد التی تکون الإنقسامات فیها من الانقسامات الثانویة المتوقف لحاظها علی جعل الحکم فکما لا یکون إطلاق فی الموضوع أو المتعلق

ص :349

.··· . ··· .

الشَرح:

کذلک لا یکون فیهما تقیید فلو ورد فی خطاب الحکم علی موضوع، أو تعلق التکلیف بمتعلّق لا یمکن إثبات عموم الحکم لعامّة المکلفین عالمهم وجاهلهم، أو إثبات التوصلیة بذلک الخطاب، بل لابدّ فی إثبات الإطلاق أو التقیید من خطاب ثان یکون مدلوله التوسعة تارة کما فیما ورد فی بطلان التصویب وعدم اختصاص الشریعة بالعالمین بها، والتقیید والتضیق أخری کما فیما ورد فی إعتبار قصد التقرب فی الصلاة وبتعبیر آخر تکون نتیجة الخطاب الثانی نتیجة الإطلاق أو التقیید فی مدلول الخطاب الأوّل، فقد ظهر أنّ کل مورد یؤخذ فیه بإطلاق الموضوع أو ا لمتعلّق فلابدّ من إحراز کون القید من الإنقسامات الأوّلیة(1). وقد جعل قدس سره هذا الإحراز المقدمة الأولی من مقدمات الإطلاق.

أقول: الاطلاق فی الموضوع أو المتعلق تارة یکون بلحاظ مقام الثبوت، واخری بلحاظ مقام الاثبات والخطاب.

أمّا بحسب مقام الثبوت فالاطلاق لیس أمراً زائداً علی عدم أخذ الخصوصیة، والتقیید لیس إلاّ أخذ الخصوصیة فی الموضوع أو المتعلق. فیکون التقابل بینهما بالسلب والإیجاب وعلیه فمع عدم أخذ الخصوصیة ثبوتاً _ بلا فرق بین الانقسامات الأولیة والثانویه _ لا یعقل من الحاکم الملتفت إلی أنحاء الشیء، جعل الحکم مقیداً بها ویکون الاطلاق فیه ضروریاً ولو لعدم إمکان تقییده کما لا یخفی.

ومنه یظهر عدم صحة دعوی الملازمة بین استحالة التقیید واستحالة الإطلاق بلحاظ مقام الثبوت إذ لیس الإطلاق جمعاً بین القیود والخصوصیات فی موضوع

ص :350


1- (1) أجود التقریرات 1 / 528 و 104.

.··· . ··· .

الشَرح:

الحکم أو متعلّق التکلیف لیقال بأنّ عدم إمکان لحاظ قید یساوق لعدم أخذه، بل الإطلاق عبارة عن رفض القید وعدم أخذه فی موضوع الحکم أو متعلّق التکلیف.

أضف إلی ذلک أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید علی تقدیر کونه من قبیل العدم والملکة، فإنّه لا یقتضی إمکان التقیید فی کل مورد من الموارد، فالتقابل بین العمی والبصر لا یقتضی إمکان البصر فی کل موصوف بالعمی، وتقابل الجهل والعلم لا یقتضی إمکان إتصاف الجاهل بالعلم فی کل مورد کالعلم بذات اللّه ، فإنّ الجاهل بذاته المقدسة لا یمکن أن یتّصف بالعالم به.

والسرّ فی ذلک أنّ القابلیة بالإتصاف بالوجود بحسب النوع والصنف کافیة فی تقابل العدم والملکة، والشیء یعنی الکلّی الطبیعی بحسب نوعه قابل للإتصاف بالإطلاق والتقیید ویجری ذلک فی العلم والجهل أیضاً، _ من أنّ استحالة التقیید توجب ضرورة الإطلاق _ فلا یمکن أخذ العلم بحکم فی موضوع ذلک الحکم؛ لأنّ أخذه فیه خلف؛ لأنّ العلم بالحکم فرع تحقّق ذلک الحکم وثبوته مع قطع النظر عن العلم به، وفرض أخذه فی موضوعه فرض لعدم ثبوته بدونه، فیکون الحکم مطلقاً ثبوتاً بالإضافة إلی العالم به والجاهل به.

وأمّا الإتیان بالعمل بداعی الأمر به فقد تقدّم فی بحث التعبدّی والتوصّلی إمکان أخذه فی متعلّق التکلیف علی تقدیر دخالة قصد التقرب فی الملاک ثبوتاً.

وأما بحسب مقام الاثبات فانّما یصحّ التمسک بالإطلاق فیما إذا أمکن الأمرین فی مقام الثبوت، فیلاحظ الإطلاق فی الموضوع والمتعلق بلحاظ مقام الإثبات والإطلاق فی هذا المقام موقوف علی تمامیة مقدمات الإطلاق مع تمکن المتکلم من بیان القید للموضوع، أو المتعلق، أو الحکم، إذا کان کل من الإطلاق والتقیید فی

ص :351

تنبیه: وهو أنه یمکن أن یکون للمطلق جهات عدیدة، کان وارداً فی مقام البیان من جهة[1] منها، وفی مقام الإهمال أو الإجمال من أخری، فلا بد فی حمله علی الإطلاق بالنسبة إلی جهة من کونه بصدد البیان من تلک الجهة، ولا یکفی کونه بصدده من جهة أخری، إلاّ إذا کان بینهما ملازمة عقلاً أو شرعاً أو عادة، کما لا یخفی.

الشَرح:

مقام الثبوت أمراً ممکناً، وإلاّ فلو کان الإطلاق ضروریاً فی مقام الثبوت فلا حاجة إلی التمسک بمقام الإثبات.

وعلی ذلک فالإهمال فی مقام الإثبات أمر ممکن إذ یمکن أن یتعلّق به الغرض أو یطرء عدم التمکّن من بیان القید، وبذلک یمکن دعوی أنّ الإطلاق ینتفی فی مقام الإثبات إذا لم یتمکّن المتکلّم من بیان القید، کما یمکن الإهمال إذا کان غرض المولی الإهمال وعدم التعرض لحال الموضوع أو المتعلّق من حیث الإطلاق أو التقیید.

[1] وحاصله أنّه یمکن أن یکون للمطلق جهات مختلفة ولبعض الجهات عنوان آخر غیر عنوان المطلق، فإن احرز أنّ الخطاب وارد لبیان الحکم من جهة دون الجهات الأُخری بمعنی أنّ الخطاب کان فی مقام الإهمال من الجهات الأُخری، فلابدّ من الإقتصار علی خصوص الجهة التی احرز أنّه فی مقام البیان من تلک الجهة، وکون الخطاب وارداً فی مقام البیان من جهة لا یکفی للحکم بکونه فی مقام البیان من سائر الجهات، کما إذا ورد فی الخطاب العفو فی الصلاة عن الدم الأقل من الدرهم فی ثوب المصلّی وبدنه، وقد أحرز أنّ هذا الخطاب فی مقام بیان العفو من جهة نجاسة الدم، وأمّا إذا کان للدم عنوان آخر ککونه من توابع ما لا یؤکل لحمه أو من المیتة فلا یحکم بالإطلاق من جهتهما إلاّ إذا کان بین الجهتین ملازمة فی الحکم عقلاً أو شرعاً أو عادةً، ولذا یقتصر فی العفو علی الجهة التی أحرز أنّ المتکلم فی مقام

ص :352

.··· . ··· .

الشَرح:

بیان الحکم من تلک الجهة.

وأوضح منه قوله «فَکُلُوا مِمّا أمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ»(1)، فإنّ المقدار المحرز منه هو کون الخطاب بصدد بیانه أنّ صید الکلب المعلَّم لیس کصید غیره من الحیوانات التی یکون صیدها میتة، وأمّا بیان الجواز الذاتی وحلّیة الحیوان الذی یصیده الکلب المعلّم فلا تکون الآیة الکریمة بصدد بیانه فلا یجوز التمسک باطلاقها فیما إذا شک فی کون الحیوان الذی صاده الکلب ممّا یحرم فی الشریعة أکله وأنّه داخل فی المسوخ مثلاً أو لا یحرم أکله، إذ لیست الآیة فی مقام بیان هذه الحلیة الذاتیة کما أنّه لیس فی مقام بیان جواز أکل موضع عقر الکلب بلا غسل أیضاً إذ لا یکون وارداً فی مقام جواز الأکل من حیث طهارة موضعه أو عدم البأس بنجاسته.

أمّا المحقّق النائینی قدس سره فقد ذهب إلی انحصار جواز التمسک بالاطلاق بما إذا أحرز أنّه فی مقام بیان الحکم من جهة، وأمّا إذا شک فی کونه فی مقام البیان من الجهة الأُخری، أو احرز عدمه فلا یجوز التمسک بالإطلاق للإلتزام بثبوت الحکم من سائر الجهات وذلک لعدم إحراز کونه فی مقام البیان من غیر الجهة المحرزة.

لا یقال: الأصل عند العقلاء فی الخطاب الصادر هو کون المتکلم فی مقام البیان من حیث تمام قیود الموضوع والمتعلق، وإذا احتمل کونه فی مقام البیان من سائر الجهات أیضاً فالأصل یقتضی کونه فی مقام البیان من الجهة المشکوکة أیضاً.

فإنّه یقال: الأصل عند العقلاء وإن کان کما ذکر إلاّ أنّ مورده ما إذا احتمل کونه فی مقام الإهمال رأساً، وأمّا إذا أحرز أنّه فی مقام البیان من جهة، وشک فی کونه فی

ص :353


1- (1) سورة المائدة: الآیة 4.

.··· . ··· .

الشَرح:

مقام البیان من سائر الجهات فلا أصل فی البین من العقلاء(1).

أقول: یصح ما ذکره قدس سره من عدم جواز التمسک بالإطلاق عند الشک فی خصوص ما إذا شک فی أنّ الخطاب إنّما ورد لبیان حکم واحد للطبیعی فقط أو أکثر منه بحیث یثبت لبعض افراده حکم آخر کطهارة موضع عقر الکلب أو طهارة الدم الموجود فیه.

وأمّا إذا شک فی ثبوت أصل الحکم للمطلق من جهة اُخری _ ولو انطبق علی بعض وجوداته عنوان آخر _ فلا موجب للإلتزام بالإهمال بل یحرز کونه فی مقام البیان من تلک الجهة الثانیة بالأصل وبالاطلاق یثبت الحکم.

نعم لو ثبت لذلک العنوان الآخر حکم مخالف للمطلق بخطاب آخر، فإن کان أحد الحکمین ترخیصیاً والحکم الآخر إلزامیاً، یلتزم بثبوت الحکم الترخیصی فی الوجودات التی لم ینطبق علیها العنوان الآخر، ومن هذا القبیل الدم الأقلّ من الدرهم فیحکم بصحة الصلاة معه حتی لو کان دم ما لا یؤکل لحمه مع ملاحظة العفو عنه فی الصلاة ویحکم بمانعیته للصلاة مع ملاحظة النهی عن الصلاة فی أجزاء ما لا یؤکل لحمه ورطوباته وکل شیء منه، ولو کان کلا الحکمین المتخالفین الزامیین، لا محالة یتعارضان فی مورد إجتماعهما ویرجع إلی الأصل لو لم یکن فی البین قرینة علی دخول المجمع فی أحدهما المعین.

ویشهد له الحکم بعدم العفو فی الدم الأقلّ من الدرهم إذا کان من غیر مأکول اللحم بمقتضی الجمع بین ما دلّ علی مانعیة أجزاء غیر مأکول اللحم ورطوباته وما

ص :354


1- (1) أجود التقریرات 1 / 528.

.··· . ··· .

الشَرح:

دلّ علی العفو عن الدّم الأقل من الدرهم فی ثوب المصلّی والحکم ببطلان الصلاة فی الدم من مأکول اللحم إذا کان أکثر من الدرهم بمقتضی الجمع بین ما دل علی العفو عن الدم الأقل من الدرهم، وموثقة ابن بکیر(1) الدالة علی جواز الصلاة فی کل شیء منه إذا ذکاه الذابح.

وبالجملة لو تمّ ما ذکره المحقق النائینی قدس سره _ من أنّه مع کون الخطاب وارداً فی بیان الحکم من جهة لا یثبت کونه فی مقام البیان من جهة أخری ولو عند الشک _ لوجب الالتزام بأنّ لا یتمسک باطلاق المطلق إذا انطبق علی بعض أفراده، عنوان یکون الحکم فی تلک الافراد بهذا العنوان المنطبق علیها غیر متیقن، کما إذا ورد الأمر بتغسیل الموتی وشک فی إطلاق الحکم لما إذا کان المیت قاتلاً لنفسه، فإنّه یمکن دعوی أنّ الحکم بوجوب التغسیل للمیت متیقن إذا لم ینطبق علیه عنوان آخر، وأمّا إذا انطبق علیه عنوان آخر مثل «قاتل نفسه» فوجوب التغسیل له غیر متیقن إذ لعلّ أن یکون هذا العنوان مانعاً من الحکم.

ص :355


1- (1) الوسائل: ج 3، باب 2 من أبواب لباس المصلی، الحدیث 1.

فصل

إذا ورد مطلق ومقید متنافیین، فإما یکونان مختلفین فی الإثبات والنفی، وإما یکونان متوافقین[1]، فإن کانا مختلفین مثل (أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة کافرة) فلا إشکال فی التقیید، وإن کانا متوافقین، فالمشهور فیهما الحمل والتقیید، وقد استدل بأنه جمع بین الدلیلین وهو أولی.

وقد أورد علیه بإمکان الجمع علی وجه آخر، مثل حمل الأمر فی المقید علی الإستحباب.

وأورد علیه بأن التقیید لیس تصرفاً فی معنی اللفظ، وإنما هو تصرف فی وجه من وجوه المعنی، اقتضاه تجرده عن القید، مع تخیل وروده فی مقام بیان تمام المراد، وبعد الإطلاع علی ما یصلح للتقیید نعلم وجوده علی وجه الإجمال، فلا إطلاق فیه حتی یستلزم تصرفاً، فلا یعارض ذلک بالتصرف فی المقید، بحمل أمره علی الإستحباب.

الشَرح:

المطلق والمقید المتنافیان

[1] الظاهر أنّه لیس مورد الکلام ما إذا تعلّق التکلیف أو الوضع بمرکب اعتباری فی خطاب وکان خطاب آخر قد تعلّق الأمر فیه بشیءٍ عند الإتیان بذلک المرکب، أو تعلّق الأمر فی الخطاب الثانی بحصة خاصة من المرکب کالأمر بالوضوء عند الإتیان بالصلاة أو بالصلاة مع الطهارة، والأمر بطلاق المرأة فی طهرها أو بالإستشهاد عند طلاقها، إلی غیر ذلک ممّا یکون الأمر فی تلک الموارد ظاهراً فی الإرشاد إلی دخل الخصوصیة فی متعلّق التکلیف أو فی موضوع الوضع شرطاً أو جزءً، وکذا إذا ورد النهی عن شیء عند الإتیان بالمرکب أو عن حصة خاصة منه کقوله لا تصل فیما

ص :356

وأنت خبیر بأن التقیید أیضاً یکون تصرفاً فی المطلق، لما عرفت من أن الظفر بالمقید لا یکون کاشفاً عن عدم ورود المطلق فی مقام البیان، بل عن عدم کون الإطلاق الذی هو ظاهره بمعونة الحکمة، بمراد جدّی، غایة الأمر أن التصرف فیه بذلک لا یوجب التجوز فیه، مع أن حمل الأمر فی المقید علی الاستحباب لا یوجب تجوزاً فیه، فإنه فی الحقیقة مستعمل فی الإیجاب، فإن المقید إذا کان فیه ملاک الإستحباب، کان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحباً فعلاً، ضرورة أن ملاکه لا یقتضی استحبابه إذا اجتمع مع ما یقتضی وجوبه.

نعم، فیما إذا کان إحراز کون المطلق فی مقام البیان بالأصل، کان من التوفیق بینهما، حمله علی أنه سیق فی مقام الإهمال علی خلاف مقتضی الأصل، فافهم. ولعل وجه التقیید کون ظهور إطلاق الصیغة فی الإیجاب التعیینی أقوی من ظهور المطلق فی الإطلاق.

الشَرح:

لا یؤکل لحکه أو لا تتکلّم فی صلاتک، وکالنهی عن بیع مکیل أو موزون لم یکل أو لم یوزن، وغیر ذلک مما یکون النهی فیها ارشاداً إلی مانعیّة ذلک الشیء والفساد معه، وبالجملة فالموارد التی یکون الأمر والنهی فیها إرشادیاً خارجة عن مورد الکلام فی المقام.

ثمّ إنّه ربّما لا یکون بین خطابی المطلق والمقید تناف لاختلاف الموضوع فیهما کما إذا ورد الأمر بعتق رقبة عند إفطار الصوم، وورد الأمر بعتق رقبة مؤمنة عند ظهار زوجته، فإنّه لا موجب فی مثل ذلک لرفع الید عن ظهور شیء من الخطابین، وکذلک إذا ورد فی خطاب «اعتق رقبة»، وفی خطاب آخر «أعتق رقبة مؤمنة» مع القرینة علی تعدّد التکلیف بحیث لا یسقط الأمر بالمطلق مع موافقة الأمر بالمقید کما إذا کان عتق الرقبة مستحباً وعتق المؤمنة واجباً.

ص :357

.··· . ··· .

الشَرح:

وأمّا إذا کان بین الخطابین تناف فربّما یکون أحد الخطابین إیجاباً والآخر نفیاً کما إذا دلّ خطاب علی الأمر بعتق رقبة، والآخر علی النهی عن عتق رقبة کافرة، فإنّه یرفع الید عن إطلاق المتعلّق فی الأمر لما تقدم من أنّ النهی فی أمثال ذلک ظاهره الإرشاد إلی المانعیة وعدم الاجزاء، أو أنّه نهی تحریمی لا یمکن أن یعمّه الأمر بالمطلق نظیر ما یقال فی النهی عن صوم یوم العیدین بعد ثبوت الأمر بالصوم فی مطلق الأیّام، ونظیر ذلک ما ورد الأمر بإکرام العالم وورد النهی عن إکرام العالم الفاسق، فإنّ مع النهی عن إکرامه لا یمکن أن یطلب إکرامه.

وأمّا إذا کان الخطابان متوافقین وإیجابیین مع فرض وحدة التکلیف، فالمشهور فیه حمل المطلق علی المقید، ویستدل لذلک بأنّ به یجمع بین خطابی المطلق والمقید.

وردّ بأنّه یمکن الجمع بینهما بوجه آخر وهو حمل الأمر بالمقید فی خطابه علی بیان أفضل الافراد، المعبّر عنه باستحباب اختیاره.

وأجیب عن الردّ بأنّ رفع الید عن إطلاق المطلق لا یلازم تصرفا فی استعمال المطلق بأن یرفع الید عن ظهوره؛ لأنّ مع خطاب الأمر بالمقید یرتفع ظهوره الإطلاقی بانتفاء بعض مقدمات الإطلاق، حیث یعلم بعد ورود خطاب المقید، عدم ورود خطاب المطلق فی مقام بیان تمام الموضوع لوجوب العتق، بخلاف الأمر فی خطاب المقید فإنّ حمله علی الإستحباب یقتضی رفع الید عن ظهوره الوضعی.

وقد أجاب الماتن عن هذا الوجه: بأنّ رفع الید عن إطلاق المتعلّق أیضاً تصرّف فی ظهوره وترک للعمل به، وذلک لأنّ من مقدمات الإطلاق کون المتکلّم بالخطاب فی مقام البیان، دون الإهمال والإجمال فیکون مدلول خطابه أنّ تمام الموضوع

ص :358

.··· . ··· .

الشَرح:

لوجوب العتق هو الرقبة، فیصحّ أن ینسب إلی المتکلّم أنّه أظهر بخطاب المطلق، أنّ الموضوع لحکمه هو الطبیعی وخطاب المقیّد لا یوجب انثلام هذا الظهور أصلاً، وإنّما یوجب رفع الید عن أصالة التطابق بینه وبین مقام الثبوت علی ما تقدم، هذا أوّلاً.

وثانیاً أنّ حمل خطاب المقیّد علی أفضل الافراد لیس من التصرف فی الظهور الوضعی فی الصیغة باستعمالها فی الإستحباب تجوّزٌ، بل تستعمل الصیغة فی الوجوب ولکن بما أنّ المقیّد مشتمل علی ملاک زائد، فیتصف بکونه أفضل الافراد.

نعم إذا أحرز الإطلاق فی خطاب المطلق بالأصل المشار إلیه سابقاً یکون التوفیق بین الخطابین بأنّه عند القاء خطاب المطلق کان فی مقام الإهمال فیقدم المقید.

وذکر أیضاً أنّ وجه تقدیم خطاب المقیّد فی الوجوب التعیینی علی خطاب المطلق لعلّه قوّة ظهوره بالإضافة إلیه.

أقول: ما ذکره من أنّه لو کان الحمل علی کون المتکلم فی خطاب المطلق فی مقام البیان بمقتضی الأصل، لأمکن کشف أنّه کان فی مقام الإهمال، غیر صحیح، فإنّه یوجب بطلان الإطلاق رأساً بحیث لا یجوز التمسک به فی رفع احتمال قید آخر، کما ذکر ذلک سابقاً فی ردّ مسلک الشیخ قدس سره .

وامّا قوة الظهور فلا وجه لها، إذ کما أنّ دلالة المطلق علی کون متعلّق التکلیف هو الطبیعی من غیر دخالة قید آخر بالإطلاق فکذلک دلالة المقیّد علی کون الوجوب المتعلق بالمقیّد تعیینی بالإطلاق ومقدمات الحکمة أیضاً، فلا ترجیح لأحد الظهورین علی الآخر.

ص :359

وربما یشکل بأنه یقتضی التقیید فی باب المستحبات[1]، مع أن بناء المشهور علی حمل الأمر بالمقید فیها علی تأکد الإستحباب، اللّهمّ إلاّ أن یکون الغالب فی هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبیة، فتأمل.

الشَرح:

لا یقال: لم یثبت التنافی بین خطابی المطلق والمقید فی الفرض، فإنّه یمکن الإلتزام بتعدّد المطلوب بأن یکون الطبیعی مطلوباً والمقید مطلوباً آخر، وإن کان یسقط التکلیفان بالإتیان بالمقید.

فانّه یقال: لا یمکن ذلک إذا فرض أنّ الإتیان بالمطلق لا یکفی فی سقوط التکلیف بالمقیّد ولکن الإتیان بالمقیّد یوجب سقوط التکلیف بالمطلق، فإنّ مع بقاء الأمر بالمقید ولزوم الإتیان به وسقوط التکلیف بالمطلق بالإتیان بالمقید، یوجب کون الأمر بالمطلق لغواً فإنّه یرجع إلی التخییر بین الأکثر والأقل.

فالصحیح فی المقام هو أنّ الوجه فی تقدیم خطاب المقیّد وحمل خطاب المطلق علیه، هو ما ذکرنا سابقاً من أنّ خطاب المقید وإن کانت دلالته علی الوجوب التعیینی بالإطلاق، إلاّ أنّه کالخاص قرینة عرفیة علی المراد الجدی من خطاب المطلق، ومجرد کون کلّ من الدلالتین بالوضع أو بالإطلاق أو بالإختلاف لا یمنع عن القرینیة.

والأمر بکل من المطلق والمقید بنحو تعدّد المطلوب کما فرض فی المناقشة، غیر ممکن، نعم الأمر بعتق رقبة غیر مؤمنة مترتباً علی عصیان الأمر بعتق رقبة مؤمنة ممکن، ولکن هذا الأمر الترتبی خارج عن مدلول الخطابین.

الإطلاق والتقیید فی المستحبات

[1] وحاصل الإشکال: لو کان اللازم فی الواجبات هو حمل الأمر بالمطلق علی

ص :360

أو أنه کان بملاحظة التسامح فی أدلة المستحبات، وکان عدم رفع الید من دلیل استحباب المطلق بعد مجئ دلیل المقید، وحمله علی تأکد استحبابه، من التسامح فیها.

ثم إن الظاهر أنه لا یتفاوت فیما ذکرنا بین المثبتین والمنفیین بعد فرض کونهما متنافیین، کما لا یتفاوتان فی استظهار التنافی بینهما من استظهار اتحاد التکلیف، من وحدة السبب وغیره، من قرینة حال أو مقال حسبما یقتضیه النظر، فلیتدبر.

تنبیه: لا فرق فیما ذکر من الحمل فی المتنافیین، بین کونهما فی بیان الحکم التکلیفی، وفی بیان الحکم الوضعی، فإذا ورد مثلاً: إن البیع سبب، وإن البیع الکذائی سبب، وعلم أن مراده إما البیع علی إطلاقه، أو البیع الخاص، فلا بد من التقیید لو کان ظهور دلیله فی دخل القید أقوی من ظهور دلیل الإطلاق فیه، کما هو لیس ببعید، ضرورة تعارف ذکر المطلق وإرادة المقید __ بخلاف العکس __ بإلغاء القید، وحمله علی أنه غالبی، أو علی وجه آخر، فإنه علی خلاف المتعارف.

الشَرح:

المقید بالإلتزام بأنّ متعلّق الوجوب ثبوتاً هو المقیّد للزم الإلتزام بذلک فی المستحبات أیضاً کما إذا ورد فی خطاب الأمر بزیارة الحسین علیه السلام فی نصف شعبان، وورد فی خطاب آخر الأمر بزیارته لیلة نصف شعبان، مع أنّهم لا یلتزمون بالتقیید بل یلتزمون باستحبابین أحدهما زیارته علیه السلام فی نهار نصف شعبان ثانیهما زیارته علیه السلام فی لیلته.

ولکن لا یخفی أنّ الجواب فی مثل ذلک ظاهر لقیام قرینة خارجیة علی استحباب زیارته علیه السلام فی کل زمان، وإن کان الإستحباب مؤکّداً فی بعض الأزمنة، ولذا لو زاره علیه السلام فی کل من لیلة نصف شعبان ونهاره فقد أتی بمستحبین، وامّا لو لم یکن الأمر کذلک کما إذا ورد الأمر بالإغتسال یوم الجمعة بعد الفجر، وورد فی خطاب آخر

ص :361

.··· . ··· .

الشَرح:

الأمر بالإغتسال یوم الجمعة بعد الفجر إلی قبل الزوال فیأتی فیه ما تقدّم فی الواجبات من حمل المطلق علی المقید، ودعوی أنّ غلبة تعدّد المطلوب فی المستحبات قرینة عرفیة علی عدم الحمل لا تخلو من المناقشة.

إلاّ أن یدعی عدم إحراز وحدة الحکم فی المستحبات علی ما ذکره المحقق النائینی قدس سره فی وجه افتراق المستحبات عن الواجبات من أنّ خطاب المقید فی المستحبات مقترن بجواز الترک فلا یکون تناف بین خطابه وخطاب المقیّد(1).

نعم لو کان متعلق الطلب صرف الوجود من الطبیعی وکان خطاب المقید ناظراً إلی تعیین صرف الوجود یجری فیه ما تقدم فی الواجبات من حمل المطلق علی المقید، وبتعبیر آخر انّ مع إحراز وحدة الحکم الإستحبابی لا یکون أیّ فرق بین الواجبات والمستحبات.

وذکر الماتن قدس سره وجهاً آخر فی الفرق بین الواجبات والمستحبات بالإلتزام فی المستحبات باستحباب المطلق أیضاً وعدم حمله علی المقید، إذ عدم الحمل علی المقید من مصادیق التسامح فی أدلة السننن بالإلتزام باستحباب المطلق واستحباب المقید بالمرتبة الأکیدة.

ولا یخفی ما فیه: فإنّ مقتضی التسامح فی أدلة السنن عدم ملاحظة شرائط الإعتبار فی سند الخبر فی استحقاق المثوبة الواردة فیه لا حمل الخبر علی غیر مدلوله العرفی، حیث إنّه إذا فرض أنّ خطاب المقید قرینة عرفیة علی المراد الجدی من خطاب المطلق کان الأخذ بمدلول خطاب المطلق _ مع قطع النظر عن خطاب

ص :362


1- (1) أجود التقریرات 1 / 539.

.··· . ··· .

الشَرح:

المقید _ طرحاً للقرینة.

والعمدة هو ما ذکرناه من أنّ فی موارد الإستحباب لا یحرز وحدة الحکم بخلاف موارد الإیجاب، حیث إنّ الوجوب التخییری بین فعلین وواحد منهما غیر معقول لأنّه تخییر بین الأقل والأکثر، فلا یکون فی البین إلاّ وجوب واحد ثبوتاً، وخطاب المقید قرینة علی تعیین متعلق ذلک الوجوب، مضافاً إلی أنّ الإستحباب المتعلّق بالمقید مقرون بجوازالترک فیمکن أن یتمسک باطلاق الأمر بالمطلق فی إثبات مطلوبیة صرف الوجود ولو من غیر المقید فیکون الأمر بالمقید من طلب أفضل الافراد.

بقی فی المقام أمور:

منها: أنّ ما تقدم فی وجه حمل المطلق علی المقید لا یجری إذا کان المدلول فی کل من خطابی المطلق والمقید انحلالیاً مع توافق الخطابین فی الإیجاب والسلب، کما إذا کان مدلول کل منهما ثبوت التکلیف أو الوضع لکل من وجودات الموضوع، کما إذا دلّ خطاب علی حلّیّة البیع کقوله «أحَلّ اللّهُ الْبَیْعَ»، ودلّ خطاب آخر علی حلّ البیع یدا بید، فلا یقتضی الخطاب الثانی حمل المطلق فی الخطاب الأوّل علیه، بل یؤخذ بإطلاقه وعموم الحلّ لکل من أفراد البیع، وذکر الحلّ لبعض أفراد البیع فی الخطاب الثانی غیر مناف للعموم إلاّ إذا بنی علی ثبوت المفهوم للقید.

وما فی عبارة الماتن قدس سره من الإلتزام بالتقیید إذا احتمل دخالة القید فی الحکم لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه قد تقدم أنّ ذکر الحکم للمقید فی خطاب مستقل لا تنحصر فائدته فی المفهوم، فمع ورود الخطاب الإنحلالی فی المطلق لعلّ یکون

ص :363

.··· . ··· .

الشَرح:

الغرض إبلاغ الحکم تدریجاً أو کون المقیّد مورد الإهتمام، لکثرة الإبتلاء به ونحوها، فلا معیّن للإلتزام بالتقیید.

نعم إذا کان الخطابان مختلفین بالإضافة إلی الإیجاب والسلب یرفع الید عن إطلاق المطلق بالخطاب الوارد فی القید علی خلاف حکم المطلق کما إذا ورد النهی عن بیع الغرر، فإنّه یرفع الید به عن إطلاق حلّ البیع.

فتحصل أنّ حمل خطاب المطلق علی المقید یکون فی صورتین:

الصورة الأولی: أن یکون الحکم المجعول المدلول علیه بالخطابین واحداً تعلّق ذلک الحکم فی أحد الخطابین بالمطلق وفی الآخر بالمقیّد، ووحدته إمّا تستفاد من ذکر السبب الواحد لکل من الحکم المتعلّق بالمطلق، والحکم المتعلّق بالمقید کما إذا علّق فی خطاب، الأمر بعتق الرقبة علی الإفطار، وفی خطاب آخر علّق الأمر بعتق الرقبة المؤمنة أیضاً علی الإفطار، أو تستفاد من أمر آخر کالقرینة الداخلیة أو الخارجیة.

الصورة الثانیة: ما إذا کان الحکم المدلول علیه فی کل من الخطابین متنافیاً للآخر لاختلاف الخطابین فی الإیجاب والسلب کما تقدم، ولو ذکر سبب فی خطاب الأمر بالمطلق ولم یذکر سبب فی خطاب الأمر بالمقید کما إذا ورد فی خطاب، «من أفطر فی نهار شهر رمضان فعلیه عتق رقبة»، وورد فی خطاب آخر الأمر بعتق الرقبة المؤمنة، بلا ذکر السبب فإنّه لو کان الخطاب الثانی إرشاداً إلی أخذ القید ودخالته فی موارد الأمر بالعتق، لوجب رفع الید عن الإطلاق فی الخطاب الأوّل، وامّا لو کان الخطاب وارداً فی مقام الحث علی عتق الرقبة المؤمنة واستحبابه لوجب الأخذ بالإطلاق فی مورد وجوبه بالإفطار، لعدم التنافی المعتبر فی حمل المطلق علی المقیّد أصلاً.

ص :364

تبصرة لا تخلو من تذکرة، وهی: إن قضیة مقدمات الحکمة فی المطلقات تختلف[1] حسب اختلاف المقامات، فإنها تارة یکون حملها علی العموم البدلی، الشَرح:

ومنها: إذا کانت النسبة بین الخطابین عموم من وجه فإن لم یکن بین الحکمین تناف فی مورد اجتماع العنوانین فیؤخد بهما فیه، کما إذا ورد فی خطاب الأمر بإکرام العالم، وفی الخطاب الآخر الأمر بإکرام الهاشمی فیؤخذ بهما فی العالم الهاشمی، ومع کون التکلیف فی کل منهما إلزامیاً تکون مخالفتهما فی المجمع من قبیل مخالفة التکلیفین فیستحق المکلف العقاب علی مخالفة کل منهما إذا کان کل من الحکمین إنحلالیاً. وامّا إذا کان بین الخطابین تناف بحسب حکمها کما إذا کانا مختلفین فی الإیجاب والسلب، وقعت المعارضة بینهما فی مورد إجتماعهما فیسقطان فیه لو لم یکن فی البین قرینة علی تقدیم أحدهما أو ترجیح أحدهما علی الآخر فی مقام المعارضة هذا إذا کان مدلول کل منهما إنحلالیاً.

ولو کان مدلول أحد الخطابین طلب صرف الوجود من الشیء ومدلول الآخر النهی عن عنوان آخر، فإن کان الترکیب بین العنوانین اتحادیّاً فلا یثبت بالإطلاق _ فی ناحیة صرف وجود الطبیعی _ ترخیص فی التطبیق بالإضافة إلی المجمع، علی ما ذکرنا فی مبحث اجتماع الأمر والنهی، حیث ذکرنا أنّ الترخیص فی التطبیق ینتفی بالإضافة إلی المجمع کما هو مقتضی الجمع العرفی بین الحکم الترخیصی الثابت للشیء بعنوان، والنهی عنه بالعنوان الآخر بخلاف ما إذا کان الترکیب بینهما إنضمامیاً، فإنّه لا موجب لرفع الید عن خطاب الأمر بالطبیعی بالإضافة إلی المجمع غایة الأمر یکون الأمر به علی نحو الترتب.

[1] منها: ما أشار إلیه بقوله «تبصرة»: وهی أنّ مقتضی الإطلاق یختلف بحسب الموارد فقد یکون مقتضاه کون الحکم الوارد فی الخطاب إنحلالیاً بحسب انحلال

ص :365

وأخری علی العموم الاستیعابی، وثالثة علی نوع خاص مما ینطبق علیه حسب اقتضاء خصوص المقام، واختلاف الآثار والأحکام، کما هو الحال فی سائر القرائن بلا کلام.

الشَرح:

عنوان الموضوع سواء کان الحکم تکلیفاً أو وضعیّاً، کما فی قوله «أَحَلّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1)، وما ورد فی أنّ غسل المیّت واجب، وقد یکون مقتضاه العموم البدلی کما لو ورد «أعتق رقبة إذا أفطرت فی نهار شهر رمضان أو خالفت الیمین»، هذا بالإضافة إلی الموضوع أو متعلّق التکلیف، وأمّا بالإضافة إلی إطلاق الحکم فقد تقدم فی بحث الأوامر انّ کون وجوب الفعل نفسیاً عینیاً یستفاد من إطلاق الوجوب المستفاد من مادّة الأمر أو من صیغته أو غیرهما فإنّه إذا قید وجوب فعل بوجوب فعل آخر ینتزع منه الوجوب الغیری وإذا قید بمادام لم یحصل الفعل من الآخر یکون الوجوب کفائیاً.

وأمّا الوجوب التعیینی فقد ذکرنا أنّه یستفاد من إطلاق المتعلّق بمعنی عدم ذکر العدل له، فإنّ الوجوب فی موارد التخییری یتعلّق بالجامع بین الفعلین أو الأفعال ولو کان ذلک الجامع إنتزاعیاً فمن عدم ذکر العدل لمتعلّق التکلیف فی الخطاب، یثبت أنّ الوجوب تعیینیّ، وذکر العدل له کاشف عن کون التکلیف ثبوتاً متعلقاً بالجامع بینهما وإلاّ فلا یتعلّق الوجوب بکل من الفعلین مشروطاً بترک الآخر، فإنّ لازمه ثبوت التکلیفین واستحقاق العقابین عند ترکهما، وهذا لا یصح إلاّ فی التخییر عند تزاحم التکلیفین فی مقام الإمتثال مع عدم ثبوت المرجّح لأحدهما علی الآخر.

وبالجملة شأن مقدمات الحکمة إخراج ما هو مهمل بحسب الوضع عن

ص :366


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.

فالحکمة فی إطلاق صیغة الأمر تقتضی أن یکون المراد خصوص الوجوب التعیینی العینی النفسی، فإن إرادة غیره تحتاج إلی مزید بیان، ولا معنی لإرادة الشیاع فیه، فلا محیص عن الحمل علیه فیما إذا کان بصدد البیان، کما أنها قد تقتضی العموم الاستیعابی، کما فی (أحل اللّه البیع) إذ إرادة البیع مهملاً أو مجملاً، ینافی ما هو المفروض من کونه بصدد البیان، وإرادة العموم البدلی لا یناسب المقام، ولا مجال لاحتمال إرادة بیع اختاره المکلف، أیّ بیع کان، مع أنها تحتاج إلی نصب دلالة علیها، لا یکاد یفهم بدونها من الإطلاق، ولا یصح قیاسه علی ما إذا أخذ فی متعلق الأمر، فإن العموم الاستیعابی لا یکاد یمکن إرادته، وإرادة غیر العموم البدلی، وإن کانت ممکنة، إلاّ أنها منافیة للحکمة، وکون المطلق بصدد البیان.

الشَرح:

الإهمال عندما یرد فی الخطاب ونتیجة الخروج عن الإهمال تختلف بحسب المقامات من کون مقتضاه عموماً شمولیاً أو بدلیاً أو یعین نوع الطلب أو متعلّقه، فتدبّر.

ولا یخفی أنّ إدخال مباحث أداة العموم علی ما تقدم وجل مسائل المطلق والمقید فی مسائل علم الأصول علی ما ذکروا فی تعریف علم الأصول بأنّها هی المسائل التی تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم مشکل، فإنّ المباحث المشار إلیها یعیّن بها موضوع الحکم أو متعلق التکلیف ویعیّن فیها الظواهر الدالّة علیهما، فتدبّر.

ص :367

فصل

المجمل والمبیّن

والظاهر أن المراد من المبین فی موارد إطلاقه، الکلام الذی له ظاهر، ویکون بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنی[1]، والمجمل بخلافه، فما لیس له ظهور مجمل وإن علم بقرینة خارجیة ما أرید منه، کما أن ماله الظهور مبین وإن علم بالقرینة الخارجیة أنه ما أرید ظهوره وأنه مؤول، ولکل منهما فی الآیات والروایات، وإن کان أفراد کثیرة لا تکاد تخفی، إلاّ أن لهما أفراد مشتبهة وقعت محل البحث والکلام للأعلام، فی أنها من أفراد أیهما؟ کآیة السرقة، ومثل «حرمت علیکم أمهاتکم» و «أحلت لکم بهیمة الانعام» مما أضیف التحلیل إلی الأعیان ومثل (لا صلاة إلاّ بطهور).

ولا یذهب علیک أن إثبات الإجمال أو البیان لا یکاد یکون بالبرهان، لما عرفت من أن ملاکهما أن یکون للکلام ظهور، ویکون قالباً لمعنی، وهو مما یظهر بمراجعة الوجدان، فتأمل.

ثم لا یخفی أنهما وصفان إضافیان، ربما یکون مجملاً عند واحد، لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لدیه، ومبیّناً لدی الآخر، لمعرفته وعدم التصادم بنظره، فلا یهمنا التعرض لموارد الخلاف والکلام والنقض والابرام فی المقام، وعلی اللّه التوکل وبه الإعتصام.

الشَرح:

تعریف المجمل والمبیّن

[1] المجمل والمبیّن وصفان، یتّصف الکلام بأحدهما، فیقال: هذا الکلام أو أنّ هذا اللفظ مجمل، کما یوصف کل منهما بأنّه مبیّن، والملاک فی الإتصاف بالمبین هو

ص :368

.··· . ··· .

الشَرح:

تمامیة ظهور الکلام أو اللفظ الوارد فیه، فی معنی سواء کان منشأ الظهور، العلم بوضوح مفرداته أو القرینة الخاصة أو العامة، کما أنّ منشأ الظهور فی اللفظ أیضاً، امّا العلم بوضعه للمعنی الفلانی أو القرینة علی إرادته منه، بخلاف توصیف الکلام أو اللفظ بالمجمل فإنّ ملاک توصیفه عدم ظهوره فی معنی خاص لتعدد الوضع فی مفرداته، وعدم القرینة علی المراد فی استعماله، أو مع القرینة الصارفة عن ظهوره الوضعی وعدم قرینة معینة علی أحد معانیه المجازیة، أو کون الکلام مقترناً بما یصلح أن تکون قرینة علی خلاف ظهوره الوضعی أو الإطلاقی، أو من قبیل التکلم بالرمز کأوائل السور، أو أنّ أهل المحاورة لا یعرف ظهوره الوضعی کألفاظ العبادات بناءاً علی الصحیحی، أو لا یعرفون معناها المجازی بناءاً علی استعمالها فی المعانی الشرعیة وکانت بنحو المجاز فی الإستعمال.

وذکر الماتن قدس سره کغیره انّ وصفی المجمل والمبیّن إضافیان، وربّما یکون الکلام أو اللفظ مجملاً عند أحد لعدم علمه بوضعه بخلاف شخص آخر فإنّه لعلمه بوضعه لا یکون مجملاً عنده، وکذا إذا تصادم ظهوره عند أحد بما حفّ به بخلاف الآخر لعدم تصادم ظهوره بنظره، ولکن لا یخفی أنّ الکلام أو اللفظ لا یتّصف بالإجمال إذا لم یکن الشخص جاهلاً بظهوره عند أهل المحاورة.

ولا یخفی أیضاً أنّه فرق بین المجمل والمهمل، فإنّ فی موارد الإجمال یکون للمجمل معنی یریده المتکلم، ولکن لم یکن الکلام المزبور دالاًّ علی ذلک المراد لاحدی الأمور المتقدمة بخلاف موارد الإهمال، فإنّ التوصیف بالإهمال وعدم الدلالة تارةً لعدم الوضع، وأخری لعدم القرینة، وثالثة لعدم إرادة المتکلم منه معنی خاصاً نظیر ما تقدم من ورود المطلق فی مقام الإهمال، فإنّ اللفظ من جهة وضعه

ص :369

.··· . ··· .

الشَرح:

مهمل بالإضافة إلی الإطلاق والتقیید، والمفروض أنّ المتکلم به أیضاً فی مقام الإهمال من جهتهما وبذلک یظهر الفرق بین کون المتکلم فی مقام الإهمال وکونه فی مقام الإجمال.

ثمّ إنّه لا یترتب أثر خاص لکون اللفظ مجملاً أو مهملاً وإنّما الحجیّة تترتّب علی الظهور الکلامی سواء کان بالوضع أو بالقرینة الخاصة أو العامة هذا کلّه بحسب الکبری.

وأمّا بحسب الصغری فقد وقع الکلام فی موارد من الکتاب والسنة، قیل بکون الکلام أو اللفظ الوارد فیه مجملاً کآیة السرقة(1)، ومثل قوله تعالی: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّه_اتِکُمْ»(2) و«أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیْمَة الأنْعامِ»(3) ممّا أضیف التحریم والتحلیل إلی الأعیان ومثل قوله علیه السلام «لا صلاة إلاّ بطهور»(4)، ممّا یتردّد الأمر فیه بین نفی الوصف أو الذات، ولکن لا نتعرض لذلک فی المقام بعد ما ذکرنا فی موارد الإستدلال بها من المباحث الفقهیّة عدم الإجمال فیها، وإن قامت القرینة فی بعضها کآیة السرقة علی خلاف ظهوره الأولی.

ص :370


1- (1) سورة المائدة: الآیة 38.
2- (2) سورة النساء، الآیة 23.
3- (3) سورة المائدة، الآیة 1.
4- (4) وسائل الشیعة: باب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

المقصد السادس: فی بیان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً

اشارة

وقبل الخوض فی ذلک لا بأس بصرف الکلام إلی بیان بعض ما للقطع من الأحکام[1] وإن کان خارجاً من مسائل الفن وکان أشبه بمسائل الکلام. لشدّة مناسبته مع المقام.

الشَرح:

مباحث القطع

فی القطع بالتکلیف وأن البحث فی بعض ما یترتب علیه خارج عن مسائل علم الاُصول

[1] قد جعل الماتن قدس سره المقصد السادس فی بیان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً وذکر أنّه لا بأس قبل البحث فیها بالتکلم فی بعض ما یترتب علی القطع بالحکم والتکلیف وأن لا یکون التکلم فیه خارجا عن مسائل علم الاُصول، وأشبه بالمسائل الکلامیة، ووجه التکلم فیه أنّه یناسب ما یذکر فی هذا المقصد للأمارات والطرق إلی الأحکام الفرعیة، ولعلّ نظرهُ قدس سره فی خروجه عن مسائل علم الاُصول إلی أنّ المسألة الاُصولیة کما ذکر فی مقدمة الکتاب هی التی تکون نتیجتها موجبة للعلم بالحکم الشرعی الفرعی، بأن تقع تلک النتیجة فی طریق استنباطه، أو التی ینتهی إلیها أمر الفقیه فی مقام العمل، فلا یکون نفس العلم بالحکم الفرعی الحاصل من الاستنباط کالعلم به الحاصل من غیره کضرورة ونحوها داخلاً فی مسائل علم الاُصول وکون ما یذکر أشبه بمسائل علم الکلام، فلأنّ البحث فی استحقاق العقاب والثواب علی مخالفة المنعم وإطاعته مسألة کلامیة، ومسألة وجوب اتباع العلم بالتکلیف عقلاً وکونه منجزا له کذلک شبیهة بتلک المسألة، وأما شدة المناسبة مع ما یذکر فی

ص :371

.··· . ··· .

الشَرح:

المقصد السادس فلأنّ نتیجة اعتبار الأمارات أن یثبت لها بعض ما کان للقطع بالتکلیف والحکم عقلاً مع أنّها معتبرة فی حق غیر العالم، والقاطع بالواقع، فیکون المناسب التعرض لبعض ما یترتب علی العلم والقطع عقلاً.

ویرجع إلی ما قرّرنا ما ذکر الشیخ الأنصاری قدس سره من أن البحث فی المقام فی الحجة علی الحکم الشرعی وإطلاق الحجة علی نفس القطع بالحکم والتکلیف مسامحة، فإنّ الحجة ما یقع وسطا فی قیاس استنباط الحکم الشرعی الفرعی الکلّی، فیقال عصیر العنب بعد غلیانه وقبل ذهاب ثلثیه مما یظن بحرمته، وکلّ ما یظن بحرمته بالظن المطلق أو الخاص یحرم، بخلاف العلم بالحرمة، فإن القول بأن المیتة مما علم حرمة أکلها، وکلّ ما علم حرمته یحرم، غیر صحیح، فإنّ العلم بالحرمة لا یمکن أن یؤخذ فی موضوع تلک الحرمة.

لا یقال: هذا جار فیالظن أیضا فإنّ حرمة العصیر العنبی لا یمکن أن یؤخذ فی موضوعها الظن بحرمته سواء کان ظنا مطلقا أو ظنّا خاصا.

فإنّه یقال: الحرمة المأخوذ فی موضوعها الظن بالحرمة هی حرمة طریقیة، والمأخوذ فی موضوعها الظن بالحرمة الواقعیة النفسیة، فلا إشکال فی أخذ الظن بالحکم والتکلیف وسطا فی قیاس الاستنباط بخلاف القطع بالحکم والتکلیف فإنه غیر قابل لجعل حکم طریقی بالإضافة إلی الحکم أو التکلیف المقطوع.

وهذا بناءً علی أن اعتبار الأمارة یکون بجعل الحکم التکلیفی الطریقی، وأما بناءً علی أنّه باعتباره علما بالواقع فالأمر کذلک أیضا، فیمکن وقوع خبر الثقة وسطا فی قیاس الاستنباط، فیقال العصیر العنبی مما قام خبر الثقة بحرمته بالغلیان، وکلّ ما

ص :372

.··· . ··· .

الشَرح:

قام خبر الثقة بحرمته یعلم حرمته، فلا محذور فی إطلاق الحجة علی خبر الثقة بخلاف نفس العلم الوجدانی بالحرمة فإنّه غیر قابل لأن یقع وسطا فی القیاس.

أقول: إنّه مع الإلتزام بأنّ المجعول فی الأمارات الحجیة بمعنی المنجزیة والمعذریة کما علیه الماتن قدس سره لا تقع الأمارة وسطا فی قیاس استنباط الحکم الشرعی بناءً علی أنّ الاستنباط إحراز نفس الحکم الشرعی الفرعی فإنّه لا نحرز نفس الحکم بالأمارة المعتبرة، بل یحرز تنجزه أو العذر فیه، فتکون الأمارة المعتبرة وسطا فی قیاس تنجّز الحکم والعذر فیه، وهذه الوسطیة تجری فی القطع بالحکم الشرعی أیضا فاللازم صحة إطلاق الحجة علیه.

اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ نتیجة المسألة الاُصولیة ما یمکن أن تقع وسطا فی إحراز تنجّز التکلیف والعذر فیه بالجعل کما فی الظنون لا ما یکون کذلک من غیر جعل، کما فیالقطع أو العلم بالتکلیف وجدانا.

وقد یقال: إنّ منجزیة القطع بالتکلیف أیضا بالإضافة إلی متعلّقه یکون بالجعل، فإن استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف الواصل ببناء العقلاء واعتبارهم، حیث إنّ مخالفته هتک للمولی وظلم علیه والظلم والتعدی یوجب استحقاق الذم ومحکوم علیه بالقبح ببنائهم فیکون القطع بالتکلیف وسطاً فی قیاس تنجّز التکلیف واستحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف المقطوع؛ وفیه أنّ ترتب استحقاق العقاب علی مخالفته بالقطع بالتکلیف مطلقا أو فیما أصاب إما لأنّ الاستحقاق أمر واقعی یدرکه العقل، أو أنّه نفس حکم العقل ولیس وراء حکم العقل شیء واقعی وعلی کلّ منهما لا یکون ترتبه علیه ببناء العقلاء واعتبارهم، ولذا یثبت هذا الاستحقاق فی

ص :373

فاعلم أن البالغ الذی وضع علیه القلم إذا التفت إلی حکم فعلی واقعی[1].

الشَرح:

المخلوق الأول من الإنسان قبل أن یتعدد العقلاء أو یتکثروا، وسیأتی التعرض لذلک فیما بعد إن شاء اللّه تعالی.

[1] قد ذکر قدس سره أنّ البالغ الذی وضع علیه قلم التکلیف إذا التفت إلی حکم شرعی فعلی واقعی أو ظاهری متعلق به أو بمقلدیه، فإمّا أن یحصل له القطع به، أو لا، فإن لم یحصل له القطع فلابد من أن ینتهی أمره إلی ما یستقل به العقل من اتباع الظن إن حصل له الظن، والتزم بتمام مقدمات الانسداد علی نحو الحکومة، وإن لم یحصل له الظن یتعیّن الرجوع إلی الاُصول العقلیة من البراءة والاشتغال والتخییر باختلاف الموارد علی حسب ما یأتی الکلام فیها فی محلّه، ثمّ قال: وحیث عمّمنا متعلق القطع ولم نقیّده بالأحکام الواقعیة وقیّدناه بالفعلی، لم یبق وجه لتثلیث الأقسام، ویکون التقسیم علی تعمیم متعلق القطع للحکم الواقعی والظاهری، وتقییده بالفعلی ثنائیاً لا محالة، فإنّ المکلف إمّا أن یکون قاطعاً بالوظیفة الشرعیه لنفسه أو لمقلدیه سواءً کانت تلک الوظیفة واقعیة أو ظاهریة فیعمل بها، وإن لم یکن قاطعا بها فلابد من الرجوع إلی ما استقل به العقل من اتباع الظن علی تقدیر الانسداد والحکومة فی موارده، وفی غیرها إلی الاُصول العقلیة.

أقول: قد ذکرنا أن مسلکه فی اعتبار الأمارة جعل الحجیة لها أی المنجزیة والمعذریة، والحجیة حکم وضعی لا تکون بنفسها حکما تکلیفیاً بالإضافة إلی الفعل، ولا مستتبعاً له فلا یکون فی موردها علم بالحکم الشرعی الفعلی الواقعی أو الظاهری بالإضافة إلی الواقعة الملتفت إلیها، بل قطع بالحجیة التی حکم علی الأمارة القائمة بحکم الفعل، لا حکم للفعل الذی قامت الأمارة علی حکمه، ومن الجملة لا یکون فی موارد الأمارات المعتبرة علی مسلکه قطع بحکم شرعی واقعی أو

ص :374

.··· . ··· .

الشَرح:

ظاهری بحیث یکون المقطوع حکماً شرعیاً فرعیاً.

ثم قال قدس سره : وإن أبیت إلاّ عن تثلیث الأقسام فالأولی أن یقال: إنّ المکلّف إمّا أن یحصل له القطع بالحکم الواقعی أو لا، فإن لم یحصل، فإما أن یقوم عنده طریق معتبر أو لا، ویرجع مع عدم حصول العلم وعدم قیام الأمارة المعتبرة إلی القواعد التی تقرّرت فی حق غیر القاطع بالحکم الواقعی، ولغیر من قام عنده الطریق المعتبر سواء کان تقرّرها بالشرع أو بالعقل والوجه فی الأولویة أنّه مع هذا النحو من التثلیث لا تتداخل الأقسام الثلاثة بحسب أحکامها، بأن یورد علیه بأنّ موارد الظن غیر المعتبرة مورد للاُصول العملیة مع أنّه علی تثلیث الشیخ قدس سره غیر داخل فی مواردها، کما أنّه لو اعتبر الشارع فی مورد غیر الظن طریقا کخبر غیر المتحرز عن الکذب فإنّه یتعیّن الأخذ به مع أنّ علی ما ذکره الشیخ داخل فی موارد الاُصول العملیة.

ما ذکره الشیخ قدس سره فی تثلیث حالات المکلف عند التفاته إلی الحکم الشرعی فی واقعة

أقول: لم یکن غرض الشیخ قدس سره مما ذکره فیالمقام بیان النتائج للمباحث المفصّلة الآتیة، بل کان غرضه بیان الموضوع للمباحث الآتیة، ولذا لم یذکر فیما ذکره حکم القطع ولا الظن، وذکر عند الشک الرجوع إلی الاُصول العملیة لکون الموضوع فی المقصد الثالث للمباحث المذکورة الاُصول العملیة لا نفس الشک، ولذا ذکر فی آخر کلامه فی المقام. فالکلام یقع فی مقاصد ثلاثة، وعلی التقسیم الثانی لا یعلم الموضوع فیالمباحث، بل لو کان الغرض مما ذکره فی المقام بیان النتائج للمباحث الآتیة لم یکن موجب للتقسیم أصلاً لا ثلاثیاً ولا ثنائیاً، بل کان المناسب أن یذکر بأنّه علی المکلّف عند التفاته إلی الحکم الشرعی للواقعة تحصیل المؤمن فیها برعایة الوظیفة الفعلیة فیها المقرّرة من قبل الشرع أو العقل، مع أنّ

ص :375

.··· . ··· .

الشَرح:

أشکال التداخل علی ما ذکره الشیخ قدس سره غیر صحیح، فإنّه لم یذکر أنّه مع حصول الظن یعمل بالظن ولا یرجع إلی الاُصول العملیة لیورد علیه بأنّه مع عدم اعتبار الظن یکون مورده مورد الاُصول العملیة، وما ذکر الماتن فی تعلیقته من أنّ اللازم مع اعتبار الشارع ما لا یفید الظن ولو نوعا کخبر غیر المتحرز عن الکذب هو العمل به، ولکن مقتضی کلام الشیخ قدس سره العمل بالاُصول العملیة فهو وإن یکن کما ذکر إلاّ أن هذا مجرّد فرض، وما ذکره الشیخ بملاحظة ما هو الواقع خارجاً من عدم اعتبار شیء فی ثبوت الأحکام الکلیة غیر العلم والعلمی المعبر عن الثانی بالظن المعتبر، بل بناءً علی تثلیث الماتن یکون البحث فی مسألة حجیة خبر العدل والثقة بحثا عن وجود الموضوع وما هو بمفاد (کان) التامة، بخلاف ما صنعه الشیخ فإنّه علیه یکون البحث من ثبوت الحکم للموضوع کما هو مفاد (کان) الناقصة، وقد ظهر مما ذکرنا أنّه لیس فی التثلیث الذی ذکره الشیخ قدس سره خلل من حیث تداخل الأقسام، کما ظهر مما ذکرنا قبل ذلک أنّ الحجة لا تطلق علی نفس القطع بالتکلیف والحکم بمعنی أنّه لا یکون وسطاً لإثبات الحکم الذی تعلق به القطع بخلاف الظن مع اعتباره فإنّه یکون وسطاً فی الاستنباط ویثبت الحکم الذی تعلّق به بنحو من الإثبات.

أخذ العلم بحکم موضوعاً لحکم آخر لا یکون حجة فی باب الأدلة وبیان المراد من الالتفات إلی الحکم

ثم إن العلم بحکم إذا اُخذ موضوعاً لحکم آخر وأن یقع وسطاً فی القیاس ویثبت به الحکم الآخر، فیقال: إن الفعل الفلانی مما علم حرمته، وکلّ ما علم حرمته یجوز الإفتاء بحرمته، ولکن لا یطلق علیه الحجة فی اصطلاح الاُصولیین، فإنّ الحجة عندهم ما یثبت حکم متعلّقه لا حکما آخر، وبالقیاس المزبور یثبت جواز الإفتاء

ص :376

.··· . ··· .

الشَرح:

بحرمته لا نفس حرمة ذلک الفعل بخلاف الظن والأمارة المعتبرة فإنّه یثبت به الحکم المظنون.

ولا یخفی أنّ المراد بالالتفات إلی الحکم الشرعی فی واقعة الفحص عن مدرک الحکم فیها المعبّر عنه بالالتفات التفصیلی المختص للمجتهد، فإنّ ما یصلح أن یحصل معه العلم بحکم الواقعة أو الظفر بالأمارة المعتبرة فیها هو هذا الالتفات الذی یکون الحکم الملتفت إلیه متعلقاً بالمجتهد تارة وبمقلدیه اُخری ویتعلّق بهما ثالثة، ولیس المراد أن الالتفات التفصیلی بالمعنی الآخر لا یتحقق من العامی، وهو فحصه عن مدرک الحکم الشرعی فی الواقعة التی یمکن ابتلاؤه بها یعنی الفحص عن فتوی المجتهد الذی یعتبر فتواه فیها، بل المراد أن هذا غیر مراد فی المقام؛ لأنّ ما ذکر فی المقام تمهید لبیان الموضوعات التی یبحث عن أحکامها فی المباحث الآتیة أو بیان لنتائج تلک المباحث وشیء منهما لا یرتبط بالعامی، وإن کان اعتبار الأمارات والاُصول العملیة غیر مختص بالمجتهد بالمعنی الذی یأتی بیانه.

بقی فی المقام أمر لا بأس بالتعرض له، وهو ما یقال من أن المجتهد کیف یأخذ بالاُصول العملیة فی الوقائع التی هی راجعة إلی مقلّدیه، مع أنّ الموضوع لتلک الاُصول هو الشاکّ فی حکمه الواقعی، والمقلد لا یلتفت إلی کون الحکم الواقعی فی تلک الواقعة مشکوکا، لیتمّ فی حقه الموضوع للحکم الظاهری.

وبتعبیر آخر شک المجتهد فیها غیر موضوع للاُصول لاختصاص الحکم الواقعی بغیره، والشک الموضوع فیها لا یحصل للمقلد کما هو فرض غفلته من کون الحکم الواقعی فی الواقعة مشکوکا، بل لو کان الحکم الواقعی عاما مجعولاً فی حق العامی والمجتهد، فالشک فیها بالإضافة إلی المجتهد لا العامی لیتمّ الموضوع

ص :377

.··· . ··· .

الشَرح:

للحکم الظاهری بالإضافة إلی کلّ منهما.

وربما یجاب عن الإشکال، بأن المجتهد فی الوقایع نائب عن مقلّدیه فیحسب شکّه شکّا منهم، وقد ذکر ذلک الشیخ الأنصاری فی بعض کلماته وتبعه بعض من تأخر عنه قدس سرهم ، وذکر المحقق الاصفهانی قدس سره أنّ ما دلّ علی جواز التقلید مقتضاه تنزیل المجتهد منزلة مقلدیه، فیکون مجیء الخبر إلی المجتهد بمنزلة مجیئه إلی مقلدیه، ویقین المجتهد وشکّه بمنزلة یقین مقلدیه وشکّهم، والمجتهد هو المخاطب فی موارد الأمارات والاُصول عنوانا، والمقلّد هو المخاطب لبّا، وإلاّ کان تجویز الإفتاء والاستفتاء لغوا.

أقول: لو ثبت دعوی نیابة المجتهد عن العامی لا یبقی الإشکال، بأن العمل بمقتضی الاُصول العملیة مشروط بالفحص وعدم الظفر بالدلیل علی التکلیف أو الحکم الواقعی والمقلّد عاجز عن هذا الفحص فلا یتحقق فی حقّه شرط اعتبارها، وکذا الشرط فی اعتبار أمارة فی واقعة یکون بإحرازها وعدم المعارض لها أو عدم الظفر بها بعد الفحص، والعامی عاجز عن ذلک، والوجه فی عدم بقاء الإشکال أنّ المجتهد فی فحصه عن الدلیل علی الحکم الواقعی وعدم الظفر بالدلیل علیه أو ظفره به وعدم المعارض له یکون نائبا عن العامی بمقتضی فرض النیابة، ولکن الدعوی لم تثبت بدلیل، ولا بما دلّ علی جواز الإفتاء والاستفتاء، فإن المستفاد مما دلّ علی جواز الإفتاء جواز تعیین الکبری المجعولة فی الوقایع بحسب مقتضی الأدلّة القائمة بالکبریات المجعولة فیها، وأما الشک الموضوع فی أدلّة الاُصول وخطاباتها فلا یعمّ الشکّ غیر المباشری، وأنّ شکّ المجتهد یحسب شکا من المقلد ویقینه یقینا من المقلد، فلا یستفاد مما ذکر شیءٌ.

ص :378

أو ظاهری، متعلق به أو بمقلدیه، فإما أن یحصل له القطع به، أولا، وعلی الثانی، لا بد من انتهائه إلی ما استقل به العقل، من اتباع الظن لو حصل له، وقد تمت مقدمات الإنسداد __ علی تقدیر الحکومة __ وإلاّ فالرجوع إلی الأصول العقلیة: من البراءة والاشتغال والتخییر، علی تفصیل یأتی فی محله إن شاء اللّه تعالی.

الشَرح:

الوجه فی جواز رجوع العامی إلی المجتهد فی موارد الأمارات المعتبرة والاُصول العملیة

والصحیح فی حلّ الإشکال هو أنّ العامی یرجع إلی المجتهد فی تعیین الأحکام المجعولة فی کلّ من الوقایع التی یبتلی بها لکونه جاهلاً بتلک الأحکام المجعولة وکون المجتهد عالما بها سواءً کان علم المجتهد بها وجدانیا حاصلاً له من ملاحظة مدارکها أو علما تعبدیا کما إذا کان حاصلاً بقیام أمارة معتبرة عنده بحکم الواقعة أو لأصل محرز مفاد خطاب اعتبار کونه عالما بحکم الواقعة کما هو مفاد خطابات الاستصحاب بناءً علی شمولها لموارد الشبهات الحکمیة، وبما أنّ العامی فی جمیع هذه الموارد جاهل بالحکم الشرعی المجعول فی الواقعة یکون تعیین المجتهد الحکم الشرعی المجعول فیها بنظره المعبر عنه بالفتوی جائزا لفرض علمه بالحکم حتّی فیما کان الحکم المجعول بحیث لا یعمّه؛ لأنّه من الأحکام المجعولة للنساء مثلاً، وفتواه فیها معتبرة فی حق العامی المفروض کونه جاهلاً به فتحسب فتواه علما للعامی مطلقا أو بعد أخذه کما هو مقتضی ما دلّ علی وجوب رجوع الجاهل بالحکم المجعول إلی العالم به، مثلاً مقتضی خطابات الاستصحاب فیما إذا أحرز المجتهد الحکم المجعول فی الواقعة المشکوکة سعته أو ضیقه هو أنه عالم بسعته فیکون رجوع العامی الجاهل إلیه من رجوع الجاهل إلی العالم.

مثلاً إذا رأت ذات العادة الوقتیة والعددیة دما أصفر ثلاثة أیّام وانقطع ولم یظهر

ص :379

وإنما عممنا متعلق القطع، لعدم اختصاصه أحکامه بما إذا کان متعلقاً بالأحکام الواقعیة، وخصصنا بالفعلی، لإختصاصها بما إذا کان متعلقاً به __ علی ما ستطلع علیه __ ولذلک عدلنا عما فی رسالة شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه __ من تثلیث الأقسام.

وإن أبیت إلاّ عن ذلک، فالأولی أن یقال: إن المکلف إما أن یحصل له القطع الشَرح:

للمجتهد أن الثلاثة أیّام ملحقة بالحیض أو أنّها استحاضة، وأفتی بکونه حیضا لعلمه بحیضها قبل تلک الأیّام وبقائه فیها، فمفاد خطابات الاستصحاب علمه بأن ذات العادة إذا رأت الصفرة بعد عادتها وانقطع قبل عشرة أیّام فحیضها مجموع الدم، وبهذا یعلم الحکم بالحیض علی ذات العادة، ومدرک المرأة الآخذه بفتواه لیس هو الاستصحاب لیقال: بأن الموضوع للاستصحاب لم یحصل للمرأة بل مدرکها ما دلّ علی اعتبار فتوی المفتی فی حقها والاستصحاب مدرک لفتوی المفتی لعلمه بحدوث الحکم فی حقها وشکه فی بقائه لها، وبهذا یظهر وجه جواز رجوع العامی إلی المجتهد فی الموارد التی یفتی فیها بالحکم الظاهری بالحلیة والإباحة، بمقتضی خطابات أصالة الحلّ أو البراءة، فإنّ علمه بالحکم الظاهری موضوع لجواز الإفتاء به فی الواقعه، وبما أن العامی جاهل بحکم الواقعة، ولو بحکمها الظاهری یعتبر فی حقه فتواه بها، فمدرک المجتهد للحلیة الظاهریة وفتواه بها خطابات أصالة الحل أو أصالة البراءة، وأما العامی فمدرکه فیها هو ما دلّ علی جواز رجوع الجاهل بحکم إلی العالم به، ولو کان ذلک الحکم حکما ظاهریا، وبتعبیر آخر للمجتهد فی موارد أخذه بالاُصول العملیة التی مفادها أحکام ظاهریة علمان، علم بأن الواقعة خالیة عما اعتبر علما بالتکلیف الواقعی حتی بالإضافة إلی العامی، وعلم بأنّ الحکم الشرعی مع خلو الواقعة عن ذلک حلیة الفعل، وإذا رجع العامی إلی فتوی المجتهد فیها بالحلیة

ص :380

أولا، وعلی الثانی إما أن یقوم عنده طریق معتبر أو لا، لئلا تتداخل الأقسام فیما یذکر لها من الأحکام، ومرجعه علی الأخیر إلی القواعد المقررة عقلاً أو نقلاً لغیر القاطع، ومن یقوم عنده الطریق، علی تفصیل یأتی فی محله __ إن شاء اللّه تعالی __ حسبما یقتضی دلیلها.

وکیف کان فبیان أحکام القطع وأقسامه، یستدعی رسم أمور:

الأمر الأول: لا شبهة فی وجوب العمل علی وفق القطع عقلاً[1]، ولزوم الحرکة علی طبقه جزما وکونه موجبا لتنجّز التکلیف الفعلی فیما أصاب.

الشَرح:

الظاهریة. فقد رجع فیها إلی المجتهد فی کلا العلمین وإن لم یلتفت إلی ذلک تفصیلاً، وفحص المجتهد فی الوقایع لحصول العلم الأوّل لا أنّ للفحص بنفسه خصوصیة وموضوعیة، ویأتی تمام الکلام فی ذلک فی بحث جواز التقلید إن شاء اللّه تعالی.

وجوب العمل بالقطع عقلاً

اشارة

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنّه مع القطع بالحکم الفعلی یترتب علیه عقلاً وجوب متابعته والعمل علی طبقه، وأن القطع بالتکلیف الفعلی یوجب تنجّزه فیما أصاب باستحقاق الذم والعقاب علی مخالفته، وکون العمل به عذرا فیما إذا أخطأ قصورا، وقال: صریح الوجدان _ أی عقل کل إنسان _ شاهد وحاکم بذلک فلا یحتاج إلی إقامة الدلیل علی ذلک.

أقول: لا ینبغی التأمل فی أن وجوب متابعة القطع بالحکم الفعلی عین لزوم العمل علی طبقه، فالمراد منهما واحد، وأنّ الثانی عطف تفسیر للأوّل، وهل کون القطع بالتکلیف الفعلی ووجوب متابعته أیضا عین کونه منجّزا للتکلیف فیما إذا أصاب کما احتمل البعض، أو أنّ المراد منهما متعدّد؟ وظاهر کلامه کما ذکرنا تعددّهما وکون کلّ منهما مترتبا علی القطع بالتکلیف عقلاً من غیر أن یکون بینهما

ص :381

باستحقاق الذم والعقاب علی مخالفته، وعذراً فیما أخطأ قصوراً، وتاثیره فی ذلک لازم، وصریح الوجدان به شاهد وحاکم، فلا حاجة إلی مزید بیان وإقامة برهان. ولا یخفی أن ذلک لا یکون بجعل جاعل، لعدم جعل تالیفی حقیقة بین الشیء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسیطاً.

الشَرح:

ترتب، ولکن الصحیح أن المترتب علی القطع بالتکلیف تنجّزه فیما إذا أصاب ویترتب علیه لزوم متابعته، بل المتابعة للتحرز عن العقاب المترتب علی مخالفته أمر جبّلی منشأه حبّ النفس لا حکم العقل، ولذا لا یختصّ بالإنسان فالکلب یفرّ إذا أحسّ رمیه بالحجارة ویمتنع الحیوان عن الدخول فی النار أو الماء بإحساسه احتراقه بها أو غرقه فیه إلی غیر ذلک، غایة الأمر إحراز الضرر فی الحیوان یختصّ بحسه الضرر الفعلی، بخلاف الإنسان فإنّه یحرز الضرر الغائب وما هو ضرر مادی أو معنوی فإنّه صاحب عقل.

وعلی الجملة تنجّز التکلیف بتعلق القطع به عقلی حیث یری العقل استحقاق الشخص العقاب بمخالفة التکلیف المقطوع به، وأمّا الفرار عن هذا الاستحقاق بموافقة التکلیف والعمل علی طبقه فهو أمر جبّلی للإنسان یترتب علی تنجز التکلیف وإحرازه استحقاق العقاب علی مخالفته، وربما من ذکر أنّ تنجّز التکلیف بالقطع به عین وجوب متابعته التزم بکون الفرار من الضرر أمرا جبلّیا ارتکازیا لا یختصّ بالإنسان، وأنّ شأن العقل الإدراک لا الإلزام والإیجاب، ولکن العجب أنّه إذا کانت منجزیة القطع بالتکلیف بالعقل فکیف یکون وجوب متابعته الذی هو أمر جبلی لا تکلیف من العقل عین المنجزیة، ثمّ إنّ ظاهر کلام الماتن أنّ تنجّز التکلیف بتعلق القطع به أثر عقلی ولا یکون مجعولاً إلاّ بالتبع کوجوب متابعته، ولکن لا یخفی أنّ القطع بالتکلیف موضوع لحکم العقل بعدم قبح العقاب علی مخالفته المعبّر عن

ص :382

وبذلک انقدح امتناع المنع عن تأثیره أیضا[1] مع أنه یلزم منه اجتماع الضدین اعتقادا مطلقاً، وحقیقة فی صورة الإصابة وکما لا یخفی.

الشَرح:

عدم قبحه بالاستحقاق، وهذا الاستحقاق لیس جعله تبعیا بأن یوجد تبعا، بما یوجد به القطع، نظیر وجود الحرارة تبعا لما یوجد به النار کما هو ظاهر کلامه، نعم لو کان استحقاق العقاب أمرا واقعیا یوجد بوجود القطع بالتکلیف تبعا وکان العقل مدرکا، أمکن القول بأنّ تنجز التکلیف یوجد بما یوجب القطع بالتکلیف تبعا، والظاهر أنّ الاستحقاق لیس له موطن إلاّ العقل یعنی حکمه ولیس أیضا ببناء العقلاء لما تقدم من ثبوت الاستحقاق عند العقل قبل أن یفرض فی عالم الخلق تعدّد العاقل فضلاً عن العقلاء، وکون شأن العقل هو الإدراک لا ینافی أن یعتبر ما یکون واقعیته بعین اعتباره کما فی حکمه بحسن العدل وقبح الظلم هذا بالإضافة إلی منجزیة القطع، وأمّا معذریته فیما إذا أخطأ بأن أوجب العمل به مخالفة التکلیف الواقعی فیأتی بیان أن المعذّر هو عدم وصول التکلیف الواقعی والغفلة عنه لا نفس القطع المزبور.

[1] لا یخفی أنّ التکلیف المقطوع به مع النهی عن العمل بالقطع لا یکون من اجتماع الضدین اعتقادا مطلقا وواقعا فیما أصاب، فإنّ التکلیف المقطوع کالنهی عن العمل بالقطع فی نفسهما من الاعتبارات الخارجة عن الاُمور الواقعیة التی لا تجتمع أضدادها ولا مثلان منها فی مورد، بل یکون الوجه فی امتناع اجتماعهما المناقضة فی المبدأ أو ناحیة المنتهی لهما، وإذا کان المبدأ فی التکلیف المقطوع به لا ینحصر فی صورة حصول القطع به من وجه خاص، وکان الغرض منه العمل علی طبقه مع وصوله لا یمکن المنع عن العمل بالقطع به للزوم المناقضة واقعا أو بنظر القاطع، بخلاف ما إذا کان المبدأ للتکلیف المقطوع به منحصرا علی صورة القطع به من وجه خاص، أو کان الغرض منه مختصا بصورة وصوله إلی المکلف من ذلک الوجه فإنّه

ص :383

ثم لا یذهب علیک أن التکلیف ما لم یبلغ مرتبة البعث والزجر لم یصر فعلیا] 1] وما لم یصر فعلیا لم یکد یبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة علی المخالفة.

الشَرح:

لا بأس بالمنع عن العمل بالقطع به إذا حصل من غیر ذلک الوجه حتّی مع عدم إمکان تقیید التکلیف بذلک الوجه، وعلی الجملة فیمکن أن یکون مبدأ التکلیف والغرض منه أخصّ من التکلیف المنشأ فیصح النهی عن العمل بالقطع به فی غیر موردهما کما یأتی بیان ذلک تفصیلاً.

تعلق القطع بالحکم الانشائی

[1] مراده قدس سره بیان أنّ منجزیة القطع ینحصر علی ما إذا کان التکلیف المقطوع به فعلیاً، وأمّا لو کان إنشائیاً فالقطع بالتکلیف الإنشائی لا یوجب استحقاق العقاب علی مخالفته، وإن قد یوجب موافقته استحقاق المثوبة علیها، کما إذا کان عدم فعلیتها لتسهیل الأمر علی العباد، ولذا قیّد قدس سره فی تقسیم حالات المکلّف عند التفاته إلی حکم شرعی بکونه فعلیاً وفعلیة التکلیف عنده بتعلق إرادة المولی بالفعل أو تعلق کراهته زائداً علی إنشاء الطلب المتعلّق بالفعل أو الترک؛ ولذا جعل مرتبة الفعلیة مرتبة اُخری بعد مرتبة إنشائه، ولکن لا یعتبر عند الماتن أن تکون فعلیة التکلیف المنشأ مع قطع النظر عن تعلّق العلم به، بل لو کان الموضوع فی فعلیته حصول العلم به لکانت فعلیته مقارنة لحصول العلم به فیکون العلم به منجّزاً مثل ما کان فعلیاً مع قطع النظر عن تعلّق العلم به.

وقوله قدس سره : «نعم فی کونه فی هذه المرتبة مورداً للوظائف المقررة شرعاً . . .»، ناظر إلی ما إذا کانت فعلیة التکلیف مع قطع النظر عن تعلق العلم به، فإنّ دعوی المناقضة أو التضاد بین الحکم الواقعی والظاهری منحصرة بهذه الصورة، کما یأتی

ص :384

وإن کان ربما یوجب موافقته استحقاق المثوبة، وذلک لأن الحکم ما لم یبلغ تلک المرتبة لم یکن حقیقة بأمر ولا نهی، ولا مخالفته عن عمد بعصیان، بل کان مما سکت اللّه عنه، کما فی الخبر، فلاحظ وتدبر.

الشَرح:

الکلام فی ذلک فی بحث الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری، وقد ذکرنا فی بحث الواجب المطلق والمشروط أنّه لا تتعلق إرادة المولی بفعل العبد، فإنّ فعل العبد بما هو فعل العبد غیر مقدور للمولی بما هو مولی، بل إرادة المولی تتعلق بفعل نفسه وهو طلب الفعل أو منع العبد عنه إنشاءً بغرض أن یکون طلبه داعیاً له إلی الإتیان به ونهیه داعیاً إلی ترکه مع وصوله إلیه، وأما الطلب بداعی التحقیر أو التهدید وغیر ذلک فلا یکون من التکلیف والحکم وإن سمّاه الماتن حکماً إنشائیاً.

نعم، لفعلیة الحکم والتکلیف معنی آخر وهو الصحیح، حیث إنّ جعل الحکم والتکلیف إذا کان بمفاد القضیة الحقیقیة التی یجعل المولی فی ذلک المقام الحکم لموضوعه علی تقدیر تحقق الموضوع خارجاً بأن یکون المجعول حکماً لتقدیر حصوله من غیر نظر عند الجعل إلی وجوده أو عدمه بحسب الخارج یثبت الحکم فی مقام الجعل والإنشاء فقط، وإذا خرج العنوان المفروض کونه موضوعاً إلی الخارج بأن صار متحققاً خارجاً یکون ذلک الحکم المجعول فعلیاً بفعلیة وجود الموضوع، فمرتبة فعلیة الحکم تفترق عن مرتبة إنشائها بذلک، وهذا بخلاف الحکم المجعول، بمفاد القضیة الخارجیة، حیث لا یکون له مرتبتان بل جعله فعلیته وفعلیته جعله، ویفصح عن ذلک رجوع الحکم المجعول بمفاد القضیة الحقیقیة إلی قضیة شرطیة یکون الشرط فیها فعلیة الموضوع ولو بقیده، والجزاء ثبوت الحکم له بخلاف المجعول بالقضیة الخارجیة، ویترتب علی ذلک أن الحکم الواقعی فی موارد الحکم الظاهری محفوظ بفعلیته، ویأتی بیان أنّ فعلیته لا تصادم الحکم الظاهری

ص :385

نعم، فی کونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل إشکال لزوم اجتماع الضدین أو المثلین، علی ما یأتی تفصیله إن شاء اللّه تعالی، مع ما هو التحقیق فی دفعه، فی التوفیق بین الحکم الواقعی والظاهری، فانتظر.

الأمر الثانی: قد عرفت أنه لا شبهة فی أن القطع یوجب استحقاق العقوبة علی المخالفة، والمثوبة علی الموافقة فی صورة الإصابة، فهل یوجب استحقاقها فی صورة عدم الإصابة علی التجری بمخالفته[1].

الشَرح:

الثابت بمفاد الأصل فی بحث الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری.

الکلام فی التجری والانقیاد

اشارة

[1] یقع الکلام فی التجری فی مقامین:

الأول: فی استحقاق العقاب وأنّ التجری یوجبه أم یختص استحقاقه بالمعصیة.

والثانی: فی حکم الفعل المتجری به وأنّه یتعلق به الحرمة، وأنّ الفعل المتجری به لا یکون حراما شرعیا بالقطع بحرمته.

ذکر الماتن قدس سره فی المقام الأول أن استحقاق العقاب علی مخالفة القطع بالتکلیف فی صورة عدم إصابته الواقع کاستحقاقه علیها فی صورة الإصابة، کما أن موافقة القطع بالتکلیف موجبة لاستحقاق المثوبة فی صورة خطأ القطع کاستحقاقها فی صورة إصابته الواقع، وذلک بشهادة الوجدان بأنّ العبد فی صورة مخالفته القطع بالتکلیف مع عدم إصابته الواقع لخروجه عن رسوم العبودیّة وکونه بصدد الطغیان علی مولاه وعزمه بعصیانه یستحق الذم والعقاب، کما أنّه فی صورة موافقته مع عدم إصابة قطعه الواقع لقیامه بما هو مقتضی العبودیّة من عزمه وبنائه علی الطاعة یستحق المدح والثواب.

ص :386

.··· . ··· .

الشَرح:

نعم، لا یستحق العبد مؤاخذة أو مثوبة بمجرّد سوء السریرة وحسنها، وإنّما یستحق اللوم أو المدح بمجرّدهما کسائر الصفات والأخلاق الذمیمة أو الحسنة ویستحق الجزاء بالعقوبة أو المثوبة مضافا إلی المدح أو الذمّ إذا صار بصدد الجری علی طبق سوء السریرة أو حسنها والعمل علی وفقهما، بأن جزم وعزم علی العصیان أو الطاعة، وکلمة (ما) فی قوله: «بما یستتبعانه» مصدریة والباء للسببیة وضمیر الفاعل التثنیة راجع إلی سوء السریرة وحسنها، وضمیر المفعول إلی الاستحقاق، فیکون مفاده أنّ صاحب سوء السریرة أو حسنها یستحق اللوم أو المدح بسبب استلزام سوء السریرة وحسنها الاستحقاق لهما کسائر الصفات والأخلاق الذمیمة أو الحسنة. واستشهد لما ذکره بحکم العقل فإنّه الحاکم بالاستقلال فی باب الإطاعة والعصیان وما یلزم لهما من استحقاق النار والجنة.

ثم عطف عنان قلمه إلی المقام الثانی، وذکر أن الفعل المتجری به أو المنقاد به لا یخرج عن حکمه بحصول القطع بخلافه، ولا یتغیر حسنه أو قبحه بالاعتقاد المخالف للواقع لوضوح أنّ القطع بالحرمة أو الوجوب لا یکون من العناوین المقبّحة والمحسّنة للفعل، وأنّ الموجب لصلاح الفعل هو الأثر المترتب علیه، ویترتب ذلک الأثر علیه سواء کان المکلّف ملتفتا إلی عنوان الفعل کما فی صورة إصابة قطعه الواقع أو غافلاً عنه کما فی صورة خطئه، وعلی الجملة لا یتغیر الفعل عما هو علیه من المبغوضیة وعدمها للمولی باعتقاد الخلاف وقوله: «بسبب تعلق القطع بغیر ما هو علیه من الحکم والصفة» إشارة إلی مخالفة القطع الواقع فی موارد القطع بالحکم الکلیّ، کما إذا جزم بحرمة شرب التتن وکان فی الواقع حلالاً، وإلی مخالفته الواقع فی الموضوعات الخارجیة، بأن اعتقد بأنّ شرب مایع شربٌ للخمر، وکان فی الواقع شرباً للخلّ وعبر عن الأول بتعلق

ص :387

.··· . ··· .

الشَرح:

القطع بغیر ما هو علیه من الحکم، وعن الثانی بتعلقه بغیر ما علیه من الصفة.

فی اتصاف الفعل بالحسن والقبح

ثم إنّه قدس سره ذکر برهانا بعد دعوی الضرورة والوضوح فی أنّ القطع بالحکم أو الصفة لا یکون من العناوین المحسّنة والمقبّحة، وهو أنّ الفعل المتجری به وکذا المنقاد به لا یکون اختیاریا، حیث إنّه لم تتعلق إرادة الفاعل به بعنوانه الواقعی لغفلته عنه، وما یکون مقصودا له لم یحصل، فإن المتجری یرید شرب الخمر وشربها لم یحصل، وما هو حاصل شرب الماء، وشرب مقطوع الحرمة، ولم یکن شیء منهما مقصودا. أمّا الأول فظاهر، وأمّا الثانی فلأنّ القاطع یقصد الفعل بعنوانه الواقعی لا بعنوانه الطارئ الآلی، بل المتجری لا یکون ملتفتا غالبا إلی انطباق عنوان مقطوع الحرمة علی فعله لیقصده بهذا العنوان کما فی موارد القطع بخلاف الصفة الواقعیة بل فی غیرها.

أقول: ما ذکره قدس سره من أنّ انطباق عنوان علی فعل إنّما یکون موجبا لاتصافه بالحسن أو القبح عقلاً إذا کان الفاعل عند الفعل ملتفتا إلی انطباقه علیه، صحیح، ولکن لا یعتبر أن یکون الالتفات إلیه تفصیلاً بل یکفی الالتفات الإجمالی والمتجری عند الفعل ملتفت إجمالاً إلی انطباق ارتکاب مقطوع الحرمة ومخالفة القطع علی فعله.

فی أن الفعل المتجری به اختیاری وعمدی

وفعله بهذا العنوان اختیاری عمدی مسبوق بالإرادة والاختیار، فالمتعیّن فی وجه عدم تغیر الفعل عما هو علیه من الصلاح أو الفساد هو الوجدان، حیث یشهد

ص :388

.··· . ··· .

الشَرح:

الوجدان بأن الأثر المترتب علی الفعل لا یتخلّف عنه بإصابة اعتقاد فاعله الواقع أو عدم إصابته، والحکم الشرعی یتبع صلاح الفعل أو فساده الواقعیین، ولا یکون مع خلوه عنهما محرّما أو واجبا، وعلی ذلک فالفعل بعنوان مقطوع الحرمة غیر حرام شرعا وإذا لم یصادف القطع الواقع فالفعل علی ما هو علیه من عدم الفساد، کما أنّه بعنوان مقطوع الواجب لا یکون واجبا، وإذا لم یصادف قطعه الوجوب الواقعی فلیس فیه وجوب.

وأیضا ما ذکره قدس سره ، من أنّ عدم الالتفات إلی عنوان الفعل عند الارتکاب یوجب کون ذلک الفعل غیر اختیاری، فهو غیر صحیح، فإنّ عدم الالتفات إلی عنوانه یوجب کون الفعل خطئیا، حیث إنّ الالتفات ولو إجمالاً یوجب صدق عنوان التعمد لا صدور الفعل من غیر إرادة، والمتجّری بشرب مایع قاطع بأنّه خمر لو لم یرد شرب ذلک المایع لم یتحقق شرب الخمر، ولکنه بما أنّه غیر ملتفت إلی عنوانه الواقعی وهو کونه ماءً لم یتعمّد إلی شرب الماء.

ومما ذکر یظهر أنّ ما ذکره الماتن قدس سره من بقاء الفعل المتجری به أو المنقاد به علی ما کان علیه من الحسن والقبح، یتعین أن یراد من الحسن الصلاح ومن القبح الفساد، وإلاّ فالفعل الخطئی لا یتصف بالحسن أو القبح الفاعلی، بمعنی استحقاق فاعله المدح علی ذلک الفعل أو الذم علیه، ووجه الظهور أن لا دخالة للالتفات إلی عنوان الفعل فی صلاحه وفساده ولکن الالتفات إلی العنوان ولو إجمالاً دخیل فی حسنه وقبحه الفاعلیین.

کما ظهر مما ذکرنا أنّ التجری لا یمکن أن یکون حراما شرعا وأن یستحق المکلف العقاب علیه، کما أنّ الانقیاد لا یمکن أن یکون مستحبا أو واجبا شرعا وإن یستحق المکلف علی انقیاده المثوبة، وذلک فإنّ الملازمة بین حکم العقل بقبح فعل

ص :389

.··· . ··· .

الشَرح:

وحرمته شرعا وکذا بین حکمه بحسن فعل ومطلوبیته شرعا تختصّ بما إذا حکم العقل فی فعل بالملاک الموجود فیه من الفساد والصلاح مع قطع النظر عن حکم الشارع فیه، وأمّا إذا کان حکمه فیه متفرعا علی الحکم الشرعی فیه واقعا أو اعتقادا أو احتمالاً کحکمه بحسن الطاعة وقبح المعصیة وحسن الانقیاد وقبح التجری أو حکمه بحسن الاحتیاط ولزومه فحکمه هذا لا یلازم الحکم الشرعی فإنّ الحکم الشرعی النفسی فی مورد هذا القسم من حکمه بلا ملاک، ولا مورد للحکم الشرعی الطریقی فیه لثبوت استحقاق المثوبة والعقاب بحکم العقل قبل الحکم الشرعی فیکون الحکم الشرعی فی موارده إرشادیا لا محالة. بل جعل الحرمة للفعل المتجری به بعنوان التجری غیر ممکن لوجه آخر أیضا، وهو عدم إمکان التفات المکلف عند الفعل إلی کونه تجریّا لتکون حرمته زاجرة عنه بلا فرق بین کونه بالاعتقاد بخلاف الصفة أو بخلاف حکمه الواقعی فیصبح اعتبار الحرمة لغوا.

فیما یقال فی حرمة التجری وکونه موجبا للعقاب

وربما یقال: إن مقتضی الخطابات الشرعیة الواردة فی المحرمات هو تحریم الفعل مع الاعتقاد علی خلاف الصفة وعنوانه، بدعوی أنّ الموجب لإرادة المکلف ترک الفعل هو الاعتقاد بحرمته وإن لم یکن اعتقاده مصادفا للواقع، فإنّه إذا اعتقد بکون مایع خمرا وشربه حراما، یکون التحریم الشرعی داعیا إلی ترکه، وإذا کان خطاب تحریم الخمر داعیا إلی ترک شرب ما یعتقد کونه خمرا من غیر کونه داعیا إلی ترک شرب الخمر الواقعی ولو مع عدم الاعتقاد، وعدم الإحراز یکون المراد من تحریمه طلب ترک ما یعتقد ویحرز أنّه شرب الخمر.

وفیه أنّ الغرض من التکلیف الدعوة إلی الفعل أو الترک فی فرض وصوله، ووصوله

ص :390

.··· . ··· .

الشَرح:

یکون بإحراز الصغری والکبری، وکما أنّ العلم بالکبری ووصولها لا یؤخذ فی التکلیف کذلک العلم بالصغری غایة الأمر العلم بالکبری أخذه فی التکلیف غیر ممکن بأن یجعل التکلیف فی صورة العلم به، وأخذ العلم بالصغری فی موضوع التکلیف وإن کان ممکنا إلاّ أنه غیر مأخوذ فی موضوع التکلیف لدلالة الخطابات علی أن الموضوع لها نفس ما ینطبق علیه عنوان الموضوعات، مثلاً الغرض من تحریم الخمر مثلاً ترک شربه عند وصول التکلیف کبری وصغری ومع عدم الوصول یکون المکلف معذورا لا أنّ الغرض ترک شرب ما یعتقد کونه خمرا وإن لم یکن خمرا فی الواقع.

ویشهد لما ذکرنا من أنّ الاعتقاد غیر دخیل فیالحرمة وعدمها حتّی بالإضافة إلی الصغری أنّه لا یمکن الالتزام بالدخالة فیالتکالیف الوجوبیة بالإضافة إلی قیود المتعلق والموضوع مثلاً لا یمکن فی أمر الشارع بصلاة الظهر عند الزوال الإلتزام بأنّ الواجب هو صلاة الظهر فی وقت یعتقد أنّه بعد الزوال، فلو انکشف بعد الصلاة أنه صلّی قبل الزوال لخطأ اعتقاده فلا یتدارک لحصول الامتثال، وکذلک بالإضافة إلی الطهور، وغیر ذلک من القیود فی الواجبات من العبادات وغیرها.

فی الاستدلال علی حرمة التجری وکونه موجباً للعقاب بالخطابات الشرعیة

وقد یستدلّ علی حرمة التجری بالآیات والروایات کقوله سبحانه «وإن تبدوا ما فی أنفسکم أو تخفوه یحاسبکم به اللّه»(1) و«إنّ الذین یحبون أن تشیع الفاحشة فی الذین آمنوا لهم عذاب ألیم»(2) و«تلک الدار الآخرة نجعلها للذین لا یریدون علوّا فی

ص :391


1- (1) سورة البقرة: الآیة 284.
2- (2) سورة النور: الآیة 19.

.··· . ··· .

الشَرح:

الأرض ولا فسادا»(1) وما ورد فی تعلیل خلود أهل النار فی النار وأهل الجنة فی الجنة بنیّاتهم(2). وما ورد فی أنّ الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم، وعلی کلّ الداخل فی باطل إثمان: إثم الرضا به وإثم العمل به(3)، وما ورد فی العقاب علی فعل بعض المقدمات بقصد ترتب الحرام کغارس الخمر(4) والماشی لسعایة المؤمن(5)، وما ورد من أنّه إذا التقی المسلمان بسیفهما علی غیر سنة فالقاتل والمقتول کلاهما فی النار، قیل: یا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتل صاحبه(6)، إلی غیر ذلک، ولکن لا یخفی عدم إمکان الاستدلال بشیء ممّا ذکر علی حرمة التجری المفروض فی المقام بالفحوی أو غیرها.

اما الآیة الاُولی فلأن مدلولها محاسبة اللّه سبحانه وتعالی العباد بما فی أنفسهم من سوءٍ أبدوه أم أخفوه، والمفروض فی المقام حکم التجری الذی هو فعل خارجی صادر عن المکلف بقصد ارتکاب الحرام لاعتقاده بحرمته وما فی النفس یمکن أن یراد به مثل الشرک والنفاق أو الأعم بحیث یشمل قصد المعصیة والبناء علیه، وحیث ثبت أن نیة السوء لا تکتب، یتعین أن یکون المراد بها خصوص الأول.

والآیة الثانیة مدلولها حبّ شیوع الفاحشة وکثرة وجودها بین المؤمنین، وإن لم

ص :392


1- (1) سورة القصص: الآیة 83.
2- (2) وسائل الشیعة 1:50، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 4.
3- (3) وسائل الشیعة 16:141، الباب 5 من أبواب الأمر والنهی، الحدیث 12.
4- (4) وسائل الشیعة 17:224، الباب 55 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4 و 5.
5- (5) المصدر السابق: 181، الباب 42، الحدیث 14.
6- (6) وسائل الشیعة: 15:148، الباب 67 من أبواب جهاد العدو، وفیه حدیث واحد.

واستحقاق المثوبة علی الإنقیاد بموافقته، أو لا یوجب شیئاً؟

الحق أنه یوجبه، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، وذمه علی تجریه، وهتکه لحرمة مولاه وخروجه عن رسوم عبودیته، وکونه بصدد الطغیان، وعزمه علی العصیان، وصحة مثوبته، ومدحه علی قیامه بما هو قضیة عبودیته، من العزم الشَرح:

یکن المحبّ قاصدا لارتکاب الفاحشة مباشرة وتسبیبا کما أنّه قد یرتکب الفاحشة ولا یرید شیوعها ولا یحبّ کثرة وجودها، وبتعبیر آخر النسبة بین حبّ شیوع الفاحشة وإرادة ارتکاب الحرام العموم من وجه فلا یکون الدلیل علی حرمة أحدهما دلیلاً علی حرمة الآخر ولو اُرید بالآیة ترغیب الناس إلی الفحشاء فی مقابل نهیهم وردعهم عنها کما لا یبعد، فلا ینبغی التأمل فی حرمته.

عدم خطاب شرعی فی حرمة التجری المفروض فی المقام وکونه موجباً للعقاب

وأما الآیة الثالثة فإرادة العلو والفساد مطلقة تعمّ ما إذا ارتکبهما وما إذا لم یرتکب فیحمل علی الصورة الاُولی بقرینة ما ورد فی أنّ نیة السوء لا تکتب، والمفروض فی المتجری عدم الارتکاب ولو لخطأ اعتقاده.

أما الروایات فما ورد فی تعلیل خلود أهل النار فی النار وخلود أهل الجنة فی الجنة، روایة ضعیفة وما ورد فیها من التعلیل تقریب، وما ورد فی الرضا بفعل قوم یختصّ بالرضا بالظلم والکفر والتابعیة لهم فی کفرهم وظلمهم، ولا یخفی أنّ بعض الأفعال المتعلقة بالحرام بنفسها حرام کغرس الخمر وبیعها وشرائها والمشی لسعایة المؤمن بقصد السوء إلیه، سواء کان السوء قتله أو ظلمه، وما ورد فی التقاء المسلمین بسیفهما ناظر إلی التصدی لقتله ویدخل فی قتال المؤمن، أضف إلی ذلک أنّ المستفاد من الآیات والروایات المتقدمة علی تقدیر تسلیم دلالتها وعدم معارضتها بما دلّ علی عدم کتابة نیة السوء هو ترتب العقاب علی قصد الحرام وإرادته ولو

ص :393

علی موافقته والبناء علی إطاعته، وإن قلنا بأنه لا یستحق مؤاخذة أو مثوبة، ما لم یعزم علی المخالفة أو الموافقة، بمجرد سوء سریرته أو حسنها، وإن کان مستحقاً للوم أو المدح بما یستتبعانه، کسائر الصفات والاخلاق الذمیمة أو الحسنة.

وبالجملة: ما دامت فیه صفة کامنة لا یستحق بها إلاّ مدحاً أو لوماً، وإنما یستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافاً إلی أحدهما، إذا صار بصدد الجری علی طبقها والعمل علی وفقها وجزم وعزم، وذلک لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء الشَرح:

لم یرتکب ذلک الحرام وهذا غیر التجری المفروض فی المقام، فإنّ الکلام فی المقام فی قصد ارتکاب عمل یعتقد أنّه حرام واقعی وبعد الارتکاب ظهر أنّه لم یکن حراما واقعیا، فإنّ العقاب علی قصد شرب الخمر لا یلازم العقاب علی شرب مایع قصد شربه، باعتقاد أنّه حرام لکونه خمرا ولم یکن فی الواقع خمرا خصوصا إذا لم یکن الاعتقاد جزمیا، بأن اُحرز حرمته بالأمارة أو بالأصل المثبت حرمته، وکان ارتکابه برجاء أن لا یکون فی الواقع حراما فاتفق مصادفة رجائه ولم یکن فی الواقع حراما.

وعلی الجملة فالمتجری یرید عملاً خاصّا لاعتقاده بأنّه حرام، ومن یلتزم بأنّ العقاب فی التجری علی قصد الإتیان بما یعتقد أنّه حرام کصاحب الکفایة، فلا یمکن له إن قلت: إذا لم یکن الفعل کذلک، فلا وجه لاستحقاق العقوبة التمسک ببعض الآیات والروایات المشار إلیها وغیرها، فإنّ مدلولها علی تقدیر تسلیمها موارد قصد ارتکاب الحرام الواقعی لا قصد فعل حلال یعتقد أنّه حرام واقعی مع أنّ هذا المسلک فی نفسه غیر صحیح فإنّ التجری الموجب للعقاب هو نفس ارتکاب ما یعتقد أنّه حرام، وهذا الفعل کما تقدم غیر قابل للتحریم شرعا، وأمّا عزم الحرام وقصده فهو قابل للتحریم، ولو ورد فیه خطاب شرعی علی ترتب العقاب علیه لکان کاشفا عن تحریمه شرعا، ولکن لم یرد فیه ذلک بحیث یعتبر، بل ورد فی روایات کثیرة العفو عن نیة

ص :394

سریرته من دون ذلک، وحسنها معه، کما یشهد به مراجعة الوجدان الحاکم بالاستقلال فی مثل باب الإطاعة والعصیان، وما یستتبعان من استحقاق النیران أو الجنان.

ولکن ذلک مع بقاء الفعل المتجری به أو المنقاد به علی ما هو علیه من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فیه بسبب تعلق القطع بغیر ما هو علیه من الحکم والصفة، ولا یغیر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا یکون من الوجوه والإعتبارات التی بها یکون الحسن والقبح عقلاً ولا ملاکاً للمحبوبیة والمبغوضیة شرعاً، ضرورة عدم الشَرح:

المعصیة، والمراد بالعفو العفو فی مقام التشریع بمعنی عدم جعل الحرمة له، فلا یترتب علیه العقاب نظیر العفو عن غیر التسعة فی مقام تشریع الزکاة فی الأموال.

فی الأخبار الواردة فی العفو عن قصد المعصیة

ثم إنّه قد جمع الشیخ قدس سره بین ما دلّ علی العفو عن نیة السوء وقصد المعصیة وبین ما اُشیر إلیه من الآیات والروایات بوجهین:

الأول: حمل ما دلّ علی العفو وعدم العقاب علی مجرد قصد المعصیة، وما دلّ علی العقاب علی صورة الاشتغال ببعض مقدمات الحرام بقصد ارتکابه.

والثانی: حمل ما دلّ علی العفو علی صورة الارتداع عن قصده ولو کان الارتداع بعد الاشتغال ببعض مقدماته أو کلّها بقصد ارتکابه، وما دلّ علی العقاب علی صورة عدم الارتداع وعدم حصول الحرام خارجا للمانع القهری، وقال قدس سره : إنّ ما ورد فی أن کلاً من القاتل والمقتول فی النار، وتعلیل دخول المقتول فیها شاهد للجمع الثانی حیث مقتضاه التعدی إلی سائر الموارد.

ولکن لا یخفی أنّ الجمع الأول تبرعی وظاهر الروایات عدم العقاب ما لم

ص :395

تغیر الفعل عما هو علیه من المبغوضیة والمحبوبیة للمولی، بسبب قطع العبد بکونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولی لا یکاد یخرج عن کونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوّه، وکذا قتل عدوّه، مع القطع بأنه ابنه، لا یخرج عن کونه محبوباً أبداً.

هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا یکون اختیاریاً، فإن القاطع لا یقصده إلاّ بما قطع أنه علیه من عنوانه الشَرح:

یعص، وکذا الثانی لما تقدم من أنّ قتال مسلم مع مسلم فی نفسه حرام فلا یمکن التعدّی إلی قصد ارتکاب الحرام وکون المقتول کالقاتل فی النار لا یقتضی التسویة بین عقابهما بأن یکون عقاب قتال المقتول بمقدار عقاب قتل المقتول.

لا یقال: مقتضی أخبار العفو عن قصد المعصیة أنّه لا یکتب العقاب علی المکلف إلاّ بالمعصیة فنفس تلک الروایات تنفی ترتب العقاب علی التجری أیضا حیث عند التجری لا تحصل المعصیة.

فإنّه یقال: مدلول تلک الأخبار التفرقة بین قصد الطاعة وقصد المعصیة وأن الأول یکتب وإن لم یوفق بها، فتکشف تلک الأخبار عن مطلوبیة قصدها بخلاف قصد المعصیة فإنّه لا یکتب بل المکتوب نفس المعصیة لا أنّ العقاب ینحصر علی تحقق المعصیة خاصة فلا یکون عقاب علی التجری المفروض فی المقام، وبتعبیر آخر حصر العقاب علی المعصیة إضافی.

بقی فی المقام أمر وهو جریان ما تقدم فی التجری فی موارد القطع الموضوعی أو اختصاصه بموارد القطع الطریقی فالصحیح هو التفصیل، فإنه إن کان القطع بتحقق عنوان أو حکم تمام الموضوع للحرمة فلا یمکن فیه التخلف بأن یحصل القطع ولا تکون حرمة لیحصل التجری بالارتکاب وإن کان القطع بأحدهما مأخوذا فی

ص :396

الواقعی الإستقلالی لا بعنوانه الطارئ الآلی، بل لا یکون غالباً بهذا العنوان مما یلتفت إلیه، فکیف یکون من جهات الحسن أو القبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا یکاد یکون صفة موجبة لذلک إلاّ إذا کانت اختیاریة.

إن قلت إذا لم یکن الفعل کذلک فلا وجه لإستحقاق العقوبة[1].

الشَرح:

الموضوع للحرمة جزءا فیجری فیه ما تقدم، وما فی بعض الکلمات من الاختصاص بالقطع الطریقی لا یمکن المساعدة علیه.

فی الموجب للعقاب فی التجری وعدم منافاة استحقاق المتجری مع ما ورد فی العفو عن قصد المعصیة

[1] لا یخفی أنّه قدس سره التزم بأنّ الفعل المتجری به فعل غیر اختیاری کالفعل المنقاد به، فیرد علیه أنّه إذا کان الفعل غیر اختیاری فکیف یترتب علیه العقاب فالالتزام بغیر اختیاریته لا یجتمع مع الإلتزام باستحقاق العقاب علیه، ولا یقاس بالعصیان، فإنّ العصیان أمر اختیاری صادر عن الإرادة فیصح العقاب علیه.

وأجاب بأنّ الفعل المعنون بعنوان التجری صادر بلا إرادة واختیار ولا یکون العقاب علیه، بل یکون العقاب علی قصد العصیان والعزم علی الطغیان، وبما أنّ هذا الجواب لا یخلو عن المناقشة والإشکال بأن القصد والعزم من مبادئ الإرادة ومبادی الإرادة کالارادة والاختیار لا تکون اختیاریة، حیث إنّ الاختیاریة فی الفعل تکون بصدوره عن الإرادة ولو کانت مبادی الارادة صادرة بالاختیار والإرادة؛ لتسلسل. وکأنّه قدس سره قد دفع الإشکال بوجهین، الأول: أنّ الإرادة والاختیار وإن لا یکون بالاختیار إلاّ أنّ بعض مبادیه کالقصد والعزم یکون أمراً اختیاریا لتمکن المکلف من الارتداع عن قصده وعزمه بالتأمل فیما یترتب علی ما قصده وعزم علیه علی تقدیر حصوله من استحقاق اللوم والمذمة والعقاب، ولا یناقش فی کلامه هذا بأنّ العقاب مترتب

ص :397

علی مخالفة القطع، وهل کان العقاب علیها إلاّ عقاباً علی ما لیس بالاختیار؟

قلت: العقاب إنما یکون علی قصد العصیان والعزم علی الطغیان، لا علی الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختیار.

إن قلت: إن القصد والعزم إنما یکون من مبادئ الاختیار، وهی لیست باختیاریة، وإلاّ لتسلسل.

قلت: __ مضافاً إلی أن الإختیار وإن لم یکن بالإختیار، إلاّ أن بعض مبادیه غالباً یکون وجوده بالإختیار، للتمکن من عدمه بالتأمل فیما یترتب علی ما عزم علیه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة __ یمکن أن یقال: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما الشَرح:

علی نفس القصد والعزم عنده لا علی ما عزم علیه فکیف یکون التأمل فی تبعة ما عزم علیه موجبا لزوال عزمه، وذلک فإن اللوم والمذمّة واستحقاق العقاب مترتب علی العصیان وبما أنّ القاطع لا یحتمل خلاف قطعه ولا یری ارتکابه حال الفعل إلاّ معصیة یکون تأمله فی تبعة العصیان موجبا لارتداعه عن قصده وعزمه، نعم یرد علی الماتن من أن العزم والقصد لا یکون اختیاریا بذلک، فإن ملاک الاختیاریة عندهم کون الشیء بالإرادة والاختیار، والاختیاریة بالنحو الذی ذکره یناسب مسلک المتکلّمین فی الأفعال وبناءً علی مسلکهم تجری تلک الاختیاریة فی نفس الإرادة حیث إنّها أیضا قابلة للزوال بالتأمل المزبور، ولا تکون إلاّ داعیا إلی الارتکاب لا علة تامة لحصول الفعل کما هو مقرّر عندهم، ولعله لذلک أجاب ثانیا بأنّه لا ینبغی التأمل بأنّ بعد العبد عن المولی یترتب علی التجری، والعقاب من تبعة هذا البعد، کما أنّ العقاب أیضا من تبعة البعد الحاصل بالعصیان، وإذا أمکن حصول البعد بالتجری وإن لم یکن التجری أمرا اختیاریا فلا مانع أیضا أن یوجب استحقاق العقاب مع عدم کونه غیر اختیاری، وحصوله بسبب سوء سریرته وخبث باطنه بحسب نقصان ذاته

ص :398

یکون من تبعة بعده عن سیده بتجریّه علیه، کما کان من تبعته بالعصیان فی صورة المصادفة، فکما أنه یوجب البعد عنه، کذلک لا غرو فی أن یوجب حسن العقوبة، وإن لم یکن باختیاره إلاّ أنه بسوء سریرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمکانه، وإذا انتهی الأمر إلیه یرتفع الإشکال وینقطع السؤال ب_ (لِمَ) فإن الذاتیات ضروری الثبوت للذات.

وبذلک أیضاً ینقطع السؤال عن أنه لِمَ اختار الکافر والعاصی الکفر والعصیان؟ والمطیع والمؤمن الإطاعة والإیمان؟ فإنه یساوق السؤال عن أن الحمار لِمَ یکون ناهقاً؟ والانسان لِمَ یکون ناطقاً؟.

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان فی القرب منه تعالی والبعد عنه، سبب الشَرح:

واقتضاء استعداده، وإذا انتهی الأمر إلی اقتضاء ذات ممکن الوجود واقتضاء استعداده یرتفع الإشکال وینقطع السؤال عن علته، فإن الذاتیات ضروری الثبوت للذات وینقطع السؤال عن علة اختیار الکافر والعاصی الکفر والعصیان واختیار المطیع والمؤمن الإطاعة والایمان. فإنّه یساوق السؤال عن أن الحمار لِمَ یکون ناهقا؟ والإنسان لِمَ یکون ناطقا؟ وقد أوجز کلّ ذلک بأنّ تفاوت أفراد الإنسان فی القرب منه تعالی والبعد عنه سبب لاختلافهم فی استحقاق الجنة ودرجاتها والنار ودرکاتها وموجب لاختلافهم فی نیل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها أخیراً یکون ذاتیا والذاتی لا یعلل.

ثمّ تعرّض لما یمکن أن یقال بأنّه لو کان الأمر کما ذکر فلا فائدة فی بعث الرسل وإنزال الکتب والوعظ والإنذار فأجاب: بأن الفائدة اهتداء من طابت سریرته وطینته إلی ما یکمل به نفسه من العمل إلی المقربات إلیه سبحانه، ولیکون حجة علی من ساءت سریرته وخبثت طینته فی استحقاقه الهلاک باختیاره ارتکاب المهلکات

ص :399

لاختلافها فی استحقاق الجنة ودرجاتها، والنار ودرکاتها، [وموجب لتفاوتها فی نیل الشفاعة وعدم نیلها]، وتفاوتها فی ذلک بالآخرة یکون ذاتیاً، والذاتی لا یعلل.

إن قلت: علی هذا، فلا فائدة فی بعث الرسل وإنزال الکتب والوعظ والإنذار.

قلت: ذلک لینتفع به من حسنت سریرته وطابت طینته، لتکمل به نفسه، ویخلص مع ربه أنسه، ما کنا لنهتدی لولا أن هدانا اللّه، قال اللّه تبارک وتعالی: «وذکر فإن الذکری تنفع المؤمنین» ولیکون حجة علی من ساءت سریرته وخبثت طینته، لیهلک من هلک عن بیّنة ویحیی من حی عن بیّنة، کیلا یکون للناس علی اللّه حجة، بل کان له حجة بالغة.

ولا یخفی أن فی الآیات والروایات، شهادة علی صحة ما حکم به الوجدان الحاکم علی إلاطلاق فی باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة، ومعه لا حاجة إلی ما استدل علی استحقاق المتجری للعقاب بما حاصله: إنه لولاه مع استحقاق الشَرح:

«لیهلک من هلک عن بینةٍ ویحیی من حیّ عن بینةٍ»(1) کیلا یکون للناس علی اللّه حجة بل کان له حجة بالغة.

أقول: ظاهر کلامه أنّه إلتزم باستحقاق العقاب علی أمر غیر اختیاری فإن کان المراد من غیر الاختیاری ما لا یکون حصوله بالإرادة التی ذکرها أهل المعقول مع الإلتزام من تمکّن المکلف من ترکه والممانعة عن وجوده وإن تفاوت أفراد الإنسان ذاتا بحسب کونه ممکن الوجود واختلافهم بحسب الذات وإن یقتضی اختیار الکفر أو الإیمان والطاعة أو المعصیة، إلاّ أنّ هذا بنحو الاقتضاء لا العلّیة، بحیث لا ینافی التمکّن مما یقتضیه نقصان ذاته أو خبثه، وکذا فی حسن سریرته وطیبة ذاته فالإلتزام

ص :400


1- (1) سورة الأنفال: الآیة 42.

العاصی له یلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختیار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختیاره، مع بطلانه وفساده، إذ للخصم أن یقول بأن استحقاق العاصی دونه، إنما هو لتحقق سبب الإستحقاق فیه، وهو مخالفته عن عمد واختیار، وعدم تحققه فیه لعدم مخالفته أصلاً، ولو بلا اختیار، بل عدم صدور فعل منه فی بعض أفراده بالاختیار، کما فی التجری بارتکاب ما قطع أنه من مصادیق الحرام، کما إذا قطع مثلاً بأن مائعاً خمر، مع أنه لم یکن بالخمر، فیحتاج إلی إثبات أن المخالفة الإعتقادیة سبب کالواقعیة الإختیاریة، کما عرفت بما لا مزید علیه.

ثم لا یذهب علیک: إنه لیس فی المعصیة الحقیقیة إلاّ منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتک واحد، فلا وجه لإستحقاق عقابین متداخلین کما توهم، مع ضرورة أن المعصیة الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة، کما لا وجه لتداخلهما علی تقدیر استحقاقهما، کما لا یخفی.

ولا منشأ لتوهمه، إلاّ بداهة أنه لیس فی معصیة واحدة إلاّ عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تکشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

الشَرح:

بذلک وإن کان غیر صحیح علی إطلاقه إلاّ أنّه لا یوجب محذورا وخروجا عن مسلک العدلیة، وأمّا إذا کان المراد نفی التمکّن والإلتزام بالاقتضاء علی نحو العلیة فهو ینافی مسلک العدلیة نعم لا یندرج ذلک فی مذهب الجبر بل یکون شبیها بالجبر بحسب النتیجة کما أوضحنا ذلک فی بحث الطلب والإرادة.

ص :401

الأمر الثالث: إنه قد عرفت أن القطع بالتکلیف أخطأ أو أصاب، یوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، من دون أن یؤخذ شرعاً فی خطاب، وقد یؤخذ فی موضوع حکم آخر یخالف متعلّقه[1].

الشَرح:

فی أقسام القطع

اشارة

[1] وحاصله أنّ القطع بالتکلیف قد یکون موضوعا لحکم آخر یخالف ذلک الحکم الذی تعلق به القطع ولا یکون مماثلاً ولا مضادّا له، والمراد بالتخالف فی الحکمین عدم اتحادهما فی المتعلق، کما فی قوله: إذا قطعت بوجوب شیء یجب علیک التصدق بدرهم فإنّ التصدق بدرهم فعل آخر غیر الفعل الذی تعلّق به الحکم المقطوع، کما أنّ المراد بالحکمین المتماثلین أو المضادّین کون فعل متعلقا لحکمین من نوع أو نوعین وبما أنّ القطع من الصفات الحقیقیة ذات الإضافة، ولذا یکون العلم نورا لنفسه ونورا لغیره صحّ أن یؤخذ القطع بحکم موضوعا لحکم آخر بما هی صفة خاصة وحالة مخصوصة بالغمض عن جهة کشفه عن متعلقه، ومن غیر أن تؤخذ مع تلک الصفة خصوصیة اُخری، کما یصحّ أن یلاحظ معها خصوصیة اُخری کحصول متعلّقه خارجا، فیکون علی الأول: تمام الموضوع بما هی صفة خاصة، وعلی الثانی جزء الموضوع بما هی صفة خاصة، کما یصحّ أن یؤخذ فی موضوع حکم آخر بما هو کاشف عن متعلقه وحاک عنه بنحو یکون تمام الموضوع أو جزئه، فتکون أقسام القطع الموضوعی أربعة مضافاً إلی ما تقدم من القطع الطریقی المحض.

أقول: کما أنّ القطع بحکم یکون موضوعاً لحکم آخر کذلک یمکن کون القطع بصفة موضوعاً لحکم کما إذا جعل القطع بخمریة مایع موضوعاً للحکم بنجاسته أو حرمة شربه وفی هذا الفرض أیضا یمکن أخذه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة تمام الموضوع للحکم بالنجاسة والحرمة وأُخری مع ثبوت متعلقه وصفاً أو طریقاً.

ص :402

.··· . ··· .

الشَرح:

وما ذکره قدس سره من کون القطع من الصفات الحقیقیة ذات الإضافة ظاهر، فإنّه لیس من الانتزاعیات التی لا یکون لها فی الخارج إلاّ منشأ الانتزاع، ولا من الاُمور الاعتباریة کالوکالة مما یکون بالجعل والإنشاء، فإن العلم کالقدرة أمر خارجی قائم بالنفس، ولذلک الموجود اضافة، إضافة إلی المعلوم بالعرض کإضافة القدرة إلی المقدور، ولکن قوله قدس سره : أخذ القطع بنحو الصفتیة للقاطع أو المقطوع موضوعا لحکم آخر لا یمکن المساعدة علیه، فإن وصف المتعلق بالقطع عبارة عن انکشافه بحیث یکون منکشفا وهذا عبارة اُخری عن أخذ القطع فی موضوع حکم آخر طریقا لا وصفاً، وعلی الجملة القطع إذا کان موضوعا لحکم آخر بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة یمکن أن یکون تمام الموضوع للحکم الآخر، کما یمکن کونه جزءاً والجزء الآخر تحقق متعلقه، إلاّ أنّه فی الأول یکون تمام الموضوع وصفیته، وفی الثانی: أنّه بوصفیته مع ثبوت متعلقه موضوع للحکم الآخر، بخلاف ما إذا جعل وصفا لمتعلقه فإنّه لا معنی لکونه وصفا لمتعلقه إلاّ انکشافه، وبأن لا یکون مجرّد ثبوت المتعلق واقعا موضوعا للحکم الآخر، فجعل القطع تمام الموضوع لحکم آخر طریقا أمر غیر معقول، فإنّ جعله طریقا معناه فرض ثبوت متعلقه وواقعیته، وجعله تمام الموضوع عدم العبرة بثبوته، وتحقق الکشف من دون المنکشف فرض متهافت.

فی أخذ القطع بالتکلیف موضوعاً لحکم آخر

وقد یوجّه جعل القطع طریقا تمام الموضوع لحکم آخر، بأن القطع کسائر الصفات القائمة بالنفس مما لها إضافة إلی الصور الحاکیة عن الخارج لا یلتفت حین وجوده إلی ذهنیته وعروضه إلی الصورة الحاکیة عن الخارج بحیث إن الخارج ظرف

ص :403

لا یماثله ولا یضاده، کما إذا ورد مثلاً فی الخطاب أنه (إذا قطعت بوجوب شیء یجب علیک التصدق بکذا) تارة بنحو یکون تمام الموضوع، بأن یکون القطع بالوجوب مطلقاً ولو أخطأ موجباً لذلک، وأخری بنحو یکون جزؤه الشَرح:

للاتصاف، وإن ظرف عروضه هو الذهن، وبتعبیر آخر لا یلتفت عند حصول القطع بشیء إلی التفکیک المزبور، ولکن یلتفت بأنّ الخارج متعلقه لا نفس القطع وأنّ الخارج منکشف به، کما أنّ عند تصور مفهوم القطع یمکن تفکیکه عن متعلقه حتّی مع لحاظ جهة عروضه علی الصورة الحاکیة عن الخارج، فلحاظ المولی بأنّه عند القطع یحکم بصورة حاکیة عن الخارج یضاف إلیه القطع کاف فی جعله بتلک الصورة الحاکیة تمام الموضوع لحکم آخر من غیر لحاظ الوجود الخارجی لذی الصورة، ولو کانت الغفلة عن إضافته إلی تلک الصورة الحاکیة بحیث یری مبرزیته أی الواقع به فقط لما أمکن جعله طریقا بنحو جزء الموضوع أیضا، حیث إن نفسه بهذا اللحاظ مغفول عنه.

أقول: لحاظ المولی ما هو قطع بشیء بالحمل الشایع وجعله وصفا للقاطع موضوعا لحکم آخر بنحو تمام الموضوع أو جزئه لا یستلزم محذورا، ولکن جعل ما هو قطع بشیء موضوعا لحکم آخر بنحو الطریقیة لازمه ثبوت ذی الطریق وإلاّ لا یکون طریقا، بل یکون جزما باطلاً، نعم لو جعل القطع _ بما أنّه طریق بنظر القاطع _ موضوعا لحکم أمکن تخلّفه عن الواقع وأمکن جعله کذلک تمام الموضوع، حیث إن القطع بنظر القاطع طریق حیث لا یحتمل عدم مصادفته للواقع، وهذا یجری فی ناحیة العلم أیضا، فإنّ العلم وإن لا یتخلّف عن المعلوم بالعرض والاّ لم یکن علما الاّ أنّ ما هو علم بنظر القاطع یمکن ان لا یکون له معلوم خارجا ویمکن جعله بما أنّه بنظر القاطع طریقا تمام الموضوع کما یشبه ذلک ما ورد فی خطابات بعض الاُصول العملیة جعله غایة للحکم الظاهری نظیر قوله: «کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه

ص :404

وقیده، بأن یکون القطع به فی خصوص ما أصاب موجباً له، وفی کل منهما یؤخذ طوراً بما هو کاشف وحاکٍ عن متعلقه، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو الشَرح:

حرام»(1) أو «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر»(2) فان العلم فیهما وإن لم یکونا بموضوعین لعدم دخالتهما فی ثبوت الحرمة الواقعیة والقذارة الواقعیة، وأنّه مع العلم صادف الواقع أو لم یصادف یرتفع الموضوع للحکم الظاهری، وهو الشک فی الحرمة والقذارة الواقعیتین، إلاّ أن ذکرهما فی مثل الخطابین باللحاظ الذی ذکرنا یدلّ علی إمکان جعل حکم آخر له کما لا یخفی.

فی القطع المأخوذ موضوعاً بنحوی الطریقیة والوصفیة

وقد استشکل المحقق الاصبهانی قدس سره فی جعل القطع بشیء أو حکم موضوعا لحکم آخر وصفا تارة وطریقا اُخری، بأن لحاظ وصفیة القطع بما هو قطع لا ینفک عن لحاظ طریقیته بما هو قطع؛ لأنّه لا اختلاف فی اللحاظین، بل أحدهما عین الآخر لوحدة الملحوظ، وذلک فإنّ القطع ذاته کشف تام وافتراقه عن الظن بکون الکاشفیة فی القطع تامة بحیث لا یبقی بین النفس وواقع الشیء حجاب، بخلاف الظن فإنّه لیس بکشف تام وإن کانت کاشفیته بنحو التصدیق کالقطع بخلاف الکشف فی الشک والتردید فإنّه بنحو التصور، وعلی ذلک فلابد فی لحاظ القطع بشیء بنحو الوصفیة لحاظ الکشف التام ذاتا فإنّ ذات الشیء لا تلغی عند لحاظه، مثلاً عند لحاظ الإنسان لا تلغی إنسانیته، وما فی کلام الماتن من کون العلم نورا بنفسه منیرا لغیره لا یفید فی التفکیک فی اللحاظ، فإنّ نوریته بنفسه عین منیریته لغیره، حیث إن النوریة

ص :405


1- (1) الکافی 5:313.
2- (2) مستدرک الوسائل 2:583. عن الصدوق فی المقنع.

المقطوع به، وذلک لان القطع لما کان من الصفات الحقیقیة ذات الإضافة _ ولذا کان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغیره _ صح أن یؤخذ فیه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة کشفه، أو اعتبار خصوصیة أخری فیه معها، کما صح أن یؤخذ بما هو کاشف عن متعلقه وحاکٍ عنه، فتکون أقسامه أربعة، مضافاً إلی الشَرح:

بنفسها عبارة عن أنّه عین النور ولا یحتاج فی حضورها للنفس إلی حضور آخر، ولکن هذا النور عین حضور الغیر، ودعوی أنّ المولی عند جعل القطع بشیء موضوعا للحکم بنحو الطریقیة یلاحظ مطلق الکشف، وفی مورد جعله موضوعا بنحو الوصفیة یلاحظ الکشف التام ذاتا لا یمکن المساعدة علیها، فإن لازم أخذ مطلق الکشف شمول الموضوع للظن أیضا، وإن قیل تقییده بالاعتبار، فمع أنّ الاعتبار حکم وظاهر التقسیم بلحاظ نفس العلم أنّ لازم ذلک أن یکون خطاب اعتبار الأمارة موجبا لورودها علی الاُصول، مع أنّ الشیخ ملتزم بحکومتها علیها.

أقول: القطع بشیء عبارة عن جزم النفس وترجیحه أحد طرفی الشیء بحیث لا یحتمل خلافه، ویقابله تردّد النفس فی أحد طرفیه أو ترجیحه مع احتماله الخلاف المعبر عن ذلک بالظن والجزم کما ذکر لا یکون طریقا إلی الواقع بالحمل الشایع، فإن الواقع قد یکون علی خلافه، وإذا کان الجزم کذلک فکیف یکون القطع ذات الطریق دائما، وعلیه فللمولی أن یجعل الجزم بشیء إذا انطبق علیه الطریق إلی الواقع بالحمل الشایع موضوعا لحکم آخر، فقد ذکرنا أن القطع فی هذه الصورة جزء الموضوع لا محالة، والجزء الآخر ثبوت المقطوع وواقعیته، ویمکن أن ینظر إلی نفس الجزم وکونه حالة للنفس فی مقابل الشک والظن موضوعا من غیر نظر إلی واقعیة المجزوم به وعدمه، فیکون القطع تمام الموضوع بنحو الوصفیة، وثالثةً یلاحظ ذلک مع الثبوت والواقعیة للمجزوم به فیکون جزء الموضوع بنحو الوصفیة، والمراد من

ص :406

ما هو طریق محض عقلاً غیر مأخوذ فی الموضوع شرعاً.

ثم لا ریب فی قیام الطرق والأمارات المعتبرة _ بدلیل حجیّتها واعتبارها _ مقام هذا القسم[1].

الشَرح:

قولنا القطع طریق ذاتا، أن طریقیته لا تحصل بجعل آخر ولا یکون فی البین وراء موجب جزم النفس بشیء أمر آخر یوجب طریقیته عند ما أصاب الواقع، بخلاف الظن فإنّه أیضا حالة للنفس ولکن الطریقیة فیه حتّی فیما أصاب الواقع لیست بحیث یوجب تنجز الواقع بلا جعل واعتبار.

قیام الأمارة بدلیل اعتبارها مقام القطع المأخوذ فی الموضوع طریقا

[1] وحاصله أنّ مدلول دلیل اعتبار الأمارة أن یثبت لها الأثر المترتب علی القطع عقلاً فتکون منجزة للواقع عند إصابتها وعذرا عند خطئها دون الأثر الشرعی الذی قد یثبت للقطع بالتکلیف شرعا کوجوب التصدق فی المثال المتقدم، فلا تقوم الأمارة _ بدلیل اعتبارها _ مقام القطع المأخوذ فی موضوع تکلیف آخر سواء کان أخذه فیه بنحو الوصفیة أو الطریقیة، نعم إذا قام فی مورد دلیل علی أنّ الأمارة الفلانیة بمنزلة القطع فی أثره الشرعی المجعول له قامت تلک الأمارة مقامه فی ذلک الأثر، وهذا غیر الخطاب الدالّ علی اعتبار الأمارة، والوجه فی ذلک فإن ثبوت ما للقطع عقلاً للأمارة یحتاج إلی تنزیل مؤدی الأمارة منزلة المقطوع بأن یکون نظر المعتبر إلی الأمارة والقطع آلیا، وینظر من القطع إلی متعلقه ومن الأمارة إلی مؤدّاها وثبوت ما للقطع شرعا للأمارة یحتاج إلی تنزیل نفس الأمارة منزلة نفس القطع بأن یکون نظره الاستقلالی إلی نفس الأمارة والقطع والجمع بین اللحاظین فی شیء فی آن غیر ممکن، ولیس فی البین ما یجمع بین نحوی اللحاظ فی الشیء لیکون دلیل اعتبار الأمارة دالاًّ علی تنزیل ذلک المعنی الجامع لیعمّ مدلوله لکلا التنزیلین، فیکون

ص :407

.··· . ··· .

الشَرح:

مدلول دلیل الاعتبار تنزیل واحد وهو التنزیل باللحاظ الآلی لانصرافه إلیه دون اللحاظ الاستقلالی فإن دلالته علیه یحتاج إلی نصب قرینة تمنع عن الانصراف إلی التنزیل الآلی.

ثمّ ذکر قدس سره فی آخر کلامه أنّه لولا جهة امتناع الجمع بین اللحاظ الآلی والاستقلالی فی استعمال واحد أو أغمض عنه لأمکن القول بأنّ مدلول دلیل اعتبار الأمارة یوجب قیامها مقام القطع الموضوعی حتّی فیما کان القطع بنحو الوصف موضوعا لحکم آخر، بدعوی أنّ مدلول دلیل الاعتبار هو إلغاء احتمال الخلاف فی مورد قیام تلک الأمارة فتکون الأمارة قطعا یثبت لها ما یثبت للقطع بالشیء ولو مع أخذ القطع بنحو الوصفیة.

أقول: کما أنّ الأثر المجعول شرعا للقطع بالتکلیف أثر لنفس القطع به، کذلک المنجزیة والمعذریة أثر لنفسه غایة الأمر بعنوان أن القطع به وصول الواقع لا بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة، فلا حاجة فی اعتبار أمارة قائمة بالتکلیف أن ینزل الحاکم مؤدّاها منزلة المقطوع، لیقال: إنّ النظر فی هذا التنزیل إلی الأمارة والقطع آلی، فلا یمکن معه التنزیل بلحاظ الأثر الجعلی الشرعی لاستلزامه الجمع بین اللحاظین الآلی والاستقلالی، حیث إن المُعتبِر ینزِّل الأمارة القائمة بالتکلیف منزلة العلم به وإنّما یکون العالم بالشیء نظره إلی علمه آلیا لا الحاکم علی ذلک العلم سواء کان الحاکم به عقلاً کما فی القطع بالتکلیف بالإضافة إلی متعلقه من منجزیته له، أو شرعا کما فی القطع به بالإضافة إلی حکم آخر فیثبت للأمارة القائمة بالتکلیف کلا الأثرین.

ولیعلم أیضا أنّ المراد بالتنزیل لیس جعل الأثر الثابت للمنزل علیه للمنزّل لیرجع حاصل هذا التنزیل إلی جعل المنجزیة والمعذریة للأمارة القائمة بالتکلیف،

ص :408

.··· . ··· .

الشَرح:

فإن التنزیل بجعل الأثر إنّما یکون فی الموارد التی لم یکن المنزل علیه قابلاً للجعل والاعتبار، وأما فی موارد قابلیته للجعل والاعتبار یعتبر المنزل نفس المنزل علیه ومن أفراده کما فی المقام، فإنّ العلم فی نفسه قابل لأنّ یعتبر الشیء کخبر الثقة بأمر علما به.

فیترتب علی خبر الثقة بالتکلیف ما للعلم به من التنجیز والأثر الشرعی، ولولا انصراف الاعتبار إلی اعتباره علما بما هو طریق لأمکن دعوی أنّه علم بالتکلیف حتّی بالإضافة إلی الأثر الشرعی المجعول له بما هو صفة وحالة مخصوصة لإمکان أن یعتبر خبر الثقة بتکلیف علما به من حیث وصفیة العلم وطریقیته.

فی الإیراد علی ما ذکره الماتن قدس سره

وقد یورد علی کلّ مما ذکر الماتن فی المقام من أن مقتضی دلیل اعتبار الأمارة تنزیل مؤدّاها منزلة الواقع، وما ذکره فی بحث اعتبار الأمارة من أنّ الاعتبار یکون بجعل المنجزیة والمعذریة لها.

أما الایراد علی ما ذکره فی المقام، فیقال: لوکان مقتضی دلیل الاعتبار تنزیل المؤدّی فبما أنّ المؤدّی فی نفسه قابل للجعل فیکون تنزیله بجعله کالحکم الواقعی، وهذا یوجب التصویب؛ لأنّ الحکم الواقعی حکم نفسی علی تقدیر ثبوته واقعا، وأما ما ذکر فی باب اعتبار الأمارة فلأنّ جعل المنجزیة والمعذریة لها یوجب التخصیص فی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، ویصعب الإلتزام بتقدیم الأمارة علی الاستصحاب، فإن الاستصحاب أیضا کالأمارة منجز فلا وجه لتقدیم منجز علی منجز آخر مع کون کلّ منهما منجز عند الشک فی الواقع.

أقول: الإیرادان غیر واردین علی کلام الماتن فی المقامین، والوجه فی ذلک أنّه

ص :409

.··· . ··· .

الشَرح:

لیس مراده من التنزیل جعل المؤدی بحیث یکون المؤدی حکما نفسیا فی مقابل الواقع سواء أصابت الأمارة الواقع أم لا، بل المراد دعوی أنّ مدلول الأمارة هو الحکم الواقعی وأن العمل بها عمل بالتکلیف الواقعی، بحیث لو کان مدلولها مطابقا للحکم الواقعی وترک المکلف العمل بها یکون مؤاخذا بمخالفة التکلیف الواقعی، وإن کان مخالفا لها یکون العمل بها عذرا کما هو الحال فیما قطع به من التکلیف، وإلاّ فلیست الأماره القائمة بالتکلیف الواقعی موجبة لتغیر ملاک الفعل.

وبتعبیر آخر لیس فی کلامه قدس سره دلالة علی جعل مؤدی الأمارة التی یکون جعله حکما طریقیا فضلاً عن دلالته علی کونه هو الحکم النفسی التابع لملاک حاصل فی متعلّقه لیکون حکما نفسیا. وأمّا ما ذکر فی الإیراد من أنّ الأمارة علی تقدیر کون اعتبارها بمعنی جعل المنجزیة والمعذریة یکون اعتبارها تخصیصا فی حکم العقل فغیر صحیح، فإنّ المراد بالبیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان لیس هو العلم، بل المراد ما یصحّ عقلاً احتجاج المولی به فی مؤاخذته العبد علی مخالفته التکلیف من إیجابه الاحتیاط أو أمره بالعمل بالأمارة الفلانیة أو تنزیل مدلولها منزلة الواقع بدعوی أنّ العمل بها عمل بالواقع لیکون المکلف مؤاخذا بالواقع عند إصابتها الواقع وعذراً عند خطئها، ومرجع ذلک إلی جعل المنجزیة والمعذریة لها، ومع ثبوت شیء من ذلک لا یکون فی المورد موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ومما ذکر یظهر أنّه لو تمّ ما ذکره من تنزیل المؤدّی منزلة الواقع لما کان تأمل فی تقدیم الأمارة القائمة، لعدم بقاء الحالة السابقة علی خطابات الاستصحاب فإن الاستصحاب یجری مع الشک فی بقاء الحالة السابقة ومع حکم الشارع بأنّ مدلول الأمارة هو الواقع فعلاً یحرز انتقاض الحالة السابقة، کما أنّه مع الأمارة الموافقة یحرز

ص :410

.··· . ··· .

الشَرح:

بقاؤها فلا شک فی البقاء والارتفاع لیجری الاستصحاب.

وعلی الجملة فالصحیح فی الإیراد علی الماتن، هو أنّه لو لم یکن اعتبار الأمارة باعتبارها علما بالواقع لزم الالتزام بالتخصیص فی مثل قوله سبحانه «ولا تقف ما لیس لک به علم»(1) و«إنّ الظن لا یغنی من الحق شیئا»(2) سواء التزم بأنّ اعتبارها بمعنی جعل المنجزیة أو المعذریة لها أو بایجاب العمل بها طریقا مع أنّ مثلهما آبٍ عن التخصیص.

لا یقال: اعتبار الأمارة علما لا یکفی فی قیامها مقام القطع المأخوذ طریقا فی موضوع حکم آخر، بل لابد من جعل ذلک الحکم الآخر للأمارة القائمة بالتکلیف ثانیا، وذلک فإنّه باعتبارها علما یثبت لها الأثر المترتب علی القطع بالتکلیف عقلاً، حیث إنّه باعتبارها علما تکون الأمارة القائمة بالتکلیف وصولاً لذلک التکلیف فیحکم العقل بمنجزیتها ومعذریتها، وأما الأثر الشرعی فلیس زمامه إلاّ بید الشارع فلا یسری ذلک الأثر الشرعی المجعول للقطع بالأمارة ثانیا، قهرا، بل لابد من جعله لتلک الأمارة أیضا، ولا یمکن استفادة هذا الجعل من مجرّد خطاب الاعتبار وتنزیلها منزلة العلم.

فإنّه یقال: ما دلّ علی ثبوت الحکم الآخر علی العلم بالتکلیف فی موارد جعل القطع به موضوعا للحکم الآخر مفاده القضیة الحقیقیة، بمعنی أنّه لو حصل العلم فی مورد بذلک التکلیف بحیث لو حصل أمر انطبق علیه عنوان القطع به، یترتب علیه

ص :411


1- (1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- (2) سورة یونس: الآیة 36.

.··· . ··· .

الشَرح:

ذلک الحکم الآخر، وإذا کان مفاد اعتباره أمارة قائمة بذلک أنّها علم بها یترتب علیها أیضا الحکم الآخر ولا یحتاج ترتبه علیه إلی أمر آخر غیر ذلک الاعتبار.

ثم لا یخفی کما أن القطع بالتکلیف لامکان عدم إصابته الواقع یختصّ تنجیزه بصورة إصابته، ولکن حیث إنّه لا یحتمل القاطع خطأ قطعه یترتب علیه الحکم الآخر، وإن کان ترتبه علیه علی تقدیر إصابة قطعه الواقع علی ما هو مقتضی أخذ القطع بالتکلیف موضوعا لحکم آخر بنحو الطریقیة، کذلک الحال فی اعتبار الأمارة القائمة بالتکلیف حیث إن منجزیتها أیضا عند إصابتها الواقع، غیر أنّ من قامت عنده الأمارة بالتکلیف یحتمل عدم إصابتها الواقع، إلاّ أنّ مقتضی تنزیلها منزلة العلم بالتکلیف ترتب ذلک الحکم الآخر علیها أیضا ولو کان بنحو الحکم الظاهری، وما دامت الأمارة قائمة. وإذا ظهر بعد ذلک الخلاف یعلم عدم ترتب شیء علی تلک الأمارة لا المنجزیة ولا الحکم الآخر کما هو الحال فی انکشاف الخلاف فی القطع بالتکلیف أیضا، غایة الأمر عند انکشاف الخلاف فی القطع لم یکن حکم ظاهری أیضا بخلاف الانکشاف فی الأمارة، وعلی الجملة فی موارد کون القطع بالتکلیف موضوعا لحکم آخر بنحو الطریقیة یکون اعتبار الأمارة من قبیل الحکم الظاهری فتکون حکومتها علی الحکم الآخر الثابت للقطع بالتکلیف ظاهریة وتکون حکومتها الواقعیة تابعة لمصادفتها للواقع.

تقریر کلام النائینی قدس سره

ذکر المحقق النائینی فی المقام أنّ القطع بشیء ومنه القطع بالتکلیف یکون فیه جهات ثلاث:

ص :412

.··· . ··· .

الشَرح:

الاُولی: کونه وصفا یحصل للنفس بإیجادها صفة فی صقعها الداخلی، ویعبر عن تلک الصورة بالمعلوم بالذات.

والثانیة: انطباقها بنظره علی ذو الصورة بحیث یکون ذو الصورة منکشفا بتلک الصورة، وهذه الجهة مترتبة علی الجهة الاُولی؛ لأنّ إحراز الواقع وانکشافه للنفس یکون بتلک الصورة.

الثالثة: البناء والجری العملی علی وفق العلم حیث إنّ العلم بوجود الأسد فی الطریق یقتضی الفرار عنه، وبوجود الماء یوجب التوجّه إلیه إذا کان عطشانا ولذا سمّی العلم اعتقادا، حیث إنّ العالم بشیء یعقد القلب علی وفق المعتقد والعمل علی وفقه، وهذه الجهات المترتبة مجتمعة فی العلم بالشیء وتکون من لوازم ذات العلم، حیث إن حصول الصورة للنفس حقیقة العلم ومحرزیته وجدانی والبناء والجری العملی علیه قهری، والمجعول فی باب الأمارات هی الجهة الثانیة، حیث إن المجعول فیها نفس محرزیتها وطریقیتها إلی الواقع، حیث إن الأمارة تکون کاشفة عن الواقع بکشف ناقص والمجعول الشرعی فیها إمضاءً أو تأسیسا تمامیة کشفها واعتبارها علما بالإضافة إلی الواقع، ولذا یعتبر فی کون شیء أمارة أن یکون لها کشف فی حدّ نفسها والشارع فی مقام التشریع یتمّم جهة کشفها من غیر أن یتصرف فی الواقع أو یجعل مؤدّاها، وأما المجعول فی الاُصول المحرزة یکون مفاد خطاباتها اعتبار المکلف عالما من حیث الجری العملی من دون أن یکون هناک جهة کشف وطریقیة، بالإضافة إلی أحد طرفی الشیء کما هو فرض الشک فیه موضوعاً لتلک الاُصول فلا یکون المجعول فیها الطریقیة بل المجعول فیها العلم فیما یقتضیه قهرا، ولذلک تکون الأمارة بدلیل اعتبارها مقدمة علی تلک الاُصول وحاکمة علی

ص :413

.··· . ··· .

الشَرح:

اعتبارها.

وقد ظهر مما ذکر أنّ حکومة الاُصول والأمارات علی الأحکام الواقعیة لیست حکومة واقعیة من حیث التضییق أو التوسعة فیها، نظیر قوله علیه السلام لا سهو لمن کثر علیه السهو(1)، وقوله: الطواف بالبیت صلاة(2) إلی غیر ذلک، بل الحکومة فیها بالإضافة إلی الأحکام الواقعیة ظاهریة فإن أصاب الواقع فالواقع هو الواقع، وإن لم یصبه فلیس هناک توسعة وضیق من جعل المؤدّی أو غیره، بل یکون اعتبار العلم من الحکم الظاهری المقتضی کونه عذرا لدی عدم الإصابة.

کلام الشیخ العراقی فی الإشکال علی المحقق النائینی

وقد أورد الشیخ العراقی قدس سره علی ما ذکره من أنّ اعتبار الأمارة علما أو کون المکلف عالما إن اُرید منه کون الأمارة علما حقیقة أو کون المکلف عالما کذلک، بحیث ینطبق علیها العلم وعلیه العالم حقیقة وبلا عنایة ففساده أوضح من أن یخفی، وإن اُرید العلم ادعاءً وبالعنایة کجعل الحیاة أو الممات لمن لا یعلم حیاته ومماته فهذا أمر صحیح، ومن الظاهر أن الأمر فی جعل العلم یدور بین الأمر من الصیرورة بحیث ینطبق علیه العلم حقیقة، أو یکون بالادعاء والعنایة، وإذا کان المراد الأمر الثانی الذی قلنا بصحته فلابد من ادعاء شیء لشیء النظر إلی جهة اُخری مصحح للادعاء والعنایة، فإن کان النظر فی تنزیل من قامت عنده الأمارة النظر إلی أثر العالمیة من طلب إکرامه، فلا یترتب علیه غیر هذه الجهة، وإن کان النظر إلی لزوم

ص :414


1- (1) وسائل الشیعة 8:227، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة.
2- (2) مستدرک الوسائل 9:38.

کما لا ریب فی عدم قیامها بمجرد ذلک الدلیل مقام ما أخذ فی الموضوع علی نحو الصفتیة من تلک الأقسام، بل لا بد من دلیل آخر علی التنزیل، فإن قضیة الحجیة والإعتبار ترتیب ما للقطع بما هو حجة من الآثار، لا له بما هو صفة وموضوع، ضرورة أنه کذلک یکون کسائر الموضوعات والصفات.

الشَرح:

عمله علی الأمارة فتشترک الأمارة مع الاُصول فی جهة المعاملة والعمل، فالأمر بالعمل مشترک بینهما، غایة الأمر یستفاد الأمر بالعمل فی الاُصول بدوا وفی الأمارة من جعل الإحراز بدوا بإنشائه أو إحرازه فإنّ من الظاهر أنّ مجرد تنزیل الأمارة علی العلم وإنشاء الإحراز لها لا یقتضی شیئا ما لم یأمر الشارع بالعمل علی طبقه، فالمستکشف من إنشاء الإحراز والتنزیل الأمر بالمعاملة، فالموجب لقیام الأمارة مقام العلم الأمر بالمعاملة، وحیث إن المقصود من الأمر بالمعاملة، فی الاُصول والأمارة إبراز فعلیة الإرادة الواقعیة ولا ینحصر هذا الإبراز بهما بل یجری فی مثل إیجاب الاحتیاط أیضا الذی لا عنایة فیه أصلاً، فمبرزیة خطابات اعتبار الأمارة والاُصول والأمر بالاحتیاط یکون بهذا المعنی لا تتمیم الکشف أو التعبد بالمؤدی کما هو مفاد الخطاب، وعلی الجملة فالموجب للعمل فی هذه الموارد إبراز الإرادة الواقعیة.

وذکر قدس سره أیضا فی الفرق بین الأمارة والاُصول أن الواقع فی موارد الأمارة محرز بالعنایة والادعاء، وفی الاُصول الواقع التعبدی محرز بالوجدان، ولا نفهم بین الأمارة والاُصول فرقا آخر، وقال من أسّس أساس الحکومة والورود کلماته مشحونة بأنّ مرجع الورود اقتضاء الجعل لتضییق دائرة دلیل الإحراز وتوسعته حقیقة، ومرجع الحکومة إلی تضییق دائرته عنایة وبنحو الادعاء بحیث یرجع لبّا إلی التخصیص کما أنّ الأول یرجع إلی التخصص وإن کان بین الورود والتخصص فرق، وإذا فرض فی

ص :415

ومنه قد انقدح عدم قیامها بذاک الدلیل مقام ما أخذ فی الموضوع علی نحو الکشف، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو فی الموضوع شرعاً، کسائر مالها دخل فی الموضوعات أیضاً، فلا یقوم مقامه شیء بمجرد حجیته، وقیام دلیل علی اعتباره، ما لم یقم دلیل علی تنزیله، ودخله فی الموضوع کدخله، وتوهم کفایة دلیل الإعتبار الدال علی إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع، من جهة کونه موضوعاً ومن جهة کونه طریقاً فیقوم مقامه طریقاً کان أو موضوعاً، فاسد جداً.

الشَرح:

الطرق أنّها لا تکون توسعة فی طریق الواقع بلا حکم ظاهری ولا تصرف فی الواقع ولو بالعنایة فمن أین لمثل هذا الجعل حکومة علی الواقع ولو ظاهرا؟ وتسمیة التوسعة فی الطریق محضا بالحکومة الظاهریة بالنسبة إلی الأحکام الواقعیة اصطلاح جدید ما سمعناه من آبائنا الأولین، نعم الحکومة الظاهریة صحیحة فی الأمارة بالإضافة إلی مفاد الاُصول الذی لیس فیها توسعة إحراز بجعل الإحراز، وإنّما المجعول فیها الأمر بالمعاملة مع أحد الاحتمالین معاملة الواقع فإنّ فی اعتبار الأمارة تضییقاً واقعیاً لمفاد خطاب الأصل بنحو لسان نفی موضوع الأصل.

کلام الشیخ العراقی قدس سره والجواب عنه

أقول: اعتبار الأمارة علما لیس بحیث ینطبق علیها عنوان العلم والکشف التام تکوینا ووجدانا کما أنّه لیس بمعنی تنزیلها منزلة العلم بلحاظ جعل الأثر والأمر بوجوب العمل بها، بل جعل ما فی الأمارة من الکشف الناقص وجدانا کشفا تاما اعتبارا، حیث إن للعلم وجوداً حقیقیاً ووجوداً اعتباریاً کما ذکر ذلک فی الطلب الحقیقی والاعتباری والملکیة الحقیقیة والاعتباریة، ومن المعلوم أنّ الجعل والاعتبار لابد من أن یکون بحیث لا یکون لغواً، وفی اعتبار الأمارة علماً فی جهة طریقیة العلم، یکفی سریان ما للعلم عقلاً من کونه وصولاً للتکلیف الواقعی من تنجز

ص :416

فإن الدلیل الدال علی إلغاء الإحتمال، لا یکاد یکفی إلاّ بأحد التنزیلین، حیث لا بد فی کل تنزیل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل علیه، ولحاظهما فی أحدهما آلیّ، وفی الآخر استقلالی، بداهة أن النظر فی حجیته وتنزیله منزلة القطع فی طریقیته فی الحقیقة إلی الواقع ومؤدی الطریق، وفی کونه بمنزلته فی دخله فی الموضوع إلی أنفسهما، ولا یکاد یمکن الجمع بینهما.

الشَرح:

ذلک التکلیف الواقعی إذا أصابت الأمارة الواقع، بل وترتب ما للعلم بالتکلیف بما هو طریق من وجوب التصدق، وقد تقدم أن اعتبار الشارع الأمارة علماً بالواقع من قسم الحکم الظاهری، فعلی المکلف رعایة التکلیف الواقعی والأثر الشرعی المترتب علی العلم بالواقع، فمع إصابتها الواقع لیس وراء ما فی الواقع أمراً آخر من جعل المؤدی أو جعل المنجزیة والمعذریة، ومع عدم إصابتها یکون اعتبارها علماً مجرد حکم ظاهری من غیر توسعة وتضیق بالإضافة إلی الواقع، وأما فی موارد الاُصول المحرزة فمقتضی دلیل اعتبارها کون المکلّف عالماً بالواقع ولکن لیس فی هذا الاعتبار تتمیم کشف وإنما یعتبر الشاک فی الواقع عالماً فیترتب علیه ما للعلم من الجری العملی علیه لأنّ اعتبار المکلّف عالماً إما فی مقام الامتثال کما فی مثل قاعدتی الفراغ والتجاوز، وإما فی مقام عدم الطریق الوجدانی التام إلی الحکم الواقعی وعدم قیام طریق کاشف اعتباری کذلک إلی ذلک الواقع بحیث تکون تمامیة کاشفیته بالاعتبار علی قرار ما تقدم کما یترتب علی ذلک عدم المجال للأصل المحرز مع الأمارة القائمة بالواقع، فإنّه مع قیامها وشمول دلیل الاعتبار لها لا شک للمکلّف لیکون معهما موضوع لاعتبار الأصل، ولیس مفاد دلیل اعتبار الأصل الأمر بالجری العملی المقصود منه إبراز فعلیة الإرادة، کما أنّه لیس المقصود من اعتبار الأمارة علماً أن یأمر الشارع بالجری العملی ویبرز فعلیة الإرادة، فإنّ تعلق إرادة

ص :417

نعم لو کان فی البین ما بمفهومه جامع بینهما، یمکن أن یکون دلیلاً علی التنزیلین، والمفروض أنه لیس، فلا یکون دلیلاً علی التنزیل إلاّ بذاک اللحاظ الآلیّ، فیکون حجة موجبة لتنجز متعلقه، وصحة العقوبة علی مخالفته فی صورتی إصابته وخطئه بناءً علی استحقاق المتجری، أو بذلک اللحاظ الآخر الاستقلالی، فیکون مثله فی دخله فی الموضوع، وترتیب ما له علیه من الحکم الشرعی.

لا یقال: علی هذا لا یکون دلیلاً علی أحد التنزیلین، ما لم یکن هناک قرینة فی البین.

الشَرح:

المولی بفعل العبد أمر لا أساس له، کما تقدم فی بیان جعل الأحکام وإنشائها وبیان الفرق بین ذلک المقام ومقام فعلیتها.

وعلی الجملة الوجه فی تقدیم الأمارة علی الاُصول المحرزة أن الشک فی الواقع غیر مأخوذ فی دلیل اعتبار الأمارة، بل بما أنّ العالم بالواقع وجداناً اعتبار الطریق له إلی الواقع غیر معقول فیقید دلیل اعتبارها بعدم العلم بالواقع وجداناً وتکون الأمارة القائمة مع عدم العلم بالواقع معتبرة وباعتبارها یرتفع الموضوع فی اعتبار الأصل المثبت، فإن الموضوع لاعتبار الاستصحاب مثلاً کون المکلف من ثبوت شیء علی یقین ومن بقائه علی شک بنحو القضیة الحقیقیة، ومع شمول دلیل اعتبار الأمارة للأمارة القائمة فی مورد الیقین بالحدوث والشک فی البقاء یرتفع الشک سواءً کانت الأمارة علی البقاء أو الارتفاع، أضف إلی ذلک مثل حکم الشارع بالقضاء بالبینة مع کون قول المنکر مطابقاً للاستصحاب نوعاً دلیل علی طولیة اعتبار الاستصحاب ودعوی اعتبار الیقین بالحدوث علماً بالبقاء مع کون الموضوع فی الاستصحاب الشک فی البقاء لا محذور فیها؛ لأنّ الشک فی البقاء مع قطع النظر عن الاعتبار المزبور. وأما تقدیم قاعدة الشک فی رکعات الصلاة وکذا تقدیم قاعدتی

ص :418

فإنه یقال: لا إشکال فی کونه دلیلاً علی حجیته، فإن ظهوره فی أنه بحسب اللحاظ الآلیّ مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه، وإنما یحتاج تنزیله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالی من نصب دلالة علیه، فتأمل فی المقام فإنه دقیق ومزال الأقدام للأعلام.

ولا یخفی أنه لولا ذلک، لأمکن أن یقوم الطریق بدلیل واحد __ دالّ علی إلغاء احتمال خلافه __ مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فیما أخذ فی الموضوع علی نحو الصفتیة، کان تمامه أو قیده وبه قوامه.

فتلخص مما ذکرنا: إن الامارة لا تقوم بدلیل اعتبارها إلاّ مقام ما لیس بمأخوذ فی الموضوع أصلاً.

وأما الاُصول فلا معنی لقیامها مقامه بأدلتها _ أیضا _ غیر الاستصحاب[1].

الشَرح:

الفراغ والتجاوز علی الاستصحاب، مع أنّ الاستصحاب کالقاعدتین من الأصل المحرز فلأنّ القواعد المزبورة اعتبرت فی موارد کون مفاد الاستصحاب علی خلافها کلاً أو غالبا وعدم لزوم لغویة اعتبارها اقتضی تقدیمها علی الاستصحاب.

[1] حاصل ما ذکره قدس سره أنّه لا تقوم الاُصول العملیة مقام القطع الطریقی المحض أیضا، بدلیل اعتبارها غیر الاستصحاب فإنّه یقوم مقامه، وذلک فإنّ المراد من القیام مقامه ترتیب ما للقطع من الأثر من تنجیزه التکلیف وغیره، والاُصول العملیة وظائف مقررة للجاهل بالحکم الواقعی فی ظرف الشک فیه من الشارع أو من العقل.

ثم قال: لا یقال لا بأس بقیام الاحتیاط مقام القطع الطریقی المحض من تنجز التکلیف الواقعی به، وأجاب بأنّ الاحتیاط العقلی هو نفس حکم العقل بتنجز التکلیف الواقعی وصحة العقاب علی مخالفته، فلیس الاحتیاط العقلی شیء لیقوم مقام القطع الطریقی فی تنجیز التکلیف الواقعی، نعم الاحتیاط النقلی وهو أمر

ص :419

لوضوح أن المراد من قیام المقام ترتیب ما له من الآثار والأحکام، من تنجز التکلیف وغیره __ کما مرت إلیه الإشارة __ وهی لیست إلاّ وظائف مقررة للجاهل فی مقام العمل شرعاً أو عقلاً.

لا یقال: إن الاحتیاط لا بأس بالقول بقیامه مقامه فی تنجز التکلیف لو کان.

الشَرح:

الشارع طریقا بالاحتیاط فی الشبهة وإن یوجب تنجز التکلیف الواقعی فی مورده علی تقدیر التکلیف ویصحّح العقوبة علی مخالفته کالقطع، إلاّ أنّه لا نقول بالاحتیاط فی الشبهة البدویة ولا یکون بنقلی فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی.

أقول: لو کان المراد من قیام شیء مقام القطع أن یترتب علیه کلّ من تنجیز الواقع والتعذیر عنه کما هو الحال فی الاستصحاب، حیث إنّه یکون منجزا فی بعض الموارد ومعذرا فی بعضها الآخر فلا معنی لتسلّمه قیام الأمر بالاحتیاط النقلی مقام القطع الطریقی، فإنّه لا یترتب علیه إلاّ تنجیز الواقع دون التعذیر عنه، وإن کان المراد فی القیام مقامه ترتب الأثر الواحد فلابد من الإلتزام بقیام البراءة الشرعیة وأصالة الحل مقام القطع الطریقی، حیث یترتب علیهما عذر المکلّف إذا صادفتا مخالفة التکلیف الواقعی، فالتفرقة بین الاحتیاط النقلی والبراءة النقلیة بلا وجه، نعم إذا بنی أن عذر المکلف فی مخالفة التکلیف الواقعی فی مورد خطأ القطع لیس من أثر القطع، بل أثره تنجیز التکلیف الواقعی إذا أصاب والعذریة فی موارد خطئه لعدم وصول الواقع لا القطع بخلافه، کما هو الصحیح، صحّ التفصیل بین الأمر بالاحتیاط والبراءة الشرعیة، ولا یخفی أیضا أنّ قیام الاحتیاط الشرعی مقام القطع لیس معناه تنزیل الأمر به منزلة العلم بالواقع أو اعتباره علما به لیتوهّم ثبوت الأثر الشرعی للقطع بالتکلیف للأمر به أیضا، فإنّ الاستحقاق علی مخالفة التکلیف الواقعی أثر لوصول الواقع أو لتمام البیان أی المصحّح للعقوبة علی مخالفته، والأمر بالاحتیاط

ص :420

فإنه یقال: أما الاحتیاط العقلی، فلیس إلاّ لأجل حکم العقل بتنجز التکلیف، وصحة العقوبة علی مخالفته، لا شیء یقوم مقامه فی هذا الحکم.

وأما النقلی، فإلزام الشارع به، وإن کان مما یوجب التنجز وصحة العقوبة علی المخالفة کالقطع، إلاّ أنه لا نقول به فی الشبهة البدویة، ولا یکون بنقلی فی المقرونة بالعلم الإجمالی، فافهم.

ثم لا یخفی أن دلیل الإستصحاب[1].

الشَرح:

طریقا فی شبهة بیان للتکلیف المحتمل لا أنّه علم به، نعم فی مورد جریان الاستصحاب فی ناحیة التکلیف یترتب علیه التنجیز والأثر الشرعی الثابت للعلم بالتکلیف علی قرار ما تقدم.

لا یقال: لا یمکن الإلتزام بترتب الأثر الشرعی الثابت للعلم بالواقع فی مورد الاستصحاب فإنّه لا یمکن الإلتزام بالشهادة بکون المال ملک زید اعتمادا علی الاستصحاب أو الشهادة بکون الشیء نجسا فعلاً أو أن الزوج حیّ فعلاً اعتمادا علیه.

فإنّه یقال: قد تقدم کفایة اعتبار العلم فی ترتب أثره العقلی والشرعی ویجوز الإخبار بشیء اعتمادا علی قاعدة الید أو الاستصحاب، ولکن ذکرنا فی بحث القضاء أن الإخبار بشیء استنادا إلی العلم الاعتباری لا یکون مدرکا للقضاء بالمخبر به، بل اللازم فی القضاء شهادة العدلین والمأخوذ فی الشهادة حسّ الواقعة المشهود بها لا مطلق العلم لیعمّ العلم المستفاد من خطاب اعتبار الاستصحاب بل الأمارة.

[1] ما ذکره فی وجه عدم قیام الأمارة مقام القطع المأخوذ فی موضوع حکم آخر کأنّه یجری فی الاستصحاب أیضا فلا یقوم الاستصحاب المستفاد من خطاب لا تنقض الیقین بالشک إلاّ مقام القطع الطریقی المحض، وذلک فإنّ الخطاب المزبور

ص :421

أیضاً لا یفی بقیامه مقام القطع المأخوذ فی الموضوع مطلقاً، وإن مثل (لا تنقض الیقین) لا بد من أن یکون مسوقاً إما بلحاظ المتیقن، أو بلحاظ نفس الیقین. وما ذکرنا فی الحاشیة _ فی وجه تصحیح لحاظ واحد[1].

الشَرح:

لا یمکن أن یتکفّل إلاّ لأحد التنزیلین، بأن ینزّل المشکوک بقاؤه منزلة المتیقن، وأن یکون النظر إلی الشک والیقین آلیا أو أن ینزّل نفس الشک فی البقاء منزلة نفس الیقین به، وحیث إن ظاهر النظر إلیهما آلیا فلا یستفاد منه إلاّ التنزیل بحسب المشکوک والمتیقن ویقوم الاستصحاب فی موارد جریانه مقام القطع الطریقی المحض.

کلام الماتن قدس سره فی وجه امتناع وفاء دلیل اعتبار الأمارة والاستصحاب لقیامهما مقام القطع الموضوعی

[1] ذکر فی تعلیقته ما حاصله إذا فرض ثبوت النجاسة لنفس الخمر والحرمة لشرب الخمر المعلوم فثبوت الحکمین لما قامت الأمارة بکونه خمرا وأن یحتاج إلی تنزیلین، بأن نزّل ما أخبر العادل بخمریته منزلة الخمر، والعلم به منزلة العلم بالخمر الواقعی، وتقدم أن النظر إلی العلم والأمارة فی التنزیل الأول آلی، وفی الثانی استقلالی، ولا یمکن الجمع بینهما بتنزیل واحد، ولکن مع ذلک یمکن القول بأن الدلیل علی التنزیل الآلی کاف فی ثبوت التنزیل الثانی أیضا، وذلک أنّه کما یصحّ تنزیل الشیء منزلة تمام الموضوع کذلک یصحّ تنزیل شیء منزلة جزء الموضوع وقیده، ولکن إذا کان التنزیل فی الجزء أو القید، فاللازم أن یکون الجزء الآخر أو ذات المقید محرزا بالوجدان أو بالتنزیل الآخر لئلا یکون التنزیل منزلة الجزء أو القید لغوا، وعلیه فإذا کان الدلیل علی أنّ ما أخبر العادل بکونه خمرا خمر یکون مقتضی إطلاق دلیل اعتبار أنّه منزّل منزلة الخمر بالإضافة إلی النجاسة وحرمة الشرب، وحیث إن التنزیل بالإضافة إلی حرمة الشرب فی الجزء أو القید فلازم هذا الإطلاق

ص :422

.··· . ··· .

الشَرح:

تنزیل العلم بالخمر التنزیلی منزلة العلم بالخمر الواقعی، وإلاّ یکون عموم التنزیل الأول المستفاد من الإطلاق لغوا.

وأجاب عن هذا الوجه المصحّح بأنّه غیر صحیح، وذلک فإنّ استکشاف التنزیل الثانی من إطلاق الدلیل علی عموم التنزیل الأوّل یکون دوریا، حیث إن إطلاق الدلیل علی التنزیل الآلی یعنی دلالته علی تنزیل المؤدّی منزلة الواقع حتّی بالإضافة إلی الأثر المترتب علی الواقع المعلوم موقوف علی إحراز تنزیل ذات المقید أو الجزء الآخر لعدم إمکان الإطلاق فی التنزیل الآلی بدون الثانی، وإذا توقف إحراز التنزیل الثانی علی الإطلاق فی التنزیل الآلی کما إذا اُرید استکشافه من الإطلاق المزبور لزم الدور.

والحاصل لابد فی التنزیل منزلة الجزء أو القید من إحراز الجزء الآخر أو ذات المقید بالوجدان أو بالتنزیل الآخر فی عرض التنزیل الأوّل، واستکشاف التنزیل الثانی من التنزیل الأول بدعوی إطلاقه أمر دوری لا أساس له.

وبتعبیر آخر الإطلاق لیس ظهورا تنجیزیا بل موقوف علی تمامیة مقدمات الإطلاق، وتمامها بالإضافة إلی تنزیل الجزء أو القید فی مثل المقام مما لا یکون الجزء الآخر محرزا بالوجدان یتوقف علی الدلیل علی التنزیل الآخر، وإذا توقف التنزیل الآخر علی الأوّل فلا یمکن استکشافهما، ولذا لو شک فی بقاء الکریة لمایع مردد بین الماء وغیره فلا یمکن الحکم بکونه ماءً باستصحاب کرّیته بدعوی أن شمول إطلاق خطاب (لا تنقض الیقین بالشک) للکرّیة المشکوکة فی المایع المزبور یلازم التعبد بکونه ماءً، نعم لو لم یکن الاستکشاف المتقدم من الإطلاق، کما إذا قام دلیل خاص علی التنزیل فی مورد لم یکن الأثر فیه للواقع بل للعلم به کما إذا ترتبت

ص :423

فی التنزیل منزلة الواقع والقطع، وأن دلیل الإعتبار إنما یوجب تنزیل المستصحب والمؤدی منزلة الواقع، وإنما کان تنزیل القطع فیما له دخل فی الموضوع بالملازمة بین تنزیلهما، وتنزیل القطع بالواقع تنزیلاً وتعبداً منزلة القطع بالواقع حقیقة __ لا یخلو من تکلف بل تعسف.

الشَرح:

النجاسة والحرمة علی ما علم أنّه میتة وکان مدلول الدلیل الخاص أن ما أخبر العادل بکون حیوان میتة فهو میتة، یستکشف التنزیل فی ناحیة العلم أیضا صونا لکلام الشارع عن اللغویة، وهذا محصل ما أفاده الماتن فی المقام.

أقول: ما ذکر قدس سره من الکبری وهی أن الدلیل علی تنزیل الجزء أو القید فیما کان هو الإطلاق فاللازم أن یکون الجزء الآخر أو ذات المقید محرزا بالوجدان أو بالدلیل الآخر علی التنزیل فیهما صحیح، فالأول: کما إذا شک المکلف فی بقاء وضوئه حال صلاته التی یصلیها فإنّه إذا جری الاستصحاب فی بقاء وضوئه یتمّ متعلق التکلیف خارجا، فإنّ صلاته محرزة بالوجدان ومقتضی الاستصحاب کونه علی وضوء، والثانی: کما إذا شک المکلف بعد سجوده فی بقاء طهارته والاتیان بالرکوع قبل سجوده، فإنّ مقتضی الاستصحاب بقاء وضوئه، ومقتضی قاعدة التجاوز الاتیان برکوعه، إلاّ أنّه لا فرق فی الإحراز وجدانا بین حصوله من موجب آخر أو أن یکون التعبد بالجزء أو القید بنفسه موجبا له والأمر فی المقام کذلک، فإنّه إذا شمل خطاب اعتبار الأمارة أو الاستصحاب بإطلاقهما المایع الذی أخبر العادل بکونه خمرا أو کانت خمریته سابقا محرزة بالوجدان فبحصول هذا التنزیل یحصل للمکلف العلم بخمریته، فخمریة المایع المزبور وإن کانت تنزیلیة إلاّ أن العلم بها حقیقی فیتم الموضوع لحرمة شربه لا محالة، ولذا ذکرنا سابقا أنّه مع حکم الشارع بحلیة فعل یحتمل حرمته واقعا کما هو مفاد أصالة الحلیة فی الشبهة الحکمیة یجوز للمجتهد

ص :424

.··· . ··· .

الشَرح:

الإفتاء بها حیث إنّه مع ترخیص الشارع ووصوله إلی المجتهد یحصل له العلم بإباحته لا محالة، فیکون الإفتاء بها إفتاءً بعلم ولو لم یتم هذا فلا یمکن للمجتهد علی مسلک الشیخ والماتن الإفتاء فی موارد الطرق والامارات والاُصول فتدبر جیدا.

لا یقال: بناءً علی مسلک تنزیل المؤدی والمشکوک منزلة الواقع لو لم یکن المنزل علیه محکوما بحکم أصلاً، بل کان الحکم والتکلیف ثابتا للعلم بالواقع کما فی فرض ترتب النجاسة والحرمة علی ما علم أنها میتة، فلا یمکن أن یعمّ دلیل اعتبار البینة مثلاً البینة التی قامت علی أنّ هذا المذبوح میتة، نعم لو بنی علی أنّ معنی اعتبار الأمارة اعتبارها علما بالواقع وأنّ معنی خطاب: «لا تنقض الیقین بالشک» اعتبار الیقین بالحدوث یقینا بالبقاء یترتب علی ذلک ترتب الآثار الثابتة للعلم بالواقع وإن لم یکن لمجرد الواقع أثر أصلاً.

فإنّه یقال: حیث إنّ اعتبار الأمارة وکذا الاستصحاب لیکون منجزا للواقع فاللازم أن لا یکون مجرّد الواقع هو المنزل علیه، بل المنزل علیه هو الواقع المعلوم، ومعه یثبت للأمارة والاستصحاب فیما إذا صادفا الواقع أثر الواقع المعلوم، سواءً کان ذلک الأثر عقلیا کما فی موارد القطع الطریقی المحض، أو شرعیا کما فی مثال المیتة التی فرضناها.

کفایة دلیل اعتبار الأمارة أو الاستصحاب فی قیامهما مقام القطع الطریقی المحض والموضوعی

ومما ذکر یظهر أنه لو اُغمض عما ذکرنا بناءً علی تنزیل المؤدی من حصول العلم بالواقع قهرا فیمکن الجواب عما ذکره الماتن من الدور، بأن هذا فیما إذا کان

ص :425

فإنه لا یکاد یصح تنزیل جزء الموضوع أو قیده، بما هو کذلک بلحاظ أثره، إلاّ فیما کان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان، أو تنزیله فی عرضه، فلا یکاد یکون دلیل الأمارة أو الإستصحاب دلیلاً علی تنزیل جزء الموضوع، ما لم یکن هناک دلیل علی تنزیل جزئه الآخر، فیما لم یکن محرزاً حقیقة، وفیما لم یکن دلیل علی تنزیلهما بالمطابقة، کما فی ما نحن فیه _ علی ما عرفت _ لم یکن دلیل الأمارة دلیلاً الشَرح:

المنزّل علیه هو نفس الواقع، وأما إذا کان المنزّل علیه الواقع المعلوم کما هو الصحیح علی مسلک تنزیل المؤدی فیکفی تنزیل واحد فی قیام الأمارة مقام القطع الطریقی المحض، ومقام القطع المأخوذ فی الموضوع طریقا، حیث قلنا سابقا من أنّ القطع مع أخذه فی الموضوع طریقا لا یمکن أن یکون تمام الموضوع للأثر الشرعی وأنّه یثبت للواقع والعلم به معا.

وذکر المحقق الاصبهانی أن تنزیل المؤدی منزلة الواقع وتنزیل العلم بالواقع التنزیلی منزلة العلم بالواقع إذا کان الأثر مترتبا علی العلم بالواقع غیر ممکن لا للزوم الدور الذی ذکره الماتن، بل لأنّ التنزیلین فی أثر واحد غیر قابل للانحلال غیر معقول، بلا فرق بین أن یکون التنزیلان عرضیین أو طولیین، فنفس وحدة الأثر المترتب علی العلم بالواقع فی نفسها مانعة عن تحقق کلا التنزیلین فإن تنزیل المؤدی منزلة الواقع عبارة عن جعل الحکم له کالحرمة إذا أخبر العادل بکون مایع خمرا، والمفروض أنّه لیس للواقع أثر وذلک الأثر المترتب علی العلم بالواقع غیر منحل بالإضافة إلی الواقع والعلم به، نظیر انحلال الأمر بالمرکب لیمکن تنزیله منزلة الواقع فی الحکم الانحلالی أو انحلال الأمر بالمقید إلی ذات المطلق والتقید.

أقول: قد تقدم أنّه إذا تحقق الجزء الآخر من الموضوع أو ذات المقید بالتعبد بالجزء أو القید کفی ذلک فی التنزیل؛ لأنّ عدم إمکان التنزیل فی الجزء أو القید مع

ص :426

علیه أصلاً، فإن دلالته علی تنزیل المؤدی تتوقف علی دلالته علی تنزیل القطع بالملازمة، ولا دلالة له کذلک إلاّ بعد دلالته علی تنزیل المؤدی، فإن الملازمة إنما تکون بین تنزیل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقیقی، وتنزیل المؤدی منزلة الواقع کما لا یخفی، فتأمل جیداً، فإنه لا یخلو عن دقة.

ثم لا یذهب علیک أنّ هذا لو تمّ لعمّ، ولا اختصاص له بما إذا کان القطع مأخوذاً علی نحو الکشف.

الأمر الرابع: لا یکاد یمکن أن یؤخذ القطع بحکم فی موضوع نفس هذا الحکم[1].

الشَرح:

عدم إحراز جزئه الآخر أو ذات المقید للزوم اللغویة، وإذا لم یلزم اللغویة کما فی فرض تحقق الجزء الآخر أو ذات المقید وجدانا فلا محذور، ولا یفرق فی ذلک بین جزء الموضوع أو قیده وبین جزء متعلق التکلیف وقیده مع أنا ذکرنا أنّ المنزّل علیه لیس هو ذات الواقع بل الواقع المحرز فیترتب علی التنزیل الأثر العقلی المترتب علی الواقع المحرز کما إذا کان تکلیفا أو موضوع التکلیف والأثر المترتب علی العلم بالواقع شرعا.

عدم إمکان أخذ العلم بحکم فی موضوعه وإمکان دخالة العلم به فیالغرض الموجب لجعله

اشارة

[1] قد تقدم أن القطع بحکم بالإضافة إلیه لا یکون إلاّ طریقاً محضاً غیر دخیل فی ثبوته أصلاً، فإن دخل شیء فی ثبوت حکم یکون بأخذه فی موضوع ذلک الحکم وأخذ العلم بحکم فی موضوع نفس ذلک الحکم غیر ممکن؛ لأنّ العلم به فرض لثبوته مع قطع النظر عن العلم به، ومعنی أخذه فی موضوعه فرض لعدم ثبوته بدون العلم، وأما لزوم الدور فتقریبه أن القطع بحکم بنظر القاطع موقوف علی ثبوته ولو توقف ثبوته بنظره علی القطع به لدار، وکذلک لا یمکن مع القطع بحکم ثبوت مثله أو

ص :427

.··· . ··· .

الشَرح:

ضدّه وإنما الممکن أن یکون العلم بحکم مأخوذاً فی موضوع حکم مخالف کما تقدم.

وقد ذکر الماتن قدس سره إمکان أخذ العلم بمرتبة من الحکم موضوعا لمرتبة اُخری منه أو من مثله أو ضده، وما ذکره مبنی علی ما سلکه من الإلتزام بمراتب الحکم التی منها الإنشاء والفعلیة التی تکون عنده بتعلق إرادة المولی بفعل العبد، وکذلک تعلیله بطلان ثبوت الحکم المماثل أو المضاد بلزوم اجتماع المثلین أو الضدین، حیث یکون مع ثبوت المثل اجتماع إرادتین وتعلقهما بفعل واحد ومع ثبوت الضد تتعلق الإرادة والکراهة به. ولکن قد ذکرنا بطلان الفعلیة بذلک المعنی وأنّ افتراق الفعلیة عن الإنشاء یکون فی الأحکام المجعولة بمفاد القضیة الحقیقیة، حیث تکون فعلیة الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة بتحقق الموضوع لذلک الحکم خارجاً، وعلی هذا المعنی لا یمکن أن یؤخذ العلم بالإنشاء فی موضوع فعلیة الحکم المنشأ، فإن فعلیة الحکم المنشأ تابع لإنشائه، فإن أخذ العلم بإنشاء الحکم فی حق الآخرین یکون هذا من قبیل أخذ العلم بحکم فی موضوعه حکم آخر، وقد تقدم عدم البأس، وأن أخذ العلم بإنشائه فی حقه فهذا العلم لا یمکن أن یؤخذ فی إنشاء ذلک الحکم الذی فی حقه کما هو الحال فی جمیع الأحکام المجعولة بمفاد القضیة الحقیقیة الانحلالیة، نعم إذا کان الحکم المجعول بنحو القضیة الخارجیة فمقام الفعلیة فیه عین إنشائه.

وأما ما ذکر الماتن من المعنی للفعلیة فقد ذکرنا أن إرادة المولی بما هو مولی لا تتعلق بفعل العبد وتعلّقها بفعل العبد بما هو قاهر یوجب القهر والجبر الذی ثبت _ من ضرورة المذهب _ بطلانه.

وقد ذکرنا سابقاً إمکان دخالة العلم بالحکم مطلقا أو الحاصل بنحو خاص فی

ص :428

.··· . ··· .

الشَرح:

الغرض والملاک الموجب لجعله وقد مثلنا لذلک ما ذکروه فی دخالة قصد التقرب فی الغرض الموجب للأمر بذات العمل.

وأما عدم إمکان جعل مثل الحکم أو ضده فی مورد العلم بحکم من جهة أنّ الحکم الثانی لا یمکن أن یکون طریقیاً لکون الواقع واصلاً ولو کان المماثل نفسیاً فلا ملاک له، وکذلک فیما کان النفسی مضاداً، مع حصول التنافی بین الحکمین بحسب الملاک والامتثال لا لاجتماع الإرادتین أو الإرادة والکراهة کما علیه الماتن قدس سره ، ولذا لو حصل فی الفعل المعلوم حکمه ملاک ملزم آخر أیضاً ولو فی حال، کما فی صورة نذر فعل واجب یتعلق به وجوبان، نعم یعتبر کون الوجوب الثانی بعنوان آخر، لئلا یصبح اعتبار الوجوب الثانی لغواً.

ولا یجری ما تقدم فی العلم بالحکم فی الظن به، فإنّ الظن به لا یکون منجزا، ولذا یمکن فی مورده جعل حکم طریقی یکون مماثلاً مع الحکم الواقعی صورة أو مضاداً له کذلک، وحیث إن المصلحة الموجبة للحکم الطریقی فی نفس جعل الحکم لا فی متعلّقه فلا یحصل التنافی بینه وبین الحکم الواقعی لا فی ناحیة ملاکی الحکمین ولا فی ناحیة المنتهی، حیث إن الحکم الواقعی مع عدم کونه موافقاً للحکم الطریقی غیر واصل، فلا یکون منجزاً لیحکم العقل بلزوم رعایته، ویأتی تمام البحث فی ذلک عند التکلم فی الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری.

بقی فی المقام أمر وهو الإشکال بأنه مع امتناع أخذ العلم بحکم فی موضوع ذلک الحکم، کیف وجبت الصلاة قصراً علی المسافر مع صحة صلاته تماماً عند جهله بوجوب القصر بحیث لا تجب علیه الإعادة حتّی إذا علم بوجوبها قبل خروج الوقت، فإن لازم ذلک أن یتعیّن القصر علی المسافر العالم به، وکذا فی صحة الصلاة

ص :429

.··· . ··· .

الشَرح:

جهراً فی موضع الإخفات عن الجاهل بوجوبه وکذا العکس، وأیضا ورد فی الروایات ما ظاهره أنّ الجاهل بحرمة الربا یملک الربا ومقتضی ذلک أن تختصّ حرمته بالعالم بحرمته.

والجواب: أنّ قیام الدلیل علی صحة الصلاة تماماً عن الجاهل بوجوب القصر وعدم لزوم إعادتها لا یقتضی تقیید وجوب القصر واختصاصه بالعالم به، فإن هذا الاختصاص ممتنع فیلتزم بوجود ملاک فی التمام أیضاً عند الجهل بوجوب القصر بحیث لا یمکن مع استیفائه استیفاء ملاک القصر اللازم استیفاؤه، وکذلک الحال بالإضافة إلی وجوب الصلاة جهرا أو إخفاتاً فیعاقب المکلف الجاهل بتفویت ملاک القصر أو الإخفات أو الجهر ولا یبقی للإعادة مجال، وهذا بناءً علی استحقاق الجاهل العقاب فی المسألتین وإلاّ فیمکن أن یکون الغرض فی خصوص القصر مختصاً بصورة وصول وجوبه إلی المکلف، وإلاّ یکون الغرض الملزم فی أی من الصلاتین وکذا الغرض الملزم فی الصلاة جهرا أو اخفاتاً.

وأما ملک الربا للجاهل بحرمته فهو علی تقدیره حکم وضعی یکون حکما آخر غیر حرمة الربا ولا یوجب تقییداً فیها؛ لأنه کما یصحّ جعل العلم بحکم موضوعاً لحکم آخر مغایر کذلک یصحّ جعل الجهل به موضوعاً لحکم آخر وضعی أو تکلیفی، نعم لو تمّ ما ذکر المحقق النائینی قدس سره من أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید حتّی فی مقام الثبوت تقابل العدم والملکة بالمعنی الذی فسّره، یصحّ تقیید الحکم المجعول بمتمّم الجعل بصورة العلم به، کما أنّه قد یکون مقتضی متمّم الجعل الإطلاق، ولکن قد تقدم غیر مرّة عدم تمام ذلک وأنّه إذا لم یکن تقیید الموضوع للحکم أو المتعلق له بشیء یکون الإطلاق ثبوتاً ضروریاً، وعلیه فلا یحتاج فی إثبات

ص :430

للزوم الدور، ولا مثله للزوم اجتماع المثلین، ولا ضده للزوم اجتماع الضدین، نعم یصح أخذ القطع بمرتبة من الحکم فی مرتبة أخری منه أو مثله أو ضده.

واما الظن بالحکم فهو وإن کان کالقطع[1]. فی عدم جواز أخذه فی موضوع نفس ذاک الحکم المظنون، إلاّ أنه لما کان معه مرتبة الحکم الظاهری محفوظة، کان الشَرح:

أنّ الأحکام المجعولة فی الشریعة تعمّ العالمین والجاهلین بها إلی التمسک بأدلّة وجوب تعلم الأحکام، بل مقتضی إطلاقات الخطابات الواردة فی بیان الأحکام کافٍ فی إثبات ذلک وفی إثبات عمومیة الغرض؛ نعم دلالة الأخبار الواردة فی وجوب التعلم أوضح دلالة علی عمومیة الغرض من تلک الإطلاقات.

فی عدم إمکان أخذ العلم بالحکم أو الظن به فی موضوع ذلک الحکم

[1] قد ذکر قدس سره أنّه کما لا یمکن أن یؤخذ العلم بحکم فی موضوع ذلک الحکم علی ما تقدم کذلک لا یمکن أن یؤخذ الظن بحکم موضوع ذلک الحکم المظنون لعین ما تقدم، ولکن یفترق الظن بالحکم عن العلم به، حیث إن العلم بحکم لا یمکن أن یؤخذ موضوعا لحکم مثله أو ضدّه، بخلاف الظن بحکم فإنّه یمکن أن یؤخذ به فی موضوع حکم مثله أو ضدّه؛ لأنّ مرتبة الحکم الظاهری محفوظة مع الظن به، فللمولی أن یجعله موضوعا لحکم مثله أو ضدّه، والمراد بالمثل ما یکون من نوع الحکم الأول مع وحدة متعلقهما کما أنّ المراد بضدّه ما یکون من نوع الآخر مع وحده المتعلق لهما.

لا یقال: إن کان الحکم المظنون فعلیا فی الواقع فکیف یمکن جعل حکم مماثل فعلی أو مضادّ فعلی مع استلزام الظن باجتماع الضدّین أو المثلین، والممکن فی مورد الظن بالتکلیف کونه موضوعا لحکم آخر مغایر کما هو الحال فی أخذ القطع

ص :431

جعل حکم آخر فی مورده _ مثل الحکم المظنون أو ضده __ بمکان من الإمکان.

إن قلت: إن کان الحکم المتعلق به الظن فعلیاً أیضاً، بأن یکون الظن متعلقاً بالحکم الفعلی، لا یمکن أخذه فی موضوع حکم فعلی آخر مثله ضده، لاستلزامه الظن باجتماع الضدین أو المثلین، وإنما یصح أخذه فی موضوع حکم آخر، کما فی القطع، طابق النعل بالنعل.

الشَرح:

بحکم موضوعا لحکم مغایر آخر.

فإنّه یقال: قد لا تکون فعلیة التکلیف مطلقة بل یمکن کونها معلّقة بحیث لو علم المکلف به لتنجز واستحق العقاب علی مخالفته حتّی فی صورة تمکّن المولی من أن یقطع علی العبد عذره برفع جهله، ببیان ذلک التکلیف بخطاب آخر أو إیجاب الاحتیاط فی حقه عند احتماله التکلیف ومع عدم الفعلیة المطلقة کذلک یمکن جعل حکم آخر بمفاد الأصل أو اعتبار أمارة مؤدیة إلیه تارة وإلی ضدّه اُخری، کما لو بنی علی أنّ مفاد دلیل اعتبارها جعل حکم مماثل للحکم الواقعی المجهول أو حکم آخر ضدّه، أو کان الجعل بمفاد خطاب خاصّ بمورد، کما إذا ورد فی خطاب إذا شک فی حلیة حیوان فلا بأس بأکله، وإذا ظننت حرمته فهو حرام ولا یکون فی مثل هذه الموارد اجتماع مثلین أو ضدّین.

أقول: تقیید الموضوع للحکم المجعول بالظن بنفس ذلک الحکم کالتقیید فی الموضوع للحکم المجعول بالعلم بنفس ذلک الحکم غیر ممکن، حیث إنّه لا معنی لأخذ العلم بالحکم فی موضوع نفس هذا الحکم إلاّ بتقیید موضوعه کما فی سائر القیود له؛ لأنّ الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة له مقامان، مقام الجعل ومقام الفعلیة، وفعلیة الحکم تتبع مقام جعله حیث إن الفعلیة للحکم إنّما هی بخروج ما فرضه المولی فی مقام جعله موضوعا له إلی التحقق خارجا، فکلّ قید له دخل فی

ص :432

قلت: یمکن أن یکون الحکم فعلیاً، بمعنی أنه لو تعلق به القطع __ علی ما هو علیه من الحال __ لتنجز واستحق علی مخالفته العقوبة، ومع ذلک لا یجب علی الحاکم رفع عذر المکلف، برفع جهله لو أمکن، أو بجعل لزوم الإحتیاط علیه فیما أمکن، بل یجوز جعل أصل أو أمارة مؤدیة إلیه تارة، وإلی ضده أخری، الشَرح:

فعلیة الحکم فلابد للمولی من تقدیر حصوله وأخذ ذلک التقدیر فی ناحیة الموضوع له فی مقام الجعل وثبوت الحکم فی مقام الجعل یکون بنفس الجعل، فقولنا إن أخذ العلم بالحکم أو الظن به فی موضوع نفس هذا الحکم ممتنع، المراد أنّه لا یمکن للمولی فرض حصولهما وأخذ ذلک التقدیر فی ناحیة الموضوع لذلک الحکم، حیث إنّ هذا التقدیر یقتضی أن یکون للحکم المزبور جعل مع قطع النظر عن هذا الجعل الذی یرید جعله والمفروض أنّه لا جعل مع قطع النظر عن هذا الجعل.

وبتعبیر آخر، لا یمکن للمولی فرض علم المکلف بحکمه إلاّ مع فرض جعله ذلک الحکم، فإن کان الجعل المفروض فی علم المکلف بحکمه جعل آخر غیر هذا الجعل الذی یرید جعله فعلاً فالمفروض أنّه لیس فی البین جعل آخر، وإن کان الملحوظ علمه بحکمه بهذا الجعل الذی یریده ففی هذا الجعل لا یکون حکم مفروض کونه متعلقا لعلم المکلف بل یحصل حکم لعلم المکلف بحکمه لا حکم یتعلق به علم المکلف، وقد تقدم أنّ الحکم المجعول للموضوع مع قیوده لا ینحلّ إلی قیود الموضوع ولا یقاس بإمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر، حیث إن الأمر بالکلّ ینحلّ إلی الأمر الضمنی بأجزائه فتکون الأجزاء التی سوی قصد القربة متعلقا للأمر الضمنی، ویکون المراد من قصد التقرب المتعلق به الأمر الضمنی أیضا، الإتیان بتلک الأجزاء بقصد الأمر بها ضمنیا، وهذا النحو من الانحلال لا یجری فی ناحیة أجزاء الموضوع للحکم وقیوده، بل انحلال الحکم إنّما یکون بالإضافة إلی

ص :433

ولا یکاد یمکن مع القطع به جعل حکم آخر مثله أو ضده، کما لا یخفی، فافهم.

إن قلت: کیف یمکن ذلک؟ وهل هو إلاّ أنه یکون مستلزماً لاجتماع المثلین أو الضدین؟.

قلت: لا بأس باجتماع الحکم الواقعی الفعلی بذاک المعنی __ أی لو قطع به من باب الإتفاق لتنجز __ مع حکم آخر فعلی فی مورده بمقتضی الأصل أو الأمارة، أو دلیل أخذ فی موضوعه الظن بالحکم بالخصوص، علی ما سیأتی من التحقیق فی التوفیق بین الحکم الظاهری والواقعی.

الشَرح:

أفراد الموضوع فقط.

لا یقال: یمکن للمولی التوصل إلی ذلک بتعدد الجعل، مثلاً أن یجعل أولاً وجوب القصر علی المسافر ثمّ یجعل وجوبه ثانیا علی المسافر العالم به.

فإنّه یقال: هذا أیضا غیر ممکن فإنّ المجعول بالجعل الأول إن کان تکلیفا حقیقة بحیث یکون الغرض منه إمکان انبعاث المکلف المسافر إلی الصلاة قصرا مع وصول الحکم إلیه، یکون الحکم الثانی المجعول نفسیا لاغیا مع أن المجعول أولاً لا یتبدل إلی الثانی مع عدم إلغائه؛ وذلک لأنّ الغرض من جعل التکلیف والحکم إمکان حرکة العبد علی طبقه، وهذا الغرض یحصل بالحکم الأول، وإن لم یکن المجعول أولاً تکلیفا وحکما حقیقة فلا یکون العلم به علما بالتکلیف لیؤخذ فی الموضوع للحکم الثانی، ومما ذکرنا یظهر الحال فی عدم إمکان أخذ الظن بحکم فی موضوع ذلک الحکم فتدبر جیدا. وأما جعل الحکم الظاهری فی مورد الظن بالحکم والتکلیف فقد تقدم سابقا فلا نعید.

المجلد 4

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

اشارة

الأمر الخامس: هل تنجز التکلیف بالقطع _ کما یقتضی موافقته عملاً _ یقتضی موافقته إلتزاما[1].

الموافقة الإلتزامیة

[1] الکلام فی المقام یقع فی اقتضاء العلم بالتکلیف الالتزام به کاقتضائه موافقته عملاً علی ما تقدم من تنجّز التکلیف بالعلم.

وبتعبیر آخر کما أن اللازم فی الاُمور الاعتقادیة من الاُصول الدینیة التسلیم والاعتقاد بها بحسب الجنان فهل یجب کذلک التسلیم والاعتقاد بالتکلیف المعلوم زائدا علی موافقته عملاً، أو أنّ اللازم فی موارد العلم بالتکلیف الموافقة العملیة خاصة، ولا یخفی أنّه لو کان عدم الإلتزام قلبا بالتکلیف المعلوم موجبا فی مورد لفقد الشرط المعتبر فی العمل فلا کلام فی عدم جواز ترک الإلتزام الموجب لفقد شرط ذلک الواجب، کما إذا کان الواجب تعبدیا وفرض أنّ عدم الإلتزام بوجوبه موجبا لفقد قصد التقرب، وکذا لا یجوز ترک الإلتزام فیما إذا کان ذلک موجبا لتکذیب النبی صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام قلبا الموجب لعدم الإیمان، والحاصل أن الکلام فی أن العلم بالتکلیف یقتضی امتثالین أحدهما موافقته من حیث العمل والثانی موافقته من حیث الإلتزام أو لا یقتضی غیر الأول، وقد یتوهّم أن العلم بالتکلیف لا یجتمع مع عدم الإلتزام به، ویدفع بأنّ الإلتزام بالتکلیف غیر العلم به فیمکن موافقته عملاً من دون الإلتزام به، فإنّه کما یمکن التشریع مع العلم بالخلاف، کذلک یمکن عدم الإلتزام به قلبا مع العلم به، ومما ذکر یظهر أنّ قصد التقرب فی العبادات لا یتوقف إلاّ علی إحراز الأمر إذا کان جزمیا، وإلاّ یکفی احتمال الأمر بالعبادة ولا یتوقف علی عقد

ص :5

والتسلیم له اعتقاداً وانقیاداً؟ کما هو اللازم فی الأصول الدینیة والأمور الإعتقادیة، بحیث کان له امتثالان وطاعتان، إحداهما بحسب القلب والجنان، والأخری بحسب العمل بالأرکان، فیستحق العقوبة علی عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً، أو لا یقتضی؟ فلا یستحق العقوبة علیه، بل إنما یستحقها علی المخالفة العملیة.

الحق هو الثانی، لشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة والعصیان بذلک،

القلب والالتزام به جنانا فتدبر.

ولا وجه للقول بأنّ مجرد التکلیف بعمل یقتضی موافقته إلتزاما وعقد القلب علیه کما هو الحال فی التکالیف الراجعة إلی الاُمور الاعتقادیة والعرفان بها، حیث إنّ التکلیف یقتضی الإتیان بمتعلّقه، وإذا کان متعلّقه الفعل الخارجی کما هو الفرض فی المقام فغیره غیر داخل فی مقتضاه، ولو قیل باقتضائه موافقتین فلا ملازمة بینهما فی الثبوت والسقوط، فتجب موافقته الإلتزامیة ولو مع عدم إمکان موافقته العملیة، فإن التکلیف وإن کان واحدا إلاّ أنّه یمکن أن لا یتنجّز من جهة الموافقة العملیة؛ لعدم إمکان إحرازها، ویتنجّز من حیث الموافقة الإلتزامیة لإمکانها کما فی دوران الأمر بین المحذورین وعدم تنجّز التکلیف بالإضافة إلی الموافقة العملیة لا یوجب سقوط أصل التکلیف حتّی لا یبقی مقتضٍ لموافقته الإلتزامیة، وعلی ذلک ففی مورد دوران الأمر بین المحذورین یمکن الإلتزام بما هو حکمه الواقعی علی إجماله ولا یکون ذلک التکلیف الواقعی بمنجّز لعدم إمکان موافقته القطعیة العملیة، ولو قیل بلزوم الإلتزام بالتکلیف الواقعی بنوعه لما أمکن موافقته الإلتزامیة أیضا.

لا یقال: کما لا یجوز فی مورد عدم التمکّن من الموافقة القطعیة العملیة المخالفة القطعیة بحسبه، بل علیه الموافقة الاحتمالیة کذلک بناءً علی لزوم الإلتزام

ص : 6

.··· . ··· .

بنوع التکلیف لا یجوز ترک الإلتزام رأسا بل علیه الإلتزام بالوجوب أو الحرمة تخییرا.

فإنّه یقال: لا دلیل علی ذلک فإن التکلیف الواقعی یقتضی الإلتزام به لا التخییر فی الإلتزام به أو بضدّه، مع أنّ الإلتزام بأحدهما فیه محذور التشریع ولا یکون محذوره أقل من محذور عدم الإلتزام بحکم الفعل قلبا أصلاً.

ثم إنّه قد ذکر الشیخ قدس سره فی الرسالة بما حاصله؛ أنّه مع جریان الأصل فی ناحیتی کلّ من احتمال وجوب الفعل وحرمته فی دوران أمر الفعل بین الوجوب والحرمة لا یلزم محذور فی عدم الإلتزام بالحکم الواقعی بناءً علی لزوم الإلتزام به، فإن الموضوع لوجوب الإلتزام خصوص نوع التکلیف الواقعی من الوجوب والحرمة فالأصل الجاری فی ناحیة کلّ من احتمالهما یکون حاکما علی ما دلّ علی وجوب الإلتزام، حیث إنّ الأصل یخرج مجراه عن موضوع وجوبه.

وفیه، أنّ حکومة الأصل علی دلیل وجوب الإلتزام بالحکم الواقعی لیس من قبیل حکومة أحد الدلیلین علی الدلیل الآخر فی الأدلّة الاجتهادیة التی ترجع إلی ما یرجع إلیه التخصیص فی کشفه عن عدم ثبوت تمام مدلول الدلیل المحکوم بحسب مقام الثبوت، ولذا تکون الحکومة نوع تخصیص بخلاف الاُصول الجاریة فی ناحیة نفی الموضوعات للتکالیف الواقعیة أو إثباتها، مثلاً الاستصحاب الجاری فی ناحیة عدم کون مایع خمرا لا یکون کاشفا عن خروج ذلک المایع علی تقدیر کونه خمرا عن موضوع حرمة الشرب والنجاسة لتکون حکومته بمنزلة المخصص لخطاب حرمة شرب الخمر ونجاسته، بل مفاده حکم ظاهری یعمل به مع عدم وصول الواقع ولا یوجب سعة ولا ضیقا فی الواقع، بل الواقع باقٍ علی حاله وهذا هو السّر فی عدم جریان الاُصول النافیة فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف حیث إنّ جریانها فیها

ص :7

واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سیده إلاّ المثوبة دون العقوبة، ولو لم یکن متسلماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له، وإن کان ذلک یوجب تنقیصه وانحطاط درجته لدی سیده، لعدم اتصافه بما یلیق أن یتصف العبد به من الإعتقاد بأحکام مولاه والإنقیاد لها، وهذا غیر استحقاق العقوبة علی مخالفته لأمره أو نهیه التزاماً مع موافقته عملاً، کما لا یخفی.

یوجب الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواقعی الواصل بالعلم الإجمالی، وإذا کانت المخالفة الإلتزامیة کالمخالفة القطعیة العملیة فی عدم الجواز فلا تجری الاُصول فی ناحیة احتمال وجوب الفعل وحرمته، بل یجب الإلتزام بالتکلیف الواقعی علی إجماله.

وأما ما ذکر الماتن قدس سره فی الجواب عما فی الرسالة من أنّ دفع محذور عدم الإلتزام بالتکلیف الواقعی أو محذور الإلتزام بخلافه لا یدفع بالاُصول، لأنّ الدفع المزبور دوری وذلک فإن جریانها موقوف علی عدم المحذور فی الإلتزام بخلافه اللازم لجریانها وعدم المحذور أیضا موقوف علی جریانها علی الفرض لا یمکن المساعدة علیه بوجه، فإنّه کما ذکرنا لو کان فی ترخیص الشارع فی المخالفة الإلتزامیة قبحا نظیر الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة للتکلیف الواصل یکون حکم العقل بالقبح قرینة علی أنّ المراد من خطابات الاُصول النافیة غیر موارد لزوم ذلک الترخیص وإن لم یحکم العقل بقبحه تکون إطلاقات خطابات الاُصول کاشفا عن عدم لزوم محذور فیه، ولو توقف التمسک بالإطلاق فی الخطابات علی إحراز عدم محذور فی سعة الحکم الوارد فیها ثبوتا لبطل التمسک بالإطلاقات مع احتمال المحذور فی سعة الحکم الوارد فیها واقعا.

ثمّ إنّه قد استشکل الماتن قدس سره فی الأخذ بالاُصول العملیة فی دوران أمر الفعل

ص :8

ثم لا یذهب علیک، إنه علی تقدیر لزوم الموافقة الإلتزامیة، لو کان المکلف متمکناً منها لوجب، ولو فیما لا یجب علیه الموافقة القطعیة عملاً، ولا یحرم المخالفة القطعیة علیه کذلک أیضاً لإمتناعهما، کما إذا علم إجمالاً بوجوب شیء أو حرمته، للتمکن من الإلتزام بما هو الثابت واقعاً، والإنقیاد له والإعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم یعلم أنه الوجوب أو الحرمة.

بین الوجوب والحرمة حتّی بناءً علی عدم المحذور فی الترخیص فی المخالفة الإلتزامیة بوجهین:

الأول: أنّ الاُصول الشرعیة وظائف عملیة فی ظرف الشک فی الحکم والتکلیف الواقعی فلابد من ترتب أثر عملی علی جریانها، ولیس عند دوران أمر الفعل بین المحذورین إلاّ عدم إمکان الموافقة القطعیة وعدم إمکان المخالفة القطعیة جرت الاُصول أم لم تجر، ولکن لا یخفی أنّ الأصل یجری فی ناحیة کلّ من الوجوب والحرمة، ومقتضی الأصل فی ناحیة احتمال الوجوب عدم تعین الفعل، کما أنّ مقتضاه فی ناحیة احتمال الحرمة عدم تعین الترک، حیث یحتمل أنّ الشارع فی مقام دوران الأمر أن یقدم احتمال رعایة أحد التکلیفین علی الآخر، ومقتضی الأصل فی ناحیة احتمال کلّ منهما عدم کون المکلف مأخوذا باحتمال خصوص أحدهما، وعلی الجملة أصالة التخییر فی دوران الأمر بین المحذورین لیس أصلاً شرعیا آخر فی مقابل أصالة البراءة أو الاستصحاب.

والثانی: دعوی أنّ خطابات الاُصول لا تعمّ أطراف العلم الإجمالی بثبوت التکلیف؛ لأنّ شمولها لأطرافه یوجب المناقضة بین صدرها وذیلها، وفیه أنّ هذا کما ذکر الماتن فی بحث الاستصحاب یجری فی بعض خطابات الاستصحاب بناءً علی ما ذکر الشیخ من تمامیة لزوم التناقض ولإجمال هذا البعض یمکن رفع إجماله

ص :9

وإن أبیت إلاّ عن لزوم الإلتزام به بخصوص عنوانه، لما کانت موافقته القطعیة الإلتزامیة حینئذ ممکنة، ولما وجب علیه الإلتزام بواحد قطعاً، فإن محذور الإلتزام بضد التکلیف عقلاً لیس بأقل من محذور عدم الإلتزام به بداهة، مع ضرورة أن التکلیف لو قیل باقتضائه للإلتزام لم یکد یقتضی إلاّ الإلتزام بنفسه عیناً، لا الإلتزام به أو بضده تخییراً.

ومن هنا قد انقدح أنه لا یکون من قبل لزوم الإلتزام مانع عن إجراء الأصول الحکمیة أو الموضوعیة فی أطراف العلم لو کانت جاریة، مع قطع النظر عنه، کما لا یدفع بها محذور عدم الإلتزام به.

بالبعض الآخر الذی لم یرد فی ذیله الأمر بنقض الشک بالیقین أو الأمر بنقض الیقین بالیقین الآخر ولا یجری فی خطابات أصالة البراءة حیث لیس فیها صدر وذیل.

بقی فی المقام اُمور:

الأول: أنّ القول بالتخییر فی دوران الأمر بین المحذورین وحدة القضیة وعدم تکرارها، فإنّه فی صورة تکرار الواقعة یتمکّن المکلف من المخالفة القطعیة کما إذا دار أمر المرأة بین کونها محلوفة الوطی فی کلّ من لیلتین أو محلوفة الترک کذلک، فإنّ مع وطیها فی لیلة وترکه فی لیلة اُخری یعلم بمخالفة التکلیف.

الثانی: أن لا یکون أحد التکلیفین المردد أمر الفعل بینهما أو کلاهما تعبدیا، وإلاّ کان المکلف متمکّنا من المخالفة القطعیة وفی مثل الأمرین لابد للمکلف من الإلتزام عملاً بأحد المحتملین حذرا من المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، ودعوی أنّ لزوم الموافقة القطعیة وعدم جواز المخالفة القطعیة متلازمان فی الثبوت والسقوط کما هو ظاهر الماتن فیما یأتی لا یمکن المساعدة علیه، فإن ترخیص المولی فی مخالفة تکلیفه المعلوم قبیح سواء أمکنت موافقته القطعیة أم لا،

ص :10

إلاّ أن یقال: إن استقلال العقل بالمحذور فیه إنما یکون فیما إذا لم یکن هناک ترخیص فی الإقدام والإقتحام فی الأطراف، ومعه لا محذور فیه، بل ولا فی الإلتزام بحکم آخر.

إلاّ أن الشأن حینئذ فی جواز جریان الأصول فی أطراف العلم الاجمالی، مع عدم ترتب أثر عملی علیها، مع أنها أحکام عملیة کسائر الأحکام الفرعیة، مضافاً إلی عدم شمول أدلتها لأطرافه، للزوم التناقض فی مدلولها علی تقدیر شمولها، کما ادعاه شیخنا العلامة (أعلی اللّه مقامه)، وإن کان محل تأمل ونظر، فتدبر جیداً.

الأمر السادس: لا تفاوت فی نظر العقل أصلاً فیما یترتب علی القطع من الآثار عقلاً[1].

وما ذکر الماتن مبنی علی عدم فعلیة التکلیف بالمعنی المتقدم عنده ومع عدمها لا یلزم محذور فی ارتکاب الفعل أو الترک ویأتی أیضا الکلام فیه.

الثالث: أنّه لو قیل بأنّ الإلتزام بالتکلیف عبارة عن التصدیق بما جاء عن النبی صلی الله علیه و آله یختصّ ذلک بالإلتزام بالأحکام الکلّیة التی ثبتت من الشریعة بالأدلّة القطعیة أو بالضرورة، وأمّا الاحکام المستفادة من الطرق المعتبرة فالثابت من الشرع لزوم العمل بها والتصدیق بأنّها مما جاء به النبی صلی الله علیه و آله غیر لازم بل غیر جایز بل غایته أن لزوم العمل بتلک الأمارات أو اعتبارها علما بالواقع مما جاء به النبی صلی الله علیه و آله کما هو ظاهر.

فی أنّ القطع بالحکم من المقدمات العقلیة

[1] تعرض قدس سره فی هذا الأمر لعدم تفاوت فی منجزیة القطع بالتکلیف ومعذریته بین الأسباب الموجبة للقطع وکذا بین موارد القطع وبین الأشخاص، فإنّه إذا کان القطع بالتکلیف منجزا لما تعلق به من التکلیف أو الموضوع له یکون کذلک

ص :11

.··· . ··· .

فی جمیع الموارد ومن أی سبب حصل ومن أی شخص کان ولو کان الشخص سریع الاعتقاد فإنّه یصحّ أخذ القاطع بمخالفة قطعه إذا أصاب الواقع بمخالفة الواقع ولا یقبل اعتذاره بأنّه کان فی مورد کذا أو بسبب کذا أو کنت سریع الاعتقاد، کما أنّه یصح منه الاعتذار فیما إذا عمل علی طبق قطعه واتفق مخالفته الواقع لخطأ قطعه، وهذا فیما إذا لم یکن القطع بالحکم أو الموضوع موضوعاً لحکم آخر، فالمتبع فی عموم ذلک القطع أو خصوصه الخطاب الدالّ علی ترتب الحکم الآخر علیه فإن مناسبة الحکم والموضوع أو غیرها قد تقتضی أن یکون بالقطع بالحکم أو الموضوع من شخص خاص أو من سبب خاصّ کما فی جواز التقلید من العالم بالأحکام وجواز الشهادة من العالم بالواقعة والقضاء ممن یقضی ویفصل النزاع فی مورد المرافعة بما هو موازین القضاء، ثم إن المنسوب إلی أصحابنا الأخباریین أنّهم لا یرون بالقطع بالأحکام الشرعیة إعتبارا إذا کان من الوجوه العقلیة، وأنّ المعتبر عندهم العلم بالأحکام الشرعیة الحاصل من السنة والأخبار المأثورة عن الائمة علیهم السلام ، وقد أنکر الماتن هذه النسبة وذکر أنّه لیس مرادهم التفصیل فی اعتبار القطع بالتکلیف والحکم الشرعی، بل کلامهم ناظر إلی أمرین:

أحدهما: المنع عن الملازمة بین حکم العقل بالقبح والحسن وبین حکم الشرع بالحرمة والوجوب.

ثانیهما: أنّ المقدمات العقلیة لا تفید إلاّ الظن بالحکم والتکلیف، وأنّ المدرک فی الأحکام الشرعیة غیر الضروریة ینحصر فی السماع عن الأئمة علیهم السلام ، وقد ذکر المحدث الاسترآبادی فی فوائده فی جملة ما استدلّ به علی انحصار المدرک علی ما ذکره، الرابع: أنّ کلّ مسلک غیر هذا المسلک إنما یعتبر من حیث إفادته الظن

ص :12

بین أن یکون حاصلاً بنحو متعارف، ومن سبب ینبغی حصوله منه، أو غیر متعارف لا ینبغی حصوله منه، کما هو الحال غالباً فی القطّاع، ضرورة أن العقل یری تنجز التکلیف بالقطع الحاصل مما لا ینبغی حصوله، وصحة مؤاخذة قاطعه

بحکم اللّه سبحانه وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد علی الظن المتعلق بنفس أحکامه تعالی أو بنفیها.

أقول: لا یبعد ظهور کلمات بعضهم فیما نسب الشیخ قدس سره إلیهم من عدم الاعتبار عندهم بالقطع الحاصل من غیر الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام ، قال: السید الصدر فی شرح الوافیة فی جملة کلام له: أنّ المعلوم هو أنّه یجب فعل شیء أو ترکه أو لا یجب إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غیرهما من جهة نقل المعصوم أو فعله أو تقریره لا أنّه یجب فعله أو ترکه أو لا یجب مع حصولهما من أی طریق کان.

وکیف کان فقد وجّه کلمات هولاء باحتمال کون مرادهم الإلتزام بالتقیید فی مرحلة فعلیة الأحکام وبأن الأحکام الشرعیة وإن کانت ثابتة فی الوقایع إلاّ أنّ فعلیتها لا تکون مطلقة، بل فیما إذا وصلت إلی العباد بنحو السنة والخبر المأثور عنهم علیهم السلام ولا تکون لها فعلیة إذا لم تکن واصلة بهذا النحو ولا یکون للقطع بها أثر بل کان ممّا سکت اللّه عنه، ویشیر إلی ذلک ما ورد مثل قولهم: «حرام علیکم أن تقولوا بشیء لم تسمعوه منّا»(1) وقولهم: «لو أنّ رجلاً قام لیله وصام نهاره وتصدّق بجمیع ماله وحجّ جمیع دهره ولم یعرف ولایة ولیّ اللّه فیوالیه ویکون جمیع أعماله بدلالته إلیه ما کان له علی اللّه جلّ وعزّ حقٌّ فی ثوابه»(2) وقد ردّ علی ذلک بعدم دلالة الأخبار علی

ص :13


1- 1) الکافی 2:401، الحدیث الأول.
2- 2) الکافی 2:19، الحدیث 5.

علی مخالفته، وعدم صحة الإعتذار عنها بأنه حصل کذلک، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الإحتجاج علیه بذلک، ولو مع التفاته إلی کیفیة حصوله.

نعم ربما یتفاوت الحال فی القطع المأخوذ فی الموضوع شرعاً، والمتبع فی عمومه وخصوصه دلالة دلیله فی کل مورد، فربما یدل علی اختصاصه بقسم فی مورد، وعدم اختصاصه به فی آخر، علی اختلاف الأدلة واختلاف المقامات، بحسب مناسبات الأحکام والموضوعات، وغیرها من الأمارات.

ذلک، وأنّ المراد منها إمّا عدم نفع الأعمال مع ترک الولایة أو عدم جواز الاعتماد فی الوصول إلی الأحکام الشرعیة علی القیاس والاستحسانات وترک الرجوع إلی الأئمة الهداة علیهم السلام علی ما کان علیه دین أهل الخلاف.

نعم، لا بأس بالإلتزام بعدم جواز الرکون فی فهم الأحکام إلی استخراج مناطات الأحکام وملاکاتها لینتقل منها إلی الأحکام الشرعیة فإنّه یوجب کثیرا الخطأ فی فهمها واستخراج الأحکام منها، بل یوجب طرح ظاهر بعض الخطابات الشرعیة بتخیّل أنّ ظاهرها لا یناسب الملاکات، وإذا خاض المکلف فی المقدمات العقلیة واستحساناته فی فهم الملاکات وأوجب ذلک الخطأ فی فهم التکلیف فلا یکون معذورا، ولکن لا یمکن منعه عن العمل بقطعه إذا حصل له القطع، فإنّ القطع بالتکلیف لا یقبل الردع عنه، وممّا یفصح عن عدم جواز الاعتماد علی فهم الملاکات والاستحسانات العقلیة ما دلّ علی أنّ دین اللّه لا یصاب بالعقول وأنّه لا شیء أبعد عن دین اللّه من العقول، أوضح ذلک صحیحة أبان بن تغلب، «قال: قلت: لأبی عبداللّه علیه السلام ما تقول فی رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة کم فیها؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتین، قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون،

ص :14

وبالجملة القطع فیما کان موضوعاً عقلاً لا یکاد یتفاوت من حیث القاطع، ولا من حیث المورد، ولا من حیث السبب، لا عقلاً __ وهو واضح __ ولا شرعاً، لما عرفت من أنه لا تناله ید الجعل نفیاً ولا إثباتاً، وإن نسب إلی بعض الأخباریین أنه لا اعتبار بما إذا کان بمقدمات عقلیة، إلاّ أن مراجعة کلماتهم لا تساعد علی هذه النسبة، بل تشهد بکذبها، وأنها إنما تکون إما فی مقام منع الملازمة بین حکم العقل بوجوب شیء وحکم الشرع بوجوبه، کما ینادی به بأعلی صوته ما حکی عن السید الصدر فی باب الملازمة، فراجع.

قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون، قلت: سبحان اللّه یقطع ثلاثا فیکون علیه ثلاثون، ویقطع أربعا فیکون علیه عشرون، إن هذا کان یبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول الذی جاء به شیطان فقال: مهلاً یا أبان هذا حکم رسول اللّه صلی الله علیه و آله إن المرأة تعاقل الرجل إلی ثلث الدیة، فإذا بلغت الثلث رجعت إلی النصف، یا أبان إنّک أخذتنی بالقیاس والسنة إذا قیست محق الدین»(1).

أقول: اذا فرض ان القطع لا یکون عذرا فیما إذا أخطأ الواقع مع النهی عن تحصیله عن مثل القیاس والاستحسانات فلابد من الإلتزام من أنّ العذریة من لوازم الجهل بالواقع وعدم وصول بیانه إلی المکلف، والنهی عن تحصیل القطع والوصول إلی الأحکام الواقعیة من طریق کذا مسقط للجهل عن العذریة لکون هذا النهی یصلح للبیان للتحفظ علی الواقع بسلوک غیر ذلک الطریق أو السبب، ولا یبعد استفادة ذلک بالإضافة إلی الاُمور الاعتقادیة من الآیات المبارکة الدالّة علی التوبیخ فی ترک السؤال والنظر إلی المعجزة للنبی صلی الله علیه و آله واتباع الآباء والأجداد وبالإضافة إلی الأحکام

ص :15


1- 1) وسائل الشیعة: 29:352، الباب 44 من أبواب دیات الأعضاء، الحدیث الأول.

وإما فی مقام عدم جواز الإعتماد علی المقدمات العقلیة، لأنها لا تفید إلاّ الظن، کما هو صریح الشیخ المحدث الأمین الاسترآبادی رحمه الله حیث قال فی جملة ما استدل به فی فوائده علی انحصار مدرک ما لیس من ضروریات الدین فی السماع عن الصادقین علیهم السلام :

الرابع: إن کل مسلک غیر ذلک المسلک __ یعنی التمسک بکلامهم (علیهم الصلاة والسلام) __ إنما یعتبر من حیث إفادته الظن بحکم اللّه تعالی، وقد أثبتنا

بالإضافة إلی من ترک الرجوع إلی الأئمة الهداة والمنقول من آثارهم واتباع طریق القیاس والاستنباط فی الملاکات.

وأما إذا صادف القطع الحاصل من ذلک الواقع فعدم کون المکلف مأخوذا بذلک الواقع ولو لم یکن فی البین طریق آخر وسبب آخر للوصول إلیه فهذا أمر غیر ممکن عند مثل الماتن قدس سره ممن یری أن منجزیة القطع ذاتیه، وظاهر بعض الکلام المنقول عن الاخباریین کالمنقول عن السید الصدر فی شرح الوافیة عدم مؤاخذة المکلف بمخالفة مثل هذا القطع، وقد تقدم أنّ الإلتزام بالتقیید فی فعلیة الأحکام کما ذکر فی توجیه کلمات الأخباریین غیر صحیح، فإن الفعلیة تتبع مقام الجعل علی ما مرّ، ولکن یمکن أن یکون الغرض من التکلیف خاصا بوصول خاص، ومعه لا یکون المکلف مأخوذا بذلک التکلیف إذا لم یمکن الوصول إلیه بذلک الوصول الخاص ولکن هذا لا یستفاد مما ورد فی سلک الأخبار المشار إلیها، بأنّها إما فی مقام الردع عن الاعتماد بالقیاس والاستحسانات فی کشف ملاکات الأحکام وأنّه لا تفید فی الوصول إلی الأحکام الشرعیة فی الوقائع وحتّی أنّ مثل صحیحة أبان ناظرة إلی عدم حصول العلم بالحکم الشرعی الواقعی ولا یصحّ ردّ ما وصل من قولهم علیهم السلام فی حکم الواقعة بالقیاس، وأمّا فی مقام الردع عن الاعتماد فی الأحکام الشرعیة علی آراء

ص :16

.··· . ··· .

وفتاوی أشخاص یسمّون عند الناس بالعلماء فی مقابل الأئمة الهداة الأوصیاء للنبی صلی الله علیه و آله ، وعلی الجملة العلم بحکم شرعی تکلیفی أو وضعی مما یعتمد فیه علی الأحکام العقلیة غیر المستقلة للملازمة بینه وبین الحکم الثابت بالخطابات الشرعیة من الکتاب أو السنة أو الأخبار المأثورة عنهم صلوات اللّه علیهم بواسطة الثقات والعدول لا یعدّ قیاسا ولا استحسانار ولا سماعا من غیرهم، بل هو فی الحقیقة أخذ بما هو لازم قولهم علیهم السلام کما فی أخذ المقر بلوازم إقراره، نعم المعروف من الأخباریین عدم جواز الاعتماد علی حکم العقل بالقبح أو الحسن فی استکشاف الحکم الشرعی لعدم الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع وتبعهم بعض الاُصولیین کصاحب الفصول قدس سره بدعوی أنّ العقل وإن یدرک مفسدة فعل خالصة أو غالبة ومعه یحکم باستحقاق فاعله الذم، وکذلک فی ناحیة درکه مصلحة ملزمة فی الفعل ومعه یحکم باستحقاق تارکه الذم، ولکن یمکن أن یکون بنظر الشارع جهة مانعة عن جعل الحرمة للاوّل أو جهة مزاحمة لجعلها فلا یحرّمه، وکذلک فی ناحیة درک العقل المصلحة الخالصة أو الغالبة فی الفعل وربما یکون إیجاب الشارع الفعل بلا ملاک فی متعلقه، بل المصلحة فی نفس جعل الوجوب کما فی موارد الإیجاب امتحانا أو رعایة للتقیة إلی غیر ذلک، نعم إلتزم صاحب الفصول قدس سره بالملازمة الظاهریة وأنّه یصحّ للشارع أخذ المکلف بارتکاب الأول وترک الثانی ما لم یتبین للمکلف عدم جعل الشارع الحرمة أو الوجوب للمانع والمزاحم، وأورد علی ذلک بأنّه خلاف الفرض فی حکمه بالقبح أو الحسن، فإنّ مورد الکلام ما إذا أحرز أنّه فی الفعل لیست جهة مانعة أو مزاحمة فی مفسدته کما فی حکمه بقبح الکذب الضار الموجب لهلاک النبی مع عدم رجوع نفع إلی الکاذب ومع استقلال العقل بقبحه کذلک یحکم بأن

ص :17

سابقاً أنه لا اعتماد علی الظن المتعلق بنفس أحکامه تعالی أو بنفیها) وقال فی جملتها أیضاً __ بعد ذکر ما تفطن بزعمه من الدقیقة __ ما هذا لفظه:

(وإذا عرفت ما مهدناه من الدقیقة الشریفة، فنقول: إن تمسکنا بکلامهم علیهم السلام فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسکنا بغیره لم یعصم عنه، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فیه شرعاً وعقلاً، ألا تری أن الإمامیة استدلوا علی وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالی عباده باتباع الخطأ، وذلک الأمر محال، لأنه قبیح، وأنت إذا تأملت فی هذا الدلیل علمت أن مقتضاه أنه لا یجوز

الشارع لا یرضی بارتکابه ومع وجود مثل هذه المفسدة فی العقل کیف یحتمل أن یکون مباحا عند الشارع، نعم إذا علم المکلف المفسدة فی فعل واحتمل أن یکون عند الشارع جهة اُخری فی فعله فلا یحکم بعدم رضاء الشارع به، فالمدعی فی باب الملازمة ثبوت الحکم الشرعی فی مورد ثبوت المفسدة أو المصلحة مما ذکر من الموارد، والمراد ثبوت الملازمة فی الجملة لا فی جمیع موارد درک العقل مفسدة الفعل أو صلاحه، وقد أورد علی ذلک الشیخ قدس سره بأنّه وإن لا یکون شبهة فی أنّ العقل بعد استقلاله بالمفسدة غیر المزاحمة فی فعل یحکم بقبحه واللوم علی فاعله، ولکن مع ذلک لا یلزم أن تکون تلک المفسدة تمام الملاک فی حکم الشارع إذ ربما یری الشارع مصلحة فی صبره علی ارتکاب العبد القبیح؛ لأنّ فی صبره مصلحة أعظم حیث إنّه تسهیل الأمر علی العبد، ومثل هذه المصلحة فی صبر المولی لا توجب أن لا یحکم العقل بقبح العمل واللوم علی فاعله وإلاّ لم یکن موضوع لصبر المولی علی ارتکاب عبده القبیح وتبعیة الحکم الشرعی لمفسدة المتعلق لا ینافی ذلک، إذ معنی التبعیة عدم حکم الشارع بدون مفسدته لا لزوم حکمه معها.

أقول: الظاهر أنّه اشتبه مصلحة صبر المولی علی عدم مؤاخذة العبد بارتکابه

ص :18

الإعتماد علی الدلیل الظنی فی أحکامه تعالی)، انتهی موضع الحاجة من کلامه.

وما مهده من الدقیقة هو الذی نقله شیخنا العلامة _ أعلی اللّه مقامه _ فی الرسالة.

وقال فی فهرست فصولها أیضاً:

الأول: فی إبطال جواز التمسک بالاستنباطات الظنیة فی نفس أحکامه تعالی شأنه، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحکم اللّه، أو بحکم ورد عنهم علیهم السلام ، انتهی.

وأنت تری أن محل کلامه ومورد نقضه وإبرامه، هو العقلی غیر المفید للقطع، وإنما همّه إثبات عدم جواز اتباع غیر النقل فیما لا قطع.

القبیح والحرام بعدم جعل الحرمة للفعل فإنّ الصبر علی ارتکاب الفساد المحض أو الغالب کما هو فرض إحراز العقل مع استقلاله بدرکه کما هو الفرض لا یوجب الترخیص فی الارتکاب من المولی الحکیم، وإلاّ بأن احتمل العقل أن عند المولی جهة صلاح فی العمل المزبور أو جهة مصلحة تلازمه لا یحکم بقبحه أصلاً، والموضوع لصبر المولی فی الفرض وجود تلک الجهة لا حکم للعقل بقبحه ولو أمکن منع استقلاله فی الحکم بالقبح لانسد علی العباد إحراز نبوة النبی بإخباره بنبوته وإظهاره المعجزة، حیث یمکن أن تکون مصلحة فی إعطاء المعجزة بید الکاذب ومصلحة فی صبره علی دعواه بالکذب. وما یقال: من الموارد التی ثبت الحکم الشرعی فیها علی خلاف حکم العقل نظیر أکل المارة من ثمرة طریقه ولو بدون رضا مالکه، أو إیقاع المکلف نفسه فی الهلکة، ونظیر قتل الکافر الحربی وأسر عیاله وأطفاله، فإنّ مثلها یدخل فی عنوان التعدی علی الغیر مع حکم الشارع بالجواز أو الوجوب لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ مع إذن الشارع فی إتلاف مال الغیر أو إتلاف نفسه أو نفس الغیر لجهة من المصلحة یرتفع عنوان الظلم المحکوم عقلاً بالقبح، ولذا لا یمکن فی موارد احتمال ثبوت المصلحة وحکم الشارع بالجواز

ص :19

وکیف کان، فلزوم اتباع القطع مطلقاً، وصحة المؤاخذة علی مخالفته عند إصابته، وکذا ترتب سائر آثاره علیه عقلاً، مما لا یکاد یخفی علی عاقل فضلاً عن فاضل، فلابد فیما یوهم خلاف ذلک فی الشریعة[1] من المنع عن حصول العلم التفصیلی بالحکم الفعلی لأجل منع بعض مقدماته الموجبة له ولو إجمالاً. فتدبر جیداً.

التمسک بخطاب حرمة الظلم بل یتمسک بعموم ما دلّ علی أنّه لا یحل التصرف فی مال الغیر إلاّ بطیبة نفسه، أو ما دلّ علی حرمة قتل الإنسان نفسه أو الغیر إلی غیر ذلک.

[1] قد یقال: إنّه لو لم یمکن تجویز مخالفة العلم بالتکلیف فکیف وقع فی الشرعیات وعدّ منها موارد کما إذا کان عند الودعی درهم لشخص ودرهمان لآخر فسرق إحدی الدراهم، فإنّ لصاحب الدرهمین درهماً والدرهم الآخر یکون نصفه له ونصفه الآخر لصاحب الدرهم، ولو أخذ ثالث منهما الدرهم المحکوم بکونه لهما واشتری به جاریة یملکها مع علمه بعدم تمام الجاریة له؛ لأنّ بعض ثمنها ملک الغیر واقعا، ویجاب عن ذلک بأنّ الحکم بالتنصیف فی الدرهم لکون الامتزاج والاشتباه عند الودعی موجبا للشرکة بینهما، فأخذ النصف من کلّ منهما تملک الدرهم من المالک الواقعی فینتقل فی الفرض تمام الجاریة إلی المشتری، وفیه أن مجرد اشتباه أحد المالین بالآخر من غیر امتزاج موجب لوحدة المالین عرفا کما فی المثال لا یوجب الشرکة القهریة، والشرکة المعاملیة غیر مفروضة فی المقام أضف إلی ذلک أن مقتضی کلامهم عدم الفرق فی اشتباه الدرهم المسروق بخصوص أحد الدرهمین الباقیین أو بکلّ منهما، ومن الظاهر أنّ مقتضی الشرکة فی الثانی کون ثلث الدرهمین لصاحب الواحد لا ربعهما کما هی الفتوی.

ص :20

.··· . ··· .

وقد یقال: إن التنصیف فی الدرهم مصالحة قهریة علی المالکین، حیث إن للشارع الولایة فی الحکم بها علی الناس فی أموالهم وقد جوّز أکل المارّ من الثمرة التی فی طریقه مع کونها ملک الغیر ولو مع عدم رضاه، وفیه أنّ ظاهرهم أنّ هذا حکم شرعی لا حکم ولائی کما هو الحال فی تجویز الشارع فی أکل الثمرة من طریقه، وعلی الجملة الحکم فی المقام من قبیل کون خمس المال المختلط بالحرام لأرباب الخمس فیکون حکما واقعیا، أو أنّه من قبیل الحکم الظاهری، فإن کان من قبیل الحکم الظاهری فلا یجوز للثالث الجمع بینهما فی ملکه لعلمه بعدم انتقال أحدهما من مالکه الواقعی، ولذا لو علم أحدهما بعد الحکم بالتنصیف أن المسروق کان ماله فعلیه أن یرّد النصف المأخوذ أو بدله إلی صاحبه، ولا یستفاد من الروایتین الواردتین المرویتین فی باب الصلح أزید من الحکم الظاهری، نظیر ما إذا کان درهم فی ید شخصین لا یعلم أنه لأیّ منهما أو کان مال لم یکن له ید وادعاه اثنان حیث یحکم لکلّ منهما بنصفه.

وکما إذا اختلف البایع والمشتری فی الثمن أو المثمن لا بنحو الأقل والأکثر بل بنحو التباین، بأن قال البایع بعت الجاریة بمئة دینار، وقال المشتری اشتریتها بمئتی درهم، أو قال البایع بعت الجاریة بمئة وقال المشتری اشتریت العبد بمئة، وفی مثل ذلک لو لم یقم أحد البیّنة علی دعواه یحلف کلّ منهما علی نفی دعوی الآخر فتسقط کلتا الدعویین ویرجع المالان إلی مالکیهما، ولو أخذ ثالث العبد والجاریة فی شراء واحد منه فیعلم تفصیلاً ببطلان الشراء ولو کان اختلافهما فی الثمن من حیث الزیادة والنقیصة یکون مقتضی القاعدة کون مدعی الزیادة مکلفا بإقامة البینة علی دعواه، إلاّ أنّه قد ورد النص أنّه ما دام المبیع موجودا یحلف البایع علی الزیادة وتؤخذ فی

ص :21

.··· . ··· .

غیر مورد النص بالقاعدة، والجواب أنّ مع التحالف ینفسخ البیع الواقع فیکون أخذ العبد والجاریة من مالکهما الواقعی، ولو قیل بأنّ التحالف لا یوجب الانفساخ واقعا وکذا قضاء القاضی بالانفساخ، ولذا لو تذکّر أحدهما بالواقعة وجب تسلیم حق صاحبه إلیه کما هو مقتضی قوله صلی الله علیه و آله «إنّما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان . . . فأیّما رجل قطعت له من مال أخیه شیئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1) فیمکن الجواب بأنّ للمالک الأصلی الإمساک بما باعه لا تقاصا لیقال بعدم جواز التقاص بعد تمام القضاء، بل الإمساک لجواز فسخ البیع من بایعه لعدم وصول ثمنه إلیه، ولذا یجوز للثالث أخذ الثمن والمبیع منهما ولو فرض أنّ البایع والمشتری لم یفسخا البیع انتظارا لوضوح الحال للآخر فلا یجوز لثالث أخذ الثمن والمثمن منهما وهکذا.

ومن الموارد التی ذکرت لجواز مخالفة العلم ما إذا اختلفا فی سبب الانتقال، کما إذا قال مالک: المتاع بعتک إیّاه بکذا وقال الآخر: وهبتنی، فإنّه لو لم یثبت شیء من الدعویین یتحالفان ویرجع المتاع إلی مالکه الأصلی مع علمه بانتقاله عن ملکه إما بالبیع أو الهبة.

أقول: قد یقال إذا کانت العین تالفة أو کان المدعی للهبة من ذی الرحم یحلف مدعی الهبة علی عدم الشراء لجریان أصالة عدم جریان البیع منه من غیر أن یعارضها أصالة عدم الهبة منه، فإن أصالة عدم الهبة لا أثر لها بعد تلف العین أو کون المدعی من ذی الرحم، إلاّ أن یثبت وقوع البیع، نعم مع بقاء العین وعدم کون مدعی الهبة من ذی الرحم فعلی المالک أن یرجع إلی متاعه أخذا بإقرار المشتری حیث إنّه اعترف

ص :22


1- 1) وسائل الشیعة: 27:232، الباب 2 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

بأنّ للمالک الرجوع إلی متاعه فلا مورد للحلف ولا علم بمخالفة التکلیف لا تفصیلاً ولا إجمالاً حیث إنّ للبایع الرجوع إلی المبیع مع عدم تسلیم صاحبه الثمن إلیه.

ومنها: ما إذا وجد اثنان منیا فی ثوب مشترک بینهما بحیث یعلمان جنابة أحدهما، فإنّه قد ذکروا أنّه لا یجب علی کلّ واحد لصلاته إلاّ الوضوء لجریان الاستصحاب فی ناحیة عدم الجنابة فی حقهما بلا تعارض، ومقتضی ذلک جواز اقتداء أحدهما بالآخر فی صلاته ویجوز للثالث الاقتداء بهما فی صلاتین مترتبتین، وهذا یوجب علم المأموم ببطلان صلاته لجنابته أو جنابة امامه وعلم الثالث ببطلان صلاته الثانیة لجنابة أحد الإمامین.

ولکن لا یخفی أنّ جواز اقتداء أحدهما بالآخر أو جواز اقتداء الثالث بهما فی صلاتین لم یرد فی شیء من الخطابات الشرعیة، فإن قیل بأنّ صلاة الإمام إذا کانت بحسب نظره صحیحة یجوز الاقتداء به فلا إشکال، وأمّا بناءً علی کون الشرط فی جواز صحة صلاة الامام واقعا بحیث لو انکشف الحال له لم یجب علیه إعادتها فلا یجوز لصاحبه الاقتداء به، کما لا یجوز للغیر الاقتداء بهما فی صلاة أو صلاتین، وقد یقال: بلزوم الجمع بین الوضوء والغسل علی کلّ منهما إذا کان صاحبه ممن یمکن استیجاره قبل اغتساله لکنس المسجد ونحوه، مما لا یجوز للجنب، ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّه إن کان المراد من عدم جواز الاستیجار الحکم الوضعی یعنی الحکم ببطلان إجارته فالوضع یترتب علی المعاملة بعد حصولها، وإن کان المراد عدم جوازه تکلیفا؛ لأنّه من التسبیب إلی الحرام أی إدخال الجنب المسجد فإن إدخاله کدخول الجنب فیه محرم فلا یخفی ما فیه، فإن التسبیب یتحقق مع جهل المباشر بالحال لا مع علمه کما هو الفرض، فغایة الأمر یکون استیجار أحدهما الآخر

ص :23

.··· . ··· .

من الإعانة علی الإثم، والإعانة علیه فی غیر الظلم غیر محرّم.

ومنها: ما إذا کانت عین فی ید شخص وادعاها اثنان واعترف ذوالید بتلک العین بتمامها لأحدهما ثم اعترف بتمامها للآخر، فإنّهم ذکروا بکونها للمقرّ له الأول ویغرم ذوالید بدلها للثانی، فإن مقتضی ذلک جواز أخذ الثالث العین من الأول وبدلها من الثانی ویشتری بهما متاعا مع علمه بعدم انتقال المتاع إلیه لعدم کون تمام الثمن ملکه.

ویجاب عن ذلک بأن إقرار ذی الید حجة یؤخذ بها، ومقتضی الأخذ بالإقرار الأول الحکم بکون العین ملکا للمقرّ له الأول کما أنّ مقتضی نفوذ الإقرار الثانی کون ذلک الإقرار اتلافا للعین علی الثانی فیضمن له البدل.

ثم إنّه لو قیل بأنّ الحکم الظاهری لشخص موضوع للحکم الواقعی للآخرین فیجوز للثالث أخذ العین والبدل منهما وإلاّ فلا یجوز له الأخذ عن أحدهما فضلاً عن شراء المتاع بهما.

لا یقال: کیف یجوز للحاکم الحکم بإعطاء العین للأول والبدل للثانی مع أنّه یعلم بمخالفة أحد حکمیه للواقع، وبتعبیر آخر الإقرار إما من قبیل الأمارة أو الأصل ولا اعتبار بشیء منهما مع التعارض.

فإنّه یقال: حکم الحاکم کإفتائه لکلّ من واجدی المنی فی الثوب المشترک بوجوب الوضوء لصلاتهما، فإنّ الموجب لسقوط الأصل فی أطراف العلم لزوم الترخیص القطعی فی التکلیف الواصل بالإضافة إلی المکلف لا لزوم الترخیص فی التکلیف المتوجه إلی أحد المکلفین.

وأما الإقرار فاعتباره وإن کان من جهة کونه طریقا إلاّ أنّ مقدار اعتباره بالإضافة

ص :24

الأمر السابع: إنه قد عرفت کون القطع التفصیلی بالتکلیف الفعلی علة تامة لتنجزه لا تکاد تناله ید الجعل إثباتا أو نفیا فهل القطع الإجمالی کذلک؟[1]

إلی ما کان الإقرار علی النفس ولو کان ذلک الإقرار مدلولاً إلتزامیا، وحیث إنّ الدلیل قام بنفوذ الإقرار الأول دون الإقرار الثانی فی مدلوله المطابقی یکون الإقرار الثانی مع نفوذ الإقرار الأول إقرارا بإتلاف العین علی المقر له الثانی، فیرجع الثانی إلی بدلها نظیر رجوع الشاهدین عن شهادتهما بعد القضاء، وعلی الجملة لا علم للقاضی بالترخیص القطعی فی مخالفة أحدهما فی تکلیفه الواقعی بعد احتمال أنّ الإقرار الأول إتلافا ظاهریا علی الثانی بإقرار العین للمقر له الأوّل.

ومنها: تجویز مخالفة التکلیف فی مورد الشبهة غیر المحصورة فإنّها مخالفة مع العلم بالتکلیف وفیه ما لا یخفی، فإنّ خروج بعض الأطراف فیها عن ابتلاء المکلف وتمکّن ارتکابه یوجب جریان الأصل النافی فی الأطراف الداخلة فی محلّ الابتلاء بلا معارض، أو أن کثرة الأطراف توجب الاطمئنان فی البعض بعدم الحرام فیه مما یرید ارتکابه فلا تجویز فی مخالفة التکلیف المعلوم حتّی بنحو الإجمال وتمام الکلام فی محلّه.

[1] یقع الکلام فی العلم الإجمالی فی مقامین:

احدهما: اعتبار العلم الإجمالی فی ثبوت التکلیف وإحراز تنجّزه، وبتعبیر آخر هل یتنجّز التکلیف المعلوم بالإجمال کتنجّزه بالعلم التفصیلی.

وثانیهما: فی سقوط التکلیف بامتثاله الإجمالی مع التمکّن من امتثاله التفصیلی بمعنی یجوز للمکلف الاقتصار علی امتثال التکلیف بالعلم الإجمالی مع تمکّنه من امتثاله التفصیلی بلا فرق بین موارد الشبهة الحکمیة والموضوعیة، مثلاً إذا لم یدر فی مورد أنّ وظیفته القصر أو التمام أو تردد الثوب الطاهر بین ثوبین أن یأتی بالقصر

ص :25

فیه إشکال، ربما یقال: إن التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الإنکشاف، وکانت مرتبة الحکم الظاهری معه محفوظة، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً، ولیس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور مناقضة الحکم الظاهری مع الواقعی فی الشبهة الغیر المحصورة، بل الشبهة البدویة، ضرورة عدم تفاوت فی المناقضة بین التکلیف الواقعی والإذن بالاقتحام فی مخالفته

والتمام أو کرّر صلاته فی کلّ من الثوبین مع تمکّنه علی معرفة وظیفته من الصلاتین أو تمکّنه من الإتیان فی ثوب طاهر آخر.

فی تنجیز العلم الإجمالی

أما الکلام فی المقام الأول فیقع فی جهتین.

إحداهما: عدم جواز المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال.

وثانیهما: لزوم الموافقة القطعیة فی التکلیف المعلوم بالإجمال.

وقد ذکر الماتن قدس سره فی الجهة الأولی أنّه لا مانع من جعل الحکم الظاهری فی کلّ من أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف ولو لزم من العمل بالحکم الظاهری فی کلّ الأطراف العلم بمخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ مرتبة الحکم الظاهری محفوظة فی کلّ منها وهو الشک فی تعلق التکلیف به واقعا ودعوی مناقضة الترخیص فی الارتکاب فی کلّ من الأطراف مع التکلیف المعلوم بالإجمال بینها مدفوعة، بأنّ المناقضة هی المناقضة الموهومة بین الحکم الظاهری والواقعی وبما أنّ مرتبة الحکم الظاهری متأخرة عن تعلق الحکم الواقعی فلا مناقضة بینهما، وإلاّ جرت المناقضة بین الحکم الظاهری المجعول فی أطراف الشبهة غیر المحصورة والتکلیف المعلوم بینها بل تجری فی الشبهة البدویة أیضا، لاحتمال ثبوت التکلیف

ص :26

بین الشبهات أصلاً، فما به التفصی عن المحذور فیهما کان به التفصی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة أیضاً، کما لا یخفی، [وقد أشرنا إلیه سابقاً، ویأتی إن شاء اللّه مفصلاً].

نعم کان العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرد الإقتضاء، لا فی العلیّة التامة، فیوجب تنجز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلاً، کما کان فی أطراف کثیرة غیر محصورة، أو شرعاً کما فی ما أذن الشارع فی الإقتحام فیها، کما هو ظاهر (کل شیء فیه حلال وحرام، فهو لک حلال، حتی تعرف الحرام منه بعینه).

الواقعی فیها.

لا یقال: فرق بین الشبهة المحصورة وبین غیر المحصورة والشبهة البدویة فإن التکلیف فی الشبهة المحصورة فعلی بین أطرافها، بخلاف غیر المحصورة والشبهة البدویة إذا اتفق التکلیف الواقعی فیها.

فإنّه یقال: لا فرق فی ذلک بین الشبهة المحصورة وغیر المحصورة وکذا الحال فی الشبهة البدویة، حیث یحتمل فیها أیضا التکلیف الفعلی، وإلاّ لم یکن للأصل النافی معنی.

وعلی الجملة لو کان تأخر مرتبة الحکم الظاهری مفیدا فی الشبهة غیر المحصورة والبدویة لکان مفیدا أیضا فی المحصورة ولو لم یکن تأخرها مفیدا فی دفع المناقضة وتوقف الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری علی الإلتزام بعدم فعلیة التکلیف الواقعی لأمکن الإلتزام بعدم الفعلیة حتّی فی أطراف الشبهة المحصورة، وأنّ فعلیته ما لم یمن_ع عنه مانع عقلاً أو شرعا، فالأول کما فی کثرة الأطراف، والثانی کما فی إذن الشارع فی الاقتحام فی المشتبه کما هو ظاهر قوله 7 : «کلّ شیء فیه حلال وحرام

ص :27

وبالجملة: قضیة صحة المؤاخذة علی مخالفته، مع القطع به بین أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها، أو مع الإذن فی الإقتحام فیها، هو کون القطع الإجمالی مقتضیاً للتنجز لا علة تامة.

وأما احتمال أنه بنحو الإقتضاء بالنسبة إلی لزوم الموافقة القطعیة، وبنحو العلیة بالنسبة إلی الموافقة الإحتمالیة وترک المخالفة القطعیة، فضعیف جداً.

ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضین کالقطع بثبوتهما فی الإستحالة، فلا یکون عدم القطع بذلک[1].

فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه»(1).

وعلی الجملة صحة مؤاخذة المکلف علی مخالفة التکلیف مع القطع به فی أطراف محصورة وع_دم صحتها مع عدم حصرها أو مع الإذن فی الاقتح_ام فی الأطراف أن یک_ون العلم الإجمالی مقتضیا لتنجّز التکلیف به لا علّة تامّة، نظیر العلم التفصیلی بالتکلیف.

[1] لعلّ هذا الکلام مستدرک فإن القطع بالتکلیف الفعلی فی أطراف الشبهة غیر المحصورة واحتماله فی الشبهة البدویة قد فهم مما ذکر قبل ذلک، وأما بدون ما ذکر کما فی موارد الخطأ والقطع بالخلاف فلا یکون مورد لجریان الأصل، والتکلیف الواقعی فیها إنشائی محض علی مسلکه قدس سره فلا موجب لذکره من موارد الإذن الشرعی فی الارتکاب بعنوان الحکم الظاهری.

أقول: أما اختلاف الحکم الظاهری مع الواقعی فی المرتبة فقد اعترف قدس سره فی بحث إمکان التعبد بالأمارة بأنّه غیر مفید فی رفع التنافی بین الحکم الواقعی والظاهری، فإنّه وإن لا یمکن جعل الحکم الظاهری إلاّ بلحاظ ثبوت الحکم الواقعی

ص :28


1- 1) وسائل الشیعة 17:87، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

فی مورده، إلاّ أنه یثبت فی مرتبة الحکم الظاهری الحکم الواقعی أیضا لما تقدم من عدم إمکان جعل الحکم الواقعی فی خصوص صورة العلم به فیکون المجعول مطلقا ذاتا، وأما تقیید فعلیة الحکم بعدم المانع بالتقریب المتقدم فهو مبنی علی ثبوت مرتبتی الإنشاء والفعلیة للحکم بالمعنی الذی إلتزم به، وقد ذکرنا أنّه غیر صحیح وأنّ فعلیة الحکم تابعة لکیفیة جعله واعتباره فلا تختلف فعلیة الحکم عن مقام إنشائه إلاّ بتحقق الموضوع له خارجا مع الفعلیة وتقدیر ذلک التحقق وفرضه فی مقام الجعل.

ویمکن أن یکون مراد الماتن قدس سره من محفوظیة مرتبة الحکم الظاهری فی کلّ من أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف تحقق الموضوع للحکم الظاهری بخلاف العلم التفصیلی، فإنّه لا موضوع معه للحکم الظاهری، ولکن مجرّد ذلک لا یصحح جعل الحکم الترخیصی فی جمیع أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف، وذلک فإن الترخیص فی الارتکاب فی کلّ منها ینافی الغرض من التکلیف الواقعی الثابت بینها الواصل بالعلم الإجمالی، ولا یقاس الترخیص فی ارتکاب جمیعها بالترخیص فی ارتکاب الشبهة البدویة فی بعض الأطراف فی الشبهة غیر المحصورة التی تکون بعض أطرافها خارجة عن تمکن المکلف بارتکابه أو عن ابتلائه لوصول التکلیف فیه دونهما.

وعلی الجملة الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی قبیح من المولی الحکیم إذا کان الغرض منه إمکان انبعاث العبد بالفعل أو الترک بوصوله کما هو الفرض. ودعوی أنّ القبیح هو ترخیص المولی فی الارتکاب مع علم العبد حین الارتکاب بأنّ ما یرتکبه مخالفة للتکلیف من قبل المولی، ولذا لا بأس علی العبد بالارتکاب فی موارد الشبهات البدویة حتّی لو اتفق بعد الارتکاب حصول

ص :29

.··· . ··· .

العلم له بأنّ بعض ما ارتکبه کان مخالفة للتکلیف واقعاً لا یمکن المساعدة علیها، فإنّ الارتکاب مع عدم وصول التکلیف الواقعی حینه غیر قبیح وحصول العلم به بعد ذلک لا یجعل التکلیف السابق واصلاً، إلاّ فی مورد لزوم تدارکه بخلاف وصول التکلیف قبل العمل فإن إجمال مورده وعدم تمییزه لا یکون موجبا لرفع قبح الترخیص القطعی فی مخالفته، نعم لا بأس بالترخیص فی بعض أطرافه إذا کان لذلک البعض معیّن، کما فی موارد انحلال العلم الإجمالی حکما، حیث إن الترخیص فیه لا یلازم الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف الواصل والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة باکتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالیة المعبّر عنه بجعل البدل فی مقام الامتثال واقع کما فی موارد جریان قاعدة الفراغ ونحوها، بل یمکن أیضا الاکتفاء فیها بالأمر أو الترخیص فی ارتکاب بعض الأطراف ولو علی نحو التخییر فی الجملة کمورد الاضطرار إلی شرب أحد المائین المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما، وإن شئت قلت: التبعیض فی تنجیز العلم الإجمالی بالترخیص فی ترک الموافقة القطعیة مع إحراز الموافقة الاحتمالیة لا یعدّ مناقضاً مع إحراز ثبوت التکلیف الواقعی فی البین بخلاف الترخیص فی المخالفة القطعیة فإنّه ینافی مع احراز المکلف التکلیف الموجود بین الأطراف حیث یناقض بالتکلیف فی البین مع کون الغرض منه الانبعاث بوصوله، نعم لو فرض کون الغرض من التکلیف مختصاً بوصوله الخاص لأمکن الترخیص فی الارتکاب مع الوصول الآخر وجری مثل ذلک فی مورد العلم بالتکلیف تفصیلاً علی ما مرّ فی إمکان تصرف الشارع فی منجزیة العلم مع خصوص الفرض من التکلیف، ولکن هذا مجرد فرضٍ کما ذکرنا سابقا.

لا یقال: یمکن استکشاف عدم عموم الفرض فی الشبهة المحصورة وغیرها من

ص :30

.··· . ··· .

الشبهات من مثل قوله علیه السلام فی صحیحة عبداللّه بن سنان: «کلّ شیء یکون فیه حلال وحرام فهو لک حلال ابدا حتّی تعرف الحرام منه بعینه»(1) فإنّ ظاهرها لزوم الاجتناب عن الحرام إذا تعیّن.

أقول: الروایة مختصّة بالشبهات الموضوعیة بقرینة ما ورد فیها من أن الشارع جعل لشیء قسمین: قسم حلال وقسم حرام، وحکم بأنّ ارتکاب ذلک الشیء له حلال إلی أن یعلم أنّ ما یرتکبه قسمه الحرام، وکلمة (بعینه) تأکید جیء بها للاهتمام بالعلم، کما قد یقال: رأیت زیدا بعینه، ویراد منه دفع توهم وقوع الرؤیة بغیره ممن یتعلق به کخادمه أو ابنه، والتوهم المنفی فی الروایة کفایة الظن بالحرام واحتماله.

وعلی الجملة: عرفان الحرام بعینه عبارة اُخری عن العلم بوجود الحرام فیما یرتکبه ولو کان ذلک الحرام غیر متمیّز عن غیره، وإن ادّعی أنّ کلمة «منه» فی الصحیحة ظاهرها عرفان قسم الحرام معینا، ولکن ذکرنا أن معرفة قسم الحرام بعینه لیس معناه معرفته متمیّزا عن غیره حین الارتکاب.

فتحصل مما ذکرنا أنّ فعلیة التکلیف ووصوله بالعلم الإجمالی لا ینافی الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة والعلم الإجمالی بالتکلیف الواصل وکون الغرض منه إمکان الانبعاث علة تامة بالإضافة إلی عدم جواز الترخیص فی مخالفته القطعیة، ولکن بالإضافة إلی موافقته القطعیة مقتض، بل الحال فی العلم التفصیلی بالتکلیف أیضا کذلک فیمکن للشارع الاکتفاء بموافقته الاحتمالیة. ودعوی الفرق بینهما بأنّ قاعدة الفراغ ونحوها من حیث المفاد جعل البدل فی مقام الامتثال، بخلاف الأصل النافی

ص :31


1- 1) وسائل الشیعة 17:87، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

فی مقام ثبوت التکلیف فإنّه لا یمکن إذا کان مفاده الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، حیث إنّه لیس من جعل البدل فی مقام الامتثال لا یمکن المساعدة علیها؛ لانّ مرجع جعل البدل الظاهری إلی الترخیص فی مخالفة التکلیف الواقعی الواصل کما هو الحال فی الترخیص فی ارتکاب بعض أطراف العلم، حیث یمکن فیه أیضا دعوی أنّه من جعل البدل الظاهری للواجب أو الحرام الواقعیین.

فی جریان الاُصول العملیة فی اطراف العلم الاجمالی

بقی فی المقام أمر، وهو أنّه قد یقال: بعدم جریان الأصل العملی فی شیء من أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف سواء کان الأصل الجاری فی کلّ من أطرافه مثبتا للتکلیف وموافقا للعلم الإجمالی به، أو کان الأصل الجاری فی کلّ منها منافیا کما یظهر ذلک مما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره من أنّ شمول خطابات الاُصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بالتکلیف یوجب المناقضة بین صدرها وذیلها فإن إطلاق الصدر فی مثل قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشک» جریان الاستصحاب فی کل من الأطراف وإطلاق الذیل، «ولکن انقضه بیقین آخر» لزوم رفع الید عن الحالة السابقة وعدم جریانه فی جمیعها، وکذا فی قوله علیه السلام «کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّه حرام» فإنّ کلّ واحد من الأطراف مشکوک فیه مع قطع النظر عن سائر الأطراف ومقتضی إطلاق العلم فی الذیل عدم الحکم بالحلیة.

ولکن لا یخفی ما فیه فإنّ ما ورد فی الذیل لیس حکما تعبدیا بل لبیان ارتفاع الموضوع للحکم الظاهری ومن الظاهر أنّ العلم الذی یرفع الموضوع للحکم الظاهری تعلقه بعین ما تعلق به الشک، والعلم فی موارد العلم الإجمالی یتعلق بأحدهما لا بعینه لا بأحدهما بعینه، والمورد للحکم الظاهری هو الثانی دون الأول.

ص :32

.··· . ··· .

أضف إلی ذلک أنّه لو فرض إجمال مثل هذه الخطابات بالإضافة إلی أطراف العلم الإجمالی فیرجع فی مورد إجمالها بالخطابات التی لیس فیها ذلک الذیل أو التحدید بحصول العلم بالخلاف، کقوله «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون»(1) و«الناس فی سعة ما لا یعلمون»(2) و«لا تنقض الیقین بالشک» وکیف یلتزم بأن إطلاق العلم والعرفان یشمل العلم والعرفان بالعلم الإجمالی بدعوی لزوم التناقض بین الصدر والذیل مع أنّ لازمه أن لا تجری الاُصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی غیر المنجز مما یعبّر عنه بمورد الانحلال الحکمی، کما إذا کان أحد الاناءین معلوم الطهارة والآخر معلوم نجاسته ثم علم إما بطهارة الأول أو تنجس الثانی بوقوع نجاسة فی الثانی أو وقوع المطر فی الأول، حیث إن العلم الإجمالی بعدم بقاء الحالة السابقة فی أحدهما یمنع عن شمول النهی عن نقض الیقین بالشک لکلّ منهما.

فی جریان الاُصول المثبتة فی أطراف العلم الإجمالی

وقد ذکر المحقق النائینی قدس سره بأنّه لا مجال للاُصول التنزیلیة فی أطراف العلم الإجمالی سواء کان مقتضاها الترخیص فی الارتکاب أم لا فلا یجری استصحاب النجاسة فی کلّ واحد من الاناءین المعلوم إجمالاً طهارة أحدهما مع سبق النجاسة فی کلّ منهما، کما لا یجری الاستصحاب فی طهارة کلّ من الأناءین مع سبق طهارتهما والعلم الإجمالی بتنجس أحدهما بعد ذلک، فإنّ التعبد بالعلم بنجاسة کلّ من الأناءین لا یجتمع مع العلم الوجدانی بطهارة أحدهما، وکذا التعبد بالعلم بطهارة

ص :33


1- 1) وسائل الشیعة 15:369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 3:493، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 11.

معها موجباً لجواز الإذن فی الاقتحام، بل لو صح الإذن فی المخالفة الاحتمالیة صح فی القطعیة أیضاً، فافهم.

ولا یخفی أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلک، کما أن المناسب فی باب البراءة والاشتغال _ بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثیره فی التنجز بنحو الاقتضاء

کلّ منهما مع العلم الوجدانی بنجاسة أحدهما، وأما فی الاُصول غیر التنزیلیة التی لا یکون مفادها التعبد بالعلم فعدم جریانها فی أطراف العلم یختص بموارد لزوم الترخیص فی المخالفة القطعیة نظیر قوله «کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّه حرام»، أو «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون» إلی غیر ذلک.

وفیه أنّ العلم المتعبد به فی الاُصول التنزیلیة هو العلم من حیث الجری العملی فی کلّ من الأطراف بخصوصه، فالمتعبد به من حیث الجری العملی غیر مخالف مع مقتضی العلم الإجمالی بالتکلیف بحیث لا یلزم المخالفة القطعیة من جریان الاُصول العملیة التنزیلیّة فلا محذور فی جریانها فی أطرافها، وإلاّ کان التعبد بالعلم مع فرض الشک فی غیر موارد العلم الإجمالی أیضا تعبدا بخلاف الوجدان.

ثمّ إنّه قد یقال: إذا کان الممتنع من الترخیص هو الترخیص فی المخالفة القطعیة للمعلوم بالإجمال فلا بأس بالأخذ بالاُصول المرخصة فی کلّ من أطراف العلم ورفع الید عن إطلاق الترخیص فی کلّ منهما بأن یرخص الشارع فی ارتکاب کلّ من الطرفین بشرط الاجتناب عن الطرف الآخر، والمورد من صغریات القاعدة التی تذکر فی أنّه کلّما دار الأمر بین رفع الید عن أصل الحکم المدلول علیه بالخطاب الشرعی ورفع الید عن إطلاقه، یتعین رفع الید عن إطلاقه کما إذا دلّ دلیل علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة ودلّ خطاب آخر علی وجوب الجمعة یحمل الخطابان علی کون وجوبهما تخییرا.

ص :34

لا العلیة _ هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته، کما لا مجال بعد البناء علی أنه بنحو العلیة للبحث عنه هناک أصلاً، کما لا یخفی.

هذا بالنسبة إلی إثبات التکلیف وتنجزه به، وأما سقوطه به بأن یوافقه إجمالاً فلا إشکال فیه فی التوصلیّات[1].

ولکن لا یخفی أنّ هذا فیما إذا احتمل أنّ التخییر هو الحکم الواقعی، وفیما نحن فیه لا یحتمل کون الحکم الواقعی تخییریا، کما إذا علم بأن أحد المایعین خمر أو نجس فإنّ الترخیص فی ارتکاب کلّ منهما بشرط الاجتناب عن الآخر لا یکون حکما واقعیاً لشیء منهما فإنّ أحدهما الذی هو خمر فی الواقع یجب الاجتناب عنه مطلقا، والآخر الذی لیس بخمر لا یجب الاجتناب عنه أصلاً.

وعلی الجملة الحکم الظاهری فی موضوع لابد من احتمال مصادفته الواقع ومع العلم بعدم کونه حکما واقعیا لا معنی کونه حکما طریقیا إلی الواقع، وعلی الجملة الحکم الظاهری المجعول فی مورد لابد من احتمال إصابته الواقع.

وأما ما ذکر النائینی قدس سره فی وجه عدم إمکان تقیید الترخیص فی کلّ من الأطراف بالاجتناب عن الآخر بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة، وإذا امتنع إطلاق الترخیص فی کلّ منهما امتنع التقیید أیضا فلا یمکن المساعدة علیه؛ لما تقدّم من أن امتناع أحدهما یقتضی تعین الآخر، وقد ظهر مما ذکرنا أنه لو کان معین لبعض أطراف العلم فی جریان الأصل الترخیصی فیه فیؤخذ به بلا محذور، ومن هنا لو علم المکلف إجمالاً بنجاسة الماء أو الثوب فلا یجوز الوضوء من الماء والصلاة فی الثوب، وأما شرب الماء فلا بأس به لأصالة الحلیة فیه ولا مجری لها فی ناحیة الثوب.

[1] لا یخفی أنّه لا مورد للتأمل فی کفایة الامتثال الإجمالی مع عدم التمکّن من

ص :35

.··· . ··· .

الامتثال التفصیلی، فإنّ الاحتیاط غایة ما یمکن للعبد فی مقام الامتثال مع عدم التمکّن من الامتثال التفصیلی من غیر فرق بین أن یستلزم تکرار العمل أم لا، وبین موارد تنجز التکلیف الواقعی وعدمه کالشبهات البدویة سواء کانت حکمیة أو موضوعیة، وکذا کفایته مع التمکّن من الامتثال التفصیلی فی التوصلیات فإنّ المطلوب والمترتب علیه الملاک نفس الفعل أو الترک المفروض حصولهما بالامتثال الإجمالی، ومن التوصلیات العقود والإیقاعات ویکون الاحتیاط فیها بتکرار الإنشاء تارة کما إذا تردّد النکاح الممضی شرعا بین کونه بصیغة أنکحت أو بصیغة زوجت فمع التمکّن من الفحص وتعیین أن الإنشاء بالاُولی أو الثانیة یکرّر الإنشاء بکلّ منهما، وکما إذا أراد طلاق زوجة موکّله وتردّدت التی وکّله فی طلاقها بین امرأتین له فیجری الطلاق علی کلّ منهما لحصول طلاق المرأة التی وکّله فی طلاقها، وقد یشکل فی الإنشاء کذلک تارة باختلال الجزم المعتبر فیه، واُخری بلزوم التعلیق فی العقد أو الإیقاع، ولکن لا یخفی أنّ التردّد فی صحة أی الإنشاءین شرعا لا یوجب التردّد فی النیة، فإن الإمضاء الشرعی خارج عن الإنشاء والمنشأ حکم شرعی یترتب علیهما، ولذا یحصل الإنشاء والعقد ممن لا یعتقد بالشرع، أو لا یعتنی به، وأما التعلیق فلا حاجة إلیه أیضا حتّی فیما إذا کانت زوجة موکّله مردّدة بین امرأتین إحداهما زوجته فإنّه إذا أجری الطلاق علی کلّ منهما یتمّ طلاق من کانت زوجة موکّله، بل لو علق الطلاق المنشأ علی کلّ منهما علی کونها زوجة لموکّله، بأن قال: إن کانت فلانة زوجة موکّله فهی طالق تمّ الطلاق، فإنّه قد ذکر فی بحث التعلیق فی العقد والإیقاع أنّه لا یضر التعلیق بحصول أمر یتوقف عنوان العقد أو الإیقاع علی حصوله عند الانشاء، حیث یکون التعلیق فی المنشأ لا الإنشاء، والمفروض أنّ المنشأ

ص :36

وأما فی العبادیّات فکذلک فیما لا یحتاج إلی التکرار[1].

لا یتحقق بدون ذلک الحصول حتّی مع إطلاق العقد أو الإیقاع، ویترتب علی ذلک الطلاق احتیاطا فی موارد الشبهة فی الزوجیة والعتق فی مورد الشک فی الرقیة ونحو ذلک.

جواز الإمتثال الإجمالی مع التمکن من الإمتثال التفصیلی

[1] وأما الامتثال الإجمالی فی العبادات فإن کان غیر محتاج إلی تکرار العمل کما إذا شک المکلف فی اعتبار السورة بعد قراءة الحمد فی صلاته فقرأها لاحتمال جزئیتها فلا ینبغی المناقشة فی جواز ذلک ولو مع تمکّنه من الامتثال التفصیلی ولو علما فإنّه بالامتثال الإجمالی لا یختلّ شیء مما یعتبر فی العبادة من قصد القربة، بل الوجه والتمییز حتّی لو قیل باعتبارهما زایدا علی قصد القربة، فإن ما لا یحصل بالامتثال الإجمالی تمییز الأجزاء الواجبة عن غیرها وهو غیر معتبر فی صحتها قطعا حیث لم یرد فی شیء من الخطابات الشرعیة والروایات التعرض للزومه، بل ما ورد ما یدفع هذا الاحتمال کصحیحة حریز الواردة فی تعلیم الإمام علیه السلام الصلاة التی ینبغی للمکلف الإتیان بها بذلک النحو ویأتی التوضیح لذلک عند التعرض لاعتبار قصد الوجه والتمییز فی العبادات.

وأما إذا کان الاحتیاط فیها محتاجا إلی تکرار العمل کما فی مورد تردّد الصلاة الواجبة بین القصر والتمام فی الشبهة الحکمیة أو الموضوعیة أو تردّد الثوب الطاهر بین ثوبین فیصلّی صلاته قصرا ویعیدها تماما أو یصلّی فی أحد الثوبین ویعیدها فی الثوب الآخر إلی غیر ذلک، فقد یقال: بعدم جواز ذلک مع التمکّن من الامتثال بالعلم التفصیلی؛ لأنّ الامتثال الإجمالی یلازم الإخلال بقصدی الوجه والتمییز أو لکون التکرار یعدّ لعبا وعبثا فی مقام الامتثال فلا یناسب العبادة، والجواب عن ذلک بأنّه

ص :37

.··· . ··· .

لا یکون فی الاحتیاط بتکرار العمل إخلال بقصد الوجه، فإنّه إذا أتی المکلّف بالصلاة قصرا وأعادها تماما بقصد تحقق الصلاة الواجبة علیه فقد حصلت الصلاة المأمور بها واقعا بقصد وجهها، نعم عند العمل لا تتمیز تلک الصلاة عن الاُخری وقصد التمییز کذلک غیر معتبر فی صحة العمل ووقوعها عبادة حتّی بناءً علی القول بأنّه فی الشک فی اعتبار القیود الثانویة مما لا یمکن أخذها فی متعلق الأمر یلزم رعایتها لاستقلال العقل بلزوم الإتیان بنحو یکون محصّلاً للغرض من متعلّق الأمر، فإنّ مقتضی ذلک القول وإن کان الإلتزام بالاشتغال، إلاّ أنّ الإلتزام به یختصّ بمورد عدم ثبوت الإطلاق المقامی فیه، والإطلاق المقامی بالإضافة إلی قصد الوجه وقصد التمییز موجود خصوصا بالإضافة إلی الثانی فإنّهما مما یغفل عامة الناس عن اعتبارهما ولو کانا معتبرین فی حصول الغرض لتعرض الشارع له بالتنبیه علیه فی بعض خطاباته، ویقال: فی مثل هذا الإطلاق المقامی بأنّ عدم الدلیل فیه دلیل علی العدم، أضف إلی ذلک أنّه لیس قصد التمییز فی الشبهات الموضوعیة من الانقسامات الثانویة حیث یمکن أخذه فی متعلق الامر کسائر القیود التی یعبّر عنها بالانقسامات الأولیة، بأن یأمر الشارع بالصلاة إلی جهة یعلم حالها أنّها إلی القبلة أو فی ثوب طاهر إلی غیر ذلک فالإطلاق اللفظی یدفع اعتبار قصد هذا التمییز.

وأما دعوی کون الاحتیاط بتکرار العمل مع التمکّن من الامتثال بالعلم التفصیلی یعدّ من اللعب ولا یناسب العبادة فلا یمکن المساعدة علیها أیضا، وذلک فإنّه قد یکون تکرار العمل وترک الامتثال التفصیلی لغرض عقلائی أنّ المعتبر فی العبادة الاتیان بمتعلق الأمر بقصد التقرب والخصوصیات المقارنة لمتعلق الأمر خارجا أو المتحدة معه الخارجة عن متعلق الأمر لا یعتبر حصولها بقصد القربة

ص :38

.··· . ··· .

فالمکلف إذا أتی بصلاته أول الوقت، أو فی مکان خاص بداع نفسانی له فی أول الوقت أو فی الإتیان بها فی ذلک المکان صحت صلاته حیث إن المأخوذ متعلق الامر لابد من وقوعه بقصد القربة لا ما هو خارج عن متعلق الأمر ولا یقاس بما إذا کانت الخصوصیة المتحدة مع العبادة واقعا ریاءً، فإن قصد التقرب لا یجتمع مع اتحاد متعلق الأمر بما هو محرم، بل قد یقال: ببطلان العبادة حتّی مع الخصوصیة المنضمة إلیها ریاءً بدعوی إطلاق ما دلّ علی مبطلیة الریاء فی العمل، ولو کان الریاء فی الخصوصیة المقارنة المنضمة إلیها.

والحاصل أنّ الأتیان بالعبادة فی ضمن عملین المسمّی بالامتثال الإجمالی من خصوصیات تلک العبادة الخارجة عن متعلق الأمر بها، ولا یضرّ الإتیان بالخصوصیات الخارجة عن متعلق الأمر بلا داع عقلائی أو بداع نفسانی، وهذا مراد الماتن قدس سره من قوله: إنما یضرّ اللعب والعبث إذا کانا بأمر المولی لا فی کیفیة إطاعته بعد کون الأمر داعیا له إلی أصل الطاعة.

وقد ذکر المحقق النائینی قدس سره وجها آخر لعدم جواز التنزل إلی الامتثال الإجمالی مع التمکّن من الامتثال التفصیلی وهو استقلال العقل بأنّ الامتثال الاحتمالی فی طول الامتثال العلمی وإذا أتی المکلّف بصلاته قصرا ثم أعادها تماما مع تمکّنه من تحصیل العلم بوظیفته من القصر أو التمام یکون الداعی له إلی الصلاة قصرا احتمال الوجوب، وهذا الامتثال کما ذکر فی طول الامتثال التفصیلی.

وبتعبیر آخر للامتثال مراتب أربع لا یجوز التنزل إلی المرتبة اللاحقة إلاّ مع عدم التمکّن من المرتبة السابقة، الامتثال التفصیلی والامتثال بالعلم الاجمالی، الامتثال الظنی والامتثال الاحتمالی کما یأتی التعرض لذلک.

ص :39

کما إذا تردد أمر عبادة بین الأقل والأکثر، لعدم الإخلال بشیء مما یعتبر أو یحتمل اعتباره فی حصول الغرض منها، مما لا یمکن أن یؤخذ فیها، فإنه نشأ من قبل الأمر بها، کقصد الإطاعة والوجه والتمییز فیما إذا أتی بالأکثر، ولا یکون إخلال حینئذ إلاّ بعدم إتیان ما احتمل جزئیته علی تقدیرها بقصدها، واحتمال دخل قصدها فی حصول الغرض ضعیف فی الغایة وسخیف إلی النهایة.

أقول: لم یظهر وجه صحیح لکون الامتثال الإجمالی فی طول الامتثال التفصیلی بل هما فی عرض واحد، وذلک فإنّ المعتبر فی العبادة هو حصول العمل بنحو قربی لا لزوم خصوص الإتیان بالعمل بداعی الأمر به، نعم هذا من أفراد حصول العمل قربیا کما أنّه یکفی فی حصول القربة الإتیان بداعی احتمال کونه متعلق الأمر، وما یکون فی طول الامتثال العلمی الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی مع التمکّن من الامتثال العلمی کما إذا کان المکلف فی آخر الوقت بحیث لا یتمکّن إلاّ من الاتیان بأربع رکعات قبل خروج الوقت ودار أمره بین أن یصلیها فی ثوب طاهر معلوم وبین أن یصلیها فی أحد ثوبین یعلم بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر، فإن العقل فی الفرض مستقل برعایة الامتثال التفصیلی وعدم جواز التنزل إلی الاحتمالی، هذا مع أن الإتیان بالقصر أولاً ثم إعادتها تماما یکون بداعی الأمر المعلوم إجمالاً المتعلق بأحدهما واقعا، وهذا الامتثال علمی لا احتمالی غایة الأمر لا یدری حال العمل أنّ ما یأتی به هو متعلق الأمر أو ما یأتی به بعده أو أتی به قبل ذلک فیکون فاقدا لقصد التمییز وقد تقدم عدم اعتباره فی صحة العبادة.

جواز الامتثال الإجمالی مع إمکان الامتثال الظنی التفصیلی

ثمّ إنّ الماتن قدس سره لم یصرح فی کلامه دوران الأمر بین الامتثال الإجمالی والامتثال الظنی بالظن الخاصّ، والظاهر أنّه أدرج الامتثال الظنی الخاص فی الامتثال

ص :40

وأما فیما احتاج إلی التکرار، فربما یشکل من جهة الإخلال بالوجه تارة، وبالتمییز أخری، وکونه لعباً وعبثاً ثالثة.

وأنت خبیر بعدم الإخلال بالوجه بوجه فی الإتیان مثلاً بالصلاتین المشتملتین علی الواجب لوجوبه، غایة الأمر أنه لا تعیین له ولا تمییز فالإخلال إنما یکون به، واحتمال اعتباره أیضاً فی غایة الضعف، لعدم عین منه ولا أثر فی

التفصیلی، وکیف ما کان إذا دار الأمر بین الامتثال التفصیلی بالظن الخاص والامتثال الإجمالی فللمکلّف الأخذ بالامتثال الإجمالی فإن غایة ما دلّ علی اعتبار الظنّ انّه فی اعتبار الشارع علم أو أنّه کالعلم، وقد تقدم جواز الإمتثال الاجمالی مع التمکّن من الامتثال بالعلم الوجدانی التفصیلی، نعم بناءً علی عدم جواز الإمتثال الإجمالی مع التمکّن منه للإخلال بقصد التمییز یتعین علی المکلف فی الواقعة تشخیص الوظیفة بالظن المعتبر، ولکن یجوز له الإتیان بالمحتمل الآخر لاحتمال کونه هو الواجب واقعا بلا فرق بین الإتیان بذلک المحتمل بعد الإتیان بالمظنون وجوبه أو الإتیان به قبل الإتیان بالمظنون، فإن الإتیان به برجاء أنّه الواجب واقعا مع الإتیان بالمظنون من أرقی مراتب العبودیة، مثلاً إذا سافر بأربعة فراسخ مریدا الرجوع قبل عشرة أیام یأتی بالصلاة التی استفاد باجتهاده أو تقلیده وجوبها بقصد أنها الواجب فی حقه، ثمّ یأتی بالتمام لرجاء إدراک الواقع أو یأتی بالآخر رجاءً أولاً ثم یأتی بما هو الواجب فی حقه باجتهاده أو تقلیده، وقد یقال: بتعیّن الإتیان بالمظنون أولاً ثم الإتیان بالمحتمل الآخر رجاءً بدعوی أنّه فی العکس یکون الامتثال احتمالیا، وقد حکی عن الشیرازی قدس سره أنّه فی مسألة المسافر المزبور یتعین علیه عند إرادته الاحتیاط الإتیان بالقصر أولاً ثم الإتیان بالتمام رجاءً، والمحکی عن الشیخ قدس سره تعین الاتمام أولاً ثم الإتیان بالقصر رجاءً واختلافهما ناش من الاختلاف المستفاد من الروایات الواردة من أن المستفاد

ص :41

الأخبار، مع أنه مما یغفل عنه غالباً، وفی مثله لا بد من التنبیه علی اعتباره ودخله فی الغرض، وإلاّ لأخلّ بالغرض، کما نبّهنا علیه سابقاً.

وأما کون التکرار لعباً وعبثاً، فمع أنه ربما یکون لداعٍ عقلائی، إنما یضر إذا کان لعباً بأمر المولی، لا فی کیفیة إطاعته بعد حصول الداعی إلیها، کما لا یخفی، هذا کله فی قبال ما إذا تمکن من القطع تفصیلاً بالإمتثال.

منها وجوب القصر أو التمام، ولکن لا یخفی أنّه لا موجب للإلتزام بأنّه یتعین الإتیان بالمظنون أولاً، فإنّه مع تقدیم المحتمل الآخر یأتی به رجاءً ثم یأتی بالمظنون بقصد أنّه الواجب فی حقه فعلاً بحسب الأدلة فلا یفوت منه قصد التمییز.

فی دوران الأمر بین الامتثال الإجمالی والظنی التفصیلی

وإذا دار الأمر بین الامتثال الإجمالی والظنی المعتبر بدلیل الانسداد المعبر عنه بالظن المطلق فقد یقال: إنّه بناءً علی أن نتیجة مقدمات الانسداد حجیة الظن المطلق شرعا فاللازم علی المکلف ترک الامتثال الإجمالی والأخذ بالامتثال الظنی؛ لأنّه لا یستکشف من مقدمات الإنسداد حجیة الظن المطلق شرعا إلاّ إذا کان من مقدماتها عدم جواز الاحتیاط لکونه مفوتا لقصد التمییز المعتبر فی العبادات، أو أنّ الاحتیاط غیر جایز فیها وفی غیرها لکونه موجبا لإختلال نظام العباد، وأما بناءً علی أنّه لیس نتیجتها اعتبار الظن شرعا بل عدم وجوب الاحتیاط التام برعایة التکالیف فی مظنونات التکلیف والمشکوکات والموهومات لکون الاحتیاط کذلک موجبا للعسر والحرج فمقتضاها جواز التنزل إلی لزوم الاحتیاط فی المظنونات خاصة فلا بأس بجواز الإمتثال الإجمالی وترک تحصیل الظن فی الوقایع.

وقد ذکر صاحب القوانین رحمه الله أنّه لا یجوز للمکلّف فی العبادات ترک الاجتهاد والتقلید والأخذ بالاحتیاط فیها وتعجب الشیخ الانصاری قدس سره من هذا الحکم وذکر أنه

ص :42

وأما إذا لم یتمکن الا من الظن به کذلک، فلا إشکال فی تقدیمه علی الامتثال الظنی لو لم یقم دلیل علی اعتباره، إلاّ فیما إذا لم یتمکن منه، وأما لو قام علی اعتباره مطلقاً، فلا إشکال فی الاجتزاء بالظنی، کما لا إشکال فی الاجتزاء بالامتثال الاجمالی فی قبال الظنی، بالظن المطلق المعتبر بدلیل الانسداد، بناءً علی أن یکون من مقدماته عدم وجوب الاحتیاط، وأما لو کان من مقدماته بطلانه لاستلزامه

کیف یصحّ ممن لا یری اعتبار الظن إلاّ بمقدمات الإنسداد ویذهب إلی بطلان عبادة تارک طریقی الاجتهاد والتقلید.

وفیه أنّ التعجب بناءً علی اعتبار الظن علی الحکومة فی مورده وأما بناءً علی الکشف فلا مورد للعجب.

فی دوران الأمر بین الامتثال الإجمالی والظنی المطلق

ولعل المحقق القمی رحمه الله یری اعتبار الظن المطلق علی الکشف لاعتبار قصد التمییز فیها وترک طریقی الاجتهاد والتقلید والأخذ بالاحتیاط یوجب فقده.

أقول: أما احتمال أنّ حکم المحقق القمی ببطلان عمل تارک طریقی الاجتهاد والتقلید والأخذ بالاحتیاط مبنی علی اعتبار قصد الوجه والتمییز فلا یحتمل ذلک فی موارد عدم توقف الاحتیاط علی تکرار العبادة، فإن اعتبار قصد الوجه والتمییز فی أجزاء العمل وقیوده غیر معتبر قطعا بل یلزم علی المحقق القمی حینئذٍ الإلتزام ببطلان الاحتیاط فی موارد الشبّهة البدویّة من الشبهة الموضوعیّة کما إذا أراد المکلف صوم یوم لاحتمال فوت الصوم عنه مع ظنه عدم الفوت ونحو ذلک مما لا یحتمل إلتزامه بذلک، وکذلک لا یحتمل بأن یحتاط المجتهد فی مسألة مع ظنه بأحد الطرفین من مسائل العبادات، وأما دعوی عدم جواز الاحتیاط فی المسائل فإن الاحتیاط فیها یوجب الاختلال فی النظام فلا یخفی ما فیها، فإن الاختلال فی النظام

ص :43

العسر المخل بالنظام، أو لأنه لیس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولی فیما إذا کان بالتکرار، کما توهم، فالمتعین هو التنزل عن القطع تفصیلاً إلی الظن کذلک.

وعلیه: فلا مناص عن الذهاب إلی بطلان عبادة تارک طریقی التقلید والإجتهاد، وإن احتاط فیها، کما لا یخفی.

هذا بعض الکلام فی القطع مما یناسب المقام، ویأتی بعضه الآخر فی مبحث البراءة والإشتغال، فیقع المقال فیما هو المهم من عقد هذا المقصد، وهو بیان ما قیل باعتباره من الأمارات، أو صح أن یقال، وقبل الخوض فی ذلک ینبغی تقدیم اُمورٍ:

أحدها: أنه لا ریب فی أنّ الأمارة غیر العلمیة لیس کالقطع[1].

یترتب علی الاحتیاط فی جمیع الوقایع من العبادات وغیرها ولا یلزم من الاحتیاط فی خصوص العبادات التی یبتلی بها المکلف، ولذا یأخذ بعض الناس بالاحتیاط فیها من صلاته وصومه وغسله وتیمّمه من غیر اختلال لاُمور معاشه.

وعلی الجملة: الحکم ببطلان عبادة من یأخذ بالامتثال الإجمالی فیها غیر صحیح، نعم ذکر المحقق النائینی قدس سره عدم الجواز فیما إذا کان الاحتیاط موجبا لتکرار العمل بدعوی أن المکلّف عند الامتثال الإجمالی یکون داعیه إلی العمل احتمال الأمر لا الأمر وقد تقدم ما فیه فلا نعید.

الأمارات

فی الأمارات غیر العلمیّة

[1] قد تقدم أنّ القطع بالتکلیف الفعلی یوجب تنجّز التکلیف المقطوع به ولا یمکن التصرف فی منجزیته، وأنّ العلم الإجمالی بالتکلیف مقتض لتنجز التکلیف المعلوم بالإجمال بالإضافة إلی عدم جواز مخالفته القطعیة ولزوم موافقته

ص :44

فی کون الحجیة من لوازمها ومقتضیاتها بنحو العلیة، بل مطلقاً، وأن ثبوتها لها محتاج إلی جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لإقتضائها الحجیة عقلاً، بناءً علی تقریر مقدمات الإنسداد بنحو الحکومة، وذلک لوضوح عدم اقتضاء

القطعیة علی مسلک الماتن قدس سره وموجب لعدم جواز مخالفته القطعیة، ومقتض بالإضافة إلی موافقته القطعیة علی ما اخترناه، وأمّا بکلا قسمیه أی الظن النوعی والشخصی فلا یوجب بنفسه تنجز التکلیف المظنون کما لا یکون مقتضیاً له، بل کونه طریقاً منجزاً یحتاج إلی الاعتبار أو أن تثبت مقدمات وتطرأ علی المکلفین حالات توجب اعتبار الظن عقلا کما علی تقریر مقدمات الانسداد بنحو الحکومة، وعدم اقتضاء الظن للاعتبار بنفسه فی ثبوت التکلیف ظاهر، وکذا فی اعتباره فی مرحلة سقوطه بعد ثبوته، وان یظهر من بعض الکلمات، یکتفی بالظن بالفراغ فی مرحلة الامتثال علی ما حکی الماتن قدس سره واحتمل فی وجهه عدم لزوم دفع الضرر المحتمل عندهم.

أقول: الضرر المحتمل الذی ذکر البعض عدم لزوم الاجتناب عنه هو الضرر الدنیوی لا الضرر الاُخروی؛ ولذا یجب الاجتناب ورعایة احتمال التکلیف فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، وکذا یجب الفحص فی الشبهات الحکمیة عن التکلیف ولا یجوز الرجوع إلی الأصل النافی، ولو کان الضرر الاُخروی المحتمل غیر لازم الدفع لکان اللازم الاکتفاء بمجرد احتمال الامتثال ولا یلزم خصوص الظن به.

وعلی الجملة: الظن فی نفسه لا اعتبار به سواء تعلق بثبوت التکلیف أو بسقوطه بعد إحراز ثبوته کیف ولو صادف احتمال الضرر أی استحقاق العقاب الواقع یثبت.

ثم لا یخفی أنّ اعتبار الظن یکون بالشرع سواء کان الاعتبار تأسیسا أو إمضاءً،

ص :45

غیر القطع للحجیة بدون ذلک ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً وإن کان ربما یظهر فیه من بعض المحققین الخلاف والاکتفاء بالظن بالفراغ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمل.

وأما ما ذکر الماتن من طروّ حالات وترتیب مقدمات یحکم العقل باعتباره معها کاعتبار القطع حال الانفتاح فهو غیر صحیح، فإنّه بناءً علی طروّها وتقریر مقدماتها لا یحکم العقل باعتبار الظن بل یحکم بالاحتیاط فی مظنونات التکلیف المعبر عنه بالتبعیض فی الاحتیاط برعایة التکلیف المحتمل فیها وعدم لزوم رعایته فی المشکوکات والموهومات.

وعلی الجملة استحقاق العقوبة علی مخالفة التکلیف الواقعی فی المظنونات بناء علی تقریر مقدمات الانسداد علی الحکومة غیر مترتب علی الظن بأن یکون هو المنجّز للتکالیف، بل المنجّز لها العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی الوقایع التی یبتلی بها المکلف، والقاعدة الأولیة وإن تقتضی رعایة احتمال التکالیف المعلومة بالإجمال حتی فی الموهومات إلاّ أن الاحتیاط التام لکونه موجباً للعسر والحرج ونعلم أنّه غیر مراد للشارع یرفع الید عن رعایتها فی المشکوکات والموهومات ویبقی لزوم رعایتها فی المظنونات بحاله، وسیأتی توضیح الفرق بین هذا التبعیض فی الاحتیاط وبین اعتبار الظن لکونه طریقاً متبعاً عند التکلم فی مقدمات الانسداد کما هو علی الکشف، حیث یرفع الید بالظن المطلق القائم علی نفی التکلیف عن الإطلاق أو العموم المقتضی لثبوت التکلیف ویقع التعارض بین ظنین نوعیین یدلّ أحدهما علی ثبوت التکلیف، والآخر علی نفیه علی ما یأتی.

ص :46

ثانیها: فی بیان إمکان التعبد بالأمارة غیر العلمیة شرعاً، وعدم لزوم محال منه عقلاً[1].

فی إمکان التعبد بالأمارة

فی بیان المراد من الإمکان فی المقام

[1] لا ینبغی التأمل فی أنّ البحث فی إمکان التعبد بغیر العلم من الأمارة غیر العلمیة وغیرها لیس بحثا عن الإمکان الذاتی فی مقابل الامتناع الذاتی، والمراد من الامتناع الذاتی أن یکون لحاظ الشیء کافیا فی الجزم بامتناعه کلحاظ اجتماع النقیضین أو ارتفاعهما، فإنّ الإمکان الذاتی للتعبد بغیر العلم غیر قابل للتأمل، فإنّ لحاظه بمجرده لا یکون کافیا فی الحکم بامتناعه، وکذا لیس المراد منه مجرد الاحتمال کما فی قولهم _ علی ما قیل _: کلّ دم أمکن کونه حیضا فهو حیض، وفی المحکی عن الشیخ الرئیس: کلما قرع سمعک من العجائب فذره فی بقعة الإمکان، حیث إن العاقل لا یعتقد بامتناع شیء وقوعا أو إمکانه کذلک بلا شاهد وبرهان، بل المراد منه الإمکان الوقوعی، ویکون البحث فی أنّه یلزم من اعتبار أمارة غیر علمیة أو غیر العلم، وقوع ما هو محذور مطلقا المعبّر عنه بالممتنع، أو ما هو محذور علی الحکیم المعبّر عنه بالأمر القبیح کالأمر بارتکاب الفساد والاجتناب عن الصلاح أو التکلیف بما لا یطاق، أو لا یلزم شیء من ذلک، وظاهر کلام الشیخ الأنصاری قدس سره أن عدم ثبوت امتناع الشیء ولزوم المحذور من وقوعه طریق عند العقلاء إلی إمکانه، ولذا تصدی قدس سره لرفع المحاذیر المتوهمة من لزوم التعبد بالظن، واورد علیه الماتن قدس سره بما حاصله.

أنّ بناء العقلاء علی الإمکان الوقوعی للشیء مع عدم ثبوت امتناعه من ترتیب آثار الإمکان، وعلی تقدیر بنائهم علی الإمکان مع احتمال الامتناع فلا یصح الاعتماد

ص :47

فی قبال دعوی استحالته للزومه، ولیس الإمکان بهذا المعنی، بل مطلقاً أصلاً متبعاً عند العقلاء، فی مقام احتمال ما یقابله من الإمتناع، لمنع کون سیرتهم علی ترتیب آثار الإمکان عند الشک فیه، ومنع حجیتها __ لو سلم ثبوتها __ لعدم قیام دلیل قطعی علی اعتبارها، والظن به لو کان فالکلام الآن فی إمکان التعبد بها

علیها؛ لأنّها تحتاج إلی إحراز الإمضاء فإن کان طریق الإمضاء موجبا للعلم به یحرز معه إمکان التعبد بغیر العلم؛ لأنّ وقوع الشیء من طرق إثبات إمکانه وإن لم یثبت الإمضاء بالعلم کما هو الفرض، فلا یفید لأنّ الکلام فی المقام فی إمکان التعبد بغیر العلم ومن غیر العلم ما دلّ علی اعتبار تلک السیرة وإمضائها، وأعقب ذلک بأنّه لا یترتب علی البحث فی إمکان التعبد بغیر العلم وامتناعه ثمرة فإنّه یتعین فی الإلتزام بأمارة غیر علمیة ثبوت التعبد بها بالعلم أو بما ینتهی إلیه، فإن اُحرز وقوع التعبد بها کذلک یستکشف إمکانه أیضا، لأنّ وقوع الشیء طریق إلی العلم بإمکانه وإن لم یحرز التعبد بها کذلک یکون البحث فی إمکان التعبد لغوا لأنّه لا یختلف الحال بین إمکانه وعدمه بعد فرض عدم وقوع التعبد به.

وقد یقال: بأنّه لیس مراد الشیخ قدس سره دعوی سیرة العقلاء علی الإمکان فی کلّ شیء احتمل امتناعه.

لیقال، بمنع ذلک، بل مراده البناء علی إمکان الحکم الذی هو مدلول خطاب المولی، فإنّه إذا ورد فی خطابه ما هو ظاهر فی وقوع التعبد بأمارة غیر علمیة کخبر العدل واحتمل عدم إمکان التعبد به فی الأحکام أو الموضوعات یأخذون بظاهر الخطاب المزبور، نظیر ما ورد فی خطاب الأمر بإکرام العلماء وشک فی إمکان طلب إکرام غیر العادل من العلماء، فلا یجوز طرح عموم الخطاب بمجرد احتمال الامتناع بأن یقال: العموم المزبور إمکانه ثبوتا غیر ثابت یحتمل فی الخطاب التأویل، نعم إذا

ص :48

وامتناعه، فما ظنک به؟ لکن دلیل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمکانه، حیث یستکشف به عدم ترتب محال من تال باطل فیمتنع مطلقاً، أو علی الحکیم تعالی، فلا حاجة معه فی دعوی الوقوع إلی إثبات الإمکان، وبدونه لا فائدة فی إثباته، کما هو واضح.

وقد انقدح بذلک ما فی دعوی شیخنا العلامة _ أعلی اللّه مقامه _ من کون

ثبت امتناع الحکم المدلول علیه بالخطاب ثبوتا لقبحه من الحکیم یطرح ذلک الظهور أو یؤوّل وقد تحصّل أنّ البحث فی إمکان التعبد بالأمارة غیر العلمیة مرجعه أنّه یثبت عند العقل محذور من التعبد بالأمارة غیر العلمیة لیطرح الخطاب الظاهر فیه أو أنّه لم یثبت حتّی یؤخذ بمدلوله، وهذا بحث اُصولی تترتب علیه الثمرة.

أقول: لو کان المراد مما ذکر الشیخ من القاعدة عند العقلاء لکان هذا من إثبات إمکان التعبد بغیر العلم بالوقوع؛ لأنّ مع إحراز سیرتهم علی الأخذ بظاهر کلام المولی وخطابه حتّی فیما کان مدلوله اعتبار أمارة یکون العقل حاکما بأنّه لو لم یمکن التعبد بأمارة غیر علمیة لکان علی الشارع ردع الناس عن الأخذ بظاهر خطاباته، ومع إحراز عدم ردعه بضمیمة عدم إحراز امتناع التعبد یکون ذلک دلیلا قطعیاً علی إمضاء السیرة ووقوع التعبد بأمارة غیر علمیة ولو فی الجملة، وإنّما قلنا بضمیمة عدم إحراز الامتناع عند العقل؛ لأنّه مع ثبوت الامتناع عنده لا حاجة إلی ردعه لکفایة اعتماده فی الردع علی حکم العقل بالامتناع.

وقد أورد المحقق النائینی علی ما ذکر الشیخ بوجه آخر، وهو أنّه علی تقدیر السیرة من العقلاء علی ترتیب آثار إمکان الشیء عند عدم ثبوت امتناعه فهو فیما إذا کان المشکوک إمکانه التکوینی لا الإمکان التشریعی، والکلام فی إمکان التعبد بالأمارة غیر العلمیة فی إمکانه التشریعی ولا یخفی ما فیه، فإن الإمکان أو الامتناع

ص :49

الإمکان عند العقلاء مع احتمال الإمتناع أصلاً، والإمکان فی کلام الشیخ الرئیس: (کلما قرع سمعک من الغرائب فذره فی بقعة الإمکان، ما لم یذدک عنه واضح البرهان)، بمعنی الاحتمال المقابل للقطع والإیقان، ومن الواضح أن لا موطن له إلاّ الوجدان، فهو المرجع فیه بلا بینة وبرهان.

وکیف کان فما قیل أو یمکن أن یقال فی بیان ما یلزم التعبد بغیر العلم من المحال أو الباطل ولو لم یکن بمحال اُمور[1]:

یکون من حکم العقل غایة الأمر المتصف بحکمه بالإمکان أو الامتناع یکون الشیء التکوینی أو الأمر التشریعی، من الحکم التکلیفی أو الوضعی، فلا یختلف ولا یتعدد الإمکان أو الامتناع وإنما الاختلاف فی الموصوف بکل منهما.

فی إمکان التعبد بالأمارة غیر العلمیة

[1] قیل یلزم من التعبد بالأمارة غیر العلمیة اجتماع المثلین من إیجابین أو تحریمین فیما أصاب أو ضدین من إیجاب وتحریم ومن إرادة وکراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتین بلا کسر وانکسار فی البین فیما أخطأ، ولو فرض الکسر والانکسار فی موارد خطأ الأمارة یلزم التصویب أی تبدل الحکم الواقعی إلی ما یقتضیه الانکسار، والانکسار من الحکم الذی هو مدلول الأماره أو حکم ثالث آخر کما قیل بأنّ التعبد بالأمارة یوجب بطلان الضدّین، کما إذا کان فعل واجباً واقعاً وقامت الأمارة علی وجوب ضدّه، کما یوجب التعبد بها تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة، کما إذا قامت الأمارة علی عدم وجوب ما هو واجب واقعاً أو عدم حرمة ما هو حرام واقعاً، بأن قامت علی کون الفعل الذی هو واجب واقعاً أنّه محکوم بسائر الأحکام أو ما هو حرام واقعاً علی کونه محکوماً بغیر الحرمة.

وأجاب الماتن قدس سره عما قیل من لزوم الأمرین الأولین بأنّهما غیر لازمین لاعتبار

ص :50

أحدها: اجتماع المثلین من إیجابین أو تحریمین مثلاً فیما أصاب، أو ضدین من إیجاب وتحریم ومن إرادة وکراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتین بلا کسر وانکسار فی البین فیما أخطأ، أو التصویب وأن لا یکون هناک غیر مؤدیات الأمارات أحکام.

الأمارة وذلک فإنّ اعتبارها عبارة عن جعل الحجیة التی کانت للقطع بالتکلیف بالذات وبحکم العقل للامارة فتکون الأمارة القائمة علی التکلیف الواقعی منجّزة له فیما أصاب، فیکون المکلف مستحقاً للعقاب علی مخالفة ذلک التکلیف الواقعی ومعذّرة فیما أخطأ کما أن المکلف یستحق المثوبة والعقاب علی مخالفة الأمارة فی موارد مخالفتها الواقع لانقیاده وتجریه، واعتبار الحجیة للأمارة القائمة علی التکلیف لا یستلزم جعل حکم تکلیفی علی طبقها أصلاً، وذلک فإنّ الفعل الذی قامت الأمارة علی حکمه الواقعی لا یکون فیه مصلحة أو مفسدة غیر ماکان فیه قبل قیامها فلا موجب لجعل حکم نفسی آخر، حیث إن جعله یکون بلا ملاک وکذا لا موجب لجعل حکم مولوی طریقی یتعلق بذلک الفعل؛ لانّ شأن الحکم الطریقی لکون جعله تحفظاً علی امتثال التکلیف الواقعی عند ثبوت التکلیف الواقعی أو التعذیر عنه، والمفروض تنجّز الحکم الواقعی عند إصابة الأمارة التکلیف الواقعی والتعذیر عنه عند عدم إصابتها بنفس جعل الحجیة لها التی هی من قسم الحکم الوضعی.

وعلی الجملة فلا معنی لتنجّز الواقع بعد فرض تنجّزه ولو فرض الأمر بالعمل بالأمارة یکون الأمر المزبور إما ارشاداً إلی حجیتها أو إرشاداً إلی موافقة التکلیف الواقعی وإطاعته.

وقد اُورد علی ما ذکره الماتن قدس سره بوجهین:

أولهما: أنّه لو کان المجعول فی اعتبار الأمارة جعل الحجیة لها التی هی بمعنی

ص :51

ثانیها: طلب الضدین فیما إذا أخطأ وأدی إلی وجوب ضد الواجب.

ثالثها: تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة فیما أدی إلی عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وکونه محکوماً بسائر الأحکام.

والجواب: إن ما ادعی لزومه، إما غیر لازم، أو غیر باطل، وذلک لأن التعبد

المنجّزیة والمعذریة لزم التخصیص فی الحکم العقلی بقبح العقاب بلا بیان، فإنّه إن اعتبرت الأمارة القائمة بالتکلیف الواقعی عند إصابتها الواقع علماً به فیرتب علی هذا الاعتبار استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی لوصوله بتلک الأمارة ولا یقبح العقاب علی مخالفته لوصول التکلیف وکون المکلف عالماً فی اعتبار الشارع فلا موضوع فی موردها لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ وإما مع عدم اعتبارها علماً وبقاء التکلیف الواقعی علی حاله من عدم البیان یکون المکلف معاقباً علی مخالفته، وهذا معنی التخصیص فی حکم العقل، ولکن هذا الإشکال ضعیف وذلک فإنّ الموضوع فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان عدم البیان لا عدم العلم وبجعل الحکم الطریقی أو اعتبار الحجیة للأمارة یرتفع عدم البیان، فإنّ المراد بالبیان مصحح العقاب ولذا یکون الأمر المولوی الطریقی بالاحتیاط فی الشبهة البدویة فی مورد حتّی بعد الفحص موجباً لاستحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی، وتخرج تلک الشبهة عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان بارتفاع موضوعها.

والوجه الثانی: ما ذکره المحقق الاصبهانی وهو أنّه لا عقاب علی مخالفة الواقع مع عدم الحجة علی الواقع عقلا أو شرعاً فنفس جعل الحجیة بنفس جعل العقاب المتوقف علی وجود الحجیّة دوری.

وفیه أیضا أنّ الشارع یعتبر تأسیساً أو إمضاءً مخالفة الأمارة المصیبة للتکلیف الواقعی موضوعاً لاستحقاق العقاب علی مخالفة ذلک التکلیف، وهذا الاعتبار معنی

ص :52

بطریق غیر علمی إنما هو بجعل حجیته، والحجیة المجعولة غیر مستتبعة لإنشاء أحکام تکلیفیة بحسب ما أدی إلیه الطریق، بل إنما تکون موجبة لتنجز التکلیف به إذا أصاب، وصحة الإعتذار به إذا أخطأ، ولکون مخالفته وموافقته تجریاً وانقیاداً مع

إنشاء الحجیة للأمارة وإذا وصل هذا الاعتبار إلی المکلف یترتب علی مخالفة الأمارة المصیبة للتکلیف الواقعی استحقاق العقاب، ولذا یکون الشک فی حجیة أمارة مساوقة للقطع بعدم حجیتها، فإنشاء الحجیة الموقوف علیها الاستحقاق الفعلی غیر الاستحقاق الموقوف کما لا یخفی.

وقد ذکرنا مرارا أن اعتبار الأمارة عبارة عن کونها علما فی اعتبار الشارع کما هو الحال أیضا فی سیرة العقلاء حیث یعتبرون خبر الثقة أو ظاهر خطاب المتکلم علماً بمراده، وقد أورد المحقق الاصبهانی علی ذلک أیضا بأن اعتبار الأمارة علما بتنزیلها منزلة العلم فی الأثر العقلی فمرجعه إلی جعل الأثر العقلی للأمارة أی التنجیز الذی لا یقول بجعله من یقول باعتبار الأمارة علماً، وإن کان تحقیق الموضوع للأثر العقلی، فمقتضاه أن یکون الأثر العقلی مترتباً علی الأعم من الوصول الحقیقی والاعتباری، لا أن یکون مترتباً علی خصوص العلم الوجدانی.

وفیه أنّ التنزیل فیما کان المنزل بنفسه قابلا للاعتبار والجعل یکون بجعله لا جعل أثر المنزل علیه علی المنزل، والموضوع لاستحقاق العقوبة علی مخالفة التکلیف تمامیة البیان لذلک التکلیف بحیث یخرج المورد به عن اللابیان الموضوع لقبح العقاب، وکما تقدم أن ترتب الاستحقاق علی مخالفة التکلیف المعلوم لکون العلم بیاناً وباعتبار الأمارة القائمة بالتکلیف علماً یتمّ کونها بیاناً أی مصححاً للعقاب.

وعلی الجملة مقتضی السیرة العقلائیة فی باب الأمارات اعتبارهم تلک الأمارات علماً، ولذا یطلقون علیها العلم والشارع قررهم علی اعتبارهم فی

ص :53

عدم إصابته، کما هو شأن الحجة غیر المجعولة، فلا یلزم اجتماع حکمین مثلین أو ضدین، ولا طلب الضدین ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الکراهة والإرادة، کما لا یخفی.

وأما تفویت مصلحة الواقع أو الإلقاء فی مفسدته فلا محذور فیه أصلاً، إذا کانت فی التعبد به مصلحة غالبة] 1] علی مفسدة التفویت أو الالقاء.

الشرعیات أیضا، ویشهد لکونها علما فی اعتبار الشارع أیضا أنّ الاعتماد علیها لا یکون تخصیصاً أو تقییداً فی مثل قوله سبحانه «لا تقف ما لیس لک به علم»(1)«انّ الظن لا یغنی من الحق شیئا»(2) حیث إنّ مثلهما آبٍ عن التخصیص، واعتبار مثل الظن بالقبلة إذا لم یعلم وجهه من قبیل الاکتفاء بالامتثال الظنی فی التکلیف المحرز بالعلم التفصیلی، حیث ذکرنا جواز الاکتفاء من الشارع فی مثله حتی بالامتثال الاحتمالی کما فی مورد قاعدتی الفراغ والتجاوز لا من باب جعل الظن أمارة فتدبر.

[1] وتوضیح الجواب عن المحذور الثالث وهو لزوم تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة هو أنّ الحکم الواقعی المتعلق بالفعل جعله ناشٍ عن مصلحة أو مفسدة فی ذلک الفعل، وأما اعتبار الأمارة القائمة علی الحکم الواقعی فناشئ عن الصلاح فی نفس الاعتبار لها، وإذا کانت مصلحة فی اعتبارها فلا محذور فی تفویت المصلحة أو ابتلاء المکلف فی المفسدة فی بعض الأحیان.

وبتعبیر آخر أنّ الأمارة القائمة بوجوب فعل أو حرمته أو إباحته إما أن تکون معتبرة بنحو السببیة والموضوعیة، بأن یکون قیامها بحکم فعل موجبا لحدوث مصلحة أو مفسدة فی ذلک الفعل أو زوال المصلحة أو المفسدة عنه، بحیث یکون

ص :54


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2) سورة یونس: الآیة 36.

.··· . ··· .

قیامها علی خلاف الواقع من الجهات المحسنة والمقبّحة فلا یکون فی البین تفویت مصلحة أو إلقاء فی المفسدة، وإنّما یوجب اعتبارها کذلک التصویب المعتزلی المجمع علی بطلانه، وإمّا أن تکون معتبرة بالإلتزام بالمصلحة السلوکیة کما یظهر هذا الإلتزام من کلمات الشیخ قدس سره والمراد بالمصلحة السلوکیة أن لا یکون تغیّر فی صلاح الفعل أو فساده، بل یکون العمل بالأمارة فیه مصلحة یتدارک بها ما یفوت من مصلحة الواقع، کما إذا قامت الأمارة بوجوب القصر فی مورد یکون الواجب فیه واقعاً هو التمام، فإنّ العمل بتلک الأمارة بالإتیان بالصلاة قصراً فیه صلاح مساوٍ لما فات عن المکلف من مصلحة الصلاة تماماً، وهذا فیما إذا لم ینکشف الخلاف فی الأمارة المزبورة أصلاً، وأما إذا انکشف الخلاف بعد خروج الوقت یتدارک بها مصلحة فوت الصلاة تماما فی الوقت خاصة، ولذا یجب قضائها تماماً وإذا انکشف الخلاف فی الوقت یتدارک بها مصلحة فوت التمام فی أول الوقت خاصة، ولذا تجب إعادتها قبل خروج الوقت ویلتزم بأن هذا النحو من اعتبار الأمارة الذی اختاره الشیخ فی ظاهر کلامه لا محذور فیه إلاّ أنّه لا دلیل علی الاعتبار بهذا النحو.

أقول: هذا النحو من الاعتبار أیضا یوجب التصویب فیما إذا لم ینکشف الخلاف أصلاً أو انکشف بعد الوقت فیکون الوجوب فی الوقت تخییراً، أو تخییراً بین الإتیان بالقصر فی الوقت والتمام بعد خروجه أو الاتیان بالتمام فی الوقت فإنّه لا معنی لسلوک الأمارة إلاّ العمل علی طبق مدلولها وهو الإتیان بالفعل الذی قامت علی وجوبه، وهذا فیما قامت الأمارة علی وجوب فعل وکان الواجب فی الواقع فعلاً آخر، وأما إذا قامت علی إباحة فعل کان فی الواقع حراماً أو واجباً کان سلوک الأمارة بالفعل فی الأول أیضاً، وبالترک فی الثانی، ومع عدم انکشاف خلافها أصلاً کیف

ص :55

.··· . ··· .

یتصور بقاء المفسدة فی الأول والمصلحة فی الثانی مع فرض المصلحة السلوکیة التی هی بالفعل فی الأول والترک فی الثانی؟

وعلی الجملة یتعیّن فی اعتبار الأمارة بالطریقیّة المحضة، بمعنی أنّ قیام الأمارة بوجوب فعل أو حرمته أو إباحته لا یوجب انقلابا فی ملاک ذلک الفعل أصلاً، ولا یحدث فی العمل علی طبق الأمارة مصلحة بمقدار ما یفوت من مصلحة الواقع أو یتدارک مقدار ما یبتلی به المکلّف بالمفسدة الواقعیة، بل اعتبار الأمارة علماً أو جعل الحجیة لها أو جعل الحکم الطریقی علی طبق مدلول الأمارة فیه مصلحة ولا تکون هذه المصلحة شخصیة، بمعنی ثبوت الصلاح فی ثبوت مصلحة فی کلّ مورد من موارد قیامها، بل یصح الاعتبار والجعل مع المصلحة النوعیة بأن تکون تلک المصلحة التحفظ علی التکالیف الواقعیة من حیث الرعایة والامتثال بأن یری الشارع أنه لو لم یعتبر الأمارة الفلانیة وأوکل فی وصول المکلف إلی التکالیف الواقعیة إلی اعتقاده الجزمی یکون اعتقاده الجزمی بالتکالیف الواقعیة أقل إصابة من صورة اتباعه تلک الأمارة ولو مع تمکّنه من الاحتیاط فی الوقایع، إلاّ أن صعوبة الاحتیاط فی الوقایع یوجب إهماله فی تلک التکالیف، فتعتبر الأمارة لتسهیل الأمر والمصلحة النوعیة المعبّر عنها بتسهیل الأمر الجاریة حتّی فی اعتبار الاُصول النافیة، وهذه المصلحة النوعیة المترتبة علی اعتبار الأمارة أو الأصل تجتمع مع المفسدة الشخصیة وفوت المصلحة، ولا قبح فیه علی الحکیم کما یظهر ذلک فی القوانین المشروعة من العقلاء فی مجتمعاتهم من رؤسائهم، ولعل ما ذکر الماتن قدس سره من قوله: «وأما تفویت مصلحة الواقع أو الإلقاء فی مفسدته فلا محذور فیه أصلاً إذا کانت فی التعبد به مصلحة غالبة علی مفسدة التفویت أو الالقاء» راجع إلی ملاحظة المصلحة

ص :56

نعم لو قیل باستتباع جعل الحجیة للأحکام التکلیفیة أو بانه لا معنی لجعلها إلاّ جعل تلک الأحکام[1]. فاجتماع حکمین وإن کان یلزم، إلاّ أنهما لیسا بمثلین أو

النوعیة التی لا محذور مع رعایتها فوت مصلحة شخصیة أو الإلقاء فی المفسدة کذلک.

فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری

[1] یعنی لو قیل بأن جعل الحجیة للأمارة یلزمها جعل مدلول الأمارة حکما تکلیفیاً أو أنه لا معنی لجعل الحجیة لها إلاّ بجعل مدلول الأمارة حکماً تکلیفیا فاجتماع حکمین وإن یلزم فی فعل واحد إلاّ أنهما لیسا بمثلین عند إصابة الأمارة الواقع ولا بضدین عند خطئها، والوجه فی ذلک أن الحکم الواقعی حکم تکلیفی نفسی ینشأ عن مصلحة أو عن مفسدة فی متعلّقه، ولذا تتعلّق بذلک المتعلّق الإرادة والکراهة من المولی، والمجعول فی اعتبار الأمارة حکم طریقی ینشأ من مصلحة فی نفس ذلک الحکم، حیث یوجب تنجیز الواقع أو العذر عنه من غیر أن یتعلق بمتعلقه إرادة أو کراهة فیما إذا لم یتعلقا به مع قطع النظر عن قیام الأمارة واعتبارها فلا یلزم اجتماع إرادتین بالإضافة إلی فعل ولا اجتماع الإرادة والکراهة فیه، وإنما یلزم إنشاء حکم واقعی حقیقی یکون علی وفقه إرادة الفعل أو الکراهة عنه، وإنشاء حکم طریقی آخر، فلا یکون بین الحکمین محذور اجتماع المثلین إذا اتفقا، ولا اجتماع الضدین إذا اختلفا، ولا اجتماع إرادة وکراهة فی فعل واحد حیث لا إرادة ولا کراهة إلاّ بالنسبة إلی متعلق الحکم الواقعی النفسی.

ثم إنه قدس سره ذکر الإشکال فی الإلتزام بفعلیة التکلیف الواقعی فی بعض موارد الاُصول العملیة کأصالة الإباحة الشرعیة، ووجهه أن الإذن فی الإقدام والاقتحام وارتکاب الفعل وإن کان لمصلحة فی الإذن ینافی الحرمة الواقعیة النفسیة الفعلیة،

ص :57

ضدین، لان أحدهما طریقی عن مصلحة فی نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجز، أو لصحة الإعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانیة أو کراهة کذلک متعلقة بمتعلقه فیما یمکن هناک انقداحهما، حیث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتین

کما إذا کان المأذون حراماً واقعیاً حیث إن الإذن الطریقی وإن یکون لمصلحة فی نفس الإذن لا لعدم مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة فی المأذون فیه، کما هو الحال فی الإذن الواقعی النفسی، إلاّ أن الطریقی منه أیضا ینافی الحرمة الواقعیة الفعلیة فلا محیص فی مثله من الالتزام بأنه لا إرادة ولا کراهة فی نفس المولی عند تحقق الإذن فی الارتکاب لا بمعنی أن الحرمة الواقعیة لیست بفعلیة مطلقا بل هی فعلیة مادام لم ینقدح فی نفس المولی الإذن فی الارتکاب لمصلحة فی نفس الإذن.

أقول: لو کان الترخیص الطریقی فی الارتکاب منافیاً للمنع النفسی الواقعی وموجباً لانتهاء فعلیته بثبوت الترخیص الطریقی فی الارتکاب، لجری هذا الکلام بعینه فی موارد الأمارة أیضاً إذا قامت بإباحة فعل کان فی الواقع حراماً، فلا وجه لجزمه بعدم المنافاة فی الأمارات ولو بناءً علی جعل مدالیلها حکماً طریقیا وجزمه بالمنافاة فی أصالة الحلیة، ویلزمه أیضاً أنه لو لم یکن جعل أصالة الإباحة ونحوها من الاُصول الشرعیة التی مفاد خطاباتها الإذن فی الارتکاب أو الترک فی الشبهات التحریمیة والوجوبیة لکانت الشبهات مجری الاحتیاط العقلی، نظیر أطراف الشبهة فی العلم الإجمالی؛ لأن العقل لا یرخص فی ارتکاب فعل یعلم علی تقدیر حرمته بأن حرمته فعلیة أو علی تقدیر وجوبه بأن وجوبه فعلی، والصحیح أنه لا منافاة بین الترخیص الطریقی الذی هو عبارة عن إنشاء الترخیص فی الارتکاب لیکون عذراً للمکلّف عند عدم وصول التکلیف الواقعی، وبین المنع الواقعی النفسی الفعلی، فإن الترخیص الطریقی لا یکون فی الحقیقة الرضا بالارتکاب لینافیه المنع الواقعی، ولعل

ص :58

فی فعل، وإن لم یحدث بسببها إرادة أو کراهة فی المبدأ الأعلی، إلاّ أنه إذا أوحی بالحکم الناشئ من قبل تلک المصلحة أو المفسدة إلی النبی، أو ألهم به الولی، فلا محالة ینقدح فی نفسه الشریفة بسببهما، الإرادة أو الکراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً، بخلاف ما لیس هناک مصلحة أو مفسدة فی المتعلق، بل إنما کانت فی

الذی أوقع الماتن قدس سره فیما ذکره حسبان أن الإذن الظاهری الطریقی فی موارد الاُصول إظهار رضاه بالارتکاب حقیقةً، کما یفصح عن ذلک قوله: «وکونه فعلیاً، إنما یوجب البعث أو الزجر فی النفس النبویة أو الولّویة فیما إذا لم ینقدح فیها الإذن لمصلحة فیه».

والحاصل أن الترخیص الطریقی أمر إنشائی محض وقسم من الحکم الذی لا تکون المصلحة إلاّ فی جعله وقابل للجمع مع التحریم الواقعی وفعلیته مع عدم وصوله إلی المکلّف، کما هو الفرض فی موارد الأحکام الظاهریة العذریة حیث لا یکون الحکمان متنافیین فی جهة مبدئهما ولا فی جهة المنتهی، وقد ذکرنا مرارا أن المراد من فعلیة التکلیف الواقعی تحقق الموضوع له بقیوده المفروضة له فی مقام جعله، وأما تعلق إرادة المولی بفعل العبد فی موارد وجوب الفعل أو بترکه فی موارد تحریمه أمر لا أساس له، فإن فعل العبد بما هو فعله خارج عن اختیار المولی بما هو مولی، والاشتیاق إلی فعل الغیر أو الکراهة عنه غیر إرادة الفعل أو الترک، وتعلق إرادة اللّه سبحانه بفعل العباد بما هو قادر وخالق یوجب خروج أفعال العباد عن الاختیار ولزوم الجبر الذی التزم به الجبریون، وإنما تتعلق إرادة المولی بفعله وهو الإیجاب والتحریم لفرض إمکان کونه داعیاً للعبد إلی الفعل أو الترک بوصولهما إلیه، والحکم الظاهری مجعول فی فرض عدم الوصول لمصلحة فی نفس جعله، ویدل علی أن فعلیة الحکم الواقعی لا تدور مدار تعلق إرادة المولی بالفعل أو الترک أن الإباحة

ص :59

نفس إنشاء الأمر به طریقیاً.

والآخر واقعی حقیقی عن مصلحة أو مفسدة فی متعلقه، موجبة لإرادته أو کراهته، الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً فی بعض المبادئ العالیة، وإن لم یکن فی المبدأ الأعلی إلاّ العلم بالمصلحة أو المفسدة __ کما أشرنا __ فلا یلزم أیضاً اجتماع إرادة وکراهة، وإنما لزم إنشاء حکم واقعی حقیقی بعثاً وزجراً، وإنشاء حکم آخر طریقی، ولا مضادة بین الإنشاءین فیما إذا اختلفا، ولا یکون من اجتماع المثلین فیما اتفقا، ولا إرادة ولا کراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلی متعلق الحکم الواقعی، فافهم.

الواقعیة تکون فعلیة مع عدم فرض إرادة من المولی متعلقه بالفعل أو الترک.

وأما ما ذکره المحقق الاصبهانی قدس سره فی وجه عدم تعلق الإرادة من اللّه سبحانه بأفعال العباد وکذلک لا تتعلق الإرادة بها فی نفس النبوی والولوی بأن الشوق إنما یتعلق بالشیء إذا کان فیه جهة راجعة إلی المشتاق وأفعال العباد لا یعود صلاحها وفسادها إلاّ إلیهم، فلا معنی لانقداح الإرادة فی النفس النبویة والولویة فضلاً عن المبدأ الأعلی فحصول الشوق الأکید بالإضافة إلی فعل المکلفین علی حد حصول المعلول بلا علة.

فقد ذکرنا فی بحث الطلب والإرادة أن الإرادة لیست شوقاً مؤکداً، والشاهد صدور الفعل واختیاره عن شخص من غیر أن یکون اشتیاق له بالإضافة إلی نفس ذلک الفعل، أو إلی ما یترتب علیه، بل الإرادة استعمال القدرة فی أحد طرفی الشیء فإرادة اللّه سبحانه تتعلّق بکون العباد مختارین فی أفعالهم التی تقع مورداً للاحکام وللتکالیف کما تتعلق بالتکالیف التی جعلها فی حقهم، واستعمال العباد القدرة المعطاة لهم بحکمته سبحانه فی أحد طرفی الفعل مستند إلیهم لا إلی اللّه سبحانه وإن أردت التوضیح فراجع بحث الطلب والإرادة.

ص :60

نعم یشکل الأمر فی بعض الأصول العملیة، کأصالة الإباحة الشرعیة، فإن الإذن فی الإقدام والإقتحام ینافی المنع فعلاً، کما فیما صادف الحرام، وإن کان الإذن فیه لأجل مصلحة فیه، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة فی المأذون فیه، فلا محیص فی مثله إلاّ عن الإلتزام بعدم انقداح الإرادة أو الکراهة فی بعض المبادئ العالیة أیضاً، کما فی المبدأ الأعلی، لکنه لا یوجب الإلتزام بعدم کون التکلیف الواقعی بفعلی، بمعنی کونه علی صفة ونحو لو علم به المکلف لتنجز علیه، کسائر التکالیف الفعلیة التی تتنجز بسبب القطع بها، وکونه فعلیاً إنما یوجب البعث أو الزجر فی النفس النبویّة أو الولویّة، فیما إذا لم ینقدح فیها الإذن لأجل مصلحة فیه.

فانقدح بما ذکرنا أنه لا یلزم الإلتزام بعدم کون الحکم الواقعی فی مورد الاُصول والأمارات فعلیاً کی یشکل تارة[1].

[1] یظهر من کلمات الشیخ قدس سره فی مقام الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری أن الأحکام الواقعیة فی موارد الأمارات والاُصول شأنیة، والمراد بالشأنی ما یعبّر عنه بالحکم الإنشائی، فکون مدلول الأمارة أو مفاد الأصل حکماً فعلیاً لا ینافی الحکم الواقعی، وقد أورد الماتن قدس سره علی ذلک بأن لازم ما ذکر أن لا تصل تلک الأحکام بقیام الأمارة التی قام الدلیل علی اعتبارها مرتبة التنجّز، وذلک فإن مدلول دلیل اعتبارها تنزیل مؤداها منزلة الواقع فیکون مؤدّاها حکماً واقعیاً تنزیلیاً، وبما أن الواقع حکم إنشائی غیر فعلی فالحکم الواقعی التنزیلی لا یزید علی الواقعی الحقیقی فیما إذا فرض أن الواقع الحقیقی إنشائی غیر فعلی فی عدم لزوم امتثاله.

وبتعبیر آخر العلم الوجدانی بالواقعی الإنشائی غیر منجّز کما تقدم سابقاً فی توجیه تقیید متعلق القطع بالتکلیف الفعلی، فمع الأمارة القائمة وثبوت الواقع

ص :61

بعدم لزوم الإتیان حینئذ بما قامت الأمارة علی وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحکام الإنشائیة ما لم تصر فعلیة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتیان به مما لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامة برهان.

لا یقال: لا مجال لهذا الإشکال، لو قیل بأنها کانت قبل أداء الأمارة إلیها إنشائیة، لأنها بذلک تصیر فعلیة، تبلغ تلک المرتبة.

فإنه یقال: لا یکاد یحرز بسبب قیام الأمارة المعتبرة علی حکم إنشائی لا حقیقة ولا تعبداً، إلاّ حکم إنشائی تعبداً، لا حکم إنشائی أدّت إلیه الأمارة، أما حقیقة فواضح، وأما تعبداً فلأنّ قصاری ما هو قضیة حجیة الأمارة کون مؤدّاها هو الواقع تعبداً، لا الواقع الذی أدّت إلیه الأمارة، فافهم.

التنزیلی بدلیل اعتبارها یثبت حکم واقعی إنشائی تنزیلی.

لا یقال: وإن لم یکن الحکم الواقعی عند الشیخ قدس سره فعلیاً مع قطع النظر عن العلم به إلاّ أنه بالعلم به یصل إلی مرتبة الفعلیة، فإن العلم بالحکم الإنشائی موضوع لفعلیّته، فالمنزل علیه فی دلیل اعتبار الأمارة لیس مجرّد نفس الحکم الواقعی لیرد علیه عدم لزوم تنجّزه بقیام الأمارة الظنیة، بل هو الحکم الواقعی الذی أدت إلیه الأمارة الوجدانیة أی الحکم الواقعی المعلوم.

فإنّه یقال: إنما تخبر الأمارة الظنیة عن الحکم الواقعی المفروض کونه إنشائیا، وغایة مدلول دلیل اعتبار الأمارة أن مؤدی الأمارة هو الحکم الواقعی لا الواقعی الذی قامت به الأمارة الوجدانیة، اللّهم إلاّ أن یقال: لو کان مدلول دلیل اعتبار الأمارة تنزیل المؤدی منزلة نفس الحکم الواقعی یکون اعتبارها لغواً فیستفاد من دلیل اعتبارها بدلالة الاقتضاء أن المنزل علیه هو الحکم الواقعی الذی أدت الیه الأمارة الوجدانیة، ولکن دلیل الاقتضاء لا یجری فی الموارد التی یکون فیها للأحکام الواقعیة فی

ص :62

اللّهمّ إلاّ أن یقال: إن الدلیل علی تنزیل المؤدّی منزلة الواقع __ الذی صار مؤدّی لها __ هو دلیل الحجیة بدلالة الإقتضاء، لکنه لا یکاد یتم إلاّ إذا لم یکن للأحکام بمرتبتها الإنشائیة أثر أصلاً، وإلاّ لم تکن لتلک الدلالة مجال، کما لا یخفی.

واُخری بأنه کیف یکون التوفیق بذلک؟ مع احتمال أحکام فعلیة بعثیّة أو زجریّة فی موارد الطرق والاُصول العملیة] 1].

مرتبتها الإنشائیة أثر کاستحقاق المثوبة علی الموافقة.

أقول: إذا فرض أن الحکم الواقعی إنشائی ولا یکون فعلیاً إلاّ مع الأمارة الوجدانیة یعنی العلم به یکون تنزیل مؤدی الأمارة الظنیة منزلة الواقعی کافیا فی وصوله مرتبة التنجّز علی تقدیر المصادفة وذلک لما تقدم فی بحث قیام الأمارات بدلیل اعتبارها مقام القطع الموضوعی الطریقی من أن تنزیل الشیء منزلة جزء الموضوع أو قیده صحیح فیما إذا حصل الجزء الآخر أو المقید بنفس ذلک التنزیل والأمر فی المقام کذلک، فإنّه بتنزیل المؤدی منزلة الواقع یحصل العلم بالواقع ولو کان الواقع تنزیلیاً، إلاّ أن العلم به وجدانیٍ والمفروض أن العلم بالواقع موضوع لفعلیة ذلک الواقع فالفعلیة والتنجز یحصلان معاً وإن کان التنجز متأخرا عن الاُولی مرتبة.

[1] ومراده مما ذکر الإشکال فیما ذکر الشیخ قدس سره من أن الأحکام فی موارد الطرق والأمارات والاُصول العملیة إنشائیة، ووجه الإشکال أن اعتبار الأمارة ومفاد الاُصول هو عند الجهل بالواقع، واحتمال التکلیف الفعلی فی مواردها؛ وإلاّ فمع إنشائیة الحکم لا یکون موضوع لاعتبارهما.

أقول: لم یؤخذ فی موضوع اعتبار الأمارة عقلاً إلاّ عدم العلم الوجدانی من المکلف بالحکم الواقعی؛ لأنّ التعبد مع العلم بالواقع لا معنی له، وأما مفاد الاُصول فسیأتی التعرض لها فی ذیل الوجه الآتی فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری.

ص :63

المتکفلّة لأحکام فعلیة، ضرورة أنه کما لا یمکن القطع بثبوت المتنافیین، کذلک لا یمکن احتماله.

فلا یصح التوفیق بین الحکمین، بإلتزام کون الحکم الواقعی __ الذی یکون مورد الطرق __ إنشائیاً غیر فعلی، کما لا یصحّ بأن الحکمین لیسا فی مرتبة واحدة، بل فی مرتبتین ضرورة تأخّر الحکم الظاهری عن الواقعی بمرتبتین[1].

فی مقالة المحقق النائینی فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری

[1] قد تشبث المحقق النائینی قدس سره بهذا الوجه فی مفاد الاُصول غیر المحرزة من إیجاب الاحتیاط وأصالتی البراءة والحلیّة، وقد ذکر أن المجعول فی الأمارة تتمیم کشفها، بمعنی أن الأمارة القائمة بحکم وتکلیف تعتبر علماً بذلک الحکم والتکلیف، حیث إن الأمارات جلّها بل کلّها اُمور إمضائیة فی اعتبارها والعقلاء فی بنائهم یرونها علما والأمارة وإن تکون فیها بنفسها نوع کشف عن الواقع إلاّ أن کشفها عنه ناقص.

وفیها احتمال اختلاف الواقع عن مدلولها وقد ألغی الشارع تبعاً علی ما عند العقلاء احتمال الخلاف، ویترتب علی هذا الإلغاء واعتبارها علماً کونها منجزة للواقع أو معذرة عنه ولم یجعل الشارع فی موردها غیر ما یکون فی الواقع مع قطع النظر عن قیامها واعتبارها لیدعی أن المجعول الثانی بقیامها یکون مضادا أو منافیاً لما فی الواقع من الحکم والتکلیف، بل یکون حال الأمارة مع إصابتها الواقع حال العلم الوجدانی به ومع خطئها یکون کالقطع بالواقع الذی یکون اعتقادا بالواقع خطأً فی کونه عذرا علی ما تقدم.

وأما الاُصول فإن کانت محرزة للواقع وناظرة إلیه کالاستصحاب وقاعدتی الفراغ والتجاوز یکون المعتبر فی مواردها إحراز الواقع والعلم به من حیث الجری العملی ثبوتا أو سقوطا، بأن کان الشارع معتبرا المکلف محرزا للواقع بحسب عمله

ص :64

.··· . ··· .

فلم یجعل فی مواردها بمفادها غیر اعتبار الإحراز للمکلف لا حکم تکلیفی أو وضعی آخر غیر ما فی الواقع.

لیقال: إن المجعول الثانی مضادّ للحکم الواقعی أو ینافیه.

وإن لم تکن محرزة فالمجعول فیها وان کان حکماً إلاّ أنه لا ینافی الحکم أو التکلیف الواقعی، وبیان ذلک أن التکلیف الواقعی بأی مرتبة فرضت من الأهمیة عند الشارع لا یکون داعیا للمکلف إلی العمل إلاّ بعد وصوله إلیه فقسم من الاُصول غیر المحرزة یوجب وصول التکلیف الواقعی إلی المکلّف، کما فی مورد الأمر بالاحتیاط من الشبهة الوجوبیة أو التحریمیة، فإن التکلیف الواقعی علی تقدیره لا یدعو المکلف إلی موافقته لعدم وصوله إلیه، فالأمر بالاحتیاط فی مورد احتماله تحفّظ علی ذلک التکلیف المحتمل من حیث العمل به، فالملاک الداعی للشارع إلی إیجابه الاحتیاط نفس وجوب ذلک الفعل واقعاً أو تحریمه الواقعی من الشبهات الوجوبیة أو التحریمیة فیکون الأمر بالاحتیاط فی الحقیقة من متمم الجعل الذی لا یکون مع المتمّم بالفتح حکمین حقیقة بل فی مورد ثبوت التکلیف الواقعی الناشئ عن مصلحة الفعل أو مفسدته یکون التحفظ علی الملاک المزبور موجباً لجعل التکلیف واقعاً، وللأمر بالاحتیاط عند احتماله بعد جعله وحیث إن الاحتیاط هو التحفظ علی الواقع ففی مورد لا یکون فیه تکلیف أو موضوع لحکم الزامی لا یکون الفعل أو الترک فیه من الاحتیاط حقیقة، بل هو تخیّل احتیاط ولذا لا یکون فیه وجوب الاحتیاط لیکون منافیاً للحکم الواقعی فی ذلک المورد وقسم منه یکون عدم الأهمیة فی التکلیف الواقعی نظیر الأهمیة فی الفرض السابق داعیا إلی الترخیص فی الارتکاب ما لم یصل التکلیف الواقعی إلی المکلّف وهذا الترخیص فی طول التکلیف الواقعی

ص :65

.··· . ··· .

بمرتبتین من ثبوته وفرض الشک فیه لا فی مرتبته لیکون بینها تضاد أو تناف حیث لا یکون للتکلیف الواقعی إطلاق بالإضافة إلی حال التحیّر فیه، والحاصل أن للشک فی الحکم أو التکلیف الواقعی اعتبارین أحدهما: أنه صفة نفسانیة، والثانی: أنه تحیّر فی الواقع وتردّد فیه وهو بالاعتبار الثانی موضوع للأحکام الظاهریة.

أقول: أما عدم الإطلاق فی الحکم الواقعی بحیث لا یعم حال الشک فیه فقد ذکرنا أن الإطلاق فیه ذاتی حیث لا یمکن تقیید الحکم الواقعی بصورة العلم به، نعم مع عدم وصول التکلیف الواقعی یکون الترخیص فی الفعل أمرا ممکنا إذا کان فیه مصلحة نوعیة کما تقدم.

وأما تقیید الأمر بالاحتیاط بصورة ثبوت التکلیف واقعا فیه ما لا یخفی، فإن الأمر بالاحتیاط فی الحقیقة أمر بإحراز رعایة التکلیف الواقعی علی تقدیره، فیکون الأمر به طریقیا یترتب علیه تنجیز الواقع علی تقدیره.

ولیس من الحکم النفسی وجعل التوسعة للتکلیف بالفعل الثابت واقعاً لینجر ذلک التکلیف إلی ظرف الجهل به ویخرج عن الإهمال الکائن فیه بالجعل الأول.

وعلی الجملة: التکلیف الواقعی الذی له إطلاق ذاتی فی ظرف الجهل به یکون علی تقدیره واقعاً واصلاً بالأمر بالاحتیاط فی الواقعة، ومع عدم الأمر بالاحتیاط بل مع الترخیص الظاهری فی الإرتکاب لا محذور، حیث إنّ التکلیف الواقعی علی تقدیره غیر واصل ولا منافاة بین الحکمین لا فی ناحیة مبدئهما ولا فی ناحیة المنتهی أی الغرض منهما، وما ذکره قدس سره فی ناحیة اعتبار الأمارات صحیح ولا یصغی إلی ما قیل من أنّ العلم غیر قابل للجعل والنقص فی الکشف فی الأمارة أمر تکوینی غیر قابل للتتمیم بالإعتبار وذلک فإن الاعتبار هو فرض شیء شیئاً آخر لیترتب علیه

ص :66

.··· . ··· .

أثر الشیء الآخر وتنجّز التکلیف واستحقاق العقوبة علی مخالفته مترتب عقلاً علی وصوله وخروجه عن عدم البیان له ومع اعتبار الشارع الأمارة القائمة به علماً به یتم الموضوع لحکم العقل، وقد ذکرنا أنّه مع إمکان هذا الاعتبار لا مجال لما ذهب إلیه الماتن قدس سره من أن اعتبار الأمارة عبارة عن جعل الحجیة لها فإنّه مع جعل الحجیة إن اعتبرت علماً یکون جعلها لغواً فإنه بمجرد اعتبار العلم یترتب علیها الأثر العقلی فتکون منجّزة ومعذّرة وإن لم یعتبرها علماً فهو مخالف لما تقدم من أنّ اعتبار الأمارات إمضاء لما علیه العقلاء، حیث یرون الأمارة المعتبرة القائمة بشیء علماً به.

وقد ظهر مما ذکرنا من أنّ ما یقال، فی وجه الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری تعدّد مرتبتهما بدعوی أنّ المقتضی للحکم الواقعی ما فی نفس الفعل، حیث یکون لحاظه فیه داعیاً للمولی إلی جعل حکم واقعی لنفس الفعل وفی هذه المرتبة لا یمکن فرض الجهل به لیکون مقتضیاً للحکم الظاهری فیکون مزاحماً لمقتضی الحکم الواقعی، کما أنّه فی مرتبة جعل الحکم الظاهری کان الحکم الواقعی مجعولا من قبل فالتمانع بین المقتضیین إنّما یتصور فیما إذا کانا فی مرتبة واحدة.

وفیه، أنّ الإطلاق فی الحکم الواقعی المجعول ذاتی یثبت مع فعلیة موضوعه فی ظرف الشک أیضا والحکم الظاهری المجعول علی خلافه ینافی مع ثبوته إلاّ أنْ یدفع بما ذکرنا من أنّ تنافی الحکمین ینشأ من المضادة بین مبدئهما أو فی داعویتهما إلی العمل، ولا تنافی بین المبدأین لهما ولا فی الغرض من جعلهما، ومجرد بیان الاختلاف فی رتبة موضوعهما لا یکون علاجاً لعدم إمکان تخصیص الحکم الواقعی فی صورة الجهل به، بأنْ لا یکون له إطلاق بالإضافة إلی صورة الجهل به ثبوتاً.

وذکر العراقی قدس سره فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری بما حاصله عدم

ص :67

.··· . ··· .

الإطلاق فی الإرادة التی یکشف عنها خطاب التکلیف لیمتنع فی مرتبة الجهل بالخطاب أو الجهل بانطباقه علی الواقعة جعل الحکم الطریقی الظاهری، وأوضح ذلک بالقوانین المجعولة فی حق الرعایا فی الحکومات، فإنها تجعل ولکن یتأخر زمان إجرائها العملی، فإنّه ربما تکون المصلحة مؤدیة إلی جعل القانون بنحو الکلیة علی موضوع مع عدم قیام المصلحة فی إجرائه ولو لعدم استعداد الرعیة لامتثال هذا القانون، وتری أنّ القانون مع عدم جعله فی مقام الإجراء باق علی کلیّته مع عدم المصلحة فی إجرائه، وفی مثل ذلک لا یکون المراد من القانون المجعول إلاّ مجرد إنشائه علی طبق المصلحة الموجودة والقائمة بموضوعه مع خلوّه عن الإرادة الفعلیة ولو للتسهیل علی الرعیة، وإلاّ لم یمکن تفکیک القوة الإجرائیة عن قوة جعل القانون علی موضوعه فی ظرف وجود موضوعه، فالأحکام الواقعیة مع الظاهریة المجعولة عند الجهل بها من هذا القبیل، وتوهم رجوع شرایط الإجراء إلی شرایط موضوع القانون غلط فاحش؛ لأنّ من شرایط سهولة الامتثال علمهم ومثل هذا الشرط من لوازم موافقة القانون لا من مصحّحات نفسه.

ولا یخفی ما فیه، من أن ما یذکر شرطا لإجراء القانون یرجع إلی قیود الموضوع بنحو القضیة الحقیقیة التی هی مفاد القانون، ولکن هذا بالإضافة إلی القیود التی یمکن لحاظها وأخذها فی مقام الجعل فی ناحیة الموضوع کما فی شرط العلم بالقانون المجعول، فإنّه لا یمکن أخذه فی ناحیة الموضوع له لکون الإطلاق بالإضافة إلیه ذاتی لا محالة، ویمکن دخالته فی الغرض من التکلیف المجعول علی ما تقدم بخلاف قید زمان الإجراء فإنّ أخذه فی الموضوع للقانون الکلی أمر ممکن، وما عند العقلاء من تأخیر زمان الإجراء مرجعه إلی جعل الحکم بنحو الواجب

ص :68

وذلک لا یکاد یجدی، فإن الظاهری وإن لم یکن فی تمام مراتب الواقعی، إلاّ أنه یکون فی مرتبته أیضاً.

وعلی تقدیر المنافاة لزم اجتماع المتنافیین فی هذه المرتبة، فتأمل فیما ذکرنا من التحقیق فی التوفیق، فإنه دقیق وبالتأمل حقیق.

ثالثها: إنّ الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا یحرز التعبد به واقعاً عدم حجیته جزماً[1] بمعنی عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة علیه قطعاً.

فإنها لا تکاد تترتب إلاّ علی ما اتصف بالحجیة فعلاً، ولا یکاد یکون الإتصاف بها، إلاّ إذا أحرز التعبد به وجعله طریقاً متبعاً، ضرورة أنه بدونه لا یصح المؤاخذة علی مخالفة التکلیف بمجرد إصابته، ولا یکون عذراً لدی مخالفته مع عدمها، ولا یکون مخالفته تجریاً، ولا یکون موافقته بما هی موافقة انقیاداً، وإن

المشروط من الأول أو نسخ إطلاقه وتقیید موضوعه بعد جعله.

[1] قد ذکر قدس سره أنّ الأصل عند الشک فی اعتبار أمارة شرعا هو عدم ترتب شیء من آثار الحجة علیها فلا یکون التکلیف الواقعی منجزاً بوجودها، ولا یکون المکلف معذوراً فی مخالفة التکلیف الواقعی بالعمل بها بمعنی أنّ المنجزیة والمعذریة تترتب علی أمارة قد أحرزت إنشاء الاعتبار لها.

وبتعبیر آخر إذا اعتبر الشارع أمارة تکون متّصفة بالحجیة الإنشائیة وإذا وصل ذلک الاعتبار إلی المکلّف تکون متّصفة بالحجیة الفعلیة، وعلی ذلک فمع الشک وعدم إحراز اعتبارها لا یترتب علیها شیء من التنجیز والتعذیر، وهذا معنی أنّ الشک فی حجیة أمارة أی الشک فی إنشائها لها مساوق للجزم بعدمها أی بعدم الحجیة الفعلیة، فقد ظهر أنّ المراد بالأصل فی المقام حکم العقل حیث إنّه الحاکم فی استحقاق العقاب والمثوبة لا الأصل العملی من الاُصول المعروفة.

ص :69

کانت بما هی محتملة لموافقة الواقع کذلک إذا وقعت برجاء إصابته، فمع الشک فی التعبد به یقطع بعدم حجیته وعدم ترتیب شیء من الآثار علیه، للقطع بانتفاء الموضوع معه، ولعمری هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامة برهان.

وأما صحة الإلتزام بما أدّی إلیه من الأحکام وصحة نسبته إلیه تعالی فلیسا من آثارها [1].

الأصل عند الشک فی اعتبار الأمارة

[1] هذا تعرض لما ذکر الشیخ قدس سره فی تقریر الأصل فی المقام حیث ذکر قدس سره أنّ التعبد بأمارة لم یحرز اعتبارها بالإلتزام بمؤدّاها، ونسبة مؤدّاها إلی اللّه سبحانه تشریع محرّم وافتراء علیه تعالی، وهذا غیر جائز بالأدلة الأربعة، فمن الکتاب قوله سبحانه «قل ءاللّه أذن لکم أم علی اللّه تفترون»(1) بناءً علی أنّ الافتراء یعم ما لا یعلم أنّه من اللّه أنْ ینسب إلیه ولو لم یکن عاما بأنْ کان مختصا بما علم عدم کونه من اللّه فیعم حکمه لما لا یعلم أیضا، حیث ذکر سبحانه الافتراء فی مقابل إذنه لهم إلی آخر ما ذکره، وناقش الماتن قدس سره فی التقریر المزبور بأنّ صحة الإلتزام بمؤدّی الأمارة وجواز نسبته إلی اللّه سبحانه لیستا أثرین لاعتبار الأمارة لیکون انتفاؤهما عند الشک فی الاعتبار مثمراً فی نفی الحجیة، فإنّ النسبة بینهما وبین منجزیة الأمارة ومعذریتها العموم من الوجه، فربما تکون الأمارة حجة مع انتفائهما کما فی الظن حال الانسداد علی الحکومة ولو فرض عدم حرمة الإلتزام بمؤدّی أمارة وعدم حرمة نسبة مؤدّاها إلی اللّه سبحانه لا یترتب علیها المنجّزیة والمعذّریة کما لو قیل فرضاً بجواز التشریع وعدم حرمته.

ص :70


1- 1) سورة یونس: الآیة 59.

.··· . ··· .

وذکر المحقق النائینی قدس سره علی المناقشة بأنّ جواز الإلتزام بمؤدی الأمارة ونسبة ذلک إلی اللّه سبحانه لا ینفک عن اعتبارها أصلاً، والنقض باعتبار الظن النوعی حال الانسداد علی الحکومة غیر صحیح، فإنّ الظن علی ذلک المسلک لا یعتبر من ناحیة العقل، فإنّ شأن العقل الإدراک لا جعل الحکم التکلیفی والوضعی، بل یکون لزوم رعایة الظن علی ذلک المسلک من جهة التبعیض فی الاحتیاط حیث لا یصح للّه سبحانه فی حکمته أنْ یطالب العباد بالموافقة القطعیة العملیة فی الوقایع المبتلی بها، ولا یجوز للعباد أنْ یقتصروا فی تلک الوقائع بأقل من الموافقة الظنیة للتکالیف وجواز الإلتزام بمؤدی الأمارة وجواز نسبته إلی اللّه سبحانه مع فرض عدم اعتبارها مجرد فرض، وقد أضاف إلی الإیراد المزبور بعض الفحول قدس سرهم بأنّ تنجیز التکلیف الواقعی لا یکون متوقفاً علی اعتبار الأمارة أصلاً بل التکالیف الواقعیة منجزة بالعلم بها إجمالاً فی الوقایع المسمی بالعلم الإجمالی الکبیر أو بالعلم الإجمالی الصغیر کما فی دوران الأمر بین وجوب الظهر أو الجمعة، بل قد یکون التنجیز بمجرد الاحتمال کما فی احتمال التکلیف قبل الفحص، فإنّ فی هذه الموارد یکون التکلیف الواقعی منجّزاً مع قطع النظر عن الأمارة.

نعم الأمارة المعتبرة علی أحد طرفی العلم الإجمالی یکون مسقطاً بوجوب الاحتیاط ومُعذّراً عن الواقع علی تقدیر مخالفتها التکلیف الواقعی.

أقول: الاستدلال علی عدم اعتبار الأمارة عند الشک فی اعتبارها بما ذکر الشیخ قدس سره لا یثبت عدم الاعتبار علی مسلک الماتن قدس سره فإنّ المجعول علی مسلکه فی معنی اعتبار الأمارة جعل المنجزیة والمعذریة لها من غیر أنْ تعتبر الأمارة علماً بالواقع ومن غیر أنْ یجعل مؤدّاها حکماً شرعیاً للمکلف فی الواقعة، فإنّه علی ذلک

ص :71

.··· . ··· .

لا یجوز للمکلف أنْ یلتزم بأنّ مؤداها حکم شرعی للواقعة من الشارع ومجعول من قبله ولو فرض اعتبارها.

نعم علی مسلک الشیخ قدس سره فی اعتبار الأمارة یکون اعتبارها ملازما لصحة نسبة مؤداها إلی الشارع والإلتزام بأنّه حکم شرعی للمکلّف. وعلی الجملة اعتبار أمارة علی مسلک الماتن لا یوجب خروج نسبة مؤدّاها إلی الشارع مطلقاً عن التشریع، نعم لا بأس بنسبته إلیه سبحانه احتمالاً کما هو الحال فی موارد الأمارة الغیر المعتبرة أیضاً، ثم إنّ ما ذکر من استناد التنجیز إلی العلم الإجمالی الکبیر أو إلی العلم الإجمالی الصغیر لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه إذا انحلّ العلم الإجمالی الکبیر بالظفر إلی التکالیف التی یحتمل انحصار التکالیف فی الوقایع علی ذلک المقدار، ولم یکن فی المسألة علم إجمالی صغیر یکون تنجیزالتکلیف فیه علی تقدیره مستنداً إلی الأمارة المعتبرة القائمة به ولولاها لکان موردها من موارد قاعدة «قبح العقاب بلا بیان» أو «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون» لتبدل احتمال التکلیف فیه قبل الفحص إلی احتماله بعده کما لا یخفی، بل قبل الانحلال أیضا، یثبت التنجیز للأمارة إذ قبل اعتبار تلک الأمارة ووصولها کان تنجیز التکلیف فی الواقعة مستنداً إلی احتماله وکونه من أطراف العلم الإجمالی وبعد الظفر بتلک الأمارة یکون تنجیزه مستندا إلی تلک الأمارة لا احتمال الضرر.

ولا یخفی أنّه لا ینبغی التأمل فی أن التشریع یکون بالبناء قلباً علی حکم أنّه من الشارع مع العلم بعدم کونه منه، أو مع الجهل بکونه منه والعمل خارجاً مبنیاً علی هذا البناء یدخل فی عنوان الافتراء علی اللّه سبحانه موضوعاً أو حکماً فی مقابل الافتراء علیه قولاً، وکما أنّ مجرد البناء علی الحکایة بخلاف الواقع لا یدخل فی عنوان الکذب

ص :72

ضرورة أن حجیة الظن عقلاً __ علی تقریر الحکومة فی حال الإنسداد __ لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشک فی التعبد به لما کان یجدی فی الحجیة شیئاً ما لم یترتب علیه ما ذکر من آثارها، ومعه لما کان یضر عدم صحتهما أصلاً، کما أشرنا إلیه آنفاً.

والافتراء ما لم یکن مظهراً للبناء وإلتزامه قولاً، ویتحقق بعد إظهاره بالقول کذلک ما لم یکن فی الخارج فعل خارجی مظهر لبنائه لا یُعدُّ تشریعاً وافتراءً عملاً نظیر الإخبار عن الشیء بالفعل، فالفعل المأتی به بالبناء والقصد المزبور یکون من الافتراء والکذب علی اللّه قولاً، وعنوان الافتراء علیه محکوم بالحرمة بالکتاب المجید والروایات، والمناقشة فی الاستدلال علی حرمته بقوله سبحانه «ءاللّه أذن لکم أم علی اللّه تفترون»(1) وبما ورد من الروایات الدالّة علی حرمة الافتراء ضعیفة، ولا یخفی أنّ من الثمرة المترتبة علی القول بأنّ المجعول فی باب اعتبار الأمارة اعتبارها علما، وبین القول بأنّ المجعول لها الحجیة انحصار اعتبارها علی موارد التکالیف والأحکام الشرعیة علی الثانی فإنّه لا یعقل جعل التنجیز والتقدیر لها إلاّ فی تلک الموارد، وأما الأمارة القائمة بعوالم القبر والآخرة وغیرها من الاُمور الراجعة إلی العقائد ونحوها فلا یعقل فیها التنجیز والتعذیر، وکذا الحال بناءً علی أنّ معنی اعتبارها جعل مؤدّاها حکماً شرعیاً طریقیا، وأما بناءً علی اعتبارها علما فلا ینحصر اعتبارها علی موارد الأحکام وموضوعاتها، بل یعمّ غیرها فتکون نتیجة الاعتبار فی الموارد المشار الیها جواز الإخبار بها حیث بقیام خبر الثقة بذلک الأمر یثبت العلم به ویترتب علی العلم به جواز الإخبار به للغیر.

ص :73


1- 1) سورة یونس: الآیة 59.

فبیان عدم صحة الإلتزام مع الشک فی التعبد، وعدم جواز إسناده إلیه تعالی غیر مرتبط بالمقام، فلا یکون الإستدلال علیه بمهم، کما أتعب به شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه نفسه الزکیة، بما أطنب من النقض والإبرام، فراجعه بما علقناه علیه، وتأمل.

بقی فی المقام أمران:

أحدهما: أنّه ربما یتمسک عند الشک فی اعتبار أمارة بالاستصحاب فی عدم اعتبارها، ویناقش فیه أنّ الاستصحاب إنّما یجری فی ناحیة عدم الشیء إذا کان عدمه موضوعاً لحکم شرعی، وأما إذا کان الموضوع للحکم الشرعی أو الأثر العقلی مجرد عدم العلم به ففی مثل ذلک لا مورد للاستصحاب فی ناحیة عدمه، وقد تقدم أنّ مع عدم إحراز اعتبار الأمارة یترتب علیها حرمة التعبد وإسناد مدلولها إلی الشارع، ولا تکون منجزة للتکلیف فیما إذا أصابت ولا معذرةً فیما أخطات.

واُورد علی ذلک بأنّ المستصحب إذا کان حکماً شرعیاً تکلیفیا أو وضعیا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدمه.

وبتعبیر آخر إذا کان الشک فی وجوب فعل کافیا فی جریان أصالة البراءة بعد الفحص فی وجوبه فلا یمنع ذلک عن جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم جعله، کما أنّ جریان أصالة الطهارة فی شیء إذا شک فی جعل النجاسة له لایمنع عن الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل النجاسة له.

وفیه أنّ مفاد الأصلین فی مثل هذه الموارد مختلف؛ ولذا یکون مع جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل الوجوب أو النجاسة حاکما علی أصالة البراءة أو قاعدة الطهارة، وهذا بخلاف حرمة التشریع والتعبد بمدلول أمارة لم یعلم اعتبارها، فإنّ الموضوع للحرمة شیء واحد وخصوصیة العلم بعدم اعتبارها أو عدم العلم

ص :74

وقد انقدح _ بما ذکرنا _ أن الصواب فیما هو المهم فی الباب ما ذکرنا فی تقریر الأصل، فتدبر جیداً.

إذا عرفت ذلک، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قیل بخروجه یذکر فی ذیل فصول.

بعدم الاعتبار غیر دخیل فی موضوع تلک الحرمة وتحقق التشریع.

وعلی الجملة: المهم فی المقام وهو عدم جواز نسبة المؤدی إلی الشارع، وعدم کون الأمارة منجزة أو معذرة لا یحتاج إلی الأصل لثبوت الموضوع لهما وجداناً وجواز الإخبار بعدم إنشاء الاعتبار غیر مهم فی المقام، وأنْ یکون إحراز الموضوع له بالاستصحاب.

والآخر: قد ذکر الشیخ قدس سره فی ذیل البحث فی الأصل عند الشک فی اعتبار أمارة أنّه مع عدم الظفر بالدلیل علی اعتبارها یکون الإلتزام بمؤدّاها محرما علی ما تقدم من غیر فرق بین کون العمل بها ملازماً لطرح الأصل المعتبر أم لا، وإذا عمل بها من غیر إلتزام بکون مدلولها حکمه الشرعی یکون العمل بها محرّما فیما کان موجباً لطرح الأصل المعتبر ولذا قد یجتمع فی العمل بأمارة غیر معتبرة أو غیر محرزة الاعتبار جهتان من الحرمة، واستدل للحرمة من الجهة الثانیة بقوله سبحانه «لا تقفُ ما لیس لک به علم»(1) و«إنّ الظنّ لا یغنی من الحق شیئاً»(2).

وأورد المحقق النائینی قدس سره علی ذلک بأنّه عند الشک فی اعتبار أمارة لا یکون التمسک بالعموم المزبور صحیحا؛ لأنّ رفع الید عنه مع اعتبار الأمارة لیس من جهة

ص :75


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2) سورة النجم: الآیة 28.

.··· . ··· .

تخصیصه، بل لحکومة دلیل الاعتبار للأمارة، فمع الشک فی اعتبارها واحتمال کونها علماً فی اعتبار الشارع یکون التمسک بالعموم المزبور من قبیل التمسک بالعام فی شبهته المصداقیة ولکن لا یخفی ما فیه، فأما أولاً: فإنّ مجرد إنشاء الاعتبار لأمارة واقعاً مع عدم وصول ذلک الاعتبار إلی المکلّف لا یکون العمل بها سکونا بالعلم، بل کونه عملاً بالعلم یتوقف علی وصول ذلک الاعتبار علی ما تقدم، ومقتضاه أنّ الأمارة ما لم یحرز اعتبارها تکون داخلة فی العموم المزبور وجدانا، وثانیا: أنّ النهی عن الاقتفاء بغیر علم والنهی عن اتباع الظن وإرشاد إلی حکم العقل بلزوم تحصیل المؤمّن، وعدم کون غیر العلم مؤمناً والتمسک بالعام المزبور عند الشک فی اعتبار أمارة من قبیل التمسک بقوله سبحانه: «أطیعوا اللّه»(1) لإثبات وجوب متابعة القطع بالتکلیف وکون موافقته مؤمناً.

والأولی للشیخ قدس سره أن یقول: إنّ العمل بأمارة مع الشک فی اعتبارها غیر جائز إذا لزم منه طرح الأصل المعتبر المثبت للتکلیف؛ لأنّ العمل بها مع عدم إحراز اعتبارها وترک العمل بذلک الأصل معصیة، کما إذا صادف الأصل التکلیف الواقعی وأنّه یحسب تجریا کما إذا لم یصادفه.

ص :76


1- 1) سورة آل عمران: الآیة 32 و 132 و . . .

فصل

لا شبهة فی لزوم اتباع ظاهر کلام الشارع[1]. فی تعیین مراده فی الجملة، لاستقرار طریقة العقلاء علی اتباع الظهورات فی تعیین المرادات، مع القطع

فی حجیّة الظهورات

اشارة

[1] الکلام الصادر عن المتکلّم له مدلولان:

الأول: ما یعبّر عنه المدلول الاستعمالی وهو ما یرید المتکلم إحضار المعنی المستفاد من الألفاظ الواردة فی کلامه بحسب وضع مؤدّاها وهیئاتها ووضع الهیئة الترکیبیة فیه فی أذهان السامعین، وکذا ما کان المعنی المستفاد بقرائن الاستعمال أو المقام.

والثانی: تعیین أنّ ما هو ظاهر کلامه مطابق لمراده الجدّی المعبّر عنه بالمدلول التصدیقی ومقام الثبوت والواقع، وهذا یکون بعد إحراز المتکلّم فی مقام تفهیم مراده الجدّی، کما هو الأصل فی کلام کل متکلّم عاقل، والتطابق المشار إلیه والبناء علیه مما جرت علیه سیرة العقلاء فی الکلام الصادر عنه ما لم یحرز الخلاف، ویلزم اتباعه بالإضافة إلی خطابات الشارع فإنّه لم یخترع لتفهیم مراداته الواقعیة طریقا آخر، ویتعین الأخذ بأصالة التطابق مع عدم إحراز الخلاف، بلا فرق بین کون التطابق مظنوناً أو ظن بالخلاف وکون الواصل إلیه الخطاب ممن قصد المتکلّم إفهامه أو قصد عدم إفهامه أم لا، ویشهد لذلک کله ما ذکرنا من سیرة العقلاء فإنّهم یعتمدون علی أصالة التطابق فی مقام الشهادة بالإقرار وإن لم یکن المقر بصدد إفهام الشاهد أو کان بصدد عدم إفهامه، ولا یعذّرون من خالف ظاهر کلام المولی فیما إذا تضمّن

ص :77

بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طریقة أخری فی مقام الإفادة لمرامه من کلامه، کما هو واضح. والظاهر أن سیرتهم علی اتباعها، من غیر تقیید بإفادتها للظن فعلاً، ولا بعدم الظن کذلک علی خلافها قطعاً، ضرورة أنه لا مجال عندهم للإعتذار عن مخالفتها، بعدم إفادتها للظن بالوفاق، ولا بوجود الظن بالخلاف.

تکلیفاً یخصّه أو یعمّه بمجرد دعواه أنّه لم یظنّ بمراده الواقعی أو ظنّ بخلافه.

والحاصل أنّ الاُصول الجاریة فی الخطابات مختلفة، فإنّ مقتضی بعضها تعیین المراد الاستعمالی کأصالة الحقیقة وعدم الإضمار ونحو ذلک، وبعضها لتعیین المراد الجدّی کأصالة العموم والإطلاق ونحوهما، وهذه الاُصول مما جرت علیه سیرة العقلاء فی محاوراتهم ولا مجال للتشکیک فی اعتبارها فی الجملة، وإنّما وقع الکلام فی اعتبار الظهورات فی مقامات ثلاثة:

الأول: ما یتوهم من أنّ اعتبار الظهور فیما إذا لم یکن ظن بالخلاف وأشرنا إلی أنّ ذلک غیر صحیح لا مجال له، والشاهد لذلک عدم صحة الاعتذار عن مخالفته بدعوی أنّه لم یحصل له الظن بالمراد الواقعی، أو ظنّ بخلافه فضلاً عن دعوی عدم حصول الاطمینان بالمراد الجدّی، نعم إذا کان الظنّ بالخلاف من طریق معتبر بحیث یعدّ قرینة عرفیة علی خلاف الظهور یتعیّن الأخذ بمقتضاها، ولعلّ منشأ الوهم ما یلاحظ من العقلاء من عدم اعتمادهم علی ظاهر کلام مثل الطبیب فیما إذا خطر ببالهم لعلّ مراده الجدّی من کلامه غیر ظاهره، ویسألون عن مراده الجدّی بإعادة الکلام علیه ولکن لا یخفی أنّ هذا من الاحتیاط فیما إذا کان الغرض الوصول إلی الواقع فقط لا الاحتجاج والاعتذار کما هو المفروض فی المقام. الثانی: ما عن المحقق القمی قدس سره من أنّه لا اعتبار للظهور بالإضافة إلی غیر المقصود بالإفهام إذا کان

ص :78

کما أن الظاهر عدم اختصاص ذلک بمن قصد إفهامه، ولذا لا یسمع اعتذار من لا یقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر کلام المولی، من تکلیف یعمه أو یخصه، ویصح به الاحتجاج لدی المخاصم_ة واللجاج، کما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من کل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عما إذا لم یکن بصدد إفهامه،

المتکلّم ممن یعتمد علی القرائن المنفصلة والحالیّة التی تکون عند المخاطب، وعلی ذلک بنی عدم اعتبار ظهورات الأخبار التی وصلت إلینا عن الائمة علیهم السلام بنقل الرّواة فإنّه لم یقصد بها تفهیم عامة الناس بل تفهیم السائلین ومن القی إلیه خطاباتهم فقط، وکذا ظهورات الکتاب المجید بناءً علی اختصاص خطاباته بالمشافهین وعدم صحة مخاطبة الغائبین عن مجلس التخاطب فضلاً عن المعدومین فی ذلک الزمان ویذکر لهذا التفصیل وجهاً، وهو أنّه إذا لم یکن من عادة المتکلّم الاعتماد علی القرائن المنفصلة والحالیة یکون منشأ الخطأ إما غفلة المتکلّم عن ذکر القرینة علی المراد الاستعمالی أو المراد الجدّی أو غفلة السامع عن القرینة باستماعها، وکلا الأمرین یدفع بأصالة عدم الغفلة الجاریة فی حق المتکلّم والمخاطب بخلاف ما کان من عادته الاعتماد علی القرائن المنفصلة والحالیة، فإنّ أصالة عدم الغفلة الجاریة فی حقهما لا تفید فی إثبات کون ظاهر الکلام هو مراده حیث من المحتمل وجود قرینة بین المتکلّم والسامع ولم نطّلع علی تلک القرینة، وأوجب ذلک خطأنا فی إصابة المراد، أو لم تصل القرینة المنفصلة إلینا.

وعلی الجملة المنشأ لهذا التفصیل إرجاع الاُصول الجاریة فی الخطابات إلی أصالة عدم الغفلة، ولکن لا یمکن المساعدة علیه؛ لأنّ أصالة الظهور أصل مستقل وکذا سائر الاُصول اللفظیة، کما یشهد بذلک سماع الشهادة علی الإقرار وغیر ذلک مما أشرنا إلیه فإنّه دلیل قطعی علی عدم انحصار اعتبار الظهورات بالمقصودین

ص :79

ولا فرق فی ذلک بین الکتاب المبین[1] وأحادیث سید المرسلین والأئمة الطاهرین علیهم السلام .

وإن ذهب بعض الأصحاب إلی عدم حجیة ظاهر الکتاب، إما بدعوی اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، کما یشهد به ما ورد فی ردع

بالإفهام، وأنّه لا یعتنی باحتمال قرینة حالیة بین المتکلّم والسائل أو المخاطب ما لم یحرز، وجریان عادة المتکلّم علی الاتکال بالقرائن المنفصلة لا یقتضی سقوط ظهور الخطاب عن الاعتبار مطلقاً، بل مقتضاه الفحص عن القرینة فی موارد احتمالها والاعتماد علی أصالة الظهور بعده، هذا أولاً.

وثانیاً: لم یثبت انحصار قصد التفیهم فی الأخبار المأثورة عن النبی والأئمة صلوات اللّه وسلامه علیهم أجمعین علی السائلین والمخاطبین فقط، بل الثابت من ترغیب الأئمة علیهم السلام إلی نشر الأخبار وکتابتها وحفظ الحدیث إلی سائر الناس، وعموم القصد کما هو الحال فی خطابات الکتاب المجید أیضا، فإنّ خطاباته ذکر للعالمین کما تقدم بیان ذلک فی بحث الخطابات المشافهیة، وأما دعوی عدم جواز الاعتماد علی ظواهر الأخبار المرویة عنهم علیهم السلام لحصول التقطیع فی الأخبار عند تبویبها، ولعلّ الصدر فی بعضها کانت قرینة علی ما فی ذیلها وبالعکس فلا یمکن المساعدة علیها، فإنّ غایة ذلک اعتبار الفحص عن القرینة علی الخلاف لا الطرح بالمرة خصوصاً فیما کان التقطیع من الثقات العارفین باُسلوب الکلام والمأمونین بملاحظة الخصوصیات کأرباب الجوامع.

فی حجیة ظواهر الکتاب المجید

[1] المقام الثالث: ما ذهب إلیه الأخباریون من أصحابنا من عدم جواز الاعتماد علی ظواهر الکتاب المجید لعدم علمنا بالقرائن الاستعمالیة والمدلولات التصدیقیة

ص :80

أبی حنیفة وقتادة عن الفتوی به.

أو بدعوی أنه لأجل احتوائه علی مضامین شامخة ومطالب غامضة عالیة، لا یکاد تصل إلیها أیدی أفکار أولی الأنظار غیر الراسخین العالمین بتأویله، کیف؟ ولا یکاد یصل إلی فهم کلمات الأوائل إلاّ الأوحدی من الأفاضل، فما ظنک بکلامه تعالی مع اشتماله علی علم ما کان وما یکون وحکم کل شیء.

أو بدعوی شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوی أنه وإن لم یکن منه ذاتاً، إلاّ أنه صار منه عرضاً، للعلم الاجمالی بطروء التخصیص والتقیید والتجوز فی غیر واحد من ظواهره، کما هو الظاهر.

أو بدعوی شمول الأخبار الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی، لحمل الکلام الظاهر فی معنی علی إرادة هذا المعنی.

وإنّما یعلمها من خوطب بها ونزلت فی بیوتهم هذا هو الوجه الأول الذی ذکره الماتن، والوجه الثانی: أنّ ما فی الکتاب المجید من رموز وإشارات إلی المضامین العالیة والمطالب الشامخة الخارجة عن إدراکنا وقد لا ینال ما فی کلمات الأوایل إلاّ الأوحدی من الناس، فکیف ینال ما فی الکتاب المجید عامة الناس مع اشتماله علی علم ماکان ویکون وما هو کائن.

والوجه الثالث: العلم الإجمالی بوجود القرائن المنفصلة علی المدلولات التصدیقیة للآیات أو لجملة منها، وهذا العلم الإجمالی یوجب طروّ الإجمال علی آیات الأحکام ولو حکماً کما أشار إلی ذلک الماتن قدس سره فی ذیل الوجه الثالث من کلامه، وهو ورود النهی عن اتباع متشابهات القرآن الشامل لظواهره ولو لم یکن شمولها للظواهر متیقناً فلا أقل من احتماله.

ص :81

ولا یخفی أن النزاع یختلف صغرویاً وکبرویاً بحسب الوجوه، فبحسب غیر الوجه الأخیر والثالث یکون صغرویاً، وأما بحسبهما فالظاهر أنه کبروی، ویکون المنع عن الظاهر، إما لأنه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً، أو لکون حمل الظاهر علی ظاهره من التفسیر بالرأی، وکل هذه الدعاوی فاسدةٌ[1].

والوجه الرابع ورود النهی عن تفسیر القرآن بالرأی الشامل لحمل الکلام الظاهر فی معنی علی إرادة ذلک المعنی، ومقتضی بعض هذه الوجوه أنّه لا یحرز ظهور للکتاب المجید حتّی یدخل فی کبری حجیة الظواهر کما هو مقتضی الوجه الأول، والوجه الثانی والثالث بحسب ما ذکرنا، وأما بحسب الوجهین الأخیرین وهو مقتضی النهی عن اتباع المتشابه الشامل للظواهر أو النهی عن تفسیر القرآن بالرأی الشامل لحمل الکلام علی إرادة ظاهره خروج ظواهر الکتاب عن کبری حجیة الظواهر.

[1] الوجوه المذکورة کلّها ضعیفة لا توجب سقوط ظواهر الکتاب المجید عن الاعتبار، فإنّ دعوی کون الکتاب کلّه مجملات ورموز وإشارات إلی مطالب خارجة عن إدراکنا یکذّبها الوجدان، وما ورد فی اختصاص فهم القرآن بأهله المراد فهمه بتمامه بمحکماته ومتشابهاته، أو المراد الأخذ بتلک الظواهر قبل الفحص والسؤال عن القرینة المحتملة التی کانت عند أهل بیت العصمة والطهارة والأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام ، کما کان علیه مثل أبی حنیفة کیف وقد اُمرنا بالأخذ بالکتاب والعمل به وعرض الأخبار المتعارضة علیه وتمییز الشروط الصحیحة عن الفاسدة بمخالفتها للکتاب، مع أنّ المراد بالکتاب فی هذه الموارد ظواهره والمنع عن اتباع المتشابه یختص بمجملاته بحملها علی معنی یستحسنه الشخص بحسب نظره ورأیه، وهذا المنع غیر راجع إلی الأخذ بظواهر آیات الأحکام بعد الفحص وعدم الظفر بالقرینة علی خلاف ظواهرها، فإنّ الظاهر یسمی ظاهراً لوضوح مدلوله الاستعمالی وعدم

ص :82

أما الأولی، فإنما المراد مما دل علی اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحکماته، بداهة أن فیه ما لا یختص به، کما لا یخفی.

وردع أبی حنیفة وقتادة عن الفتوی به إنما هو لأجل الإستقلال فی الفتوی بالرجوع إلیه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلی روایاتهم والفحص عما ینافیه، والفتوی به مع الیأس عن الظفر به، کیف؟ وقد وقع فی غیر واحد من الروایات الإرجاع إلی الکتاب والإستدلال بغیر واحد من آیاته.

اشتباهه کما أنّه لا یکون الأخذ بمقتضی الظاهر بعد الفحص وعدم الظفر بخلافه من القرینة من التفسیر بالرأی.

وأما دعوی العلم الإجمالی بطروّ التخصیص والتقیید والتجوز فی غیر واحد من ظواهر الکتاب، فالجواب عنها بوجهین.

الأوّل: یحتمل أن یکون المقدار المعلوم بالتفصیل الذی یحصّله المجتهد بعد فحصه فی الأخبار بمقدار المعلوم بالإجمال من التخصیصات والتقییدات والتجوزات، وإن یحتمل زیادة المعلوم بالإجمال عنه ولکن لا أثر للعلم الإجمالی بعد احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ونظیر ذلک فی الشبهات الموضوعیة ما إذا علم بوجود شیاه محرّمة فی قطیع غنم، ثم حصل العلم التفصیلی بحرمة مقدار منها واحتمال انحصار المعلوم بالإجمال بالمقدار المعلوم بالتفصیل وهذا هو المراد من جواب الماتن أولاً.

الثانی: أن وجود القرائن فیما بأیدینا من الأخبار المأثورة عن الأئمة علیهم السلام علی خلاف ظواهر الکتاب المجید معلوم، وأما العلم بعدم إرادة الظواهر من الکتاب فی

ص :83

وأما الثانیة، فلأن احتواءه علی المضامین العالیة الغامضة لا یمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحکام وحجیتها، کما هو محل الکلام.

وأما الثالثة، فللمنع عن کون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر کون المتشابه هو خصوص المجمل، ولیس بمتشابه ومجمل.

وأما الرابعة، فلأن العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر، إنما یوجب الإجمال فیما إذا لم ینحل بالظفر فی الروایات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال.

مع أن دعوی اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما یخالفه لظفر به، غیر بعیدة، فتأمل جیداً.

وأما الخامسة، فیمنع کون حمل الظاهر علی ظاهره من التفسیر، فإنه کشف

غیر ما یکون بأیدینا من الأخبار فغیر موجود من الأول، غایته أنه محتمل وإذا أحرز بعد الفحص فیما بأیدینا من الأخبار عدم قرینة فیها علی خلاف مورد ظاهر الخطاب أخذنا فیه بظاهره لخروجه بالفحص عن أطراف العلم الإجمالی، وهذا نظیر ما علم أن فی الشیاه السود من قطیع الغنم محرّماً، وأما وجود الحرام فی البیض منها غیر معلوم بل محتمل، وإذا لم یتمیّز السود من البیض یجب الاجتناب عن الجمیع کما فی الظلمة ونحوها، وإذا امتازت لم یجب الاجتناب عن البیض وهذا توضیح ما أفاد الماتن فی الجواب ثانیاً.

ولعل وجه العدول عن الأول إلی الثانی ما یقال: من أن حدوث العلم التفصیلی فی عدة أطراف معینة من العلم الإجمالی لا یوجب انحلاله وإنْ احتمل أن المعلوم بالإجمال کان فی تلک العدة من الأطراف من الأول، کما إذا علم بنجاسة بعض الآنیة الموجودة فی البین، وبعد ذلک وقعت النجاسة فی جملة معینة منها وعلمنا ذلک

ص :84

القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلم، فلیس من التفسیر بالرأی، إذ الظاهر أن المراد بالرأی هو الإعتبار الظنی الذی لا اعتبار به، وإنما کان منه حمل اللفظ علی خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل علی محتمله بمجرد مساعدته ذاک الاعتبار، من دون السؤال عن الأوصیاء، وفی بعض الأخبار (إنما هلک الناس فی المتشابه، لأنهم لم یقفوا علی معناه، ولم یعرفوا حقیقته، فوضعوا له تأویلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلک عن مسألة الأوصیاء فیعرفونهم).

تفصیلاً، فإنّ احتمال وجود المعلوم بالإجمال فی تلک الجملة من الأول لا یوجب جواز ارتکاب البقیة بدعوی احتمال کونها خالیة عن التکلیف من الأول فیرجع فیها إلی أصالة الطهارة أو الحلیة أو غیرها من الاُصول النافیة.

ولکن لا یخفی أنّه لا موجب لهذا التوهم فإنّ الموجب للانحلال هو أن یصیر المعلوم بالإجمال الأولی معلوماً تفصیلاً فی أطراف معینة ثانیاً لا حصول موضوع التکلیف فی جملة معینة ثانیاً ولولم یکن حاصلاً فیها من قبل، فإنّ هذا لا یوجب انحلال المعلوم بالإجمال؛ لأن الأصل النافی الجاری فی البقیة قد سقط بالأصل الجاری فی الأطراف المعینة قبل وقوع المنجس فیها المعلوم تفصیلاً علی الفرض، بخلاف ما إذا علم أن جملة من الأطراف کان التکلیف فیها من السابق، فإن هذا یوجب حدوث تکلیف المعلوم بالإجمال فی البقیة من الأول، هذا وفی البین احتمال آخر لوجه عدول الماتن قدس سره عن الأول إلی الثانی بأن لازم الوجه الأول کون العمل بالظواهر بعد الفحص عن جملة منها والظفر بما یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها غیر محتاج إلی الفحص عن الظواهر الباقیة لانحلال العلم الإجمالی بخلاف الوجه الثانی، فإنّه مادام لم یفحص عن القرینة عن ظاهر من ظواهر القرآن فی الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام لم یخرج ذلک الظاهر عن دائرة المعلوم بالإجمال کما

ص :85

هذا مع أنه لا محیص عن حمل هذه الروایات الناهیة عن التفسیر به علی ذلک، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ علی ظاهره، ضرورة أنه قضیة التوفیق بینها وبین ما دل علی جواز التمسک بالقرآن، مثل خبر الثقلین، وما دل علی التمسک به، والعمل بما فیه، وعرض الأخبار المتعارضة علیه، ورد الشروط المخالفة له، وغیر ذلک، مما لا محیص عن إرادة الإرجاع إلی ظواهره لا خصوص نصوصه، ضرورة أن الآیات التی یمکن أن تکون مرجعاً فی باب تعارض الروایات أو الشروط، أو یمکن أن یتمسک بها ویعمل بما فیها، لیست إلاّ ظاهرة فی معانیها، لیس فیها ما کان نصاً، کما لا یخفی.

ودعوی العلم الإجمالی بوقوع التحریف فیه بنحوٍ: إمّا باسقاط، أو تصحیفٍ، وإن کانت غیر بعیدة[1] کما یشهد به بعض الأخبار ویساعده الإعتبار.

یظهر ذلک بالتأمل فی المثال الذی ذکرناه.

دعوی عدم اعتبار ظواهر الکتاب المجید لوقوع التحریف فیه

[1] قیل بعدم جواز العمل بظاهر الکتاب المجید لوقوع التحریف فیه والتحریف المدعی وقوعه فیه إما بإسقاط کلمة أو آیة أو بتصحیف أی استبدال کلمة باُخری کما فی استبدال أئمة باُمة علی ما روی فی قوله تعالی «کنتم خیر أُمة»(1)، وعلی الجملة التحریف بالزیادة نفیه فی الکتاب المجید أمر متسالم علیه، فإنّ المنشأ لوقوع التحریف فیه بعض الروایات الوارد فیها الاستبدال والإسقاط، وذکر الماتن قدس سره أن التحریف فیه بإسقاط أو تصحیف وإن لم تکن دعواه بعیدة لشهادة بعض الأخبار به ویناسبه بعض الاعتبارات، ولعلّ منها عدم مناسبة بعض آیة مع بعضها الآخر

ص :86


1- 1) سورة آل عمران: الآیة 110.

.··· . ··· .

کقوله سبحانه «وإن خفتم ألاّ تقسطوا فی الیتامی فانکحوا ما طاب لکم من النساء»(1) لعدم مناسبة ظاهرة بین الجزاء والشرط أو أن ما جری بعد النبی الأکرم فی مسألة الخلافة کان مناسباً للتحریف فیه، إلاّ أنّ هذا العلم لا یضرّ باعتبار آیات الأحکام لخروج غیرها من الآیات عن الابتلاء بمعنی اختصاص الحجیّة أی المنجزیة والمعذریّة بظواهر آیات الأحکام ولا اعتبار بالعلم الإجمالی فیما إذا لم یکن للمعلوم بالإجمال أثر فی بعض الأطراف، وتکون الشبهة فی أنّه کانت قرینة أو قرائن علی خلاف ظواهر الکتاب من آیات الأحکام من الشبهة البدویة، وهذا فیما إذا لم یکن الساقط متصلاً بآیات الأحکام بحیث یحتمل کونه قرینة متصلة لها فینعقد معها ظهور علی خلاف الظهور الأولی، وإلاّ فمع اتصاله بها واحتمال کونه موجباً لغلبة ظهوره الأولی فیسقط عن الاعتبار لرجوع الشک إلی قرینیة الموجود ولم تقم سیرة من العقلاء علی اتباع الظهورات الاقتضائیة فی موارد الشک فی قرینیة الموجود وصیرورته بالإضافة إلی ظهوره الفعلی مجملاً.

أقول: لا یبعد عدم اعتبار الخطابات حتی فیما إذا احتمل أنّ الساقط کان من القرینة المنفصلة لأنّ مسألة عدم تنجز العلم الإجمالی بخروج بعض أطرافه عن الابتلاء خارجة عن مسألة حجیة الظهورات بل اعتبارها مستفاد من سیرة العقلاء ولم یحرز اتباع الظهورات فی مثل الفرض، ألا تری أنّه لو وصل کتاب المولی إلی عبده ورأی أنّ بعض الکتاب ممزق قبل الوصول إلیه واحتمل أنّ فی المقدار الممزق قرینة علی المراد الجدّی لما فی صدر الکتاب یصحّ له الاعتذار فی ترک العمل بما فیه

ص :87


1- 1) سورة النساء: الآیة 3.

.··· . ··· .

حتی یستفسر الحال هذا أوّلاً:

وثانیاً: أنّ خروج غیر آیات الأحکام عن الابتلاء مبنی علی کون اعتبار الأمارة ومنها الظواهر هی عبارة عن جعل المنجزیة والمعذریة لها، وأمّا بناءً علی اعتبارها علماً بالواقع فیدخل کل ظواهره فی الابتلاء لجواز إسناد مقتضی ظواهره إلی اللّه سبحانه وأنّها مراداته، ومع فرض العلم الإجمالی بسقوط شیء من بعض الآیات وکون الساقط قرینة منفصلة لبعضها لا یمکن الإسناد المزبور، ولکن الصحیح عدم الإخلال فی ظواهر الکتاب المجید بعد الفحص عن القرینة فی الآیات الاُخری والروایات المأثورة عن المعصومین علیهم السلام وذلک لوجهین.

أولهما: أنه لو کان فی بعض الآیات قرینة متصلة أو قرینة منفصلة علی المراد فی بعض الآیات الاُخری وقد سقطت لتعرض المعصومین علیهم السلام إلی بیان المراد وموضع التحریف من تلک الآیات أو لا أقل من بیان الحکم المراد من الآیة فعدم تعرضهم لذلک یکشف عن عدم الخلل فی ذلک الظاهر.

وعلی الجملة لو فرض سقوط شیء من القرائن لبعض الآیات الراجعة إلی الأحکام لکانت تلک القرائن موجودة فی کلامهم فإنّهم مبیّنون للکتاب المجید والراسخون فی العلم بحیث کان کلامهم جبراناً لما فات من الکتاب، ومما ذکر یظهر الفرق بین الکتاب المجید علی القول بالتحریف فیه وبین الکتاب الممزق بعضه قبل وصوله إلی العبد إذا لم یعلم به المولی، وأمّا إذا علم وقال إعمل به یعلم أنّه لم یکن فی الممزق قرینة علی الخلاف.

والثانی: إنّ القرآن الموجود فی أیدی الناس فی زمانهم صلوات اللّه علیهم

ص :88

.··· . ··· .

بعینه الکتاب المجید الموجود بأیدینا، وقد أمروا الناس بالأخذ بالقرآن والعمل به فی الشروط فی المعاملات برد الشروط المخالفة له وعرض الأخبار المتعارضة علیه والأخذ بما یوافق الکتاب، فإنّ تلک الأخبار شاهدة علی عدم وقوع الخلل فی آیات الأحکام، بل لا یبعد دلالتها علی عدم التحریف فیها، حیث إنّه لو وقع التحریف فیها بحیث یقتضی طرح الخبر المأثور عنهم علیهم السلام لمنافاته مع الکتاب المجید وردّ الأمر منهم أن مورده من الکتاب محرّف مع أنّهم جعلوا سلام اللّه علیهم الکتاب المجید میزانا فی الأخذ بالخبر المأثور عنهم وردّه وضربه علی الجدار.

لا یقال: علی ما ذکر یشکل الاعتماد علی ظواهر الأخبار المرویة عنهم علیهم السلام فی الوقایع ولو کان النقل بطریق معتبر، وذلک للقطع بأنّ بعض الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام لم تصل إلینا، ولعل فیما لم یصل إلینا کان قرینة علی المراد الجدّی من بعض الواصل، وکذا یحتمل فی الأخبار الواصلة إلینا منهم أنّ بعضها کان مقترناً بکلام یعد قرینة متصلة علی خلاف الظهور الفعلی وقد سقطت عن الکلام عند وسائط النقل.

ولکن لا یخفی أنّ الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام لا تسقط عن الاعتبار بما ذکرنا، فإنّ ضیاع قرینة متّصلة من کلامهم المنقول إمّا بالدس فی الخبر أو ینشأ من غفلة بعض الرواة لاعتقاده أنّه لا دخل له فی الحکم المنقول بنقل کلامهم مع کونه فی الواقع قرینة متّصلة، والأول مدفوع بإحراز أوصاف الرواة من کونهم ثقات أو عدول وطریق النقل معهود ومألوف بین أصحاب الحدیث، والإحتمال الثانی: مدفوع بأصالة عدم الغفلة، وأمّا بالنسبة إلی الأخبار التی لم تصل إلینا وکان بین تلک الأخبار بعض الأخبار التی تعد قرینة علی المراد الجدّی لبعض الأخبار الواصلة إلینا فلا یضر

ص :89

إلاّ أنّه لا یمنع عن حجیة ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل فیها بذلک أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه فی آیات الأحکام، والعلم بوقوعه فیها أو فی غیرها من الآیات غیر ضائر بحجیة آیاتها، لعدم حجیة ظاهر سائر الآیات، والعلم الإجمالی بوقوع الخلل فی الظواهر إنما یمنع عن حجیتها إذا کانت کلها حجة،

باعتبار الظهور، فإنّ الظهور الاستعمالی حجة ما لم تثبت القرینة علی خلافها، ومن المحتمل أنّ تلک الأخبار التی لم تصل إلینا لم یکن شیء منها قرینة علی المراد الجدّی من الأخبار الواصلة، بل کانت تلک الأخبار مطابقة مع الواصل إلینا أو راجعة إلی اُمور کانت واردة فی موارد لا ترتبط بموارد مدلولات الأخبار الواصلة بأنْ کان مدلولها بیان الحکم فی الموارد التی ترجع فیها بالاُصول العملیة من غیر أنْ یتضمّن تکلیفاً لموارد الاُصول النافیة، وهذا لا یقاس بکتاب کل ما ورد فیه یکون مورداً للإبتلاء ولو بالنحو الذی ذکرنا، وقد علمنا بسقوط بعضه بالتمزیق ونحوه علی ما قیل علی القول بالتحریف فی الکتاب المجید خصوصاً مع احتمال کون الساقط قرینة متّصلة مع قطع النظر عما ذکرنا فی الجواب عنه.

هذا کله فی التحریف بمعنی الإسقاط والتبدیل، وأمّا التحریف بمعنی تأویل الآیات إلی غیر موارد نزولها أو تأویل ظواهره فهذا واقع قطعاً، وقد عبّر فی بعض الروایات بتضییع الکتاب وتحریفه وکذا علی ما قیل من التغییر فی ترتیب السور وکذا فی الحروف والإعراب فی کتابتها بالزیادة والنقیصة بما لا ینافی حفظ أصل الکلمة القرآنیة، وکذا فی قراءته من الحرکات وبعض الحروف کما یشهد بذلک عدم ثبوت تواتر القراءات أو التحریف بمعنی عدم الإعتناء ببعض مقتضی موارد نزول بعض

ص :90

وإلاّ لا یکاد ینفک ظاهر عن ذلک، کما لا یخفی، فافهم.

نعم لو کان الخلل المحتمل فیه أو فی غیره بما اتصل به، لأخلّ بحجیته، لعدم انعقاد ظهور له حینئذ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.

ثم إنّ التحقیق أنّ الإختلاف فی القراءة بما یوجب الإختلاف فی الظهور مثل «یطهرن» بالتشدید والتخفیف یوجب الإخلال بجواز التمسک [1].

آیاته أو ظهور نفس آیاته، وما بیّنه الرسول النبی صلی الله علیه و آله أو بیان ما کان فی جملة من الآیات علی ما جمعه علی علیه السلام فی المصحف الذی جمعه، فإنّ هذا کلّه خارج عن التحریف الذی حکیت دعواه عن بعض، حیث ورد فیه بعض روایات غیر صالحة للاعتماد علیها لضعفها سندا، بل عدم دلالة بعضها علی التحریف الذی أنکرنا وقوعه کما یظهر ذلک للمتضلّع فی کیفیة جمع القرآن وحفظه وکتابته واهتمام المسلمین فی حفظه وعدم قبول دعوی وجود آیة أو أکثر فی القرآن نسخت تلاوتها.

[1] إذا وقع الاختلاف فی القراءة فمع العلم الإجمالی بکون إحدی القراءات مطابقة لقراءة النبی صلی الله علیه و آله یکون المورد مع اختلاف الظهور باختلافها من إشتباه الحجة بغیر الحجة فلا یکون شیء منها معتبراً فی ظهوره حتی فیما کان بین ظهوراتها جمع عرفی، وذلک لعدم إحراز واحد منها بخصوصها هو القرآن المنزل لیؤخذ بظهوره، نعم لو کان الظهور علی بعضها أخصّ من سائرها یؤخذ بذلک الأخص لثبوت الحکم الوارد فی الآیة فیه علی کل تقدیر ویرجع فی غیره بمقتضی الحجة الاُخری من خطاب شرعی أو أصل عملی، ولکن تجوز القراءة فی الصلاة وغیرها بأی من تلک القراءات لثبوت جوازها بإحداها وجواز القراءة کذلک لا یلازم جواز العمل ولو فرض ثبوت تواتر خبر کل من القراءات عن النبی صلی الله علیه و آله کما ادّعی لکان کل منها حجة إذا کان بین مدالیلها جمع عرفی، وأمّا مع عدم الجمع العرفی لا یکون شیء منها حجة کما

ص :91

والاستدلال، لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم یثبت تواتر القراءات، ولا جواز الإستدلال بها، وإن نسب إلی المشهور تواترها، لکنه مما لا أصل له، وإنما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بینهما، کما لا یخفی.

ولو فرض جواز الإستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجیح بینها بعد کون الأصل فی تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجیة فی خصوص المؤدی، بناءً علی اعتبارها من باب الطریقیة، والتخییر بینها بناءً علی السببیة، مع عدم دلیل علی الترجیح فی غیر الروایات من سائر الأمارات، فلابد من الرجوع حینئذ إلی الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات[1].

هو الحال فی سائر المتعارضین: إلاّ أنْ یقوم دلیل علی جواز الاستدلال بکل قراءة کما تجوز القراءة بکل منها فإنّه مع قیام الدلیل کذلک لکان المتعیّن التخییر لا الترجیح بلا فرق فی ذلک بین مسلکی الطریقیة والسببیة علی ما نذکره فی بحث التعارض أنّ الأصل فی الأمارتین المتعارضتین مع التعارض التساقط حتی بناءً علی مسلک السببیة، والترجیح بإحدی المرجّحات والتخییر مع عدمه علی تقدیر تمام الدلیل علیه یختصّ بالروایات ولا یعمّ غیرها، وما ذکرنا من تواتر القراءات أو قیام الدلیل علی العمل بکل منها مجرد فرض وإلاّ فلیس تواتر فیها ولا دلیل علی جواز العمل بأی قراءة. وما یظهر عن الشیخ قدس سره من احتمال الترجیح بمرجّحات المتعارضین فی فرض عدم ثبوت جواز العمل بکل من القراءات لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ المورد مع عدم ثبوت جواز العمل کذلک من إشتباه الحجة بغیر الحجة ومورد الترجیح هو الأخبار والروایات فی فرض التعارض.

[1] إنْ کان المراد من (حینئذ) من المضاف بالظرف صورة قیام الدلیل علی جواز الاستدلال بکل قراءة کان مقتضاه جواز الاستدلال بکل من القراءتین سواء قیل

ص :92

.··· . ··· .

بمسلک الطریقیة أو السببیة، فإنّ الدلیل علی جواز القراءة بکل قراءة کما یقتضی التخییر بین القراءات عند إختلافها کذلک الدلیل علی جواز الاستدلال بکل منهما، ولا یضر بذلک کون الأصل فی المتعارضین التساقط علی الطریقیة، والتخییر علی مسلک السببیة، وإنْ کان المراد صورة عدم قیام الدلیل علی جواز الاستدلال بکل قراءة فالمناسب أنْ یقول: فلابد فی صورة اختلاف القراءات الرجوع إلی الأصل أو العموم والإطلاق حسب اختلاف المقامات من غیر حاجة إلی إضافته.

قد یقال: إنّ الاختلاف فی القراءة فی آیة «فاعتزلوا النساء فی المحیض ولا تقربوهن حتی یطهرن»(1) أو «یتطهّرن» لا یضر بالاستدلال بها، فإنّ اختلاف القراءة أو اشتباه الحجة باللاّحجة فیها یرتفع فی مقام الاستدلال بما ورد فیها «فإذا تطهّرن فأتوهن من حیث أمرکم اللّه»(2) فإنّ قوله سبحانه «فإذا تطهّرن» یعیّن الغایة فی الأمر باعتزالهن وعدم جواز الدخول بهن.

ولکن لا یخفی أنّ هذا وهم، فإنّ قوله سبحانه «فإذا تطهّرن»تفریع علی الغایة فإنْ کانت الغایة «حتی یطهرن» الظاهر فی حصول النقاء یکون التفریع للتصریح ببعض المفهوم، وإنْ کان «یتطهّرن» یکون التفریع بیان تمام مفهوم الغایة، وعلی الجملة التفریع لا یرفع الإشتباه والتردید فی الغایة، نعم لو کان قوله سبحانه «فإذا تطهّرن»بلا تفریع کان ذلک موجباً لإرتفاعهما.

ص :93


1- 1) و (2) سورة البقرة: الآیة 222.

ص :94

فصل

قد عرفت حجیة ظهور الکلام فی تعیین المرام[1]. فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزماً _ بحسب متفاهم أهل العرف _ هو ذا فلا کلام، وإلاّ فإن کان لأجل احتمال وجود قرینة فلا خلاف فی أن الأصل عدمها، لکن الظاهر أنه معه یبنی علی المعنی الذی لولاها کان اللفظ ظاهراً فیه ابتداءً، لا أنه یبنی علیه بعد البناء علی عدمها، کما لا یخفی، فافهم.

فی احتمال وجود القرینة

[1] قد تقدم أنّ للکلام ظهورین،أحدهما: المدلول الاستعمالی.

وثانیهما: المدلول التصدیقی بمعنی کون المدلول الاستعمالی مطابقاً للمراد الجدّی للمتکلّم، وإذا اُحرز المدلول الاستعمالی ببرکة العلم بالوضع أو بالقرینة وعدم ثبوت قرینة علی تخالفهما یؤخذ بمقتضی الموافقة المعبّر عن ذلک بحجیّة الظهور الاستعمالی علی المراد الجدّی بلا فرق بین أن یکون احتمال تخالفهما ناشئا عن اتکال المتکلّم علی قرینة منفصلة متقدمة أو متأخرة لم یظفر بها بعد الفحص والیأس عن الظفر بها، أو عدم ذکر القرینة علی التخالف لمصلحة فی إخفائها أو أنّ کلام المتکلّم وصل إلینا بطریق النقل ولم ینقل الراوی تلک القرینة الدالّة علی مراده الجدّی، ففی جمیع ذلک یؤخذ بالظهور الاستعمالی المحرز لکونه حجة علی المراد الجدّی، والتعبیر بأصالة العموم أو الإطلاق بعد عدم الظفر بالمخصص والمقیّد والقرینة علی ارادة التخلف مما جرت علیه سیرة العقلاء، وأمّا الاُصول التی یحرز بها المدلول الإستعمالی للکلام فنقول: الشک فی المدلول الإستعمالی له صور:

الأولی: ما إذا علم أوضاع الألفاظ والهیئات الواردة فی الخطاب ومع ذلک

ص :95

وإن کان لإحتمال قرینیة الموجود فهو، وإن لم یکن بخالٍ عن الإشکال __ بناءً علی حجیة أصالة الحقیقة من باب التعبد __ إلاّ أن الظاهر أن یعامل معه معاملة المجمل، وإن کان لأجل الشک فیما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفاً، فالأصل یقتضی عدم حجیة الظن فیه، فإنه ظن فی أنه ظاهر، ولا دلیل إلاّ علی حجیة الظواهر.

نعم نسب إلی المشهور حجیة قول اللغوی بالخصوص فی تعیین الأوضاع، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء علی ذلک، حیث لا یزالون یستشهدون بقوله فی مقام الإحتجاج بلا إنکار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض

یشک فیه لاحتمال وجود قرینة حالیة أو مقالیة متصلة بالخطاب ولم تصل تلک القرینة إلی من وصل إلیه ذلک الخطاب لغفلة الناقل أو سامع الخطاب، وفی مثل ذلک لا ینبغی التأمل فی عدم الإعتناء بإحتمالها، والظاهر أن المعتبر فی الفرض نفس الظهور الاستعمالی الإقتضائی لا أصالة عدم القرینة کما یظهر من بعض کلمات الشیخ قدس سره وتبعه غیره، بدعوی أنّ الظهور الفعلی هو المعتبر ولو کان إحرازه بأصالة عدم القرینة أو أصالة عدم الغفلة من المتکلم أو السامعین والناقلین بعد السماع؛ ولذا لا یعملون بکتاب بعضه ممزق مع إحتمال قرینة صارفة عن الظاهر فی الجزء التالف، وکذا الحال فیما إذا عرض للسامع نوم حین تکلّم المتکلّم.

أقول: قد عرفت سابقاً حال الکتاب الممزق وغیره وأن العمل بالظهورات کانت فعلیة أو اقتضائیة بسیرة العقلاء ولا اعتبار عندهم بالظهور الإقتضائی فی موارد العلم بغفلة السامع، واحتمال ذکر المتکلّم قرینة فی فترة غفلته وعدم تحقق الظهور الفعلی مع إحتمال القرینة المتصلة وعدم إعتباره مع إحتمال القرینة المنفصلة فی تلک الفترة.

الثانیة: ما إذا شک فی المدلول الاستعمالی لإحتمال قرینیة الموجود کما فی

ص :96

دعوی الاجماع علی ذلک.

وفیه: أن الإتفاق _ لو سلم اتفاقه _ فغیر مفید، مع أن المتیقن منه هو الرجوع إلیه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

والإجماع المحصل غیر حاصل، والمنقول منه غیر مقبول، خصوصاً فی مثل المسألة مما احتمل قریباً أن یکون وجه ذهاب الجل لولا الکل، هو اعتقاد أنه مما اتفق علیه العقلاء من الرجوع إلی أهل الخبرة من کل صنعة فیما اختص بها.

والمتیقن من ذلک إنما هو فیما إذا کان الرجوع یوجب الوثوق والإطمئنان، ولا یکاد یحصل من قول اللغوی وثوق بالأوضاع، بل لا یکون اللغوی من أهل خبرة ذلک، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الإستعمال، بداهة أن همه ضبط موارده،

الأمر الواقع عقیب توهم الحظر أو الحظر حیث یحتمل أنْ یکون الحظر السابق أو توهّمه مما إعتمد علیه المتکلّم فی إرادته الترخیص من الأمر، وفی مثل ذلک لا اعتبار بأصالة عدم القرینیة ولا بالظهور الإقتضائی.

الثالثة: أنّ الشک فی المدلول الإستعمالی لعدم العلم بوضع اللفظ الوارد فی خطاب المولی ولا ینبغی التأمل فی أنّ الظن بالمدلول الإستعمالی لا اعتبار به، کما لا اعتبار بالظن فی سائر المقامات علی ما تقدم، ولکن المشهور علی ما حکی عنهم علی اعتبار قول اللغوی فی تشخیص المدلول الإستعمالی وتعیین المعنی الظاهر من اللفظ وأنّ قوله من الظن الخاصّ، ویقال: فی وجه ذلک اُمور؛ الأول: مراجعة اللغوی من أهل الخبرة فی معانی الألفاظ وأوضاعها، قد جرت سیرة العقلاء علی المراجعة فی کلّ اُمر إلی أهل خبرة ذلک الأمر والأخذ بقوله فیه مع عدم المعارضة بل معها إذا کان أحدهم أکثر خبرة من الباقی من غیر اعتبار التعدد والعدالة، واعتبار العدالة فی الفقیه المعتبر قوله لکونه من أهل الخبرة فی استنباط الأحکام واستخراجها من

ص :97

لا تعیین أن أیّاً منها کان اللفظ فیه حقیقة أو مجازاً، وإلاّ لوضعوا لذلک علامة، ولیس ذکره أولاً علامة کون اللفظ حقیقة فیه، للانتقاض بالمشترک.

وکون موارد الحاجة إلی قول اللغوی أکثر من أن یحصی، لإنسداد باب العلم بتفاصیل المعانی غالباً، بحیث یعلم بدخول الفرد المشکوک أو خروجه، وإن کان المعنی معلوماً فی الجملة لا یوجب اعتبار قوله، ما دام انفتاح باب العلم بالأحکام، کما لا یخفی، ومع الإنسداد کان قوله معتبراً إذا أفاد الظن، من باب حجیة مطلق

مدارکها، وکذا فی القاضی ثبت بدلیل خاصّ لا لإعتبارها فی سماع قول أهل الخبرة.

الثانی: دعوی الإجماع وأن الرجوع إلی أهل اللغة وکتبهم مما علیه دأب العلماء فی کل عصر وفیه أنه لیس فی البین إجتماع تعبّدی حیث کان الرجوع إلی کتب أهل اللغة لکون الرجوع إلیها مع خصوصیة مورد الخطاب قد یوجب العلم والإطمینان بالمراد، وأمّا دعوی کونهم من أهل الخبرة ففیها أنّه یعتبر فی أهل الخبرة کون الأمر المزبور مما للحدس دخل فیه بحیث یختصّ ببعض الأشخاص، کما فی تشخیص المرض والقیمة السوقیة لمثل الدور والجواهر لا فی الاُمور التی یمکن الإطلاع علیها بالحس من کلّ شخص کالإستماع إلی خطابات أهل المحاورة، ورؤیة الهلال، والنظر إلی الاُفق فی إحراز الغروب وطلوع الشمس، فإنّ المخبر بهذه الاُمور ونحوها یعتبر قوله من جهة الشهادة أو الخبر هذا أولاً، وثانیاً: علی تقدیر کون اللغوی من أهل الخبرة فهو بالإضافة إلی معانی الألفاظ أی المستعمل فیه لها، وأمّا أن استعماله فی أی منها بالوضع وظاهر فیه عند الإطلاق وفی الباقی بالعنایة والمجاز، فلیس تعیین ذلک من عهدته، ولذا لا یذکرون فی کتبهم للحقیقة والمجاز علامة وذکر معنی من المعانی أولاً لا یکون علامة لکون استعماله فیه بالوضع کما یشهد بذلک ذکرهم المعانی للمشترک.

ص :98

الظن، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصیلها فیما عدا المورد.

نعم لو کان هناک دلیل علی اعتباره، لا یبعد أن یکون انسداد باب العلم بتفاصیل اللغات موجباً له علی نحو الحکمة لا العلة.

لا یقال: علی هذا لا فائدة فی الرجوع إلی اللغة.

فإنه یقال: مع هذا لا تکاد تخفی الفائدة فی المراجعة إلیها، فإنه ربما یوجب القطع بالمعنی، وربما یوجب القطع بأن اللفظ فی المورد ظاهر فی معنی __ بعد الظفر به وبغیره فی اللغة __ وإن لم یقطع بأنه حقیقة فیه أو مجاز، کما اتفق کثیراً، وهو یکفی فی الفتوی.

وأمّا الأمر الثالث الذی ذکره البعض دلیلاً علی اعتبار قول اللغوی دعوی إنسداد باب العلم فی معانی الألفاظ المستعملة فی اللغات ولو من حیث سعة معنی اللفظ وضیقه، فإن مثل معنی لفظ الماء من أوضح الألفاظ من حیث المعنی مع أن معناه من حیث السعة بحیث یصدق علی الماء الصناعی أو السیل الغلیط ونحو ذلک مجهول، فیکون قول اللغوی معتبرا لکونه القدر المتیقّن من الظنّ، وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بأنه لو أن باب العلم والعلمی فی الأحکام الشرعیة فی الوقایع مفتوحا بحیث لا یلزم فی الوقایع الخالیة عن العلم والعلمی محذور من الرجوع إلی الأصل العملی فلا یفید فیها قول اللغوی، وإنْ کان باب العلم باللغات منسدا وإنْ لم یکن باب العلم والعلمی فی الأحکام الشرعیة مفتوحا فالمتعین العمل بالظنّ فیها ولو کان حاصلاً من قول اللغوی حتّی مع فرض انفتاح باب العلم باللغات.

أقول: الظاهر دعوی المستدل الإنسداد الصغیر وهو ثبوت بعض التکالیف فی الوقایع التی لا یحرز فیها ظاهر الخطابات الشرعیة بحیث یلزم من العمل فیها بالاُصول العملیة المخالفة فی ذلک البعض، لذا یتعیّن فیها العمل بالظنّ الحاصل من

ص :99

.··· . ··· .

قول اللغوی، والجواب کون الرجوع إلی الأصل العملی موجباً للمخالفة غیر محرز، وعلی تقدیر لزومها یلتزم بالاحتیاط فیها، وهذا الاحتیاط لا یوجب الحرج فضلاً عن إختلال النظام کما کان ذلک مفروضاً فی إنسداد باب العلم فی معظم الأحکام الشرعیة.

ص :100

فصل

الإجماع المنقول بالخبر الواحد حجة عند کثیر ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص من جهة أنّه من أفراده[1]. من دون أن یکون علیه دلیل بالخصوص، فلا بد فی اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها. وتحقیق القول فیه یستدعی رسم أمور:

الإجماع المنقول

اشارة

[1] قد ذکر الشیخ قدس سره أنّه قدّم البحث فی اعتبار الإجماع المنقول بالخبر الواحد علی البحث فی اعتباره للتعرض بالملازمة بین اعتبار الخبر الواحد واعتباره وعدمها، حیث إنّ أکثر من ذهب الی اعتبار الإجماع المنقول ذکروا أنّه من أفراد الخبر الواحد فیعمّه ما دلّ علی اعتباره.

أقول: المناسب تأخیر البحث فی الإجماع المنقول عن البحث فی اعتبار الخبر الواحد حتی یلاحظ ما دلّ علی اعتبار الخبر الواحد، ویتّضح عمومه أو إطلاقه بالإضافة إلی الإجماع المنقول وعدمه.

وعلی الجملة لا مورد عندهم لدعوی اعتبار الإجماع المنقول بالخبر الواحد مع عدم اعتبار الخبر الواحد، وإنّما یجری إحتمال اعتباره بعد فرض قیام الدلیل علی اعتبار الخبر الواحد بدخوله فی ذلک الدلیل لکونه من أفراده، وهذا یقتضی الفراغ عن ملاحظة ذلک الدلیل، وکیف کان ینبغی فی المقام ذکر اُمور:

الأول: أنّ المخبر به فی الخبر الواحد علی أنحاء، أولها: أنْ یکون أمرا حسیّا بنفسه کسماع قول أو رؤیة واقعة إلی غیر ذلک، ثانیها: أنْ یکون أمراً حدسیّا ولکن له

ص :101

الأول: إن وجه اعتبار الإجماع، هو القطع برأی الإمام علیه السلام ، ومستند القطع به لحاکیه _ علی ما یظهر من کلماتهم _ هو علمه بدخوله علیه السلام فی المجمعین شخصاً، ولم یعرف عیناً، أو قطعه باستلزام ما یحکیه لرأیه علیه السلام عقلاً من باب اللطف، أو عادة أو اتفاقاً من جهة حدس رأیه، وإن لم تکن ملازمة بینهما عقلاً ولا عادة، کما هو طریقة المتأخرین فی دعوی الإجماع، حیث إنهم مع عدم الإعتقاد بالملازمة العقلیة ولا الملازمة العادیة غالباً وعدم العلم بدخول جنابه علیه السلام فی المجمعین عادة، یحکون الإجماع کثیراً، کما أنه یظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند فی دعوی الإجماع إلی العلم بدخوله علیه السلام وممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه استند إلی قاعدة اللطف.

هذا مضافاً إلی تصریحاتهم بذلک، علی ما یشهد به مراجعة کلماتهم، وربما

آثار حسیّة بحیث یکون حس تلک الآثار یعد حسّا له، کإحراز عدالة شخص بالممارسة معه مدة بحیث یطّلع فیها عادة علی حالته النفسانیّة من ملکة العدالة وإیمانه الموجب لاستقامته فی دینه وکإحراز شجاعة الشخص وقوة نفسه إلی غیر ذلک وثالثها: أنْ یکون المخبر به أمرا حدسیّا وله آثار ومقارنات خارجة عن الحسّ وبعیدة عنه کلاً أو بعضا، ورابعها: أنْ یکون أمرا یمکن إحرازه بالحسّ ولو بمقدمات أو آثار محسوسة ویمکن إحرازه بمقدمات إحرازیة بعیدة عن الإحساس کلاًّ أو بعضا.

ثم بناء علی اعتبار الخبر الواحد یکون الخبر معتبرا فی القسمین الأولین إذا کان المخبر به موضوعا للحکم الشرعی أو نفس الحکم الشرعی، أو کان الإخبار به موضوعاً لحکم شرعی، وأمّا الإخبار فی القسم الثالث فلا یکون فی البین اعتبار إلاّ فیما کان المخبر من أهل خبرة ذلک الأمر الموضوع لحکم شرعی ویکون حدسه معتبرا بالإضافة إلی غیر المتمکن من الحدس به وهذا داخل فی الرجوع إلی أهل

ص :102

یتفق لبعض الأوحدی وجه آخر من تشرفه برؤیته علیه السلام وأخذه الفتوی من جنابه، وإنما لم ینقل عنه، بل یحکی الإجماع لبعض دواعی الإخفاء.

الأمر الثانی: إنه لا یخفی اختلاف نقل الإجماع، فتارة ینقل رأیه علیه السلام فی ضمن نقله حدساً کما هو الغالب، أو حساً وهو نادر جداً، وأخری لا ینقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله، عقلاً أو عادة أو اتفاقاً، واختلاف ألفاظ النقل أیضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً فی ذلک، أی فی أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.

الأمر الثالث: إنه لا إشکال فی حجیة الإجماع المنقول بأدلة حجیة الخبر، إذا کان نقله متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل بأن نقله کذلک فی زمان الغیبة موهون جداً، وکذا إذا لم یکن متضمناً له، بل کان ممحضاً لنقل السبب

الخبرة، وأمّا الإخبار بالنحو الرابع فالظاهر کما یأتی اعتبار الخبر فیه أیضا ما لم تقم قرینة عامة أو خاصّة علی أنّ المخبر قد اعتمد فی إخباره به علی حدسه.

الأمر الثانی: أنّ اعتبار الخبر فیما کان المخبر به حکماً شرعیا نفسیاً أو طریقیاً أو کان موضوعا لأحدهما وکان الإخبار به علی النحوین الأولین أو بالنحو الرابع من المذکورات فی الأمر السابق ظاهر، وأمّا إذا لم یکن بنفسه حکما شرعیا أو موضوعا له بل ملازما للحکم أو الموضوع له فاعتبار الخبر فیه یختص بمورد یری المنقول إلیه الملازمة بین المخبر به وذلک الحکم أو الموضوع.

وبتعبیر آخر: لو کان المخبر صادقاً فیما أخبر به لکانت الملازمة بینه وبین الحکم الشرعی أو موضوعه تامة فإنّ فی مثل ذلک یعتبر الخبر وذلک لکون الدلیل علی اعتبار خبر الثقة أو العدل السیرة العقلائیة الجاریة فی المتشرعة أیضا وهم لا یفرقون فی الإعتماد علی الخبر بین هذا الفرض وبین ما کان المخبر به بنفسه أثرا أو ذا أثر عندهم، ألا تری أنّه لو سقطت طائرة رکاب وتلاشت کلیّا بحیث لا یسلم

ص :103

عن حس، إلاّ أنه کان سبباً بنظر المنقول إلیه أیضاً عقلاً أو عادة أو اتفاقاً، فیعامل حینئذ مع المنقول معاملة المحصل فی الإلتزام بمسببه بأحکامه وآثاره.

وأما إذا کان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إلیه ففیه إشکال، أظهره عدم نهوض تلک الأدلة علی حجیته، إذ المتیقن من بناء العقلاء غیر ذلک، کما أن المنصرف من الآیات والروایات ذلک، علی تقدیر دلالتهما، خصوصاً فیما إذا رأی المنقول إلیه خطأ الناقل فی اعتقاد الملازمة، هذا فیما انکشف الحال.

عادة فی مثله أحد من رکابها، فلو أخبر ثقة أو جماعة من الثقات بأنّهم رأوا زیداً أنّه رکبها قبل إقلاعها وأنّه کان من رکّابها فیحکمون بموته حتی فیما إذا لم یر المخبر بسقوطها الملازمة بین سقوطها وموت جمیع رکّابها، وأمّا إذا لم تکن هذه الملازمة عند المنقول إلیه فلا یعتمد علی الخبر المزبور فی موت زید حتی فی صورة اعتقاد المخبر بالملازمة بینهما، ولو أخبر ثقة بأنّ زیدا سافر إلی بلد تکون نار الحرب فیه مشتعلة ویری المخبر بذلک الملازمة بین دخوله ذلک البلد والهلاک، ولا یری المنقول إلیهم هذه الملازمة فإنّهم لا یعتمدون علی الخبر المزبور بالإضافة إلی موت زید.

الأمر الثالث: أنّ الإجماع وهو اتفاق العلماء علی الفتوی بحکم فی مسألة لا یکون بنفسه حکما شرعیا أو موضوعا لحکم شرعی بالإضافة إلی المجتهد عندنا إلاّ بالإضافة إلی نفس الإخبار بالاتفاق، وأما بالإضافة إلی نقل قول المعصوم علیه السلام بکون إخبار الناقل به إمّا بالحسّ کما إذا سمع الحکم عن کل واحد من جماعة یعلم أنّ أحدهما الإمام علیه السلام فیروی قوله علیه السلام فی ضمن نقل أقوالهم، ولکن نقل قوله علیه السلام من ناقلین للإجماع کذلک خصوصاً فی زمان الغیبة موهون جدا، لأنّ احتمال تشرف

ص :104

وأما فیما اشتبه، فلا یبعد أن یقال بالإعتبار، فإن عمدة أدلة حجیة الأخبار هو بناء العقلاء، وهم کما یعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، یعملون به فیما یحتمل کونه عن حدس، حیث إنه لیس بناؤهم إذا أخبروا بشیء علی التوقف والتفتیش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل علی طبقه والجری علی وفقه بدون ذلک، نعم لا یبعد أن یکون بناؤهم علی ذلک، فیما لا یکون هناک أمارة علی الحدس، أو اعتقاد الملازمة فیما لا یرون هناک ملازمة.

هذا لکن الإجماعات المنقولة فی ألسنة الأصحاب غالباً مبنیة علی حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ینکشف أن نقل السبب کان مستنداً إلی الحس، فلا بد فی الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار

الناقل فی خدمة إمام العصر «عجل اللّه تعالی فرجه الشریف» وأخذ الحکم منه، ونقل قوله علیه السلام لذلک لبعض دواعی الإخفاء وإنْ کان أمرا ممکنا ولکن احتماله موهون خصوصا بملاحظة کلمات کثیر من نقلة الإجماع حیث یذکرون فی وجه اعتباره ما لا یناسب إحراز قوله علیه السلام کذلک.

ومنها أنْ یکون إحراز قوله علیه السلام بالحدس إمّا بقاعدة اللطف التی اعتمد علیها الشیخ قدس سره واعتبر الإجماع علی تلک القاعدة بدعوی أنّه یجب علی اللّه سبحانه اللطف بالعباد بإرشادهم إلی ما یقرّبهم إلیه سبحانه وإلی ما یجب علیهم الاجتناب عنه وکون ارتکابه موجباً للبعد عنه تعالی، وعلی ذلک فإنْ اتفق علماء العصر علی حکم یعلم أنّه موافق لحکم الإمام علیه السلام وإلاّ یکون مقتضی قاعدة اللطف أنْ یظهر الخلاف بین الرعیة لئلا یقع العباد فی خلاف الحق والباطل.

وبتعبیر آخر یجب علی الإمام علیه السلام عند اتفاق العلماء علی خلاف الحق أنْ یلقی الخلاف بینهم علی ما هو مقتضی اللطف الموجب لنصبه لکل عصر.

ص :105

مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فیؤخذ بذاک المقدار ویعامل معه کأنه المحصل، فإن کان بمقدار تمام السبب، وإلاّ فلا یجدی ما لم یضم إلیه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به تم، فافهم.

فتلخص بما ذکرنا: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حکایته رأی الإمام علیه السلام بالتضمن أو الإلتزام، کخبر الواحد فی الإعتبار إذا کان من نقل إلیه ممن یری الملازمة بین رأیه علیه السلام وما نقله من الأقوال، بنحو الجملة والإجمال، وتعمه أدلة اعتباره، وینقسم بأقسامه، ویشارکه فی أحکامه، وإلاّ لم یکن مثله فی

ولکن لا یخفی أنّ الاعتماد علی هذه الطریقة فی استظهار قوله علیه السلام ضعیف غایته، فإنّ اللطف الواجب علی اللّه بمقتضی حکمته تشریع الأحکام وإیصالها إلی العباد بالنحو المتعارف، وإذا اتفق علماء الاُمة علی خلاف الحق فی بعض تلک الأحکام الواقعیة بفعل بعض الظلمة الذین سدّوا طریق وصول بعض الخطابات الشرعیّة إلی العباد فی بعض الأزمنة فربّما تکون المصلحة فی ترکهم بحالهم فترة فی العمل علی مقتضی الخطابات الاُخری والاُصول العملیّة خصوصا فیما کان خطاءُهم بحسب الإلتزام فقط کما إذا اتفق العلماء علی حرمة فعل کان فی الواقع مباحاً أو علی وجوب فعل کان فی الواقع مستحبا ولذا لا یمکن الاعتقاد بأنّه إذا انحصر الفقیه فی عصر بشخص أو شخصین تکون فتواه أو فتواهما مطابقا للحکم الواقعی لا محالة وقد یورد علی قاعدة اللطف بالنحو الذی ذکر بأنّه لو کان مقتضاها إظهار الإمام علیه السلام ما عنده من الحکم الواقعی بلا إثبات إمامته فلا فائدة فی إظهار الخلاف بصورة دعوی الحکم الشرعی وإذا کان مع إثبات أنّه إمام علیه السلام لیؤخذ بقوله فلزوم الإظهار کذلک مقطوع العدم.

ص :106

الإعتبار من جهة الحکایة.

وأما من جهة نقل السبب، فهو فی الإعتبار بالنسبة إلی مقدار من الأقوال التی نقلت إلیه علی الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت علی التفصیل، فلو ضم إلیه مما حصله أو نقل له _ من أقوال السائرین أو سائر الأمارات _ مقدار کان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، کان المجموع کالمحصل، ویکون حاله کما إذا کان کله منقولاً، ولا تفاوت فی اعتبار الخبر بین ما إذا کان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فیه وبه قوامه، کما یشهد به حجیته بلا ریب فی تعیین حال السائل، وخصوصیة القضیة الواقعة المسؤول عنها، وغیر ذلک مما

وفیه أنّه یمکن للإمام علیه السلام إثبات ماعنده من الحکم الواقعی بطریق الإستدلال لعالم شاخص فی الرعیة ولو بنحو الاستدلال علی خطئه فی مسائل اُخری بحیث یوجب ذلک رجوعه إلی ذلک القول ولو مع عدم الإلتفات إلی أنّه الإمام علیه السلام .

وبتعبیر آخر لا ینحصر إظهار الخلاف بأحد فرضین فی کلامه بل یمکن ببعض وجوه اُخری ولو کان ذلک موجباً لعلم بعض علماء العصر أو العالم الشاخص فیما بعد أنّه کان الإمام علیه السلام روحی وأرواح العالمین لمقدمه الشریف الفداء.

وإمّا أنْ یکون الحدس بقوله علیه السلام باعتقاد الملازمة بین اتفاق العلماء أو المشاهیر منهم علی حکم، وقوله علیه السلام بذلک الحکم وطریق الحدس أنّ ناقل الإجماع بالظفر بفتوی بعض العلماء الکبار بحکم یحصل له الظنّ بأنّه هو الحکم الواقعی ویقوی هذا الظنّ شیئاً فشیئاً بالظفر بفتاوی سائر العلماء حتی یبلغ ظنّه مرتبة الاطمینان بل إلی العلم بالحکم الواقعی، وإنْ شئت فلاحظ من وصلت إلیه الأخبار عن حادثة ما، شیئاً فشیئاً فإنّه بکثرة النقل عن تلک الحادثة یقوی الظنّ بها إلی أنْ تصل کثرة النقل بحیث توجب الإطمینان أو العلم بها.

ص :107

له دخل فی تعیین مرامه علیه السلام من کلامه.

وینبغی التنبیه علی أمور:

الأول: إنه قد مر أن مبنی دعوی الإجماع غالباً، هو اعتقاد الملازمة عقلاً، لقاعدة اللطف، وهی باطلة، أو اتفاقاً بحدس رأیه علیه السلام من فتوی جماعة، وهی غالباً غیر مسلّمة، وأما کون المبنی العلم بدخول الإمام علیه السلام بشخصه فی الجماعة، أو العلم برأیه للإطلاع بما یلازمه عادة من الفتاوی، فقلیل جداً فی الإجماعات المتداولة فی ألسنة الأصحاب، کما لا یخفی، بل لا یکاد یتفق العلم بدخوله علیه السلام علی نحو الإجمال فی الجماعة فی زمان الغیبة، وإن احتمل تشرف بعض الأوحدی بخدمته ومعرفته أحیاناً، فلا یکاد یجدی نقل الإجماع إلاّ من باب نقل

وفیه أنّ التوافق فی الفتاوی مجرد إحرازه لا یوجب الاطمینان بالحکم الواقعی فضلاً عن الیقین به؛ لأنّ الفتوی حدس من المفتی بحکم الواقعة ویمکن فیه الخطأ من الجلّ والمعظم بخلاف الإخبار بحادثة یقع بها الحسّ، فإنّ کثرة الحسّ توجب الاطمینان والعلم بعدم الخطأ فیه، وإذا کان هذا حال رؤیة کثرة الحدس فلا یزید نقله عن تحصیله، وهذا فیما کان أمر أو اُمور یطمئنّ الشخص أو یحتمل أنّها مستند فتوی العلماء، وقد یکون فی مسألة خصوصیّة یکون إحراز اتفاق العلماء فی حکمها موجباً للحدس بالحکم الواقعی أو قول المعصوم علیه السلام اطمینانا أو علما، کما إذا کان الحکم المتّفق علیه مخالفا للأصل ولا سبیل للعقل إلیه، ولا دلالة فی الکتاب المجید أو فی الأخبار الواصلة إلینا علیه، فإنّه مع ملاحظة ذلک ولحاظ أنّ فقهاءنا قدس سرهم عدول لا یحکمون بحکم بغیر مستند له، فیعلم أنّه کان فی البین ما یصلح مدرکا له لم یصل إلینا ذلک المدرک ولو کان ذلک من قبیل تسالم المتشرعة علی الحکم فی ذلک الزمان وکونه من مرتکزاتهم المتلقاة من أئمتهم علیهم السلام ، وإذا کان الإجماع کذلک فإنْ اُحرز

ص :108

السبب بالمقدار الذی أحرز من لفظه، بما اکتنف به من حال أو مقال، ویعامل معه معاملة المحصل.

الثانی: إنه لا یخفی أن الإجماعات المنقولة، إذا تعرض اثنان منها أو أکثر، فلا یکون التعارض إلاّ بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض فی البین، لإحتمال صدق الکل، لکن نقل الفتاوی علی الإجمال بلفظ الإجماع حینئذ، لا یصلح لأن یکون سبباً، ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فیها، إلاّ إذا کان فی أحد المتعارضین خصوصیة موجبة لقطع المنقول إلیه برأیه علیه السلام لو اطلع علیها، ولو مع اطلاعه علی الخلاف، وهو وإن لم یکن مع الإطلاع علی الفتاوی علی اختلافها

بالنقل أنّ الإجماع المنقول کذلک فاللازم رعایته ولو بالاحتیاط فی مورده.

الأمر الرابع: أنّه یتعیّن ملاحظة نقل الإجماع فی المسائل فإنْ کان فی مسألة یمکن فیها الوصول إلی ما یحتمل استناد المجمعین إلیه فلا أثر لذلک النقل وإنْ لم یکن فی المسألة ما یحتمل الاستناد إلیه وکان نقله معارضاً بنقل الخلاف فیسقط نقله عن الاعتبار، وکذا لو کانت فی البین قرینة علی أنّ ناقل الإجماع لم یحرز الاتفاق بالحسّ بل بالحدس بأنْ استفاد اتفاقهم علی ذلک الحکم من اتفاقهم علی أصل أو قاعدة معتمد علیها عندهم کدعوی السید المرتضی قدس سره الإجماع علی جواز الوضوء بالمضاف واستفادة اتفاقهم علیه من تسالمهم علی قاعدة الحل وأصالة البراءة.

الأمر الخامس: قد ظهر مما تقدم حکم نقل الإجماع بالإضافة إلی قول المعصوم علیه السلام المعبّر عنه فی عبارة الماتن بنقل المسبّب وأنّه لا ملازمة بین اتفاقهم علی حکم وکونه موافقا للحکم عند الإمام علیه السلام، وأما اعتبار نقله بالإضافة الی اتفاق العلماء علی الفتوی المعبّر عنه فی کلامه قدس سره بالسبب فیتّبع فیه کلام الناقل بملاحظة القرائن من حاله فی الاطلاع علی فتاوی العلماء وخصوصیة المسألة من

ص :109

مفصلاً ببعید، إلاّ أنه مع عدم الاطلاع علیها کذلک إلاّ مجملاً بعید، فافهم.

الثالث: إنه ینقدح مما ذکرنا فی نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حیث المسبب لا بد فی اعتباره من کون الإخبار به إخباراً علی الإجمال بمقدار یوجب قطع المنقول إلیه بما أخبر به لو علم به، ومن حیث السبب یثبت به کل مقدار کان إخباره بالتواتر دالاًّ علیه، کما إذا أخبر به علی التفصیل، فربما لا یکون إلاّ دون حد التواتر، فلا بد فی معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار، یبلغ المجموع ذاک الحد.

نعم، لو کان هناک أثر للخبر المتواتر فی الجملة _ ولو عند المخبر _ لوجب ترتیبه علیه، ولو لم یدل علی ما بحد التواتر من المقدار.

کونها معنونة فی الکتب من قدیم الزمان أو فی ذلک الزمان ونحو ذلک، فإنْ کان المنقول بحیث لو کان محرزاً لنا بالوجدان وبنحو التحصیل کان موجبا للوثوق بالحکم الواقعی بنفسه أو بضمیمة الاتفاق الحاصل بعد زمان الناقل أیضا فیعتبر، حیث یکفی فی اعتبار الخبر کون المخبر به دخیلاً فی إحراز الحکم الشرعی کما فی اعتبار الخبر بوثاقة الراوی أو سؤال الراوی الدخیل فی ظهور الجواب عنه، وقد ذکر الماتن قدس سره أنّه ربّما یکون الاتفاق المحرز بنقل الإجماع بحیث علی تقدیر تحصیله مع ضمیمة سائر الأمارات التی یحصّلها المنقول إلیه بمقدار السبب التام فیعتبر، ولکن لا یخفی أنّه لو کان فی البین سائر الأمارات یحتمل کون مدرک الاتفاق بعضها أو کلها فلا یبقی لإحراز قول المعصوم علیه السلام من ذلک الاتفاق مجال.

ص :110

فصل

مما قیل باعتباره بالخصوص الشهرة فی الفتوی[1].

الشهرة فی الفتوی

[1] یقع الکلام فی الشهرة فی الفتوی فی جهتین.

الاُولی: هل کونها من الأمارات المعتبرة بالخصوص بالإضافة إلی الحکم الشرعی الذی اشتهرت الفتوی به ولا یلتفت ما فی مقابله بالقول الشاذّ والنادر.

والثانیة: هل تکون الشهرة فی الفتوی بمضمون روایة فی طریقها ضعف جابرة لها بحیث تکون بموافقتها الفتوی المشهورة صالحة للاعتماد علیها فی الفتوی بها، وأنّ الروایة ولو صحّ سندها ولکنها بفتوی المشهور علی خلاف مدلولها تکون ساقطة عن الاعتبار فلا یمکن الفتوی بمدلولها علی ماهو المعروف فی الألسنة من أنّ عمل المشهور بروایة جابر لضعفها، وإعراضهم عنها موهنٌ لها، أمّا الکلام فی الجهة الاُولی فقد یقال: إنّه یستفاد اعتبارها بنفسها مما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة من الأمر بالأخذ بالمجمع علیه بین أصحابک(1)، وفی المشهور من الأمر بالأخذ بما اشتهر بینهم(2)، ولکن لا یخفی أنّ الروایتین ناظرتان إلی الشهرة فی الروایة بأنْ تکون إحداهما مشهورة بحسب النقل والاُخری شاذّة بحسبه، وهذا یوجب الأخذ بالروایة المشهورة وترک الروایة الشاذّة.

ص :111


1- 1) وسائل الشیعة 27:106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث الأوّل.
2- 2) مستدرک الوسائل: 17:303، الباب 9 من أبواب کتاب القضاء، الحدیث 2. عن عوالی اللآلی 4:133.

.··· . ··· .

وبتعبیر آخر کلمة (ما) فی الروایتین وإنْ کانت موصولة والموصول من المبهمات یکون تعیینه بالصلة، إلاّ أنْ التعیین فیه لا ینحصر علی الصلة فقط فإنّه إذا وقع الموصول فی الجواب عن السؤال عن شیء یکون المراد منه ذلک الشیء، وکذا الحال إذا کان مورد وروده شیئا، مثلاً إذا قیل: أی الدارین أحب إلیک؟ فأجبت: ما کان منهما أکبر، فلا یقتضی کون کل أکبر من کل شیء أحب من غیر الأکبر، وذکرنا أنّ المراد بالشهرة والمجمع علیه الشهرة بحسب النقل لا الأعم منه ومن الشهرة فی العمل بها، وذلک فإنّه قد ورد فی المقبولة بعد الأمر بالأخذ بالمجمع علیه عند أصحابک وبترک الشاذّ الذی لیس بمشهور عندهم «فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه . . . فإنْ کان الخبران عنکم مشهورین قد رواهما الثقات عنکم» وفرض الشهرة فی کلا الخبرین شاهد بأنّ المراد خصوص الشهرة فی النقل؛ ولذا کما أنّ المقبولة لا تدلّ علی اعتبار الشهرة فی الفتوی بنفسها، کذلک لا تدلّ علی کونها مرجّحة لإحدی الروایتین بالإضافة إلی الاُخری، وهذا کلّه مع الإغماض عن سند المرفوعة فإنّها مرفوعة رواها فی عوالی اللآلی وقد ناقش فی الکتاب ومؤلفه من لیس دأبه الخدشة فی سند الروایات.

وقد یستدل علی اعتبار الشهرة فی الفتوی بفحوی ما دلّ علی حجیة الخبر الواحد بدعوی أنّ الظن بالحکم الواقعی الحاصل من الشهرة أقوی من الظنّ الحاصل بالخبر الواحد، ولکن لا یخفی ما فیه فإنّ کون تمام الملاک فی اعتبار الخبر الواحد الظنّ بالواقع غیر معلوم بل عدمه معلوم، وإلاّ کان مقتضاه اعتبار کل ظنّ بالحکم الواقعی بشرط کونه مساویاً أو أقوی من الظنّ الحاصل من الخبر الواحد.

وعلی الجملة: یحتمل أنْ یکون فی ملاک اعتبار خبر العدل والثقة عن المعصوم علیه السلام مع

ص :112

ولا یساعده دلیل، وتوهّم دلالة أدلة حجیة خبر الواحد علیه بالفحوی، لکون الظن الذی تفیده أقوی مما یفیده الخبر، فیه مالا یخفی، ضرورة عدم دلالتها علی کون مناط اعتباره إفادته الظن، غایته تنقیح ذلک بالظن، وهو لا یوجب إلاّ الظن بأنها أولی بالإعتبار، ولا اعتبار به، مع أن دعوی القطع بأنه لیس بمناط غیر مجازفة.

کونه أکثر تطابقاً للواقع جهة اُخری ملحوظة.

کما أنّه ربّما یستدلّ علی اعتبار الشهرة بالتعلیل الوارد فی آیة النبأ الدالّة علی عدم جواز الإعتماد علی خبر الفاسق معلّلاً بقوله سبحانه «أن تصیبوا قوماً بجهالة فتصبحوا علی ما فعلتم نادمین»(1) فإنّه بناء علی کون المراد من الجهالة السفاهة کما هو ظاهرها بملاحظة موردها یکون مقتضاها جواز العمل بما لا یکون العمل به سفاهة ولا یکون العمل بالشهرة فی الفتوی سفاهة وعملاً سفهیاً وفیه إن مقتضی التعلیل عدم جواز العمل بکل ما یکون العمل به سفهیاً، لا جواز العمل بکل ما لیس بسفهیّ، کما أنّ مقتضی تعلیل حرمة الخمر بإسکاره حرمة تناول کلّ مسکر، لا جواز تناول کل شیء لا یکون مسکرا مع أنّ عمل فقیه بفتوی فقیه آخر مع إحراز مدرک فتواه واحتمال خطئه لعله داخل فی العمل السفهیّ، نظیر عمل من هو من أهل الخبرة بقول خبرة آخر مع احتمال الخطأ فی حدسه.

أمّا الکلام فی الجهة الثانیة فإنْ أحرز أو احتمل أنّ عمل المشهور بروایة ضعیفة فی سندها کونها مطابقة للاحتیاط أو مخالفة لما علیه العامة، ونحو ذلک مما لا یصلح بمجرده فی النظر لصیرورتها معتبرة فلا وجه للاعتماد علیها والفتوی بمضمونها، وإنْ لم یحرز أو لم یحتمل وجه العمل بها فیما وصل بأیدینا بأنْ حصل الوثوق بأنّ وجه

ص :113


1- 1) سورة الحجرات، الآیة 6.

وأضعف منه، توهم دلالة المشهورة والمقبولة علیه، لوضوح أن المراد بالموصول فی قوله فی الأولی: (خذ بما اشتهر بین أصحابک) وفی الثانیة: (ینظر إلی ما کان من روایتهم عنا فی ذلک الذی حکما به، المجمع علیه بین أصحابک، فیؤخذ به) هو الروایة، لا ما یعم الفتوی، کما هو أوضح من أن یخفی.

نعم بناءً علی حجیة الخبر ببناء العقلاء، لا یبعد دعوی عدم اختصاص بنائهم علی حجیته، بل علی حجیة کل أمارة مفیدة للظن أو الإطمئنان، لکن دون إثبات ذلک خرط القتاد.

فتواهم بذلک کان أمراً لو وصل إلینا لکان صالحاً للاعتماد علیه ککون الحکم المشهور الذی تضمنته الروایة المزبورة کان من المتسالم علیه فی ذلک الزمان بین الشیعة، وهذا لو فرض تحقّقه کان بنفسه موجباً للاعتماد علیه، ولا تجعل الروایة المزبورة معتبرة لکی یصحّ التمسّک بها فی حکم آخر تضمّنته أو خصوصیّة اُخری وردت فیها لثبوت الحکم الآخر، والمراد بالشهرة فی المقبولة کما تقدّم، الشهرة فی الروایة ولا تحصر بما إذا دخل الخبر معها فی السنّة وإلاّ کان المتعیّن تقدیم الحکم ممن کان مستنده الخبر المشهور کما لا یخفی مما یستفاد من غیرها، وبذلک یظهر الحال فی کون إعراضهم عن روایة تامة فی سندها ترکها المشهور حیث إنّه لو اُحرز أو احتمل وجه ترکهم ولم یتمّ ذلک الوجه عندنا لا یکون مجرد إعراضهم موهن لها، بخلاف ما إذا حصل الوثوق والاطمینان بخلل فیها لم یصل إلینا بحیث لو وصل إلینا کان ذلک موجباً لحملها علی الاشتباه من الرواة فی نقلها ونحوه، مما تسقط عن الاعتبار بذلک ومثل هذه الروایة قد توجد بین روایاتنا.

ص :114

فصل

المشهور بین الأصحاب حجیّة خبر الواحد فی الجملة بالخصوص ولا یخفی أنّ هذه المسألة من أهم المسائل الاُصولیّة[1].

حجیة الخبر الواحد

[1] لا ینبغی التأمل فی أنّ اعتبار الخبر الواحد بالخصوص من أهم المسائل الاُصولیة فإن بإثبات اعتباره بالخصوص بضمیمة ما تقدّم من اعتبار الظهورات ینفتح باب العلمی فی معظم الأحکام، حیث إنّ حصول العلم الوجدانی فی غالب الأحکام وتحصیله غیر ممکن والکتاب العزیز لا یتکفّل ببیان جمیع أجزاء العبادات وشرایطها وما یتعلق بها فضلاً عن غیر العبادات من المعاملات بالمعنی الأعم.

وعلی الجملة: ینسدّ باب العلمی فی معظم الأحکام بعدم ثبوت اعتبار الخبر الواحد بالخصوص، ولذا تکون هذه المسألة من أهم المسائل الاُصولیة، وذکر الماتن قدس سره أن المسألة إذا کانت نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الحکم الشرعی الکلّی تکون تلک المسألة من المسائل الاُصولیة ولو لم یکن المحمول فی تلک المسألة من عوارض الأدلة الأربعة وإنْ اشتهر علی الألسن أن الموضوع لعلم الاُصول هی الأدلة الأربعة أی الکتاب والسنّة والعقل والإجماع، وأنه یبحث فی مسائل العلم عن العوارض لموضوع العلم، ولذلک اُشکل علی الملتزمین بالأمرین إندراج هذه المسألة فی مسائل علم الاُصول حیث إن المبحوث فیه فی المسألة اعتبار الخبر الواحد، واعتباره لیس من عوارض السنة ولا یفید فی دخولها فی مسائل علم الاُصول القول بأنّ البحث عن دلیلیّة الدلیل بحث عن أحوال الدلیل، سواء جعل

ص :115

.··· . ··· .

الموضوع لعلم الاُصول ذات الأدلة أو الدلیل بما هو دلیل، فإن دلیلیّة السنة بمعنی قول المعصوم وفعله وتقریره خارج عن المقام، فإن دلیلیة ما ذکر یتکفلها علم الکلام ومحل الکلام فی اعتبار الخبر الحاکی عنها.

وبتعبیر آخر إذا جعل الموضوع لعلم الاُصول ذات الأدلة فالبحث عن دلیلیّتها وإنْ یکن بحثا عن العوارض إلاّ أن البحث فی اعتبار الخبر الحاکی عن السنة غیر البحث عن دلیلیة السنة، والبحث فی المقام فی الأول دون الثانی، نعم البحث فی اعتبار ظواهر الکتاب المجید یکون بحثاً فی دلیلیة الدلیل، ولو کان الموضوع لعلم الاُصول الأدلة بوصف کونها أدلة لا یکون البحث فی اعتبار ظواهر الکتاب أیضا بحثا فی العوارض التی هی بمفاد (کان) الناقصة، بل من ثبوت الموضوع والذی یکون بمفاد (کان) التامة.

وقد ذکر الشیخ قدس سره فی توجیه دخول المسألة فی مسائل علم الاُصول بأنّه یرجع البحث فی المقام إلی ثبوت السنة بالخبر الواحد فی مقابل ثبوته بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرینة، وأورد علیه الماتن بأن المراد فی المقام من الثبوت، الثبوت التعبّدی، والثبوت التعبّدی من عوارض مشکوک السنّة لا من عوارض السنّة، مع أنّ الملاک فی دخول مسألة فی مسائل أی علم العنوان المذکور فی ناحیة موضوع المسألة ومحمولها لا ما یلزم علی المسألة بالعنوان المذکور لها.

وبتعبیر آخر لا یکون المراد من الثبوت الثبوت الحقیقی بأنْ یکون الخبر الواحد علّة لوجود السنّة خارجا ضرورة أنّ الخبر الواحد إذا کان صادقا یکون حاکیا عن السنّة وإلاّ فهو خبر غیر صادق ولابد من أنْ یکون المراد من الثبوت الثبوت التعبّدی، والثبوت التعبّدی من عوارض نفس الخبر الواحد لا من عوارض السنّة، وقد یوجّه

ص :116

وقد عرفت فی أول الکتاب أن الملاک فی الأصولیة صحة وقوع نتیجة المسألة فی طریق الاستنباط، ولو لم یکن البحث فیها عن الأدلة الأربعة، وإن اشتهر فی ألسنة الفحول کون الموضوع فی علم الأصول هی الأدلة، وعلیه لا یکاد یفید فی ذلک _ أی کون هذه المسألة أصولیة _ تجشم دعوی أن البحث عن دلیلیة الدلیل بحث عن أحوال الدلیل، ضرورة أن البحث فی المسألة لیس عن دلیلیة الأدلة، بل عن حجیة الخبر الحاکی عنها، کما لا یکاد یفید علیه تجشم دعوی أن مرجع هذه المسألة إلی أن السنّة _ وهی قول الحجة أو فعله أو تقریره _ هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلاّ بما یفید القطع من التواتر أو القرینة؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشک فیها لدی الأخبار بها لیس من عوارضها، بل من عوارض مشکوکها، کما لا یخفی، مع

کلام الشیخ قدس سره بأنّ الکلام فی المقام لیس فی اعتبار ظهور الخبر الواحد فإنّ البحث فیه یدخل فیما تقدّم من بحث اعتبار الظواهر ولا فی اعتبار جهة الصدور، فإنّه لا ینبغی التأمل فی أنّ الأصل فی کلامّ کل متکلّم ومنه المعصوم علیه السلام کونه لبیان المراد الجدّی علی ما تقدّم فی بیان أصالة التطابق ولا یحمل کلامه علی التقیة ونحوها إلاّ مع قیام القرینة علی الخلاف، والکلام فی المقام فی أنّ الکلام الصادر عن الراوی کالصادر عن المعصوم علیه السلام بمعنی أنّ مغزی البحث فی المقام أنّ خبر العدل منزّل منزلة قول الإمام علیه السلام أم لا، ولو کان فی البین دلیل علی التنزیل یتّصف الخبر بکونه منزلاً کما تتّصف السنّة بکونها منزل علیها بالإضافة إلی خبر العدل فیرجع البحث فی المقام إلی البحث فی عوارض السنّة وأنّها منزل علیها بالإضافة إلی الخبر الواحد أو خبر العدل أم لا، ولکن یرد علی هذا التوجیه أمران.

الأول: ما ذکر الماتن من أنّ الملاک فی کون مسألة من أیّ علم العنوان المذکور فی المسألة فی ناحیة موضوعها والمحمول فیها.

ص :117

أنه لازم لما یبحث عنه فی المسألة من حجیة الخبر، والمبحوث عنه فی المسائل إنما هو الملاک فی أنها من المباحث أو من غیره، لا ما هو لازمه، کما هو واضح.

وکیف کان، فالمحکی عن السید والقاضی وابن زهرة والطبرسی وابن إدریس عدم حجیة الخبر، واستدلّ لهم بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم والروایات الدالّة علی ردّ ما لم یعلم[1].

وثانیا: أنّ هذا التوجیه مبنی علی أنّ اعتبار أمارة عبارة عن تنزیلها منزلة الواقع لا اعتبارها علما بالواقع کما اخترنا علی ما تقدّم، وما عن المحقّق النائینی فی إرجاع البحث فی المقام إلی البحث فی السنّة حیث یکون البحث فی کون قول العدل وخبره فردا من السنّة یرجع إلی التوجیه المتقدّم، فإنّ خبر العدل لا یکون فرداً حقیقیّاً للسنّة بل فرداً اعتباریّاً وتنزیلیّاً مع أنّ البحث فی کون خبر العدل سنّة ووجودا لها من قبیل البحث عن ثبوت الموضوع لا من عوارضه کما لا یخفی.

[1] المحکی عن السید المرتضی وابن الجنید وابن زهرة والطبرسی وابن إدریس عدم اعتبار خبر الواحد، بل عن السید المرتضی فی مواضع من کلامه من أنّ العمل بخبر الواحد کالعمل بالقیاس فی کون ترک العمل به معلوماً من مذهب الشیعة، ویستدلّ لهؤلاء بالآیات الناهیة عن اتّباع غیر العلم کقوله سبحانه«لا تقفُ ما لیس لک به علم»(1) و«إنّ الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئاً»(2) وبالروایات الواردة التی هی علی طوائف منها ما ورد فی ردّ خبر لم یکن له شاهد أو شاهدان من کتاب اللّه(3)، ومنها ما ورد فی ردّ ما لم یعلم أنّه قولهم علیهم السلام (4) ومنها أنّ ما لا یوافق کتاب

ص :118


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2) سورة النجم: الآیة 28.
3- 3) وسائل الشیعة 27:112، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 18.
4- 4) المصدر السابق: 119، الحدیث 36.

.··· . ··· .

اللّه زخرف(1)، وما لا یصدّقه کتاب اللّه باطل(2)، ومنها النهی عن قبول حدیث إلاّ ما وافق کتاب اللّه والسنّة(3) وبالإجماع المشار إلیه فی کلام السید المرتضی وذکر الماتن قدس سره فی الجواب عن الآیات بعدم ظهور لها فی المنع عن اتّباع غیر العلم فی غیر الاعتقادیّات حیث إنّ المنصرف إلیه من مدلولها أو المتیقّن اتّباع غیر العلم فی الاعتقادیّات ولا تعمّ الفروع المدّعی اعتبار خبر الثقة والعدل فیها وعلی تقدیر عمومها وإطلاقها یرفع الید عن العموم والإطلاق بما دلّ علی اعتبار خبر الثقة أو العدل فی الفروع وقد یقال: إنّ النهی عن اتباع غیر العلم وعدم کفایة الظن عن الحق لا یقبل التخصیص والصحیح فی الجواب أن مع قیام دلیل علی اعتبار أمارة کخبر العدل أو الثقة فی الأحکام الفرعیة أو فی غیرها لا یکون اتباعها من اتباع غیر العلم کما أن مع قیام الدلیل علی اعتبار الظواهر لا یکون الأخذ بظاهر الکتاب المجید ومنها ظواهر الآیات المشار إلیها من اتباع غیر العلم لا یقال: لو کانت الآیات المانعة غیر قابلة للتخصیص فکیف اعتبر الشارع غیر العلم وجوز الوقوف بغیره فی موارد وحکم بإغنائه عن الحق کما اعتبر سوق المسلمین أمارة للتذکیة، والظن بالقبلة مجزئاً ومغنیاً عن الحق کما هو مفاد قوله علیه السلام : یجزی التحری کلما لم یعلم القبلة(4).

فإنّه یقال: قد تقدّم قیام الدلیل علی الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة للتکلیف

ص :119


1- 1) المصدر السابق: 110، الحدیث 12.
2- 2) المحاسن 1:221.
3- 3) وسائل الشیعة: 113، الحدیث 21.
4- 4) وسائل الشیعة 4:307، الباب 6 من أبواب القبلة، الحدیث الأول.

أنه قولهم علیهم السلام ، أو لم یکن علیه شاهد من کتاب اللّه أو شاهدان، أو لم یکن موافقاً للقرآن إلیهم، أو علی بطلان ما لا یصدقه کتاب اللّه، أو علی أن ما لا یوافق کتاب اللّه زخرف، أو علی النهی عن قبول حدیث إلاّ ما وافق الکتاب أو السنة، إلی غیر ذلک.

والاجماع المحکی عن السید فی مواضع من کلامه، بل حکی عنه أنه جعله بمنزلة القیاس، فی کون ترکه معروفاً من مذهب الشیعة.

والجواب: أما عن الآیات، فبأن الظاهر منها أو المتیقن من إطلاقاتها هو اتباع غیر العلم فی الأصول الإعتقادیة، لا ما یعم الفروع الشرعیة، ولو سلم عمومها لها، فهی

المعلوم بالتفصیل أمر ممکن، فإنه إما من قبیل جعل البدل الظاهری کما هو مقتضی قاعدة الفراغ أو البدل الواقعی کما فی مورد جریان حدیث: «لا تعاد»(1) إذا لم یکن الخلل بما یبطل الصلاة بالإخلال به ولو مع العذر، وکالصلاة إلی الجهة المظنونة إذا لم تکن صلاة إلی دبر القبلة، ومثل هذه الموارد لا یحسب من الاقتفاء بغیر العلم، نعم اعتبار سوق المسلمین من قبیل اعتبار الأمارة ولکن کلّ أمارة معتبرة إما أنْ یثبت اعتبارها بدلیل قطعی أو ینتهی اعتبارها إلی العلم ومع کون اعتبارها معلوماً بأحد النحوین لا یکون السکون إلیها من الاقتفاء بغیر العلم أو اتباع الظن، فمدلول الکتاب المجید السکون إلی غیر العلم واتّباع الظن والاعتقاد الخیالی کما لا یخفی.

وعلی الجملة فمع ثبوت دلیل قطعی علی اعتبار أمارة إمضاءً من الشارع أو تأسیسا تخرج تلک الأمارة عن موضوع النهی عن الاعتماد والسکون بغیر العلم أو النهی عن اتباع الظن والحدس؛ لأنّ فی الإعتماد علیها علماً ویقیناً بأنها تجزی عن التکلیف، فإن الحق المطلوب فی التکالیف الفرعیّة هو الإجزاء کما لا یخفی.

ص :120


1- 1) وسائل الشیعة 5:470، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة، الحدیث 14.

مخصصة بالأدلة الآتیة علی اعتبار الأخبار.

وأما عن الروایات فبأن الإستدلال بها خالٍ عن السداد[1] فإنها أخبار آحاد.

[1] لا یخفی أنّ الأخبار المشار إلیها لا تصلح لإسقاط خبر العدل أو الثقة عن الاعتبار للعلم لصدور الأخبار الکثیرة عن الأئمة علیهم السلام فی بیان أحکام الشریعة الموکول بیانها للأنام إلیهم علیهم السلام من قبل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله مع سکوت الکتاب المجید عن بیان تلک الأحکام، بل یعلم بورود التقیید والتخصیص للمطلقات والعمومات من الکتاب المجید، وإذا کانت الأحکام التی بیّنوها علیهم السلام منقولة إلینا بخبر العدل والثقة وثبت بما نذکره فیما بعد أن الخبر مع کون مخبره ثقة أو عدلاً علم بقولهم علیهم السلام یخرج ذلک عن مثل ما ورد: وما لم یعلم أنه قولنا فردّوه علینا(1)، فالأخبار المشار إلیها یراد بها، إما الأخبار التی تصل إلی الناس من مخبر متّهم فی نقله أو کان ما یرویه مخالفا للکتاب المجید بالتباین أو بالعموم من وجه، أو کان فی تعارض الخبرین الذین یکون أحدهما موافقا للکتاب والآخر مخالفاً له، وعلی الجملة الأخبار المشار إلیها وإنْ تکن من قبیل المتواتر إجمالاً والحکم فی المتواتر الإجمالی الأخذ بالأخص منها مضموناً والأخص منها مضمونا الأخبار المأثورة المخالفة مع الکتاب المجید بالتباین أو بالعموم من وجه، ودعوی أنّ المکذبین للأئمة علیهم السلام لم یکونوا یضعون الحدیث المباین لظاهر الکتاب بنحو التباین فلا یمکن حمل الأخبار علیه لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنهم کانوا یضعون الحدیث لإسقاط الأئمة علیهم السلام عن أعین الناس وإشاعة أنهم یخالفون، والأئمة علیهم السلام سدّوا الطریق إلی مثل هذه المحاولات بکثرة تعرضهم إلی أن ما خالف الکتاب المجید لیس من قولهم وأنهم لا یخالفون قول ربّهم إلی غیر ذلک مما ورد فی تلک الأخبار.

ص :121


1- 1) وسائل الشیعة 27:120، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 37.

لا یقال: إنها وإن لم تکن متواترة لفظاً ولا معنی، إلاّ أنها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالی بصدور بعضها لا محالة.

فإنه یقال: إنها وإن کانت کذلک، إلاّ أنها لا تفید إلاّ فیما توافقت علیه، وهو غیر مفید فی إثبات السلب کلیاً، کما هو محل الکلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفید عدم حجیة الخبر المخالف للکتاب والسنة[1]. والإلتزام به لیس بضائر، بل لا محیص عنه فی مقام المعارضة.

وأما عن الاجماع، فبأنّ المحصّل منه غیر حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غیر قابل خصوصاً فی المسألة[2] کما یظهر وجهه للمتأمل، مع أنه معارض بمثله، وموهون بذهاب المشهور إلی خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:

[1] لا یقال: لو اُخذ بتلک الأخبار فی مورد مخالفة الخبر للکتاب والسنة فاللازم عدم جواز تخصیص عموم الکتاب أو السنة بالخبر الواحد وکذلک عدم جواز تقیید إطلاقهما به، فإن المفروض أن الخبر المخالف لهما داخل فی جمیع تلک الأخبار وحمل المخالفة علی التباین أو العموم من وجه یحتاج إلی ورود خبر فیها یکون مختصاً بهذه المخالفة لیقال: إنه أخص مضمونا من مطلق المخالفة وفیه ما لا یخفی، فإنه قد تقدم أن صدور الأخبار الکثیرة عنهم علیهم السلام مما یخالف عموم الکتاب وإطلاقه معلوم لنا وجدانا والمتعیّن حمل المخالفة علی غیر الموارد التی یکون فیها جمع عرفی وقد ورد فی الخبرین المتعارضین الأخذ بما یوافق الکتاب وترک ما خالفه فالأمر بالترک فی موارد الجمع العرفی یختص بما إذا کان فی البین معارض لذلک الخبر المخالف.

[2] قد تقدم أن القائل باعتبار الإجماع المنقول یدّعی أنه من أفراد خبر الثقة والعدل بقول المعصوم علیه السلام ولکن حکایته قوله علیه السلام حدسی لا اعتبار به مطلقا

ص :122

.··· . ··· .

خصوصا فی مسألة اعتبار خبر الواحد وعدم اعتباره ومع ذلک نقل الإجماع علی عدم الاعتبار موهون وخلاف الواقع لذهاب المشهور إلی خلافه.

ص :

123

ص :124

فصل

فی الآیات التی استدل بها فمنها آیة النبأ، قال اللّه تبارک وتعالی «إنْ جاءکم فاسق بنبأ فتبیّنوا»[1].

المناقشة فی الاستدلال علی اعتبار خبر الواحد بآیة النبأ

[1] وقد یستدلّ علی اعتبار خبر العدل أو الثقة بالآیات منها آیة النبأ وقوله عزّ من قائل «إنْ جاءکم فاسق بنبأ فتبیّنوا أنْ تصیبوا قوما بجهالة فتصبحوا علی ما فعلتم نادمین»(1) وتقریب الإستدلال بمفهوم الشرط تارة وبمفهوم الوصف اُخری وینبغی قبل التعرض لتقریب دلالتها بمفهوم الشرط علی ما قیل بیان أمرین، الأول: أنه لا یختلف مقام الثبوت بین کون الشیء قیدا للحکم فی الخطاب أو قیدا لموضوع ذلک الحکم، حیث إن قید نفس الحکم أیضا یفرض فی مقام جعل الحکم مفروض الوجود کما یفرض قید الموضوع فی جعله کذلک، وإذا ورد فی الخطاب إذا کان الماء کرا لا ینجسه شیء ورد فی خطاب آخر أن الماء الکر لا ینجسه شیء، یکون المستفاد منهما اعتصام الماء الکر بحسب مقام الثبوت وإنما یختلف کون شیء قیدا لنفس الحکم فی الخطاب أو لموضوعه فیه فی مقام الإثبات والدلالة، بمعنی انه إذا کان شیء فی الخطاب قیدا لنفس الحکم یکون مقتضی إطلاق القید وعدم ذکر العدل له فی الخطاب انتفاء ذلک الحکم فی فرض انتفاء ذلک القید علی ما تقدم بیانه فی مفهوم الشرط من أن المفهوم مقتضی تعلیق طبیعی الحکم فی جمیع الحالات علی حصول القید المذکور فی الشرط، بخلاف ما إذا ذکر القید فی الخطاب فی

ص :125


1- 1) سورة الحجرات: الآیة 6.

.··· . ··· .

ناحیة الموضوع فإنه لا یکون لذلک الخطاب دلالة علی ثبوت الحکم أو انتفائه عن ذلک الموضوع عند حصوله بشیء آخر علی ما تقدم فی بیان عدم المفهوم للوصف.

الأمر الثانی: أن المذکور فی ناحیة الشرط فی القضیة الشرطیّة قد لا یکون أمرا زایداً علی حصول نفس الموضوع أو ما یتوقف علیه متعلق الحکم الوارد فی الجزاء، کما فی قوله: إذا رکب الأمیر فخذ رکابه، وإنْ رزقت ولدا فاختنه، فإن الأخذ بالرکاب أو الختان یتوقف علی رکوب الأمیر وحصول الولد، وفی مثل ذلک لا تدلّ القضیّة الشرطیة علی المفهوم بل یکون انتفاء الحکم الوارد فی الجزاء بانتفاء الشرط من قبیل إرتفاع الحکم بانتفاء الموضوع، وقد یکون المذکور فی الشرط أمرا زایدا علی حصول الموضوع ولا یکون مما یتوقف علیه متعلق الحکم خارجا، کما فی قوله: إذا جاءک زید فأکرمه، فإن إکرام زید غیر موقوف علی مجیئه، وفی مثل ذلک یکون ظاهر تعلیق مضمون الجملة الجزائیة علی حصول الشرط من غیر ذکر عدل له، عدم تحقق مضمونها بلا حصوله، ومنشأ الظهور مع فرض التعلیق عدم ذکر عدل للشرط وعدم ضم أمر آخر إلیه وتشخیص أن الشرط الوارد فی القضیة الشرط من القسم الأول أو الثانی، فیما إذا کان المذکور فی الشرط أمرا واحدا ظاهر، وأما إذا کان أمرین أو أکثر فلابد من ملاحظة أن أیا من الأمرین أو الاُمور مما یتوقف علیه حصول متعلق الحکم الوارد فی الجزاء، وأن أیا منهما أو منها المعلق علیه لمضمون الجملة الجزائیة، کما إذا قیل إذا رکب الأمیر وکان یوم الجمعة فخذ رکابه، فإن الأمر الأول المذکور فی الشرط محقق لمتعلق الحکم خارجاً، والأمر الثانی المعلق علیه للحکم فیکون للقضیة الشرطیة مفهوم بالإضافة إلی الأمر الثانی أیضا.

وعلی ذلک فیقال: إن المذکور فی آیة النبأ فی ناحیة الشرط أمران أحدهما

ص :126

.··· . ··· .

حصول النبأ، والثانی کون الآتی به فاسقا، والأول محقق للموضوع ولا مفهوم بالإضافة إلیه، والثانی قید للحکم فیکون مفاد الآیة أن النبأ یجب التبین فیه إذا کان الآتی به فاسقا ومفهوم عدم وجوب التبین إذا لم یکن الآتی به فاسقا، وبهذا یظهر الخلل فی کلام الماتن حیث ذکر أنه لو کان الشرط نفس تحقق النبأ ومجیء الفاسق به لکانت القضیة مسوقة لبیان تحقق الموضوع.

أقول: الملاک فی الدلالة علی المفهوم فیما کان المذکور فی الشرط أمرین أو أزید ویکون الموضوع فی الجزاء مفروض الوجود علی تقدیر ما ورد فی الشرط وعدمه وعلق الحکم الثابت له علی تحقق ذلک الأمر، فیکون للقضیة مفهوم بالإضافة إلی فرض عدم تحققه، وأما إذا کان الموضوع فی الجزاء أمرا لا یکون له وجود إلاّ مع تحقق الأمرین معا، کما فی قوله إذا أعطاک زید مالاً فتصدق به فلا تعلیق فیه بالإضافة إلی حکم المال المضاف إلی زید.

وبتعبیر آخر المفروض فیها بحسب المدلول الإستعمالی تملک المال من زید والحکم علیه بالتصدق، لا فرض وجود المال وتعلیق الحکم بالتصدق به علی إعطاء زید کما هو مفاد قوله: المال إذا أعطاه زید فتصدق، والمدلول الإستعمالی للآیة المبارکة أیضا من قبیل إذا أعطاک زید مالاً فتصدق به، لا قوله المال إذا أعطاه زید فتصدق به کما یظهر ذلک بالتأمل، وأما ما ذکر الماتن قدس سره من أنه لو کان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجیء الفاسق به کانت القضیة الشرطیة مسوقة لبیان تحقق الموضوع لا یمکن المساعدة علیه، بل کان الصحیح أنه لو کان الشرط مجیء الفاسق بنبأ کانت الشرطیة مسوقة لبیان تحقق الموضوع، وإلاّ فلو کان الموضوع طبیعی النبأ وعلق التبین فیه علی مجیء الفاسق به کانت القضیة الشرطیة ذات مفهوم کما ذکر قدس سره فی

ص :127

.··· . ··· .

تقریبه دلالتها علی المفهوم.

ثم إنه قد یقال: بأنّه لو کان الموضوع للحکم فی الجزاء نفس طبیعی النبأ، وأن الحکم بالتبین معلق علی مجیء الفاسق به وأن مقتضی التعلیق عدم لزوم التبین فیما إذا کان الآتی به غیر فاسق فلا یمکن أیضا الإلتزام بالمفهوم؛ لأنّ ما ورد فی ذیلها یمنع عن انعقاد المفهوم لها وهو تعلیل لزوم التبیّن بما یجری فی خبر العادل أیضا، وأجاب الشیخ قدس سره عن ذلک بأن المراد من الجهالة فی التعلیل لیس مقابل العلم لیعم التعلیل خبر العادل أیضا وتکون قرینة علی عدم إرادة المفهوم حیث إن التعلیل أقوی ظهورا، بل المراد منها السفاهة وفعل ما لا ینبغی فعله، ومن الظاهر أن هذا المعنی لا یجری فی العمل بخبر العادل، فإن العمل به لا یکون أمرا سفهیا، کیف وبناؤهم علی العمل بأخبار العدول والثقات، لا یقال: لا یمکن أن یکون المراد من الجهالة السفاهة وفعل ما لا ینبغی صدوره عن عاقل، حیث إن الآیة نزلت فی واقعة ترتیب الأثر علی خبر الولید بارتداد القوم ولا یمکن الإلتزام بأن أصحاب النبی صلی الله علیه و آله کانوا بصدد القیام بأمر سفهی، فإنّه یقال: کان قصدهم العمل لغفلتهم عن حال الولید وان التعلیل بلحاظ فسق المخبر لا بلحاظ الغفلة عن حاله والاعتقاد والوثوق بصحة خبره فلا ینافی ذلک إرادة السفاهة من الجهالة.

فی الاستدلال علی اعتبار خبر العدل بآیة النبأ

وقد یقال: لو کان المراد من الجهالة خلاف العلم لما کان أیضا فی التعلیل ما یمنع عن دلالة الآیة بالمفهوم لاعتبار خبر العدل حیث إن مقتضی المفهوم کون خبر العدل علما، ولذا لا ینافی التعلیل الوارد فی الآیة اعتبار سائر الأمارات کالظواهر ولکن لا یخفی ما فیه، فإن المفروض فی المقام استفادة اعتبار خبر العدل من مفهوم

ص :128

.··· . ··· .

الآیة بحیث لو لم یکن فی البین ما دلّ علی اعتبار خبر العدل لاستفید اعتباره من مفهومها، ومن الظاهر أنه لیس مفهومها کون خبر العدل علماً لیخرج خبر العدل عن التعلیل، بل لو کان المستفاد منها عدم وجوب التبین فی خبر العادل یستلزم ذلک اعتبار کون خبره علما، والإشکال فی المقام هو أن التعلیل الوارد فی الآیة یمنع عن انعقاد المفهوم بعدم وجوب التبین فی غیر خبر الفاسق وربما یقال لو کان المراد بالجهالة السفاهة لما أمکن أیضا إستفادة اعتبار خبر العدل منها، حیث إن التعلیل فیها غیر مقصود بقوله سبحانه «أنْ تصیبوا قوما بجهالة» بل ذکر فیه «فتصبحوا علی ما فعلتم نادمین»(1) ففی الحقیقة إیجاب التبین فی خبر الفاسق من جهة أن العمل به بلا تبین تعریض للنفس بالندامة، وهذا یجری فی خبر العادل أیضا فإنه قد یوجبها العمل به ولکن لا یخفی ما فیه؛ لأنّ الندامة بالإضافة إلی التکالیف عدم کون المکلّف معذورا فی مخالفتها، والابتلاء بمخالفة الواقع مع کون المکلف معذورا لا یوجب الندامة بخلاف الموارد التی یکون الغرض فیها مجرد الوصول إلی الواقع، ودعوی أن حمل الندامة علی ما ذکر لا یناسب مورد الآیة، حیث لا یمکن الإلتزام بأن الندامة فی قضیة خبر الولید کان موجبا للعقاب یدفعها ما تقدم من أن التعلیل کان بلحاظ فسق المخبر واقعا لا بلحاظ الغفلة عن حاله أو الاعتقاد بصحة إخباره، وعلی الجملة فمفاد الآیة علی تقدیر کون الجهالة بمعنی السفاهة، أن الفاسق یکون العمل بخبره بلا تبین تعرضا للندامة، وهذا إذا لم یکن العمل به مع الاعتقاد بعدم فسقه بخلاف خبر العدل فإنّه لیس العمل به تعریض للنفس بالندامة هذا أولاً.

ص :129


1- 1) سورة الحجرات: الآیة 6.

.··· . ··· .

وثانیا: یمکن أن یراد بالندامة ما یحصل من العمل بمخالفة الواقع لکذب الخبر، وهذا الأمر غالبی فی خبر الفاسق بخلاف خبر العادل فإن الندامة فی العمل به أمر اتفاقی، ولذا لا یکون التعلیل المزبور مانعا عن انعقاد المفهوم لو لم تکن الشرطیة مسوقة لتحقق الموضوع.

وقد یشکل علی الاستدلال بالآیة علی اعتبار خبر العدل مع قطع النظر عن التعلیل الوارد فیها بأنه لا مفهوم لها؛ لأنّ الحکم الوارد فی الجزاء لیس حکما شرعیاً لیقال إنّ تعلیقه لموضوعه علی حصول الشرط وعدم ذکر العدل للشرط مقتضاه انتفاؤه عن موضوعه بانتفاء الشرط، حیث إن المراد بالتبین هو العلم، واعتباره ولزوم العمل به عقلی لا یرتبط بشیء ولا یعلق علی مجیء الفاسق بالنبأ.

وبتعبیر آخر حکم العقل بلزوم اتباع العلم أو تحصیله بالأحکام الکلیّة لا یکون معلقاً بشیء لیقضی بانتفائه بانتفاء الشرط، هذا إذا اُرید من التبیّن العلم الوجدانی، وأما إذا اُرید منه الوثوق لیکون الأمر بتحصیل الوثوق والعمل به طریقیا دالاًّ علی اعتباره فلا یمکن الجمع بین منطوق الآیة ومفهومها، فإن مقتضی المنطوق جواز العمل بخبر الفاسق مع حصول الوثوق بالمخبر به، ومفهومها جواز العمل بخبر العدل، حصل الوثوق بالمخبر به أم لا، والإلتزام بالمنطوق والمفهوم کما ذکر إحداث قول ثالث، فإن القائل بالخبر الموثوق به یلتزم باعتباره سواء کان مخبره عادلاً أو فاسقا والقائل باعتبار خبر العدل دون الفاسق یلتزم باعتبار الأول دون الثانی سواء کان موثوقا به أم لا، فالجمع بین اعتبار خبر العدل مطلقا واعتبار خبر الفاسق الموثوق به یکون قولاً ثالثاً فی المسألة. وفیه، أنه یمکن أن یکون الإرشاد إلی لزوم تحصیل العلم عند خبر الفاسق للنهی الطریقی عن الإعتماد علی خبره فیکون مفهومه عدم

ص :130

.··· . ··· .

هذا النهی فی خبر العادل بالإرشاد إلی عدم لزوم تحصیل العلم فی مورده، ولو اُرید بالتبیّن الوثوق لکان المفهوم عدم لزوم تحصیله فی خبر العدل ولا محذور فی الإلتزام بذلک بل لا مناص عنه کما سیأتی.

وقد یقال: بأن فی القضیة الشرطیة قرینة علی أنها لیست بذات مفهوم، فإنه إذا وصل فی واقعة خبران أحدهما من الفاسق والآخر من العادل ولو کان معنی منطوق الآیة أن طبیعی الخبر إذا جاء به فاسق، فاللازم التبین فیه لزم فی الفرض التبین من خبر العادل أیضا، لأنّه یصدق أن الطبیعی جاء به فاسق، فاللازم التبین من الطبیعی الصادق علی خبر العادل أیضا فیلزم القول باعتبار خبر العادل إذا انفرد، وعدم اعتباره إذا انضم إلیه خبر الفاسق، ولکن لا یخفی أن مناسبة الحکم والموضوع مقتضاها اختصاص التبین بصورة اختصاص المخبر بالواقعة بالفاسق.

وقد یقال: بعدم المفهوم للقضیة الشرطیة؛ لأنّ المفهوم علی تقدیره لا یمکن أنْ یؤخذ به فی مورد نزول الآیة حیث إن ارتداد شخص أو قوم لا یثبت بالخبر الواحد سواء کان المخبر عادلاً أو فاسقا، والإلتزام بخروج المورد عن المطلق أو العام مستهجن فیتعیّن الإلتزام بأن الآیة إرشاد إلی عدم اعتبار خبر الفاسق خاصة.

والجواب کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره أنه لا یلزم علی البناء للمفهوم إخراج المورد، فإن المراد من الفاسق المضاف إلیه النبأ طبیعی الفاسق لا فاسق واحد لیکون المفهوم اعتبار خبر العدل الواحد، بل المراد فی نبأ العادل أیضا نبأ طبیعی العادل فالمنطوق مدلوله أن النبأ إذا جاء به الفاسق فما دام لم یظهر صدقه لا یجوز الإعتماد علیه والعمل به، بخلاف خبر طبیعی العادل فإنّه یجوز الاعتماد علیه کما هو مقتضی المفهوم حتی فی مورد نزول الآیة، غایة الأمر العمل به فی مورد نزولها مقیّد بما إذا

ص :131

ویمکن تقریب الاستدلال بها من وجوه: أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط، وأن تعلیق الحکم بإیجاب التبین عن النبأ الذی جئ به علی کون الجائی به الفاسق، یقتضی انتفاءه عند انتفائه.

ولا یخفی أنه علی هذا التقریر لا یرد: أن الشرط فی القضیة لبیان تحقق الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

انضم إلیه نبأ عادل آخر.

وبتعبیر آخر قد ثبت فی مورد نزولها تقیید المفهوم بالإضافة إلی المورد لا أن المورد قد خرج عن المفهوم رأسا ولا استهجان فی تقیید المفهوم خصوصاً مع بقاء المنطوق فیه علی إطلاقه.

ولا یخفی أیضاً أن الفاسق وإنْ یعمّ الفاسق المتحرز عن الکذب، إلاّ أنه لابد من رفع الید عن إطلاقه بالإضافة إلی المتحرز عنه فی غیر موارد اعتبار شهادة العدل من الإخبار بالموضوعات والأحکام الکلیة بما دلّ علی اعتبارهم خبر الثقة، حیث إن ردع السیرة الجاریة علی اعتبار خبر الثقة بإطلاق المنطوق غیر تام خصوصا بملاحظة التعلیل الوارد فی ذیل الآیة.

فی الاستدلال علی اعتبار الخبر الواحد بمفهوم الوصف فی آیة النبأ

ثم إنه قد یوجّه دلالة آیة النبأ علی اعتبار خبر العدل بمفهوم الوصف، والمراد من الفاسق ذکر عنوان الفاسق، فإن قوله سبحانه «إنْ جاءکم فاسق بنبأ»، فی قوله، قوله إنْ جاءکم من هو فاسق بنبأ.

وفیه أن الوصف المعتمد علی موصوفه لا یدلّ علی المفهوم علی ما تقدم الکلام فی مفهوم الوصف، فکیف بغیر المعتمد علیه کما فی الآیة حیث إن غیر

ص :132

نعم لو کان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجئ الفاسق به، کانت القضیة الشرطیة مسوقة لبیان تحقق الموضوع، مع أنه یمکن أن یقال: إن القضیة ولو کانت مسوقة لذلک، إلاّ أنها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبین فی النبأ الذی جاء به الفاسق، فیقتضی انتفاء وجوب التبین عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبر.

المعتمد کاللقب فی أن إثبات حکم لموضوع لا یدلّ علی انتفائه عن غیره بعدم جعل مثله لغیره کما فی قوله أکرم العالم.

وذکر الشیخ الأنصاری قدس سره أن فی العدول عن ذکر العنوان الذاتی إلی العنوان العرضی دلالة علی اعتبار خبر العدل لأنّ خبر الفاسق بعنوانه الأولی خبر واحد وبعنوانه الثانوی خبر الفاسق، ولو کان الخبر الواحد علی الإطلاق غیر معتبر لکان المناسب أنْ یقال: إن جاءکم نبأ واحد فتبینوا ففی العدول عن هذا التعبیر إلی ما فی الآیة اقتضاء أنْ لا یکون خبر الفاسق بعنوانه الأولی محکوما علیه بلزوم التبین، وهذا لا یکون إلاّ باعتبار خبر العدل.

وقد یورد علی الاستدلال بأن کون الخبر خبر فاسق کما أنه عنوان عرضی کذلک کون الخبر خبر الواحد ویحتمل دخالة عنوان الخبر الواحد فی لزوم التبیّن عند إرادة العمل، وذکر الفاسق بخصوصه للدلالة علی فسق المخبر فی مورد نزول الآیة، ولکن لا یخفی أن مراد الشیخ قدس سره من العنوان العرضی لیس مقابل الجنس والفصل والنوع ومن الذاتی أحدها، بل المراد أن عنوان الخبر الواحد ینطبق علی خبر الفاسق بلا ملاحظة حال المخبر، بخلاف عنوان خبر الفاسق أو خبر العادل فإنّ انطباقهما یحتاج إلی ملاحظة حال المخبر.

وبتعبیر آخر دعوی عدم دلالة الوصف علی المفهوم لاحتمال ذکر عنوان الفاسق فی الشرط للدلالة علی فسق المخبر فی مورد نزولها لا یحتاج إلی المناقشة

ص :133

ولکنه یشکل بأنه لیس لها هاهنا مفهوم، ولو سلم أن أمثالها ظاهرة فی المفهوم، لأن التعلیل بإصابة القوم بالجهالة المشترک بین المفهوم والمنطوق، یکون قرینة علی أنه لیس لها مفهوم.

ولا یخفی أن الإشکال إنما یبتنی علی کون الجهالة بمعنی عدم العلم، مع أن دعوی أنها بمعنی السفاهة وفعل مالا ینبغی صدوره من العاقل غیر بعیدة.

ثم إنّه لو سلم تمامیة دلالة الآیة علی حجیة خبر العدل، ربّما أشکل شمول مثلها للروایات الحاکیة لقول الإمام علیه السلام بواسطة أو وسائط[1].

فی العنوان الذاتی أو العرضی بالمعنی الذی ذکرنا.

[1] حاصل الإشکال أن الآیة الشریفة ونحوها مما یدلّ علی اعتبار خبر العدل أو الثقة لا یفید فیما إذا کان الخبر المنقول النبأ عن المعصوم علیه السلام بوسائط أو حتی بالإضافة إلی من یصل إلیه الخبر عن الإمام علیه السلام بواسطة بأنْ لا یخبر إلیه المخبر الخبر عن الإمام بلا واسطة، وکذلک الحال فیما إذا أخبر العادل بعدالة مخبر حتی فیما إذا کان الإخبار بعدالته مباشرة، والوجه فی الإشکال أنّه إذا کان الواصل إلینا خبر العادل عن الإمام علیه السلام بلا واسطة بینه وبین الإمام علیه السلام فمقتضی وجوب تصدیق العادل فیما أخبر به ترتیب أثر قول الإمام علیه السلام علی خبره، وأما إذا کان خبره عنه مع الواسطة فلا یکون دلیل اعتبار الخبر مقتضیا لاعتبار الخبر الواصل إلینا فإنه لیس واقع خبر المخبر لنا إلاّ خبر الواسطة الذی لیس بنفسه أثر شرعی، ولا موضوع لأثر شرعی غیر وجوب التصدیق الذی جعل له هذا الأثر الشرعی بدلیل الاعتبار، ولو کان الأمر بترتیب هذا الأثر مدلولاً لدلیل الاعتبار لزم کون وجوب تصدیق العادل فی خبره موضوعا وحکما فی دلیل الاعتبار، وهذا معنی اتحاد الحکم والموضوع، وذکر الماتن قدس سره أنه إذا صار خبر العدل عن الإمام علیه السلام أو خبره بالعدالة بموضوع ذی حکم

ص :134

.··· . ··· .

بخطاب اعتبار خبر العدل، فیمکن ورود خطاب آخر ینشأ به بالخبر العدل عن المعصوم علیه السلام من الأثر علی خبر العدل بذلک الخبر، ومعه ینحل إشکال اتحاد الموضوع والحکم ولکن المفروض فی المقام أن ما یستفاد منها اعتبار خبر العدل مع تعددّه لا یستفاد منه إلاّ إنشاء واحد وهو ترتیب ما للمخبر واقعا من الأثر علی إخبار العادل به.

أقول: لا یکفی الخطاب الآخر إلاّ فیما وصل الخبر بقول المعصوم علیه السلام بواسطة واحدة وفیما کان بواسطتین أو أکثر یتعین خطاب ثالث أو أکثر ینشأ به أثر الإخبار بالخبر عن المعصوم علیه السلام للخبر عن ذلک الإخبار، وهکذا وإلاّ لزم اتحاد الحکم والموضوع بالإضافة.

وأجاب الماتن قدس سره عن أصل الإشکال بأنه لم یلاحظ فی وجوب تصدیق العادل فی خبره إلاّ طبیعی الأثر، لا الأثر المفروض للمخبر به مع قطع النظر عن الحکم بترتیبه علی الخبر العدل حتی یستشکل فی خبر عن المعصوم علیه السلام علیه بالواسطة وفی الإخبار بعدالة الراوی، بل المراد من الأثر للمخبر به المأثور بترتیبه علی الخبر طبیعی الأثر ولو کان ذلک الطبیعیّ بنفس ذلک الأمر، کما یقال مثلاً: الکلام ما یصحّ السکوت علیه فإنّ عنوان الحکم بطبیعی الکلام بأنه یصحّ السکوت علیه یعمّ نفس هذا الکلام الذی یتمّ بنفس هذا الحکم.

وبتعبیر آخر إذا شمل مفاد دلیل الاعتبار لخبر المخبر عن الإمام علیه السلام یکون شموله له موجبا لشموله لخبر المخبر بذلک الخبر أیضا، فإنّه بشمول دلیل الاعتبار للمخبر عن الإمام علیه السلام وصیرورة الخبر ذا أثر یکون تنزیل الخبر بذلک الخبر أیضا محققا، وهذا حاصل ما أجاب به أولاً.

ص :135

فإنه کیف یمکن الحکم بوجوب التصدیق الذی لیس إلاّ بمعنی وجوب ترتیب ما للمخبر به من الأثر الشرعی بلحاظ نفس هذا الوجوب، فیما کان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر، لأنه وإن کان أثراً شرعیاً لهما، إلاّ أنه بنفس الحکم فی مثل الآیة بوجوب تصدیق خبر العدل حسب الفرض.

وأجاب ثانیا: بأنه لو فرض عدم شمول دلیل الاعتبار للخبر بالخبر بالدلالة اللفظیة ثبت اعتبار الخبر مع الواسطة بعدم احتمال الفرق بین الأثر الثابت للمخبر به مع قطع النظر عن خطاب الاعتبار، وبین الثابت للمخبر به بلحاظ خطاب الاعتبار أضف إلی ذلک عدم القول بالفصل بین ترتیب أثر وأثر آخر.

أقول: الصحیح فی الجواب أنْ یقال لیس اعتبار الخبر بمعنی تنزیله منزلة واقعه، لیقال: إنه لابد من أنْ یکون لواقعه أثر مع قطع النظر عن التنزیل أو یکون لواقعه موضوعا أو حکما شرعیا، بل معنی حجیة الخبر اعتباره علماً وإحرازاً بالمخبر به، فلابد من أنْ یکون فی البین ما یوجب خروج الاعتبار عن اللغویة ولو بأنْ یکون للعلم بالمخبر به أثر من جواز الإخبار به ونحوه، مثلاً إذا روی المفید عن ابن الولید عن محمد بن الحسن الصفار عن الإمام علیه السلام یکون مقتضی دلیل الاعتبار أن خبر المفید إحراز لخبر ابن الولید فیجوز لنا الإخبار بأن ابن الولید أخبر المفید بکذا، وبعد إحراز خبر ابن الولید یکون مقتضی دلیل الاعتبار خبر ابن الولید لکون خطاب الاعتبار إنحلالیا، فإن خبر ابن الولید علم بخبر الصفار فیجوز الإخبار بأن الصفار قد أخبر ابن الولید، وخبر الصفار علم بقول الإمام علیه السلام وبضمیمة أصالة الظهور وجهة الصدور یکون العلم بقول الإمام علیه السلام بظاهره وجهة صدوره مستندا للحکم الشرعی الفرعی فی الواقعة.

ولو اُغمض عن ذلک وقیل بأن معنی اعتبار الخبر تنزیله منزلة واقعه المخبر به

ص :136

نعم لو أنشأ هذا الحکم ثانیاً، فلا بأس فی أن یکون بلحاظه أیضاً، حیث إنه صار أثراً بجعل آخر، فلا یلزم اتحاد الحکم والموضوع، بخلاف ما إذا لم یکن هناک إلاّ جعل واحد، فتدبر.

ویمکن ذب الإشکال، بأنه إنما یلزم إذا لم یکن القضیة طبیعیة، والحکم فیها بلحاظ طبیعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلاّ فالحکم بوجوب التصدیق یسری إلیه سرایة حکم الطبیعة إلی أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحکم والموضوع.

هذا مضافاً إلی القطع بتحقق ما هو المناط فی سائر الآثار فی هذا الأثر __ أی وجوب التصدیق __ بعد تحققه بهذا الخطاب، وإن کان لا یمکن أن یکون ملحوظاً لأجل المحذور، وإلی عدم القول بالفصل بینه وبین سائر الآثار، فی وجوب

فیمکن القول بأن المنزل علیه لخبر المفید لیس خبر ابن الولید، لیقال إنّ خبر ابن الولید لیس بذی أثر مع قطع النظر عن دلیل الاعتبار، بل حیث إن عمدة الدلیل علی اعتبار خبر العدل أو الثقة سیرة العقلاء وهم لا یفرقون فی الخبر بالواقعة بین کون الخبر بواسطة أو بدونها، فیکون مقتضی السیرة وإمضائها تنزیل خبر المفید عن ابن الولید عن الصفار عن الإمام علیه السلام تنزیل الخبر بمجموع سنده منزلة العلم بقول المعصوم علیه السلام .

نعم إذا کان بعض الوسائط مجهولاً أو ضعیفا فلا یکون فی الخبر المزبور هذا التنزیل لخروجه عن دائرة السیرة المشار إلیها، ولکن لا یخفی أنّه فی إجراء الدفع بأحد الوجهین فی الخبر بعدالة الراوی تأمل، اللّهمّ إلاّ أنْ یقال: إن الإخبار بعدالة الراوی إخبار عن موضوع ذی حکم وهو ترتّب وجوب التصدیق علی خبره ولا یضرّ إستفادة حکم ذلک الموضوع من نفس دلیل اعتبار الخبر لما تقدم من أن الأثر الملحوظ للمخبر به فی دلیل الاعتبار طبیعی الأثر الانحلالی بانحلال خبر العدل.

ص :137

الترتیب لدی الإخبار بموضوع، صار أثره الشرعی وجوب التصدیق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحکم فی الآیة به، فافهم.

ولا یخفی أنّه لا مجال بعد إندفاع الإشکال بذلک للإشکال فی خصوص الوسائط من الأخبار[1].

[1] ثم إن فی المقام إشکالاً آخر فی اعتبار الأخبار مع الواسطة وهو أنه إذا شمل دلیل الاعتبار لخبر المفید عن ابن الولید وباعتبار خبره الثابت وجداناً یحرز خبر ابن الولید ولکن لا یمکن أنْ یعم وجوب التصدیق لخبر ابن الولید بأنْ یثبت وجوب التصدیق لخبر ابن الولید أیضا؛ لأنّ الحکم لا یعمّ الفرد من الموضوع الذی تتأخّر رتبته عن ثبوت ذلک الحکم للموضوع، ولکن الإشکال ضعیف فإن الحکم إذا کان إنحلالیا وبثبوته لفرد من الموضوع یتحقق أو یحرز فرد آخر من الموضوع، یثبت الحکم الانحلالی للفرد المتحقق أو المحرز أیضا، فإن الحکم الثابت فرد آخر من الحکم فلاحظ مسألة الإقرار بالإقرار والبینة علی البینة، فإنه بشمول دلیل الاعتبار للإقرار المحرز بالوجدان یحرز الإقرار بالحق ویحکم بنفوذه، فیثبت الحق، کما أن بشمول دلیل الاعتبار للبینة علی شهادة العدلین یحرز البینة بالحق وبنفوذها تثبت الدعوی.

ولکن ذکر الماتن قدس سره أنه لا یبقی مجال لهذا الإشکال مع ظهور الجواب عن الإشکال الأول الراجع إلی لزوم إتحاد الحکم والموضوع؛ لأنّ الموضوع فی الحقیقة نفس الأثر الثابت للمخبر به علی تقدیره ولو کان ذاک الأثر بلحاظ أفراد طبیعی الأثر حتی ما کان مستفادا من خطاب اعتبار خبر العدل، فإنّه بذلک الدلیل یثبت للخبر اللاحق الأثر الثابت للسابق علی تقدیره.

أقول: قد ذکرنا أن إرجاع وجوب التصدیق لخبر العادل إلی الأثر الشرعی

ص :138

کخبر الصفار المحکی بخبر المفید مثلاً، بأنه لا یکاد یکون خبراً تعبداً إلاّ بنفس الحکم بوجوب تصدیق العادل الشامل للمفید، فکیف یکون هذا الحکم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حکماً له أیضاً، وذلک لأنه إذا کان خبر العدل ذا أثر شرعی حقیقة بحکم الآیة وجب ترتیب أثره علیه عند إخبار العدل به، کسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآیة للخبر الحاکی للخبر بنحو القضیة الطبیعیة، أو لشمول الحکم فیها له مناطاً، وإن لم یشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جیداً.

بترتیب الأثر الثابت للمخبر به علی خبر العدل خلاف اعتبار الأمارة عند العقلاء، فإن اعتباره عندهم اعتبارها علما بالمخبر به علی ما تقدم، نعم إذا لم یصح أن یعمّ الحکم لجمیع أفراد موضوعه حتی الفرد الذی تتأخر رتبته عن الحکم بأن دار الأمر فی ذلک الحکم أنْ یختص بالأفراد التی لا تتوقف فردیتها للموضوع علی الحکم المجعول له أو یختص بخصوص الفرد الذی یتوقف فردیته علی ذلک الحکم، کما فی قوله کل خبری کاذب فلا یبعد القول بأنّه لا یعمّ الفرد المتوقف فردیته علی هذا الحکم ویعدّ اختصاصه به من التخصیص المستهجن، ومن هذا القبیل تردد شمول دلیل اعتبار خبر العدل أو الثقة للأخبار المأثورة عن الأئمة علیهم السلام الواصلة إلینا بواسطة العدول والثقات أو للإجماع المنقول فی کلام السید من کون العمل بالخبر الواحد عند أصحابنا نظیر العمل بالقیاس عندهم مع کون نقله الإجماع موهونا معارضا بالمثل، وعدم الملازمة بین اعتبار خبر العدل عن المعصوم علیه السلام بنحو نقل الروایة وبین نقل مثل الإجماع المزبور، وأن شمول اعتبار خبر العدل لما نقله من الإجماع غیر معقول لأنّه یلزم من شمول دلیل الاعتبار له عدم اعتباره؛ لأنّ غایة الإجماع المنقول أنه خبر الواحد وما یلزم من اعتباره عدم اعتباره غیر ممکن الاعتبار.

ص :139

ومنها: آیة النفر، قال اللّه تبارک وتع_الی: «فلو لا نف_ر من کل فرقة منهم طائفة» الآیة، وربّما یستدلّ بها من وجوه.

أحدها: أنّ کلمة (لعلّ) وإن کانت مستعملة علی التحقیق فی معناها الحقیقی وهو الترجّی الإیقاعی] 1] الإنشائی، إلاّ أن الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقه

فی الاستدلال علی اعتبار الخبر الواحد بآیة النفر

[1] من الآیات التی إستدل بها علی اعتبار خبر العدل آیة النفر قال اللّه تعالی «لولا نفر من کل فرقة منهم طائفة»(1) الآیة، وذکر الماتن قدس سره أنّه یستدلّ بها علی اعتبار خبر العدل من وجوه.

الأول: أنّ کلمة (لعلّ) وإنْ تکن مستعملة فی معناها الموضوع له وهو الترجّی الإنشائی، إلاّ أنْ الداعی إلی استعمالها فیه لا یمکن أنْ یکون هو الترجّی الحقیقی الممکن من الجاهل بحقیقة الأمر والواقع، ویتعیّن کون استعمالها فیه لإظهار مطلوبیة الفعل المنشأ له الترجّی، وإذا ثبت مطلوبیّة التحذّر أی قبول الإنذار والعمل علی مقتضاه ثبت وجوبه شرعا لعدم الفصل بین مطلوبیته ووجوبه، فإن التحذّر لا یقبل الاستحباب فإنّه یجب مع ثبوت مقتضیه ولا یکون مطلوبا أصلاً مع عدم مقتضیه، والثانی، أن الإنذار الوارد فی الآیة واجب حیث جعل غایة للنفر الواجب فإن وجوب النفر مستفاد من کلمة لولا التحضیضیة المتضمنة للتوبیخ علی ترک الفعل، وإذا کان الإنذار واجبا وجب ما یترتب علیه من الفرض حیث لا یمکن وجوب شیء وعدم وجوب غایته المترتبة علیه من الغرض.

وعلی الجملة لا یمکن عدم لزوم الغایة التی تقبل التکلیف ویترتّب علی الواجب وذکر غرضاً لذلک الواجب.

ص :140


1- 1) سورة التوبة: الآیة 122.

.··· . ··· .

والثالث: أن الإنذار واجب لما تقدم وذکر التحذر غایة له، ومن الظاهر أن وجوب ذی الغایة التی تقبل التکلیف ترشحی من وجوب غایته، وإذا لم تکن الغایة واجبة فکیف یترشح الوجوب إلی ذیها یعنی الإنذار.

والفرق بین الوجه الثالث والوجه الثانی، أن الثانی کان ناظرا إلی إیجاب ذی الغایة وأن وجوبه من غیر لزوم غایته التی تقبل التکلیف غیر ممکن بلا نظر إلی کون وجوب ذی الغایة نفسیا أو غیریا، والوجه الثالث ناظر إلی أنّ إیجابه غیری فلابد من وجوب الغایة لیترشح الوجوب منها إلی ذیها حتی فیما فرض أنّ لذی الغایة فائدة اُخری یترتب علیها بحیث لا یکون إیجابه نفسیاً بدون إیجاب غایته لغواً، کظهور الحق ووضوح الواقع فإن ذلک یترتب علی الإنذار مع تراکمه وکثرة المنذرین ولکن وجوب الإنذار غیریا مع عدم وجوب التحذر غیر ممکن.

وأجاب قدس سره عن وجه الإمکان بإمکان الاستحباب فی التحذر؛ لأنّ إنذار المنذرین لو کان موجباً للعلم بالواقع کما إذا کانوا من الکثرة بحیث یحصل من إنذارهم فی واقعة العلم بالتکلیف الواقعی یتعین الحذر للزوم اتباع العلم بالتکلیف، وأما إذا لم یکن موجبا له فیکون التحذر من الابتلاء بمفسدة الفعل أو فوت المصلحة الملزمة أمرا حسنا، والتحذر لرجاء عدم الابتلاء أو عدم فوت المصلحة الملزمة مستحباً فإنّه من الاحتیاط، وبتعبیر آخر حجیة غیر العدل تنتزع من إیجاب الحذر لا من مجرد مطلوبیته، وکلمة (لعلّ) لا یستفاد منها إلاّ المطلوبیة لا کونها بنحو اللزوم، فالفصل بین مطلوبیة الحذر وعدم وجوبه بأنْ یثبت الأوّل عند إخبار العدل دون الثانی أمر ممکن فإنّ الخوف یصدق إذا کان فی البین احتمال الابتلاء بالمفسدة أو فوت المصلحة الملزمة.

ص :141

تعالی أن یکون هو الترجی الحقیقی، کان هو محبوبیة التحذر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبیته ثبت وجوبه شرعاً، لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه، وعدم حسنه، بل عدم إمکانه بدونه.

ثانیها: إنه لما وجب الإنذار لکونه غایة للنفر الواجب، کما هو قضیة کلمة (لولا) التحضیضیة، وجب التحذر، وإلاّ لغی وجوبه.

ویورد علی الوجه الثانی بأن إیجاب الإنذار مع عدم وجوب الحذر بإطلاقه أو اشتراطه بصورة إحراز صدق الإنذار لا یکون لغوا حیث إن وجوب الإنذار علی المنذر مع عدم لزوم العمل بإنذاره مطلقا لوضوح الواقع بتراکم الإنذار، وعلی الوجه الثالث: بأن الإنذار فعل المنذر والحذر فعل من وصل إلیه الإنذار فلا یعقل أنْ یکون فعل المنذر واجبا غیریا ترشحیا، بل یتعین کونه نفسیا، غایة الأمر الداعی إلی إیجابه وجوب الغایة، ولکن کون وجوب الغایة علی الإطلاق غیر ظاهر بل لعلّه مشروط بصورة العلم والوثوق بصدق الإنذار.

لا یقال: وجوب العمل بإنذار المنذر مطلق سواءً حصل العلم بصدق الإنذار أم لا، مقتضی الإطلاق وعدم تقیید مطلوبیة الحذر بصورة العلم، فإنّه یقال: لا مجری لأصالة الإطلاق فی ناحیة وجوب الحذر لعدم کون الآیة واردة إلاّ فی مقام إیجاب النفر للتفقه کفائیّا هذا أولاً، وثانیا ما یقتضی إختصاص وجوب الحذر بصورة إحراز الصدق موجود فی نفس الآیة بمعنی أنه لو کانت الآیة فی مقام البیان حتی فی ناحیة وجوب العمل بإنذار، لکان وجوب الحذر مختصا بصورة إحراز صدق الإنذار، وذلک فإن إیجاب النفر بنحو الوجوب الکفائی کما هو ظاهر الآیة للتفقه وتعلم معالم الدین لإبلاغها للمتخلفین أو لإبلاغ المتخلفین إلی النافرین علی الوجهین الواردین فی تفسیر الآیة، ویجب الحذر علی المتخلّفین النافرین فیما إذا اُنذروا بأحکام الدین

ص :142

.··· . ··· .

ومعالمها ولا یکون هذا الوجوب منجزا إلاّ مع إحرازهم أنّهم أنذروا بها.

وبتعبیر آخر الإنذار بمعالم الدین وأحکامه موضوع لوجوب القبول علی الآخرین فیحتاج فی وجوب القبول علیهم إلی إحرازهم أنهم اُنذروا بها کسائر الأحکام المترتبة علی سائر الموضوعات فی توقف تنجزها علی إحراز فعلیة موضوعاتها وهذا ما أفاده الماتن بزیادة التوضیح منّا.

أقول: ما ذکره قدس سره أوّلاً من أنّ الحذر بنفسه لا یقتضی أنْ یکون الطلب المتعلق به لزومیا بل یمکن کونه بنحو الإستحباب أمر صحیح فی نفسه، نظیر قوله فأحذر إذا نصحک أخوک، ولکن المحذور منه فی الآیة المبارکة مخالفة إنذار المنذر، ومن الظاهر أنّ المنذر إما أنْ یخبر بالتکلیف الواقعی بالمطابقة وبالعقاب علی مخالفته بالإستلزام أو بالعکس، وظاهر الحذر عمّا اُنذروا الحذر عما یترتب علی مخالفة الإنذار من احتمال العقاب، وفوت الملاک علی تقدیره لا یعبأ به عامة الناس مع فرض عدم إحتمال العقاب فطلب الحذر مع عدم ترتب احتمال العقاب علی المخالفة بلا معنی، ولذا لو ورد فی الخطاب الشرعی لاُخذ فی إنذار الفاسق إذا أنذرک بما تفقّه، کان الکلام المزبور صحیحاً وإن یحتمل فوت الملاک الواقعی بصدق إنذاره.

وأما ما ذکر قدس سره من عدم الإطلاق فی طلب الحذر ولعله مشروط بحصول العلم بصدق الإنذار، بل فی الآیة دلالة علی أن المطلوب القبول والعمل إذا کان الإنذار بمعالم الدین وأحکامه، واللازم إحراز ذلک کسائر الموضوعات للأحکام لا یمکن المساعدة علیه، فإن اختصاص کون الآیة فی مقام بیان وجوب النفر فقط غیر معلوم، فإنّ سوقها فی مقام وجوب النفر لا ینافی کونها فی مقام بیان وجوب التفقه ووجوب

ص :143

ثالثها: إنه جعل غایة للانذار الواجب، وغایة الواجب واجب.

ویشکل الوجه الأول، بأن التحذر لرجاء إدراک الواقع وعدم الوقوع فی محذور مخالفته، من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة، حسن، ولیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة علی التکلیف، ولم یثبت ها هنا عدم الفصل، غایته عدم القول بالفصل.

والوجه الثانی والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار ب [إیجاب] التحذر تعبداً، لعدم إطلاق یقتضی وجوبه علی الإطلاق، ضرورة أن الآیة مسوقة لبیان وجوب النفر، لا لبیان غایتیة التحذر، ولعل وجوبه کان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو

الإنذار ووجوب الحذر أیضا، حیث إن الأحکام الواردة فیها أحکام متعددة وکونها واردة فی بیان واحد منها خلاف أصالة کون المتکلم فی بیان کلّ حکم یرد فی خطابه، وکذا دعوی أنّ فی الآیة قرینة علی ما یقتضی اختصاص وجوب الحذر بصورة العلم بصدق الإنذار، وذلک فإنه لم یؤخذ فی ناحیة الإنذار إلاّ الإخبار بترتب العقاب علی الترک والفعل سواء کان الإخبار بالدلالة المطابقیّة أو بغیرها، وکما أنّ مقتضی إطلاق الآیة وجوب الإنذار علی المنذرین سواء أفاد العلم بالصدق للسامعین أم لا، کذلک الحال فی ناحیة وجوب القبول علی المنذرین بالفتح بلا تقیید بصورة علمهم بصدق الإنذار، ومقتضی هذا الإطلاق اعتبار إنذارهم علما بمعالم الدین وأحکامه، ولکن هذا فی الحقیقة عبارة اخری عن اعتبار فتوی الفقیه فإن مضمون الآیة اعتبار محتوی کلام المنذر، بما هو منذر وما أجاب به الماتن قدس سره عن ذلک بأنّه لم یکن حال الرواة فی الصدر الأول الناقلین عن النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام إلاّ کحال نقلة الفتاوی عن المجتهدین فی هذه الأعصار، وکما یصدق الإنذار علی نقل نقلة الفتاوی عن المجتهد إذا کان المنقول حکماً إلزامیاً یستلزم التخویف علی

ص :144

لم نقل بکونه مشروطاً به، فإن النفر إنما یکون لأجل التفقه وتعلم معالم الدین، ومعرفة ما جاء به سید المرسلین صلی الله علیه و آله ، کی ینذروا بها المتخلفین أو النافرین، علی الوجهین فی تفسیر الآیة، لکی یحذروا إذا أنذروا بها، وقضیته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها، کما لا یخفی.

ثم إنه أشکل أیضاً، بأن الآیة لو سلم دلالتها علی وجوب الحذر مطلقاً فلا

المخالفة، کذلک الحال فی نقل کلام النبی صلی الله علیه و آله والمعصوم علیه السلام فی تلک الأعصار.

وعلی الجملة إذا کان النقل مع التخویف معتبرا کان معتبرا بلا تخویف لعدم القول بالفصل وعدم احتمال الفرق بین الخبر المقارن للتخویف وبین غیره.

وعن بعض الأعلام قدس سره أن التفکیک بین نقل الحدیث والفتوی وقع فی الأزمنة المتأخرة لکثرة الأخبار واختلافها فی العبادات وقلتها فی المعاملات جدا، بحیث یحتاج استفادة أحکام المعاملات من تلک الروایات إلی صرف العمر فی وجه الإستفادة وکیفیتها منها، وإذا دلّت الروایة علی اعتبار الإنذار فی الصدر الأول کان مقتضاها اعتبار خبر العدل والثقة. وفیه أنّ الآیة علی تقدیر الإطلاق لا تدلّ إلاّ علی اعتبار الفتوی یعنی الإفتاء، وذلک فإنّ المهم فی بحث حجیة خبر الواحد هو إثبات أن الکلام الصادر من الراوی علم بکلام المعصوم علیه السلام بحسب الصدور، وأما المعنی المستفاد ومحتواه فقول الراوی بما هو راوٍ غیر معتبر فیه، فإنّه یمکن أنْ یکون المستفاد منه عند المروی إلیه خلاف ما استفاد الراوی، وعلی ذلک فمفاد الآیة اعتبار الإنذار بما هو إنذار وقبول إنذاره علی المنذر بالفتح، وهذا فی قوة اعتبار محتواه الذی عند الراوی أو حتی إذا لم یکن إنذاره بنقل الروایة.

وبالجملة کون الإنذار فی الصدر الأول کان مع نقل کلام المعصوم علیه السلام لا یوجب کون موضوع الاعتبار نقل کلامه علیه السلام مع قطع النظر عن الإنذار کما لا یخفی.

ص :145

دلالة لها علی حجیة الخبر بما هو خبر، حیث إنه لیس شأن الراوی إلاّ الإخبار بما تحمله، لا التخویف والإنذار، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلی المسترشد أو المقلد.

قلت: لا یذهب علیک أنه لیس حال الرواة فی الصدر الأول فی نقل ما تحملوا من النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام من الأحکام إلی الأنام، إلاّ کحال نقلة الفتاوی إلی العوام.

ولا شبهة فی أنه یصح منهم التخویف فی مقام الإبلاغ والإنذار والتحذیر بالبلاغ، فکذا من الرواة، فالآیة لو فرض دلالتها علی حجیة نقل الراوی إذا کان مع التخویف، کان نقله حجة بدونه أیضاً، لعدم الفصل بینهما جزماً، فافهم. ومنها: آیة الکتمان «إنّ الّذین یکتمون ما أنزلنا . . .» الآیة[1].

فی الاستدلال علی اعتبار الخبر الواحد بآیة الکتمان

[1] قد یستدل بقوله سبحانه «إن الذین یکتمون ما أنزلنا من البیّنات والهدی من بعد ما بیّناه للناس فی الکتاب اُولئک یلعنهم اللّه ویلعنهم اللاعنون»(1) وتقریب الإستدلال هو أنّ الغرض والغایة من وجوب الإظهار أو حرمة الکتمان ترتب التصدیق العملی علی الإظهار، ومقتضی إطلاق الآیة وجوب الإظهار ولو فیما لا یوجب العلم للسامعین، ومقتضی وجوب الإظهار فی الفرض ترتب وجوب العمل علی طبقه وهذا معنی التعبّد بالإظهار، وبتعبیر آخر یکون الإظهار حجة ویعتبر علما ولو فیما لا یوجب العلم وجدانا نظیر ما یذکر فی قوله سبحانه «ولا یحلّ لهن أن یکتمن ما خلق اللّه فی أرحامهن»(2) من أنّ نهی المرأة عن کتمانها حتی فی صورة عدم إفادة إظهارها العلم بالصدق مقتضاه اعتبار قولها فی إخبارها بحملها، وقد أورد

ص :146


1- 1) سورة البقرة: الآیة 159.
2- 2) سورة البقرة: الآیة 228.

وتقریب الاستدلال بها: إن حرمة الکتمان تستلزم وجوب القبول عقلاً، للزوم لغویته بدونه، ولا یخفی أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال للإیراد علی هذه الآیة بما أورد علی آیة النفر، من دعوی الإهمال أو استظهار الإختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافیهما، کما لا یخفی، لکنها ممنوعة، فإن اللغویة غیر لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً، وإمکان أن تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق

الشیخ قدس سره علی الاستدلال بأن الغایة من وجوب الإظهار أو حرمة الکتمان أن یکون العمل بمقتضی الإظهار، إلاّ أنّه لا دلالة للآیة علی لزوم العمل بالإظهار تعبدا للإهمال فی ناحیة وجوب القبول، بل یمکن دعوی ظهورها فی العمل بالإظهار مع إحراز کونه إظهاراً للهدی، والتذکر بالبینة، وأورد علیه الماتن قدس سره أنّه بعد تسلیم الملازمة والإطلاق فی وجوب الإظهار أو حرمة الکتمان لا یمکن دعوی الإهمال فی وجوب القبول، وذلک فإنّه بناءً علی الإهمال أو إختصاص وجوب العمل بصورة العلم بکون إظهاره إظهارا للهدایة، یکون وجوب الإظهار أو حرمة الکتمان حتی فی صورة عدم إفادة الإظهار العلم للسامع من اللغو، وهذا بخلاف آیة النفر فإنّه قد تقدم أنّه لا إطلاق فیها بالإضافة إلی وجوب الإنذار أیضا، والجواب الصحیح عن الاستدلال بآیة الکتمان منع الملازمة، بمعنی أنّه لم یعلم أن الغرض من حرمة الکتمان أو وجوب الإظهار العمل بالإظهار کما کان هذا غرضا للإنذار فی آیة النفر، بل الغرض من وجوب الإظهار وحرمة الکتمان وضوح الحقّ والعرفان به والشاهد لذلک ورود الآیة فی نبوّة نبینا صلی الله علیه و آله حیث وقع الإخبار بها فی الکتب المنزلة من قبل، وبهذا یفترق المقام عن حرمة الکتمان علی المرأة وإیجاب إظهار ما فی رحمها من الحمل حیث إن خبر المرأة الواحدة لا یفید عادة العلم بقولها فیتعیّن أن یکون تکلیفها بالإظهار للعمل بقولها من جواز إطلاقها فی أی حال وإستحقاقها نفقتها ولو کان طلاقها بائناً إلی غیر ذلک.

ص :147

بسبب کثرة من أفشاه وبیّنه، لئلا یکون للناس علی اللّه حجة، بل کان له علیهم الحجة البالغة.

ومنها: آیة السؤال عن أهل الذکر «فاسألوا أهل الذکر إنْ کنتم لا تعلمون»[1].

فی الاستدلال علی اعتبار الخبر الواحد بآیة السؤال

[1] الاستدلال بآیة السؤال عن أهل الذکر(1) علی اعتبار خبر العدل مبنی علی أنّ مفادها قضیة کلیّة یختلف مصادیق ذلک المفاد، فإنّه إذا کان الشخص جاهلاً بنبوة نبینا صلی الله علیه و آله وسلم وأنّه هل الوعد برسالته ونبوته وارد فی أخبار الأنبیاء السابقین أو أنّه یمکن کون النبی صلی الله علیه و آله وسلم بشرا، أو یکون أهل الذکر علماءهم العارفین بکتب الأنبیاء السابقین وأحوالهم، کعلماء الیهود والنصاری، والمأمور بالسؤال عوام الیهود والنصاری وحیث إنّ هذا الأمر راجع إلی الاعتقادات یکون الأمر بالسؤال عنهم لتحصیل العلم والإعتقاد بنبوة نبینا صلی الله علیه و آله وسلم ، وکذا إذا کان الشخص عالما بنبوة نبینا صلی الله علیه و آله وسلم جاهلاً بوصیّه وخلیفته من بعده فأهل الذکر فی هذا الأمر نفس النبی صلی الله علیه و آله وخیار أصحابه العالمین بما سمعوا منه فی قضیة الخلافة من بعده، وإذا علم الإمام المعصوم علیه السلام وجهل الشخص قوله علیه السلام فأهل الذکر فی هذا الأمر نفس المعصوم علیه السلام أو الرواة عنه الذین أخذوا منه علیه السلام الحدیث بلا واسطة أو معها، فالفقیه غیر راوٍ للحدیث عنه علیه السلام ، بل مأمور بالأخذ بقول الإمام علیه السلام عن الرواة، فإن الراوی عنه علیه السلام أهل الذکر بالإضافة إلی الفقیه المزبور، کما أنّ الفقیه المزبور من أهل الذکر بالإضافة إلی العامی الذی یجهل تکالیفه وهمّه معرفته بها لیعمل علی طبقه، فالأمر بالسؤال فی موارد الاُمور الاعتقادیة لتحصیل العلم، وفی مورد الأحادیث الأخذ بمضمونها، وفی موارد التکالیف العمل علی طبق الفتوی المأخوذة فلا بدّ فی أنْ یکون مقتضی الآیة

ص :148


1- 1) سورة النحل: الآیة 43، وسورة الأنبیاء: الآیة 7.

.··· . ··· .

المبارکة دلیلاً علی حجیة الخبر فی مورد نقل الروایة، وعلی حجیة الفتوی فی مورد الاستفتاء.

وعلی الجملة کما یکون مقتضی الآیة اعتبار الفتوی بالإضافة إلی المستفتی کذلک مقتضاه اعتبار روایة الراوی بالإضافة إلی المروی إلیه غایته، کما یعتبر فی المفتی بعض الاُمور کذلک یعتبر فی الراوی عدم کونه فاسقا لما دلّ فی آیة النبأ علی عدم اعتبار خبره، وفیه أن مفاد الآیة والأمر بالسؤال فیها علی أهل الذکر لکون السؤال عنه طریقا لعرفان الحق والوصول إلیه، فلا یکون الشخص معذوراً إذا ترک السؤال والفحص بأنْ کان عدم عرفانه الحق والوصول إلیه لترکه السؤال والفحص، ولم یظهر فیها أنّ الأمر بالسؤال لمجرّد التعبّد بالجواب خصوصا بملاحظة مورد الآیة فی کون السؤال فی أمر إعتقادی بوجوب تحصیل العلم والعرفان به.

أضف إلی ذلک ما فی ذیلها فی قوله سبحانه «إنْ کنتم لا تعلمون» وقد نوقش فیها أیضا بأنّ راوی الحدیث بما هو راوٍ یصدق علیه أهل الذکر، فلا دلالة فی الآیة علی اعتبار خبر الراوی حتی لو قیل بأن مفادها التعبّد بالجواب، وأجاب الماتن قدس سره عن المناقشة بأنه یصدق أهل الذکر علی بعض الرواة الذین هم من الفقهاء کأضراب زرارة، وإذا دلّت الآیة علی اعتبار خبره فی الجواب حتی فیما کان السائل عنه فقیهاً لکانت روایة غیره من العدول معتبرة وإن لم یکن ذلک الغیر فقیهاً للقطع بأنه لیس کون الراوی فقیهاً دخیلاً فی اعتبار روایته، کما لا یحتمل الفرق فی اعتبار خبر العدل بین کونه المبتدأ أو المسبوق بالسؤال.

أقول: لو لم تکن لفقاهة زرارة وأضرابه دخالة فی الرجوع الی روایتهم لم تعم الآیة للسؤال عنهم من الروایة لظهور الآیة المبارکة لدخالة عنوان أهل الذکر فی اعتبار

ص :149

وتقریب الاستدلال بها ما فی آیة الکتمان.

وفیه: إن الظاهر منها إیجاب السؤال لتحصیل العلم، لا للتعبد بالجواب.

وقد أورد علیها: بأنه لو سلم دلالتها علی التعبد بما أجاب أهل الذکر، فلا دلالة لها علی التعبد بما یروی الراوی، فإنه بما هو راو لا یکون من أهل الذکر والعلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها علی حجیة الفتوی لا الروایة.

وفیه: إن کثیراً من الرواة یصدق علیهم أنهم أهل الذکر والاطلاع علی رأی الإمام علیه السلام کزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ویصدق علی السؤال عنهم أنه

جوابهم فیقتصر مدلولها فی الشمول باعتبار فتوی الفقیه، ولعله قدس سره یشیر إلی ذلک بقوله: فافهم.

ولکن مع ذلک من کان شأنه جمع الروایات بطرقها المعروفة فی الأخذ والنقل المعبّر عنهم بنقلة الأحادیث یصدق علیه عنوان أهل الذکر مع قطع النظر عن فقاهته وعدمها، والسؤال عنهم من الروایات الواصلة إلیهم بالطرق المعروفة یدخل فی السؤال عن أهل الذکر، وإذا کان المستفاد من الآیة جواز التعبد بجوابهم یکون ذلک فی معنی اعتبار الخبر، والعمدة فی الإشکال علی الإستدلال بالآیة أنّه لم یظهر من الآیة أنّ الأمر بالسؤال عن أهل الذکر للأخذ بجوابهم ولو تعبدا بل الظاهر بقرینة مورد الآیة وما ورد فی ذیلها من قوله سبحانه: «إنْ کنتم لا تعلمون» للإرشاد إلی طریق تحصیل العلم بالواقع والحق وعدم کون الشخص معذورا إذا ترک طریق الفحص علی ما مرّ، نعم لو قام دلیل من الخارج أن خبر العدل عن الإمام علیه السلام ولو کان بعنوان خبر الواحد علم بقوله علیه السلام أو أن فتوی الفقیه علم بالحکم الواقعی کان الرجوع إلی الروایة والظفر بالخبر العادل فی مورد کالظفر بفتوی الفقیه من تحصیل العلم بقول المعصوم أو بالحکم الشرعی.

ص :150

السؤال عن أهل الذکر والعلم، ولو کان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضی هذه الآیة، وجب قبول روایتهم وروایة غیرهم من العدول مطلقاً، لعدم الفصل جزماً فی وجوب القبول بین المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بین أضراب زرارة وغیرهم ممن لا یکون من أهل الذکر، وإنما یروی ما سمعه أو رآه، فافهم.

ومنها: آیة الاُذن «ومنهم الذین یؤذون النبی ویقولون هو اُذن قل اُذن خیر لکم یؤمن باللّه ویؤمن للمؤمنین»[1]. فإنه تبارک وتعالی مدح نبیه بأنه یصدق المؤمنین، وقرنه بتصدیقه تعالی.

فی الاستدلال علی اعتبار الخبر الواحد بآیة الاُذن

[1] ووجه الاستدلال بها علی اعتبار الخبر الواحد هو مدح اللّه سبحانه نبیّه صلی الله علیه و آله وسلم علی تصدیقه للمؤمنین وقرن تصدیقهم بتصدیق اللّه سبحانه، ولو لم یکن خبر العدل أو الثقة معتبرا لما کان فی تصدیقه صلی الله علیه و آله موضع مدح، وقد أورد الماتن علی الإستدلال بوجهین، الأول: أن المراد من الاُذن سریع القطع والاعتقاد لا العمل بالخبر تعبدا، والثانی: أنّه علی تقدیر کون المراد تصدیق الغیر فی خبره عملاً فهو بالإضافة إلی ما ینفع المخبر ولا یضرّ بالغیر.

وبتعبیر آخر عدم إظهار خلاف خبره له وردّ خبره علیه، لا ترتیب آثار ثبوت المخبر به علیه، وهذه جهة أخلاقیة حیث یری الغیر تصدیق خبره وثبوت اعتباره عند السامع، وقد ذکر الشیخ قدس سره أن اختلاف الجارّ فی إضافة إیمانه صلی الله علیه و آله إلیه سبحانه «یؤمن باللّه» عن الجارّ فی إضافته إلی المؤمنین مع تکرار الفعل «یؤمن للمؤمنین» قرینة علی اختلاف المراد من الإیمان فیهما ففی إضافته إلیه سبحانه بمعنی الاعتقاد والیقین وفی إضافته إلی المؤمنین التصدیق صورة بمعنی عدم الإنکار علیهم عند

ص :151

وفیه: أولاً: إنه إنما مدحه بأنه أذن، وهو سریع القطع، لا الاخذ بقول الغیر تعبداً.

وثانیاً: إنه إنما المراد بتصدیقه للمؤمنین، هو ترتیب خصوص الآثار التی تنفعهم ولا تضر غیرهم، لا التصدیق بترتیب جمیع الآثار، کما هو المطلوب فی باب حجیة الخبر، ویظهر ذلک من تصدیقه للنمام بأنه ما نمّه، وتصدیقه للّه تعالی بأنه نمّه، کما هو المراد من التصدیق فی قوله علیه السلام : (فصدقه وکذبهم)، حیث قال

خبرهم، بل الإصغاء والسکوت. وقول ما یتخیّل المخبر تصدیق خبره، ولکن لا یخفی أن الإیمان یتعدی بکل من الباء واللام ویراد منه التصدیق والاعتقاد واقعا کقوله سبحانه: «فما آمن لموسی إلاّ ذریةً من قومه علی خوف من فرعون»(1) و«قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا»(2) و«قالوا لن نؤمن لک حتی تفجر لنا من الأرض ینبوعاً»(3) إلی غیر ذلک، وقوله سبحانه «فآمنوا باللّه ورسوله النبی الاُمی»(4) وقد یفرق بین الباء واللام بأن المراد فی موارد التعدی باللام الإیمان والاعتقاد بالشخص فی قوله، وفی موارد التعدی بالباء الاعتقاد بحصول نفس الشیء وحیث إن تصدیق اللّه سبحانه فی وعده وقوله من جهات الاعتقاد بنفسه فإن ذاته سبحانه عین کماله والإیمان به لا ینفک عن التصدیق بکلامه وخبره اختلفت التعدیة فی إضافة الإیمان إلیه سبحانه عن إضافته إلی المؤمنین.

أقول: لا یمکن أن یکون المراد من الاُذن فی الآیة سریع القطع والاعتقاد، فإن کون إنسان سریع الاعتقاد والقطع نقص له ولا یکون موجبا للمدح بل یکون قادحا

ص :152


1- 1) سورة یونس: الآیة 83.
2- 2) سورة ابراهیم: الآیة 10.
3- 3) سورة الإسراء: الآیة 90.
4- 4) سورة الاعراف: الآیة: 158.

_ علی ما فی الخبر _ : (یا محمد کذب سمعک وبصرک عن أخیک: فإن شهد عندک خمسون قسامة أنه قال قولاً، وقال: لم أقله، فصدّقه وکذّبهم) فیکون مراده تصدیقه بما ینفعه ولا یضرّهم، وتکذیبهم فیما یضره ولا ینفعهم، وإلاّ فکیف یحکم بتصدیق الواحد وتکذیب خمسین؟ وهکذا المراد بتصدیق المؤمنین فی قصة إسماعیل، فتأمل جیداً.

فیه خصوصا الذی یشغل منصب الزعامة لقوم فضلاً عن الاُمة وجمیع البشر، هذا مع الإغماض عن کون النبی صلی الله علیه و آله وسلم معصوما وحیث إنّ الإیمان باللّه سبحانه والتصدیق بکلّ مخبر فی خبره ولو کان فاسقا وکاذبا لا یجتمعان کما هو المفروض فی مورد نزول الآیة، یتعین أن یکون المراد من تصدیق المؤمنین فی خبرهم إظهار التصدیق لا بداعی الإعتقاد والتصدیق الحقیقی لأدب المعاشرة ولو فی موارد العلم بکذب المخبر فی خبره کما هو المفروض فی مورد نزولها، وهذا هو المراد أیضا من التصدیق المروی عنه علیه السلام «یا محمد کذب سمعک وبصرک عن أخیک فإن شهد عندک خمسون قسامة وقال لک قولاً فصدّقه وکذّبهم»(1).

والحاصل لا دلالة فی الآیة الکریمة علی اعتبار الخبر الواحد بوجه.

ص :153


1- 1) وسائل الشیعة 12:295، الباب 157 من أبواب أحکام العشرة، الحدیث 4.

ص :154

فصل

فی الأخبار التی دلّت علی اعتبار أخبار الآحاد وهی وإن کانت طوائف کثیرة[1]. کما یظهر من مراجعة الوسائل وغیرها، إلاّ أنه یشکل الاستدلال بها علی حجیة أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غیر متفقة علی لفظ ولا علی معنی، فتکون متواترة لفظاً أو معنی.

ولکنه مندفع بأنها وإن کانت کذلک، إلاّ أنها متواترة إجمالاً، ضرورة أنه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم علیهم السلام ، وقضیته وإن کان حجیة خبر دلّ علی حجیته أخصها مضموناً إلاّ أنه یتعدی عنه فیما إذا کان بینها ما کان بهذه الخصوصیة، وقد دلّ علی حجیة ما کان أعم، فافهم.

فی الأخبار التی استدل بها علی اعتبار الخبر الواحد

[1] قد یستدل علی اعتبار الخبر الواحد بالأخبار التی یستظهر منها اعتباره، أو یکون ظاهرها اعتباره، وبما أنّ الاستدلال علی اعتبار خبر الواحد بالخبر الواحد مصادرة ولا تکون تلک الأخبار من المتواتر لفظا أو معنی؛ لأنّها علی طوائف فقد صحّح الاستدلال بها بدعوی أنّها متواترة إجمالاً، وعلیها فیؤخذ منها بأخصّها مضمونا فیعتبر بها خبر یکون من حیث السند بحیث یکون من القدر المتیقن فی الاعتبار بحسبها، ولو کان مثل هذا الخبر کالخبر الصحیح الأعلائی موجودا بین الأخبار ویکون مدلولها أوسع، بأن یدلّ علی اعتبار الخبر الواحد إذا کان رواته ثقات أو حتی ممدوحین یثبت به اعتبار خبر الثقة بل خبر الممدوح کما لا یخفی.

أقول: لم أجد فی الروایات الواردة الظاهرة فی اعتبار الخبر ما یکون فی ناحیة سندها صحیحا أعلائیا یکون مضمونها اعتبار خبر مطلق الثقة أو الإمامی الممدوح،

ص :155

.··· . ··· .

وقد یقال: ما ورد فی الجواب عن السؤال عن الرضا علیه السلام : «أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی فقال: نعم»(1) یستفاد منه کون اعتبار خبر الثقة کان مفروغا عنه بین الإمام والسائل وإنما سؤاله کان ناظرا إلی الصغری، ولکن لا یخفی أن یونس بن عبدالرحمن کان فقیهاً إمامیاً فالسؤال عن الأخذ به وأنّه ثقة لیس لجهة أنّ کونه فقیهاً وإمامیا غیر دخیل فی اعتبار خبره أو فتواه، بل لجهالة کونه ثقة عند الإمام علیه السلام فلا دلالة لها علی حجیة مطلق خبر الثقة فضلاً عن فتواه، أضف إلی ذلک احتمال کون المراد من الثقة الثقة فی دینه المرادف للعدالة نظیر ما ورد: «لا تصلّ إلاّ خلف من تثق بدینه»(2) إلی غیر ذلک.

ص :156


1- 1) وسائل الشیعة 27:147، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 33.
2- 2) وسائل الشیعة 8: الباب 12 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث الأول.

فصل

فی الإجماع علی حجیة الخبر.

وتقریره من وجوه:

أحدها: دعوی الإجماع من تتبع فتاوی الأصحاب علی الحجیة من زماننا إلی زمان الشیخ قدس سره [1].

فی استدلال علی اعتبار الخبر الواحد بالإجماع

[1] یستدل علی اعتبار الخبر الواحد بالإجماع ویقرر الإجماع بوجوه.

منها: دعوی الإجماع المحصل، وأنه یحصل لمن فحص کلمات الأصحاب من الأزمنة المتأخرة إلی زمان قدماء الأصحاب قطع برضا المعصوم علیه السلام بالعمل بخبر العدل بل الثقة لا بانضمام قاعدة اللطف التی تقدم عدم تمامیتها ولا من باب الإجماع الدخولی المذکور عدم تحققه عادة، بل حصول القطع برضاه لمجرد الحدس أن قولهم بأخبار العدول والثقات لا ینفک عن رضاه علیه السلام به وأن فتاواهم بالاعتبار لا یمکن أن تکون علی خلاف الحق والواقع، ویمکن تحصیل ذلک من ملاحظة الإجماعات المنقولة فی کلمات جملة من الأصحاب علی اعتبار خبر الواحد العدل، ولکن لا یخفی أن تحصیل الإجماع القولی بما ذکر غیر ممکن ودعوی تحققه کما تری؛ لأن الخصوصیات المأخوذة فی اعتبار الخبر الواحد فی کلمات الأصحاب بل فی عبارات ناقلی الإجماع علی اعتباره مختلفة، فإن ظاهر بعضها اعتبار خبر العدل، وظاهر البعض الآخر اعتبار خبر الثقة، وظاهر البعض الثالث اعتبار خبر الثقة عند عدم خبر العدل، ورابعها اعتبار الخبر الموثوق بصدوره أو مضمونه إلی غیر ذلک، ومع هذا الاختلاف حتی فی الإجماعات المنقولة لا یمکن تحصیل العلم بالإجماع فضلاً عن کونه إجماعا تعبدیا.

ص :157

فیکشف رضاه علیه السلام بذلک، ویقطع به، أو من تتبع الإجماعات المنقولة علی الحجیة، ولا یخفی مجازفة هذه الدعوی، لاختلاف الفتاوی فیما أخذ فی اعتباره من الخصوصیات، ومعه لا مجال لتحصیل القطع برضاه علیه السلام من تتبعها، وهکذا حال تتبع الإجماعات المنقولة، اللّهمّ إلاّ أن یدعی تواطؤها علی الحجیة فی الجملة، وإنما الإختلاف فی الخصوصیات المعتبرة فیها، ولکن دون إثباته خرط القتاد.

ثانیها: دعوی اتفاق العلماء عملاً _ بل کافة المسلمین _ علی العمل بخبر الواحد فی اُمورهم الشرعیة[1]،کما یظهر من أخذ فتاوی المجتهدین من الناقلین لها.

لا یقال: یمکن مع هذا الاختلاف الأخذ بالقدر المتیقن المعبر عنه بالأخص.

فإنّه یقال: لا یمکن ذلک فی المقام؛ لأن من یعتبر خبر الثقة لا یقول باعتبار خبر العدل إذا لم یکن خبر الثقة معتبرا، ومن یقول باعتبار خبر العدل ینکر اعتبار خبر الثقة، وهکذا، ومع هذا الاختلاف لا یمکن تحصیل العلم بالاعتبار فی الأخص خصوصا مع إحتمال کون المدرک لاعتبارهم محتملاً فی الوجوه المتقدمة من دلالة بعض الآیات والروایات أو فی الوجوه التی یأتی التعرض لها.

[1] ثانی الوجوه دعوی الإجماع العملی من الأصحاب، حیث یری الفاحص فی کلمات الأصحاب فی المسائل الفقهیة أنهم یعملون فیها بأخبار الآحاد حتی من القائلین بعدم اعتبارها کالسید المرتضی وأتباعه، بل لا یختص ذلک بالعلماء فیری أن المتشرعة یعملون بأخبار الآحاد من نقلة الفتاوی إلیهم من الثقات والعدول.

وفیه أن العمل بالخبر الواحد وإن کان واقعا من العلماء والمتشرعة، إلاّ أن عملهم بها لیس بما هم متشرعة، ولذا یعملون بالخبر الواحد فی سائر الاُمور الراجعة إلی معاشهم ومعاشرتهم فیکون عملهم بما هم عقلاء حیث جرت سیرة العقلاء ولو من غیر المتدینین بدین الإسلام أو بدین أصلاً العمل بأخبار الثقات فیما بینهم

ص :158

وفیه: مضافاً إلی ما عرفت مما یرد علی الوجه الأول، أنه لو سلم اتفاقهم علی ذلک، لم یحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدیّنون بهذا الدین، أو بما هم عقلاء ولو لم یلتزموا بدین، کما هو لا یزالون یعملون بها فی غیر الأمور الدینیة من الأمور العادیة، فیرجع إلی ثالث الوجوه، وهو دعوی استقرار سیرة العقلاء من ذوی الأدیان وغیرهم علی العمل بخبر الثقة، واستمرت إلی زماننا، ولم یردع عنه نبی ولا وصی نبی، ضرورة أنه لو کان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه یکشف عن رضی

فیرجع هذا الوجه إلی الثالث من تقریر الإجماع حیث إنهم یعملون فی اُمورهم بأخبار الثقات فیما بینهم ولا یفرقون بینها وبین اُمورهم الدینیة من الأخبار بالفتاوی ونحوها ولم یردعهم الشارع عن سیرتهم فی الاُمور الدینیة وهذا کاشف قطعی عن إمضاء الشارع ورضاه بها.

لا یقال: لم یثبت الردع عن السیرة المشار إلیها فی الشرعیات فإنّ الآیات الواردة فی النهی عن السکون بغیر العلم والنهی عن اتباع الظن والتعلیل بأنّه لا یغنی من الحق کافیة فی الردع، وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بأنّ منصرف تلک الآیات وظهورها الإرشاد إلی عدم کفایة غیر العلم فی اُصول الدین ومع الإغماض عن ذلک، المراد منها لانصراف إطلاقاتها أو کون القدر المتیقن منها توجّه النهی إلی ظن لم یقم علی اعتباره دلیل، وعلیه یکون ردع السیرة بها دوریاً؛ لأنّ الردع بها یتوقف علی عدم کون السیرة مخصصة لعموماتها أو مقیدة لإطلاقاتها وعدم کونها مخصصة أو مقیدة موقوف علی الردع عن السیرة بها.

لا یقال: علی ذلک لا یمکن إثبات الخبر الواحد بالسیرة أیضا حیث یتوقف اعتباره علی عدم کونها مردوعة بالآیات وعدم کونها مردوعة یتوقف علی کونها مخصّصة أو مقیدة للعمومات وکونها مخصصة أو مقیدة موقوف علی عدم الردع بها

ص :159

الشارع به فی الشرعیات أیضاً.

إن قلت: یکفی فی الردع الآیات الناهیة، والروایات المانعة عن اتباع غیر العلم، وناهیک قوله تعالی: «ولا تقف ما لیس لک به علم»، وقوله تعالی: «وإن الظن لا یغنی من الحق شیئاً».

قلت: لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک، فإنه __ مضافاً إلی أنها وردت إرشاداً إلی عدم کفایة الظن فی أصول الدین، ولو سلم فإنما المتیقن لولا أنه المنصرف إلیه إطلاقها هو خصوص الظن الذی لم یقم علی اعتباره حجة __ لا یکاد یکون الردع بها إلاّ علی وجه دائر، وذلک لأن الردع بها یتوقف علی عدم تخصیص عمومها، أو تقیید إطلاقها بالسیرة علی اعتبار خبر الثقة، وهو یتوقف علی الردع عنها بها، وإلاّ لکانت مخصصة أو مقیدة لها، کما لا یخفی.

عنها.

فإنّه یقال: یکفی فی حجیّته ما جرت علیه سیرة العقلاء فی مقام الاحتجاج عدم ثبوت الردع عنها ولو لعدم نهوض ما هو صالح لردعها، ویکفی ذلک فی الإلتزام بکونها مخصصة أو مقیدة للآیات حیث إن ما جرت علیه سیرة العقلاء فی مقام الاحتجاج والطاعة والمعصیة استحقاق الجزاء علی المخالفة وعدم استحاقه علیها مع موافقته یکون متبعا عقلاً ما لم یقم دلیل علی المنع عن اتباعه فی الشرعیات.

وعلی الجملة یکفی فی کون السیرة مخصّصة أو مقیدة لعموم الآیات وإطلاقاتها عدم ثبوت الردع بها عنها.

أقول: ما ذکره قدس سره من أنّه یکفی فی اتباع السیرة العقلائیة عقلاً فی مقام الإطاعة عدم ثبوت الردع وهذا المقدار یکفی فی تخصیص العمومات وتقیید الإطلاقات لا یمکن المساعدة علیه، فإن اللازم عقلاً فی جواز الاعتماد علی شیء من الطرق

ص :160

لا یقال: علی هذا لا یکون اعتبار خبر الثقة بالسیرة أیضاً، إلاّ علی وجه دائر، فإن اعتباره بها فعلاً یتوقف علی عدم الردع بها عنها، وهو یتوقف علی تخصیصها بها، وهو یتوقف علی عدم الردع بها عنها.

فإنه یقال: إنما یکفی فی حجیته بها عدم ثبوت الردع عنها، لعدم نهوض ما یصلح لردعها، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک، کما لا یخفی، ضرورة أن ما جرت علیه السیرة المستمرة فی مقام الإطاعة والمعصیة، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة، ولو فی صورة المخالفة عن الواقع، یکون عقلاً فی الشرع متّبعاً ما لم ینهض دلیل علی المنع عن اتباعه فی الشرعیات، فافهم وتأمل.

والاُصول إحراز اعتبارها إمضاءً أو تأسیسا، وهذا لا یجتمع مع إحتمال الردع عن السیرة المشار إلیها، وذکر قدس سره فی الهامش أنّه مع ثبوت الردع یستصحب عدمه وبقاء الحجیّة الثابتة لخبر الواحد قبل نزول الآیات، وفیه ما لا یخفی فإنّه لم یحرز حجیة الخبر فی الشرعیات قبل نزول الآیات بحیث تکون الآیات ناسخة لها، بل تکشف عن عدم اعتباره فی الشرعیات من أول الأمر مع أنّ الدلیل علی اعتبار الاستصحاب الروایات التی تعدّ من الخبر الواحد.

کما أنّ ما ذکره قدس سره فی الهامش من أنّ المقام داخل فی ورود الخاص من قبل، وورود خطاب العام بعده، ومع دوران الأمر بین کونه ناسخا أو الخاص المتقدم مخصّصا یحکم بالتخصیص لا یمکن المساعدة علیه، لما تقدم من أن السیرة العقلائیة مع إحتمال عدم إمضاء الشارع لها من الأول فی الشرعیات لا تعدّ من الخاص المتقدم، وتأخیر خطاب الردع بملاحظة أن إبلاغه یتوقف علی دخول الناس بالإسلام ثمّ إعلامهم الأحکام تدریجا لا مانع عنه، والصحیح فی الجواب أن الآیات المشار إلیها لا یحتمل کونها رادعة، فإن السیرة من المتشرّعة أیضا جاریة بعد نزولها

ص :161

.··· . ··· .

علی الاستمرار بأخبار العدول والثقات فی الأحکام الشرعیة فإن الأمارة التی استمرت السیرة علی العمل بها لو کانت غیر معتبرة عند الشارع منع عن العمل بها بخصوصها، وإلاّ لا یمکن الردع عنها بالإطلاق أو العموم لأنّ الناس یرون الأمارة المزبورة علما، ولذا لا تصلح الآیات المشار إلیها عن اعتبار أنفسها؛ لأنّها أیضا داخلة فی الظواهر فیکون العمل بها عملاً بغیر العلم، والسر فی ذلک أن النهی عن الوقوف بغیر العلم مفادها قضیة حقیقیة، وتعیین عدم العلم خارج عن مدلولها ومقتضی السیرة علی اعتبار خبر الثقة کونه علما لا یکون مصداقا للمنهی عنه؛ ولذا وردت الروایات الخاصة المتواترة إجمالاً فی النهی عن العمل بالقیاس فی الدین.

ص :162

فصل

فی الوجوه العقلیة التی اُقیمت علی حجیة الخبر الواحد:

أحدها: أنه یعلم إجمالاً بصدور کثیر مما بأیدینا من الأخبار من الأئمة الأطهار علیهم السلام بمقدار وافٍ بمعظم الفقه[1].

فی الوجه الأول من الوجوه العقلیة المذکورة لحجیة الخبر الواحد

[1] یستدل علی اعتبار الأخبار المأثورة عن الأئمة علیهم السلام التی وصلت بأیدینا المودعة فی الکتب المعروفة بالجوامع بالوجوه العقلیة منها ما تعرض الماتن له أولاً، وذکر فی تقریره أن الأخبار التی بأیدینا علی طائفتین.

إحداهما: من المثبتات للتکلیف والمراد منه الوجوب والحرمة أو ما هو ملزوم لأحدهما کقیام الخبر بنجاسة شیء أو ککون الجزء المبان من الحی میتة، أو أن الفقاع خمر وغیر ذلک.

والاُخری: من النافیة له کما إذا کان مفاد الخبر استحباب شیء أو إباحته أو کراهته أو ما یلزمه الإباحة والترخیص، وحیث إن لزوم العمل بالأخبار لیس من قبیل التکلیف النفسی نظیر العمل بالتکالیف الواقعیة فی الوقایع، بل لزوم العمل بها للوصول إلی موافقة التکالیف الواقعیة التی لنا علم بثبوت تلک التکالیف فی الوقایع المعبّر عن علمها بالعلم الإجمالی الکبیر، وهذا العلم الإجمالی الکبیر لاحتمال انحصار أطرافها بالتکالیف التی تضمنتها الأخبار المثبتة غیر مؤثر فی التنجیز، ویکون مقتضی العلم الإجمالی باشتمال موارد الأخبار المثبتة علی التکالیف الواقعیة واحتمال انحصار التکالیف الواقعیة بمواردها بحیث لا یکون فی موارد سائر الأمارات غیر المعتبرة تکلیف واقعی هو العمل بکل خبر مفاده ثبوت التکلیف فی

ص :163

.··· . ··· .

الواقعة، وأما الأخبار النافیة فیعمل علی طبقها إلاّ فی موردین: أحدهما: أنْ یکون خصوص المسألة مورد قاعدة الإشتغال للعلم الإجمالی فی خصوصها، کما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة أو بوجوب القصر أو التمام فإنّه لا یمکن فیها العمل بالخبر النافی لوجوب إحدی الصلاتین بعینها.

الثانی: ما إذا کان فی المسألة، التی ورد خبر بنفی التکلیف فیها، أصل مثبت للتکلیف کالخبر الدالّ علی جواز شرب العصیر المغلی بعد ذهاب ثلثیه ولو بغیر النار، فإنّ الاستصحاب فی ناحیة بقاء الحرمة إلی أن یذهب ثلثاه بالنار مقتضاه عدم جواز العمل بذلک الخبر النافی، وهذا بناءً علی جریان الاستصحاب فی ناحیة التکلیف فی أطراف العلم الإجمالی بانتقاض الحالة السابقة فی بعض الأطراف أو قیام دلیل علی إنتقاضها فیه، وإلاّ کما علیه الشیخ الأنصاری من عدم جریانه فیختصّ ترک العمل بالخبر النافی بما إذا کان خصوص المسألة مورد العلم الإجمالی بالتکلیف یعنی المورد الأول.

أقول: إذا فرض فی مورد العلم الإجمالی بثبوت التکلیف فی الصلاة فی یوم الجمعة کالظهر والجمعة والقصر والتمام قیام خبر بوجوب إحداهما وخبر بعدم وجوب الاُخری، فلا بأس بالأخذ بالخبر المثبت لوجوب إحداهما وترک الاُخری أخذا بالخبر بعدم وجوبها، لأنّ وجوب ما دلّ الخبر علی وجوبه منجز بالعلم الإجمالی الأول بثبوت التکالیف فی موارد الأخبار المثبتة التی منها الخبر المفروض فلا یکون العلم الإجمالی الحاصل فی خصوص المسألة منجزا، فإن الأصل النافی لوجوب الاُخری بلا معارض وحتی فیما لم یکن لنفی وجوب الاُخری خبر، نظیر ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءین ثمّ علم أن شیئا آخر کان ملاقیا لأحدهما المعین، فإنّه

ص :164

.··· . ··· .

لا یجب الاجتناب عن الملاقی (بالکسر) فإنّ العلم الإجمالی الآخر بنجاسة الملاقی (بالکسر) أو الطرف الآخر غیر منجز کما قرر فی محله، لا یقال: إذا کان مدرک الاستصحاب الأخبار فکیف یؤخذ به مع قیام الخبر النافی فی مورده بنفی التکلیف، فإنّه یقال: العمل بالاستصحاب المثبت فی الحقیقة عمل بالخبر المثبت للتکلیف وبما أن موارد الأخبار المثبتة مورد للعلم الإجمالی المنجّز للتکلیف، فیکون مورد جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف داخلة فی أطراف العلم الإجمالی ومعه لا یفید الخبر النافی.

وهذا کله بالإضافة إلی موارد الأصل العملی، وأما بالإضافة إلی الاُصول اللفظیة فظاهر الماتن قدس سره الفرق بین اعتبار الخبر وبین لزوم العمل به للعلم الإجمالی المتقدم، فإنه إذا کان الخبر القائم بالتکلیف المنافی لإطلاق الکتاب والسنة معتبرا یرفع الید به عن نفی التکلیف المستفاد من إطلاقهما أو عمومهما ولکن بناءً علی العمل بالخبر للعلم الإجمالی لا یرفع الید عنهما؛ لأنّ الإطلاق أو العموم منهما حجة علی نفی التکلیف فی موردهما.

أقول: العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی موارد الأخبار المثبتة للتکلیف فی موارد الإطلاق والعموم النافیین له من الکتاب والسنة یمنع الأخذ بإطلاقهما أو عمومهما، نعم إذا انعکس الأمر وکان الإطلاق أو العموم منهما مثبتا للتکلیف والخبر القائم نافیا فالعلم الإجمالی بکون الأخبار النافیة للتکلیف المنافیة لعمومهما أو إطلاقهما، بعضها صادرة ومطابقة للحکم الواقعی لا یمنع عن العمل علی طبق العموم أو الإطلاق المثبت للتکلیف من الکتاب والسنّة، فإن العلم الإجمالی ببقاء بعض العمومات والإطلاقات منهما باقیة علی حالها یقتضی الاحتیاط فی العمل

ص :165

.··· . ··· .

بجمیعها لإحراز امتثال التکلیف فی الموارد الباقیة بحالها لعدم تمییز تلک الموارد عن غیرها.

لا یقال: یحتمل کون الأخبار النافیة کلّها مطابقة للواقع بحیث لا یکون فی البین علم إجمالی ببقاء بعض العمومات المثبتة للتکلیف بحالها فی موارد الأخبار النافیة.

فإنّه یقال: أصالة العموم فی غیر المقدار المعلوم بالإجمال باقیة علی حالها من الاعتبار، ومقتضاها مع عدم تمییز مواردها العمل علی طبقها لإحراز امتثال التکلیف الثابت بها ولو کانت مواردها غیر متمیزة، ولکن لا یخفی سقوط أصالة العموم والإطلاق بذلک ویکون المرجع الأصل العملی سواء کان مثبتا للتکلیف أو نافیا له.

وإذا کان کلّ من العموم والخبر القائم مثبتا للتکلیف فمع إمکان الجمع بینهما یتعیّن العمل بکلّ منهما، کما إذا کان مقتضی الإطلاق وجوب التیمّم والخبر قائما بوجوب الوضوء وإن لم یمکن الجمع بینهما، کما إذا کان مقتضی العموم أو الإطلاق کون التکلیف حرمة فعل والخبر قائما علی وجوبه.

فقد یقال: یکون المقام من نظیر دوران الأمر بین المحذورین، ولکن لا یخفی أنّ ذلک فیما إذا کان العموم کالخبر الخاصّ من قسم الخبر، وأما إذا کان العموم والإطلاق من الکتاب والسنّة یکون مقتضاهما نفی التکلیف القائم به الخبر وثبوت التکلیف الآخر، وحیث إن العلم الإجمالی بصدور بعض الأخبار من هذا القسم وثبوت مدلولها واقعا موجود یسقط الإطلاق والعموم من الکتاب والسنّة عن الاعتبار ویتعین العمل علی طبق الخبر.

وقد یقال: إنّ المقام نظیر ما إذا کان لشخص ثلاث زوجات، وعلم أنّه حلف إما

ص :166

بحیث لو علم تفصیلاً ذاک المقدار لا نحل علمنا الإجمالی بثبوت التکالیف بین الروایات وسائر الأمارات إلی العلم التفصیلی بالتکالیف فی مضامین الأخبار الصادرة المعلومة تفصیلاً، والشک البدوی فی ثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات الغیر المعتبرة، ولازم ذلک لزوم العمل علی وفق جمیع الأخبار المثبتة، وجواز العمل علی طبق النافی منها فیما إذا لم یکن فی المسألة أصل مثبت له، من قاعدة الإشتغال أو الإستصحاب، بناءً علی جریانه فی أطراف [ما] علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فی بعضها، أو قیام أمارة معتبرة علی انتقاضها فیه،

علی وط ء الصغیرة أو المتوسطة وحلف أیضا إما علی ترک وط ء الکبیرة أو المتوسطة، ففی الفرض علمان إجمالیّان مقتضاهما تنجیز کلّ من التکلیف بوط ء الصغیرة والتکلیف بترک وط ء الکبیرة علی تقدیر ثبوتهما واقعا والتخییر فی المتوسطة حیث إن الحلفین المعلومین بالإجمال بالإضافة إلی المتوسطة یقتضیان دوران أمرها بین المحذورین، فإن العلم الإجمالی الأول یقتضی وطأها ویقتضی الثانی ترک وطئها وإنْ یحتمل أنْ لا یتعلق الحلف لا بوطئها ولا بترک وطئها، بأن یحلف علی وط ء الصغیرة ویحلف بحلف آخر علی ترک وط ء الکبیرة، إلاّ أن الإجمال فی الحلفین المعلومین موجب لدخول المتوسطة فی أطراف کلا العلمین.

أقول: التنظیر إنما یصحّ إذا علم إجمالاً ببقاء الإطلاق والعموم من الکتاب والسنّة فی بعض مثل مورد الفرض علی إطلاقه وعمومه، وأما مع احتمال المصادفة فی جمیع الأخبار الواردة علی خلاف عمومهما أو إطلاقهما فلا یکون فی البین علم إجمالی آخر متعلق بخلاف التکلیف القائم به الخبر مستفاد من عموم الکتاب والسنة أو إطلاقهما.

ثم إن فی المثال المذکور فی الحلف علی الوط ء والحلف علی ترکه کلاماً، وهو

ص :167

وإلاّ لاختص عدم جواز العمل علی وفق النافی بما إذا کان علی خلاف قاعدة الإشتغال.

وفیه: إنه لا یکاد ینهض علی حجیة الخبر، بحیث یقدم تخصیصاً أو تقییداً أو ترجیحاً علی غیره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن کان یسلم عما أورد علیه من أن لازمه الاحتیاط فی سائر الأمارات، لا فی خصوص الروایات، لما عرفت من انحلال العلم الإجمالی بینهما بما علم بین الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال فتأمل جیداً.

ثانیها: ما ذکره فی الوافیة مستدلاً علی حجیة الأخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة للشیعة[1].

دعوی أنّ العلم الإجمالی بالحلفین غیر منجز لعدم إمکان المخالفة القطعیة ولا الموافقة القطعیة لشیء من الحلفین، فإنّه إنْ وطأ المتوسطة یحتمل تعلق الحلف أولاً بوطئها لا وط ء الصغیرة، والحلف الثانی: تعلق بترک وطئها ثانیا، ولتعلق الحلف الثانی بحنث الحلف الأول یکون باطلاً وإن ترک وطأها یحتمل أن یحلف أولاً بترک وطئها، وثانیا علی وطئها ولم یکن شیء من الحلفین مرتبطاً بالصغیرة والکبیرة فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم تعلّق الحلف بوط ء الصغیرة، وعدم تعلّقه بترک وط ء الکبیرة بلا معارضة، ولکن لا یخفی ما فیها لجریان أصالة الصحة فی ناحیة کلّ من الحلفین ومعها لا تصل النوبة إلی الاستصحاب وحیث إن أصالة الصحة فی ناحیتها لا تثبت عدم تعلق الحلف بالمتوسطة یدور الأمر فی وطئها بین المحذورین فتدبّر.

فی الوجه االثانی من الوجوه العقلیة المذکورة لحجیة الخبر الواحد

[1] ثانی الوجوه ما ذکره فی الوافیة واستدلّ به علی حجیة الأخبار المودعة فی الکتب المعتمدة عند علماء الشیعة کالکتب الأربعة مع عمل جمع به من غیر ردّ

ص :168

کالکتب الأربعة، مع عمل جمع به من غیر رد ظاهر، وهو: (إنا نقطع ببقاء التکلیف إلی یوم القیامة، سیما بالأصول الضروریة، کالصلاة والزکاة والصوم والحج والمتاجر والأنکحة ونحوها، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما یثبت بالخبر غیر القطعی، بحیث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن کونها هذه الأمور عند ترک العمل بخبر الواحد، ومن أنکر فإنما ینکره باللسان وقلبه مطمئن بالإیمان). انتهی.

وأورد علیه: أولاً: بأن العلم الإجمالی حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بین جمیع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذکره، فاللازم حینئذ: إما الاحتیاط، أو العمل بکل ما دل علی جزئیة شیء أو شرطیته.

ظاهر، وهو أن الجزم ببقاء الشریعة إلی یوم القیامة ولزوم العمل بها سیما بالعبادات الضروریة فی جهة وجوبها کالصلاة والصوم والزکاة والحجّ وکذلک بقاء المعاملات المشروعة ولزوم رعایتها مع أن جلّ أجزاء العبادات وشرایطها وموانعها ثبت بالخبر غیر القطعی، بحیث لو ترک العمل بتلک الأخبار الواردة فی أجزائها وقیودها لخرجت العبادات عن کونها صلاة أو صوما أو زکاة أو حجّا وکذلک الأمر فی المعاملات ومن أنکر ذلک یکون إنکاره باللسان وقلبه مطمئن بما ذکر، والفرق بین هذا الوجه والوجه السابق هو أن مقتضی الوجه السابق العمل بالأخبار المأثورة سواء عمل بها جمع أم لا وسواء کانت فی الکتب المعتمدة أو غیرها.

وقد ذکر الماتن قدس سره عن الشیخ قدس سره إیراده علی هذا الوجه أوّلاً، بأنّ العلم الإجمالی بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها کالمعاملات وکذا سائر التکالیف یعمّ جمیع الأخبار، فاللازم إما الاحتیاط التامّ بأنْ یؤتی بالعبادة بجمیع ما یحتمل دخله فیها مما ورد فی الأخبار، وکذا المعاملة أو یعمل بکل خبر دلّ علی دخل شیء فی

ص :169

قلت: یمکن أن یقال: إن العلم الإجمالی وإن کان حاصلاً بین جمیع الأخبار، إلاّ أن العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم علیهم السلام بقدر الکفایة بین تلک الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة کذلک بینها، یوجب انحلال ذاک العلم الإجمالی، وصیرورة غیره خارجاً عن طرف العلم، کما مرت إلیه الإشارة فی تقریب الوجه الأول، اللّهمّ إلاّ أن یمنع عن ذلک، وادعی عدم الکفایة فیما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعی العلم بصدور أخبار أخر بین غیرها، فتأمل.

وثانیاً: بأن قضیته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئیة أو الشرطیة، دون الأخبار النافیة لهما.

العبادة أو المعاملة مما یظنّ بصدوره. وذکر الماتن أن الإیراد علی الوجه بما ذکر غیر صحیح لاحتمال انحصار الأجزاء والشرایط والموانع وکذا سائر التکالیف فی موارد الأخبار التی وصفها بما ذکر بأن لم یکن فی غیرها ما یعتبر فی العبادة أو المعاملة وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی الأول وخروج غیر موارد الأخبار الموصوفة عن أطراف العلم إلاّ أن یمنع انحلال العلم الإجمالی بخصوص تلک الأخبار، بأنْ ادّعی العلم بصدور بعض أخبار اُخر دالّة علی قید العبادة، أو المعاملة.

ولا یخفی أن فی عبارة الماتن خللاً فی نقل الإیراد عن الشیخ قدس سره ونقل عن الشیخ ثانیا بأن قضیة الوجه المتقدّم العمل بالأخبار المثبتة للجزئیة والشرطیة للعبادة والمعاملة دون الأخبار النافیة، وذکر أن الأولی الإیراد علی الوجه المزبور بأن مقتضاه العمل بالأخبار المثبتة فیما لم ینهض إطلاق أو عموم علی النفی لا الحجیة بحیث یخصص العامّ أو یقید المطلق بالخبر الدالّ علی ثبوت الجزء أو الشرط أو یعمل بالخبر النافی فی مقابل المطلق أو العامّ الدالّ علی ثبوتهما أو فی مقابل الأصل المثبت أو مقتضٍ للاحتیاط، وقد ظهر فیما ذکره قدس سره مما تقدّم فی المناقشة فی الوجه

ص :170

والأولی أن یورد علیه: بأن قضیته إنما هو الاحتیاط بالاخبار المثبتة فیما لم تقم حجة معتبرة علی نفیهما، من عموم دلیل أو إطلاقه، لا الحجیة بحیث یخصص أو یقید بالمثبت منها، أو یعمل بالنافی فی قبال حجة علی الثبوت ولو کان أصلاً، کما لا یخفی.

ثالثها: ما أفاده بعض المحققین بما ملخّصه: أنا نعلم بکوننا مکلّفین[1].

بالرجوع إلی الکتاب والسنة إلی یوم القیامة، فإن تمکنا من الرجوع إلیهما علی نحو یحصل العلم بالحکم أو ما بحکمه، فلا بد من الرجوع إلیهما کذلک، وإلاّ فلا محیص عن الرجوع علی نحو یحصل الظن به فی الخروج عن عهدة هذا التکلیف، فلو لم یتمکن من القطع بالصدور أو الإعتبار، فلا بد من التنزل إلی الظن بأحدهما.

وفیه: إن قضیة بقاء التکلیف فعلاً بالرجوع إلی الأخبار الحاکیة للسنة، کما

الأول فلا نعید.

فی الوجه الثالث من الوجوه العقلیة المذکورة لحجیة الخبر الواحد

[1] وهذا الوجه ما ذکره صاحب الحاشیة وظاهر کلامه قدس سره أن التکلیف بالعمل بظواهر الکتاب والأخذ بالسنّة أی الأخبار الحاکیة عن المعصومین علیهم السلام قولهم وفعلهم وتقریرهم باقٍ إلی یوم القیامة، وإذا تمکّنا من الأخذ بالأخبار المأثورة عنهم بحیث علم صدورها عنهم : أو اعتبارها فی الشرع فهو، وإلاّ یتنزل عن العلم بالصدور إلی الظنّ به وعن العلم بالاعتبار إلی الظنّ به، وتکون النتیجة لزوم العمل بکلّ خبر یظنّ صدوره عنهم أو یظن اعتباره شرعا، ولعلّه قدس سره استفاد بقاء التکلیف إلی یوم القیامة من مثل حدیث الثقلین وأن مقتضی بقائه ما ذکره، وقد أورد الماتن قدس سره علی ما ذکر بوجهین:

الوجه الأول: أن التمکن من امتثال هذا التکلیف بالعلم التفصیلی أو الإجمالی

ص :171

صرح بأنها المراد منها فی ذیل کلامه _ زید فی علو مقامه _ إنما هی الإقتصار فی الرجوع إلی الأخبار المتیقن الإعتبار، فإن وفی، وإلاّ أضیف إلیه الرجوع إلی ما هو المتیقن اعتباره بالإضافة لو کان، وإلاّ فالاحتیاط بنحو عرفت، لا الرجوع إلی ما ظن اعتباره، وذلک للتمکن من الرجوع علماً تفصیلاً أو إجمالاً، فلا وجه معه من الإکتفاء بالرجوع إلی ما ظن اعتباره.

حاصل فعلاً فلا تصل النوبة إلی الامتثال الظنی.

وبیان ذلک أنّه لو کان ما هو المتیقّن اعتباره من الأخبار وافیا بمعظم الفقه ومعلوما لنا فالمتعین الأخذ بها وإن لم یکن المعلوم لنا کذلک وافیا به فاللازم التعدی إلی متیقن الاعتبار بالإضافة بمعنی العمل من الأخبار المأثورة بما لو اعتبر الشارع منها أخبارا لکانت ما نعمل به وإن لم یکن فی البین متیقن الاعتبار کذلک أو لم یکن وافیا، لکان اللازم الاحتیاط بالعمل بکل خبر مثبت منها بل بالنافی منها حتی یحرز العمل بکل ما یجب العمل به بحسب ذلک التکلیف وهذا الاحتیاط لا یوجب حرجا کما یعمل بها القائل باعتبار جمیع الأخبار التی لا یحرز کذبها أو عدم اعتبارها.

والوجه الثانی: هو أن التکلیف بالعمل بالأخبار المأثورة فیما لم یحرز صدقها ولا اعتبارها غیر محرز حتی یدعی أنه مع عدم التمکن یتنزل إلی الظنّ بالصدور أو الظن بالاعتبار؛ لأنّ الخبر مع عدم إحراز صدقه أو اعتباره لا یدخل فی السنّة بالمعنی الذی ذکره، وقد أورد الشیخ قدس سره وتبعه النائینی (طاب ثراه) بأنّ ما ذکر لیس وجها آخر غیر الوجه الأول أو بعض مقدمات الانسداد فإنّه لا موجب للعمل بالأخبار المأثورة إلاّ العلم الإجمالی بصدور جلّها منهم علیهم السلام فإن کان الموجب ذلک فهذا عین الوجه الأول المتقدّم، وإنْ اُرید من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله.

وبتعبیر آخر العلم الإجمالی بالتکالیف الواقعیة التی لابد من امتثالها وعدم إهمالها

ص :172

هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التکلیف بالرجوع إلی السنة __ بذاک المعنی __ فیما لم یعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأما الإیراد علیه: برجوعه إما إلی دلیل الإنسداد لو کان ملاکه دعوی العلم الإجمالی بتکالیف واقعیة، وإما إلی الدلیل الأول، لو کان ملاکه دعوی العلم بصدور أخبار کثیرة بین ما بأیدینا من الأخبار.

ففیه: إن ملاکه إنما هو دعوی العلم بالتکلیف، بالرجوع إلی الروایات فی الجملة إلی یوم القیامة، فراجع تمام کلامه تعرف حقیقة مرامه.

فمرجع ذلک إلی بعض مقدمات الانسداد، وأورد علیه الماتن بأن مراده دعوی أن ما هو المعلوم لنا من التکلیف هو العمل بالروایات إلی یوم القیامة فی الجملة حتی مع الغمض عن العلم بثبوت التکالیف الواقعیة فی الوقایع فراجع تمام کلامه تعرف حقیقة مرامه.

أقول: ما ذکر الشیخ قدس سره من الإیراد متین، فإن المأمور به فی حدیث الثقلین ونحوه مما لا یبعد تواتره هو الأخذ بأقوال الأئمة الهداة وصولاً إلی التکالیف الشرعیة وأحکام الوقایع المقررة من الشارع ومن الظاهر أن الأمر باتباع أقوالهم لا یقتضی وجوب العمل بالخبر عن أقوالهم إذا لم یحرز أن الخبر مصادف لقولهم وجدانا أو اعتبارا؛ ولذا لا یدلّ حدیث الثقلین علی اعتبار الخبر الواحد ولا أظن أن یتمسک أحد فی اعتبار خبر العدل والثقة بمثل الحدیث فلابد فی الأخبار المأثورة عنهم فی جهة وجوب العمل بها من موجب، وذلک الموجب إما العلم الإجمالی بمطابقة معظم الأخبار المأثورة لأقوالهم فی بیان الأحکام الواقعیة فهذا یرجع إلی الوجه الأوّل، أو أن الموجب ثبوت التکالیف الشرعیة فی الوقایع وأنّ المکلفین مع عدم علمهم بها تفصیلاً سواء کان العلم وجدانیا أو اعتباریا لا یکون مطلق العنان وهذا الموجب بعض ما ذکر فی مقدمات الانسداد ولیس أمرا آخر.

ص :173

ص :174

فصل

فی الوجوه التی أقاموها علی حجیة الظن وهی أربعة، الأول: إن فی مخالفة المجتهد لما ظنه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنة للضرر[1] ودفع الضرر المظنون لازم.

فی الوجوه العقلیة المذکورة لاعتبار الظن

الوجه الأول: من الوجوه العقلیة التی ذکروها لإثبات حجیة الظن

[1] قیل: بأن الظن بالتکلیف أو الظن بما هو ملزوم وموضوع له لازم رعایته عقلاً ما لم یثبت من الشارع الترخیص فی ترک رعایته، والمستند لهذا القول أحد اُمور أربعة، الأول: أن فی مخالفة المجتهد لما ظنّه من التکلیف أو ملزومه مظنّة الضرر، ودفع الضرر المظنون لازم بحکم العقل، أما الصغری فلأنّ الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقاب علی مخالفته بل الظن بالمفسدة فی المخالفة بناءً علی تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.

وأما الکبری فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون وهذا لا یرتبط بحکمه بالحسن والقبح لیقال إنّ: حکمه بهما مورد المناقشة وذلک فإن ملاک حکمه بلزوم دفع الضرر المظنون غیر الملاک فی حکمه بالحسن والقبح؛ ولذا أطبق العقلاء بلزوم دفع الضرر مع خلافهم فی الحسن والقبح العقلیّین.

وأجاب الماتن عن الاستدلال بمنع الصغری سواء اُرید من الضرر العقاب أو المفسدة فإن استحقاق العقاب یترتب علی العصیان المنوط بتنجّز التکلیف الواقعی ولا یترتب علی مخالفة التکلیف الواقعی ولو مع عدم تنجّزه، وقد تقدم سابقا أن الظن

ص :175

أما الصغری، فلأن الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقوبة علی مخالفته أو الظن بالمفسدة فیها، بناءً علی تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.

وأما الکبری، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون، ولو لم نقل بالتحسین والتقبیح، لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما، بل یکون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو کذلک ولو لم یستقل بالتحسین والتقبیح، مثل الإلتزام بفعل ما استقل بحسنه، إذا قیل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء علیه، مع خلافهم فی استقلاله بالتحسین والتقبیح، فتدبر جیداً.

بالتکلیف بنفسه لا یقتضی تنجز التکلیف بل منجزیته تحتاج إلی الجعل والاعتبار.

ثم ذکر قدس سره ، إلاّ أنْ یقال: بأنّ الظنّ بالتکلیف وإن لم یکن بنفسه بحیث یستقل العقل بالعقاب علی مخالفته، إلاّ أنّ العقل لا یستقل أیضا بعدم العقاب علی مخالفته، وعلیه فالعقاب فی المخالفة محتمل ودفع العقاب المحتمل کدفع الضرر المظنون لازم عقلاً، هذا ولو کان المراد بالضرر فی الصغری المفسدة ففی موارد مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحرمة وإن یکون ظن بالمفسدة إلاّ أن المفسدة لا تکون من قبیل الضرر المتوجه إلی المکلف حیث إن الحزازة والمنقصة فی الفعل وإن کانت موجودة بحیث یستحق الفاعل الذی علیه فی موارد إرتکاب الحرام، إلاّ أنها لا تکون من قبیل الضرر علی الفاعل دائما، وأما فی الواجبات فالفائت عن المکلف المصلحة وفی تفویتها لا یکون ضرر بل ربما یکون الضرر فی استیفائها کالإحسان بالمال.

وعلی الجملة: لیست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان فی الأفعال واُنیطت بهما الأحکام من قبیل المضرة علی الفاعل، کما أن ضرره لیس مناطا فی حکم العقل بالحسن والقبح علی القول باستقلاله فی الحکم بهما.

أقول: لو تمّ هذا الوجه کان مقتضاه أن الظنّ بالتکلیف مقتضٍ للتنجیز وأنه یکون

ص :176

والصواب فی الجواب: هو منع الصغری، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بین الظن بالتکلیف والظن بالعقوبة علی مخالفته، لعدم الملازمة بینه والعقوبة علی مخالفته، وإنما الملازمة بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبة علیها، لا بین مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها، وبمجرد الظن به بدون دلیل علی اعتباره لا یتنجز به، کی یکون مخالفته عصیانه.

إلاّ أن یقال: إن العقل وإن لم یستقل بتنجزه بمجرده، بحیث یحکم باستحقاق العقوبة علی مخالفته، إلاّ أنه لا یستقل أیضاً بعدم استحقاقها معه، فیحتمل العقوبة

موجبا لاستحقاق العقاب علی مخالفته، وهکذا لو صحّ ما ذکر الماتن قدس سره من أن العقل وإن لا یستقل بالعقاب علی المخالفة إلاّ أنه لا یستقل أیضا بعدم استحقاق العقاب بل یحتمل العقاب، وهذا ینافی ما ذکر فی تأسیس الأصل فی اعتبار الظن من أنه لا یقتضی العقاب علی المخالفة بل کونه موجبا له یحتاج إلی الجعل والاعتبار، أو طرو حالات وثبوت مقدمات تقتضی کونه موجبا له ولا یصحّ التمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی موارد عدم ثبوت التکلیف بوجه معتبر.

وما ذکر الماتن أیضا من أنه لا یبعد حکم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا یخفی ما فیه، فإن الضرر إذا کان من قبیل العقاب فالعقل یستقل بلزوم دفعه حتی فیما إذا کان احتماله ضعیفا، کما فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف فیما إذا کانت أطرافه کثیرة فإن احتمال العقاب فی ارتکاب واحد منها ضعیف، ومع ذلک یجب عقلاً رعایته. نعم لو رجع الأمر فی أطراف العلم الاجمال بحیث جری الأصل النافی فی بعضها یکون عدم العقاب فی ارتکابها قطعیا کما هو فی موارد عدم تنجیز العلم الإجمالی لخروج بعضها عن مورد تعلّق التکلیف ولو لکون الشبهة غیر محصورة وهذا أمر آخر.

ص :177

حینئذ علی المخالفة، ودعوی استقلاله بدفع الضرر المشکوک کالمظنون قریبة جداً، لا سیما إذا کان هو العقوبة الأخرویة، کما لا یخفی.

وأما المفسدة فلأنها وإن کان الظن بالتکلیف یوجب الظن بالوقوع فیها لو خالفه، إلاّ أنها لیست بضرر علی کل حال، ضرورة أن کل ما یوجب قبح الفعل من المفاسد لا یلزم أن یکون من الضرر علی فاعله، بل ربما یوجب حزازة ومنقصة فی الفعل، بحیث یذم علیه فاعله بلا ضرر علیه أصلاً، کما لا یخفی.

وأما تفویت المصلحة، فلا شبهة فی أنه لیس فیه مضرة، بل ربما یکون فی استیفائها المضرة، کما فی الإحسان بالمال.

والحاصل أن الثابت من حکم العقل أو الفطرة الارتکازیة الدفع والفرار من العقاب المحتمل، کیف والعقاب فی مخالفة التکلیف المعلوم بالتفصیل محتمل لا مقطوع لاحتمال العفو والشفاعة.

وعلی الجملة مخالفة التکلیف المنجز یوجب استحقاق العقاب والاستحقاق لا یلازم فعلیة العقاب ولو مستقبلاً.

هذا بالإضافة إلی الضرر بمعنی العقاب، وأما غیر العقاب من الضرر فمنع الصغری فی مخالفة الظن بالتکلیف صحیح حتی فی المحرّمات الشرعیة، فإن الثابت فی المحرمات _ بناءً علی تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد فی متعلقاتها _ هی المفسدة، والمفسدة الملحوظة فیها فی الغالب نوعیة لا من قبیل الضرر علی المرتکب، نعم الإضرار بالنفس بالجنایة علیها أو بالعرض والأطراف والمال محرم لا مطلق الإضرار، کما یشهد بذلک تحمل العقلاء الضرر الدنیوی لتحصیل بعض الأغراض العقلائیّة، وأمّا ما ذکره من کون الملاک بناءً علی تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد لا یلزم أن یکون فی متعلّقاتها بل یکون فی نفس الأحکام والتکالیف فغیر

ص :178

هذا مع منع کون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به والمنهی عنه، بل إنما هی تابعة لمصالح فیها، کما حققناه فی بعض فوائدنا.

وبالجملة: لیست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان فی الأفعال وأنیط بهما الأحکام بمضرة، ولیس مناط حکم العقل بقبح ما فیه المفسدة أو حسن ما فیه المصلحة من الأفعال علی القول باستقلاله بذلک، هو کونه ذا ضرر وارد علی فاعله أو نفع عائد إلیه، ولعمری هذا أوضح من أن یخفی، فلا مجال لقاعدة رفع الضرر المظنون ها هنا أصلاً، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فیه احتمال المفسدة أو ترک ما فیه احتمال المصلحة، فافهم.

الثانی: أنه لو لم یؤخذ بالظن لزم ترجیح المرجوح علی الراجح وهو قبیح[1].

صحیح کما تقدّم بیان ذلک فی التفرقة بین الحکم النفسی والطریقی، نعم یمکن أن لا یکون تمام الغرض فی نفس المتعلق بل یتم بجعل التکلیف وتعلّقه بالمتعلق کما فی الواجبات التعبّدیة بناءً علی عدم إمکان أخذ القربة فیها فی متعلق الأمر وإحتملناه أیضا فی مباحث القطع بالتکلیف من إمکان کون الغرض أخص من متعلقه فتدبر.

وعلی الجملة الضرر الذی لا یدخل فی العقاب الاُخروی لا یظن فی مورد الظن بالتکلیف غایته یحتمل فی بعض الموارد ولا دلیل علی لزوم دفعه عقلاً إلاّ فی مورد الخوف من الضرر الذی یدخل فی عنوان الجنایة علی النفس والعرض والأطراف والإجحاف بالمال، فإن الخوف علی ما یستفاد من الروایات الواردة فی أبواب مختلفة طریق إلی إحراز الضرر ولا مورد معه للاُصول النافیة.

[1] الوجه الثانی من الوجوه العقلیة لاعتبار الظن بالتکلیف أنه لو لم یؤخذ به لزم ترجیح المرجوح علی الراجح وهو قبیح عقلاً وتقریره أن لإمتثال التکلیف الثابت

ص :179

وفیه: إنه لا یکاد یلزم منه ذلک إلاّ فیما إذا کان الاخذ بالظن أو بطرفه لازماً، مع عدم إمکان الجمع بینهما عقلاً، أو عدم وجوبه شرعاً، لیدور الأمر بین ترجیحه وترجیح طرفه، ولا یکاد یدور الأمر بینهما إلاّ بمقدمات دلیل الإنسداد، وإلاّ کان اللازم هو الرجوع إلی العلم أو العلمی أو الاحتیاط أو البراءة أو غیرهما علی حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال فی اختلاف المقدمات، علی ما ستطلع علی حقیقة الحال.

فی الوقایع الکثیرة واقعا مراتب، الاُولی: الإمتثال التفصیلی بالعلم والعلمی والثانیة: الامتثال الإجمالی وهو الأخذ بالاحتیاط فی الوقایع وفی کون ذلک مرتبة ثانیة أو أنه فی مرتبة الامتثال التفصیلی کلام تقدم فی بحث جواز الاکتفاء بالامتثال الإجمالی مع التمکّن من الامتثال التفصیلی، وذکرنا أن الأظهر کون الامتثال الإجمالی مع التفصیلی فی مرتبة واحدة، وعلیه فالمرتبة الثانیة الامتثال الظنی والمراد بالظنّ ما لم یثبت اعتباره بالخصوص وإلاّ یدخل فی الامتثال العلمی الذی هو المرتبة الاُولی من الامتثال، والمرتبة الثالثة: علی ما ذکر، والرابعة: علی من یری الامتثال الإجمالی مرتبة ثانیة هو الإمتثال الإحتمالی بأن ترک المکلّف الامتثال فی موارد الظن بالتکلیف کلاً أو بعضاً وأخذ بالامتثال ورعایة التکلیف فی موارد الشک فی التکلیف أو الوهم بالتکلیف کلاً أو بعضا، فإن هذا یکون من قبیل ترجیح المرجوح علی الراجح ویستقل العقل بقبحه، وفیه أن الاستدلال بما ذکر موقوف علی ثبوت تنجز التکالیف فی الوقایع وعدم التمکن من امتثالها بالمرتبة الاُولی ولا بالاحتیاط أو عدم وجوبه، ودوران أمر الإمتثال بین المرتبتین الأخیرتین ولا یتمّ شیء من ذلک إلاّ بمقدمات الانسداد علی تقدیر تمامیتها وبدونها لا یفید ما ذکر من الوجه شیئا فی اعتبار الظن.

ص :180

الثالث: ما عن السید الطباطبائی قدس سره من أنه لا ریب فی وجود واجبات ومحرمات کثیرة بین المشتبهات[1].

ومقتضی ذلک وجوب الاحتیاط بالإتیان بکل ما یحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترک ما یحتمل الحرمة کذلک، ولکن مقتضی قاعدة نفی الحرج عدم وجوب ذلک کله، لأنه عسر أکید وحرج شدید، فمقتضی الجمع بین قاعدتی الاحتیاط وانتفاء الحرج العمل بالاحتیاط فی المظنونات دون المشکوکات والموهومات، لأن الجمع علی غیر هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشکوکات والموهومات باطل إجماعاً.

ولا یخفی ما فیه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دلیل الإنسداد، ولا

[1] ومما ذکرنا فی الوجه السابق یظهر الحال فی هذا الوجه الثالث الذی ذکره السید الطباطبائی قدس سره علی اعتبار الظن فی الوقایع حیث نفی الریب عن ثبوت التکالیف فی الوقایع المشتبهة حکمها عندنا بالعلم الإجمالی بها، ومقتضی العلم الإجمالی الأخذ بالاحتیاط فیها ولکن الاحتیاط کذلک موجب للعسر والحرج الأکید، والجمع بین قاعدة نفی الحرج ومقتضی العلم الإجمالی هو الأخذ بجانب إحتمال التکلیف فی الوقایع المظنونة بثبوتها فیها، وترک رعایته فی موهوماته ومشکوکاته؛ لأنّ الجمع بغیر هذا النحو برعایة جانب التکلیف فی بعض مظنونات التکالیف وبعض المشکوکات أو الموهومات وترک رعایته فی البعض الآخر من المظنونات والمشکوکات والموهومات باطل إجماعا، ووجه الظهور ما ذکرنا من أن هذا بعض مقدمات الانسداد ولا یتم إلاّ بضم سائرها، وإلاّ فلقائل أن یقول بلزوم الأخذ بامتثال العلم والعلمی فی مواردهما، والأخذ بمقتضی الاُصول العملیة فی غیرهما بحیث لا تصل النوبة إلی الاحتیاط أصلاً ولا یلزم حرج فی امتثال التکالیف أصلاً.

ص :181

یکاد ینتج بدون سائر مقدماته، ومعه لا یکون دلیل آخر، بل ذاک الدلیل.

الرابع: دلیل الإنسداد وهو مؤلّف من مقدمات یستقل العقل مع تحققها بکفایة الإطاعة الظنیة حکومة أو کشفا[1] علی ما تعرف، ولا یکاد یستقل بها بدونها، وهی خمس.

[1] الرابع من الوجوه المذکورة لاعتبار الظن فی الوقایع المعروف بدلیل الإنسداد ویبحث فی المقام فی جهات.

الاُولی: بیان المقدمات التی تعرف بمقدمات دلیل الإنسداد.

الثانیة: التکلّم فی تمامیة تلک المقدمات أو عدم تمامیتها کلاً أو بعضا.

والثالثة: أنه علی تقدیر تمامیتها تفید اعتبار الظن بنحو الکشف أو الحکومة أم لا.

والرابعة: أنه علی تقدیر کون نتیجتها اعتبار الظن فالنتیجة علی تقدیر الکشف أو علی تقدیر الحکومة مطلقة أو مهملة.

فی مقدمات دلیل الانسداد والجواب عنه

أما الجهة الاُولی: فالمعروف وعلیه الماتن أن مقدماته خمس.

الاُولی: العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیة فی کثیر من الوقایع.

والثانیة: عدم التمکن من تحصیل العلم أو الطریق المعتبر إلی تعیین الوقایع التی یثبت التکلیف فیها واقعاً غالباً.

والثالثة: عدم جواز إهمال تلک التکالیف ورعایة الأحکام بترک التعرض لإمتثالها وموافقتها.

والرابعة: بعد فرض عدم جواز إهمالها الاحتیاط فی کل من تلک الوقایع التی هی من أطراف العلم بالتکالیف غیر لازم بل غیر جائز کما لا یجوز فیها الرجوع إلی

ص :182

أولها: إنه یعلم إجمالاً بثبوت تکالیف کثیرة فعلیة فی الشریعة.

ثانیها: إنه قد انسد علینا باب العلم والعلمی إلی کثیر منها.

ثالثها: إنه لا یجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لإمتثالها أصلاً.

رابعها: إنه لا یجب علینا الاحتیاط فی أطراف علمنا، بل لا یجوز فی الجملة،

الأصل الجاری فی کل مسألة مع قطع النظر عن ذلک العلم الإجمالی، بأنْ یرجع فی واقعة إلی الاستصحاب وفی الاُخری إلی البراءة، والثالثة إلی أصالة الاحتیاط، والرابعة إلی أصالة التخییر بحسب ملاحظة الخصوصیة فی نفس الواقعة، کما لا یجوز لمجتهد فیها الرجوع إلی فتوی من یدعی الانفتاح بدعوی العلم أو الطریق الخاص فیها إلی التکالیف.

والخامسة: أنّ الأخذ بالامتثال الظنی فیها متعین والاّ لزم ترجیح المرجوح، وقد یقال: إن المقدمة الثالثة فی کلام الماتن مستدرک لأنّه ذکر فی المقدمة الاُولی العلم الإجمالی بثبوت تکالیف فعلیة فی الشریعة، ومقتضی فعلیتها عدم جواز إهمالها ولزوم التعرض لامتثالها، فذکره قدس سره المقدمة الثالثة بأنه لا یجوز إهمالها وترک التعرض لامتثالها أصلاً لا تکون مقدمة اُخری، ولو کان مراده هو العلم بأصل الشریعة وثبوت التکالیف فیها لا العلم بفعلیة التکالیف الفعلیة فی حقنا فلا حاجة إلی ذکر المقدمة الاُولی، وإنْ کان المراد أمرا صحیحا إذ ما یذکر من مقدمات دلیل الانسداد هی المقدمات القریبة لا المقدمة البعیدة، وإنْ کان دلیل الانسداد متوقفا علیها فی نفس الأمر وإلاّ لزم أنْ یجعل من مقدماته إثبات الصانع والنبوة إلی غیر ذلک من المقدمات، وقد جعل الشیخ قدس سره مقدمات الانسداد أربعا، ولم یذکر فیها المقدمة الاُولی التی عدّها الماتن من مقدماته.

أقول: لابد فی مقدمات الانسداد من فرض العلم الإجمالی بثبوت تکالیف

ص :183

کما لا یجوز الرجوع إلی الأصل فی المسألة، من استصحاب وتخییر وبراءة واحتیاط، ولا إلی فتوی العالم بحکمها.

خامسها: إنه کان ترجیح المرجوح علی الراجح قبیحاً، فیستقل العقل حینئذ بلزوم الإطاعة الظنیة لتلک التکالیف المعلومة، وإلاّ لزم __ بعد انسداد باب العلم والعلمی بها __ إما إهمالها، وإما لزوم الاحتیاط فی أطرافها، وإما الرجوع إلی الأصل الجاری فی کل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقلید فیها، أو الإکتفاء بالإطاعة الشکیة أو الوهمیة مع التمکن من الظنیة. والفرض بطلان کل واحد منها:

أما المقدمة الاُولی: فهی وإنْ کانت بدیهیة، إلاّ أنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالی[1].

کثیرة فی الوقایع المشتبهة وانسداد باب العلم والعلمی إلی کثیر منها، کما هو المقدمة الاُولی والثانیة فیما ذکره الماتن 1، وبما أن العلم الإجمالی عنده مقتضٍ للتنجیز ولیس علة تامة کالعلم التفصیلی، فلابد من بیان أن العلم الإجمالی بتلک التکالیف لا یجوز إهمالها بأنه لم یثبت عقلاً أو شرعا الترخیص فی ترک رعایتها، فذکر الفعلیة فی المقدمة الاُولی لا ینافی الثالثة حیث لم یذکر فی الاُولی الفعلیة المطلقة بل ذکر مطلق الفعلیة الجامعة بین المطلقة والمقیدة بما دام لم یثبت الترخیص الظاهری فی أطرافه علی ما ذکره فی البحث فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری نعم بناءً علی الفعلیة التی ذکرناها فی فعلیة الأحکام والتکالیف وکون العلم الإجمالی وصولاً للتکلیف الواقعی وأنه لایمکن للشارع الترخیص القطعی فی مخالفته، تکون المقدمة الثالثة مستدرکا، فالإشکال علی الماتن غیر تام علی مسلکه الذی ذکره فی بحث العلم الإجمالی مع ملاحظة مطلق الفعلیة التی ذکرها فی الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری.

[1] یقع الکلام فی تمامیة تلک المقدمات، أما المقدمة الاُولی: فلا ینبغی

ص :184

.··· . ··· .

التأمل فی ثبوت التکالیف فی کثیر من الوقایع والعلم الإجمالی بثبوتها حاصل إلاّ أنه قد تقدم انحلال هذا العلم بالعلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی موارد الأخبار المأثورة فی الکتب المعروفة عند الإمامیة، حیث یحتمل انحصار التکالیف الواقعیة فی مواردها بأن لا تکون تکالیف اُخری فی موارد سائر الظنون، ومع احتمال الانحصار یقتصر فی الاحتیاط بموارد تلک الأخبار ولا یلزم من رعایة الاحتیاط فیها عسر وحرج حیث یکون الفرض کما قیل باعتبار جمیع أخبار تلک الکتب.

لا یقال: العلم الإجمالی الصغیر لا یوجب انحلال العلم الإجمالی الکبیر، نظیر ما إذا علم أولاً بنجاسة بعض الإناءات من مجموعة من الإناءات کانت النجاسة فی مجموعها معلومة بالإجمال من الأول، بأن کانت جملة من الإناءات سوداء وجملة منها بیضاء، وعلم نجاسة البعض من الجملتین، ثم علم بالنجاسة فی بعض الإناءات السود فإنه لا مجری لأصالة الطهارة فی الإناءات البیض لسقوط أصالة الطهارة فیها بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی السود من قبل، فإنّه یقال: عدم الانحلال فی موارد کون المعلوم بالإجمال، ثانیا أمرا جدیدا حادثا، کما إذا وقعت بعد العلم الإجمالی الأول النجاسة فی بعض الآنیة السود، فإن العلم الإجمالی الثانی لا یفید فی انحلال العلم الإجمالی الأول، وأما إذا کان المعلوم بالإجمال ثانیا نفس المعلوم بالإجمال أولاً، بأن علم أن النجاسة التی أصابت الإناءات أصابت جملة من السود ویحتمل انحصار الإصابة علیها بأنْ لم یصب شیء من تلک النجاسة من الإناءات البیض، وفی مثل ذلک ینحل العلم الإجمالی الأول؛ لأنّ العلم الإجمالی الأول تبدّل إلی العلم الإجمالی الصغیر بحدوث المعلوم بالإجمال الأول فیها من الأول، والشک فی حدوثه فی غیرها من الإناءات البیض کذلک، فتجری اصالة الطهارة فی الإناءات

ص :185

بما فی الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرین : التی تکون فیما بأیدینا، من الروایات فی الکتب المعتبرة، ومعه لا موجب للإحتیاط إلاّ فی خصوص ما فی الروایات، وهو غیر مستلزم للعسر فضلاً عما یوجب الإختلال، ولا إجماع علی

البیض، ویجب الاحتیاط فی السود والعلم الإجمالی الکبیر بالتکالیف فی الوقایع الکثیرة مع العلم الإجمالی ثانیا بالتکالیف فی موارد الأخبار من هذا القبیل، حیث إن التکالیف التی وردت فیها الأخبار کانت ثابتة فی الوقایع من الأول، لا یقال: لا یحتمل کذب سائر الأمارات بجمیعها التی لا تدخل فی عنوان الأخبار المأثورة فیها فکیف ینحل العلم الإجمالی الأول، فإنّه یقال: نعم، ولکن سائر الأمارات التی فی موردها تکلیف واقعی وردت فی مواردها الأخبار أیضا فی الکتب المعروفة للأخبار وثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات التی لم یرد فی الأخبار مؤداها غیر معلوم ولو بالإجمال من الأول فتدبر.

والمتحصل مما ذکرنا أنه لا ینحل العلم الإجمالی الأول فیما إذا کان عدم البقاء أو التبدل فی ناحیة المعلوم بالإجمال لتلف بعض أطراف العلم أو خروجه عن التمکن، أو صار بحدوث موضوع التکلیف فیه المعلوم بالتفصیل مع بقاء العلم الإجمالی بحاله بالإضافة إلی الأزمنة السابقة حتی فعلاً فإنه فی الفرض لا یجری الأصل النافی فی الطرف الآخر أو الأطراف الاُخری لأنّ الأصل النافی فیه أو فیها قد سقط بالمعارضة مع الأصل النافی فی غیر الباقی قبل انتفائه أو تبدّل حکمه، بخلاف ما إذا کان عدم البقاء فی ناحیة نفس العلم الإجمالی السابق مع بقاء المعلوم به علی حاله الواقعی، فإنه إذا تبدل نفس العلم الإجمالی السابق إلی العلم التفصیلی به أو إلی العلم الإجمالی الصغیر بحیث یعلم أن المعلوم بالعلم الإجمالی السابق کان فی هذا الطرف أو فی ضمن هذه الأطراف من الأول یکون الطرف الآخر أو الأطراف

ص :186

عدم وجوبه، ولو سلم الإجماع علی عدم وجوبه لو لم یکن هناک انحلال.

وأما المقدمة الثانیة: أما بالنسبة إلی العلم فهی بالنسبة إلی أمثال زماننا بیّنة وجدانیة یعرف الإنسداد کل من تعرّض للإستنباط والإجتهاد[1].

الاُخری موردا للأصل النافی بلا معارض، لأنه قد علم أن التکلیف المعلوم سابقا بالعلم الإجمالی کان فی هذا الطرف أو فی ضمن هذه الأطراف من الأول فیکون الشک فی الأطراف الاُخری شکّا فی التکلیف الزائد من الأول.

ومما ذکرنا یظهر وجه انحلال العلم الإجمالی الصغیر بناءً علی مسلک الانفتاحی فی مورد الروایات أیضا فإنه مع قیام الدلیل علی اعتبار طوائف منها بخصوصها مما یحتمل انحصار التکالیف المعلومة بالإجمال فی مواردها یخرج موارد غیر تلک الطوائف من الأخبار عن أطراف المعلوم بالإجمال ولو حکما، بمعنی أنه لا تجری الاُصول النافیة وغیرها فی موارد تلک الطوائف من الأخبار لاعتبار الشارع المکلف فیها عالما بحکم الشریعة فی تلک الوقایع، ومع هذا الاعتبار یکون رجوع المکلف إلی الاُصول فی غیرها بلا محذور لکونه شاکّا فی ثبوت التکلیف فی کل منها کما لا یخفی.

[1] لا ینبغی التأمّل فی عدم إمکان تحصیل العلم الوجدانی التفصیلی بالأحکام والتکالیف الواقعیة فی معظم الوقایع بحیث یکون حکم کل واقعة معلوما تفصیلاً، وأما بالإضافة إلی الاعتباری المعبر عنه بالطریق الخاص فقد تقدم اعتبار ظواهر الکتاب المجید، فإن ظواهرها من الطرق المعتبرة بالخصوص وکذا اعتبار خبر الثقة بل الحسان من الطرق الخاصة بالسیرة العقلائیة الممضاة من الشارع، وما فی عبارة الماتن من الاقتصار بخبر یوثق بصدقه أی الاطمینان بصدوره لا وجه له، فإن الوثوق بالصدق أی الاطمینان بالصدور فی نفسه حجة فی مقابل خبر الثقة کما هو

ص :187

وأما بالنسبة إلی العلمی، فالظاهر أنها غیر ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة علی حجیة خبر یوثق بصدقه، وهو بحمد اللّه وافٍ بمعظم الفقه، لا سیّما بضمیمة ما علم تفصیلاً منها، کما لا یخفی.

وأما الثالثة: فهی قطعیة، ولو لم نقل بکون العلم الإجمالی منجزا مطلقا أو فیما جاز أو وجب الإقتحام فی بعض أطرافه کما فی المقام[1].

أیضا بالسیرة العقلائیة.

والحاصل أن ظواهر الکتاب المجید والأخبار المشار إلیها کافیان بمعظم الفقه مع ضم الموارد التی یمکن تحصیل العلم الوجدانی فیها إلی الحکم والتکلیف الواقعی، ومعه لا مجال لدعوی العلم الإجمالی بثبوت تکالیف اُخری فی الشرع بحیث یلزم من الرجوع فیها إلی الاُصول طرح تکالیف واقعیة عملاً علی ما بینا سابقا وقد تقدم الوجه فی انحلال العلم الإجمالی الصغیر باعتبار الطوائف من الأمارات.

[1] ذکر قدس سره أنه لو بنی علی عدم کون العلم الإجمالی بالتکلیف منجزا أصلاً، کما هو مقتضی شمول الاُصول النافیة لکل واحد من أطرافه، أو قیل بعدم کونه منجزا فیما إذا اضطر المکلف إلی ترک رعایة التکلیف المعلوم بالإجمال فی بعض أطرافه المعین أو غیر المعین فلا یجری هذا الکلام فی المقام، فإنه لا یجوز ترک التعرض لامتثال التکالیف المعلومة بالإجمال حتی بناءً علی عدم تنجیز العلم الإجمالی وذلک للعلم بأن الشارع لا یرضی بإهمال التکالیف المعلومة بالإجمال وأنه مرغوب عنه عنده وغیر جائز إجماعاً.

لا یقال: إذا لم یکن العلم الإجمالی منجزا للزوم الإرتکاب فی بعض الأطراف علی ما یأتی، فکیف لا یجوز الارتکاب فی الباقی مع کون الباقی موردا للبراءة عقلاً، حیث یکون العقاب علی تقدیر مصادفة سائر الأطراف التکلیف من العقاب بلا بیان،

ص :188

حسب ما یأتی، وذلک لان إهمال معظم الأحکام وعدم الإجتناب کثیراً عن الحرام، مما یقطع بأنه مرغوب عنه شرعاً ومما یلزم ترکه إجماعاً.

إن قلت: إذا لم یکن العلم بها منجزاً لها للزوم الإقتحام فی بعض الأطراف __ کما أشیر إلیه __ فهل کان العقاب علی المخالفة فی سائر الأطراف __ حینئذ __ علی تقدیر المصادفة إلاّ عقاباً بلا بیان؟ والمؤاخذة علیها إلاّ مؤاخذة بلا برهان؟!

فإنّه یقال: هذا إذا لم یعلم باهتمام الشارع بالتکلیف بالإضافة إلی سائر الأطراف، وأما مع العلم بذلک کما تقدم فیعلم إیجاب الاحتیاط من قبله فی الوقایع فی الجملة، بل یمکن دعوی الإجماع علی عدم جواز الإهمال وترک رعایة التکالیف فی هذا الحال ومع استکشاف عدم الجواز شرعا لا یکون العقاب علی تقدیر المصادفة عقابا بلا بیان.

أقول: ظاهر کلمات غیر الماتن أیضا أن المقام من موارد الاضطرار إلی غیر المعین من أطراف العلم الإجمالی وعلی ذلک فلو قیل فی الاضطرار إلی غیر المعیّن تنجز التکلیف المعلوم بالإجمال بمعنی عدم جواز مخالفته القطعیة کما علیه الشیخ ومن سلک مسلکه فلا یحتاج فی إثبات عدم جواز إهمال التکالیف المعلومة بالإجمال فی الوقایع إلی دعوی الضرورة باهتمام الشارع بالتکالیف أو دعوی الإجماع علی لزوم التعرض لامتثالها فی الجملة، بل دعوی الإجماع فی المسألة المستحدثة غیر المعنونة فی کلمات القدماء کما تری، بخلاف ما إذا قیل بأن الاضطرار إلی غیر المعین کالاضطرار إلی المعین یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر کما هو مسلک الماتن قدس سره ، ولذا تصدی لدعوی الضرورة والإجماع علی عدم جواز الاهمال ولکن الصحیح عدم الحاجة إلی ذلک حتی بناءً علی هذا المسلک وأن العلم الإجمالی منجز فی المقام علی کلا المسلکین، فإن غیر ما یدفع به الاضطرار

ص :189

قلت: هذا إنما یلزم، لو لم یعلم بإیجاب الاحتیاط، وقد علم به بنحو اللمّ، حیث علم اهتمام الشارع بمراعاة تکالیفه، بحیث ینافیه عدم إیجابه الاحتیاط الموجب للزوم المراعاة، ولو کان بالإلتزام ببعض المحتملات، مع صحة دعوی الإجماع علی عدم جواز الإهمال فی هذا الحال، وأنه مرغوب عنه شرعاً قطعاً، وأما مع استکشافه فلا یکون المؤاخذة والعقاب حینئذ بلا بیان وبلا برهان، کما حققناه فی البحث وغیره.

وأما المقدمة الرابعة: فهی بالنسبة إلی عدم وجوب الاحتیاط التام بلا کلام فیما یوجب عسره اختلال النظام[1].

فی المقام ثبوت التکالیف الواقعیة فیه مورد للعلم الإجمالی أیضا، ومقتضی هذا العلم الإجمالی الثانی رعایتها فی موارده کما لا یخفی والعجب من الماتن أنّه تشبث فی لزوم الرعایة بما ذکر ولم یتنبه بما ذکرنا من خصوصیة المقام.

نفی وجوب الاحتیاط

[1] مراده قدس سره أنه إذا کان رعایة التکالیف المعلومة بالإجمال فی الوقایع المجهولة حکمها الواقعی بالاحتیاط فی جمیع أطرافها موجبا لاختلال النظام فلا کلام فی دخول المقام فی الاضطرار إلی الارتکاب فی البعض غیر المعین من الأطراف، نظیر ما إذا علم النجاسة فی إناءات یکون الاجتناب عن جمیعها موجبا لتلف نفسه من العطش، فیلزم الارتکاب بمقدار الاضطرار منها. وفی رعایة العلم الإجمالی فی سائر الأطراف ما تقدّم فی المقدّمة الثالثة وقد ذکرنا رعایة التکلیف فیها حتی بناءً علی مسلک الماتن فی الاضطرار إلی بعض أطراف العلم، وذلک للعلم الإجمالی بأنّه فی سائر الأطراف أیضا النجاسة معلومة إجمالاً، وهذا العلم الإجمالی یوجب الاحتیاط فی سائر الأطراف هذا یعنی عدم وجوب الاحتیاط التام فی جمیع

ص :190

.··· . ··· .

الوقایع المجهولة حکمها مع العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فیها مع لزوم اختلال النظام مما لا کلام فیه، وأما إذا کان الاحتیاط التام فیها موجبا للعسر والحرج فقط فهل یجوز ترک الاحتیاط التام بحیث لا یلزم من رعایة التکالیف المعلومة بالإجمال مع ترکه حرج أو لا موجب لرفع الید عن الاحتیاط التام أصلاً کما هو ظاهر کلام الماتن قدس سره ، بدعوی أن مفاد دلیل نفی الحرج والعسر نفی التکلیف المتعلق بالفعل فیما إذا انطبق علیه، أی علی الفعل أو الترک عنوانهما کما هو الحال فی نفی الضرر أیضا، وأما إذا لم ینطبق عنوانهما علی الفعل أو الترک کما فی المقام حیث إن المکلف لو کان عالما بالتکالیف الواقعیة، أو کان عنده طریق إلیها لأمکن له الإمتثال والموافقة بالإتیان بالواجبات وترک المحرمات من غیر أنْ یکون فی ذلک عسر أو حرج، ولزوم الحرج من ناحیة الاحتیاط بحکم العقل حیث إنّ لزومه مقتضی العلم الإجمالی بالتکالیف.

نعم لو قیل بأنّ الحرج والضرر عنوان لنفس الحکم فیمکن التمسّک بقاعدة نفی الحرج فی نفیه، حیث إنّ التکالیف الواقعیة عند فقد العلم التفصیلی والطریق إلیها یکون منشأ الحرج والضرر.

وعلی الجملة الحرج فی المقام ینشأ من الإتیان بغیر متعلق التکلیف بالجمع بینه وبین الإتیان بمتعلق التکلیف لإحراز الامتثال وموافقة التکلیف المعلوم بالإجمال، ولا ینطبق عنوان الحرج أو الضرر علی نفس متعلق التکلیف ولا یقاس المقام بما إذا کان الحرج أو الضرر فیما یتوقف علیه الفعل الواجب کحفر البئر أو النزول فیه، حیث إن الواجب للحرج فی مقدمته أو کونها ضرریا یکون حرجیا أو ضرریا، بخلاف ما إذا کان الحرج أو الضرر فی إحراز امتثال التکلیف به علی ما تقدم،

ص :191

.··· . ··· .

وقد یذکر أیضا فی الفرق بین المسلکین ما إذا ظهر الغبن فی المعاوضة حیث إن الضرر ینشأ من لزومها.

فینفی، فیثبت الخیار بناءً علی أنّ المنفی هو الحکم الضّرری بخلاف ما إذا قیل بأن المنفی نفس الفعل الضرری فإنه علیه لا یثبت الخیار.

وفیه ما لا یخفی، فإنه کما ذکرنا فی بحث الخیارات أنّ اللزوم فی المعاملة لا ینفی بقاعدة نفی الضرر علی کلا المسلکین، حیث إن الضرر أی النقص فی ما کان للمغبون یحصل بنفس المعاملة، ونفی اللزوم وثبوت الخیار یوجب تمکنه من تدارک ضرره ومفاد القاعدة نفی الضرر لا إثبات تدارکه، کما أنه بالقاعدة لا ینفی إمضاء المعاملة لیحکم ببطلانها؛ لأنّ المعاملة مع الشرط الارتکازی فیها بعدم التفاوت الفاحش بین الثمن والقیمة السوقیة خیاری مع الغبن ولا امتنان فی الحکم بفساد المعاملة الخیاریة بنفی إمضائها.

وقد التزم بعض الاعلام (طاب ثراه) بحکومة قاعدة نفی الحرج فی مثل المقام بلا فرق بین المسلکین فیما یکون الابتلاء بأطراف الشبهة تدریجیا، فإن الحرج مع تدریجیة الأطراف یکون فی الأطراف المتأخرة التی یکون رعایة احتمال التکلیف فیها بالإتیان بمتعلقه حرجیا فیعلم بالقاعدة عدم التکلیف فیها؛ لأن التکلیف إذا کان فی الأطراف السابقة فقد إمتثل التکلیف فیها علی الفرض، وإن کان فی المتأخرة أیضا یرتفع بقاعدة نفی الحرج، مثلاً إذا نذر صوم بعض أیام الاُسبوع وتردّد المنذور بین أیامها، وفرض أن الصوم فی جمیعها حرجی وصام المکلف إلی یوم الجمعة، بحیث صار علیه الصوم فیها حرجیا فلا بأس بترکه فیها؛ لأنّه إنْ کان الصوم المنذور قبل یوم الجمعة فقد امتثله وإنْ کان صومها أیضا فلا یجب لقاعدة نفی الحرج بلا

ص :192

وأما فیما لا یوجب، فمحل نظر بل منع، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج علی قاعدة الاحتیاط، وذلک لما حققناه فی معنی ما دل علی نفی الضرر والعسر، من أن التوفیق بین دلیلهما ودلیل التکلیف أو الوضع المتعلقین بما یعمهما، هو نفیهما عنهما بلسان نفیهما، فلا یکون له حکومة علی الاحتیاط العسر إذا کان بحکم العقل، لعدم العسر فی متعلق التکلیف، وإنما هو فی الجمع بین محتملاته احتیاطاً.

فرق بین المسلکین، نعم تظهر الثمرة علی المسلکین فیما إذا کانت أطراف الشبهة دفعیة، بأنْ یمکن الإتیان بکل من الأطراف قبل الآخر، کما إذا علم بنجاسة بعض المایعات التی یکون الإجتناب عن جمیعها حرجیا.

أقول: ما ذکر فی الأطراف الشبهة إذا کان تدریجیّةً وإنْ کان صحیحا، إلاّ أن لازمه الأخذ بالاحتیاط فی الوقایع التی یبتلی بها إلی أنْ یلزم منه العسر والحرج سواء کان من مظنونات التکلیف أو من غیرها، بل قد یقال: لا توجب إلاّ لتعیّن هذا النحو من الاحتیاط فی الوقایع بلا فرق بین القول بأن المرفوع بقاعدتی نفی الحرج والضرر التکلیف أو الفعل المنطبق علیه عنوان الحرج والضرر، ولا یخفی بناءً علی رفع الحکم الحرجی حیث إن امتثال جمیع التکالیف فی المظنونات والمشکوکات والموهومات حرجی، والأمر یدور بین رفع الید عن رعایة احتمال التکلیف فی المظنونات أو فی الموضوعات والمشکوکات یکون رفع الید عنه فی الثانی أولی کما هو مفاد المقدمة الخامسة، بل یتعیّن فی تصحیح ما ذکروه من الأخذ بالاحتیاط فی مظنونات التکلیف وجواز ترکه فی المشکوکات والموهومات من التشبّت بما ذکرنا سابقا من دعوی انحلال العلم الإجمالی بالعلم الإجمالی الآخر، بأن أکثر الموارد من المظنونات ثبوت التکالیف فیها واقعا معلوم إجمالاً بحیث یحتمل مع الأخذ

ص :193

نعم، لو کان معناه نفی الحکم الناشئ من قبله العسر __ کما قیل __ لکانت قاعدة نفیه محکمة علی قاعدة الاحتیاط، لأنّ العسر حینئذ یکون من قبل التکالیف المجهولة، فتکون منفیة بنفیه.

ولا یخفی أنه علی هذا لا وجه لدعوی استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی بعض الأطراف بعد رفع الید عن الاحتیاط فی تمامها[1].

بالاحتیاط فیها والرجوع فی غیرها من المشکوکات والموهومات بالأصل الجاری فیها بملاحظة خصوصیة نفس الواقعة أنْ لا یقع المکلّف فی محذور مخالفة التکلیف الواقعی لانحصار التکالیف الواقعیة بالمظنونات، والموارد التی یکون الأصل الجاری فیها مثبتاً للتکلیف مضافا إلی الموارد التی یکون التکلیف فی تلک الوقایع معلوما تفصیلاً.

قد ظهر مما ذکرنا أنه لا حاجة فی إثبات لزوم الاحتیاط، فی الوقایع المظنون ثبوت التکالیف فیها وجواز الرجوع فی غیرها إلی الأصل الجاری فیها بملاحظة خصوصیة الواقعة، إلی ضم مقدمة اُخری یعنی قاعدة قبح ترجیح المرجوح علی الراجح لما ذکرنا من عدم المورد لها فی المقام لعدم الدوران بینها لانحلال العلم الإجمالی علی ما مرَّ.

[1] المراد من هذا الوجه جریان قاعدة نفی العسر والحرج فی نفی لزوم الاحتیاط التامّ لکون مفادها کمفاد قاعدة لا ضرر، نفی الحکم والتکلیف الناشیء منه الحرج؛ فإنه إذا نفی وجوب الاحتیاط التام بنفی التکلیف الناشئ منه الضرر لا یبقی ما یوجب عقلاً رعایة التکلیف فی سائر الأطراف أی مظنونات التکلیف، ولابد فی الالتزام بوجوب رعایتها من إثبات أن الشارع أوجب رعایة احتمال التکلیف فیها کما التزم قدس سره بذلک فی بیان المقدمة الثالثة.

ص :194

بل لا بد من دعوی وجوبه شرعاً، کما أشرنا إلیه فی بیان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جیداً.

وأما الرجوع إلی الاُصول فبالنسبة إلی الاُصول المثبتة من احتیاط أو استصحاب مثبت للتکلیف فلا مانع عن إجرائها[1] عقلاً مع حکم العقل وعموم

أقول: قد تقدم أن الوقایع التی تکالیفها مظنونة، ثبوت التکالیف الواقعیة فیها معلومٌ إجمالاً، فرعایة احتمال التکلیف فیها مع الوقایع التی یکون مقتضی ملاحظة خصوصیتها لزوم رعایة التکلیف فیها أیضا منضمة إلی موارد العلم التفصیلی فیها للتکالیف الواقعیة توجب انحلال العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی الشریعة، بحیث لا یکون مانع فی غیرها من الأخذ بالبراءة العقلیة فلا سبیل إلی إحراز إیجاب الاحتیاط شرعا کما ذکر فتدبر.

ثم لا یخفی أن وجوب الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی وإنْ یکن بحکم العقل من باب دفع الضرر المحتمل، إلاّ أنه إذا وصل امتثال التکلیف فی الاحتیاط فی الأطراف إلی حدّ الحرج یکون رفع التکلیف فی تلک الأطراف بنفی وجوب الاحتیاط فیها کما أن وضعه فیها یکون بایجاب الاحتیاط، فیکون رفع التکلیف فیها بالترخیص فی ترک الاحتیاط موجبا لانتفاء الموضوع لحکم العقل بمعنی أنه لا یحتمل الضرر بعد الترخیص فیصبح الرفع فیها حکما ظاهریا لا ینافی ثبوت التکلیف الواقعی فیها کموارد الرفع فی الشبهة البدویة وفائدة ثبوت التکلیف الواقعی حسن الاحتیاط فی مورده.

دعوی انحلال العلم الإجمالی بالتکالیف بالاُصول المثبتة

[1] ذکر قدس سره أنه کما یرجع بناءً علی انفتاح باب العلم والعلمی إلی الاُصول

ص :195

النقل. هذا، ولو قیل بعدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی،

المثبتة للتکلیف فی مواردها، کذلک لا مانع من الرجوع إلیها علی الانسداد بلا فرق بین کون الأصل المثبت بحکم العقل کما فی مسألة العلم بوجوب القصر أو التمام، ومسألة وجوب الظهر أو الجمعة، حیث إن العلم الإجمالی بوجوب إحداها یقتضی الاحتیاط بالجمع بینهما، أو کان أصلاً شرعیا کالاستصحاب فی بقاء التکلیف أخذاً بعموم النقل حتی بناءً علی ما سلکه الشیخ قدس سره من عدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی بانتقاض الحالة السابقة، ولو کانت الحالة السابقة فیها ثبوت التکلیف بدعوی أن شمول خطابات الاستصحاب لأطرافه فیه محذور المناقضة بین صدر تلک الخطابات وذیلها، فإن عموم النهی فی کل من الأطراف رفع الید عن الحالة السابقة، کما هو مقتضی صدرها یناقض ما فی ذیلها من لزوم رفع الید عن الحالة السابقة فیما علم فیه ارتفاع الحالة السابقة وهو المعلوم بالإجمال، والوجه فی عدم المحذور علی هذا المسلک أیضا مع أن المجتهد یعلم إجمالاً بانتقاض التکلیف السابق فی بعض الموارد التی یأخذ فیها بالحالة السابقة عدم کون شکّه فی جمیع الأطراف فعلیا لکون الاستنباط أمرا تدریجیا، وإذا وصل فی مقام الاستنباط إلی واقعة یشک فیها فی بقاء التکلیف السابق فی حالٍ لغفلته عن سائر الوقایع التی لو وصل إلیها وجد الحال فیها کهذه المسألة لا تکون تلک الوقایع مورد الاستصحاب فعلاً کی یلزم النهی عن نقض الحالة السابقة فی جمیعها مع الأمر بالنقض فی بعضها.

ومما ذکر یظهر أنه لا مجال لدعوی محذور المناقضة فی الرجوع إلی الاُصول النافیة أیضا فی مواردها لو لم یکن من الرجوع إلیها مانع آخر عقلاً أو شرعا، ولیس مانع کذلک لو کانت موارد الاُصول المثبتة بضمیمة ما علم تفصیلاً أو نهض علیه علمی بمقدار المعلوم بالإجمال، بل ولو کان أقل من ذلک المقدار أیضا ولکن بحیث

ص :196

لاستلزام شمول دلیله لها التناقض فی مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض فی کل منها بمقتضی (لا تنقض) لوجوبه فی البعض، کما هو قضیة (ولکن تنقضه بیقین آخر) وذلک لأنه إنما یلزم فیما إذا کان الشک فی أطرافه فعلیاً.

وأما إذا لم یکن کذلک، بل لم یکن الشک فعلاً إلاّ فی بعض أطرافه، وکان بعض أطرافه الآخر غیر ملتفت إلیه فعلاً أصلاً، کما هو حال المجتهد فی مقام استنباط الأحکام، کما لا یخفی، فلا یکاد یلزم ذلک، فإن قضیة (لا تنقض) لیس حینئذ إلاّ

لم یکن لاستکشاف الإیجاب الشرعی للاحتیاط فیها مجال.

أقول: ظاهر کلامه فرض اعتبار الاستصحاب وجواز الأخذ بعموم خطاباته فی موارد إحراز الحالة السابقة مع أن خطاباتها من قبیل الأخبار الآحاد، والمفروض عدم ثبوت اعتبارها مع الغمض عن دلیل الانسداد المقرر بنحو الکشف، نعم یمکن دعوی أن انحلال العلم الإجمالی الکبیر بدعوی ثبوت التکالیف فی موارد الاُصول المثبتة غیر موقوف علی ثبوت اعتبارها نظیر ما تقدم من الانحلال فی موارد الأخبار المأثورة فی التکالیف مع عدم ثبوت اعتبارها، ولکن عبارة الماتن لا تساعد علی ذلک.

وأما ما ذکره من أنّ الاستنباط تدریجی والمجتهد عند استنباط الحکم فی بعض المسائل غافل ولا یلتفت إلی سائر الوقایع فلا یکون علم فعلی بالحالة السابقة فیها وشک فعلی فی بقائها لیلزم العلم الإجمالی بانتقاض الحالة السابقة لا یخفی ما فیه، فإنّ المجتهد وإنْ لم یلتفت إلی جمیع الموارد دفعة إلاّ أنه بعد تمام الاستنباط یعلم إجمالاً بأن الحالة السابقة فی بعض ما أخذ فیه بالاستصحاب منتقض فیسقط اعتباره فیها، ولا یقاس هذا بما إذا علم المجتهد بعد کتابة رسالته بأنّ بعض فتاواه وقع فیها الاشتباه والخطأ، فإنّه لا یبطل العمل برسالته بالعلم بذلک، فإنّ الخطأ

ص :197

حرمة النقض فی خصوص الطرف المشکوک، ولیس فیه علم بالانتقاض کی یلزم التناقض فی مدلول دلیله من شموله له، فافهم.

ومنه قد انقدح ثبوت حکم العقل وعموم النقل بالنسبة إلی الأصول النافیة أیضاً، وأنه لا یلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدلیل لها لو لم یکن هناک مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها، ولا مانع کذلک لو کانت موارد الأصول المثبتة بضمیمة ما علم تفصیلاً، أو نهض علیه علمی بمقدار المعلوم إجمالاً، بل بمقدار لم یکن معه مجال لاستکشاف إیجاب الاحتیاط، وإن لم یکن بذاک المقدار، ومن الواضح أنه یختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وقد ظهر بذلک أن العلم الإجمالی بالتکالیف ربما ینحل ببرکة جریان الاُصول المثبتة وتلک الضمیمة[1].

المعلوم فی الوقایع التی أفتی فیها بعدم التکلیف غیر محرز فلا یوجب هذا الخطأ إلاّ المخالفة الالتزامیة، ولا محذور فیها إذا لم یکن بنحو التشریع وما یوجب عودة النظر العلم بالخطأ الموجب لإیقاع المراجعین فی المخالفة العملیة وهذا غیر معلوم.

بطلان دعوی انحلال العلم الإجمالی بالتکالیف بالاُصول المثبتة

[1] لا یخفی أنه مع العلم الإجمالی فی موارد الأخبار المأثورة المتضمّنة لبیان التکالیف الواقعیّة، وأنّ کثیراً منها موافق للتکلیف الواقعی کیف ینحلّ العلم الإجمالی بالاُصول المثبتة بضمیمة الموارد التی تکون التکالیف الواقعیة فیها معلومة تفصیلاً مع قلة تلک الموارد بالإضافة إلی غیرها، والمفروض فی دلیل الانسداد عدم قیام دلیل علمی فی الوقایع التی هی موارد تلک الأخبار، ومع عدم الانحلال لا مورد لأصالة البراءة إلاّ فی الأطراف الخارجة عن العلم الإجمالی الصغیر التی ذکرناها، وما

ص :198

.··· . ··· .

ذکر قدس سره من أنه لو لم ینحل بذلک کان خصوص موارد الاُصول النافیة مطلقا ولو من مظنونات عدم التکلیف محلاً للاحتیاط فعلاً، ویرفع الید عن الاحتیاط فی موارد الاُصول النافیة کلاً أو بعضا بمقدار رفع اختلال النظام أو انتفاء رفع العسر علی ما عرفت، ولا یرفع الید عن الاحتیاط فی مطلق محتملات التکلیف حتی لو کانت من موارد الاُصول المثبتة فإنه تؤخذ بالاُصول المثبتة لا محالة، لا یخفی ما فیه، فإن موارد الأخبار المشار إلیها للعلم الإجمالی المنجز فیها لا تکون من موارد الاُصول النافیة ومع خروجها عنها لا یکون فی الرجوع إلیها وترک الاحتیاط فیها محذور. نعم، لو کانت واقعة بنفسها مورد العلم الإجمالی الخاص کمسألة دوران الأمر بین القصر والتمام فلا مجال فیها للأصل النافی.

وقد ظهر من جمیع ما ذکرنا أنه علی تقدیر الالتزام بانسداد طریق العلم والعلمی بالإضافة إلی الأحکام الشرعیة وغالب الوقایع التی تکون موارد ابتلاء المکلفین فاللازم الأخذ بالاحتیاط فی موارد الأخبار المأثورة المتضمنة للتکالیف، وفی غیرها إنْ لم یکن فی المسألة علم إجمالی بالتکلیف یرجع إلی الأصل النافی یعنی البراءة العقلیة، ولا یلزم من ذلک محذور آخر غیر أن عمل المکلف فی غالب الوقایع یکون بنحو الاحتیاط من غیر أنْ یعلم التکلیف الواقعی فیها، ولذا یدعّی أن هذا فی نفسه محذور، ونعلم أن الشارع لا یرضی فی شریعته أنْ یکون الطریق إلی معرفتها مسدودا وعمل المکلفین بها علی الاحتیاط فیها؛ ولذا یستکشف أن الشارع جعل الظن ولو فی الجملة طریقا إلی معرفتها هذا مبنی مذهب الکشف لا مجرد اعتبار قصد الوجه والتمییز عند هذا القائل فإن هذا الاعتبار مع ضعف القول به مختص بالعبادات، ولا یجری فی غیرها من الواجبات، والقائل بالحکومة لا یری

ص :199

فلا موجب حینئذ للاحتیاط عقلاً ولا شرعاً أصلاً، کما لا یخفی.

کما ظهر أنه لو لم ینحل بذلک، کان خصوص موارد أصول النافیة مطلقاً _ ولو من مظنونات [عدم] التکلیف _ محلاً للاحتیاط فعلاً، ویرفع الید عنه فیها کلاً أو بعضاً، بمقدار رفع الإختلال أو رفع العسر _ علی ما عرفت _ لا محتملات التکلیف مطلقاً.

وأما الرجوع إلی فتوی العالم فلا یکاد یجوز، ضرورة أنه لا یجوز إلاّ للجاهل لاللفاضل الذی یری خطأ من یدعی انفتاح باب العلم أو العلمی، فهل یکون رجوعه إلیه بنظره إلاّ من قبیل رجوع الفاضل إلی الجاهل؟

نفسه ملزما لجعل الظن طریقا بعد استقلال العقل بأنه یقبح من الشارع الحکیم إرادته من المکلفین فی معظم الوقایع أزید من الموافقة الظنیة، ولا یجوز للمکلفین الاقتصار فی امتثال التکالیف علی الإطاعة الاحتمالیة أو الوهمیة، وقد ذکرنا أنه لا تصل النوبة إلی هذا الحکم أیضا، وأن موارد الاحتیاط هی الوقایع التی ورد فیها الخبر المأثور فی الکتب المعروفة بثبوت التکلیف فی کل منها، وفی غیرها مع عدم إحراز الحکم الواقعی یؤخذ بالأصل یعنی أصالة الاحتیاط لو کانت الواقعة بنفسها مورد العلم الإجمالی بالتکلیف وإلاّ فالأصل هی البراءة لاحتمال انحصار التکالیف فی موارد الأخبار المأثورة والموارد الملحقة بها لعدم احتمال الفرق بینها وبین ما ورد فیه الخبر، ودعوی الإجماع علی أن الشارع جعل لأحکامه وتکالیفه فی الوقایع فی کل زمان طریقا للإجماع علی عدم رضا الشارع بالامتثال الإجمالی فی معظم أحکامه لا یمکن المساعدة علیها، فإن مسألة انسداد باب العلم والعلمی فی معظم الأحکام معنون فی کلمات المتأخرین، وکون المدرک لما ذکروه ما تقدم فأین یستفاد عدم رضا الشارع بالاحتیاط وبطلان عمل تارک طریقی الاجتهاد والتقلید ودعوی الظن

ص :200

وأما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا یجوز التنزل _ بعد عدم التمکن من الإطاعة العلمیة[1]. أو عدم وجوبها __ إلاّ إلی الإطاعة الظنیة دون الشکیة أو الوهمیة، لبداهة مرجوحیتها بالإضافة إلیها، وقبح ترجیح المرجوح علی الراجح، لکنک عرفت عدم وصول النوبة إلی الإطاعة الاحتمالیة، مع دوران الأمر بین الظنیة والشکیة أو الوهمیة، من جهة ما أوردناه علی المقدمة الأولی من انحلال العلم الإجمالی بما فی أخبار الکتب المعتبرة، وقضیته الاحتیاط بالإلزام عملاً بما فیها من التکالیف، ولا بأس به حیث لا یلزم منه عسر فضلاً عما یوجب اختلال النظام.

وما أوردنا علی المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلی الأصول مطلقاً، ولو کانت نافیة، لوجود المقتضی وفقد المانع لو کان التکلیف فی موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصیلاً، أو نهض علیه دلیل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ فإلی الأصول المثبتة وحدها، وحینئذ کان خصوص موارد الأصول النافیة محلاً لحکومة العقل، وترجیح مظنونات التکلیف فیها علی غیرها، ولو بعد استکشاف وجوب الاحتیاط فی الجملة شرعاً، بعد عدم وجوب الاحتیاط التام شرعاً أو عقلاً __ علی ما عرفت تفصیله __ هذا هو التحقیق علی ما یساعد علیه النظر الدقیق، فافهم وتدبر جیداً.

بذلک کدعوی الجزم غیر صحیحة وعلی تقدیر الظن فالکلام فی اعتبار الظن حیث لم یتم علی اعتباره دلیل، وما لم یحرز الاعتبار فالاصل عدم الاعتبار.

فی قاعدة قبح ترجیح المرجوح علی الراجح

[1] ذکروا أنه إذا لم یمکن الموافقة القطعیة للتکالیف المعلومة بالإجمال أو لم تجب، ودار الأمر بین الموافقة الظنیة وبین الاحتمالیة والوهمیة فاللازم رعایة الطاعة

ص :201

فصل

هل قضیة المقدمات علی تقدیر سلامتها هی حجیة الظن بالواقع، أو بالطریق، أو بهما؟ أقوال:

والتحقیق أن یقال: إنه لا شبهة فی أن همّ العقل فی کلّ حال إنما هو تحصیل الأمن من تبعة التکالیف المعلومة، من العقوبة علی مخالفتها، کما لا شبهة فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمّن منها، وفی أن کلما کان القطع به مؤمّناً فی حال الانفتاح کان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً، وإن المؤمّن فی حال الانفتاح هو القطع بإتیان المکلف به الواقعی بما هو کذلک، لا بما هو معلوم ومؤدی الطریق ومتعلق العلم، وهو طریق شرعاً وعقلاً، أو بإتیانه الجعلی، وذلک لأن العقل قد استقل بأن الإتیان بالمکلف به الحقیقی بما هو هو، لا بما هو مؤدی الطریق مبرئ للذمة قطعاً.

کیف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طریق لا یکاد تناله ید الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفیاً، ولا یخفی أن قضیة ذلک هو التنزل إلی الظن بکل واحد من الواقع والطریق، ولا منشأ لتوهم الإختصاص بالظن بالواقع إلاّ توهم أنه قضیة

الظنیة وعدم جواز الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة بعد قیام الدلیل علی عدم إهمالها رأسا، وذلک لقبح ترجیح المرجوح، وعلی ذلک فاللازم علی المجتهد تحصیل الظن بالتکلیف فی کل واقعة لیعمل به هو أو مقلدوه، ومع عدم إمکان تحصیل الظنّ أو عدم حصوله یکون المرجع الأصل النافی، إلاّ إذا کان فی خصوص المسألة علم إجمالی بالتکلیف فیها، وقد ذکر الماتن قدس سره وغیره بأنه عند الدوران یتعیّن تقدیم الإطاعة الظنیة لاستقلال العقل بقبح ترجیح المرجوح علی الراحج، إلاّ أنه لا تصل

ص :202

اختصاص المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم فی الأصول، وعدم إلجاء فی التنزل إلی الظن فیها، والغفلة عن أن جریانها فی الفروع موجب لکفایة الظن بالطریق فی مقام یحصل الأمن من عقوبة التکالیف، وإن کان باب العلم فی غالب الأصول مفتوحاً، وذلک لعدم التفاوت فی نظر العقل فی ذلک بین الظنین، کما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطریق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول وتبعه فی الفصول، قال فیها:

إنا کما نقطع بأنا مکلفون فی زماننا هذا تکلیفاً فعلیاً بأحکام فرعیة کثیرة، لا سبیل لنا بحکم العیان وشهادة الوجدان إلی تحصیل کثیر منها بالقطع، ولا بطریق معین یقطع من السمع بحکم الشارع بقیامه، أو قیام طریقه مقام القطع ولو عند تعذره، کذلک نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلی تلک الأحکام طریقاً مخصوصاً، وکلفنا تکلیفاً فعلیاً بالعمل بمؤدی طرق مخصوصة، وحیث إنه لا سبیل غالباً إلی تعیینها بالقطع، ولا بطریق یقطع من السمع بقیامه بالخصوص، أو قیام طریقه کذلک مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ریب أن الوظیفة فی مثل ذلک بحکم العقل إنما هو الرجوع فی تعیین ذلک الطریق إلی الظن الفعلی الذی لا دلیل علی عدم حجیته، لأنه أقرب إلی العلم، وإلی إصابة الواقع مما عداه.

النوبة إلی الدوران من جهة ما تقدم فی المقدمة الأولی من انحلال العلم الإجمالی بالتکالیف فی الوقایع بالتکالیف الواردة فی الأخبار المأثورة فی الکتب المعروفة للأخبار، فإن العلم بصدق کثیر من تلک الأخبار أی مطابقتها للتکالیف الواقعیة یوجب انحلال العلم الإجمالی الکبیر لاحتمال أنْ لا یکون فی غیر موارد تلک الأخبار من الموارد التی لا یعلم التکلیف فیها تفصیلاً أو بطریق علمی تکلیف آخر واقعاً، ومقتضی ذلک الاحتیاط التام فی موارد تلک الأخبار ولا عسر ولا حرج فیه کما

ص :203

وفیه: أولاً __ بعد تسلیم العلم بنصب طرق خاصة باقیة فیما بأیدینا من الطرق الغیر العلمیة، وعدم وجود المتیقن بینها أصلاً __ أن قضیة ذلک هو الاحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعیینها بالظن.

لا یقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتیاط، بل عدم جوازه، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتیاط التام فی أطراف الأحکام، مما یوجب العسر المخل بالنظام، لا الاحتیاط فی خصوص ما بأیدینا من الطرق.

فإن قضیة هذا الاحتیاط هو جواز رفع الید عنه فی غیر مواردها، والرجوع إلی الأصل فیها ولو کان نافیاً للتکلیف، وکذا فیما إذا نهض الکل علی نفیه، وکذا فیما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فیه نفیاً وإثباتاً مع ثبوت المرجح للنافی، بل مع عدم رجحان المثبت فی خصوص الخبر منها، ومطلقاً فی غیره بناءً علی عدم ثبوت الترجیح علی تقدیر الإعتبار فی غیر الأخبار، وکذا لو تعارض اثنان منها فی الوجوب والتحریم، فإن المرجع فی جمیع ما ذکر من موارد التعارض هو الأصل الجاری فیها ولو کان نافیاً، لعدم نهوض طریق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به علی خلافه، فافهم.

وکذا کل مورد لم یجر فیه الأصل المثبت، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فیه

عند القائل باعتبارها کلها، وما أوردنا علی المقدّمة الرابعة من إمکان الرجوع فی غیر موارد العلم التفصیلی والطریق المعتبر إلی الاُصول المثبتة والنافیة إذا کانت التکالیف المحرزة بالاُصول المثبتة بضمیمة موارد المعلوم بالتفصیل أو بطریق علمیّ بمقدار المعلوم بالإجمال، بأن یحتمل انحصار التکالیف الواقعیّة علی تلک الموارد وعدم وجود تکلیف آخر فی موارد الاُصول النافیة أو وجوده فیها ولکن لم یکن من الأهمیة بحیث یستکشف عدم جواز الإهمال والرجوع إلی تلک الاُصول، وإلاّ کانت موارد

ص :204

إجمالاً بسبب العلم به، أو بقیام أمارة معتبرة علیه فی بعض أطرافه، بناءً علی عدم جریانه بذلک.

وثانیاً: لو سلم أنّ قضیته لزوم التنزل إلی الظن، فتوهّم أن الوظیفة حینئذ هو خصوص الظن بالطریق فاسد قطعاً، وذلک لعدم کونه أقرب إلی العلم وإصابة الواقع من الظن، بکونه مؤدی طریق معتبر من دون الظن بحجیة طریق أصلاً، ومن الظن بالواقع، کما لا یخفی.

لا یقال: إنما لا یکون أقرب من الظن بالواقع، إذا لم یصرف التکلیف الفعلی عنه إلی مؤدّیات الطرق ولو بنحو التقیید، فإن الإلتزام به بعید، إذ الصرف لو لم یکن تصویباً محالاً، فلا أقل من کونه مجمعاً علی بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع یجدی فی الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدی طریق القطع، کما عرفت.

ومن هنا انقدح أن التقیید أیضاً غیر سدید، مع أن الإلتزام بذلک غیر مفید، فإن الظن بالواقع فیما ابتلی به من التکالیف لا یکاد ینفکّ عن الظن بأنه مؤدی طریق معتبر، والظن بالطریق ما لم یظن بإصابته الواقع غیر مجدٍ بناءً علی التقیید، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقید به بدونه.

هذا مع عدم مساعدة نصب الطریق علی الصرف ولا علی التقیید، غایته أن

الاُصول النافیة موردا لحکومة العقل وترجیح مظنونات التکلیف فیها علی غیرها بعد عدم وجوب الاحتیاط التام فیها شرعاً أو عقلاً لاستلزامه الحرج أو الاختلال.

أقول: قد ذکرنا أنه لا حاجة فی المقام إلی المقدمة الخامسة حتی لو قیل بعدم ثبوت القبح فی ترجیح الطاعة الاحتمالیة أو التخییر بین الإطاعة الظنیة والاحتمالیة فإن اللازم علی المجتهد تحصیل الظن فی الوقایع بالتکالیف فیها مع إمکانه لعلمه إجمالاً

ص :205

العلم الإجمالی بنصب طرق وافیة یوجب انحلال العلم بالتکالیف الواقعیة إلی العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبة من التکالیف الفعلیة، والانحلال وإن کان یوجب عدم تنجز ما لم یؤد إلیه الطریق من التکالیف الواقعیة، إلاّ أنه إذا کان رعایة العلم بالنصب لازماً، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز.

وعلیه یکون التکالیف الواقعیة، کما إذا لم یکن هناک علم بالنصب فی کفایة الظن بها حال انسداد باب العلم، کما لا یخفی، ولابد حینئذ من عنایة أخری فی لزوم رعایة الواقعیات بنحو من الإطاعة، وعدم إهمالها رأساً کما أشرنا إلیه، ولا شبهة فی أن الظن بالواقع لو لم یکن أولی حینئذ لکونه أقرب فی التوسل به إلی ما به الإهتمام من فعل الواجب وترک الحرام، من الظن بالطریق، فلا أقل من کونه مساویاً فیما یهم العقل من تحصیل الأمن من العقوبة فی کل حال، هذا مع ما عرفت من أنه عادة یلازم الظن بأنه مؤدی طریق، وهو بلا شبهة یکفی، ولو لم یکن هناک ظن بالطریق، فافهم فإنه دقیق.

ثانیهما: ما اختص به بعض المحققین، قال:

(لا ریب فی کوننا مکلفین بالأحکام الشرعیة، ولم یسقط عنا التکلیف بالأحکام الشرعیة، وأن الواجب علینا أولاً هو تحصیل العلم بتفریغ الذمة فی حکم

بأن کثیراً من الظنون فیها موافقة لما فی الواقع فیها من التکالیف، وهذا العلم الإجمالی یوجب الأخذ بجانب الظن بالتکلیف فیها وإذا احتمل انحصار التکالیف الواقعیة علی موارد الظنون التی یحصّلها المجتهد فلا بأس بالرجوع إلی الأصل النافی فی غیرها ما لم یکن فی المسألة علم إجمالی خاص بها کما تقدم، وهذا لیس مما قالوا من دوران الأمر بین الإطاعة الظنیة والطاعة الإحتمالیة والوهمیة، وبیان ذلک أن الصور الملحوظة فی الدوران أربع.

ص :206

المکلّف، بأن یقطع معه بحکمه بتفریغ ذمتنا عما کلفنا به، وسقوط تکلیفنا عنا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصیل القول فیه.

فحینئذ نقول: إن صح لنا تحصیل العلم بتفریغ ذمتنا فی حکم الشارع، فلا إشکال فی وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علینا سبیل العلم کان الواجب علینا تحصیل الظن بالبراءة فی حکمه، إذ هو الأقرب إلی العلم به، فیتعین الاخذ به عند التنزل من العلم فی حکم العقل، بعد انسداد سبیل العلم والقطع ببقاء التکلیف، دون ما یحصل معه الظن بأداء الواقع، کما یدعیه القائل بأصالة حجیة الظن). انتهی موضع الحاجة من کلامه، (زید فی علو مقامه).

وفیه أولاً: إن الحاکم علی الاستقلال فی باب تفریغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنما هو العقل، ولیس للشارع فی هذا الباب حکم مولوی یتبعه حکم العقل، ولو حکم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه، وقد عرفت استقلاله بکون الواقع بما هو هو مفرّغ، وأن القطع به حقیقة أو تعبداً مؤمّن جزماً، وأن المؤمّن فی حال الانسداد هو الظن بما کان القطع به مؤمناً حال الانفتاح، فیکون الظن بالواقع أیضاً مؤمّناً حال الإنسداد.

وثانیاً: سلّمنا ذلک، لکن حکمه بتفریغ الذمة __ فیما إذا أتی المکلف بمؤدی

الاُولی: أن تکون الوقایع علی قسمین: قسم یظن فیها ثبوت التکلیف فی کل من أطراف ذلک القسم، وقسم آخر یشک فی ثبوت التکلیف فی کل من أطرافه، ومثال ذلک فی الموضوعات ما إذا کان فی البین آنیة متعددة، قسم منها بیضاء واُخری سوداء ویظن إصابة النجاسة لکل من الآنیة البیض ویشک أو یحتمل ضعیفا إصابتها لکل من السود، ولکن من غیر علم اجمالی بإصابة النجاسة فی القسمین بأن یحتمل طهارة کلّ الآنیة بحسب الواقع، وفی هذا الفرض یرجع فی کل من القسمین إلی

ص :207

الطریق المنصوب __ لیس إلاّ بدعوی أن النصب یستلزمه، مع أن دعوی أن التکلیف بالواقع یستلزم حکمه بالتفریغ فیما إذا أتی به أولی، کما لا یخفی، فیکون الظن به ظناً بالحکم بالتفریغ أیضاً.

إن قلت: کیف یستلزمه الظن بالواقع؟ مع أنه ربما یقطع بعدم حکمه به معه، کما إذا کان من القیاس، وهذا بخلاف الظن بالطریق، فإنه یستلزمه ولو کان من القیاس.

قلت: الظن بالواقع أیضاً یستلزم الظن بحکمه بالتفریغ، ولا ینافی القطع بعدم حجیته لدی الشارع، وعدم کون المکلف معذوراً __ إذا عمل به فیهما __ فیما أخطأ، بل کان مستحقاً للعقاب __ ولو فیما أصاب __ لو بنی علی حجیته والاقتصار علیه لتجریه، فافهم.

وثالثاً: سلمنا أن الظن بالواقع لا یستلزم الظن به، لکن قضیته لیس إلاّ التنزل إلی الظن بأنه مؤدی طریق معتبر، لا خصوص الظن بالطریق، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا یکاد ینفک عن الظن بأنه مؤدی الطریق غالباً.

أصالة الطهارة والحلیة، ولا اعتبار بالظن ما لم یصل إلی حد الاطمینان، وهذا لا کلام فیه، الصورة الثانیة: أنْ یحصل الظن بالتکلیف فی کل فرد من أفراد القسم الأول ویحتمل التکلیف فی کلّ من أفراد القسم الثانی مع العلم الإجمالی بإصابة الظنون بالتکالیف مع التکالیف الواقعیّة فی الجملة من غیر علم إجمالی کذلک فی ناحیة القسم الثانی، وفی هذه الصورة یجب الاحتیاط فی موارد الظنون فإنّه مقتضی العلم الإجمالی بالتکالیف فی مواردها، ویرجع إلی الأصل النافی فی کل فرد من أفراد المشکوکات من غیر فرق بین کون رعایة التکلیف المحتمل فی جمیع القسمین حرجیا أم لا، ومن غیر فرق بین القول بقبح ترجیح المرجوح والقول بعدم قبحه.

ص :208

فصل

لا یخفی عدم مساعدة مقدمات الانسداد علی الدلالة علی کون الظن طریقاً منصوباً شرعاً، ضرورة أنه معها لا یجب عقلاً علی الشارع أن ینصب طریقاً، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل فی هذا الحال، ولا مجال لإستکشاف نصب الشارع من حکم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة أنها إنما تکون فی مورد قابل للحکم الشرعی، والمورد هاهنا غیر قابل له، فإن الإطاعة الظنیة التی یستقل العقل بکفایتها فی حال الإنسداد إنما هی بمعنی عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزید منها، وعدم جواز اقتصار المکلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غیر قابلة لحکمه، وهو واضح.

واقتصار المکلف بما دونها، لما کان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً، أو فیما أصاب الظن، کما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلی أمر بها أو نهی عن مخالفتها، کان حکم الشارع فیه مولویاً بلا ملاک یوجبه، کما لا یخفی، ولا بأس به إرشادیاً، کما هو شأنه فی حکمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة.

وصحة نصبه الطریق وجعله فی کل حال بملاک یوجب نصبه وحکمة داعیة

والمقام بناءً علی الالتزام بالانسداد وعدم انحلال العلم الإجمالی الکبیر بالتکالیف الواقعیة فی موارد الأخبار الواردة فی الکتب المعروفة من هذا القبیل، فیرجع فی الوقایع التی لا یمکن للمجتهد تحصیل الظن بالتکلیف إلی الأصل النافی لعدم العلم الإجمالی بالإضافة إلی التکلیف والتکالیف الواقعیة فی تلک الوقایع.

الصورة الثالثة: ما إذا علم إجمالاً بوجود التکلیف الواقعی أو التکالیف الواقعیة فی کل من القسمین، والمکلف لا یتمکن أو لا یجب علیه الاحتیاط التام فی أطراف

ص :209

إلیه، لا تنافی استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الإنسداد، کما یحکم بلزومها بنحو آخر حال الإنفتاح، من دون استکشاف حکم الشارع بلزومها مولویاً، لما عرفت.

فانقدح بذلک عدم صحة تقریر المقدمات إلاّ علی نحو الحکومة دون الکشف، وعلیها فلا إهمال فی النتیجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبة، لعدم تطرق الإهمال والإجمال فی حکم العقل، کما لا یخفی.

أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فیها.

وأما بحسب الموارد، فیمکن أن یقال بعدم استقلاله بکفایة الإطاعة الظنیة، إلاّ فیما لیس للشارع مزید اهتمام فیه بفعل الواجب وترک الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتیاط فیما فیه مزید الإهتمام، کما فی الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا یلزم من الاحتیاط فیها العسر.

وأما بحسب المرتبة، فکذلک لا یستقل إلاّ بلزوم التنزل إلی مرتبة الإطمئنان من الظن بعدم التکلیف، إلاّ علی تقدیر عدم کفایتها فی دفع محذور العسر.

وأما علی تقریر الکشف، فلو قیل بکون النتیجة هو نصب الطریق الواصل بنفسه، فلا إهمال فیها أیضاً بحسب الأسباب، بل یستکشف حینئذ أن الکل حجة

العلم الإجمالی فی کل من القسمین، فاللازم فی هذا الفرض التبعیض فی الاحتیاط فی کل من الطائفتین؛ لما أشرنا سابقا من أن الموافقة الاحتمالیة لکل التکالیف مقدم علی الموافقة القطعیة لبعضها الملازمة للمخالفة القطعیة لبعضها الآخر، والمقام بناءً علی عدم انحلال العلم الإجمالی الکبیر حتی بالعلم الإجمالی بالتکالیف فی موارد الظنون من هذا القبیل، ولا مورد فیه للقول بقبح تقدیم المرجوح علی الراجح.

الصورة الرابعة: ما إذا کان کل من أفراد القسمین طرفاً للعلم الإجمالی

ص :210

لو لم یکن بینها ما هو المتیقن، وإلاّ فلا مجال لاستکشاف حجیة غیره، ولا بحسب الموارد، بل یحکم بحجیته فی جمیعها، وإلاّ لزم عدم وصول الحجة، ولو لأجل التردد فی مواردها، کما لا یخفی.

ودعوی الإجماع علی التعمیم بحسبها فی مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جداً.

وأما بحسب المرتبة، ففیها إهمال، لأجل احتمال حجیة خصوص الاطمئنانی منه إذا کان وافیاً، فلا بد من الاقتصار علیه، ولو قیل بأن النتیجة هو نصب الطریق الواصل ولو بطریقه، فلا إهمال فیها بحسب الأسباب، لو لم یکن فیها تفاوت أصلاً، أو لم یکن بینها إلاّ واحد، وإلاّ فلا بد من الاقتصار علی متیقن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدمات دلیل الانسداد حینئذ مرة أو مرات فی تعیین الطریق المنصوب، حتی ینتهی إلی ظن واحد أو إلی ظنون متعددة لا تفاوت بینها، فیحکم بحجیة کلها، أو متفاوتة یکون بعضها الوافی متیقن الاعتبار، فیقتصر علیه.

وأما بحسب الموارد والمرتبة، فکما إذا کانت النتیجة هی الطریق الواصل بنفسه، فتدبر جیداً.

ولو قیل بأن النتیجة هو الطریق ولو لم یصل أصلاً، فالإهمال فیها یکون من

بالتکالیف، أو التکالیف بمعنی نعلم منه بثبوت تکلیف أو تکالیف إما فی أفراد القسم الأول، أو أنه لیس فیها تکلیف أو تکالیف واقعیة بل التکلیف أو التکالیف فی أفراد القسم الثانی، وتکون رعایة العلم الإجمالی فی کل من أفراد القسمین غیر جایز أو غیر واجب للزوم الإخلال بالنظام أو الحرج، بخلاف رعایة احتمال التکلیف أو التکالیف فی أفراد قسم واحد، وفی هذه الصورة بناءً علی تنجیز العلم الإجمالی أو قیام دلیل بعدم جواز إهمال التکلیف أو التکالیف المعلومة بالإجمال رأسا تقدم

ص :211

الجهات، ولا محیص حینئذ إلاّ من الاحتیاط فی الطریق بمراعاة أطراف الإحتمال لو لم یکن بینها متیقن الاعتبار، لو لم یلزم منه محذور، وإلاّ لزم التنزل إلی حکومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم ودفع: لعلک تقول: إن القدر المتیقن الوافی لو کان فی البین لما کان مجال لدلیل الانسداد، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمی أیضاً.

لکنک غفلت عن أن المراد ما إذا کان الیقین بالاعتبار من قبله، لأجل الیقین بأنه لو کان شیء حجة شرعاً کان هذا الشیء حجة قطعاً، بداهة أن الدلیل علی أحد المتلازمین إنما هو الدلیل علی الآخر، لا الدلیل علی الملازمة.

ثم لا یخفی أن الظن باعتبار ظن بالخصوص، یوجب الیقین باعتباره من باب دلیل الانسداد علی تقریر الکشف بناءً علی کون النتیجة هو الطریق الواصل بنفسه، فإنه حینئذ یقطع بکونه حجة، کان غیره حجة أو لا، واحتمال عدم حجیته بالخصوص لا ینافی القطع بحجیته بملاحظة الانسداد، ضرورة أنه علی الفرض لا یحتمل أن یکون غیره حجة بلا نصب قرینة، ولکنه من المحتمل أن یکون هو الحجة دون غیره، لما فیه من خصوصیة الظن بالاعتبار، وبالجملة الأمر یدور بین حجیة الکل وحجیته، فیکون مقطوع الاعتبار.

الطاعة الظنیة برعایة المعلوم بالإجمال فی المظنونات ویترک رعایة احتمالها فی ناحیة المشکوکات والموهومات بقاعدة قبح ترجیح المرجوح علی الراجح، والقبح فی المقام بمعنی استحقاق العقاب علی ترک الطاعة الظنیة إذا أصابت الظنون أو بعضها التکلیف الواقعی، والحاکم بذلک هو العقل ولکن فی استقلاله بذلک تأمل إذا لم یکن رعایة الاحتیاط فی الظنون موجبا للوثوق بإمتثال التکالیف المعلومة بالإجمال کلاً أو بعضا.

ص :212

ومن هنا ظهر حال القوة، ولعل نظر من رجح بها إلی هذا الفرض، وکان منع شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه __ عن الترجیح بهما، بناءً علی کون النتیجة هو الطریق الواصل ولو بطریقه، أو الطریق ولو لم یصل أصلاً، وبذلک ربما یوفق بین کلمات الأعلام فی المقام، وعلیک بالتأمل التام.

ثم لا یذهب علیک أن الترجیح بهما إنما هو علی تقدیر کفایة الراجح، وإلاّ فلا بد من التعدی إلی غیره بمقدار الکفایة، فیختلف الحال باختلاف الأنظار بل الأحوال.

وأما تعمیم النتیجة بأن قضیة العلم الإجمالی بالطریق هو الاحتیاط فی أطرافه، فهو لا یکاد یتم إلاّ علی تقدیر کون النتیجة هو نصب الطریق ولو لم یصل أصلاً، مع أن التعمیم بذلک لا یوجب العمل إلاّ علی وفق المثبتات من الأطراف دون النافیات، إلاّ فیما إذا کان هناک نافٍ من جمیع الأصناف، ضرورة أن الاحتیاط فیها یقتضی رفع الید عن الاحتیاط فی المسألة الفرعیة إذا لزم، حیث لا ینافیه، کیف؟ ویجوز الاحتیاط فیها مع قیام الحجة النافیة، کما لا یخفی، فما ظنک بما لا یجب الأخذ بموجبه إلاّ من باب الاحتیاط؟ فافهم.

ینبغی فی المقام التنبیه إلی أمرین.

الأول: إنّ حکم العقل فی المقام برعایة التکالیف المظنونة من باب قاعدة الاشتغال فی أطراف العلم الإجمالی لاحتمال ثبوت التکلیف من المعلوم بالإجمال فیه، وهذا الحکم العقلی کحکمه فی سائر موارد العلم الإجمالی بالتکلیف لا یستتبع الحکم الشرعی المولوی؛ لأنّ الحکم الشرعی المولوی النفسی یتوقف علی الملاک النفسی ولا حاجة إلی الحکم المولوی الطریقی لتنجز الوقایع بالاحتمال فی أطراف العلم الإجمالی.

ص :213

فصل

قد اشتهر الإشکال بالقطع بخروج القیاس عن عموم نتیجة دلیل الإنسداد بتقریر الحکومة، وتقریره علی ما فی الرسائل أنه:

(کیف یجامع حکم العقل بکون الظن کالعلم مناطاً للإطاعة والمعصیة، ویقبح علی الآمر والمأمور التعدی عنه، ومع ذلک یحصل الظن أو خصوص الإطمئنان من القیاس، ولا یجوّز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما یقتضیه العقل من الظن، أو خصوص الإطمئنان لو فرض ممکناً، جری فی غیر القیاس، فلا یکون العقل مستقلاً، إذ لعله نهی عن أمارة مثل ما نهی عن القیاس بل وأزید واختفی علینا، ولا دافع لهذا الإحتمال إلاّ قبح ذلک علی الشارع، إذ احتمال صدور ممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلاّ بقبحه، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدلیل العقلی لا یقبل التخصیص). انتهی موضع الحاجة من کلامه، (زید فی علو مقامه).

وأنت خبیر بأنه لا وقع لهذا الإشکال، بعد وضوح کون حکم العقل بذلک معلقاً علی عدم نصب الشارع طریقاً واصلاً، وعدم حکمه به فیما کان هناک

ولا یقاس حکمه فی المقام بحکمه فی القطع التفصیلی بالتکلیف فإنّ القطع بالتکلیف فی نفسه موجب لتنجز متعلقه إذا أصاب بخلاف منجزیة الظن فی المقام، فإن المنجزیة إذا أصابت الواقع بالعلم الإجمالی وکونه من أطرافه ویترتب علی الظن ما یترتب علی الاحتمال فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإنه کما إذا ورد الترخیص فی البعض المعین من أطراف العلم بترخیص ظاهری لا یمنع عن منجزیة العلم الإجمالی بالإضافة إلی سائر الأطراف کذلک الحال فی المقام، فإنه إذا ورد النهی

ص :214

منصوب ولو کان أصلاً، بداهة أن من مقدمات حکمه عدم وجود علم ولا علمی، فلا موضوع لحکمه مع أحدهما، والنهی عن ظن حاصل من سبب لیس إلاّ کنصب شیء، بل هو یستلزمه فیما کان فی مورده أصل شرعی، فلا یکون نهیه عنه رفعاً لحکمه عن موضوعه، بل به یرتفع موضوعه، ولیس حال النهی عن سبب مفید للظن إلاّ کالأمر بما لا یفیده، وکما لا حکومة معه للعقل لا حکومة له معه، وکما لا یصح بلحاظ حکمه الإشکال فیه، لا یصح الإشکال فیه بلحاظه.

نعم لا بأس بالإشکال فیه فی نفسه، کما أشکل فیه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذیر، تقدم الکلام فی تقریرها وما هو التحقیق فی جوابها فی جعل الطرق.

غایة الأمر تلک المحاذیر __ التی تکون فیما إذا أخطأ الطریق المنصوب __ کانت فی الطریق المنهی عنه فی مورد الإصابة، ولکن من الواضح أنه لا دخل لذلک فی الاشکال علی دلیل الإنسداد بخروج القیاس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهی عنه فی الجملة، قد أشکل فی عموم النهی لحال الإنسداد بملاحظة حکم العقل، وقد عرفت أنه بمکان من الفساد.

واستلزام إمکان المنع عنه، لإحتمال المنع عن أمارة أخری وقد اختفی علینا، وإن کان موجباً لعدم استقلال العقل، إلاّ أنه إنما یکون بالإضافة إلی تلک الأمارة، لو کان غیرها مما لا یحتمل فیه المنع بمقدار الکفایة، وإلاّ فلا مجال لإحتمال المنع فیها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحکم مع احتمال وجود مانعه،

الطریقی عن اتباع ظن معین کالظن الحاصل من القیاس حیث إنّه مع النهی المزبور لا یحتمل استحقاق العقاب علی مخالفته إذا صادف التکلیف الواقعی ثم لو بنی علی العلم بأن الشارع لم یرض بالاحتیاط فی الوقایع أو لم یمکن الاحتیاط فی

ص :215

علی ما یأتی تحقیقه فی الظن المانع والممنوع.

وقیاس حکم العقل بکون الظن مناطاً للإطاعة فی هذا الحال علی حکمه بکون العلم مناطاً لها فی حال الإنفتاح، لا یکاد یخفی علی أحد فساده، لوضوح أنه مع الفارق، ضرورة أن حکمه فی العلم علی نحو التنجز، وفیه علی نحو التعلیق.

ثم لا یکاد ینقضی تعجبی لِمَ خصصوا الإشکال بالنهی عن القیاس، مع جریانه فی الأمر بطریق غیر مفید للظن، بداهة انتفاء حکمه فی مورد الطریق قطعاً، مع أنه لا یظن بأحد أن یستشکل بذلک، ولیس إلاّ لأجل أن حکمه به معلق علی عدم النصب، ومعه لا حک_م له، کما هو کذلک مع النهی عن بعض أفراد الظن، فتدبر جیداً.

وقد انقدح بذلک أنه لا وقع للجواب عن الإشکال: تارة بأن المنع عن القیاس لأجل کونه غالب المخالفة، وأخری بأن العمل به یکون ذا مفسدة غالبة علی مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة، وذلک لبداهة أنه إنما یشکل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه فی نفسه، بملاحظة حکم العقل بحجیة الظن، ولا یکاد یجدی صحته کذلک فی ذب الإشکال فی صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا یخلو عن دقة.

الوقایع العبادیة لأنه یعتبر فی صحة العبادة قصد الوجه والتمییز ولا یتمکن من قصدهما من دون طریق معتبر إلی إحراز العبادة، وحکمها یستکشف من مقدمات الانسداد أن الشارع اعتبر الظن فی الوقایع طریقا ولا یحتمل التفرقة بین الوقایع العبادیة وغیرها وتکون النتیجة هو القول باعتبار الظن حال الانسداد شرعا، ولکن البناء المزبور غیر صحیح کما تقدم.

الأمر الثانی: أنه بناءً علی ما تقدم من الاحتیاط فی موارد الظن بالتکالیف من الوقایع للعلم الإجمالی بثبوتها فی کثیر منها یجری الاحتیاط بلا فرق بین موارد الظن

ص :216

وأما ما قیل فی جوابه، من منع عموم المنع عنه بحال الإنسداد، أو منع حصول الظن منه بعد انکشاف حاله، وأن ما یفسده أکثر مما یصلحه، ففی غایة الفساد، فإنه مضافاً إلی کون کل واحد من المنعین غیر سدید __ لدعوی الإجماع علی عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه فی بعض الأحیان __ لا یکاد یکون فی دفع الإشکال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفید، غایة الأمر أنه لا إشکال مع فرض أحد المنعین، لکنه غیر فرض الإشکال، فتدبر جیداً.

فصل

إذا قام ظن علی عدم حجیة ظن بالخصوص، فالتحقیق أن یقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون فی حال الإنسداد: إنه لا استقلال للعقل بحجیة ظن احتمل المنع عنه، فضلاً عما إذا ظن، کما أشرنا إلیه فی الفصل السابق، فلا بد من الإقتصار علی ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن کفی، وإلاّ فبضمیمة ما لم یظن المنع عنه وإن احتمل، مع قطع النظر عن مقدمات الإنسداد، وإن انسد باب هذا الإحتمال معها، کما لا یخفی، وذلک ضرورة أنه لا احتمال مع الإستقلال حسب الفرض ومنه قد انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قیل بکون النتیجة هی حجیة الظن فی الأصول أو فی الفروع أو فیهما، فافهم.

الشخصی بالتکلیف وموارد الظن النوعی به، حیث إن التکالیف المعلومة بالإجمال تعمّ مواردهما.

فإنّه لو قیل بعدم انحصار العلم بالتکالیف علی موارد الأخبار المأثورة فی الکتب المعروفة فلا مورد للتأمل فی أن موارد تلک الأخبار داخلة فی أطراف المعلوم بالإجمال مع أنه لا ظن شخصیّ بالتکلیف فی أکثر مواردها، وقد تحصّل من جمیع ما

ص :217

فصل

لافرق فی نتیجة دلیل الإنسداد، بین الظن بالحکم من أمارة علیه، وبین الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآیة أو الروایة، کقول اللغوی فیما یورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح، ولا یخفی أن اعتبار ما یورثه لا محیص عنه فیما إذا کان مما ینسد فیه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة فیما یورث الظن بالحکم مع الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة فی غیر المورد.

نعم لایکاد یترتب علیه أثر آخر من تعیین المراد فی وصیة أو إقرار أو غیرهما من الموضوعات الخارجیة، إلاّ فیما یثبت فیه حجیة مطلق الظن بالخصوص، أو ذاک المخصوص، ومثله الظن الحاصل بحکم شرعی کلی من الظن بموضوع خارجی، کالظن بأن راوی الخبر هو زرارة بن أعین مثلاً، لا آخر.

فانقدح أن الظنون الرجالیة مجدیة فی حال الإنسداد، ولو لم یقم دلیل علی اعتبار قول الرجالی، لا من باب الشهادة ولا من باب الروایة.

تنبیه: لایبعد استقلال العقل بلزوم تقلیل الإحتمالات المتطرقة إلی مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمکن فی الروایة، وعدم الإقتصار علی الظن الحاصل منها بلاسدّ بابه فیه بالحجة من علم أو علمی، وذلک لعدم جواز التنزل فی صورة الإنسداد إلی الضعی_ف مع التمکن من القوی أو ما بحک_مه عقلاً، فتأمل جیداً.

ذکرنا حول مقدمات الانسداد أن مقتضاها الاحتیاط فی المظنونات ویرجع فی غیرها إلی الأصل ولا یبقی مجال لبعض المباحث المذکورة فی الکتب الاُصولیة من حکم الظن المانع والممنوع، وکون النتیجة حجیة الظن بالواقع أو الظن بالطریق أو الظن بهما ونحو ذلک فلاحظ.

ص :218

فصل

إنما الثابت بمقدمات دلیل الإنسداد فی الأحکام هو حجیة الظن فیها، لا حجیته فی تطبیق المأتی به فی الخارج معها، فیتبع مثلاً فی وجوب صلاة الجمعة یومها، لا فی إتیانها، بل لا بد من علم أو علمی بإتیانها، کما لا یخفی.

نعم ربما یجری نظیر مقدمات الإنسداد فی الأحکام فی بعض الموضوعات الخارجیة، من انسداد باب العلم به غالباً، واهتمام الشارع به بحیث علم بعدم الرضا بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فیه مهما أمکن، وعدم وجوب الاحتیاط شرعاً أو عدم إمکانه عقلاً، کما فی موارد الضرر المردد أمره بین الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محیص عن اتباع الظن حینئذ أیضاً، فافهم.

خاتمة یذکر فیها أمران استطرادا.

الأول: هل الظن کما یتبع عند الانسداد عقلاً فی الفروع[1].

الظنّ فی الاُصول الاعتقادیة

[1] ذکر الشیخ قدس سره بعد مباحث الانسداد أمرین.

الأول: اتباع الظن فی الاعتقادیّات إذا لم یمکن تحصیل العلم بها نظیر إتباعه فی الفروع عند عدم إمکان الوصول إلیها بالعلم أو الطریق العلمی علی ما تقدم، أو أنه لا یصل الأمر فی الاُصول الإعتقادیة إلی الاعتماد علی الظن أصلاً.

الثانی: الظن الذی لا یکون معتبرا فی نفسه فی الفروع هل یکون جابرا لضعف الروایة سندا أو دلالة بحیث تصیر معتبرة، أو موهنا للروایة التی لولا خلاف الظن لکانت معتبرة؟ وهل یکون الظن المزبور مرجحا لإحدی الروایتین المتعارضتین بحیث تؤخذ بالموافق وتطرح المخالف؟ وتبعه علی ذلک الماتن قدس سره ، یقع الکلام فی المقام الأول.

ص :219

.··· . ··· .

أقول: لا ینبغی التأمل فی أنّ الاُمور الاعتقادیة علی قسمین: قسم منها ما یجب الاعتقاد به بمعنی التبانی وعقد القلب علیه علی تقدیر إخبار اللّه سبحانه أو النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم علیه السلام فإن الاعتقاد والتسلیم به قلباً یعد من تصدیق النبی صلی الله علیه و آله والإمام المعصوم علیه السلام کوقایع البرزخ وما بعد البعث والنشور من أحوال القیامة والصراط والمیزان ودرجات الجنة ودرکات الجحیم إلی غیر ذلک مما یعدّ بعد ثبوت الأخبار بها الاعتقاد بها من التصدیق للنبی صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام ولا مجال فی هذا القسم للاعتماد علی الظن المطلق بدعوی انسداد باب العلم بهذه الاُمور حتی بناءً علی أن نتیجة مقدمات الانسداد الکشف عن حجیة مطلق الظن شرعا، وذلک لعدم جریان مقدمات دلیله فی هذه الاُمور الاعتقادیة فإن من مقدماته عدم وجوب الاحتیاط التام فی الوقایع أو عدم جوازه علی ما تقدم، والامتثال الإجمالی فی الاُمور الاعتقادیة ممکن لا محذور فیه، فإن للمکلف أن یعقد قلبه بما هو الواقع من هذه الاُمور فیکون هذا تصدیقاً إجمالیا للنبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام فیما أخبروا بها، وبهذا یظهر أنه یکفی هذا التصدیق الإجمالی حتی فی الموارد التی یمکن للمکلف أنْ یعلم تفصیلاً ویحصل المعرفة بها کذلک.

نعم یقع الکلام فی هذا القسم أنه إذا قام طریق معتبر شرعا إلی بعض هذه الاُمور بأنْ کان الظن به من الظنون الخاصة فهل یجوز عقد القلب تفصیلاً بما قام به هذا الطریق، أم لا اعتبار فی ذلک بالظن الخاص کالظن المطلق؟

فقد یقال: إذا کان الخبر القائم بهذه الاُمور طریقا معتبرا شرعا لا مانع من الإلتزام وعقد القلب علیه؛ لأنّ المفروض الشارع اعتبر علم المکلف بإخبار النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم به فیجوز الالتزام وعقد القلب علیه کما هو الحال فی إحراز

ص :220

العملیة؟ المطلوب فیها أولاً العمل بالجوارح، یتبع فی الأصول الاعتقادیة المطلوب فیها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب علیه وتحمله والانقیاد له، أو لا؟.

الظاهر لا، فإن الأمر الاعتقادی وإن انسد باب القطع به، إلاّ أن باب الاعتقاد إجمالاً __ بما هو واقعه والانقیاد له وتحمله __ غیر منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا یکاد یعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلاّ بالاحتیاط، والمفروض عدم وجوبه شرعاً، أو عدم جوازه عقلاً، ولا أقرب من العمل علی وفق الظن.

اخبارهما به وجدانا، وهذا بناءً علی کون اعتبار الطریق علما فظاهر، وأما بناءً علی کون الاعتبار بمعنی جعل المنجزیة والمعذریة له فإن الشارع جعل للخبر القائم به المنجزیة والمعذریة بالإضافة إلی المخبر به المفروض کونه أمرا اعتقادیا، وإنما یفترق القول باعتبار العلم عن القول بجعل المنجزیة والمعذریة فیما إذا کان المخبر به من الاُمور التکوینیة والتاریخیة وأحوال القرون الماضیة، فإنه لو اعتبر الظن وقلنا بأن اعتباره بمعنی عدّه علما جاز الإخبار بوقوعها علی طبق الخبر لأنّ جواز الإخبار بالشیء منوط بالعلم به، والمفروض أن الشارع اعتبر الظنّ القائم علما به بخلاف ما إذا قیل بأن اعتباره بمعنی جعل المنجزیة والمعذریة، فإنه لابد من أن یکون المؤدّی الحکم الشرعیّ أو الموضوع له.

أقول: العمدة فی اعتبار الخبر السیرة العقلائیة الجاریة من المتشرعة أیضا فی الاُمور الدینیة ولم یحرز سیرتهم علی الاعتقاد بمؤدّی الظن ولو کان ذلک الظن القائم معتبرا بالإضافة إلی الأحکام الفرعیة، وعلیه فالاعتقاد التفصیلی بما قام به الظن الخاص جوازه فضلاً عن وجوبه محل تأمل بل وجواز الإخبار به کجواز الإخبار بالتکوینیات والقرون أو الاُمم الماضیة ما لم یحصل الاطمینان بذلک أیضا محل تأمل، لما ذکرنا من ان دلیل اعتبار الظن الخاص هی السیرة العقلائیة ولم یثبت عمومها بالإضافة إلی الاُمور

ص :221

وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم فی الاعتقادیات لترتیب الأعمال الجوانحیة علی الظن فیها، مع إمکان ترتیبها علی ما هو الواقع فیها، فلا یتحمل إلاّ لما هو الواقع، ولا ینقاد إلاّ له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العملیات، فإنه لا محیص عن العمل بالظن فیها مع مقدمات الانسداد.

نعم، یجب تحصیل العلم فی بعض الاعتقادات لو أمکن من باب وجوب المعرفة لنفسها[1].

الاعتقادیة ونحوها ما لم یکن فی البین اطمینان ولو بکثرة الأخبار وتعددها.

[1] هذا هو القسم الثانی من الاعتقادیات الواجب علی کل مکلف تحصیل العلم بها، وهذا الوجوب نفسی ولیس کوجوب تحصیل العلم بالأحکام الشرعیة والعبادات والمعاملات من کون العلم فیها طریقا إلی إحراز التکالیف وامتثالها والإتیان بالمعاملة الصحیحة لیرتب علیها آثارها.

وبتعبیر آخر معرفة هذه الاُمور من الاعتقادیات دخیل فی کون الشخص مسلما کمعرفة اللّه سبحانه وتوحیده والنبوة الخاصة والمعاد الجسمانی أو فی کونه مؤمنا کالعلم بعدله سبحانه والإمامة، ویقع الکلام فی هذا القسم فی جهات.

الاُولی: هل یمکن فیه للجاهل القاصر بأنْ لا یتمکن من معرفة هذه الاُمور أو بعضها بعد الفراغ من عدم قیام الظن مقام العلم بمعنی أن الظن بهذه الاُمور لا یقوم مقام العلم؛ لما تقدم من أنّ الظن ولو کان من الظنون الخاصة لا یقوم مقام العلم المأخوذ علی نحو الوصفیة، والمفروض أن الواجب علی المکلف تحصیل العلم والمعرفة والیقین بهذه الاُمور، والظن باعتباره علم فی جهة الطریقیة لا فی الموضوعیة.

الثانیة: أن الجاهل القاصر علی تقدیر إمکان تحققه محکوم بالکفر وعدم الإیمان أم لا حتی مع الظن بها.

ص :222

.··· . ··· .

والثالثة: هل یعاقب الجاهل القاصر کالمقصر أو أن عقابه علی ما لا یقدر علی تحصیل العلم به خلاف العدل.

أما الجهة الاُولی: فلا یبعد دعوی أن الجاهل القاصر بالاضافة إلی العلم بوجود الصانع وتوحیده لا یوجد إلاّ نادرا، فإن التأمل فی تحقق الشیء فضلاً عن الموجودات الأرضیة والسماویة والتأمل فی النظام الموجود فیها یوصل الإنسان إلی الیقین بأن هذه الموجودات والنظام الموجود فیها لابد من أنْ ینتهی إلی الواجب بالذات الذی هو فی ذاته قادر وعالم، والآیات من الکتاب المجید المرشدة للإنسان إلی النظر والتأمل فی خلق السماوات والارض هدایة له فی هذه الجهة، وأما الجهل قصورا بالإضافة إلی النبوة الخاصة والمعاد الجسمانی والإمامة فلا ینبغی التأمل فی تحققه کما هو الحال فی أکثر من عاش فی بلاد الکفر وبلغ حدا فقد قوته وضعفت إدراکاته ولم یکن ملتفتا وسامعا إلی من یخبر بالإسلام ومعتقداته.

أما الجهة الثانیة: فلا ینبغی التأمل أیضا فی أنه یترتب علی القاصر جمیع الأحکام المترتبة علی الکفر وینتفی عنه جمیع ما یترتب علی الإسلام والمسلم من الأحکام؛ لأنّ القصور واالاستضعاف لا یمنع عن إنطباق عنوان الکفر علی القاصر، ولا یوجب انطباق المسلم علیه، وإنما یفترق القصور عن التقصیر بالإضافة إلی الجهة الثالثة، فإن القاصر وإنْ لا ینال لما هو جزاء الإیمان والإطاعة من درجات النعیم والجنة إلاّ أنه لا یستحق عقابا ما لم یتحقق فی ذلک العالم ما یوجب استحقاقه العقاب، فإن العقاب بلا بیان قبیح ینافی العدل إذا لم یکن معاندا للحق بل کان منقادا له علی الإجمال، وما فی کلام الماتن قدس سره فی بحث الطلب والإرادة من أن استحقاق العقاب من لوازم البعد المترتب علی الکفر والعصیان الناشئین من خبث الباطن

ص :223

کمعرفة الواجب تعالی وصفاته أداءً لشکر بعض نعمائه، ومعرفة أنبیائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وکذا معرفة الإمام علیه السلام علی وجه صحیح، فالعقل یستقل بوجوب معرفة النبی ووصیه لذلک، ولإحتمال الضرر فی ترکه، ولا یجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر، إلاّ ما وجب شرعاً معرفته، کمعرفة الإمام علیه السلام علی وجه آخر غیر صحیح، أو أمر آخر مما دل الشرع علی وجوب معرفته، وما لا دلالة علی وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل کان أصالة البراءة عن وجوب معرفته محکمة[1].

وسوء السریرة قد تقدم ما فیه فلا نعید.

[1] ذکر قدس سره أن وجوب تحصیل العلم فی بعض الاعتقادیات مع إمکانه عقلی بوجوب نفسی کمعرفة اللّه سبحانه وصفاته فإن وجوب معرفته سبحانه بصفاته من باب شکر المنعم، وکذا معرفة أنبیائه فإنهم وسائط نعمه وآلائه وکذا معرفة الإمام علیه السلام فإن الإمام علیه السلام أیضا واسطة نعمه سبحانه فیجب معرفة النبی صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام لذلک، ولاحتمال الضرر فی ترک تحصیل العلم والمعرفة ولا یجب معرفة غیر ذلک عقلاً بل وجوب تحصیل العلم به شرعی علی تقدیر قیام الدلیل علیه کوجوب معرفة الإمام علیه السلام علی الوجه الآخر غیر الصحیح بناءً علی أن الدلیل علی وجوب مثل ما ورد: «من مات ولم یعرف امام زمانه مات میتة الجاهلیة»(1) وما ورد من بناء الإسلام علی خمس التی خامسها وأعظمها الولایة(2).

أقول: ویعدّ من القسم الثانی المعاد الجسمانی حیث إن مقتضی الآیات وجوب الإیمان والتصدیق به تفصیلاً کما فی سائر الاعتقادیات، یکون الاعتقاد مع حصول

ص :224


1- 1) وسائل الشیعة 16:246، الباب 33 من أبواب الأمر والنهی، الحدیث 23.
2- 2) الکافی 2:22، باب دعائم الاسلام. دار التعارف.

ولا دلالة لمثل قوله تعالی «وما خلقت الجن والإنس» الآیة، ولا لقوله صلی الله علیه و آله : (وما أعلم شیئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) ولا لما دل علی وجوب التفقه وطلب العلم من الآیات والروایات علی وجوب معرفته بالعموم، ضرورة أن المراد من (لیعبدون) هو خصوص عبادة اللّه ومعرفته، والنبوی إنما هو بصدد بیان فضیلة الصلوات لا بیان حکم المعرفة، فلا إطلاق فیه أصلاً، ومثل آیة النفر، إنما هو

العلم بها تفصیلیاً، ولا یخفی أنّ شأن العقل هو الإدراک لا الإیجاب والبعث الاعتباری والوجوب حتی فی معرفة اللّه ومعرفة النبی صلی الله علیه و آله والإمام شرعی، غایة الأمر إیصال هذا الوجوب الشرعی یکون بطریق العقل فقط، کما فی وجوب معرفة اللّه والنبی صلی الله علیه و آله أو بطریق شرعی أیضا کما فی معرفة الإمام علیه السلام حیث إنّه مع احتمال العقل الضرر فی ترک المعرفة إیصال للوجوب إلی العباد ودفع الضرر المحتمل کما ذکرنا أمر فطری کالضرر المقطوع ولا مجری لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، حیث إنّ حکم العقل أی احتماله الضرر فی الترک فی نفسه بیان لذلک الوجوب، ولا یقاس بما إذا إحتمل وجوب فعل بعد الفحص وعدم الظفر بالبیان له بل یقاس المقام بما قبل الفحص بحیث یکون عالما بذلک الوجوب بعده کما لا یخفی، وقد ذکرنا إمکان تحصیل العلم والمعرفة بوجوده سبحانه وتوحیده وقدرته وأنه عالم بالذات بالنظر فی خلق السماوات والأرض وإختلاف اللیل والنهار والتفکر فی النظام الموجود فی الکون علی ما أشارت إلیه الآیات، ولحکم العقل القطعی بأن الشیء الحادث إذا وجد لا یمکن أنْ یوجد بلا سبب وفاعل، ولذا یکون الجاهل بمعرفة اللّه سبحانه مقصرا لا قاصرا إلاّ نادرا بخلاف النبوة الخاصة والإمامة والمعاد الجسمانی، بل العدل أیضا فإنه قد یوجد القاصر بالإضافة إلیها علی ما مرّ.

وعلی الجملة ما یجب المعرفة فیها والیقین بها لا یقوم الظن مقام العلم، فإن

ص :225

بصدد بیان الطریق المتوسل به إلی التفقه الواجب، لا بیان ما یجب فقهه ومعرفته، کما لا یخفی، وکذا ما دل علی وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث علی طلبه، لا بصدد بیان ما یجب العلم به.

ثم إنه لا یجوز الإکتفاء بالظن فیما یجب معرفته عقلاً أو شرعاً، حیث إنه لیس بمعرفة قطعاً، فلا بد من تحصیل العلم لو أمکن، ومع العجز عنه کان معذوراً إن کان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلّة الإستعداد، کما هو المشاهد فی کثیر من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا کان عن تقصیر فی الإجتهاد، ولو لأجل حب طریقة الآباء والأجداد واتباع سیرة السلف، فإنه کالجبلّی للخلف، وقلما عنه

الظن لا یکون یقینا واعتقادا تفصیلیا بالإضافة، ولذا لا یجری فی الاعتقادیات جواز التقلید، نعم إذا کان أقوال أهل المعرفة والبصیرة فی مثل هذه الاُمور موجبا لیقین العامّی بهذه الاُمور بحیث جزم أنهم لم یذکروها بمجرد حب طریقة الآباء والأجداد واتباع سیرة السلف والغرور بها یکون علمه ومعرفته بهذا النحو کافیا فی المعرفة الواجبة، ودعوی أنه لا یوجد فی الاعتقادیات الواجبة معرفتها وتحصیل العلم والیقین بها قاصر، بل غیر الواصل إلی معرفتها مقصر لا محالة لقوله سبحانه: «والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا»(1) لا یمکن المساعدة علیه، فإن القاصر من لا یجد وسائل المجاهدة ولو لضعف قوی إدراکه بعد غفلته عن مثل هذه الاُمور رأسا، ثم إنه إذا أحرز فی أمر اعتقادی أنه لا یکفی فیه مجرد الاعتقاد الإجمالی بل یجب تحصیل العلم والیقین به فهو، وإلاّ فمقتضی الأصل کالشک فی وجوب سائر الاُمور عدم وجوب تحصیل العلم والمعرفة به، وما عن الشیخ قدس سره من الحکم بوجوب تحصیل المعرفة به أخذا بالأمر بالتفقه فی الدین المستفاد من آیة النفر وإطلاق المعرفة فی المروی عن النبی صلی الله علیه و آله وما أعلم شیئاً بعد

ص :226


1- 1) سورة العنکبوت: الآیة 69.

تخلف.

والمراد من المجاهدة فی قوله تعالی (والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا) هو المجاهدة مع النفس، بتخلیتها عن الرذائل وتحلیتها بالفضائل، وهی التی کانت أکبر من الجهاد، لا النظر والإجتهاد، وإلاّ لادّی إلی الهدایة، مع أنه یؤدی إلی الجهالة والضلالة، إلاّ إذا کانت هناک منه __ تعالی __ عنایة، فإنه غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه علیه هو الحق، لا بصدد الحق، فیکون مقصراً مع اجتهاده، ومؤاخذاً إذا أخطأ علی قطعه واعتقاده.

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصیل الظن مع الیأس عن تحصیل العلم، فیما یجب تحصیله عقلاً لو أمکن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إلیه من أن الأمور الإعتقادیة مع عدم القطع بها أمکن الإعتقاد بما هو واقعها والإنقیاد لها، فلا إلجاء فیها أصلاً إلی التنزل إلی الظن فیما انسد فیه باب العلم، بخلاف الفروع العملیة، کما لا یخفی.

المعرفة أفضل من الصلوات الخمس(1)، وما ورد فی طلب العلم من الآیات والروایات وقوله سبحانه: «وما خلقت الجن والإنس إلاّ لیعبدون»(2) لا یمکن المساعدة علیه، فإن آیة النفر فی بیان وجوب التفقه فی الدین کفایةً، لا فی بیان ما یجب علی الناس عینا، وآیة السؤال ما دلّ علی وجوب طلب العلم، وعدم کون الجهل عذرا فی ترک المعرفة الواجبة وسائر التکالیف الشرعیة، والمراد من «یعبدون» معرفة اللّه وعبادته والنبوی فی مقام بیان فضیلة الصلوات لا فی مقام بیان المعرفة الواجبة، وما فی کلام الماتن من أن آیة النفر کأخبار وجوب طلب العلم فی بیان طریقة التوسّل إلی التفقه

ص :227


1- 1) التهذیب 2:236.
2- 2) سورة الذاریات: الآیة 56.

وکذلک لا دلالة من النقل علی وجوبه، فیما یجب معرفته مع الإمکان شرعاً، بل الأدلة الدالة علی النهی عن اتباع الظن، دلیل علی عدم جوازه أیضاً.

وقد انقدح من مطاوی ما ذکرنا، أن القاصر یکون فی الإعتقادیات للغفلة، أو عدم الإستعداد للإجتهاد فیها، لعدم وضوح الأمر فیها بمثابة لا یکون الجهل بها إلاّ عن تقصیر، کما لا یخفی، فیکون معذوراً عقلاً.

ولا یصغی إلی ما ربما قیل: بعدم وجود القاصر فیها، لکنه إنما یکون معذوراً غیر معاقب علی عدم معرفة الحق، إذا لم یکن یعانده، بل کان ینقاد له علی إجماله لو احتمله.

الواجب لا فی بیان ما یجب فقهه ومعرفته لا یمکن المساعدة علیه، فإن آیة النفر فی بیان وجوب التفقه فی الدین بنحو الواجب الکفائی، والکلام فی بیان ما یجب تحصیل العلم به عینا وأخبار وجوب الطلب ناظرة إلی عدم کون الجهل عذرا للمکلف فی موارد التکالیف لا بیان موارد التکلیف کما لا یخفی، وقد ظهر مما ذکرنا أن الجاهل القاصر فی الاعتقادیات یوجد ویکون معذورا غیر معاقب ولکن عدم العقاب ما لم یکن معاندا، بل کان له اعتقاد وتسلیم قلبی علی ما هو الحق وإلاّ فیؤخذ بعناده مع جهله بالواقع، وحقیقة الحال کما ظهر أنه إذا حصل ببیان النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام بواقع أمر یجب الاعتقاد التفصیلی به، وإلاّ یکون تکذیبا أو تشکیکا فی نبوة النبی أو إمامة الإمام ووجوب الاعتقاد التفصیلی لا یکون فی هذا القسم من الاُصول الإعتقادیة بحیث یجب تحصیل العلم والمعرفة به، بل وجوب الإعتقاد کذلک متفرع علی حصول العلم والیقین به من جهة بیان النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام فما یصنعه بعض من لا خبرة له من إدراج مثل هذه الاُمور فی الاُصول الاعتقادیة التی لا یحکم علی الجاهل بها بالإسلام أو أنه من أهل الإیمان ناشئ عن عدم التفرقة بین

ص :228

هذا بعض الکلام مما یناسب المقام، وأما بیان حکم الجاهل من حیث الکفر والإسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.

الثانی: الظن الذی لم یقم علی حجیته دلیل هل یجبر به ضعف السند أو الدلالة بحیث صار حجة ما لولاه لما کان بحجة] 1] أو یوهن به ما لولاه علی خلافه لکان حجة، أو یرجح به أحد المتعارضین بحیث لولاه علی وفقه لما کان ترجیح لأحدهما أو کان للآخر منهما أم لا؟

ومجمل القول فی ذلک: إن العبرة فی حصول الجبران أو الرجحان بموافقته، هو الدخول بذلک تحت دلیل الحجیة، أو المرجحیة الراجعة إلی دلیل الحجیة، کما أن العبرة فی الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دلیل الحجیة، فلا یبعد

الاُصول الاعتقادیة وما یکون التکذیب أو التشکیک فیه ملازما لتکذیب النبوة أو الإمامة أو التشکیک فیهما.

[1] الکلام فی الأمر الثانی فی جهتین.

الاُولی: کون الظن الذی لم یتم علی اعتباره دلیل هل یجبر ضعف الروایة سندا بحیث تصیر حجة بموافقة هذا الظن أو یجبر به ضعف دلالتها، فقد تقدم الکلام فی هذه الجهة فی البحث فی الشهرة الفتوائیة وکذا فی کونها علی خلاف الروایة المعتبرة، لولا خلافها موهنة لها بحیث سقطت عن الاعتبار فراجع.

والجهة الثانیة: هی أنّ الظن الذی لم یقم دلیل علی اعتباره فی نفسه هل یکون مرجحا لأحد المتعارضین بحیث تکون موافقته موجبة لتعین حجیته وسقوط الآخر عن الاعتبار فیما کان الأصل لولا موافقته سقوط کلیهما عن الاعتبار بناءً علی ما هو الصحیح من کون السقوط هو الأصل فی المتعارضین، أو لعدم الترجیح لأحدهما أو لا یکون هذا الظن موجبا للترجیح فی المتعارضین أصلاً، ولکن لا یخفی أن الترجیح

ص :229

جبر ضعف السند فی الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه، ودخوله بذلک تحت ما دل علی حجیة ما یوثق به، فراجع أدلة اعتبارها.

وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لإختصاص دلیل الحجیة بحجیة الظهور فی تعیین المراد، والظن من أمارة خارجیة به لا یوجب ظهور اللفظ فیه کما هو ظاهر، إلاّ فیما أوجب القطع ولو إجمالاً باحتفافه بما کان موجباً لظهوره فیه لولا عروض انتفائه، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وکذا عدم وهن دلالته مع ظهوره، إلاّ فیما کشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل فی سنده، أو وجود قرینة مانعة عن انعقاد ظهوره فیما فیه ظاهر لولا تلک القرینة، لعدم اختصاص دلیل اعتبار خبر الثقة ولا دلیل اعتبار الظهور بما إذا لم یکن ظن بعدم صدوره، أو ظن بعدم إرادة ظهوره.

وأما الترجیح بالظن، فهو فرع دلیل علی الترجیح به، بعد سقوط الأمارتین بالتعارض من البین، وعدم حجیة واحد منهما بخصوصه وعنوانه، وإن بقی أحدهما بلا عنوان علی حجیته، ولم یقم دلیل بالخصوص علی الترجیح به.

وإن ادعی شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه __ استفادته من الاخبار الدالة علی الترجیح بالمرجحات الخاصة، علی ما فی تفصیله فی التعادل والترجیح.

یجری فی الخبرین المتعارضین فقط، وکما أن اعتبار الظن یحتاج إلی الدلیل علیه کذلک کونه مرجحا، وقد ذکرنا فی بحث تعارض الخبرین أن الترجیح فی المتعارضین بالشهرة الروائیة فی أحدهما أو کون أحدهما موافقا للکتاب أو مخالفا للعامة، وأما غیر ذلک فلا دلیل علی الترجیح به، ومقتضی الأصل فی المتعارضین سقوطهما عن الاعتبار، ثم إنه یظهر من الماتن أن الظن غیر معتبر لعدم قیام الدلیل علی اعتباره یکون جابرا لضعف السند إذا کان مفیدا للظن بالصدور أو المضمون

ص :230

ومقدمات الإنسداد فی الأحکام إنما توجب حجیة الظن بالحکم أو بالحجة، لا الترجیح به ما لم یوجب ظن بأحدهما، ومقدماته فی خصوص الترجیح لو جرت إنما توجب حجیة الظن فی تعیین المرجح، لا أنه مرجح إلاّ إذا ظن أنه __ أیضاً __ مرجح، فتأمل جیداً، هذا فیما لم یقم علی المنع عن العمل به بخصوصه دلیل.

وأما ما قام الدلیل علی المنع عنه کذلک کالقیاس، فلا یکاد یکون به جبر أو وهن أو ترجیح، فیما لا یکون لغیره أیضاً، وکذا فیما یکون به أحدهما، لوضوح أن الظن القیاسی إذا کان علی خلاف ما لولاه لکان حجة __ بعد المنع عنه __ لا یوجب خروجه عن تحت دلیل حجیته، وإذا کان علی وفق ما لولاه لما کان حجة لا یوجب دخوله تحت دلیل الحجیة، وهکذا لا یوجب ترجیح أحد المتعارضین، وذلک لدلالة دلیل المنع علی إلغائه الشارع رأساً، وعدم جواز استعماله فی الشرعیات قطعاً، ودخله فی واحد منها نحو استعمال له فیها، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

ولا یکون جابرا لضعف دلالته، فإن موافقة الظن لا یوجب الظهور فی الروایة ما ولکنْ یوجب الوثوق بصدورها، أو کون مضمونها حکما واقعیا، ثم ذکر أن مخالفة الظن الذی لم یقم علی اعتباره دلیل مع الخبر المعتبر فی نفسه لا یسقطه عن الاعتبار؛ لأنّ اعتبار خبر الثقة غیر مقید بصورة عدم الظن بعدم صدوره أو بعدم الظن بعدم إرادة ظهوره.

وفیه أنه لو کان المراد بالظن فی صورة الانجبار هو الوثوق یکون المراد فی الموهن أیضا الوثوق، والوثوق الشخصی فی نفسه معتبر ولا یکون للتفرقة وجه.

ص :231

ص :232

المقصد السابع: (فی الاُصول العملیّة)

اشارة

ص :233

ص :234

المقصد السابع:

فی الاُصول العملیّة[1]

وهی التی ینتهی إلیها المجتهد بعد الفحص والیأس عن الظفر بدلیل، مما دل علیه حکم العقل أو عموم النقل، والمهم منها أربعة، فإن مثل قاعدة الطهارة فیما اشتبه طهارته بالشبهة الحکمیة، وإن کان مما ینتهی إلیها فیما لا حجة علی طهارته ولا علی نجاسته، إلاّ أن البحث عنها لیس بمهم، حیث إنها ثابتة بلا کلام، من دون حاجة إلی نقض وإبرام، بخلاف الأربعة، وهی: البراءة والاحتیاط، والتخییر

[1] لا یخفی أن مفاد الاُصول العملیة وهی القواعد التی یؤخذ بها فی الوقائع بعد الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل فیها علی الأحکام الواقعیة ربما یکون من الحکم الشرعی، ویسمی بالأصل العملی الشرعی، واُخری یکون ما یسمی بحکم العقل أو الأصل العملی العقلی، فإن الأصل العقلی قد لا یجتمع مع الأصل الشرعی کقاعدة الاشتغال فی أطراف العلم الإجمالی مع عدم کون الحالة السابقة فی أطرافه تکلیفاً، وقد یجتمع معه کما إذا کانت الحالة السابقة فیها تکلیفاً أو موضوعاً للتکلیف، وکالبراءة العقلیة فی الشبهات البدویة بعد الفحص، فإنها تجتمع مع البراءة العقلیة من قاعدة قبح العقاب بلا بیان، سواء اُرید من البیان العلم بالتکلیف الواقعی حقیقة إجمالاً أو تفصیلاً أو کان العلم به إعتباریاً، أو کان المراد من البیان المصحّح للمؤاخذة علی مخالفة التکلیف الواقعی، فإنه مع عدم المصحّح کذلک یقبح العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی سواء حکم الشارع بالرفع والإباحة الظاهریة أم لا.

ثم إنَّ الاُصول العملیة منحصرة علی الأربعة: أصالة البراءة والاستصحاب والاحتیاط وأصالة التخییر، وانحصار موارد هذه الاُصول الأربعة أی أقسام الشک

ص :235

والإستصحاب: فإنها محل الخلاف بین الأصحاب، ویحتاج تنقیح مجاریها وتوضیح ما هو حکم العقل أو مقتضی عموم النقل فیها إلی مزید بحث وبیان ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جریانها فی کل الأبواب، واختصاص تلک القاعدة ببعضها، فافهم.

لا یتجاوز الأربعة، کما هو الحال فی تقسیم کلّ شیء إلی النفی والإثبات. فلا یمکن أنْ یوجد قسم خامس للشک، فإن الشک فی واقعة فی حکم تکلیفی أو وضعی ملازم للتکلیف، إما أنْ تلاحظ فیه الحالة السابقة أم لا، فالأول مورد الاستصحاب ومع عدم ملاحظتها إما أنْ یکون فیها علم إجمالی بالتکلیف أو بالوضع الملازم له أم لا، فالثانی مورد البراءة، وإذا کان فی البین علم إجمالی إن أمکن الاحتیاط فهو مورد قاعدة الاشتغال وإلاّ فمورده أصالة التخییر، وإنحصار الاُصول فی أقسام الشکوک علی الأربعة إستغراقی حیث یمکن للشارع أنْ یعتبر قاعدة اُخری غیرها فی بعض الوقایع من موارد الاُصول، بأنْ یحکم فی دوران الأمر بین وجوب فعل وحرمته فی غیر العبادة الأخذ باحتمال الحرمة، بل یمکن الالتزام بوقوع مثل ذلک کما فی قاعدة الطهارة الجاریة فی الشبهات الحکمیة، حیث لا فرق فی مفاد الأصل والحکم الظاهری بین ما یکون من قبیل الحکم التکلیفی أو الوضعی.

فی قاعدة الطهارة وعدم کون البحث فیها من المسائل الاُصولیة

ومن هنا وقع البحث فی وجه حذف قاعدة الطهارة فی الشبهات الحکمیة من المباحث الاُصولیة مع انطباق ما ذکروا فی وجه کون الاُصول العملیة من المباحث الاُصولیة فیشمل قاعدة الطهارة أیضا، فإنها مما ینتهی إلیها أمر الفقیه بعد الفحص وعدم الظفر بالدلیل علی النجاسة، واعتذر الماتن من ذلک بوجهین.

الأول: أنّ قاعدة الطهارة لم یُختلف فی اعتبارها بخلاف سائر الاُصول العملیة،

ص :236

.··· . ··· .

فإن ثبوت بعضها وتعیین مجاریها وتوضیح مفادها محل الکلام علی ما یأتی.

الثانی: أن قاعدة الطهارة تختص بموارد الشک فی باب من أبواب الفقه وعدم اختصاصها بالاُصول الأربعة، فإنها تجری علی کل أبوابه، ولا یخفی عدم تمامیة الوجه الثانی فإن استطراد المسألة الاُصولیة فی جمیع أبواب الفقه غیر لازم.

وقد حکی عن بعضٍ الاعتذار بوجه ثالث: وهو أن الطهارة والنجاسة الواقعیتین لیستا من قبیل الحکم الشرعی، بل هما أمران واقعیان کشف عنهما الشارع فی مواردهما، لعدم اطلاع الناس علیهما فی جمیع تلک الموارد، فیکون مورد الشک فی کون الشیء طاهرا أو نجسا من قبیل الشبهة الموضوعیة، فأصالة الطهارة الجاریة فیها من قبیل الاُصول العملیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة.

وفیه إن اُرید أن للطهارة أو النجاسة منشأً واقعیاً فهذا صحیح فی الجملة، فإن الشارع لا یجعل النجاسة لشیء عبثا وبلا ملاک، ولکن هذا یجری فی سائر الأحکام الوضعیة والأحکام التکلیفیة، وإن اُرید أنهما بنفسهما أمران واقعیان لا یحصلان بالاعتبار فهذا خلاف ظاهر الخطابات، بل خلاف صراحة بعضها مثل ما ورد فی الصحیح: «کان بنو إسرائیل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاریض، وقد وسّع اللّه علیکم بأوسع ما بین السماء والأرض وجعل لکم الماء طهورا»(1)، فإن صریحه اعتبار طهارة موضع إصابة البول بغسله بالماء لهذه الاُمة وإذا کانت طهارته بالغسل بالاعتبار فلا محالة تکون نجاسته أیضا بالاعتبار، حیث لم تکن ترتفع بالغسل بالماء من بنی إسرائیل، واعتبرها منتهیة بالغسل بالماء لهذه الاُمة.

ص :237


1- 1) وسائل الشیعة 1:133، الباب الأول من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4.

.··· . ··· .

وکذا اعتبر غسالة الإستنجاء طاهرة ولم یعتبر غسالة غیره من مزیلة العین طاهرة فلا یمکن أنْ یکون بینهما فارق تکوینی، وأمّا ما ذکرنا من کونهما أمرین تکوینیّین خلاف ظاهر الخطابات، فلأن ظاهرها صدورها عن الشارع بما هو شارع لا بما هو عالم بالاُمور الخفیة ومخبر بها، وقد یقال کونهما أمرین واقعیّین لا یدخل الشک فیهما فی الشبهة الموضوعیة، وأنْ لا یکون الشک فیهما من الشبهة الحکمیة، فإن الشبهة الحکمیة ما یکون الشک فیها ناشئا من فقد خطاب الشارع أو إجماله أو تعارضه، وإذا شک فی نجاسة شیء کنجاسة العصیر بعد غلیانه، یکون منشأ الشک فقد النص أو إجماله أو تعارضه، بخلاف الشبهة الموضوعیة فإن الشک فیها ینشأ من أمر لا یرتبط بفقد خطاب الشرع أو إجماله أو تعارضه. ولکن هذا أیضا لا یمکن المساعدة علیها، فإن منشأ الشک فی الشبهة الحکمیة هو فقد خطاب الشارع أو إجماله أو تعارضه، یعنی خطاب الشارع بما هو شارع لا بما هو عالم بحقیقة الأمر الواقعی، والشک فی نجاسة العصیر بعد غلیانه بناءً علی کون النجاسة أمرا تکوینیاً ینشأ من فقد خطاب الشارع بما هو مخبر صادق مطلع علی الاُمور الخفیة نظیر الشک فی بعض ما وقع فی أول الخلقة أو ما یقع فی آخر الدنیا، ولا یرتبط ذلک بالشبهة الحکمیة التی یکون الشک فیها فی مجعول الشارع ثبوتاً ناشئا مما ذکر.

ثم إن الفرق بین الاُصول العملیة وبعض القواعد الفقهیة التی لا یتمکن العامی من تطبیقها علی صغریاتها کقاعدة ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده، وقاعدة وجوب الوفاء بالشروط والنذور ونحوها غیر خفی، فإنهما وإنْ کانتا تشترکان مع الاُصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة فی تمکن المجتهد خاصة من التطبیق علی الموارد والصغریات والعامی عاجز عن ذلک، أما فی الاُصول العملیة فظاهر،

ص :238

.··· . ··· .

فإنها معتبرة عند عدم الظفر بالدلیل علی الحکم أو التکلیف الواقعی، وفی تلک القواعد لتقیّد الموضوع فیها بقید لا یتیسر إلاّ للفقیه إحرازه، ولکن التطبیق فی القواعد الفقهیة لبیان الحکم الواقعی فی مورد التطبیق بحسب المستفاد من الأدلة الاجتهادیة، وفی الاُصول العملیة لبیان الوظیفة عند عدم إستفادة الحکم الواقعی بحسب تلک الأدلة، ولذا تخرج القواعد الفقهیة عما ذکر فی تعریف علم الاُصول (أو القواعد التی ینتهی إلیها) أمر الفقیه بعد الیأس من الدلیل علی الحکم الواقعی.

أصالة التخییر أصل عملی مستقل أو أنها داخلة فی أصالة البراءة

وینبغی التعرض فی المقام لکون أصالة التخییر التی عدّوها من الاُصول العملیة أصل عملی مستقل فی مقابل الإستصحاب وقاعدة الإشتغال وأصالة البراءة، أو أنها ترجع إلی أصالة البراءة الجاریة فی ناحیة کل من إحتمالی الوجوب والحرمة.

وقد ذکر الشیخ العراقی قدس سره ما حاصله أنّه مع الشک فی الحکم بالشبهة الحکمیة وعدم لحاظ الحالة السابقة فیها إن لم یکن فی البین بیان فالمرجع أصالة البراءة، سواء أمکن فیها الاحتیاط کدوران الأمر فی حکم الفعل بین الحرمة والإباحة، أو لم یمکن الاحتیاط کدوران حکمه بین الحرمة والوجوب والإباحة، وإنْ کان فی البین بیان بالإضافة إلی التکلیف وأمکن الاحتیاط فیه فالمرجع قاعدة الإشتغال، وإنْ لم یمکن الاحتیاط فیه أصلاً فالمرجع أصالة التخییر، ولا یتوهم أن أصالة التخییر معناها أصالة البراءة، وأن العلم الإجمالی بحرمة الفعل أو وجوبه لعدم کونه منجزا کالعدم، فتدخل الواقعة فیما لم یتم فیها البیان، فإن هذا فاسد، والوجه فی فساده أن عدم البیان فی الواقعة ناشیء عن عدم منجزیة العلم الناشیء عن ترخیص العقل، حیث إن

ص :239

.··· . ··· .

مع تمکن المکلف علی کل من الفعل والترک یکون حکمه بالتنجز بإختیار الفعل بلا مرجح، فیکون ترخیصه فی کل من الفعل والترک مخرجا للعلم الإجمالی عن المنجزیة بأنْ یکون حکمه بالترخیص مانعا عن تأثیر العلم الإجمالی، فعدم البیان الناشیء عن ترخیص العقل الموجب لعدم منجزیة العلم الإجمالی لا یرتبط بأصالة البراءة، فإن أصالة البراءة هی الترخیص الناشئ من عدم البیان لا الترخیص الموجب لعدم البیان.

أقول: لو قال قدس سره بأنه فی موارد دوران الأمر بین المحذورین لا قصور فی ناحیة البیان، وإنما القصور فی ناحیة المکلف حیث لا یتمکن من الجمع بین الفعل والترک وإختیار أحدهما قهری، وإلاّ فلا فرق بین هذا العلم الإجمالی والعلم الإجمالی المنجّز فی جهة البیان، وأصالة البراءة عقلاً هو حکمه بقبح العقاب بلا بیان، لا حکمه بقبح العقاب لعدم تمکن المکلف من إحراز الامتثال، کان ذلک أقرب إلی الفهم واحتمال التصدیق، ولکن لا یخفی أن الترخیص فی الفعل أو الترک خارج من شأن العقل، وإنما یحکم العقل بقبح الفعل لإدراکه المفسدة فیه، ومعنی قبحه أنه یری استحقاق فاعله الذم أو لنهی الشارع عن ارتکابه، والقبح فی الأول فعلی یکشف عن نهی الشارع عنه، وفی الثانی فاعلی، وإذا لم یکن العلم الإجمالی بحیث یمکن موافقته القطعیة ومخالفته القطعیة فلا یکون التکلیف الواقعی واصلاً بحیث یتحقق الفرض الذی لاحظه المولی عند جعله، فإن التکلیف وإنْ لا یمکن تقییده بغیر صورة هذا العلم علی ما تقدم من عدم إمکان أخذ العلم بالتکلیف فی موضوع ذلک التکلیف ویکون له إطلاق ذاتی لا محالة، إلاّ أن الغرض من جعله إمکان کونه داعیاً إلی العمل فعلاً أو ترکا عند وصوله، والعلم الإجمالی بحرمة فعل أو وجوبه لا یکون

ص :240

فصل

لو شک فی وجوب شیء أو حرمته ولم تنهض علیه حجّة، جاز شرعاً وعقلاً ترک الأول وفعل الثانی[1].

من هذا الوصول، والعقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی یکون من العقاب بلا بیان، ولا یقاس ذلک بموارد عدم القدرة علی متعلق التکلیف، فإن التکلیف معه قبیح، وحکمه بقبح خطاب العاجز وتکلیفه أجنبیّ عن قبح العقاب بلا بیان، ومع الإغماض عن ذلک فدوران أمر الفعل بین الوجوب والحرمة لا یمنع من الرجوع إلی أدلّة البراءة الشرعیة فی ناحیة احتمال کل من الوجوب والحرمة؛ لأنّ عدم جریان الاُصول النافیة فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف للزوم الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل بین الأطراف، وهذه المنافاة لا تحصل مع دوران الأمر بین المحذورین لعدم الوصول فی التکلیف الواقعی بحیث یدخل الفرض فی الفرض الملحوظ عند جعل التکلیف.

أصالة البراءة

اشارة

[1] إذا علم عدم حرمة فعل ودار أمره بین کونه واجبا أو مباحا بالمعنی الأعم، أو علم عدم وجوبه ودار أمره بین کونه حراما أو مباحا أو احتمل حرمة الأول ووجوب الثانی أیضا، بأنْ دار أمره بین کونه واجبا أو حراما أو مباحاً، فالأقسام الثلاثة کلها مجری أصالة البراءة عقلاً ونقلاً من غیر فرق بین أنْ یکون منشأ الشک فقد النص أو إجماله أو تعارضه، فیما إذا کان المتعارضان من غیر الأخبار، وأما إذا کانا خبرین فلا مورد لأصالة البراءة إذا کان لأحد الخبرین ترجیح، أی یکون فیه مزیة اعتبرها الشارع بجعل الخبر المشتمل لها حجّة، فإنّه مع الدلیل علی الحکم الواقعی لا تصل

ص :241

.··· . ··· .

النوبة إلی الأصل العملی، بل مع عدم المزیة لأحدهما أیضا لم یکن مجال لأصالة البراءة إذا قیل بالتخییر بین الخبرین المتعارضین لإمکان الوصول إلی الحجة المعتبرة وإحراز الواقع باختیار المکلف أحد الخبرین، وما فی کلام الماتن قدس سره لمکان وجود الحجة المعتبرة وهو أحد الخبرین لا یساعد علی إرادة ما ذکرنا، فإن شیئا من الخبرین المتعارضین لا یکون حجة فی مدلوله المطابقی قبل الأخذ، بل فی مدلوله الالتزامی أیضا علی ما یأتی بیانه فی بحث التعادل والتراجیح.

ثم إنه قد ذکر الشیخ العراقی وبعض الأعلام أن مورد الخلاف بین المجتهدین هو أن الشبهات الحکمیة التحریمیة أو حتی الوجوبیة أیضا سواء کانت الشبهة ناشئة من فقد الخطاب للحکم الواقعیّ أم من إجماله أو تعارضه من صغریات قاعدة قبح العقاب بلا بیان أم من صغریات قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بعد اتفاق الفریقین علی کلا الکبریین، ولا شبهة أیضا أنه لو جرت فی مورد قاعدة قبح العقاب بلا بیان لکانت واردة علی قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، حیث لا یبقی مع جریانها فیه احتمال الضرر.

وبتعبیر آخر کل من الکبریین لا یثبت موضوعها فی مورد کما هو شأن کل ما یکون بمفاد القضیة الحقیقیة، وإذا أحرز فی مورد عدم البیان فیه للتکلیف الواقعی وترتب علیه الحکم بقبح العقاب ینتفی الموضوع فی کبری قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل.

وعلی الجملة یدعی الأخباری أن العلم الإجمالی بالتکالیف فی الوقائع یوجب احتمال العقاب فی ارتکاب الواقعة المشتبهة بالشبهة الحکمیة، فعلی المجتهد بیان انحلال هذا العلم الإجمالی أو إثبات أن الواقعة المشتبهة بعد الفحص

ص :242

.··· . ··· .

عن مدرک التکلیف فیها وإحراز عدم ثبوته فیها تجعل تلک الواقعة خارجة عن أطراف العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی الوقایع.

وأیضا علی المجتهد بیان أنه لم یرد من الشارع الإیجاب المولوی الطریقی بالاحتیاط فی المشتبهات بالشبهة الحکمیة ولا یحسب تمسک المجتهد للبراءة فی الشبهات التحریمیة وغیرها بکبری قاعدة قبح العقاب بلا بیان، أو بالخطابات من الآیة والروایات التی بمضمون القاعدة استدلالاً علی موضع النزاع والخلاف من الطرفین، کما أن استدلال الطرف الآخر للإحتیاط فی الشبهات بکبری قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل وما هو بمفادها من الأخبار لا یکون استدلالاً علی محط البحث من الطرفین.

وقد ظهر أنه لا مجال للاستدلال علی البراءة فی الشبهات الحکمیة بالأدلة الأربعة، وجعل حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان دلیلاً عقلیاً لها إذ الأخباری لا ینکره، وإنما ینکر صغراه، بل یتعین علی القائل بالبراءة فیها إثبات الصغری بنفی تنجیز العلم الإجمالی بإثبات انحلاله أو خروج الواقعة بعد الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل علی التکلیف فیها عن أطرافه، وقیل إثبات هذا الانحلال لا یفیدالتشبث بالخطابات الشرعیة الدالة علی الترخیص فی الشبهات، فإن هذه الخطابات لا تفید فی الانحلال، ولذا لا یمکن الأخذ بها فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف فی الشبهات الموضوعیة، وإنما یصح التمسک بها لنفی الإیجاب الشرعی المولوی الطریقی فی الشبهة البدویة الذی یدعیه الأخباری استظهارا من بعض الخطابات، کالأخبار الدالة علی التوقف فی الشبهات والأخذ بالاحتیاط فیها.

کما ظهر أنه لا یمکن أیضا الاستدلال علی البراءة بالإجماع، ووجه الظهور احتمال اتکالهم فی حکمهم بالبراءة فیها علی انحلال العلم الإجمالی المزبور وبعد

ص :243

وکان مأموناً من عقوبة مخالفته، کان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله، واحتماله الکراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فیما لم یثبت بینهما ترجیح، بناءً علی التوقف فی مسألة تعارض النصین فیما لم یکن ترجیح فی البین.

إنحلاله تکون الشبهة من صغریات قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

أقول: إذا فرضنا انحلال العلم الإجمالی بالتکالیف، أو خروج الواقعة التی فحص المجتهد عن الدلیل فیها علی التکلیف الواقعی فلم یظفر به عن أطراف العلم الإجمالی فلا یکفی ذلک فی جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان فیها حتی مع فرض عدم ثبوت الاحتیاط الشرعی بالأخبار التی تمسک بها الأخباریون، بل لابد من إثبات أن احتمال التکلیف الواقعی بنفسه بعد الفحص عن الدلیل علیه وعدم الظفر به لا یدخل فی البیان، ووصول التکلیف مع عدم ثبوت الاحتیاط الشرعی فی تلک الواقعة لتکون صغری لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وبتعبیر آخر البیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا یعم هذا الاحتمال مع عدم ثبوت الاحتیاط الشرعی.

والحاصل یقع الکلام فی جهتین.

الاُولی: ثبوت البراءة العقلیة فی الشبهات الحکمیة التحریمیة والوجوبیة ولو فی الجملة فی مقابل الأخباری الذی ینکر ثبوتها مطلقاً أو فی الشبهات التحریمیة.

والثانیة: فی أن البراءة الشرعیة أوسع من البراءة العقلیة بأنْ تجری البراءة الشرعیة فی موارد لا مجری فیها للبراءة العقلیة، وما فی عبارة الماتن من أنه: «لو شک فی وجوب شیء أو حرمته ولم تنهض علیه حجة جاز شرعاً وعقلاً ترک الأول وفعل الثانی»، مقتضاه أن احتمال التکلیف بعد الفحص عن الدلیل علیه وعدم الظفر به لا یکون بنفسه منجزا، ویستدل علی ذلک بالأدلة الأربعة.

ص :244

وأما بناءً علی التخییر __ کما هو المشهور __ فلا مجال لأصالة البراءة وغیرها، لمکان وجود الحجة المعتبرة، وهو أحد النصین فیها، کما لا یخفی، وقد استدلّ علی ذلک بالأدلة الأربعة:

أما الکتاب: فبآیات أظهرها قوله تعالی: «وما کنا معذبین حتی نبعث رسولاً»[1].

[1] قد ذکر الماتن قدس سره أنه یستدل علی البراءة فی المشتبهات بالشبهة الحکمیة البدویة بآیات أظهرها بحسب مقام الاستدلال قوله تعالی: «وما کنا معذبین حتی نبعث رسولاً»(1) حیث قال الشیخ قدس سره : إن الآیة إخبار بعدم وقوع العذاب فی الاُمم السابقة قبل وصول التکلیف، وبیان التکالیف علیهم ببعث الرسل، وبما أن الأخباری القائل بالتوقف ووجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة یلتزم بالملازمة بین عدم وقوع العذاب وعدم استحقاقه، فیکون المستفاد من الآیة عدم استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف قبل بیانه ووصوله إلی العباد، وأورد علیه الماتن بوجهین.

الأول: أنّه علی فرض تسلیم الأخباری بالملازمة بین عدم فعلیة العقاب وعدم استحقاقه یکون الإستدلال علی البراءة جدلیا یقصد به إسکات الخصم ولا یثبت به جواز الارتکاب، الثانی: أن الأخباری لا یلتزم بالملازمة لیکون الإخبار بعدم وقوع العذاب کاشفاً عنده عن عدم إستحقاقه، کیف فإنّ الشبهات عنده لا تزید علی المحرمات والواجبات، والأخباری لا ینکر عفوه سبحانه وعدم مؤاخذة العبد بالعذاب علی ارتکابه الحرام أو ترک الواجب فعدم الوقوع فیهما لا یقتضی نفی الاستحقاق فکیف بالمشتبهات.

وأورد الشیخ قدس سره علی الاستدلال علی البراءة بالآیة بوجه آخر، وهو أنَّ الإخبار

ص :245


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 15.

.··· . ··· .

عن الاُمم السابقة بعدم استحقاقهم العذاب الدنیوی قبل البیان لا یلازم عدم الاستحقاق بالإضافة إلی العقاب الاُخروی الذی هو مورد الکلام فی المقام.

واُجیب عن هذا الإیراد بأن العذاب الدنیوی أخف وأهون بالإضافة إلی العقاب الاُخروی، وإذا لم یکن العبد مستحقا لعذاب دنیوی مع عدم بیان التکلیف وإیصاله إلیه فلا یستحق العذاب الاُخروی بالأولویة، وقال: الوجه فی دلالة الآیة علی نفی الاستحقاق بأن التعبیر بجملة ما کان وما کنا وأمثالهما یدلّ بمقتضی الفهم العرفی علی أن الفعل لا یلیق بالمخبر ولا یناسب صدوره عنه، ویظهر ذلک باستقراء موارد استعمالاتها کقوله سبحانه: «ما کان اللّه لیضل قوما بعد إذ هداهم»(1) و«ما کان اللّه لیذر المؤمنین»(2) و«وما کان اللّه لیعذبهم وأنت فیهم»(3) و«ما کنت متخذ المضلین عضداً»(4) إلی غیر ذلک، فالفعل الماضی فی مثل هذه الموارد منسلخ عن الزمان، فالمراد أن التعذیب قبل البیان لا یلیق باللّه سبحانه ولا یناسب حکمته وعدله، فلا یبقی فرق فی عدم الإستحقاق بین العذاب الدنیوی والاُخروی حیث إنه لا موجب لعدم لیاقة الفعل للّه سبحانه مع عدم وصول التکلیف إلی العباد إلاّ کون العقاب بلا مصحح.

أقول: عدم مناسبة الفعل للفاعل فی بعض موارد استعمال الجملة مستفاد من قرینة خارجیة وإلاّ فمعناها عدم وقوع الفعل فلاحظ موارد استعمالاتها، نظیر قوله

ص :246


1- 1) سورة التوبة: الآیة 115.
2- 2) سورة آل عمران: الآیة 179.
3- 3) سورة الأنفال: الآیة 33.
4- 4) سورة الکهف: الآیة 51.

.··· . ··· .

سبحانه: «وما کان اللّه لیعذبهم وأنت فیهم»(1) وعدم وقوع الفعل أی العذاب الدنیوی بل الاُخروی یمکن أنْ یکون للعفو نظیر العفو عن الصغائر إذا اجتنب الشخص عن الکبائر، ولا یلازم نفی الاستحقاق، ویمکن أنْ یکون عدم العذاب قبل بعث الرسل حتی بالإضافة إلی الأفعال التی قبحها عقلی مع کون العذاب الدنیوی أهون من جهة إعطاء الفرصة لعلّهم یرتدعون عند مجیء الرسول وتأکید النهی عنها من قبله، وهذا لا یلازم نفی الاستحقاق، وقد استدلّ الأخباریون بالآیة علی نفی الملازمة بین حکم العقل والشرع بدعواهم عموم الآیة حتی بالإضافة إلی المستقلات العقلیة، واُورد علی استدلالهم بأن الآیة تدلّ علی عدم الوقوع لا علی نفی الاستحقاق، فیمکن أنْ یکون عدم تعذیبهم حتی بالإضافة إلی تلک المستقلات العقلیة للرأفة وإعطاء الفرصة فی الارتداع إلی مجیء النبی من اللّه عزوجل، والمدّعی فی المستقلاّت العقلیة ثبوت استحقاق العقاب، ولذا ذکر المحقق القمی قدس سره أنه من جمع بین الاستدلال بالآیة علی البراءة فی الشبهات وبین الردّ علی الأخباری فی استدلاله علی نفی الملازمة بین حکم العقل والشرع، فقد جمع بین المتناقضین، حیث إن مقتضی الردّ علیهم عدم دلالة الآیة علی نفی الاستحقاق، والاستدلال بها علی البراءة مقتضاه دلالتها علی نفی الاستحقاق، واستظهر الشیخ قدس سره من استدلال الأخباری بالآیة علی نفی الملازمة أنهم یلتزمون بین نفی وقوع العذاب ونفی الاستحقاق به، واستدل بها علی البراءة علی مسلکهم فی الشبهات التحریمیة، بدعوی أن بعث الرسول کنایة عن وصول التکلیف حیث یکون فی الغالب وصوله

ص :247


1- 1) سورة الأنفال: الآیة 33.

.··· . ··· .

إلی العباد بابلاغ النبی، فمفاد الآیة أن اللّه سبحانه لم یکن یعذّب قوماً قبل وصول التکلیف إلیهم، وإذا لم یکن فی البین استحقاق العقاب کما یعترف به الأخباری تکون النتیجة عدم استحقاق العقاب علی مخالفة تکلیف لم یصل إلی العبد، وهذا مفاد أصالة البراءة فی الشبهة البدویة التحریمیة والوجوبیة بعد الفحص وعدم الظفر بالدلیل علیه.

ولکن لا یخفی أن ظاهر الآیة أنه ما لم یکن إبلاغ الرسل لم یکن عذاب، ولا یعم وصول التکلیف من طریق العقل، فالصحیح فی الرد علی الأخباری أن نفی الوقوع لا یدلّ علی عدم الاستحقاق.

والمتحصل أنه إذا لم یکن للآیة دلالة علی نفی الاستحقاق کما ذکرنا فلا یصح الاستدلال بها علی البراءة فی الشبهات، وعلی تقدیر الإغماض عن ذلک فلا یکون مفادها بحیث تنفی وجوب التوقف والاحتیاط فی الشبهات، مستظهراً ذلک من الأخبار الواردة فی الوقوف عند الشبهة والاحتیاط إذا احتمل وجوب الفعل.

ومما ذکر یظهر الحال فی الاستدلال علی البراءة بقوله سبحان: «لا یکلف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها»(1) بناءً علی أن المراد من الصلة الإعلام والبیان، فیکون مدلولها أن اللّه لا یکلف نفساً بتکلیف إلاّ تکلیفا بیّنه وأعلمهُ ولو بقرینة ما ورد فی تفسیر الآیة حیث أجاب الإمام علیه السلام عن کون الناس مکلفین بالمعرفة، قال: لا، علی اللّه البیان: «لا یکلّف اللّه نفسا إلاّ وسعها»، و«لا یکلف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها»(2)، ووجه الظهور أن

ص :248


1- 1) سورة الطلاق: الآیة 7.
2- 2) الکافی 1:163، الحدیث 5.

.··· . ··· .

غایة مدلولها هو أن التکلیف الذی لا یتمکن العباد من معرفته، فهذا التکلیف مرفوع عنهم، وأما التکالیف التی بیّنت للناس واختفی بعضها عن بعض الناس بممانعة بعض الظالمین عن وصولها إلی العباد، مع وصول الأمر إلیهم بالاحتیاط فی موارد احتمالها کما یدعی الاخباری فلیس فی الآیة دلالة علی عدم أخذ العباد بها.

وناقش المحقق النائینی أولاً: بأن الآیة لا دلالة لها حتی علی ما تقدم، فإن المحتملات من الموصول وصلته، ثلاثة، الأول: أنْ یکون المراد بالموصول التکلیف ومن الإیتاء الوصول والإعلام، والثانی: أنْ یکون المراد من الموصول المال ومن الإیتاء الملک یعنی لا یکلف اللّه نفسا بمال إلاّ بعد ملکه، والثالث: أنْ یکون المراد مطلق الشیء ومن الإیتاء الإقدار علیه، یعنی لا یکلف اللّه الناس إلاّ بشیء مقدور لهم، والمعنی الثانی یدخل فی الثالث لا الأول، وذلک فإن تعلّق الفعل أی لا یکلّف اللّه بالموصول بمعنی التکلیف، تعلّق الفعل بالمفعول المطلق لا المفعول به؛ لأنّ التکلیف لا یتعلق بالتکلیف، وتعلّقه بالمال والشیء من تعلّق الفعل بالمفعول المطلق ولا جامع بین التعلقین، کما أن المراد من الإیتاء علی الأول بمعنی الإعلام وعلی الثانی والثالث بمعنی الإقدار ولاجامع بین الإعلام والإقدار، ولولم تکن الآیة بالمعنی الثانی والثالث بقرینة ما قبلها فلا أقلّ من عدم ظهورها فی المعنی الأول، ولا دلالة فی استشهاد الإمام علیه السلام فی الروایة بالآیة علی کون المراد من الصلة الإعلام والمراد من الموصول التکلیف، وذلک فإن المراد من المعرفة فی السؤال فی الروایة المعرفة التفصیلیة بصفات الباری وأحوال الحشر والنشر إلی غیر ذلک مما لا یتمکن العباد من معرفته التفصیلیة إلاّ بعد بیانها للعباد کعدم تمکنهم من الصلاة والحج قبل بیان الشارع اجزاءهما وشرائطهما، وبما أن اللّه سبحانه لا یجعل التکلیف بما

ص :249

.··· . ··· .

لا یطاق ولا یکلّف اللّه نفسا إلاّ بما أقدرها علیه یکون التکلیف بالاعتقاد التفصیلی بعد المعرفة التفصیلیة المتوقفة علی بیان الشارع، والقرینة علی کون المراد من المعرفة المعرفة التفصیلیة أنه لو توقف التکلیف بالمعرفة الإجمالیة علی بیان اللّه سبحانه لم تحصل الداعویة لذلک التکلیف أصلاً.

ثم ذکر قدس سره أنه یمکن أنْ یقال إن المراد بالموصول أعم من التکلیف وموضوعه ومتعلّقه، والمراد من الإیتاء معناه العام أی الإعطاء، فإعطاء التکلیف من اللّه للعباد عبارة عن إیصال بیانه إلیهم، وإعطاء المال لهم إیصاله إلیهم بأنْ یکونوا مالکین وإعطاء الفعل بصیرورتهم قادرین علیه، وما قیل فی الفرق بین المفعول المطلق والمفعول به من أنه یکون لذات المفعول به نحو وجود وتحقق قبل ورود الفعل علیه، ویکون الفعل موجبا لتحقق وصف له کما فی قولک: اضرب زیدا، وعلی هذا الفرق یبتنی إشکال الزمخشری فی قوله سبحانه: «خلق اللّه السموات» من عدم امکان کون السماوات مفعولاً به؛ لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق علیها، وعلیه لا یمکن جعل الموصول المراد به المفعول به عاما بالإضافة إلی التکلیف، حیث إن قول القائل کلف تکلیفا أو لا یکلف تکلیفا من المفعول المطلق، یمکن الجواب عنه، بأن المفعول المطلق النوعی أو العددی یمکن جعله مفعولاً به إذا اُرید منه معناه الاسم المصدری، وذکر فی آخر کلامه: ولکن مفاد الآیة مع ما ذکر لا یرتبط بالبراءة؛ لأنّ الکلام فی البراءة ما إذا شک فی تکلیف فعلی بیّنه الشارع ووصل إلی بعض ولم یصل إلینا.

أقول: المتمسک بالآیة للبراءة لم یدّع أن مفادها عدم جعل اللّه سبحانه تکلیفا لم یصل بیانه إلی العباد، فإن کون هذا القسم من التکلیف والحکم مما سکت اللّه عن جعله ولا یحتاج إلی الاستدلال بالآیة ولا یرتبط بالبراءة، فإن الغرض من جعل

ص :250

وفیه: إن نفی التعذیب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله کان منّة منه تعالی علی عباده، مع استحقاقهم لذلک، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بین الإستحقاق والفعلیة، لما صح الإستدلال بها إلاّ جدلاً، مع وضوح منعه، ضرورة أن ما شک فی وجوبه أو حرمته لیس عنده بأعظم مما علم بحکمه، ولیس حال الوعید بالعذاب فیه إلاّ کالوعید به فیه، فافهم.

الحکم والتکلیف کونه داعیا للعباد إلی العمل بعد وصوله إلیهم، وکذا لم تکن دعواه أن مفادها التکلیف غیر الواصل إلی شخص لم یجعل فی حقه، بل جعل فی حق من وصل إلیه خاصة؛ لأنّ هذا الاختصاص فی الجعل أمر غیر معقول، حیث إن لازمه أخذ العلم وبیان التکلیف فی موضوع ذلک التکلیف، ومع ذلک لا یرتبط بالبراءة، بل المتمسک بها للبراءة یدعی أن المراد من نفی التکلیف السؤال عن العمل به والمؤاخذة علی مخالفته والمؤاخذة والسؤال عن العمل یکون فی حقّ من وصل إلیه ذلک التکلیف، وفی هذا المفاد تکون «ما» الموصولة مفعولاً به «وآتاها» بمعنی أعلمها أو معنی یدخل فیه الإعلام والإبلاغ، والجواب عن هذا الاستدلال یتعین فی أمرین، الأول: أن ظاهر «آتاها» بمعنی أقدرها لا أعلمها وهذا المعنی لا یدخل فیه الإعلام، والثانی: أن عدم السؤال عن تکلیف وعدم المؤاخذة علی مخالفته مع عدم إعلامه وبیانه تأکید للبراءة العقلیة المعبّر عنها بقبح العقاب بلا بیان، وقد تقدم أنها لا تفید فی مقابل دعوی الأخباری وصول البیان بأمر الشارع بالتوقف فی الشبهات عن الإرتکاب والأمر بالاحتیاط فیها.

ومما ذکر یظهر أن الآیة أظهر فی الدلالة علی البراءة العقلیة من آیة «ما کنّا معذبین»فإن الأخبار بعدم المؤاخذة تعم کل مکلف بخلاف الآیة السابقة فإنها کانت بالإضافة إلی العذاب الدنیوی فی الاُمم السابقة.

ص :251

وأما السنة: فبروایات منها: حدیث الرفع حیث عدّ «ما لا یعلمون» من التسعة المرفوعة[1] فیه.

[1] من الأخبار التی یتمسک بها علی البراءة فی الشبهات الحکمیة ما ورد فی حدیث الرفع المروی فی الخصال بسند لا بأس به من قوله صلی الله علیه و آله رفع عن اُمتی تسعة، إلی أن قال: وما لا یعلمون(1).

وقد أورد الشیخ قدس سره علی الاستدلال به بما حاصله، أن المراد من الموصول فی فقرة «ما لا یعلمون» بقرینة أخواتها الفعل، والفعل فی کل من الشبهة الحکمیة والموضوعیة وإن کان مجهولاً، إلاّ أن نسبة عدم العلم إلیه فی الشبهة الحکمیة باعتبار حکمه لا باعتبار نفسه بخلاف الشبهة الموضوعیة، فإن الجهل فیها فی نفس الفعل بأن لا یعلم مثلاً أن شرب هذا، شرب الخمر أو الخل، وحیث إن ظاهر الحدیث کما هو فی کل وصف أنه بلحاظ نفس الموصوف لا متعلّقه یکون الجهل فی «ما لا یعلمون» بلحاظ نفس الفعل والحکم فی الشبهات الحکمیة وإنْ یکن بنفسه مما لا یعلم، إلاّ أن إرادته مع الفعل یستلزم استعمال الموصول فی المعنیین.

والحاصل أن الأمر یدور بین أنْ یکون المراد من الموصول الفعل أو الحکم، وبما أن السیاق قرینة علی إرادة الفعل ینحصر مدلول الحدیث علی البراءة فی الشبهة الموضوعیة.

أقول: لیس ببالی أن هذا الإشکال مذکور فی کلام الشیخ ولا یخفی ما فیه، فإن (ما) الموصولة لم تستعمل فی فقرات الحدیث إلاّ فی معنیً واحد وتختلف بعد تقییدها، حیث إنها بعد ذکر الصلة لا تنطبق إلاّ علی الأفعال کما فی «ما اضطروا إلیه

ص :252


1- 1) الخصال: 417 _ باب التسعة، الحدیث 9.

.··· . ··· .

وما استکرهوا علیه»، وتنطبق علی الفعل والموضوع والحکم کما فی «ما لا یعلمون»، وانطباق المعنی علی الفعل والحکم لیس من استعمال اللفظ فی معنیین ولا مورد لدعوی استعمال الموصول فی معنی الفعل بقرینة سائر فقرات الحدیث، وظاهر الماتن أنه طبق «ما لا یعلمون» علی التکلیف المجهول فی الشبهات بلا فرق بین الحکم الجزئی المجهول کما فی الشبهات الموضوعیة أو الحکم الکلی کما فی الشبهات الحکمیة.

نعم قد یقال: إن إسناد الرفع إلی «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه والخطأ» إسناد مجازی؛ لأنّ الفعل الاضطراری أو الإکراهی أو الخطأ وغیره واقع خارجاً فلابدّ من أنْ یکون المراد رفع الأثر والحکم والمؤاخذة، ومقتضی وحدة السیاق أنْ یکون المرفوع أیضا فی «ما لا یعلمون» بنحو الإسناد المجازی هو أثر الفعل والمؤاخذة علیه، فیختص مدلولها بالشبهة الموضوعیة، فإن استحقاق العقوبة یترتب علی ارتکاب الفعل ولا یکون من المترتب علی نفس التکلیف والإلزام.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإن رفع ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه والخطأ وغیرها لیس رفعاً تکوینیاً بل المراد رفعها فی مقام التشریع، والرفع فی مقام التشریع عبارة عن جعل الحکم والتکلیف مضیقاً بحیث لا یثبت الحکم المجعول والتکلیف ما یصدر عنه الإکراه والاضطرار، فالفعل المضطر إلیه أو المستکره علیه أو الصادر عن الخطأ لا یکون متعلقاً للحرمة، وهکذا، وحیث إن الرفع الواقعی فی مقام التشریع بالإضافة إلی «ما لا یعلمون» غیر ممکن فی الشبهات الحکمیة وغیر واقع فی الشبهات الموضوعیة، یکون الرفع الحقیقی بالإضافة إلی «ما لا یعلمون» رفعا ظاهریاً، والرفع الظاهری عبارة إما عن عدم فعلیة التکلیف الواقعی کما هو مسلک

ص :253

.··· . ··· .

الماتن ومن تبعه، وإما عبارة عن الترخیص الظاهری فی الارتکاب فی الشبهات التحریمیة والترک فی الشبهات الوجوبیة بناءً علی ما تقدم من عدم المنافاة بین الحکم الظاهری الطریقی الترخیصی مع التکلیف الواقعی فی فرض عدم وصوله، فالرفع الظاهری فی «ما لا یعلمون» حقیقی، والقرینة علی عدم إرادة النفی الحقیقی الواقعی فی الشبهات الحکمیة هو أن الحکم الواقعی والتکلیف الواقعی لا یمکن أن یتقید بصورة العلم، کما أن الأخبار الواردة فی وجوب تعلم الأحکام قرینة خارجیة علی عموم الأحکام الواقعیة والمجعولة فی الشریعة وثبوتها حتی فی فرض الجهل بها، وکذا فی الأمر بالاحتیاط والتوقف فی الشبهات الشامل بإطلاقها أو عمومها للشبهات الموضوعیة قرینة علی أن الرفع فی «ما لا یعلمون» حتی فی الشبهات الموضوعیة رفع ظاهری، بل نفس ما ورد فی الشبهة الموضوعیة من الترخیص فی الارتکاب صریحة فی ثبوت الحکم والتکلیف بها واقعاً مع الترخیص الظاهری، نظیر قوله علیه السلام «کل شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتی تعرف الحرام»(1)، و«کل شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر»(2)، فإن فرض العلم بالحرمة أو القذارة ظاهره فرض ثبوتهما مع مصادفة احتمالهما مع قطع النظر عن العلم بهما، أضف إلی ذلک أن الموصول فی «ما لا یعلمون» بلحاظ صلته ینطبق علی الحکم والتکلیف فی الشبهات الموضوعیة والحکمیة، ویکون رفعها بالترخیص فی الارتکاب والترک الملازم لنفی وجوب الاحتیاط، ویترتب علی نفیه انتفاء استحقاق العقاب.

وما یقال من أن الرفع یقابل الوضع ویطلق الوضع فی موارد کون الموضوع ثقیلاً

ص :254


1- 1) وسائل الشیعة 17:87، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث الأول.
2- 2) مستدرک الوسائل 2:538.

.··· . ··· .

وهو الفعل کما تری، فإن الرفع فی مقام یقابل الوضع بمعنی الجعل، وبما أن التکلیف فی جعله ثقل یوجب تحمل المکلف مشقة الفعل أو الاجتناب، یکون المراد من الرفع نفی الجعل إما واقعاً کما فی «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه» أو ظاهرا کما فی «ما لا یعلمون».

وعلی الجملة بما ان الوضع أو الرفع فی الحدیث بلحاظ مقام الجعل والتشریع یکون الوضع بجعل التکلیف والرفع بنفیه کما هو ظاهر، نعم قد یقال: ظاهر الرفع إزالة الشیء بعد وجوده، وهذا ینحصر علی موارد النسخ ولذا یقال: إن المراد من الرفع فی المقام هو الدفع بعدم إیجاب التحفظ والاحتیاط أو بلحاظ مقام الإثبات، حیث یعم الخطاب الأولی لبعض الموارد فی بعض فقرات الحدیث کالاضطرار والإکراه أو بلحاظ أن التسعة ولو فی بعضها کانت موضوعة عن الأمم السابقة.

وعلی الجملة فإسناد الرفع إلی «ما لا یعلمون» لا عنایة فیه کما لا عنایة فی إسناده إلی «ما استکرهوا علیه، وما اضطروا إلیه» بل لو کان المنفی الفعل الاضطراری والإکراهی فی التکوین إدعاءً لا فی مقام التشریع والجعل کما ذکرنا فلا محذور فی کون إسناد شیء إلی أمرین، ویکون إسناده إلی أحدهما حقیقة وإلی الآخر مجازا، کما فی قولک عند سقوط المطر الکثیر الشدید یجری النهر والمیزاب، أو یجری الماء والمیزاب، فإن استعمال اللفظ فی أکثر من معنی غیر إضافة معنیً إلی أمرین، ولا یحتاج فی الثانی إلی کون المستعمل أحول العینین، نعم المراد بالرفع الدفع وعدم الجعل حقیقة.

وقد یقال: باختصاص فقرة «رفع ما لا یعلمون» إلی الشبهات الموضوعیة بتقریب أن الرفع فی الحدیث لم یسند إلی کل واحد واحد من الاُمور التسعة بنسبة مستقلة لیمکن أن یکون الإسناد فی بعضها حقیقیا وفی بعضها بالمجاز، کما فی

ص :255

.··· . ··· .

المثال. بل الرفع اُسند إلی عنوان التسعة بنسبة واحدة، ولا یجوز فیالنسبة الواحدة إلاّ کونها حقیقیا أو مجازیا، وحیث لا یمکن أن یکون الإسناد فی «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه» حقیقیا، وأنه لا بد من تقدیر الأثر والمؤاخذة یکون الأمر فیما لا یعلمون أیضا کذلک، ومعه یختص ما لا یعلمون بالشبهة الموضوعیة؛ لأنّ استحقاق العقاب والمؤاخذة یکون علی الفعل أو الترک لا علی التکلیف، ولکن لا یخفی أن عنوان التسعة انحلالی ومع الانحلال لا یفرق بین ذکر کل واحد من التسعة بنحو الانحلال أو بنحو الاستقلال.

وذکر النائینی قدس سره أنه لا عنایة فی إرادة الدفع من الرفع، فإن الرفع والدفع بمعنی واحد بناءً علی ما هو الصحیح من حاجة الممکن إلی العلة فی البقاء کما فی حاجته إلیها فی الحدوث، وأن علة الحدوث بنفسها لا تکفی فی البقاء، فإنه بناءً علی ذلک یکون الرفع أیضا لمزاحمة المانع لمقتضی الشیء فی الأکوان المتجددة ولا یصح إطلاقه إذا کان انتفاء الشیء بانتفاء مقتضیه کما هو الحال فی إطلاق الدفع أیضا، وبتعبیر آخر لا یطلق الدفع إلاّ إذا کان المانع مزاحما لمقتضی الشیء فی تأثیره والحال فی الرفع أیضا کذلک، نعم لو قیل بعدم حاجة الممکن فی بقائه إلی علة یکون الرفع مغایرا للدفع، ولکن هذا القول غیر صحیح، فإسناد الرفع بمعناه الحقیقی إلی «ما لا یعلمون» بلا عنایة.

وأورد المحقق العراقی قدس سره بأنه لو کان کلمة (رفع) موضوعا لانتفاء الشیء من جهة مانعه أی المانع لمقتضیه یکون الأمر کما ذکره، حیث یکون لفظ الدفع والرفع مترادفین، وأما إذا فرض أنه موضوع لانتفاء الشیء من جهة المانع لمقتضیه مع سبق وجوده فتصحیح صدق الرفع علی الدفع بتدریجیة إفاضة الفیض علی الشیء یکون

ص :256

فالإلزام المجهول مما لا یعلمون، فهو مرفوع فعلاً وإن کان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة علیه قطعاً.

لا یقال: لیست المؤاخذة من الآثار الشرعیة، کی ترتفع بارتفاع التکلیف المجهول ظاهراً، فلا دلالة له علی ارتفاعها.

فإنه یقال: إنها وإن لم تکن بنفسها أثراً شرعیاً، إلاّ أنها مما یترتب علیه بتوسیط ما هو أثره وباقتضائه، من إیجاب الاحتیاط شرعاً، فالدلیل علی رفعه دلیل علی عدم إیجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة علی مخالفته.

من إثبات اللغة بالعرفان.

أقول: المتبادر من الرفع قطع استمرار الشیء ومن الدفع المنع عن الحدوث فلابد من أن یکون فی استعمال الرفع فی مورد الدفع من عنایة، وکأنه قطع الاستمرار، غایة الأمر بناءً علی عدم حاجة الممکن فی بقائه إلی علة یکون قطع استمرار وجود الشیء بإیجاد القالع والمزیل لوجوده، وبناءً علی حاجته إلی العلة فی بقائه _ کما هو الصحیح _ یکون بإیجاد المانع عن المقتضی لوجوده فی الزمان اللاحق، ولکن هذا فی غیر الاعتباریات، فإن ثبوت الأمر الاعتباری بجعله واعتباره سعةً وضیقا، کما أن عدم المنشأ یکون بعدم جعله واعتباره، سواء قیل فی الممکن بحاجته فی بقائه إلی العلة أو قیل باستغنائه عنها، فیکون المراد من رفع الحکم فی الحقیقة بنسخه، والإزالة بمعنی إلغاء الاعتبار، وهذا لا یتحقق فی الأحکام الشرعیة حقیقة والمتصور فی الأحکام الشرعیة عدم جعل الحکم وسیعاً من الأول بالإضافة إلی الزمان الثانی، أو الحالة الطارئة، وهذا بالاضافة إلی الأحکام الشرعیة فی مقام الجعل، وأما بحسب مقام الفعلیة یکون ارتفاع الحکم بارتفاع موضوعه وبقائه ببقاء موضوعه، وعلی کل تقدیر فلابد من لحاظ العنایة فی التسعة المرفوعة الواردة فی

ص :257

لا یقال: لا یکاد یکون إیجابه مستتبعاً لإستحقاقها علی مخالفة التکلیف المجهول، بل علی مخالفة نفسه، کما هو قضیة إیجاب غیره.

فإنه یقال: هذا إذا لم یکن إیجابه طریقیاً، وإلاّ فهو موجب لإستحقاق العقوبة علی المجهول، کما هو الحال فی غیره من الإیجاب والتحریم الطریقیین، ضرورة أنه کما یصح أن یحتج بهما صح أن یحتج به، ویقال لِمَ أقدمت مع إیجابه؟ ویخرج به عن العقاب بلا بیان والمؤاخذة بلا برهان، کما یخرج بهما.

وقد انقدح بذلک، أن رفع التکلیف المجهول کان منّة علی الأمة، حیث کان له تعالی وضعه بما هو قضیته من إیجاب الاحتیاط، فرفعه، فافهم.

ثم لا یخفی عدم الحاجة إلی تقدیر المؤاخذة ولا غیرها من الآثار الشرعیة فی «ما لا یعلمون»[1].

الحدیث حیث إنها لم تکن مجعولة علی الاُمة حتی ترفع، کما هو الحال فی قوله علیه السلام : رفع القلم عن الصبی حتی یحتلم وعن المجنون حتی یفیق(1)، وکأن استعمال الرفع عن الاُمة بلحاظ ثبوتها فی الاُمم السابقة فی الجملة کما أن الرفع عن الصبی بلحاظ ثبوته فی حق البالغین من العاقلین.

مفاد حدیث الرفع فی ما اضطروا إلیه وما إستکرهوا علیه

[1] قد تحصل مما تقدم أن الرفع فی «ما لا یعلمون» یعم الشبهة الموضوعیة والحکمیة، حیث إن الحکم الجزئی فی الأول والکلّی فی الثانی لا یعلم، ویکون رفعه ظاهریاً بمعنی عدم وضعه الظاهری بإیجاب الاحتیاط فی الواقعة بخلاف الرفع فی سائر الفقرات، فإن الرفع فیها واقعی بمعنی عدم جعل التکلیف والوضع بالإضافة

ص :258


1- 1) وسائل الشیعة 1:45، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 11.

.··· . ··· .

إلی «ما اضطروا إلیه، وما استکرهوا علیه»، وهکذا ومن الظاهر أن الاضطرار والإکراه یطرآن علی الفعل أو الترک وإذا کان المکلف مضطرا إلی عمل محرم لولا الاضطرار إلیه أو مکرهاً علیه فترتفع حرمته.

وبتعبیر آخر فی الموارد التی یکون الفعل متعلق التکلیف لولا الاضطرار والإکراه لا یکون مع طریانهما متعلقا له، وکذا الحال فیما إذا کان الفعل موضوعا لحکم یکون فی ثبوته له ثقل فلا یترتب ذلک الحکم علی ارتکابه إذا کان ارتکابه للاضطرار أو الإکراه سواء کان ذلک الفعل فعلاً خارجیا کشرب الخمر الموضوع لجریان الحدّ والکفارة الموضوع لوجوبهما الإفطار، أو کان فعلاً اعتباریا کإکراهه علی بیع داره أو طلاق زوجته، نعم حیث کان الرفع للامتنان فلا یشمل مثل بیع داره للاضطرار إلی ثمنها.

هذا کله بالإضافة إلی الفعل المتعلق به التکلیف أو الفعل الموضوع لحکم تکلیفی أو وضعی فإن تعلق الإکراه أو الاضطرار بهما ظاهر، وأما إذا اُکره علی ترک فعل تعلق التکلیف بإیجاده أو کان ترکه موضوعا لحکم آخر ففی شمول «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه» إشکال، کما إذا اُکره المکلف علی ترک صلاته فی وقتها ووجه الإشکال أن ترک الصلاة فی وقتها غیر متعلق للحرمة، لیقال ترتفع الحرمة عنه مع الإکراه علیه، فإن الوجوب تعلق بإیجادها والواقع علیه الإکراه ترکها، نعم لو قیل بأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده فیمکن دعوی أن مقتضی رفع الإکراه ارتفاع الحرمة عن ترکها، ورفع الحرمة عن ترکها یکون برفع الوجوب عن فعلها، ولکن من ینکر النهی عن الترک ویلتزم بأن المرفوع هو الحکم عما طرأ علیه الإکراه والاضطرار یشکل علیه التمسک بالحدیث.

ص :259

.··· . ··· .

بل عن المحقق النائینی قدس سره أن حدیث الرفع لا یعم ما إذا کان ترک فعل موضوعا لتکلیف أو حکم وضعی، کما إذا نذر شرب ماء دجلة فاُکره علی ترکه أو اضطر إلی ترکه أو نسی شربه، فإنه لو لم یکن فی خطاب حنث النذر وترتب الکفارة ظهور فی أنها تترتب علی التعمد والالتفات إلی الحنث، لقلنا بترتب الکفارة علی ترک شربه ولو کان عن إکراه أو اضطرار أو نسیان، وذلک فإن شأن الرفع تنزیل الموجود معدوما لا تنزیل المعدوم منزلة الموجود، فإن تنزیل المعدوم موجودا وضع لا رفع، والمفروض أنه لم یصدر عن المکلف فعل وإذا لم یمکن أن یکون عدم الشرب مرفوعا بجعله کالشرب فلا مجال لدعوی عدم تحقق عنوان الحنث لینتفی وجوب الکفارة، ولکن لا یخفی ما فیه فإن جریان رفع الإکراه والاضطرار فی الموارد التی یکون ترک الفعل موضوعا لحکم تکلیفی أو وضعی مما لا ینبغی التأمل فیه، فإن عنوان الفعل لم یذکر فی الحدیث لیدعی انصرافه إلی الارتکاب، بل المذکور فیه عنوان ما استکرهوا علیه وما اضطروا إلیه ویتعلق کل منهما علی ترک فعل کما یتعلق علی ارتکابه، ومعنی رفع ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه لیس بمعنی تنزیل الفعل منزلة عدمه ونقیضه، بل رفعه فی مقام التشریع عدم جعل الأثر المجعول له لولا الإکراه أو الاضطرار وحنث النذر ومخالفته الموضوع لوجوب الکفارة ینطبق علی ترک المنذور واختیار نقیضه سواء کان المنذور فعلاً أو ترکا، وأما بالإضافة إلی موارد إیجاب الفعل وطریان الاضطرار أو الإکراه علی ترکه فلا ینبغی التأمل أیضا فی جریان رفع ما استکرهوا علیه وما اضطروا إلیه فیه، کما إذا اُکره علی ترک صلاته فی وقتها فإن الرفع والوضع کما یتعلق بمقام التشریع وجعل الحکم کذلک یتعلق بمقام امتثاله حیث إن الامتثال أیضا قابل للرفع والوضع کما فی موارد حکومة لا تعاد

ص :260

.··· . ··· .

وقاعدة الفراغ والشک فی الإتیان بفریضة الوقت قبل خروجه إلی غیر ذلک، وأورد العراقی قدس سره علی ما ذکره النائینی فی عدم شمول مااستکرهوا علیه وما اضطروا إلیه لموارد الاضطرار إلی ترک الواجب أو الإکراه علیه، فإنَّ الرفع تنزیل الموجود معدوما لا تنزیل المعدوم موجودا، فإنه وضع بأنا نفرض أن المکلف قد علم بتعلق نذره بشرب أحد المایعین ولا یدری تعیینه، واُکره أو اضطر إلی ترک شرب أحدهما معینا أو غیر معین، فلابد من التزامه بوجوب الوفاء بالنذر وإحراز موافقته القطعیة بشربهما مع أنه لا یمکن الالتزام إلاّ بالتکلیف التوسطی، أی لزوم الموافقة الاحتمالیة ولیس هذا إلاّ من جهة رفع الإضطرار.

أقول: لا یخفی ما فی الإیراد فإنه لو أغمض عما ذکر والتزم بأن حدیث رفع الاضطرار لا یشمل ترک الواجب لا یجب فی المثال شربهما، فإنه إذا کان الاضطرار إلی ترک شرب المعین وکان النذر متعلقا بشربه یرتفع وجوب شربه بقاعدة نفی الضرر ونفی الحرج الشامل لوجوب الوفاء بالنذر، وإن تعلق الاضطرار بترک شرب أحدهما لا بعینه فأیضا کذلک، فإن الضرر المتوعد به فی الإکراه أو المتوجه إلیه فی صورة الاضطرار مما یجب التحفظ عنه، فالعلم الإجمالی بوجوب شرب أحدهما لا یجب موافقته القطعیة لما ذکر فی محله من کون لزوم الموافقة القطعیة لحکم العقل بتحصیل الأمن من احتمال مخالفة التکلیف الواصل، والعقل لا یحکم بلزوم الموافقة القطعیة الموجبة للمخالفة القطعیة لتکلیف آخر، فیتعین فی الفرض لزوم المخالفة الاحتمالیة.

وعلی الجملة مفاد الحدیث رفع تکلیف یضطر المکلف إلی ترک امتثاله أو یکره علیه، ولکن الحدیث لا یثبت التکلیف بغیر ما یضطر إلیه، حیث إن شأن رفع

ص :261

.··· . ··· .

الاضطرار أو الإکراه الرفع لا إثبات غیره، فإذا اضطر المکلف إلی ترک جزء أو شرط من متعلق التکلیف فی تمام الوقت المضروب شرعا لذلک الواجب یکون رفع الجزء أو الشرط بعدم التکلیف بالفعل المشتمل لذلک الجزء أو المقید بذلک الشرط، ولکن لا یثبت التکلیف بالخالی عنه، وکذا الحال إذا کان الفعل الخاص موضوعا لحکم تکلیفی أو وضعی واضطر المکلف إلی ترک ذلک الفعل الخاص فلا دلالة فی الحدیث علی ترتب ذلک التکلیف أو الوضع علی ترتبهما علی الفعل بلا تلک الخصوصیة کما اعتبر الشارع القضاء من المجتهد نافذا فی حق المترافعین، فلا یدل حدیث رفع الاضطرار علی نفوذه من مطلق العالم وإن لم یکن مجتهدا، وهکذا حیث إن مقتضی حدیث رفع ما اضطروا إلیه أو ما إستکرهوا علیه هو رفع الأثر المترتب علی الفعل لولا الإکراه والاضطرار عند طریانهما، لا إثباته لفعل آخر بل لا یرتفع ذلک الأثر عن ذلک الفعل فی الموارد التی یکون عدم ترتبه علی الفعل عند الاضطرار علی خلاف الامتنان، کبیع المضطر داره لحاجته إلی ثمنها، کما أنه لو قام فی مورد دلیل علی ثبوت التکلیف بالفعل الخالی عن الشرط أو الجزء کما فی الاضطرار إلی ترک بعض ما یعتبر فی الصلاة یؤخذ به، ولیس هذا راجعا إلی استفادته من رفع الاضطرار، کما أنه إذا قام الدلیل علی ترتب الأثر علی الفعل الخالی عن الخصوصیة کترتب النفوذ علی قضاء قاضی التحکیم یؤخذ به.

لا یقال: ما الفرق بین رفع ما اضطروا إلیه وما إستکرهوا علیه وبین رفع ما لا یعلمون، فإنهم ذکروا مع تردد الواجب الارتباطی بین الأقلّ والأکثر تجری البراءة فی ناحیة جزئیة المشکوک أو شرطیته، فیکتفی فی امتثال الواجب بالأقل، مع أن رفع الجزئیة والشرطیة تکون برفع التکلیف النفسی المتعلق بالأکثر ولا علم بتعلقه بالأقل بنحو اللابشرط.

ص :262

.··· . ··· .

فإنه یقال: الرفع فی موارد الاضط راروالإکراه والنسیان أی نسیان الجزء أو الشرط فی جمیع الوقت واقعی ولا یکون فی البین مثبت للتکلیف بالإضافة إلی الباقی فی حدیث الرفع، وهذا بخلاف دوران المأمور به بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، فإن الرفع عند عدم العلم بالإضافة إلی الأکثر رفع ظاهری فیختص الرفع بالإضافة إلی ترک المأمور به من ناحیة ترک الجزء المشکوک أو الشرط المشکوک، فإن ثبوت التکلیف بالإضافة إلی الأقل معلوم فإن الأمر به نفسیا أو ضمنیا معلوم وکذا ترتب العقاب فی ترکه محرز فلا یجری فیه قبح العقاب بلا بیان أو «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون»، بخلاف ترک المشکوک فإن تعلق التکلیف به ولو ضمنیا أو ترتب العقاب فی ترکه غیر محرز، وبتعبیر آخر التکلیف الموجود فی البین قابل للتبعّض فی التنجیز، أضف إلی ذلک أن رفع التکلیف بالأقل ولو بنحو اللابشرط خلاف التوسعة فلا مجری فیه لأصالة البراءة کما هو الحال فی دوران الأمر الواجب بین المطلق والمقید، حیث إنّ تعلق التکلیف بالجامع بین المطلق والمقید محرز وجریان البراءة فی ناحیة تعلق الوجوب بالمطلق ممنوع لکون رفعه الظاهری علی خلاف الامتنان مع فرض العلم بالتکلیف بالجامع بخلاف جریانها فی ناحیة المشروط والمقیّد.

عدم جریان أصالة البراءة عند الشک فی شرطیة شیء للمعاملة أو قیدیته لها

لا یقال: کما أن لحدیث الرفع حکومة _ بفقرة «ما لا یعلمون وما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه»، _ ظاهریة أو واقعیة بالإضافة إلی قیود متعلق التکلیف، فلیکن کذلک بالإضافة إلی القیود المعتبرة فی صحة المعاملات فیرجع فی القید المشکوک اعتباره فی المعاملة إلی أصالة البراءة أو فی ترک القیود المعتبرة للاضطرار أو الإکراه برفع الاضطرار والإکراه.

ص :263

.··· . ··· .

فإنه یقال معنی کون شیء قیدا للمعاملة تعلق الامضاء بأفرادها الواجدة لذلک القید، فالأفراد الخالیة عنه لم یتعلق بها الإمضاء ولیس فی الافراد الخالیة أثر لیقال برفعه یرفع الإکراه والاضطرار.

وبتعبیر آخر: الإمضاء یتعلق بنحو الانحلال بانحلال المعاملة، فما وجد منها واجدا للقید تعلق بها الإمضاء، والأصل عدم تعلق الإمضاء بغیر الواجد فلابد فی إثبات الإمضاء حتی بالإضافة إلی الفاقد من إطلاق أو عموم فی دلیل اعتبار تلک المعاملة أو قیام دلیل خاص علی إمضاء الفاقد أیضا، هذا بالإضافة إلی فقرة ما لا یعلمون، وأما بالإضافة إلی صورة الإکراه أو الاضطرار أو النسیان فلیس فی الفاقد أثر حتی ینفی ذلک الأثر برفع الإکراه أو الاضطرار وثبوت الإمضاء لیس رفعا، بل من إثبات الأثر الذی لایدخل فی مدلول حدیث الرفع، وبالجملة الشرطیة والقیدیة للمعاملة ینتزع من عدم انحلال الإمضاء بالإضافة إلی الأفراد الفاقدة وعدمهما ینتزعان من الانحلال، والأصل العملی مقتضاه عدم الانحلال فی مقام الثبوت حتی بالإضافة إلی فقرة «ما لا یعلمون».

تذییل _ الظاهر اختصاص الرفع فی «ما لا یعلمون» برفع الحکم الإلزامی المحتمل فعلاً أو ترکا، وأما إذا علم بعدم الإلزام ودار أمر الفعل بین الإستحباب وعدمه فلا مجری لحدیث الرفع، حیث لا ثقل فی استحباب الفعل کما لا مجری للبراءة العقلیة، حیث إن عدم العقاب فعلاً أو ترکا معلوم.

وقد یقال: إن عدم جریان مثل حدیث الرفع إنما هو فی احتمال الإستحباب النفسی للفعل، وأما الاستحباب الضمنی کما إذا شک فی أن المستحب هو الأقل أو الأکثر أو المطلق والمشروط فیمکن نفی دخالة المشکوک فی المطلوب بحدیث الرفع حیث لولا الرفع لما أمکن الإتیان بالأقل بداعویة الأمر المتعلق به أو بالأکثر، بل

ص :264

فإنّ ما لا یعلم من التکلیف مطلقاً کان فی الشبهة الحکمیة أو الموضوعیة بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً، وإن کان فی غیره لا بد من تقدیر الآثار أو المجاز فی إسناد الرفع إلیه، فإنه لیس ما اضطروا وما استکرهوا... إلی آخر التسعة بمرفوع حقیقة.

نعم لو کان المراد من الموصول فی (ما لا یعلمون) ما اشتبه حاله ولم یعلم عنوانه، لکان أحد الأمرین مما لا بد منه أیضاً. ثم لا وجه لتقدیر خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر فی غیر واحد غیرها، فلا محیص عن أن یکون المقدر هو الأثر الظاهر فی کل منها، أو تمام آثارها التی تقتضی المنّة رفعها، کما أنّ ما یکون بلحاظه الإسناد إلیها مجازاً، هو هذا، کما لا یخفی.

فالخبر دل علی رفع کل أثر تکلیفی أو وضعی کان فی رفعه منة علی الأمة، کما استشهد الإمام علیه السلام بمثل هذا الخبر فی رفع ما استکره علیه من الطلاق

لابد فی إحراز امتثال الأمر المعلوم من الإتیان بالأکثر حیث إن الأمر لا یدعو إلاّ إلی متعلقه أو فی ضمن دعوته إلی تمام متعلقه، بخلاف ما إذا جرت البراءة عن تعلقه بالأکثر حیث یثبت أن المتعلق فی الظاهر هو الأقل.

لا یقال: تبعّض الوجوب فی التنجز علی تقدیر تعلقه بالأکثر أمر معقول، ولذا أمکن جریان البراءة عن وجوب الجزء الزائد، حیث یثبت بضم المعلوم بالاجمال تنجز الوجوب حتی علی تقدیر تعلقه بالأکثر فی ناحیة الأقل، بخلاف الاستحباب المتعلق بالأقل أو الأکثر فإن استحباب الاحتیاط بالإتیان بالأکثر غیر مرفوع للعلم بحسن الاحتیاط ورجحانه والاکتفاء بالأقل لاحتمال کونه المستحب النفسی لا یحتاج إلی أصالة البراءة، کما أن الإتیان بالأقل بداع الأمر به مهملاً لا یحتاج إلیها وتعلقه به بنحو اللابشرط لا یثبت بالبراءة.

ص :265

والصدقة والعتاق.

ثم لا یذهب علیک أن المرفوع فیما اضطر إلیه وغیره، مما أخذ بعنوانه الثانوی إنما هو الآثار المترتبة علیه بعنوانه الأولی[1].

فإنه یقال: معنی البراءة عن جزئیة المشکوک أو قیدیته، الحکم بتبعض الامتثال علی تقدیر تعلق الأمر بالأکثر بمعنی اکتفاء الشارع بالأقل مادام الجهل ولو علی تقدیر تعلق الأمر ثبوتا بالأکثر.

[1] الظاهر اختصاص الرفع فی فقرة «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه والخطأ والنسیان» بالحکم المترتب علی الفعل لولا الإکراه والاضطرار والخطأ والنسیان، فإن مقتضی الحدیث کون هذه العناوین رافعة سواء کان الحکم الثابت للفعل لولاها من الحکم بالعنوان الأولی أو بالعنوان الثانوی، نعم الأثر الثابت للفعل بنفس هذه العناوین لا یرتفع، فإن هذه العناوین موجبة لثبوته فلا یرتفع بها، نعم هذا فی غیر الحسد والوسوسة فی الخلق والطیرة، فإن المراد من الرفع بالإضافة إلیها عدم جعل تکلیف علی المکلف فیها، وعلی ذلک فلیس فی جعل حکم للفعل بأحد العناوین الرافعة مثل وجوب سجود السهو المترتب علی نسیان السجدة، أو وجوب الکفارة فی القتل خطأ والدیة فیه تخصیص فی الحدیث.

لا یقال: لا مانع عن کون مدلول الحدیث رفع الفعل المکره علیه أو المضطر إلیه ونحوهما فی مقام التشریع، بأن لم یجعل عند الاضطرار إلیه حکم وتکلیف سواء کان الحکم بعنوانه أو بعنوان الاضطرار أو الإکراه علیه، وکذا الحال فی الخطأ والنسیان، وعلی هذا تکون الموارد التی ثبت فیها تکلیف عند الاضطرار إلی فعل أو الإکراه علیه والخطأ والنسیان تخصیصا فی الحدیث.

أقول: الجمع بین اللحاظین لو لم نقل بامتناعه فلا ینبغی التأمل فی أنه خلاف

ص :266

ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوین صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه، فکیف یکون موجباً لرفعه؟

لا یقال کیف؟ وإیجاب الاحتیاط فیما لا یعلم وإیجاب التحفظ فی الخطأ والنسیان، یکون أثراً لهذه العناوین بعینها وباقتضاء نفسها.

فإنه یقال: بل إنما تکون باقتضاء الواقع فی موردها، ضرورة أن الإهتمام به یوجب إیجابهما، لئلاّ یفوت علی المکلف، کما لا یخفی.

ومنها: حدیث الحجب وقد انقدح تقریب الإستدلال به مما ذکرنا فی حدیث الرفع[1].

الظاهر، وذلک فإن الموارد التی یکون الاضطرار أو الإکراه رافعا لما تعلق بالفعل من التکلیف به والحکم علیه لولا الإضطرار أو الإکراه، یلاحظ ذلک التکلیف فی مقام الجعل، ویقید التعلق بالفعل أو الحکم علیه بعدم طرو عنوان الإکراه والاضطرار، حیث إن التکلیف لا یرتفع عن متعلقه أو موضوعه عند طریان عنوان إلاّ بأخذ عدم طریانه علیهما عند الجعل، ومعنی رفعهما بلحاظ الأثر لنفسهما أنه لم یلاحظ فی مقام التشریع حصولهما فی الخارج، بأن یجعل الحکم لحصولهما أو التکلیف بإیجادهما نظیر رفع الحسد والوسوسة والطیرة والجمع بین لحاظ عدم طروهما وعدم لحاظ حصولهما فی مقام التشریع بالإضافة إلی الفعل الواحد غیر ممکن، وعلی تقدیر التنزل والإغماض فلا أقل من أن الجمع یحتاج إلی قرینة، وبما أن الحدیث قد طبق علی نفی الحکم الثابت للفعل بطریان الإکراه علیه، فیعلم کون الرفع المشار إلیه بالإضافة إلی الأحکام والتکالیف الثابتة للأفعال وأنها ترتفع عنها بطریان تلک العناوین فی الموارد التی یکون فی الارتفاع امتنان.

أدلة أصالة البراءة

اشارة

[1] من الأخبار التی استدل بها علی البراءة فی الشبهات الحکمیة ما رواه الکلینی عن

ص :267

.··· . ··· .

أحمد بن محمد بن یحیی، عن أبیه، عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبی الحسن زکریا بن یحیی، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1) ووجه الاستدلال کون التکلیف والإلزام والحکم الوضعی الموضوع لهما محجوبا علمه عن العباد فرع ثبوته واقعا، وحیث إن العلم بحکم لا یمکن أن یکون مأخوذاً فی ثبوت ذلک الحکم فیکون رفعه عند حجب علمه رفعا ظاهریا، بمعنی عدم وجوب الاحتیاط فیه، وأن العباد لا یؤخذون بالمحجوب من التکلیف والحکم، ولا یجری فی الحدیث ما جری فی حدیث الرفع من کون «رفع ما لا یعلمون» ناظراً إلی الشبهات الموضوعیة، فإن الوارد فی الحدیث من الموصول بملاحظة صلته لا یعم الشبهات الموضوعیة.

نعم، قد یناقش فی الاستدلال بها علی البراءة فی الشبهات الحکمیة بأنه ناظر إلی الأحکام التی لم یبیّنها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله للناس وأوکل بیانها إلی وصیَّه الأخیر علیه آلاف التحیة والسلام، وتلک التکالیف والأحکام غیر واردة فی بحث البراءة فی الشبهات الحکمیة، فإن الکلام فیها فی المشتبهات الحکمیة التی بیّنها الشارع وقد خفیت بعضها عنا بفعل الظالمین والطوارئ الخارجیة.

وکون علم تلک التکالیف محجوباً عن العباد غیر مستند إلی اللّه سبحانه، وإنما یصح الإسناد إلیه فی خصوص ما أشرنا إلیه من التکالیف والأحکام وکأن الماتن قدس سره قد سلّم بالإشکال حیث لم یذکر جوابا عن ذلک.

ولکن الصحیح المناقشة غیر صحیحة فإنه کما یصح إسناد الحجب إلی اللّه

ص :268


1- 1) وسائل الشیعة 27:163، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 33.

.··· . ··· .

سبحانه لعدم تعلق مشیئته لوصول الحکم إلی العباد فی القسم المشار إلیه، کذلک الحال فی القسم الثانی أیضا، حیث لو کانت مشیئته بوصولها إلی العباد لأمر الوصی الأخیر سلام اللّه علیه بالظهور وإبلاغها لنا، ولعله لذلک لم یناقش صاحب الوسائل فی دلالته علی البراءة ولکنه خصّها بالشبهات الوجوبیة بدعوی أنه قد ثبت الأمر بالتوقف وترک الاقتحام فی الشبهات التحریمیة بالأخبار الواردة فی تثلیث الاُمور وغیرها، وقال: لو وجب الاحتیاط فی الشبهات الوجوبیة أیضا لزم التکلیف بما لا یطاق، إذ کثیر من الأفعال أمرها دائر بین الوجوب والحرمة، ولذا لا یجب الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة إلاّ إذا علم التکلیف فی خصوص الواقعة إجمالاً کالقصر والتمام والجمعة والظهر وجزاء واحد للصید الواحد أو جزاءین علی شخصین(1).

أقول: لا یخفی ما فی کلامه من التعلیل لعدم جریان البراءة فی الشبهات التحریمیة ووجه رفع الید عن إطلاق الحدیث فیها والأخذ به فی الشبهات الوجوبیة، ویأتی التعرض لذلک فی أدلة القائلین بوجوب الاحتیاط.

وربما یقال: بأن الحدیث کحدیث الرفع یعم الشبهات الموضوعیة أیضا، حیث إن اللّه لو تعلّقت مشیئته بعدم کون علمها محجوبا لأوجد مقدمات العلم بها فمع عدم إیجاد مقدماته یصح إسناد الحجب إلی اللّه سبحانه.

وفیه، أن الحدیث لا تعم الشبهة الموضوعیة فإنه لو تمکن المکلف فیها من العلم بحال الموضوع لا یکون العلم بها محجوبا من قبل اللّه سبحانه، فالحجب مستند فیها إلی نفس المکلف، بل لا یعمّها بعد الفحص وعدم العلم بها أیضا، فإن

ص :269


1- 1) وسائل الشیعة 27:163، ذیل الحدیث 33.

إلاّ أنه ربما یشکل بمنع ظهوره فی وضع ما لا یعلم من التکلیف، بدعوی ظهوره فی خصوص ما تعلقت عنایته تعالی بمنع اطلاع العباد علیه، لعدم أمر رسله بتبلیغه، حیث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إلیه تعالی.

ومنها: قوله علیه السلام کل شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام بعینه[1]. الحدیث،

ظاهر الحدیث أن حجب اللّه علم الشیء هو الموجب لرفعه عنهم، والأمر فی الشبهة الموضوعیة لیس کذلک، فإن الموجب للرفع فیها نفس الحجب لا حجب اللّه سبحانه.

ثم إن الحدیث مروی فی الکافی فی باب حجج اللّه علی خلقه بالسند السابق: «ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1)، والظاهر عدم الفرق فی المفاد حیث إن ظاهر حجب اللّه الشیء عدم إعطاء طریق العلم به لهم، سواء کان ذلک من قبیل التکلیف المتعلق بالأفعال أو من الاعتقادیات علی تقدیر العلم بها کما لا یخفی.

[1] وقد یستدل علی البراءة فی الشبهات الحکمیة بروایات الحل، وترک الماتن الاستدلال بها غیر ماورد فیما رواه الکلینی قدس سره عن علی بن ابراهیم، عن أبیه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبی عبداللّه علیه السلام حیث ورد فی صدره: «کل شیء هو لک حلال حتی تعلم أنه حرام بعینه»(2)، ووجه الاستدلال ما أشار إلیه فی المتن من دلالته علی حلیة ما لم یعلم حرمته، سواء کان ذلک فی الشبهة الموضوعیة أو الحکمیة، بأن یکون عدم العلم بحرمته لعدم تمام الدلیل علیه، وکان ذکر ما یجری فی الشبهة الموضوعیة بعده لا یوجب اختصاص الصدر بها.

نعم الحدیث لا یعم الشبهات الوجوبیة إلاّ أن ذلک غیر مهم، فإنه إذا ثبت اعتبار

ص :270


1- 1) الکافی 1:126.
2- 2) الکافی 5:313، الحدیث 40.

.··· . ··· .

أصالة البراءة فی الشبهة الحکمیة التحریمیة یلتزم بها فی الشبهة الوجوبیة أیضا لعدم احتمال الفرق، بل یمکن أن یقال: بعمومه للشبهة الوجوبیة أیضا لدوران أمر الترک فیها بین الحلال والحرام بناءً علی أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام.

وقد ترک الشیخ الأنصاری قدس سره الاستدلال بهذا الحدیث، وذکر صحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام (1) ونحوها روایة معاویة بن عمار: «کل شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال ابداً حتی تعرف الحرام منه فتدعه بعینه»(2) وروایة عبداللّه بن سنان عن عبداللّه بن سلیمان قال: سألت أبا جعفر علیه السلام «عن الجبن [إلی أن قال]: ساُخبرک عن الجبن وغیره: کل ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه من قبل نفسک»(3) والظاهر أن إعراض الماتن عن الاستدلال بهذه الروایات وجود القرینة فیها علی اختصاصها بالشبهة الموضوعیة، والقرینة تقسیم الشیء وفرض الحلال والحرام منه والحکم بحلیة ما یشک من أنه من قسمه الحلال أو من الحرام حتی یعلم أنه من قسمه الحرام، وهذا یجری فی الشبهة الموضوعیة، حیث یکون العلم بوجود القسم الحرام منه خارجا کقسمه الحلال، منشأً للشک فی الفرد المشکوک منه کما إذا لم یعلم أن هذا العصیر من قسمه المغلی الذی لم یذهب ثلثاه أو أنه من قسمه الحلال الذی ذهب ثلثاه، أو أن هذا اللحم من قسم المذکی أو من قسم غیر المذکی إلی غیر ذلک، وهذا بخلاف الشبهة الحکمیة فإن الشک فیها فی حرمة شیء أو حلیته لتردد أمره بأن یجعل الشارع الحرمة فیه أو الحلیة، ومنشأ

ص :271


1- 1) وسائل الشیعة 17:87، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 25:119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 7.
3- 3) المصدر السابق: 117، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

الشک فیه فقد النص فیه أو إجماله أو تعارضه علی ما تقدم، وعلی ذلک فروایات الحل التی ورد فیها فرض الحلال والحرام فی الشیء تکون مختصة بالشبهة الموضوعیة، ولا یمکن الاستدلال بها علی البراءة فی الشبهات الحکمیة التی هی مورد الکلام فی المقام.

ودعوی أنه یمکن تحقق القسمة الفعلیة فی الشبهة الحکمیة أیضا کاللحم المذکی فإن قسماً منه حلال کما إذا کان من لحم الغنم ونحوه، وقسماً منه حرام کلحم الذئب ویشک فی المذکی من لحم الأرنب أنه حلال أو حرام لا یمکن المساعدة علیها؛ لما ذکر من أن منشأ الشک فی لحم الأرنب فقد النص أو إجماله أو تعارضه، لا وجود قسمی الحلال والحرام من المذکی خارجا، وذکر المحقق النائینی قدس سره فی توجیه الاستدلال علی البراءة بمثل صحیحة عبداللّه بن سنان أن الشیئیة تساوی الوجود الخارجی والوجود الخارجی غیر قابل للقسمة، بأنْ یکون لوجود واحد قسمان، فیکون المراد من قولهم فیه حلال وحرام احتمال کونه حلالاً أو حراماً، وهذا کما ینطبق علی الشبهات الموضوعیة کذلک یجری فی الشبهات الحکمیة أیضا.

وفیه أن عنوان الشیء ینطبق علی الطبیعی، والمراد أن الطبیعی الذی فیه قسم الحلال وقسم الحرام، فتناول ذلک الطبیعی حلال إلی أن یعلم أنه من قسمه الحرام، وتحقق القسمین فی الطبیعی وکونه منشأً للشک یختص بالشبهات الموضوعیة کما تقدم، ولو کان المراد الشیء الخارجی فظهور تحقق القسمین قرینة علی رجوع الضمیر فیه إلی نوعه بطریق الاستخدام المفروض فیه تحقق الحلال والحرام، ثم إن تحقق القسمین من الطبیعی فی الخارج وکونه منشأً للشک فیما یرید المکلف تناوله لا یلازم تنجیز العلم الإجمالی؛ لإمکان کون المعلوم بالإجمال من الشبهة غیر

ص :272

.··· . ··· .

المحصورة أو المحصورة التی لا تدخل جمیع الأطراف فی مقدور المکلف، واحتمال کون القسم الحرام مما هو خارج عن ابتلائه وتمکنه أو جریان الطریق الدال علی الحلیة فی ناحیة الداخل فی الابتلاء، وما ورد فی هذه الروایات من تقیید العلم بالحرام بعینه لا ینافی تنجیز العلم الإجمالی إذا تحقق فی أطرافه شرایط التنجیز، فإن الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی بالحرمة بحیث یوجب الترخیص فی المخالفة القطعیة غیر ممکن، وتقیید الحکم بالحلیة إلی معرفة العلم بحرمة نفس المشکوک باعتبار العلم الإجمالی غیر المنجز کقوله علیه السلام : «أمن أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرم فی جمیع الأرضین، إذا علمت أنه میتة فلا تأکله»(1) ثم بعد ظهور کلمة (بعینه) فی کونه تقییداً، وأن العلم الإجمالی بوجود الحرام خارجا لا یوجب الاجتناب عن المشکوک فلا موجب لحملها علی التأکید کما صنع الشیخ قدس سره بدعوی أنه إذا علم حرمة شیء یعلم حرمة نفسه، فإن الحمل علی التأکید فی الروایات المتعددة خلاف الظاهر، وعلی ذلک ذکر کلمة (بعینه) قرینة اُخری علی إختصاصها بالشبهات الموضوعیة، وأن هذا العلم الإجمالی غیر المنجز یکون منشأً للشک فی المشکوک، حیث إن هذا العلم الإجمالی وکونه منشأً للشک لا یجری فی الشبهات الحکمیة، ومن ذلک یظهر الحال فی روایة مسعدة بن صدقة(2) وکون قید (بعینه) فی صدرها قرینة علی أن الکبری الواردة فیها مختصة بالشبهات الموضوعیة، وقد یذکر أن فی الموثقة قرینتین اُخریین علی اختصاصها بالشبهة الموضوعیة.

إحداهما: ذکر الأمثلة الواردة فیها فکلها من قبیل الشبهة الموضوعیة، وثانیتهما:

ص :273


1- 1) وسائل الشیعة 25:119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 5.
2- 2) وسائل الشیعة 17:89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.

حیث دل علی حلیّة ما لم یعلم حرمته مطلقاً، ولو کان من جهة عدم الدلیل علی حرمته، وبعدم الفصل قطعاً بین إباحته وعدم وجوب الاحتیاط فیه وبین عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة، یتم المطلوب.

ما ورد فیها من «أن الأشیاء کلها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک، أو تقوم به البینة فإن قیام البینة التی اُخذ فیها إحدی الغایتین للحلیة لا یکون إلاّ فی الموضوعات، ولعله لذلک ترک الشیخ قدس سره الاستدلال بها، وربما یقال ذکر قیام البینة إنما یکون قرینة علی الاختصاص إذا اُرید منها شهادة العدلین، وأما إذا اُرید منها المبیّن والموضح کما هو معناها اللغوی فلا تکون قرینة علیه، فإن خبر الواحد المعتبر فی الأحکام، بیّنة علی قول الإمام علیه السلام وحکم شرعی ثابت فی الشریعة بنحو القضیة الحقیقیة.

أقول: یکفی فی عدم دلالة الروایة علی الشبهات الحکمیة ذکر قیام البینة، فإن البینة لو لم تکن فی زمان الصادق علیه السلام بل قبله ظاهراً فی خصوص شهادة العدلین فلا أقل من اکتناف الحدیث بما یصلح للقرینیة، فلا ینعقد له ظهور فی عمومه للشبهات الحکمیة، بأنْ یکون المراد منها الأشیاء کلها علی الحلیّة حتی تفحص عن حرمتها وتستکشفها أنت أو یقوم مبین ودلیل علی حرمتها من الخارج، بل ثبوت قاعدة الحلیة بهذا الحدیث مع ما ذکرنا من ضعف سنده لا یخلو عن تأمل، فإن المراد بقاعدتها أن یحکم بحلیة المشکوک فی کونه حراما بما هو مشکوک والأمثلة الواردة فیها لیست کذلک، فإن الحلیة فیها مستندة إلی قاعدة الید أو استصحاب عدم الرضاع والنسب ولا ترتبط الحلیة بقاعدة الید أو الاستصحاب بقاعدتها إلاّ أن یکون المراد التنظیر، بأن یکون المراد کما أن الحلیة فی هذه الأمثلة مغیاة باستبانة خلافها أو بقیام البینة علی خلافها، کذلک الحلیة المحکوم بها علی کل شیء مشکوک فی الحلیة والحرمة.

ص :274

مع إمکان أن یقال: ترک ما احتمل وجوبه مما لم یعرف حرمته، فهو حلال، تأمل. ومنها قوله صلی الله علیه و آله : الناس فی سعة ما لا یعلمون[1].

[1] من الأخبار التی یستدل بها علی البراءة فی الشبهة الحکمیّة ما رواه فی المستدرک عن کتاب عوالی اللآلی مرسلاً عن النبی صلی الله علیه و آله قال «الناس فی سعة ما لم یعلموا»(1) ووجه الاستدلال دلالة الحدیث علی کون المکلفین علی سعة من تکلیف لا یعلمونه بلا فرق بین کونه حرمة فعل أو وجوب فعل فهم مرخصون فی ارتکاب الأول وترک الثانی ما لم یعلموا، غایة الأمر یرفع الید عن إطلاقها فی الشبهات الحکمیة بتقیید بجهلهم بعد الفحص وعدم علمهم به، والحدیث ینفی وجوب الاحتیاط فإنه لو کان الاحتیاط واجبا لما کانوا فی سعةٍ أصلاً، وظاهر الماتن قدس سره عدم الفرق فی دلالته علی ذلک بین کون (ما) موصولة أو مصدریة زمانیة، ولکن الظاهر الفرق بین الموصولة والمصدریة، وأن الموصول مع صلته ینطبق علی الإلزام الواقعی علی تقدیره ویحکم بأن المکلف علی سعة منه فلا یجب علیه رعایته بالاحتیاط فیه، وأما لو کانت (ما) مصدریة لکانت أدلة الاحتیاط واردة علی الحدیث فی الإلزام المشتبه الواقعی، فإن مفاده علی المصدریة الزمانیة هو کون الناس علی سعة زمان عدم علمهم، ومع إیجاب الاحتیاط وقیام الدلیل علیه یعلم الوظیفة زمان الجهل فلا سعة.

وبتعبیر آخر لو کانت (ما) موصولة فظاهره رجوع ضمیر المفعول فی صلته إلی نفس الموصول فیکون مفاده الناس فی سعة من التکلیف الذی لا یعلمونه، فهذا ینافی إیجاب الاحتیاط فیه، وأما إذا کانت (ما) مصدریة زمانیة فالمرجع للضمیر

ص :275


1- 1) المستدرک 18:20، الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود، الحدیث 4. عن عوالی اللآلی 1:424، الحدیث 109.

فهم فی سعة ما لم یعلم، أو ما دام لم یعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنه لو کان الاحتیاط واجباً لما کانوا فی سعة أصلاً، فیعارض به ما دل علی وجوبه، کما لا یخفی.

لا یقال: قد علم به وجوب الاحتیاط.

المفعول غیر مذکور، والمتیقن لولا الظهور رجوعه إلی الوظیفة زمان الجهل، ومع إیجاب الاحتیاط وقیام الدلیل علیه لا یفرض زمان للجهل فی الشبهة الحکمیة بالوظیفة، وبما أن (ما) فی الحدیث مردّدة ما بین الموصولة والمصدریة فمع الإغماض عن ضعفه سندا لا یمکن الاستدلال بها علی البراءة، بحیث تعارض ما دلّ علی لزوم التوقف والاحتیاط أو یوجب حمل الأمر بهما علی الاستحباب.

وقد یقال: إن مقتضی الاستقراء فی مورد استعمال (ما) أنها تکون موصولة عند دخولها علی المضارع بخلاف الداخلة علی الفعل الماضی، أو ما یکون بمعناه فإنه یحتمل کونها مصدریة والاستقراء لا یقضی بکون الإستعمال علی خلاف ذلک غلطا، إلاّ أن مقتضاه أن الاستعمال فی خلاف ذلک محتاج إلی القرینة، وبما أن (ما) فی الحدیث داخلة علی المضارع فیصح الاستدلال بها علی البراءة، ولکن ما ذکر مبنی علی ثبوت الحدیث متنا کما فی المتن، ولکنه فی المستدرک: «الناس فی سعة ما لم یعلموا» فالمدخول فعل ماضٍ معنیً و(ما) الداخلة علی الماضی تکون موصولة کما فی قوله: «الناس أعداء ما جهلوا»(1) و«لیس للإنسان إلاّ ما سعی»(2) وللمرء ما تعلّم إلی غیر ذلک، وتکون مصدریة کما فی قوله: هم بخیر ما صاموا وصلوا، إلی غیر ذلک، فالحدیث غیر تام سندا ودلالة.

ص :276


1- 1) شرح نهج البلاغة (لابن أبی الحدید) 18:403.
2- 2) سورة النجم: الآیة 39.

فإنه یقال: لم یعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فکیف یقع فی ضیق الاحتیاط من أجله؟ نعم لو کان الاحتیاط واجباً نفسیاً کان وقوعهم فی ضیقه بعد العلم بوجوبه، لکنه عرفت أن وجوبه کان طریقیاً، لأجل أن لا یقعوا فی مخالفة الواجب أو الحرام أحیاناً، فافهم.

ومنها: قوله علیه السلام کل شیء مطلق حتی یرد فیه نهی[1].

نعم ورد فی حدیث السفرة المطروحة فی الفلاة وفیها اللحم أنه یؤکل منها، وقال الراوی إنه للمسلم والکافر فأجاب علیه السلام : «هم فی سعة ما لم یعلموا» ولکنه حکم فی مورد خاص من الشبهة الموضوعیة ولا یبعد دعوی أن أرض الإسلام أمارة الحلیة والتذکیة فلا یتعدی إلی غیر مورده من الشبهات الموضوعیة فضلاً عن الشبهة الحکمیة.

[1] روی فی الفقیه فی باب وصف الصلاة من فاتحتها إلی خاتمتها عن الصادق علیه السلام «کل شیء مطلق حتی یرد فیه نهی»(1)، واستدل به علی البراءة فی الشبهات التحریمیة، وقد أورد علی الاستدلال کما فی المتن بأن الاستدلال مبنیّ علی أنْ یراد من ورود النهی العلم به ووصول بیانه، حیث ان الموضوع للحکم الظاهری ومنه الحلیة الجهل بالتکلیف الواقعی، وإرادة العلم والوصول إلی المکلف من الورود خلاف الظاهر، حیث إن مفاد الحدیث کون الأشیاء علی الإباحة الواقعیة إلی زمان صدور النهی ووروده من قبل الشارع، حیث إن التکالیف الشرعیة ومنها حرمة جملة من الأشیاء جعلت شیئا فشیئا ولم یصدر عن الشارع النهی عن جمیع المحرمات دفعة، فقوله علیه السلام : «کل شیء مطلق» أی مرسل واقعا حتی یصدر ویرد النهی عنه من الشارح فینتهی أمد الإباحة الواقعیة، وظاهر الماتن التسلیم بالإیراد

ص :277


1- 1) وسائل الشیعة 6:289، الباب 19 من أبواب القنوت، الحدیث 3.

.··· . ··· .

وأشار إلی ما یمکن أنْ یقال فی وجه التمسک به فی الشبهات الحکمیة بقوله: نعم، ولکن بضمیمة أصالة عدم ورود النهی عن المشکوک یحرز الموضوع لبقاء الحلیة فیه وإنْ کان الحکم ببقائها من قبیل الحکم الظاهری فیکون نظیر ما حکم الشارع بطهارة الماء القلیل إلی أنْ یلاقی النجاسة، فباستصحاب عدم ملاقاته النجاسة یحکم بطهارته، غایة الأمر حیث إن إحراز الموضوع للحکم الواقعی بالأصل یکون الحکم المترتب علیه ظاهریا، وإذا حکم الشارع بحلیة شرب التتن إلی صدور النهی عنه ووروده، فبالإستصحاب فی عدم صدور النهی عنه یکون الحکم بالحلیة الظاهریة، ولکن هذه الحلیة الظاهریة لا بما هو مشکوک حرمته وحلیته کما هو مفاد أصالة البراءة وأصالة الحلیة، بل بما هو متیقن إباحته سابقا والشک فی بقائها والحکم بالحلیة بهذا العنوان لا یغنی عن أصالة الحلیة المعبر عنها بأصالة البراءة، فإن الاستصحاب لا یجری فیما إذا ورد النهی عن الشیء فی زمان وتحلیله فی زمان آخر، وشک فی المتقدم والمتأخر منهما، حیث إنه إما لا یجری الاستصحاب فی شیء منهما أو یسقطان بالمعارضة علی ماهو المقرر فی بحث حدوث الحادثین والشک فی المتقدم والمتأخر منهما، ودعوی إتمام الحلیة فیها بعدم القول بالفصل کما تری، فإنه إنما یفید ضمیمة عدم القول بالفصل فیما إذا کان المثبت للحکم الظاهری الدلیل حیث یتعدی إلی ما لا یحتمل الفرق کالتعدی من الشبهة التحریمیة إلی الوجوبیة، وأما إذا کان الحکم الظاهری فی مورد لحصول الموضوع فیه کحصول الموضوع للحکم الواقعی فلا یتعدی إلی ما لا موضوع له فیه، فإن الفصل لعدم الموضوع لا لاختصاص الحکم والفصل فیه.

أقول: لو کان الحدیث منقولاً عن النبی صلی الله علیه و آله وأنه قال کذا لکان ما ذکر فی الإیراد

ص :278

ودلالته یتوقف علی عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم أو ما بحکمه، بالنهی عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلی غیر واحد، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه علی صدوره عنه سیما بعد بلوغه إلی غیر واحد، وقد خفی علی من لم یعلم بصدوره.

لا یقال: نعم، ولکن بضمیمة أصالة العدم صح الإستدلال به وتم.

فإنه یقال: وإن تم الإستدلال به بضمیمتها، ویحکم بإباحة مجهول الحرمة

علی الاستدلال بالحدیث علی البراءة وجیها، ولکنه علی ما نقل قول الصادق علیه السلام وفی زمانه کان جمیع المحرمات الواقعیة مجعولة وصادرة عن الشارع، فیتعین أن یکون المراد بالإطلاق الحکم الظاهری بالحلیة، ومن الورود الوصول إلی المکلف بنحو متعارف فإن الحکم الظاهری یکون موضوعه الجهل بالحکم الواقعی لا محالة، وعلیه فهذا الحدیث لاختصاصه بالشبهة الحکمیة أوضح، ولذا تصدی صاحب الوسائل قدس سره لتأویله وتوجیهه ومما ذکرنا من کون الإباحة الواقعیة للأشیاء إلی صدور النهی عنها خلاف ظاهره مع کون القائل الإمام علیه السلام یظهر أن الأمر کذلک لو کان المراد بالإطلاق اللاحرجیة العقلیة الثابتة لکل فعل قبل تشریع الحرمة والنهی عنه، مع أن اللاحرجیة العقلیة لیس حکما شرعیا لیحمل علیه کلام الشارع فما ذکره النائینی قدس سره فی معنی الحدیث من کون الأشیاء علی اللاحرجیة عند سکوت الشارع حتی یثبت تشریع الحرمة، وفرع علی ذلک عدم إمکان التمسک به علی أصالة البراءة والحلیة، فإن الکلام فی المقام فی حرمة الفعل بعد تشریع المحرمات وإبلاغها للناس لا یمکن المساعدة علیه لما ذکرنا من أن بیان أن الأشیاء علی اللاحرجیة العقلیة قبل تحریم الشارع لبعضها، أو کل شیء علی تلک الحلیة حتی یشرع له الحرمة لا یفید شیئا إذا صدر هذا الکلام عن الصادق علیه السلام حیث إن المحللات والمحرمات کانتا مشروعتین فی الصدر الأول، فإنْ کان بقاء تلک اللاحرجیة واقعا فی اعتبار الشارع أیضا إلی زمان

ص :279

وإطلاقه، إلاّ أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنه مما لم یرد عنه النهی واقعاً.

لا یقال: نعم، ولکنه لا یتفاوت فیما هو المهم من الحکم بالإباحة فی مجهول الحرمة، کان بهذا العنوان أو بذاک العنوان.

فإنه یقال: حیث إنه بذاک العنوان لاختص بما لم یعلم ورود النهی عنه أصلاً، ولا یکاد یعم ما إذا ورد النهی عنه فی زمان، وإباحته فی آخر، واشتبها من حیث التقدم والتأخر.

لا یقال: هذا لولا عدم الفصل بین أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنه یقال: وإن لم یکن بینها الفصل، إلاّ أنه إنما یجدی فیما کان المثبت للحکم بالإباحة فی بعضها الدلیل، لا الأصل، فافهم.

وأما الإجماع: فقد نقل علی البراءة إلاّ أنه موهون[1].

النهی عنه فلا یمکن الإلتزام بذلک، فإن الحرمة الشرعیة للمحرمات کانت عند تأسیس الشریعة کالمحللات فیها وکان التدریج فی إبلاغها وبیانها للناس.

وبالجملة الحلیة الشرعیة لا تکون مغیاة واقعا ببیان الحرمة کما أن حرمة المحرمات لا تکون مُغیاة بشیء من إبلاغها وإنما یکون المغیا بوصول الحرمة الحلیة الظاهریة التی یحسن الإعلام بها من الإمام علیه السلام .

[1] ویستدل علی البراءة فی الشبهات الحکمیة بالإجماع، ولکنْ لا یخفی ما فیه فإن أصحابنا الأخباریین قد ذهبوا إلی لزوم التوقف والاحتیاط فی الشبهات التحریمیة فلیکن المراد إتفاق غیرهم، ومن الظاهر أن ما یمکن أنْ یکون من أدلة الأحکام هو الإجماع التعبدی لا مطلق الإتفاق علی حکم مع ظهور مستندهم لذلک الحکم، فإن هذا الاتفاق مدرکی یلاحظ المستند فیه، فإنْ تم یکون الاعتماد علیه

ص :280

ولو قیل باعتبار الإجماع المنقول فی الجملة، فإن تحصیله فی مثل هذه المسألة مما للعقل إلیه سبیل، ومن واضح النقل علیه دلیل، بعید جداً.

وأما العقل: فإنه قد استقلّ بقبح العقوبة والمؤاخذة علی مخالفة التکلیف[1].

لا علی الاتفاق، وإلاّ یکون المستند مقتضی الدلیل والقاعدة، وإذا کان هذا حال الإجماع المحصل فکیف بمنقوله.

[1] وقد یستدل علی البراءة بحکم العقل فلا مجال للمناقشة فی حکم العقل فی قبح العقاب بلا بیان، والکلام فی المقام فی حکم القاعدة فی مقابل قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، وفی مقابل ما ورد فی الأخبار من الأمر بالاحتیاط والتوقف فی الشبهات.

وأما الکلام فی الجهة الأولی فلا ینبغی التأمل فی أنه إذا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی مورد لانتفی فیه احتمال الضرر، أی استحقاق العقاب علی الارتکاب کما أنه لو ثبت فی مورد استحقاق علی الارتکاب لا یکون فیه موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وبتعبیر آخر قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل لا یوجب بحکمها، أی لزوم الدفع، ارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل حصول الموضوع لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل یلازم عدم حصول الموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، ولذا لو قیل بعدم استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل فلا یکون فی مورد احتمال العقاب المحتمل موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان فوجوب دفع الضرر المحتمل لا یکون محققا للضرر المحتمل الذی یعد من البیان، وعلی ذلک فإن لم یکن فی المشتبه بیان بالإضافة إلی التکلیف الواقعی علی تقدیره فمع حکم العقل بقبح العقاب علی مخالفته مع الفحص التام عن موارد احتمال الطریق إلیه والیأس من

ص :281

.··· . ··· .

الظفر به لا یکون فی ارتکابه احتمال الضرر، فحکم العقل بقبح العقاب یرفع فی مورده احتمال العقاب، وهذا معنی ورود قاعدة قبح العقاب بلا بیان علی قاعدة احتمال الضرر، وقد تقدم أن قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل أی العقاب المحتمل لا یوجب ثبوت احتماله، کما هو الحال فی کل قضیة حقیقیة حیث إنها لا تثبت موضوعها.

ثم إنه قد ذکر الشیخ الأنصاری قدس سره أن دعوی أن قاعدة دفع الضرر المحتمل بیان للتکلیف المحتمل فی الشبهة الحکمیة فلا یقبح بعده المؤاخذة علی مخالفته علی تقدیره واقعا مدفوعة، بأن لزوم دفع الضرر المحتمل علی تقدیره لا یکون بیانا للتکلیف المجهول، بل یکون بیانا لقاعدة کلیة ظاهریة وإنْ لم یکنْ فی موردها تکلیف واقعا، فلو تمت القاعدة یکون العقاب علی مخالفتها وإنْ لم یکنْ تکلیف واقعا فی موردها لا علی التکلیف المحتمل علی تقدیر وجوده واقعاً، وأورد علی ذلک المحقق النائینی قدس سره بأنا لم نکنْ نترقب مثل هذه الکلمات عن الشیخ قدس سره وذلک فإن لزوم دفع الضرر المحتمل لا یمکن أنْ یکون حکما مولویا شرعیا طریقیا؛ لأنّ المفروض أن التکلیف المشتبه علی تقدیره منجز لغرض احتمال العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفعه کما فی أطراف العلم الإجمالی والشبهة الحکمیة قبل الفحص، کما لا یمکن أنْ یکون مولویا نفسیا لاستقلال العقل لیس فی دفع الضرر المحتمل غیر عدم الابتلاء به فیکون لزوم دفعه کحکم الشارع بلزوم الإطاعة ارشادیا محضا، وعلی ذلک فکیف یکون لزوم دفع الضرر حکما نفسیا ظاهریا مع أن الظاهریة لا تجتمع مع النفسیة، حیث إن الأحکام الظاهریة علی تقدیر کونها محرزة یکون العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی لو اتفق الواقع، وعلی تقدیر کونها غیر محرزة

ص :282

.··· . ··· .

یکون العقاب علی ترکها بشرط أدائها إلی مخالفة التکلیف الواقعی، ثم ذکر قدس سره فی ضمن کلماته أن الوجه فی عدم کون قاعدة لزوم الدفع بیانا للتکلیف المشتبه أنه لا یرفع الشک والاشتباه فیه بأنْ تکون محرزة له.

أقول: قد تقدم أن الأمر بالاحتیاط فی شبهة لا یرفع الشک فی التکلیف الواقعی ومع ذلک یصیر بیانا له، فالوجه فی عدم البیانیة ما ذکرنا، أن القاعدة لا توجب ثبوت احتمال العقاب فی التکلیف المشتبه، بل المذکور فیها حکم علی تقدیر ثبوت احتمال العقاب فی التکلیف المشتبه، وقاعدة قبح العقاب بلا بیان ترفع ثبوت احتماله فیه بعد الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل علیه، نعم ما اُورد علی الشیخ قدس سره کلام صحیح وأنه لا یمکن لزوم دفع الضرر المحتمل إلاّ ارشادیا حتی من العقل، حیث إن العقل شأنه الإدراک لا الإلزام، فالعقل یرشد إلی تحصیل الأمن من العقاب ولو کان محتملاً له لا جازما به، وأمّا ما ذکره من الفرق بین الأحکام الظاهریة المحرزة وغیر المحرزة بأن العقاب فی الثانی علی مخالفتها بشرط أدائها إلی مخالفة التکلیف الواقعی، وفی المحرزة علی نفس مخالفة التکلیف الواقعی لو اتفق مجرد دعوی، فإن المأخوذ علی المکلف فی کلا الموردین التکلیف الواقعی، کما هو مقتضی تتبع الاحتجاجات العقلائیة فی الموردین.

فالمتحصل من جمیع ما ذکر أن ثبوت احتمال الضرر فی مخالفة التکلیف الواقعی إنما یکون بوصول ذلک التکلیف إلی المکلف بالنحو المتعارف، أو من حیث وظیفته فی مراعاته بإیجاب الاحتیاط علیه ولو مع احتماله وعدم زوال شکه ومع عدم وصوله بالنحو المتعارف کما هو فرض فحص المجتهد عن مدارک الأحکام وعدم وجدان طریق مثبت له، وعدم ثبوت إیجاب الشارع الاحتیاط فیه، ترفع قاعدة

ص :283

المجهول، بعد الفحص والیأس عن الظفر بما کان حجة علیه، فإنهما بدونها عقاب بلا بیان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبیحان بشهادة الوجدان.

ولا یخفی أنه مع استقلاله بذلک، لا احتمال لضرر العقوبة فی مخالفته، فلا یکون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، کی یتوهم أنها تکون بیاناً، کما أنه مع احتماله لا حاجة إلی القاعدة، بل فی صورة المصادفة استحق العقوبة علی المخالفة ولو قیل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما ضرر غیر العقوبة فهو وإنْ کان محتملاً إلاّ أن المتیقن منه فضلاً عن محتمله لیس بواجب الدفع شرعا ولا عقلاً[1].

قبح العقاب بلا بیان احتمال العقاب فی ارتکاب الشبهة التحریمیة، واحتماله فی الترک فی الشبهة الوجوبیة، هذا مع عدم تمامیة دعوی الأخباریین من الدلیل علی الأمر الوجوبی بالتوقف فی الشبهات التحریمیة أو بالاحتیاط أیضا حتی فی الشبهات الوجوبیة، وإلاّ یثبت فی الشبهات الحکمیة احتمال العقاب ولا تجری فیها قاعدة قبح العقاب بلا بیان لثبوت البیان فیها، وهذا الدلیل العقلی علی البراءة فی الشبهات الحکمیة ینفع فی فرض عدم تمامیة دعواهم، إما لقیام القرینة علی أن الأمر بالاحتیاط والتوقف فی الشبهات استحبابی، کما ذکرنا فی حدیث الرفع وحدیث الحجب وغیرهما، أو أن الأخبار الواردة فی التوقف قاصرة فی نفسها عن إثبات وجوب التوقف کما یأتی.

[1] وقد یقرر عدم جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی الشبهات التحریمیة بدعوی استقلال العقل بالإقدام علی ما فیه احتمال الضرر، واحتمال الضرر متحقق فی ارتکاب الشبهة الحکمیة التحریمیة، فیکون حکم العقل بقبح الإقدام بیانا للتحریم المحتمل علی تقدیره واقعا فلا یکون العقاب علی مخالفته من العقاب

ص :284

.··· . ··· .

بلا بیان.

وفیه أنه لا سبیل للعقل إلی الحکم بقبح الإقدام علی ما فیه الضرر القطعی فضلاً عن الإقدام علی ما فیه احتماله، بل ما یحکم به العقل بقبح الإقدام علی ما فیه الضرر بمرتبة یکون ظلما وتعدیا علی النفس کجنایة الإنسان علی نفسه أو عرضه أو فی ماله المؤدی إلی الجنایة علی أحدهما، ویمکن أنْ یقال حکمه بذلک جارٍ حتی فی الاقتحام علی ما لا یؤمن فیه هذه المرتبة من الضرر، ومن الظاهر أن الملاک فی حرمة المحرمات لا یکون الضرر فی غالبها فضلاً عن هذا الضرر، فإن اللازم فی المحرمات وجود المفسدة فیها، والمفسدة لا تنحصر علی الضرر ولا یکون حکم للعقل بقبح الإقدام علی ما فیه المفسدة فضلاً عن ما فیه احتمالها، والشاهد لذلک إقدام العقلاء علی ما لا یؤمن فیه المفسدة بل فیه احتمال الضرر ببعض مراتبه لبعض الدواعی، کیف وقد أذن الشارع فی الارتکاب فی الشبهة الموضوعیة التحریمیة ولا یرخص الشارع فی ارتکاب القبیح، وما ذکر الشیخ الطوسی قدس سره فی مسألة أن الأشیاء علی الحظر أو الإباحة من حکم العقل بقبح الإقدام علی ما فیه احتمال المفسدة(1) لا یمکن المساعدة علیه کما أشرنا إلیه من شهادة دیدن العقلاء وسیرتهم علی خلافه.

ثم إنه قد یستدل علی البراءة فی الشبهات الحکمیة باستصحاب البراءة وتقریره من وجهین؛ لأنّ للأحکام المجعولة فی الشریعة مرتبتین کما هو الحال فی کل حکم مجعول بنحو القضیة الفعلیة، مرتبة الجعل یعنی الإنشاء، ومرتبة الفعلیة،

ص :285


1- 1) العده فی اصول الفقه 2:742، طبعة مؤسسة البعثة.

.··· . ··· .

ویقال بجریان الإستصحاب فی عدم جعل الحرمة بنحو القضیة الحقیقیة؛ لأنّ جعلها أمر حادث مسبوق بالعدم، ویورد علی هذا التقریب بإیرادین.

الأول: أن عدم جعل المتیقن سابقا أمر أزلیّ غیر منتسب إلی الشارع والمطلوب فعلاً إثبات نسبة عدم الجعل إلی الشارع، وهذا غیر مسبوق بحالة سابقة محرزة، وفیه أن عدم الفعل فی زمان یمکن للفاعل الفعل فیه عین انتساب عدمه إلیه، فبقاء عدم جعل الحرمة لشرب التتن عند جعل الشریعة بعینه انتساب عدم جعل حرمته إلی الشارع فیستصحب عدم الجعل إلی آخر جعل أحکام الشریعة.

والإیراد الثانی: أن نفی الجعل بنحو القضیة الحقیقیة بالإستصحاب لا یثبت عدم حرمة شربه فعلاً، فإثبات عدم المرتبة الاُولی بالإضافة إلی إثبات عدم المرتبة الفعلیة مثبت.

وبتعبیر آخر المطلوب وما یترتب علیه الانبعاث والانزجار هو إحراز التکلیف الفعلی أو عدمه، والإستصحاب فی عدم الجعل بالإضافة إلی عدم الحرمة الفعلیة من قبیل الأصل المثبت، ولکن لا یخفی ما فیه أیضا فإن الحکم الفعلی عین الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة والفعلیّة وعدمها فی الحکم ناشٍ عن الفعلیّة، والتقدیر فی ناحیة موضوعه؛ فإن الموضوع له فی مقام الجعل تقدیری وفی مقام الفعلیة متحقق، وهذا التحقق وجدانی ولذا لا یکون الإستصحاب فی عدم نسخ الحکم المجعول فی الشریعة مثبتا بالإضافة إلی تحقق الحکم الفعلی.

لا یقال: کما یجری الإستصحاب فی عدم جعل حرمة شربه علی المکلفین بنحو القضیّة الحقیقیّة، کذلک یجری الإستصحاب فی ناحیة عدم جعل إباحته لهم فلا یثبت بالاستصحاب المزبور الترخیص فی الفعل لیترتب علیه نفی استحقاق

ص :286

.··· . ··· .

العقوبة، فلابد فی نفیه من الانتهاء إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان أو إلی حدیث الرفع ونحوه، فلا تثبت أصالة البراءة بالاستصحاب.

وبتعبیر آخر المعلوم فی شرب التتن مثلاً تحقق أحد الجعلین، ومعه لا یجری شیء من عدم جعل حرمته وعدم جعل إباحته لمعارضة کل منهما بالآخر، واُجیب عن المعارضة بجوابین.

الأول: أنه لیس لنا علم بأنه لولم یجعل لفعل حرمة یجعل له إباحة وترخیصاً بعنوانه الخاص، لیقال بأن جریان الاستصحاب فی عدم جعل الحرمة له معارض بالاستصحاب فی عدم جریان الترخیص والإباحة فیه، فإنه من المحتمل أنْ یجعل له الإباحة بعنوان عام یجری علی جمیع الأفعال التی لم تنشأ الحرمة لها بأن جعل الترخیص لکل ما لم یجعل فیه إلزام وجوبا أو حرمة، وعلیه یکون الاستصحاب فی عدم جعل الحرمة له محققا لثبوت الترخیص فیه لا أنه تعارضه أصالة عدم جعل الإباحة له وفیه أنه لو فرض جعل الإباحة له بالعنوان العام یجری أیضاً الاستصحاب فی عدم جعل الإباحة له لکون ذلک العنوان انحلالیا، والشک فی ثبوت الإباحة له بعنوانه الخاص أو العام.

والجواب الثانی: عدم المعارضة بینهما؛ لأنّ الملاک فی تعارض الاُصول لیس العلم الإجمالی بعدم مطابقة أحدهما الواقع، فإن ذلک یوجب التعارض فی الطرق والأمارات، وأمّا الاُصول فالموجب للتعارض بین الأصلین أحد الأمرین، إما لکونهما من التعبد بالمتناقضین أو لکون التعبد بهما من الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال من حیث العمل، وشیء منهما غیر لازم فی المقام، فإن مقتضی الأصلین عدم جعل الحرمة له ولا جعل الإباحة له فیجوز ارتکابه؛ لأنّ المانع

ص :287

.··· . ··· .

عن الارتکاب هو ثبوت المنع، نعم لو فرض فی مورد أثر شرعی لإباحة الفعل شرعا لا یترتب ذلک الأثر فی مورد الإستصحاب فی عدم جعل الإباحة له، وأما نفی استحقاق العقاب علی ارتکابه فهو یترتب علی عدم ثبوت الحرمة له.

الاستدلال علی البراءة فی الشبهات الموضوعیة بالاستصحاب

ومما ذکر یظهر الحال فی وجه جریان الاستصحاب فی عدم جعل الحرمة أو الوجوب فی الشبهات الموضوعیّة، لأنّ جعل الحرمة لشرب الخمر مثلاً بعنوان القضیة الحقیقیة انحلالی یثبت جعلها فی الأفراد المحرزة أنها خمر، وأما جعل الحرمة لما یشک فی کونه خمرا مشکوک مسبوق بعدم الجعل، ومقتضی الاستصحاب بقاء عدم الجعل فی المشکوک علی عدمه؛ لاحتمال عدم کونه من أفراد الخمر، هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب الموضوعی ولو بنحو العدم الأزلی فإنه مع الاستصحاب فی عدم کونه خمرا لا تصل النوبة إلی الأصل الحکمی.

الوجه الثانی: فی الاستدلال علی البراءة بالاستصحاب جریانه فی عدم الحرمة الفعلیة بالإضافة إلی کل مکلف قبل بلوغه فیجری فی عدم هذه الحرمة بعد بلوغه أیضا، وقد اُورد علی هذا الاستصحاب أیضا بوجوه:

منها ما تقدم من أن عدم الحرمة الفعلیة أمر أزلیّ، وأن عدم التکلیف الفعلی غیر مجعول شرعا ولیس له أثر شرعی مجعول مع أنه یعتبر أنْ یکون المستصحب بنفسه مجعولاً شرعیا أو یکون له أثر شرعی مجعول، وعدم استحقاق العقاب مع عدم حرمة الفعل من اللوازم العقلیة لعدم التکلیف قد نسب الماتن قدس سره فی بحث الاستصحاب هذا الإیراد إلی الشیخ قدس سره . وردّه بأنه لا یعتبر فی جریان الاستصحاب

ص :288

ضرورة عدم القبح فی تحمل بعض المضار ببعض الدواعی عقلاً وجوازه شرعاً، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا یلازم احتمال المضرة، وإن کان ملازماً لإحتمال المفسدة أو ترک المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد التی تکون

فی عدم التکلیف أنْ یکون له أثر شرعی فإن عدم التکلیف کوجوده بنفسه قابل للتعبد، ولا یعتبر فی جریان الاستصحاب فی شیء أنْ یکون ذلک الشیء بنفسه الأثر الشرعی أو أنْ یکون له أثر شرعی، بل المعتبر أنْ یکون قابلاً للتعبد بنفسه أو بأثره، ونفی التکلیف کثبوته بید الشارع ویقبل التعبد، وبما أن عدم استحقاق العقاب أثر عقلی لمطلق نفی التکلیف سواء کان النفی واقعیا أو تعبدیا یترتب علیه لا محالة.

أقول: ظاهر کلام الشیخ قدس سره أن استصحاب براءة الذمة عن التکلیف وعدم المنع عن الفعل لا یفید فی المقام؛ لأنّ المطلوب فی المقام الجزم بعدم استحقاق العقاب علی الارتکاب وإذا لم یترتب هذا المطلوب علی الاستصحاب فیما ذکر احتمل العقاب فی الإرتکاب، فیحتاج فی نفیه إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، ومعها لا حاجة إلی الإستصحاب، وترتب نفی الاستحقاق علی الاستصحاب فیما ذکر موقوف علی اعتبار الإستصحاب من باب الظن النوعی المثبت للوازمه، حیث إنّه مع الإستصحاب فی نفی التکلیف یثبت الترخیص فیه ومع ثبوت الترخیص ینتفی احتمال العقاب، وأما بناءً علی اعتباره من باب الاخبار فلا یترتب علیه ثبوت الترخیص.

والحاصل تأمل الشیخ فی عدم جریان الاستصحاب لا لکونه فی الأعدام الأزلیة حتی فیما کان لها أثر شرعی، والصحیح فی الجواب عن کلام الشیخ قدس سره بأن الاستصحاب فی عدم التکلیف کافٍ فی نفی الاستحقاق فی الارتکاب، فإن استحقاقه یترتب علی ثبوت التکلیف ویرتفع مع عدم ثبوته ولا یحتاج إلی إثبات

ص :289

مناطات الأحکام، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التی تکون ذات المصالح وقبح ما کان ذات المفاسد، لیست براجعة إلی المنافع والمضار، وکثیراً ما یکون محتمل التکلیف مأمون الضرر، نعم ربما تکون المنفعة أو المضرة مناطاً للحکم شرعاً وعقلاً.

الترخیص، وإلاّ فلو قیل باعتبار الاستصحاب من باب الظن فلا یفید فی نفی احتمال العقاب؛ لأنّ الاستصحاب فی عدم التکلیف یثبت الترخیص، والاستصحاب فی عدم الترخیص الشرعی یثبت المنع فیتعارضان، فإن مفاد حدیث: «رفع القلم عن الصبی» عدم ثبوت التکلیف علیه فی مورد ثبوته للبالغین، لا ثبوت الترخیص الشرعی فی حقه، وإلاّ لم یکنْ فی البین حاجة إلی إثباته بالاستصحاب فی عدم التکلیف.

وقد یورد علی الوجه الثانی: بأنه لا یجری الاستصحاب إلاّ فیما کان الأثر المهم مترتبا علی الواقع، وأما إذا کان مترتبا علی الجهل به کما فی حرمة التشریع والفتوی بغیر علم فلا مورد له؛ لأنه بمجرد الشک یحرز موضوع الحرمة فلا معنی للتعبد بعدم الواقع بالأصل، والأثر المرغوب فی المقام وهو نفی إستحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی یترتب علی الجهل به.

وفیه أن نفی الاستحقاق لما یترتب علی الجهل بالتکلیف الواقعی بعد الفحص وعدم الظفر بالدلیل علیه کذلک یترتب علی بیان عدم التکلیف الواقعی، فإن قبح العقاب کما یترتب علی عدم البیان للتکلیف الواقعی کذلک یترتب علی بیان عدمه علی ما تقدم من أن العقاب بعد بیان العدم من خلف الوعد وهو قبیح من المولی الحکیم، ولا بأس للشارع أنْ یبدل الحکم الثابت لموضوع بالحکم الثابت مثله لموضوع آخر، کما فی جریان الإستصحاب فی طهارة الماء مع کون طهارته مفاد القاعدة.

ص :290

إن قلت: نعم، ولکن العقل یستقل بقبح الإقدام علی ما لا تؤمن مفسدته، وأنه کالإقدام علی ما علم مفسدته، کما استدل به شیخ الطائفة قدس سره ، علی أن الأشیاء علی الحظر أو الوقف.

قلت: استقلاله بذلک ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة دیدن العقلاء من أهل الملل والأدیان، حیث إنهم لا یحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا یعاملون معه معاملة ما علم مفسدته، کیف؟ وقد أذن الشارع بالإقدام علیه، ولا یکاد یأذن بارتکاب القبیح، فتأمل.

ومما یورد علی الوجه الثانی، أنه لا یجری الاستصحاب فی عدم المنع السابق لکون الموضوع له الصبی والمجنون، حیث إنّ الشارع قد رفع القلم عن الصبی والمجنون ولو جری عدم المنع بعد کون المکلف بالغا لکان من إسراء الحکم من موضوع إلی آخر.

وبتعبیر آخر عنوان الصبی بالإضافة إلی عدم الحرمة الفعلیة عنوان مقوّم أو لا أقل من احتمال کونه من العنوان المقوّم، وفیه أن معنی رفع القلم عن الصبی عدم جعل الإلزام لأفعاله التی تکون موردا للإلزام فی البالغین، وأما أفعاله التی لا تکون مورداً للإلزام فی البالغین فلا موضوع للرفع بالإضافة إلیها، وعلیه فالصبی حال صباوته لم تکن فی حقه حرمة شرب التتن، ویحتمل بقاء عدم الحرمة بحاله، ولا یعتبر فی جریان الاستصحاب إلاّ اتحاد القضیة المتیقنة والقضیة المشکوکة، بأنْ یحتمل بقاء القضیة المتیقنة بعینها، نظیر ما إذا علم عدم نجاسة مایع کر سواء کان ماءً أو غیره من المضاف، فإذا لاقته النجاسة فإنْ کان ماءً فعدم نجاسته باقیة علی حالها، وإذا لم یکن ماءً فقد إنفعل فلا بأس بالاستصحاب فی عدم نجاسته إذا لم یکنْ فی البین أصل حاکم علیه فتدبر جیدا.

ص :291

واحتجّ للقول بوجوب الاحتیاط فیما لم یقم فیه حجة بالأدلة الثلاثة[1].

أما الکتاب: فبالآیات الناهیة عن القول بغیر العلم، وعن الإلقاء فی التهلکة، والآمرة بالتقوی.

والجواب: إن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً، لیس قولاً بغیر

الاستدلال علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیّة

[1] یستدل علی لزوم التوقف والاحتیاط فی الشبهة الحکمیة التحریمیة بل الوجوبیة أیضا بالأدلة الثلاثة یعنی الکتاب والأخبار وحکم العقل، أما الکتاب فبالآیات الناهیة عن القول بغیر العلم(1) والناهیة عن إلقاء النفس فی التهلکة(2) والآمرة بالتقوی(3)، ولکنْ لا یخفی أنه مع ثبوت الإباحة الظاهریة الطریقیة فی الشبهة الحکمیة لا یحتمل العقاب فی مخالفة الحرمة الواقعیة علی تقدیرها التی لم یظفر بالبیان لها بعد الفحص، ولا یکون القول بتلک الإباحة قولاً بغیر علم، ولا یکون الارتکاب مع هذا الترخیص منافیا للتقوی اللازم علی المکلف، وأما التقوی فی الاجتناب عن المفاسد الواقعیة وعدم فوت المصالح فیما إذا کان المکلف معذورا وغیر مأخوذ بالتکلیف الواقعی فی مواردهما فهو غیر واجب علی المکلف حتی باعتراف الأخباریین بالالتزام بالبراءة فی الشبهات الموضوعیة بل الحکمیة الوجوبیة، ومما ذکر یظهر أنه لو کان المراد بالتهلکة فی آیة النهی عن إلقاء النفس فیها الهلاکة الدنیویة، فلا یقتضی لزوم الاجتناب عن الشبهات الحکمیة التحریمیة لما تقدم من أن المفاسد التی تلاحظ فی المحرمات ملاکاتها لا تکون من قبیل الهلاکة الدنیویة.

ص :292


1- 1) کقوله تعالی: «ولا تقف ما لیس لک به علم» سورة الاسراء: الآیة 36.
2- 2) کقوله تعالی: «ولا تلقوا بأیدیکم إلی التهلکة» سورة البقرة: الآیة 195.
3- 3) کقوله تعالی: «واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه مع المتقین» سورة البقرة: الآیة 194.

علم، لما دلّ علی الإباحة من النقل وعلی البراءة من حکم العقل، ومعهما لا مهلکة فی اقتحام الشبهة أصلاً، ولا فیه مخالفة التقوی، کما لا یخفی.

وأما الأخبار فبما دلّ علی وجوب التوقف عند الشبهة معللاً فی بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خیر من الإقتحام فی المهلکة[1].

[1] یستدل علی لزوم الاجتناب عن المشتبه بالشبهه الحکمیة التحریمیة بالأخبار وهی علی طائفتین، إحداهما: ماورد فیها من الأمر بالتوقف عند الشبهة، ویدخل فی هذه الطائفة أخبار التثلیث کقوله علیه السلام : «إنما الاُمور ثلاثة: أمر تبین لک رشده فاتبعه، وأمر تبین لک غیّه فاجتنبه، وأمر اختلف فیه فردّه إلی اللّه عزّ وجل»(1)، وفی خبر عمر بن حنظلة: «إنما الاُمور ثلاثة: أمر بیّن رشده فیتّبع وأمر بیّن غیّه فیجتنب، وأمر مشکل یرد علمه إلی اللّه وإلی رسوله، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله «حلال بیّن، وحرام بیّن، وشبهات بین ذلک فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرّمات، وهلک من حیث لا یعلم، [إلی أنْ قال] فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات»(2)، وقد أجاب الماتن قدس سره عن هذه الطائفة بأن الأمر بالوقوف عند الشبهة إرشاد إلی التحرز عن الهلاکة المحتملة فی المشتبهات، فیختص الإرشاد بالشبهة التی یکون فیها احتمال الهلاکة أی العقاب الاُخروی، ومع حکم العقل فی الشبهة الحکمیة _ بعد الفحص وعدم العثور علی البیان _ بقبح العقاب بلا بیان، وحکم الشرع برفع الحرمة المجهولة علی تقدیرها واقعا مادام الجهل لا یحتمل الهلاکة فی الشبهة البدویة التی فحص المجتهد عن الدلیل علی الحکم الواقعی فیها ولم یظفر بمثبت للحرمة فیها.

ص :293


1- 1) وسائل الشیعة 27:162، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 28.
2- 2) المصدر السابق: 157، الحدیث 9.

من الأخبار الکثیرة الدالّة علیه مطابقة أو التزاماً، وبما دلّ علی وجوب الاحتیاط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.

والجواب: إنه لا مهلکة فی الشبهة البدویة، مع دلالة النقل علی الإباحة وحکم العقل بالبراءة کما عرفت.

وما دلّ علی وجوب الاحتیاط لو سلم، وإن کان وارداً علی حکم العقل، فإنه کفی بیاناً علی العقوبة علی مخالفة التکلیف المجهول.

الاستدلال علی وجوب الاحتیاط بالأخبار

وثانیتهما: الأخبار الواردة فی الأمر بالاحتیاط فی الشبهات وقد أجاب قدس سره عنها بأنه لو تمت دلالة هذه الطائفة علی وجوب الاحتیاط لکانت واردة علی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، حیث إن الأمر به طریقیا بیان ومصحح للعقاب علی مخالفة التکلیف فی المشتبه، وما عن الشیخ قدس سره من عدم کون الأمر بالاحتیاط مصححا للعقاب، فإن وجوبه إذا کان غیریا مقدمة للاحتراز عن عقاب مخالفة التکلیف الواقعی المجهول، فالمفروض أن العقاب علی مخالفته قبیح، وإنْ کان وجوبه نفسیا فالعقاب یترتب علی مخالفته لا علی مخالفة التکلیف الواقعی المجهول کما یدعیه الخصم، فیتعین حمل الأمر به علی الاستحباب أو علی الإرشاد لا یمکن المساعدة علیه؛ لما تقدم من أن إیجابه طریقی ومعه یخرج العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی لو اتفق عن کونه عقابا بلا بیان، ولکن دلالتها علی إیجاب الاحتیاط طریقیا لا یتم لکونها معارضة بما هو أخص منها وأظهر فی الترخیص فی ارتکاب المشتبه، فإن ما ورد فی حلیة المشتبه الحرمة أخص من تلک الأخبار الشاملة للشبهات الوجوبیة أیضا، وبمثل ذلک کالصراحة فی الترخیص فی الارتکاب یخصص الأخبار الآمرة بالاحتیاط بغیر الشبهة البدویة التحریمیة، فإن الأمر به غایته الظهور فی

ص :294

ولا یصغی إلی ما قیل: من أن إیجاب الاحتیاط إن کان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبیح، وإن کان نفسیاً فالعقاب علی مخالفته لا علی مخالفة الواقع، وذلک لما عرفت من أن إیجابه یکون طریقیاً، وهو عقلاً مما یصح أن یحتج به علی المؤاخذة فی مخالفة الشبهة، کما هو الحال فی أوامر الطرق والأمارات والأصول العملیة.

إلاّ أنها تعارض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل علی حلیّة المشتبه أخص، بل هو فی الدلالة علی الحلیّة نص، وما دل علی الاحتیاط غایته أنه ظاهر فی وجوب الاحتیاط، مع أن هناک قرائن دالة علی أنه للإرشاد[1 [فیختلف إیجابا واستحبابا حسب اختلاف ما یرشد إلیه.

الإیجاب فی کل شبهة ومنها الشبهة التحریمیة فیرفع الید عنه بالخاص الوارد فی الشبهة التحریمیة.

[1] ذکر قدس سره بعد بیان أنه لابد من رفع الید عن الأمر الطریقی الإیجابی بالاحتیاط فی المشتبهات فی الشبهة الحکمیة التحریمیة بأخبار الحل، حمل الأمر به الوارد فی الأخبار علی الإرشاد إلی حکم العقل، بدعوی أن فیها قرائن علی الإرشاد واُیّد الحمل المزبور بأنه لو کان الأمر به وجوبا طریقیا لزم تخصیص إیجاب الاحتیاط الوارد ببعض الموارد لا محالة، مع أن الاحتیاط فی الدین والمشتبهات آبٍ عن التخصیص، ولعل مراده قدس سره أن الإیجاب المولوی الطریقی لا یمکن فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف فی الشبهة الموضوعیة والحکمیة لتنجز التکلیف فی أطرافه مع قطع النظر عن الأمر الطریقی بالاحتیاط، وکذا فی المشتبهات بالشبهة الحکمیة قبل الفحص، لأن أخبار وجوب التعلم بل وغیرها توجب تنجز التکالیف التی یصل إلیها المکلف بالفحص فی غیر ذلک ما یستفاد منه البراءة من حدیث الرفع وغیره مما

ص :295

.··· . ··· .

تقدم محکم، والعقل یستقل بلزوم رعایة التکلیف فی المشتبهات التی فیها منجز للتکلیف الواقعی من أطراف العلم وفی الوقایع قبل الفحص وحسن رعایة احتماله فی موارد ثبوت الترخیص فی الارتکاب والترک، ویناسب ما ذکر أنْ تحمل الأخبار الواردة فی الاحتیاط فی الدین والمشتبهات للإرشاد إلی حکمه، ومع الحمل علیه لا یکون فیها تخصیص بخلاف ما إلتزم بأن مفادها الوجوب المولوی الطریقی، فإنه یلزم من رفع الید عن هذا الوجوب فی بعض المشتبهات حتی علی مسلک الأخباریین مع أن لسانها آبٍ عن التخصیص، فإن حسن الاحتیاط لا یختص بمورد دون مورد، بل لا یمکن غیر الحمل علی الإرشاد فی بعض الأخبار، کقوله علیه السلام : «وقفوا عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة»(1) فإن ظاهر الهلاکة، الهلاکة الاُخرویة یعنی العقاب وقد فرض ثبوت الهلاکة فی ارتکاب المشتبه قبل الأمر بالوقوف فیه، ومن الظاهر انه لا یکون مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف والاحتیاط ثبوت العقاب فی الارتکاب، إلاّ إذا کان الأمر به إرشادیا ولا یمکن کونه أمرا مولویا طریقیا بأنْ یکون فی المشتبه منجز للتکلیف مع قطع النظر عن هذا الأمر.

لا یقال: تعلیل الأمر بالوقوف عند الشبهة بقوله علیه السلام «فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة»، یستکشف بنحو الإن عن وجوب الاحتیاط طریقیا، حیث إنّه مع إیجابه طریقیا من قبل یوجب احتمال الهلاکة فیها.

وبتعبیر آخر الأمر بالوقوف عند الشبهة فی الروایة إرشاد إلی ذلک الوجوب الطریقی الموجب لثبوت الهلاکة فی المشتبهات التی فیها تکلیف واقعا، فإنه یقال:

ص :296


1- 1) وسائل الشیعة 27:159، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 15.

.··· . ··· .

الإیجاب الطریقی مع عدم وصول بیانه إلی المکلف لا یکون رافعا لقبح العقاب بلا بیان، ولا یکون موجبا لاحتمال العقاب فی ارتکاب الشبهة، فکیف یعلّل بیانه والإرشاد إلیه بثبوت احتمال الهلاکة مع قطع النظر عن بیانه کما هو ظاهر الروایة، حیث لا یصح هذا التعلیل إلاّ إذا کان احتمال العقاب منجزا مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف إرشادا کما هو الحال فی أطراف العلم الإجمالی، أو کون الشبهة الحکمیة قبل الفحص.

لا یقال: هذا کله إذا کان المراد من الهلاکة العقاب الاُخروی، وأما إذا کان المراد المفسدة فلا محذور فی کون الأمر بالوقوف وجوبا طریقیا لئلا یقع فی تلک المفسدة.

فإنه یقال: لا یحتمل ذلک من الهلاکة فإن لسان الروایة آبٍ عن التخصیص، فلو صحّ إطلاق الهلاکة علی مطلق المفسدة وکثیرا ما لا یرجع إلی نفس الفاعل کما ذکرنا سابقا، فلابد من إخراج الشبهات الموضوعیة التحریمیة بالتخصیص ولسانه آبٍ عنه کما هو ظاهر.

وقد تلخص مما ذکر أن ثبوت الحکم العقلی فی موارد المشتبهات ولو بملاحظة الترخیص الشرعی فی ارتکاب جملة منها بلزوم رعایة احتمال التکلیف فی بعضها، وکون رعایته حسن فی مقام الانقیاد فی بعضها الآخر قرینة علی کون الأمر بالاحتیاط فی الدین والمشتبهات إرشاد إلی حکم العقل فیها، ولیس من الأمر المولوی الطریقی، بل الأمر المولوی الطریقی الإیجابی أو غیر الإیجابی بحسب الموارد غیر ممکن؛ لأنه فی موارد تنجیز التکلیف الواقعی بالعلم الإجمالی أو بکون الشبهة قبل الفحص لا یکون الأمر بالاحتیاط إیجابیا طریقیا؛ لأنّ تنجیز الواقع ثابت مع قطع النظر عن الأمر بالاحتیاط، ولا یمکن الالتزام بالإیجاب الطریقی فی غیر تلک الموارد لثبوت الترخیص فی الارتکاب والترک، والطریقی الاستحبابی فیها أیضا غیر

ص :297

.··· . ··· .

ممکن؛ لثبوت حکم العقل فیها بحسن الاحتیاط انقیادا، فلا یکون ترتب الثواب فیها إذا صادف التکلیف الواقعی بالأمر الطریقی الاستحبابی، بل بحکم العقل فیکون الأمر بالاحتیاط فیها إرشادیا لا محالة.

وبتعبیر آخر لیس فی البین من المشتبهات ما یکون الأمر بالاحتیاط فیها إیجابا طریقیا ولو بملاحظة الترخیص، ورفع التکلیف فیها أمرا ممکنا إلاّ الشبهات الحکمیة قبل الفحص، إذا قیل بأن أدلة وجوب التعلم فیها لا یمنع عن شمول الأمر بالاحتیاط لها فیختص أمر الطریقی بها، ثم إنه قد یجاب عن الأخبار التی ورد الأمر فیها بالوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام فیها بوجه آخر، وهو أن المراد من الشبهة فیها المشتبه المطلق وغیر البین من أی جهة، فلا یعم ما یکون الترخیص الظاهری فی ارتکابه محرزا، حیث إنه إذا شمل للمشکوک دلیل الترخیص فی الارتکاب ما لم یعلم حرمته الواقعیة یکون من الأمر البیّن وتدرج فی الحلال البیّن، ویشهد لاختصاص الشبهة فی تلک الأخبار بالمشتبه المطلق أن تلک الأخبار آبیة عن التخصیص مع أنه لا خلاف فی عدم وجوب التوقف فی الشبهات الموضوعیة بل فی الشبهة الحکمیة الوجوبیة بعد الفحص وعدم ظهور الدلیل علی الوجوب، فلولا أن الترخیص الظاهری أخرجتهما عن الشبهة لزم الالتزام بالتخصیص فی مثل قوله: «قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة»(1).

أقول: الحدیث المشار إلیه ونحوه مما ورد فیه التعلیل، فنفس التعلیل فیه قرینة علی تقیید الشبهة بما فیه احتمال الهلاکة مع قطع النظر عن الأمر بالوقوف عندها

ص :298


1- 1) وسائل الشیعة 20:258، الباب 157 من أبواب مقدمات النکاح، الحدیث 2.

.··· . ··· .

فلا حاجة إلی دعوی کون المراد من المشتبه من جهة الحکم الواقعی والظاهری وما لم یرد فیه التعلیل فهو قابل للتخصیص، وعن المحقق النائینی قدس سره أنه یحتمل قریبا أنْ یکون المراد فی الأخبار الوارد فیها الأمر بالوقوف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة أمر آخر، وهو أن الاقتحام فی الشبهات یوجب وقوع المکلف فی المحرمات لا أن نفس ارتکاب الشبهة حرام یوجب العقاب إذا صادف الحرام الواقعی، فإن الشخص إذا لم یجتنب عن الشبهات وعود نفسه علی ارتکابها هان علیه ارتکاب المحرم، بخلاف من تعود نفسه علی عدم ارتکابها، وقد ورد نظیر ذلک فی المکروهات حیث إن تعود النفس علی ارتکابها وعدم مبالاته فیها رأسا یؤدی إلی جرأته علی ارتکاب بعض المحرم، کما أن الشخص لولم یعتن بالمعصیة الصغیرة، وارتکبها مرارا هانت علیه الکبیرة.

وبالجملة یحصل من التعود علی ترک المشتبهات ملکة التجنب عن المحرمات وإلی ذلک یشیر قوله علیه السلام فی خطبته علی ما فی مرسلة الفقیه: «والمعاصی حمی اللّه فمن یرتع حولها یوشک أن یدخلها»(1) ومن الظاهر أن الوقوف عند الشبهة کذلک أمر مستحب کما هو الظاهر من قوله علیه السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(2).

أقول: کون الاحتیاط فی الشبهات موجبا لتعود الإنسان علی ترک الحرام وإنْ کان أمرا صحیحا، وبهذا الاعتبار لا یبعد الالتزام بکونه أمرا مستحبا نفسیا، وقد ورد

ص :299


1- 1) وسائل الشیعة 27:161، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 27.
2- 2) وسائل الشیعة 27:106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

فی ذیل خطبته علیه السلام : «فمن ترک ما اشتبه له من الإثم فهو لما استبان له أترک، والمعاصی حمی اللّه، فمن یرتع حولها یوشک أنْ یدخلها»، إلاّ أن کون المراد من قوله علیه السلام فی الروایات المتعدّدة: «قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة» ذلک غیر ظاهر، بل غیر محتمل فی بعضها، وقد ورد ذلک فی ذیل مقبولة عمر بن حنظلة فیما فرض عمر بن حنظلة عن توافق حکّامهم الخبرین بمعنی کون کل منهما موافقا للعامة من قوله: إذا کان ذلک فأرجه حتی تلق إمامک، فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات(1)، فإن ظاهره کون الوقوف عند الشبهة لعدم الابتلاء بالهلاکة المحتملة فیها، نعم مورده کون الشبهة قبل الفحص اللازم والتمکن من تعلم التکلیف الواقعی فیها، إلاّ أن تطبیق الکبری شاهد لکون المراد بالهلاکة نفس الهلاکة المحتملة فی الواقعة المشتبهة، وممّا ذکر یظهر أنه لو قیل بأن الأمر بالوقوف عند الشبهة إرشاد إلی الإیجاب الطریقی المجعول فی الشبهات، ولذلک یصح تعلیل الإرشاد إلی لزوم الوقوف عند الشبهة بثبوت الهلاکة فی ارتکابها فلا ینبغی الریب بأن الأمر بالوقوف بهذا التعلیل بإطلاقه وعمومه یقتضی التوقف عند الشبهة الحکمیة التحریمیة قبل الفحص وبعده، وبما أن أدلة البراءة فی الشبهة الحکمیة مقیدة بما بعد الفحص وأنه لا هلاکة فی ارتکابها حتی ما لو صادف التکلیف الواقعی فتکون الشبهة الحکمیة بعد الفحص خارجا عن العموم والإطلاق المزبور، فیختص الأمر بالتوقف بالشبهات الحکمیة بما قبل الفحص وإمکان تحصیل العلم بالتکلیف الواقعی علی تقدیره فی الواقعة، ومما ذکرنا یظهر الحال فی صحیحة

ص :300


1- 1) وسائل الشیعة 27:106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

عبدالرحمن بن الحجاج قال سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجلین أصابا صیدا وهما محرمان الجزاء بینهما أو علی کل واحد منهما جزاء؟ قال: لا، بل علیهما أنْ یجزی کل واحد منهما الصید، قلت: إن بعض أصحابنا سألنی عن ذلک فلم أدر ما علیه، فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعلیکم بالاحتیاط حتی تسألوا عنه فتعلموا(1) فإنّ الأمر بالاحتیاط فیها فی مورد إمکان تحصیل العلم بالتکلیف کما هو ظاهرها، أضف إلی ذلک أن الشبهة المزبورة الحکمیة وجوبیة ولا یلتزم الأخباری فیها بوجوب الاحتیاط إلاّ أن یقال الجزاء الواجب فی الصید العین لا القیمة، فلا یکون الواجب مردداً بین الأقل والأکثر الاستقلالیین، بل من الارتباطیین ولا یلتزم الأخباری فی الارتباطیین بالبراءة، نعم فی کون الواجب من الارتباطیین فی فرض إعطاء العین تأمل کما إذا أعطی بدنة من البدنتین المشترکتین بینه وبین آخر، فإن إعطاء النصف من أحدهما متیقن فی تعلق التکلیف به فتدبر.

وأما الاستدلال بوجوب الاحتیاط بموثقة عبداللّه بن وضاح قال: کتبت إلی العبد الصالح علیه السلام «یتواری القرص ویقبل اللیل ثم یزید اللیل ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس وترتفع فوق اللیل (الجبل) حمرة ویؤذن عندنا المؤذنون فاُصلی حینئذ واُفطر إن کنت صائما، أو أنتظر حتی تذهب الحمرة فوق اللیل (الجبل) فکتب إلیّ أری لک أن تنتظر حتی تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدینک»(2).

وفیه أنّ الشبهة المفروضة فی المقام لو کانت موضوعیة یجب الانتظار

ص :301


1- 1) وسائل الشیعة 27:154، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 10:124، الباب 52 من أبواب ما یمسک عنه الصائم . . . الحدیث 2.

ویؤیده أنه لو لم یکن للإرشاد یوجب تخصیصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً، مع أنه آبٍ عن التخصیص قطعاً، کیف لا یکون قوله: (قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة) للارشاد؟ مع أن المهلکة ظاهرة فی العقوبة، ولا عقوبة فی الشبهة البدویة قبل إیجاب الوقوف والاحتیاط، فکیف یعلل إیجابه بأنه خیر من الاقتحام فی الهلکة؟

لا یقال: نعم، ولکنه یستکشف منه علی نحو الإنّ إیجاب الاحتیاط من قبل، لیصح به العقوبة علی المخالفة.

فإنه یقال: إن مجرد إیجابه واقعاً ما لم یعلم لا یصحح العقوبة، ولا یخرجها عن أنها بلا بیان ولا برهان، فلا محیص عن اختصاص مثله بما یتنجز فیه المشتبه لو کان کالشبهة قبل الفحص مطلقاً، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالی، فتأمل جیداً.

وأما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترک ما احتمل حرمته، حیث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات کثیرة[1].

والامساک إلی إحراز دخول الوقت بمقتضی الاستصحاب فی بقاء النهار وعدم دخوله وإنْ کانت الشبهة حکمیة، ولعل ذلک ظاهرها فعلی الإمام علیه السلام بیان أن دخول اللیل باستتار القرص أو بذهاب الحمرة، فعدوله عن الجواب بالتعیین والتصریح به إلی التعبیر بالأخذ بالاحتیاط لرعایة التقیة لا محالة، وعلی کلا التقدیرین فلا دلالة لها علی عدم اعتبار البراءة فی الشبهة الموضوعیة الوجوبیة إذا لم یکن فی البین أصل حاکم، أو فی الشبهة الوجوبیة بعد الفحص وعدم الظفر بالدلیل علی الوجوب کما یعترف بذلک الأخباری أیضاً.

الاستدلال فی لزوم الاحتیاط فی الشبهات بحکم العقل

[1] قوله: «فیما اشتبه وجوبه أو حرمته مما لم یکن حجة علی حکمه» متعلق ب

ص :302

.··· . ··· .

«لزوم فعل ما احتمل وجوبه وترک ما احتمل حرمته» کما لا یخفی.

وحاصله أنه یستدل علی لزوم الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة الوجوبیة، والشبهات الحکمیة التحریمیة بالعلم الإجمالی بالتکالیف فی الوقائع التی لا تعلم أحکامها الواقعیة، وهذه الوقائع وإن یکن التکلیف الواقعی فی جملة منها منجّز بقیام الحجة علیه إلاّ أنه یلزم رعایة احتمال التکلیف فی غیر تلک الجملة تفریغا للذمة بعد اشتغالها بالعلم الإجمالی المذکور، وأجاب الماتن قدس سره بأن العلم الإجمالی المزبور ینحل بقیام الطرق والاُصول المثبتة للتکالیف فی مواردها، حیث یحتمل انحصار التکالیف المعلومة بالإجمال علیها بأن لا یکون فی سائر الموارد التی تجری الاُصول النافیة فیها تکالیف کما هو شأن انحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی والشک البدوی.

لا یقال: العلم بالتکلیف الفعلی فی بعض أطراف العلم الإجمالی لا یوجب انحلال العلم الإجمالی الأول.

فإنه یقال: إنما لا یوجب الانحلال إذا کان التکلیف المعلوم فی بعض الأطراف حادثا بأن کان غیر المعلوم بالإجمال السابق، وأما إذا لم یکن حادثا بل کان نفس ما علم إجمالاً أولاً، کما إذا علم بنجاسة بعض الآنیة ثم علم نجاسة بعضها معینا بتلک النجاسة واحتمل أن المعلوم بالإجمال أولاً کان ذلک البعض ولا نجاسة فی غیره، فینحل العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی والشک البدوی لا محالة، واُورد علی هذا الانحلال بوجه آخر أشار الماتن إلیه بقوله «إن قلت إنما یوجب العلم . . .»، والمراد أن الانحلال إلی العلم التفصیلی والشک البدوی کان صحیحا بناءً علی مقتضی قیام الطریق بالتکلیف فی مورد هو ثبوت التکلیف فیه فعلاً، حیث یعلم بقیامه التکلیف فی ذلک المورد، وأما بناءً علی أن مقتضی قیامه واعتباره تنجز التکلیف الواقعی

ص :303

فیما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم یکن هناک حجة علی حکمه، تفریغاً للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف فی لزوم الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی إلاّ من بعض الأصحاب.

والجواب: إن العقل وإن استقل بذلک، إلاّ أنه إذا لم ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی وشک بدوی، وقد انحل هاهنا، فإنه کما علم بوجود تکالیف إجمالاً، کذلک علم إجمالاً بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتکالیف بمقدار تلک التکالیف

علی تقدیر أصابته الواقع والعذر فیما أخطأ، فلا انحلال إلی العلم التفصیلی والشک البدوی، فإن غایة قیامه واعتباره هو کون التکلیف الواقعی فی فرض الإصابة منجزا بمنجزین، وفی الموارد الخالیة عن الطریق منجزا بمنجز واحد، وهو العلم الإجمالی المتقدم ذکره.

وأجاب قدس سره بأنه لا یختلف الحال ویثبت الانحلال حتی بناءً علی أن معنی اعتبار الطریق شرعا جعل المنجزیة والمعذریة له، ومثل لذلک بما إذا علم بحرمة إناء زید لنجاسته بین إناءین أو أکثر وقامت البینة بتعیین إنائه، فإنه لا ینبغی التأمل فی أن قیامها کما إذا علم بأن إناء زید ذاک الإناء فی أنه لا یجب الاجتناب عن الباقی، ولولا هذا لما یفید فی الانحلال الالتزام بأن مقتضی الاعتبار جعل المدلول تکلیفا، فإن هذا التکلیف حادث یکون بقیام الطریق أو الأصل المثبت، ثم ذکر قدس سره فی ذیل کلامه هذا الانحلال الحکمی إذا لم نقل بأن غالب الطرق المعتبرة وجملة من الاُصول المثبتة مطابقة للتکالیف الواقعیة فی مواردهما، بحیث نحتمل انحصار التکالیف الواقعیة علی مواردهما حتی لا تکون تکالیف اُخری فی الوقائع المشتبهة الخالیة عنهما، حیث ینحل العلم الإجمالی الأول بالعلم الإجمالی الصغیر حقیقة فلا یکون مانع عن الرجوع إلی الاُصول النافیة فی سائر المشتبهات.

ص :304

المعلومة أو أزید، وحینئذ لا علم بتکالیف أخر غیر التکالیف الفعلیة فی الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملیة.

إن قلت: نعم، لکنه إذا لم یکن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتکالیف .

قلت: إنما یضر السبق إذا کان المعلوم اللاحق حادثاً، وأما إذا لم یکن کذلک بل مما ینطبق علیه ما علم أولاً، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالی إلی التفصیلی والشک البدوی.

أقول: انحلال العلم الإجمالی بحرمه إناء زید بالبینة القائمة بتعیین إنائه لا یستلزم الانحلال فی المفروض فی المقام، وذلک لثبوت الدلالة الالتزامیة بأن الإناء الآخر لیس له، وهذه الدلالة الالتزامیة کدلالتها المطابقیة، وبما أن الإناء الذی لیس لزید إما معلوم الطهارة أو محتملٌ نجاسته أیضا، تجری أصالة الطهارة أو الحلیة فیه فلا موجب للاجتناب عنه، وهذه الدلالة الالتزامیة غیر موجودة فی الأمارات والطرق القائمة بالتکالیف فی جملة من الوقائع بل لها دلالة مطابقیة فقط، وهی ثبوت تکالیف فی مواردها، نعم لو علم بمطابقة تلک الأمارات فی معظمها للواقع بحیث یحتمل انحصار التکالیف فی الشریعة علی موارد العلم التفصیلی وتلک الأمارات والأصل المثبت یکون الانحلال بالعلم التفصیلی وبالعلم الإجمالی الصغیر، وکذا إذا بنی علی العلم الإجمالی بالتکالیف فی الشریعة إنما هو بالإضافة إلی موارد إمکان تحصیل العلم أو وجود الأمارات والطرق والاُصول المثبتة دون غیر تلک الموارد، ومع إحراز کون واقعة من غیرها یرجع فیه إلی الاُصول النافیة کما أن هذا البناء هو الصحیح.

وقد یقال: فی انحلال العلم الإجمالی وجهان آخران.

الأول: أن معنی اعتبار الأمارة اعتبارها علما بالواقع فتکون التکالیف الواقعیة فی موارد قیامها معلومة بالتفصیل ولو اعتبارا، فیکون الشک فی غیر مواردها من

ص :305

إن قلت: إنما یوجب العلم بقیام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ذلک إذا کان قضیة قیام الطریق علی تکلیف موجباً لثبوته فعلاً، وأما بناءً علی أن قضیة حجیته واعتباره شرعاً لیس إلاّ ترتیب ما للطریق المعتبر عقلاً، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالإجمال أولاً، کما لا یخفی.

الموارد الخالیة عن العلم والأمارة شکا بدویا فیجری فیها الاُصول ولو کانت نافیة، وبیان ذلک أن العلم الإجمالی المرکب من قضیتین شرطیتین علی سبیل مانعة الخلو إذا خرج إلی قضیة حملیة معلومة بالتفصیل وإلی قضیة حملیة مشکوکة کما هو الحال فی موارد انحلاله إلی علم تفصیلی وشک بدوی لا یبقی العلم الإجمالی لا محالة وکما لو علم بغصبیة بعض الغنم من القطیع المرکب من السود والبیض ثم علم بأن بعض أفراده معینا غصبا، _ بحیث یحتمل انحصار المغصوب من القطیع علیه _ تجری أصالة عدم الغصب والحلیة فی غیرها، کذلک فیما إذا قامت البینة علی کون البعض المعین منها غصبا فإن البینة القائمة بحرمة البعض المعین علم تفصیلی بحرمته، ویمکن أن یکون مراد الشیخ الأنصاری فی جوابه الثانی هذا المعنی، وأما جوابه الأول فیرجع إلی منعه عن فعلیة التکالیف الواقعیة فی الوقایع فی غیر موارد الطرق والأمارات المثبتة للتکالیف علی مقتضی ما سلکه فی الجمع بین الأحکام الواقعیة فی الوقایع، وبین اعتبار الأمارات والاُصول، فإن ثبوت الأحکام الواقعیة فی الوقایع من غیر موارد الطرق والأمارات إنشائیة فلا یکون العلم الإجمالی بالتکالیف فیها إجمالاً من العلم الإجمالی المنجّز.

لا یقال: بناءً علی کون اعتبار الطریق اعتباره علماً تکون الأمارة القائمة بالتکلیف فی کل مورد علما بالتکلیف، ولکن هذا العلم الحادث لا یوجب انحصار المعلوم بالإجمال علی موارد قیامها ولا زوال العلم الإجمالی السابق الموجب

ص :306

قلت: قضیة الإعتبار شرعاً __ علی اختلاف ألسنة أدلته __ وإن کان ذلک علی ما قوّینا فی البحث، إلاّ أن نهوض الحجة علی ما ینطبق علیه المعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف یکون عقلاً بحکم الإنحلال، وصرف تنجزه إلی ما إذا کان فی ذاک الطرف والعذر عما إذا کان فی سائر الأطراف، مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زید بین الإناءین وقامت البینة علی أن هذا إناؤه، فلا ینبغی الشک فی أنه کما إذا علم أنه إناؤه فی عدم لزوم الإجتناب إلاّ عن خصوصه دون الآخر، ولولا ذلک لما کان یجدی القول بأن قضیة اعتبار الأمارات هو کون المؤدیات أحکاماً شرعیة فعلیة،

لتساقط الاُصول النافیة فی أطرافها.

فإنه یقال: بما أن الأمارة تحکی عن نفس التکلیف الذی کان طرفا للعلم به إجمالاً فاعتبارها علما به یوجب تبدل العلم الإجمالی السابق إلی العلم التفصیلی التعبدی بحیث تصیر الموارد الخالیة عن الأمارات مشکوکة بدوا، کما لو کان الانحلال بالعلم التفصیلی الوجدانی، فإن العلم التفصیلی التعبدی إبطال للتردید فی مواردها من الأول فیکون التردید فی الموارد الخالیة بدویا قهراً.

الوجه الثانی: أنه علی تقدیر کون اعتبار الأمارة جعل المنجزیّة والمعذریّة لها أو جعل حکم طریقی علی طبق مدلولها الموجب لتنجز الواقع، إلاّ أنّهُ مع ذلک ینحل العلم الإجمالی المزبور حکمیا؛ لأنّ منجزیة الأمارة القائمة بالتکلیف لا تکون بإحراز قیامها، بل لإمکان الوصول إلیها فالمتصدی للاجتهاد عند علمه إجمالاً بوجود التکالیف فی الوقائع تکون الأمارة الموجودة فی الوقائع الموجودة منجزة للتکالیف فی مواردها، فیکون العلم الإجمالی المزبور غیر منجز بالإضافة إلی تلک الموارد، وإذا احتمل عدم التکلیف فی الموارد الخالیة عن الأمارة بالتکلیف عند حصول العلم الإجمالی فلا یکون بأس بالرجوع إلی الأصل النافی فیها.

ص :307

ضرورة أنها تکون کذلک بسبب حادث، وهو کونها مؤدّیات الأمارات الشرعیة.

هذا إذا لم یعلم بثبوت التکالیف الواقعیة فی موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ فالانحلال إلی العلم بما فی الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلک الطرق بلا إشکال. کما لا یخفی.

وربما استدل بما قیل من استقلال العقل بالحظر فی الأفعال الغیر الضروریة قبل الشرع[1].

وعلی الجملة: إذا کان التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی علی تقدیره منجزا بمنجّز آخر عند حصوله لا یکون ذلک العلم الإجمالی منجّزا، وعلیه یبتنی الحکم بطهارة الملاقی بعضَ أطراف العلم الإجمالی، حیث یلتزم بعدم الأثر للعلم الإجمالی الحاصل ثانیا بنجاسة الملاقی بالکسر أو الطرف الآخر الذی یکون عدلاً للملاقی بالفتح.

[1] قد یستدل علی التوقف فی الشبهات بأن الأصل فی الأشیاء قبل ورود الشرع الحظر ولا أقل من الوقف بمعنی عدم حکم العقل وتجویزه الارتکاب، وما دلّ علی جواز ارتکاب المشتبه شرعا معارض بما دل علی لزوم التوقف والاحتیاط فیؤخذ بحکم العقل بالحظر أو الوقف.

وفیه أولاً: أنّ حکم العقل بالحظر أو الوقف محل خلاف فلا یمکن أن یستند إلیه وإلاّ لصح القول بالبراءة استنادا إلی القول بالإباحة فی تلک المسألة.

وثانیا: قد تقدم ثبوت الإباحة شرعا، وما دلّ علی الاحتیاط والتوقف لا یعارض ما دلّ علی البراءة علی ما تقدم من الجمع العرفی بین الأخبار.

وثالثا: لو سلم حکم العقل فی الأشیاء بالحظر أو الوقف ومعارضة ما دلّ علی البراءة شرعا بما دلّ علی الاحتیاط والتوقف فلیس لازم ذلک الأخذ بالحظر أو

ص :308

ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم یثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دلّ علی الإباحة معارض بما دل علی وجوب التوقف أو الاحتیاط.

وفیه أولاً: إنه لا وجه للإستدلال بما هو محل الخلاف والاشکال، وإلاّ لصح الاستدلال علی البراءة بما قیل من کون تلک الأفعال علی الإباحة.

وثانیاً: إنه ثبت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحیة ما دلّ علی التوقف أو الاحتیاط، للمعارضة لما دلّ علیها.

وثالثاً: أنه لا یستلزم القول بالوقف فی تلک المسألة، للقول بالاحتیاط فی هذه المسألة، لإحتمال أن یقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، وما قیل __ من أن الإقدام علی ما لا یؤمن المفسدة فیه کالإقدام علی ما یعلم فیه المفسدة __ ممنوع، ولو قیل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة فی المشتبه لیس بضرر غالباً، ضرورة أن المصالح والمفاسد التی هی مناطات الأحکام لیست براجعة إلی المنافع والمضار، بل ربما یکون المصلحة فیما فیه الضرر، والمفسدة فیما فیه المنفعة، واحتمال أن یکون فی المشتبه ضرر ضعیف غالباً لا یعتنی به قطعاً، مع أن الضرر لیس دائماً مما یجب التحرز عنه عقلاً، بل یجب ارتکابه أحیاناً فیما کان

الإباحة، بل یؤخذ بالبراءة العقلیة؛ لأنّ مسألة کون الأشیاء علی الحظر أو الإباحة راجعة إلی حکم العقل مع قطع النظر عن تشریع الأحکام والتکالیف، ومسألة قبح العقاب بلا بیان حکم العقل بعد تشریع الأحکام والتکالیف، والمقام من صغریات الثانی، وأما دعوی أن المقام یدخل فی صغری لزوم دفع الضرر المحتمل أو قاعدة استقلال العقل بدفع احتمال المفسدة المحتملة فی الارتکاب فقد تقدم الکلام فی کل منهما فلا نعید.

ص :309

المترتب علیه أهم فی نظره مما فی الإحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلاً عن احتماله.

بقی أمور مهمة لا بأس بالإشارة إلیها:

الأول: إنه إنما تجری أصالة البراءة شرعا وعقلاً فیما لم یکن هناک أصل موضوعی مطلقا، ولو کان موافقا لها فإنه معه لا مجال لها أصلاً لوروده علیها[1].

[1] لا تجری أصالة البراءة العقلیة ولا الشرعیة مع الأصل الموضوعی، ولیس المراد من الأصل الموضوعی خصوص ما یحرز به موضوع الحلیة أو الحرمة کالاستصحاب فی بقاء المائع علی کونه خمرا إذا احتمل انقلابه، بل المراد ما یرتفع معه الشک فی الحلیة وحرمة الموضوع لأصالة البراءة سواء اُحرز مع ارتفاعه موضوع الحلیة أو الحرمة الواقعیة کما فی المثال المتقدم، أو اُحرز به نفس حلیة الشیء أو حرمته، کما إذا شک فی حلیة فعل کان فی السابق حراما ویشک فی ارتفاع حرمته کما فی الشبهة الحکمیّة کالاستصحاب فی حرمة وط ء الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال، بناءً علی اعتبار الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، فإن مع الاستصحاب فی حرمة وطئها لا تصل النوبة إلی أصالة الحلیة، إما لوروده علیها کما علیه الماتن أو لحکومته علیها علی ما نذکره، وقد فرّعوا علی ذلک عدم جریان أصالة الحلیة فی حیوان شک فی حلیته وقبوله للتذکیة، فنقول للمسألة صور.

الاُولی: ما إذا شک فی حلیة حیوان وحرمته لأجل الشک فی أنه قابل للتذکیة بالشبهة الحکمیة، کما إذا تولد حیوان من الکلب والشاة وشک فی أنه کالکلب غیر قابل للتذکیة أو أنه کالشاة، وإذا ذبح هذا الحیوان بسائر الشرائط المعتبرة للتذکیة لا یحکم بحلیة لحمه، لأنّ الاستصحاب فی عدم التذکیة یدرجه فی غیر المذکی المحکوم فی الآیة بحرمة أکله، ولکن جریان هذا الاستصحاب موقوف علی ثبوت

ص :310

.··· . ··· .

أمرین، أحدهما: أن تکون قابلیة الحیوان للتذکیة أمراً تکوینیاً دخیلاً فی تحقق التذکیة، بأن تکون التذکیة أمرا بسیطاً مسببا من عدة اُمور أحدها قابلیته لها أو کانت التذکیة نفس تلک الاُمور التی منها قابلیة الحیوان لها، وثانیهما: أن لا یکون فی البین عموم أو إطلاق یثبت أن کل حیوان یقع علیه التذکیة بحیث یکون الحکم بعدم قابلیة حیوان لها محتاجا إلی دلیل علی خروجه عن العموم والإطلاق.

فی الشک فی قابلیة الحیوان للتذکیة

والثانیة وقد یقال: إنه إذا کانت التذکیة أمرا بسیطا مسببا عن عدة اُمور منها قابلیة الحیوان فلا بأس بجریان الاستصحاب فی عدمها عند الشک فی قابلیة الحیوان مع فرض عدم عموم أو إطلاق مثبت لقابلیته للتذکیة، وأما إذا کانت التذکیة عبارة عن نفس تلک الاُمور التی منها قابلیة الحیوان فلا مجری للاستصحاب؛ لأنّ غیر القابلیة من الاُمور الدخیلة محرزة بالوجدان، والقابلیة أو عدمها لیست لها حالة سابقة لیجری الإستصحاب فیها أو فی عدمها حتی بناءً علی القول بجریان الإستصحاب فی الأعدام الأزلیة؛ لأنّ القابلیّة وعدمها من لوازم الماهیة لا الوجود، والأصل الجاری فی العدم الأزلی یختص بالثانی فیرجع إلی أصالة الطهارة والحل فی المذبوح بسائر الشرائط، وفیه أنه یجری الاستصحاب فی عدم التذکیة حتی بناءً علی أنها مرکبة من عدة اُمور منها قابلیة الحیوان، حیث إنه لم یثبت أن القابلیة کالزوجیة من لوازم الماهیة بل یحتمل کونها من لوازم الوجود، بل لو کانت من لوازم الذات فالأمر کذلک لأنّ الدخیل فی التذکیة القابلیة بالحمل الشائع، فإن التذکیة أمر خارجی یقع علی الحیوان الخارجی والقابلیة بهذا الحمل مسبوق بالعدم ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ص :311

.··· . ··· .

وقد یقال: لیست قابلیة الحیوان للتذکیة إلاّ أن لا یحکم الشارع علیه بالنجاسة بعد فری أوداجه بالحدید وتوجیهه إلی القبلة وکون الذابح مسلما ذاکرا اسم اللّه علیه، بل یحکم بالطهارة، وإذا حکم بحلیة أکل لحمه وشحمه بعد هذا الذبح فهو حیوان مأکول اللحم، حیث تکون حلیة أکل لحمه وشحمه فعلیة بعد الذبح المزبور، وعلیه فیحرز بأصالة الطهارة الجاریة فی الحیوان بعد ذبحه أنه قابل لها کما یحرز بالاستصحاب فی عدم جعل الحرمة لأکل لحمه وشحمه بعده أو بأصالة الحلیة أنه مأکول اللحم.

ویمکن أن یقال: إن حکم الشارع بالطهارة فی حیوان بعد ذبحه أو صیده وعدم حکمه بها فی حیوان آخر إنما بلحاظ الخصوصیة الخارجیة فی الأول، وعدمها فی الثانی، ویعبّر عنها بقابلیة الحیوان للتذکیة، وعلی ذلک فعدم اعتبار النجاسة للحیوان بعد ذبحه کما ذکرنا کاشف عن قابلیته للتذکیة، کما أن الحکم بحلیة أکل لحمه وشحمه کذلک، وأصالة الطهارة أو الحلیة بما أنها تعبد بالطهارة ظاهراً أو الحلیة کذلک فلا تکشف عن القابلیة فیه فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم تذکیة المشکوک حتی بناءً علی أنّ التذکیة عنوان لعدة اُمور یدخل فیها قابلیة الحیوان شرطا أو جزءاً، ومما ذکر یظهر أنه لا یفید فی إثبات التذکیة أصالة الحلیة مع أنها غیر ثابتة فی الشبهات الحکمیة.

والمتحصل مع فری الأوداج فی مثل الکلب لا یصدق أنه مذکی، لا أنّه مذکی ولا یترتب علیه حکم المذکی للتخصیص، وعدم صدقها علیه یکشف عن أخذ خصوصیة للحیوان فی التذکیة، والأصل عدم تلک الخصوصیة فی الحیوان المشکوک المزبور فی المقام. نعم لو ثبت ببعض الخطابات الشرعیة بإطلاقها أو

ص :312

.··· . ··· .

عمومها قابلیة کل حیوان للتذکیة فلا یکون لجریان الاستصحاب فی ناحیة عدمها مجال. فقد یستظهر ذلک من قوله سبحانه «إلاّ ما ذکّیتم»(1) بدعوی ان التذکیة من الاُمور العرفیة الثابت لها قیود شرعا، فمع صدق العنوان فی حیوان یحکم بحلیة أکل لحمه نظیر ذلک بخطاب حلّ البیع أو غیرها من العناوین العرفیة التی جعلت موضوعات للأحکام الشرعیة.

والحاصل أن التذکیة لها معنی عرفی فیحمل علیه قوله سبحانه: «إلاّ ما ذکّیتم» غایة الأمر قد ثبتت لها بعض القیود شرعا ومع صدق العنوان علی ذبح حیوان یکون الإطلاق متبعا فیه.

وفیه أن التذکیة فی الحیوان اعتبار شرعی فی الحیوان ولم یثبت أن معناها العرفی موضوع للحکم بالحلیة مع قوله سبحانه «إلاّ ما ذکّیتم» استثناء عما نهی قبل ذلک من «المنخنقة والموقوذة والمتردیة والنطیحة وما أکل السبع»(2)، والظاهر أنه بیان للسبب الذی یجوز معه أکل الحیوان المحلل أکله نظیر قوله سبحانه: «فکلوا مما ذکر اسم اللّه علیه»(3)، وقوله: «فکلوا مما أمسکن علیکم»(4) لا فی مقام بیان تمییز الحیوانات التی یحل أکل لحمها بعد التذکیة والتی لا یحل أکلها ولو بعد التذکیة.

فی الشک فی تذکیة الحیوان

والثالثة: نعم یمکن استظهار قابلیة کل حیوان ذی جلد للتذکیة من بعض

ص :313


1- 1) سورة المائدة: الآیة 3.
2- 2) سورة المائدة: الآیة 3.
3- 3) سورة الأنعام: الآیة 118.
4- 4) سورة المائدة: الآیة 4.

.··· . ··· .

الروایات کصحیحة علی بن یقطین قال: سألت أبا الحسن علیه السلام «عن لباس الفراء والسمور والفنک وجمیع الجلود قال: لا بأس بذلک»(1)، فإنها بضمیمة ما دلّ علی النهی عن الانتفاع بالمیتة تکون دالة علی قبول کل حیوان ذی جلد للتذکیة، وکذا یستفاد قابلیة السباع لها من موثقة سماعة قال: «سألته عن جلود السباع أینتفع بها؟ قال: إذا رمیت وسمیت فانتفع بجلده، وأما المیتة فلا»(2).

وعلی الجملة: إذا أمکن استظهار کون الحیوان المزبور فی المقام قابل للتذکیة وسقط الاستصحاب فی ناحیة عدمها، یحکم بکونه محلل الأکل أخذا بحدیث الرفع و: «کل شیء حلال حتی تعرف أنه حرام» وإلاّ فمقتضاه عدم کون الحیوان مذکی فلا یجوز أکل لحمه، نعم لا یحکم بنجاسته فإن الاستصحاب فی ناحیة عدمها لا یثبت أنه میتة، والنجاسة مترتبة فی الأدلة علی المیتة لا علی عدم کون الحیوان مذکی، هذا کله فی الشبهة الحکمیة فیما إذا شک فی قبول الحیوان التذکیة، وأما إذا أحرز کون حیوان قابل للتذکیة وشک فی کونه محلل الأکل أو محرم الأکل بالشبهة الحکمیة فلا بأس بأکل لحمه وشحمه أخذا فی الاستصحاب فی ناحیة جعل عدم الحرمة له بعد ذبحه وتذکیته، ودعوی أن هذا الاستصحاب معارض بالاستصحاب فی عدم جعل الحلیة لأکل لحمه فقد تقدم عدم المعارضة حیث لا یلزم من الاستصحابین مخالفة عملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، وعلی تقدیر المعارضة یرجع فی احتمال حرمة أکل لحمه بحدیث الرفع ونحوه مما یکون مقتضاه الترخیص

ص :314


1- 1) وسائل الشیعة 4:352، الباب 5 من أبواب لباس المصلی، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 3:489، الباب 49 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

کما یأتی تحقیقه فلا تجری _ مثلاً _ أصالة الإباحة فی حیوان شک فی حلیته مع الشک فی قبوله التذکیة، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة فی التذکیة، فأصالة عدم التذکیة تدرجه فیما لم یذک وهو حرام إجماعاً، کما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة إلی إثبات أن المیتة تعم غیر المذکی شرعاً، ضرورة کفایة کونه

فی الارتکاب.

کما أنه لا مجال لدعوی أن مقتضی الاستصحاب فی المفروض عدم جواز أکل لحمه وشحمه لأنّ الحیوان یحرم أکله حال حیاته، ویحتمل بقاء تلک الحرمة بعد تذکیته أیضا، والوجه فی عدم المجال أن حرمة أکل لحمه وشحمه لکون المقطوع من الحیوان حتی إذا کان محلل الأکل لکونه من الجزء المبان من الحی، وحرمة أکل الحیوان حیا فیما إذا أمکن کالسمک الصغار لم تثبت حرمته، وعلی تقدیر الإغماض وحرمة التسلیم فالاستصحاب فی بقاء الحرمة معارض بالاستصحاب فی عدم جعل الحرمة لأکل لحمه بعد تذکیته.

ولا فرق فی الرجوع بأصالة عدم جعل الحرمة لأکل لحم الحیوان وشحمه بعد إحراز کونه قابلاً للتذکیة وکونه مذکی والشک فی حلیته وحرمته بین أن تکون الشبهة حکمیة أو موضوعیة، بل یجری فی الشبهة الموضوعیة أصالة الحل التی استظهرنا من روایاتها عدم عمومها للشبهة الحکمیة، فقد ذکرنا الحکم فی الصور الثلاث.

وأمّا الصورة الرابعة: وهی ما إذا اُحرز أن الحیوان کان قابلاً للتذکیة ویشک فی بقائه علی القابلیة بالشبهة الحکمیة، کما إذا لم یحرز أن الجلل فی الحیوان یوجب ارتفاع قابلیته للتذکیة أم لا، ففی هذه الصورة یجری الاستصحاب فی بقائه علی ما کان بلا فرق بین القول باعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة أو قیل بعدم اعتباره للمعارضة أو لحکومة الاستصحاب فی عدم الجعل علی الاستصحاب فی

ص :315

.··· . ··· .

بقاء المجعول، وذلک لأنّ القابلیة علی تقدیر اعتبارها فی التذکیة جزءاً أو شرطا أمر تکوینی یشک فی بقائها وبضمها إلی سائر ما یعتبر فی التذکیة وجدانا یتم الموضوع لطهارة الحیوان وحلّه.

وقد یقال: بکون القابلیة شرطا لا جزءاً من تذکیة الحیوان، فإن التذکیة فعل الفاعل فی ظاهر الخطابات کما فی قوله سبحانه «إلاّ ما ذکّیتم» حیث إن ظاهر إسناد التذکیة إلی الفاعلین، وقوله علیه السلام فی موثقة ابن بکیر: «ذکّاه الذبح»(1) وقوله علیه السلام فی جواب من سأله «أو لیس مما ذکّی بالحدید، قال: بلی»(2)، ولکن لا یمکن المساعدة علیه فإنه یمکن إسناد السبب إلی شخص إذا کان تمامه بفعله کما یمکن إسناد المسبب إلیه إذا کان سببه أو تمام سببه بفعله.

الصورة الخامسة: _ ولم یتعرض لها الماتن قدس سره _ ما إذا شک فی اعتبار شیء فی التذکیة من غیر جهة القابلیة لها، کما إذا شک فی أن الذبح بالحدید معتبر فیها أو أنها تحصل بغیر الحدید أیضا، ومع ثبوت الإطلاق لرفع هذا الشک فهو، وإلاّ فقد یتوهم جریان أصالة البراءة فی شرطیة الحدید أو قیدیته یمنع من جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم التذکیة إذا ذبح بغیر الحدید، ولکن لا یخفی أنه لا مورد فی المفروض فی هذه الصورة لا لأصالة البراءة ولا لاستصحاب عدم التذکیة، وأما عدم جریان الاستصحاب فی عدم التذکیة للشک فی معناها الاعتباری فإن المقام داخل فی الشبهة المفهومیة، وأما عدم جریان أصالة البراءة فی اعتبار قیدیة الحدید فإن اعتبار

ص :316


1- 1) وسائل الشیعة 4:345، الباب 2 من أبواب لباس المصلی، الحدیث الأول.
2- 2) المصدر السابق: الحدیث 2.

مثله حکماً، وذلک بأن التذکیة إنما هی عبارة عن فری الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها، عن خصوصیة فی الحیوان التی بها یؤثر فیه الطهارة وحدها أو مع الحلیة، ومع الشک فی تلک الخصوصیة فالأصل عدم تحقق التذکیة بمجرد الفری بسائر شرائطها، کما لا یخفی.

نعم لو علم بقبوله التذکیة وشک فی الحلّیة، فأصالة الإباحة فیه محکمة، فإنه حینئذ إنما یشک فی أن هذا الحیوان المذکّی حلال أو حرام، ولا أصل فیه إلاّ أصالة الإباحة، کسائر ما شک فی أنه من الحلال أو الحرام.

التذکیة لفری الأوداج بالحدید مقطوع، والشک فی اعتبارها فی فریها بغیر الحدید، وبتعبیر آخر إذا کان الحکم انحلالیاً وشک فی اعتبار قید لموضوعه الانحلالی فمع عدم الإطلاق _ کما هو المفروض _ یثبت الحکم للأفراد الواجدة لذلک القید، وجعله علی الأفراد الفاقدة غیر محرز، والأصل عدم جعله واعتبار التذکیة یدخل فی اعتبار الحکم الانحلالی وجعله ولا یقاس المقام بتردد متعلق التکلیف بین المطلق والمقید حیث تجری فیه أصالة البراءة عن تعلقه بالمقید حیث إن الوجوب یتعلق بصرف الوجود من الطبیعی لا بشرط أو بالطبیعی المقیّد.

بقی فی المقام أمر وهو أن الموضوع للنجاسة هو المیتة والمراد منها مقابل المذکی، والمذکی هو ما استند موته إلی التذکیة فیکون المراد من المیتة ما استند موته إلی غیر التذکیة، والاستصحاب فی موارد جریان عدم تذکیة الحیوان یحرز کونه غیر مذکی فلا یجوز أکل لحمه وشحمه، ولا یجوز لبس جلده ونحوه فی الصلاة؛ لأنّ المذکی موضوع لجواز الأکل وجواز اللبس فی الصلاة، وحیث إن الاستصحاب لا یثبت استناد موته إلی غیر التذکیة فیرجع فی طهارته إلی أصالة الطهارة بل إلی عدم کونه میتة.

ص :317

هذا إذا لم یکن هناک أصل موضوعی آخر مثبت لقبوله التذکیة، کما إذا شک _ مثلاً _ فی أن الجلل فی الحیوان هل یوجب ارتفاع قابلیته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محکمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل کان یطهر ویحل بالفری بسائر شرائطها، فالأصل أنه کذلک بعده.

ومما ذکرنا ظهر الحال فیما اشتبهت حلیته وحرمته بالشبهة الموضوعیة من الحیوان، وأن أصالة عدم التذکیة محکمة فیما شک فیها لأجل الشک فی تحقق ما اعتبر فی التذکیة شرعاً، کما أن أصالة قبول التذکیة محکمة إذا شک فی طروء ما یمنع عنه، فیحکم بها فیما أحرز الفری بسائر شرائطها عداه، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

أقول: قد ذکرنا فی بحث الفقه أنه لابد من رفع الید عن هذه القاعدة فی الحیوان الذی تکون تذکیته بالذبح أو النحر، فمع جریان الإستصحاب فی عدم تذکیته یحکم بنجاسته وتفصیل الکلام فی بحث نجاسة المیتة.

وربما یقال: إن الموضوع للنجاسة کحرمة الأکل وعدم جواز الصلاة هو غیر المذکی لا عنوان المیتة، ویستظهر ذلک من روایة قاسم الصیقل حیث ورد فیها «فإن کان ما تعمل وحشیا ذکیا فلا بأس»(1) والمراد بنفی البأس الطهارة، والمفهوم أنه إن لم یکن ما تعمل ذکیا فما تعمل نجس وعلیه فالاستصحاب فی عدم التذکیة یثبت أنه نجس.

وفیه أنّه مع الغمض عن ضعفها سندا لا دلالة لها علی أن الموضوع للنجاسة عدم کون الحیوان مذکی، فإن القضیة الشرطیة فیها مفروضة فی کلام السائل ونفی البأس

ص :318


1- 1) وسائل الشیعة 3:489، الباب 49 من أبواب النجاسات، الحدیث الأول.

الثانی: أنه لا شبهة فی حسن الاحتیاط شرعاً وعقلاً[1].

فیها عن الصلاة مع إصابة الثوب لیس لها مفهوم، بل هی فی مقابل ما فرضه السائل من عمله قبلاً من جلود الحمر المیتة وکتابة ذلک إلی أبیه علیه السلام وأمره باتخاذ الثوب الآخر لصلاته، ومقتضی الجواب لا یلزم اتخاذ الثوب الآخر مع العمل من جلود الحمر الوحشیة الذکیة، وإلاّ فلم یکن لأخذ قید الوحشیة فی الجواب وجهاً کما لا یخفی.

فی جریان الاحتیاط فی العبادات

[1] لا ینبغی التأمل فی حسن الاحتیاط شرعا وعقلاً فإنه ورد الترغیب والإرشاد إلیه فی الخطابات الشرعیة واستقل العقل بأن الاحتیاط یوجب استحقاق الثواب للإطاعة أو الانقیاد فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة التحریمیة والوجوبیة فی العبادات وغیرها، ولکن ربما یشکل فی إمکان الاحتیاط فی العبادات فی الشبهة الوجوبیة فیما دار أمر العبادة بین الوجوب وغیر الاستحباب، والوجه فی الاشکال أن الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة یتحقق بالإتیان بالواجب الواقعی علی تقدیره بتمام قیوده والاُمور المعتبرة فیه، غیر أنه لا یعلم وجوبه واقعا، وهذا لا یتحقق فی الشبهة الوجوبیة فی العبادة المشار إلیها؛ لأنّ من القیود المعتبرة فی العبادة قصد التقرب عند الإتیان بالمعنی المتقدم فی بحث التعبدی والتوصلی أی الإتیان بها بداعی الأمر بها، وهذا لا یمکن إلاّ إذا تردد أمر العبادة بین الوجوب والاستحباب، حیث یؤتی بالفعل بداعی ذلک الأمر الواقعی وإن لم یعلم أنه الوجوب أو الاستحباب، وأما مع عدم إحراز الأمر بها أصلاً _ کما فی تردد أمرها بین الوجوب وغیر الاستحباب _ فلا یمکن الإتیان بها بداعویة الأمر، بل أقصاه الإتیان بها بداعویة احتمال الأمر.

وقد اُجیب عن هذا الإشکال بإمکان الإتیان بها المحتمل کونها واجبة واقعا بداعویة الأمر بالاحتیاط، حیث إن حکم العقل بحسن الاحتیاط کاشفا بنحو اللم عن

ص :319

فی الشبهة الوجوبیة أو التحریمیة فی العبادات وغیرها، کما لا ینبغی الإرتیاب فی استحقاق الثواب فیما إذا احتاط وأتی أو ترک بداعی احتمال الأمر أو النهی.

وربما یشکل فی جریان الاحتیاط فی العبادات عند دوران الأمر بین الوجوب وغیر الإستحباب، من جهة أن العبادة لابد فیها من نیة القربة المتوقفة علی العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً.

وحسن الاحتیاط عقلاً لا یکاد یجدی فی رفع الإشکال، ولو قیل بکونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً، بداهة توقفه علی ثبوته توقف العارض علی معروضه، فکیف یعقل أن یکون من مبادئ ثبوته؟

وانقدح بذلک أنه لا یکاد یجدی فی رفعه أیضاً القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب علیه، ضرورة أنه فرع إمکانه، فکیف یکون من مبادئ جریانه؟

هذا مع أن حسن الاحتیاط لا یکون بکاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللّم، ولا ترتب الثواب علیه بکاشف عنه بنحو الإنّ، بل یکون حاله فی ذلک حال الإطاعة،

مطلوبیته شرعا، کما أن ترتب الثواب علیه کاشف عن تلک المطلوبیة بنحو الإن، وقد أشار الماتن قدس سره إلی هذا الجواب وردّه بأن حسن الاحتیاط لا یجدی فی رفع الإشکال؛ وذلک فإن تعلق الأمر الاستحبابی بالاحتیاط لا یصحح انطباق عنوان الاحتیاط علی ما لا یکون عنوانه منطبقا علیه بدون ذلک الأمر، فإن الأمر المتعلق بعنوان نظیر العرض من معروضه، وکما أن المعروض لا یتمکن أن یتوقف فی حصوله علی عارضه وإلاّ لدار؛ لتوقف العارض فی حصوله علی المعروض، کذلک انطباق متعلق الأمر علی عمل لا یمکن أن یتوقف علی سرایة الأمر به إلی ذلک العمل الخارجی، بل یعتبر أن ینطبق متعلق الأمر علیه مع قطع النظر عن ذلک الأمر

ص :320

بإنه نحو من الإنقیاد والطاعة.

وما قیل فی دفعه: من کون المراد بالاحتیاط فی العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة[1] من جمیع الجهات عدا نیة القربة.

حتی یسری الأمر إلی ذلک العمل.

وعلی الجملة: کما أن العارض لا یمکن أن یکون من مبادئ ثبوت المعروض وحصوله کذلک الأمر بشیء لا یمکن أن یکون من مبادئ ثبوت ذلک الشیء بمعنی انطباقه علی الخارج وردّه ثانیا، بأنّ حکم العقل بحسن الاحتیاط لا یکشف عن تعلق الأمر المولوی أی الاستحباب الشرعی بنحو اللم کما لا یکشف ترتب الثواب علی الاحتیاط عن استحبابه، کذلک بنحو الإن حیث إن حکمه بحسنه کحکمه بحسن الطاعة لا یستلزم حکما مولویا کما أن الحکم بترتب الثواب کالحکم بترتبه علی الطاعة إرشادی حیث إن الاحتیاط یدخل فی عنوان الإطاعة والانقیاد.

[1] هذا هو الوجه الذی ذکره الشیخ قدس سره فی الجواب عن الإشکال المتقدم، حیث ذکر أن المراد بالاحتیاط فی العبادة الإتیان بالعمل المطابق لها من جمیع الجهات غیر جهة قصد التقرب، وأورد علیه الماتن قدس سره بأن الاحتیاط المحکوم بالحسن شرعا وعقلاً له معنی واحد فی العبادة وغیرها، وهو الإتیان بجمیع ما یعتبر فیه واقعا علی تقدیر التکلیف به واقعا، وهذا غیر متحقق فی العبادة التی یدور أمرها بین الوجوب وغیر الاستحباب، ولو تعلق الأمر بالعمل المطابق للعبادة من غیر جهة قصد القربة لکان هذا مطلوبا مولویا نفسیا لا یرتبط بحسن الاحتیاط عقلاً أو شرعاً، نعم لو قام دلیل خاص فی مورد دوران أمر العبادة بین الوجوب وغیر الاستحباب أمر بالاحتیاط فیها، فیحمل علی أن المراد من الاحتیاط فی ذلک المورد ما ذکره إذا لم یکن الالتزام فیه بالاحتیاط بمعناه الحقیقی ویکون الحمل علیه فی الحقیقة التزاما

ص :321

فیه: مضافاً إلی عدم مساعدة دلیل حینئذ علی حسنه بهذا المعنی فیها، بداهة أنه لیس باحتیاط حقیقة، بل هو أمر لو دلّ علیه دلیل کان مطلوباً مولویاً نفسیاً عبادیاً، والعقل لا یستقل إلاّ بحسن الاحتیاط، والنقل لا یکاد یرشد إلاّ إلیه.

نعم، لو کان هناک دلیل علی الترغیب فی الاحتیاط فی خصوص العبادة، لما کان محیص عن دلالته اقتضاءً علی أن المراد به ذاک المعنی، بناءً علی عدم إمکانه فیها بمعناه حقیقة، کما لا یخفی أنه التزام بالإشکال وعدم جریانه فیها، وهو کما تری. قلت: لا یخفی أن منشأ الإشکال هو تخیل کون القربة المعتبرة فی العبادة مثل

بالإشکال بعدم جریان الاحتیاط فی تلک العبادة حقیقة.

أقول: إذا ورد فی خطاب الأمر بالاحتیاط فیما دار أمر العبادة بین الوجوب وغیر الاستحباب لا یمکن حمله علی أن المراد بالاحتیاط المعنی الذی ذکره الماتن، واستظهره من کلام الشیخ قدس سره وأورد علیه بأن الأمر بالعمل المطابق للعبادة من جمیع الجهات غیر جهة قصد التقرب یکون مولویا نفسیا متعلقا بذات العمل المطابق للعبادة الواقعیة علی تقدیر الوجوب واقعا، فإنه علی هذا التقدیر لا دلیل علی اعتبار قصد التقرب فی الإتیان بمتعلق هذا الأمر فیصبح توصلیا ولا أظن بالماتن أو الشیخ الالتزام بالاستحباب النفسی التوصلی، بل الظاهر أن مراد الشیخ قدس سره أن الشارع قد وسّع فی قصد التقرب المعتبر فی العبادة عند الجهل بوجوبها سواء کان أمرها دائر بین الوجوب والاستحباب أو بین الوجوب وغیر الاستحباب. فیجوز فی الاحتیاط فیها الإتیان بالعمل المطابق للعبادة من جمیع الجهات من غیر جهة قصد التقرب فإنّ قصده فی مقام الاحتیاط والجهل بالواقع بالإتیان بها لاحتمال وجوبها الواقعی، وهذا التقرب غیر مطابق لقصد التقرب المعتبر فیها علی تقدیر العلم بوجوبها فیکون الأمر بالاحتیاط عند الجهل طریقیا استحبابیا أو إرشادیا علی ما یأتی.

ص :322

سائر الشروط المعتبرة فیها، مما یتعلق بها الأمر[1]. المتعلّق بها، فیشکل جریانه

[1] وأجاب الماتن قدس سره أن منشأ الإشکال فی جریان الاحتیاط فیما دار أمر العبادة بین الوجوب وغیر الاستحباب هو تخیل أن قصد التقرب المعتبر فی العبادة کسائر شروطها وقیودها مما یؤخذ فی متعلق الأمر بها، وبما أن الاحتیاط فی العبادة یکون بالاحتیاط بمتعلق الوجوب علی تقدیره واقعا، قیل بعدم إمکان الإتیان بالمتعلق عند الجهل بالوجوب ودوران أمرها بینه وبین غیر الاستحباب، ولکن الأمر لیس کذلک فإن قصد التقرب المعتبر فی العبادة غیر مأخوذ فی متعلق التکلیف إنما یکون له دخل فی حصول الغرض من متعلق الأمر فقط علی ما ذکر فی بحث التعبدی والتوصلی، وعلیه یکون المأتی به فی مقام الاحتیاط تمام ما تعلق به الأمر الوجوبی علی تقدیره واقعا من غیر نقص فیه، غایة الأمر لابد من کون الإتیان به علی نحوٍ لو کان فی الواقع أمر بها کان الإتیان المزبور مقربا بأن یؤتی به بداعی احتمال الأمر أو احتمال کونه محبوبا للّه سبحانه، بحیث یکون علی تقدیر الأمر بها واقعا الإتیان إطاعة وعلی عدمه انقیادا للّه سبحانه فیستحق الثواب علی التقدیرین، فإن الانقیاد لجنابه یوجب استحقاقه کالطاعة له، فلا حاجة فی جریان الاحتیاط فی العبادات حتی فیما دار أمرها بین الوجوب وغیر الاستحباب إلی تعلق الأمر بتلک العبادة.

أقول: لا یخفی أنه لا فرق بین القول بعدم إمکان أخذ قصد التقرب فی متعلق الأمر أو القول بإمکانه وأنه یؤخذ فی متعلق الأمر، فإنه لو کان قصد التقرب منحصرا علی الإتیان بالعمل بداعویة الأمر به ولو کان الأمر به ضمنیا فلا یمکن الإتیان بالعبادة بداعویة الأمر بها فیما دار الأمر فیها بین الوجوب وغیر الاستحباب، حیث لا یمکن الإتیان بها بداعویة الأمر بها حتی مع فرض أن الأمر یتعلق فی العبادات

ص :323

.··· . ··· .

بذات العمل، فإن الإتیان بداعویة الأمر یتوقف علی إحراز الأمر بها وإلاّ کان الإتیان المزبور تشریعا، وإن قلنا بأن قصد التقرب لا ینحصر علی ذلک، بل المعتبر فیه انتساب الإتیان واضافته إلی اللّه سبحانه بنحوٍ کما هو الصحیح، فهذه الإضافة کما تحصل بالإتیان بداعویة الأمر عند إحرازه کذلک تحصل بغیره أیضا، ومنه الإتیان لاحتمال الأمر بها فیکون العمل مع انضمام هذا التقرب موجبا لتعنونه بعنوان الاحتیاط، سواء قیل بأخذ قصد التقرب فی متعلق الأمر أم لا.

وعلی الجملة: فما ذکره قدس سره من ابتناء الإشکال علی أخذ قصد التقرب فی متعلق الأمر بالعبادة غیر صحیح، بل الإشکال مبنی علی انحصار قصد التقرب المعتبر فی العبادة علی الإتیان بها بداعویة الأمر بها فتدبر جیدا.

بقی فی المقام أمران: الأول: أنه قد تقدم حسن الاحتیاط عقلاً وشرعا ویقع الکلام فی أن أمر الشارع بالاحتیاط مولوی أو إرشادی وأن حکم العقل بحسنه یکشف عن أمر الشارع به من باب الملازمة، أو أن حکمه بالحسن فی مرتبة الامتثال فاعلی لا یکشف عن الأمر المولوی من الشارع، ظاهر کلام الماتن عدم کشف حکمه بالحسن عن الأمر المولوی بنحو اللم ولا یکون أمر الشارع إلاّ إرشادیا، وقد صرح المحقق النائینی قدس سره أنه لا مورد للملازمة فی المقام، فإن حکم العقل بحسنه للتحفظ علی المصلحة الواقعیة علی تقدیرها باستیفائها والاجتناب عن المفسدة الواقعیة علی تقدیرها بعدم الابتلاء بها، وهذا الحکم من العقل واقع فی سلسلة المعلومات والأحکام الشرعیة لا یلازم حکما شرعیا مولویا، وتنحصر الملازمة علی ما کان حکمه فی سلسلة علل الأحکام وملاکاتها، وبالجملة حکم العقل بحسن الاحتیاط کحکمه بحسن الطاعة فی کونه غیر قابل للحکم المولوی هذا بالإضافة إلی الحکم

ص :324

.··· . ··· .

النفسی، وأما بالإضافة إلی الحکم الشرعی المولوی الطریقی فإن شأنه تنجیز الثواب فی موارد الترخیص الظاهری، والمفروض استحقاق المکلف المثوبة بحکم العقل إما علی الطاعة أو الانقیاد مع قطع النظر عن أمر الشارع بالاحتیاط.

أقول: یظهر من بعض الأخبار أن للاحتیاط أثراً آخر مطلوباً غیر استیفاء ما فی الواقع من المصلحة علی تقدیر الوجوب وغیر عدم الابتلاء بالمفسدة علی تقدیر الحرمة وهو توطین النفس للاجتناب عن المحارم وتعودها علی المواظبة علی الواجبات نظیر قوله علیه السلام : «من ترک ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترک، والمعاصی حمی اللّه، ومن یرتع حول الحمی یوشک أن یدخلها»(1)، ولکن حکم العقل بحسنه لیس بهذا الملاک وظاهر عمدة الخطابات الشرعیة أن الأمر بالاحتیاط والوقوف عند الشبهات أنّه للتحفظ علی احتمال التکلیف وعدم الإبتلاء بالمفسدة الواقعیة، وهذا الأمر لا یکون إلاّ إرشادیا والکلام فی الأمر به مولویا طریقیا استحبابیا، وحیث إن هذا الأمر الطریقی لتنجیز الواقع عقابا أو لا أقل ثوابا، والمفروض عدم ترتبه علی الأمر به لاستقلال العقل باستحقاق المحتاط للمثوبة للطاعة أو للانقیاد فلا یبقی موجب للأمر الطریقی به .

اللهم إلاّ أن یقال: استقلال العقل بما ذکر ما لم یکن فی الاحتیاط جهة مرجوحة، ویحتمل مع قطع النظر عن الأخبار الواردة فیها الأمر به أن یکون فیه الجهة المشار الیها الموجبة للمزاحمة مع المصلحة الواقعیة أو المفسدة الواقعیة، وتکون مرجوحة عند الشارع، فللشارع الأمر بها طریقیا غیر لزومیٍّ لتنجیز الثواب، وعلیه فلا یقاس الأمر به بالأمر بالطاعة فی موارد ثبوت التکلیف وإحرازه، حیث لا یعقل

ص :325


1- 1) وسائل الشیعة 27:161، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 27.

.··· . ··· .

الأمر به إلاّ ارشادا ولیس کل حکم للعقل فی سلسلة الأحکام إرشادیا محضا، بل ربما یکون مولویا، وماورد فی بعض الروایات المشار إلیها من قبیل ذکر الفوائد المترتبة علی الاحتیاط ولیس من بیان ملاک أمر الشارع بالاحتیاط فی الشبهات کما لا یخفی.

الأمر الثانی، ذکر النائینی قدس سره أنه علی تقدیر کون الأمر بالاحتیاط مولویا، والبناء علی سرایة هذا الأمر إلی العمل، فلا یکون العمل عبادة إذا أتی بداعویة الأمر بالاحتیاط، بل الموجب لعبادیته علی تقدیر وجوبه واقعا وقوعه لاحتمال الوجوب الواقعی، وذلک فإن الأمر بالاحتیاط فی نفسه توصلی لجریانه فی التوصلیات أیضا، ودعوی أن الأمر بالاحتیاط یکتسب التعبدیة من الوجوب الواقعی علی تقدیره غیر صحیح، وذلک فإن العمل الواحد إذا تعلق به أمران أحدهما تعبدی والآخر توصلی، کما إذا نذر المکلف صلاة اللیل یکتسب الأمر التوصلی وهو وجوب الوفاء بالنذر التعبدیة من الاستحباب النفسی المتعلق بصلاة اللیل، فإن الأمر بوجوب الوفاء یسری إلی صلاة اللیل ولا یکون متعلقا بصلاة اللیل المستحبة، بأن یکون الأمر بها من ناحیة وجوب الوفاء بالنذر طولیا، حیث إنه لا یمکن الإتیان بصلاتها المستحبةً بعد تعلق النذر مستحیل، فلا یتعلق النذر إلاّ بصلاة اللیل والإتیان بها بداعویة الأمر بالوفاء بالنذر تجعلها عبادة، بخلاف ما إذا استؤجر للإتیان بعبادة مستحبة أو واجبة نیابة حیث یکون وجوب الوفاء بالإجارة فی طول الأمر بتلک العبادة المستحبة أو الواجبة، فالموجب لعبادیتها الإتیان بها لاستحبابها أو وجوبها فی نفسها، وإذا أتی بتلک العبادة بداعویة الأمر بالإجارة لا بداعی وجوبها أو استحبابها فی نفسها لا تکون عبادة لأنّ اکتساب العبادیة لوجوب الوفاء بالإجارة عن الوجوب أو

ص :326

.··· . ··· .

الاستحباب المتعلق بذلک الأمر لا یمکن لطولیة الأمر بالإجارة وتعدد متعلق الأمرین، وفی المقام أیضا، الأمر المتعلق بالفعل علی تقدیره واقعا مع الأمر بالاحتیاط، نظیر الأمر بالعمل مع الأمر بالوفاء بالإجارة طولی مع تعدد المتعلقین، فلا یمکن أن یکتسب الأمر بالاحتیاط العبادیة من الوجوب المحتمل واقعاً، علی تقدیر تعلقه بالعمل، بل لابد فی امتثال الوجوب المحتمل من الإتیان بالعبادة بداعی احتمال الأمر به لتقع عبادة.

أقول: قد ذکرنا فی بحث التعبدی والتوصلی أن کون فعل عبادة لا یسقط الأمر به بمجرد الإتیان بذات الفعل لاعتبار قصد التقرب وأخذه فی متعلق الأمر به، وإلاّ فلا فرق فی ناحیة نفس الأمر فی التوصلی والتعبدی حیث یکون الغرض من نفس الأمر بالمتعلق فیهما إمکان دعوته إلی متعلقه بوصوله إلی المکلف والمصحح لقصد القربة إضافة العمل إلی اللّه سبحانه بأن یؤتی بالفعل له، ویحصل هذا إذا حصل الفعل فی التوصلی بداعویة الأمر به إلی العمل والأمر بالاحتیاط أیضا توصلی، ولکن لا یکون الأمر به داعیا إلی العمل إلاّ إذا کان العمل مع قطع النظر عن الأمر بالاحتیاط مصداقا للاحتیاط، ولو قیل بأن الاحتیاط لا یتحقق إلاّ مع الإتیان بقصد التقرب الذی هو الإتیان بداعویة الأمر بالعمل فلا یتحقق هذا التقرب فیما دار أمر العبادة بین الوجوب وغیر الاستحباب، ولکن لو قلنا بکفایة مطلق إضافة الفعل إلی اللّه یکفی فی تحققه الإتیان لاحتمال وجوب العمل، وما ذکره قدس سره من أن المصحح لقصد التقرب للعبادة عن المنوب عنه الأمر النفسی التعبدی المتوجه إلی المنوب عنه فهذا لا یجری فی النیابة عن الموتی، مع أنه لا یعقل أن یکون الأمر المتوجه إلی المنوب عنه داعیا للأجیر إلی العمل، نعم النیابة عن المیت فی نفسها فیما فات عنه

ص :327

حینئذ، لعدم التمکن من قصد القربة المعتبر فیها، وقد عرفت أنه فاسد، وإنما اعتبر قصد القربة فیها عقلاً لأجل أن الغرض منها لا یکاد یحصل بدونه.

وعلیه کان جریان الاحتیاط فیه بمکان من الإمکان، ضرورة التمکن من الإتیان بما احتمل وجوبه بتمامه وکماله، غایة الأمر أنه لابد أن یؤتی به علی نحو لو کان مأموراً به لکان مقرباً، بأن یؤتی به بداعی احتمال الأمر أو احتمال کونه محبوباً له تعالی، فیقع حینئذ علی تقدیر الأمر به امتثالاً لأمره تعالی، وعلی تقدیر عدمه انقیاداً لجنابه (تبارک وتعالی)، ویستحق الثواب علی کل حال إما علی الطاعة أو الإنقیاد.

وقد انقدح بذلک أنه لا حاجة فی جریانه فی العبادات إلی تعلق أمر بها، بل لو فرض تعلقه بها لما کان من الاحتیاط بشیء، بل کسائر ما علم وجوبه أو استحبابه

مستحب وإذا صلی نیابة عنه بداعویة الأمر الاستحبابی یتحقق قصد التقرب، وإذا آجر نفسه علی القضاء عنه یکون متعلق الأمر بالإجارة ووجوب الوفاء بها عین متعلق ذلک الأمر الاستحبابی المتعلق بالنیابة فیکتسب الوجوب الآتی من قبل عقد الإجارة متحدا مع الأمر النفسی المتعلق بالنیابة نظیر اتحاد متعلق وجوب الوفاء بالنذر مع متعلق الأمر بصلاة اللیل، ولکن قد لا یکون ذلک الأمر النفسی، ومع ذلک تصح النیابة عن الغیر وتصح الإجارة ویتحقق قصد التقرب فی عمل الأجیر أیضا کما فی بعث المستطیع الذی صار عاجزاً عن المباشرة للغیر فی الحج عنه فی حجة الإسلام، فإن البعث تکلیف للعاجز والنیابة عنه بلا بعثه بإجارة أو غیرها غیر صحیحة، والسر فی ذلک أن مع قیام الدلیل علی مشروعیة البعث، لابد من الحکم بصحة النیابة عنه فی الحج، ومجرد قصد النائب الحج عنه وفاءً لعقد الإجارة یوجب تحقق قصد التقرب

ص :328

منها، کما لا یخفی.

فظهر أنه لو قیل بدلالة أخبار (من بلغه ثواب) علی استحباب العمل الذی بلغ علیه الثواب، ولو بخبر ضعیف لما کان یجدی فی جریانه[1].

وأخذ الاُجرة من قبیل الداعی إلی الداعی فلا ینافی قصده، وفیما نحن فیه أیضا إذ أتی المکلف العبادة _ المحتمل وجوبه _ بداعویة الأمر بالاحتیاط وکان فی الواقع واجبا حصل قصد القربة فلا ینحصر قصد التقرب فی کون الداعی إلی الإتیان به مجرد احتمال وجوبه بل یمکن أخذ احتمال الوجوب وصفا فی العمل ویؤتی بداعویة الأمر بالاحتیاط.

[1] قد یقال: بأنه إذا قیل بدلالة أخبار من بلغ علی استحباب العمل البالغ علیه الثواب ولو بخبر ضعیف، فیمکن جریان الاحتیاط فی العبادة الدائرة بین الوجوب وغیر الاستحباب أو الاستحباب وغیر الوجوب مع ورود خبر ضعیف فی وجوبها أو فی استحبابها، حیث یمکن الإتیان بها بداعویة الأمر الاستحبابی المستفاد من تلک الأخبار، ویتحقق بذلک قصد التقرب المعتبر فی العبادة، وأجاب الماتن قدس سره بأنه لو قیل باستحباب ذلک العمل بورود خبر ضعیف فی وجوبها أو استحبابها لا یکون الإتیان بها بداعویة هذا الأمر احتیاطا، بل من قبیل الإتیان بعمل مستحب بعنوانه الثانوی.

ثم قال: ولو قیل بأن ما ذکر فیما لو قیل بأن مفاد أخبار من بلغ استحباب العمل بعنوانه الثانوی، وأما إذا قلنا بأن مفادها استحبابها هو محتمل الوجوب أو الإستحباب بأن یستحب الإتیان بها بعنوان الاحتیاط فیصح الإتیان بها بداعویة هذا الأمر الاستحبابی، فیکون احتیاطا مع تحقق قصد التقرب، وأجاب عن ذلک أولاً: بأنه علی ذلک، فالأمر المستفاد کالأمر بالاحتیاط توصلی لا یوجب الإتیان بداعویته وقوع العمل

ص :329

فی خصوص ما دلّ علی وجوبه أو استحبابه خبر ضعیف، بل کان علیه مستحباً کسائر ما دل الدلیل علی استحبابه.

لا یقال: هذا لو قیل بدلالتها علی استحباب نفس العمل الذی بلغ علیه الثواب بعنوانه، وأما لو دلّ علی استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لکانت دالّة علی استحباب الإتیان به بعنوان الاحتیاط، کأوامر الاحتیاط، لو قیل بأنها للطلب المولوی لا الإرشادی.

فإنه یقال: إن الأمر بعنوان الاحتیاط ولو کان مولویاً لکان توصلیاً، مع أنه لو کان عبادیاً لما کان مصححاً للإحتیاط، ومجدیاً فی جریانه فی العبادات کما أشرنا إلیه آنفاً.

ثم إنه لا یبعد دلالة بعض تلک الأخبار علی استحباب ما بلغ علیه الثواب[1].

عبادة، فإن الموجب لوقوع العمل عبادة قصد الأمر التعبدی بها، وأجاب ثانیا: بأنه لو کان الأمر بالاحتیاط استحبابا تعبدیا فلا یجدی أیضا فی جریان الاحتیاط فی العبادة المرددة بین الوجوب وغیر الاستحباب، أو بین الاستحباب وغیر الوجوب؛ لأنّ الأمر الاستحبابی التعبدی تعلق بما یکون احتیاطا مع قطع النظر عن هذا الأمر کما تقدم سابقا.

أقول: قد تقدم أن قصد التقرب المعتبر فی العبادة هو إضافة العمل إلی اللّه سبحانه عند الإتیان مع تعلق الأمر به واقعا، وهذا القصد لا یتوقف علی إحراز الأمر به واقعا ولا علی ثبوت الأمر المولوی المتعلق به بعنوان الاحتیاط فلا نعید.

[1] ثم قال: ولو قیل بأن ما ذکر فیما لو قیل بأن مفاد أخبار من بلغ استحباب العمل بعنوانه الثانوی، وأما إذا قلنا بأن مفادها استحبابها هو محتمل الوجوب أو الاستحباب بأن یستحب الإتیان بها بعنوان الاحتیاط فیصح الإتیان بها بداعویة هذا

ص :330

.··· . ··· .

الأمر الاستحبابی، فیکون احتیاطاً مع تحقق قصد التقرب، وأجاب عن ذلک أولاً: بأنه علی ذلک، فالأمر المستفاد کالأمر بالاحتیاط توصلی لا یوجب الإتیان بداعویته وقوع العمل عبادة، فإن الموجب لوقوع العمل عبادة قصد الأمر التعبدی بها، وأجاب ثانیاً: بأنه لو کان الأمر بالاحتیاط استحباباً تعبدیاً فلا یجدی أیضاً فی جریان الاحتیاط فی العبادة المرددة بین الوجوب وغیر الاستحباب، أو بین الاستحباب وغیر الوجوب؛ لأنّ الأمر الاستحبابی التعبدی تعلق بما یکون الحتیاطاً مع قطع النظر عن هذا الأمر کما تقدم سابقاً.

أقول: قد تقدم أن قصد التقرب المعتبر فی العبادة هو إضافة العمل إلی اللّه سبحانه عند الإتیان مع تعلق الأمر به واقعاً، وهذا القصد لا یتوقف علی إحراز الأمر به واقعاً ولا علی ثبوت الأمر المولوی المتعلق به بعنوان الاحتیاط فلا نعید.

أقول: حیث أنجر الکلام إلی أخبار من بلغ فلا بأس بالنظر إلیها لیظهر أن مفادها استحباب نفس العمل البالغ علیه الثواب، کما هو ظاهر الماتن قدس سره أو استحباب الاحتیاط مولویا أو أن مفادها کمفاد الأخبار الواردة فی الاحتیاط إرشاد إلی حسن الاحتیاط، وقد جعل فی الوسائل من مقدمات العبادات بابا وروی فیه تسع روایات علی اختلاف مضامینها، والتام سندا منها روایتان.

إحداهما: ما عن المحاسن، عن علی بن الحکم، عن هشام بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «من بلغه عن النبی صلی الله علیه و آله شیء من الثواب فعمله کان أجر ذلک له وإن کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یقله»(1).

والاُخری: ما عن الکلینی قدس سره عن علی بن ابراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر،

ص :331


1- 1) وسائل الشیعة 1:81، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 4.

.··· . ··· .

عن هشام بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «من سمع شیئا من الثواب علی شیء فصنعه کان له، وإن لم یکن علی ما بلغه»(1)، وذکر الماتن أن المستفاد استحباب نفس العمل ببلوغ الثواب وکأن بلوغه یوجب استحبابه، ووجه الاستفادة ظهور الصحیحة الاُولی فی ترتب الثواب علی نفس العمل مطلقا، ولولم یکن الخبر البالغ به الثواب علیه صادقا وترتب الثواب علی نفس العمل یکشف عن استحبابه، فإنه لا معنی لترتبه علی نفس عمل لم یکن محبوبا شرعا، نعم لو کان ترتبه علی العمل برجاء إدراک الواقع واحتمال کونه مطلوبا واقعا، بأن کان بعنوان الاحتیاط لم یکن کاشفا عن استحباب نفس العمل حیث إن ترتب الثواب علی الانقیاد کترتبه علی الطاعة لا یکشف عن الأمر المولوی بهما.

وقد ذکر الشیخ قدس سره أن مدلولها ترتب الثواب علی العمل البالغ علیه الثواب فیما إذا أتی برجاء إدراک الواقع وبعنوان الاحتیاط، وعلیه فلا یکون ترتب الثواب علیه کاشفا عن استحباب نفس العمل ولو بعنوانه الثانوی، ووجه کون مدلولها ما ذکر أمران.

أحدهما: أنه سلام اللّه علیه فرّع العمل علی بلوغ الخبر، وقال: «من بلغه عن النبی صلی الله علیه و آله شیء من الثواب فعمله» ظاهره کون بلوغه داعیا له إلی العمل، وحیث إن داعویة الخبر البالغ عند ضعفه لاحتمال صدقه وأصابته الواقع فیکون الإتیان برجاء الواقع وترتب الثواب علی العمل کذلک لا یکشف عن استحبابه.

وثانیهما: أنه قد قیّد العمل المترتب علیه الثواب بما إذا کان الإتیان طلبا لقول النبی صلی الله علیه و آله فیکون التقیید موجبا لحمل سائر الإطلاقات علیه.

ص :332


1- 1) المصدر السابق: الحدیث 6.

.··· . ··· .

وقد أورد الماتن علی کل من الوجهین، أما ما أورد به علی الوجه الأول فلأن ظاهر الصحیحة وإن یکن ترتب العمل علی البلوغ وکونه هو الداعی له إلی الإتیان، إلاّ أن معنی الداعی أنه لولم یکن بلوغ الثواب علیه لم یعمل، وإذا دعاه البلوغ إلی العمل فتارة یقصده بما هو هو واُخری یقصده برجاء إصابة قول النبی صلی الله علیه و آله وحیث لم یقید فی الصحیحة الثواب المعطی بالصورة الثانیة لولم یکن ظاهرها ترتبه علی الإتیان بالنحو الأول یکون ذلک کاشفاً عن مطلوبیة ذلک الشیء ببلوغ الثواب علیه، وبالجملة فرض کون بلوغ خبر الثواب داعیا له إلی العمل لا یوجب تقیید عمله برجاء إدراک الواقع.

وأما الوجه الثانی: فإن حمل المطلق علی المقید إنما هو فی فرض وحدة الحکم بخلاف مثل المقام، حیث یمکن ترتب الثواب علی العمل بالخبر الذی بلغ به الثواب علیه، وما إذا أتی بالعمل المزبور لرجاء إدراک الواقع ویمکن بعد فرض استحباب العمل ببلوغ الخبر أن یکون إعطاء الثواب للإطاعة أی امتثال الأمر المتعلق بذلک العمل لا للاحتیاط والانقیاد فیکون وزان الأخبار وزان من سرح لحیته أو من صام یوم کذا أو صلی بکذا فله کذا، ولذا أفتی المشهور باستحباب العمل فی هذه الموارد.

أقول: إذا فرض البلوغ بخبر ضعیف فلا تکون داعویته إلی العمل إلاّ بالإتیان برجاء اصابة الواقع کما إذا کان البلوغ بخبر معتبر کان الإتیان به بنحو المطلوبیة الواقعیة لإحرازها، وترتب الثواب علی العمل فی بعض الروایات وإن کان صحیحا، إلاّ أن المراد العمل علی مقتضی البلوغ، والمراد من الأجر فی الصحیحة هو

ص :333

.··· . ··· .

خصوص الثواب البالغ فی الخبر لا مطلق الأجر والثواب، ویفصح عن کون المراد الثواب البالغ ظاهر صحیحة هشام بن سالم(1) المرویة فی «الکافی» فإنها مع ما فی «المحاسن»(2) روایة واحدة قد وصلت بطریقین.

والحاصل لا تکون الصحیحة بظاهرها استحباب نفس العمل البالغ علیه الثواب حتی مع فرض عدم صدق الخبر، بل ولا استحباب العمل بالاحتیاط مولویا، فإن الثواب المعطی إما علی الطاعة أو الانقیاد، کما لا مجال لدعوی أن المستفاد من تلک الأخبار إلغاء الشرائط المعتبرة فی اعتبار الخبر بالإضافة إلی الأخبار الواردة فی المستحبات أو مطلق غیر الإلزامیات، والوجه فی عدم المجال لها أن الوارد فی الأخبار إعطاء الثواب البالغ للعامل حتی فی فرض عدم صدق الخبر، وهذا لیس من لوازم الحجیة للخبر لیکون ترتّبه کاشفاً عن اعتبار الخبر، ولو کان المراد منها إلغاء الشرائط المعتبرة فی حجیة الخبر فی الإلزامیات لو ردّ الأمر فیها بالعمل علی الخبر سواء عرف المخبر بالعدالة أو الثقة أو جهل أو عرف بخلاف ذلک، ومما ذکر یظهر أنه لا یترتب علی ذلک العمل الأثر المترتب علی العمل المشروع والمستحب، کما إذا بنی علی استغناء کل غسل مستحب أو واجب عن الوضوء فلا تترتب مشروعیة الاستغناء واستحبابه علی الغسل الوارد فی خبر ضعیف أو ورد خبر _ فی طریقه ضعف _ فی ترتب الثواب علیه.

لا یقال: علی ما ذکر فلا تکون أخبار من بلغ إلاّ متضمنة لحکم إرشادی محض ویصبح کاللغو، حیث إن الأمر بالاحتیاط مغنٍ عن هذا الإرشاد، والعقل مستقل

ص :334


1- 1) الکافی 2:71، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 1:81، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحدیث 3، عن المحاسن: 25.

فإن صحیحة هشام بن سالم المحکیة عن المحاسن، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: (من بلغه عن النبی صلی الله علیه و آله شیء من الثواب فعمله، کان أجر ذلک له، وإن کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یقله) ظاهرة فی أن الأجر کان مترتباً علی نفس العمل الذی بلغه عنه صلی الله علیه و آله أنه ذو ثواب، وکون العمل متفرعاً علی البلوغ، وکونه الداعی إلی العمل

باستحقاق المنقاد للتفضل علیه بالثواب کاستحقاق المطیع، مع أن ظاهر الأخبار ثبوت خصوصیة فی مدلولها.

فإنه یقال یزید مدلول هذه الأخبار علی ما هو عند العقل بکون الانقیاد موجبا للتفضل علیه بالثواب، وأما تعیین ذلک الثواب فلا سبیل للعقل إلیه، وظاهر صحیحة هشام بن سالم بل وغیرها یعیّن الثواب بالثواب البالغ فی الخبر سواء کان صدقاً أم لا.

فیکون مدلولها الوعد بالتفضل الخاص، نظیر قوله سبحانه «ومن یطع اللّه ورسوله یدخله جنات تجری من تحتها الأنهار»(1) حیث لا یستقل العقل باستحقاق المطیع هذا الثواب قبل الوعد به.

فی الثمرة بین الأقوال فی أخبار من بلغ

وربما یقال بظهور الثمرة فیما إذا ورد خبر ضعیف فی کون عمل ذا ثواب، ودل إطلاق أو عموم فی خطاب معتبر علی حرمته، فإنه بناءً علی کون روایات من بلغ دالة علی عدم اعتبار القیود المعتبرة فی الخبر القائم بالاستحباب یکون الخبر المفروض مقیدا أو مخصصا لإطلاق الحرمة أو عمومها، وبناءً علی کون مفادها استحباب ذلک العمل ببلوغ ذلک الخبر یکون الاستحباب المستفاد من تلک الروایات مزاحما للحرمة المستفادة من العموم أو الإطلاق، فیقدم التحریم لعدم

ص :335


1- 1) سورة النساء: الآیة 13.

غیر موجب لأن یکون الثواب إنما یکون مترتباً علیه، فیما إذا أتی برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتیاط، بداهة أن الداعی إلی العمل لا یوجب له وجهاً وعنواناً یؤتی به بذاک الوجه والعنوان.

وإتیان العمل بداعی طلب قول النبی صلی الله علیه و آله کما قیّد به فی بعض الأخبار، وإن

صلاحیة الحکم غیر الإلزامی للمزاحمة مع الإلزامی.

وفیه أن الحکم الثابت للفعل بعنوانه الثانوی یتقدم علی الحکم الثابت له بعنوانه الأولی، کما إذا ورد الترخیص فی الکذب الدافع لضرر الغیر عنه، أو مؤمن آخر فإنه یقدم علی الحکم الثابت له بعنوانه الأولی، وما یقال من أن الحکم غیر الإلزامی لا یزاحم الإلزامی، إنما هو فی تزاحم الحکمین فی مقام الموافقة والامتثال لا فی مقام تزاحم الملاکات، فإن ملاک غیر الإلزامی یمکن أن یمنع عن تمامیة ملاک الحکم الإلزامی، والتزاحم مع وحدة الفعل فی الحکمین إنما هو فی ملاکهما لا محالة؛ لأنّ الفعل الواحد لا یتحمل حکمین مختلفین، ولکن الصحیح فی المقام عدم تخصیص العام أو المطلق به سواء قیل بأنّ مفاد أخبار من بلغ بیان صیرورة الفعل بقیام الخبر مستحبا أم قیل بأن مفادها عدم اعتبار الشرائط المعتبرة فی ناحیة الخبر القائم بالإلزامیات فی الخبر القائم بغیر الإلزامیات، فإنها ناظرة إلی العمل الذی ورد فیه ثواب فقط، ولا یعم ما ورد فیه الدلالة علی العقاب أیضاً، کما هو مقتضی العموم فی خطاب التحریم أو إطلاقه، فإن الخبر الضعیف لا یکون معتبرا فی الفرض ولا موجباً لاستحبابه.

وربما یقال: بظهور الثمرة فیما إذا أفتی بعض الفقهاء باستحباب عمل أو وجوبه فإنه بناء علی عدم اعتبار الشرائط فی البلوغ وصیرورته بلوغاً معتبرا یمکن للفقیه الآخر الفتوی باستحباب ذلک العمل ولولم یکن فی البین إلاّ فتوی بعض الأصحاب

ص :336

کان انقیاداً، إلاّ أن الثواب فی الصحیحة انما رتب علی نفس العمل، ولا موجب لتقییدها به، لعدم المنافاة بینهما، بل لو أتی به کذلک أو إلتماساً للثواب الموعود، کما قید به فی بعضها الآخر، لأوتی الأجر والثواب علی نفس العمل، لا بما هو احتیاط وانقیاد، فیکشف عن کونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فیکون وزانه وزان (من سرح لحیته) أو (من صلی أو صام فله کذا) ولعله لذلک أفتی المشهور بالإستحباب، فافهم وتأمل.

إذا احتمل فیه إصابة الواقع، وفیه أنه لو قیل بعدم اعتبار الشرائط فی الخبر الوارد فی الثواب علی عمل وأنه یکون مدرکا للاستحباب أو موجباً له فلا یتعدی إلی موارد فتوی البعض، لأنه إن علم المدرک للفتوی بالإستحباب أو الوجوب ولوحظ عدم تمامیته فلا یصدق بلوغ الثواب فیه عن النبی صلی الله علیه و آله أو المعصوم علیه السلام ، ألا تری أنه لا یصدق بلوغ نجاسة ماء البئر عن النبی صلی الله علیه و آله بوقوع النجس فیه مع ملاحظة فتوی المشهور بها، بل إذا لم یحرز المدرک لم یحرز صدق البلوغ، حیث إن الفتوی إبراز لحدسه وإنشاء له لا نقل شیء عن النبی صلی الله علیه و آله أو المعصوم علیه السلام ، ثم إن الشیخ قدس سره ذکر فی الرسالة بظهور الثمرة فی موردین:

الأول: جواز المسح ببلّة المسترسل من اللحیة کما لو قام خبر ضعیف علی استحبابه وقلنا بثبوت الاستحباب بالخبر الضعیف، ولا یجوز المسح ببلته بناءً علی عدم ثبوت الاستحباب بذلک الخبر، وناقش فی ذلک الماتن قدس سره فی تعلیقته علی الرسالة، بأنه إذا کان غسل المسترسل من قبیل المستحب فی الواجب ولا یکون من أجزاء الوضوء لیجوز المسح ببلته، نعم لو کان مدلول الخبر کونه جزءاً مستحباً فلا بأس بالمسح ببلته.

إلاّ أن یقال: ما دلّ علی اعتبار المسح ببلة الوضوء کونها من بلة الأعضاء الأصلیة.

أقول: الجزء المستحب مع تغایر الواجب مع المستحب بأن یکون للمستحب

ص :337

.··· . ··· .

وجود انضمامی إلی الواجب غیر صحیح، بل یکون دائما من قبیل المستحب النفسی فی ضمن واجب فلا یجوز المسح ببلته إلاّ إذا کان استحبابه ملازما لجواز المسح ببلته، کما إذا قیل باستحباب الغسل مرتین فی أعضاء الوضوء، فإنه یستلزم هذا الاستحباب جواز المسح ببلة الغسلة الثانیة.

الثانی: ما إذا قام خبر ضعیف باستحباب الوضوء للنوم مثلاً فإنه بناءً علی ثبوت الاستحباب بالخبر الضعیف یرتفع الحدث، وأما مع عدم ثبوته لا یحرز ارتفاع الحدث به، وفیه أن الوضوء فی نفسه مستحب من المحدث، ولکن یعتبر فی صحته قصد التقرب، وقد تقدم أن العمل برجاء الاستحباب من قصد التقرب فلا مجال للتأمل فی کونه طهارة من الحدث بالأصغر، والحمد للّه رب العالمین.

ص :338

الثالث: أنّه لا یخفی أن النهی عن شیء إذا کان بمعنی طلب ترکه فی زمان أو مکان[1].

أقسام النهی عن الشیء

[1] قد یقال بعدم جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیة، ولا مورد فیها لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ ما علی المولی بیان النهی عن الطبیعی والمفروض أنه محرز وواصل إلی المکلف، ومع ارتکاب المشتبه لا یحرز امتثال النهی عن الطبیعی فیکون ترک المشکوک مقتضی قاعدة الاشتغال، وذکر الماتن قدس سره أن النهی عن الطبیعی علی نحوین:

النحول الأول: ما إذا تعلّق بصرف وجود الطبیعی بحیث تکون موافقته بترک جمیع أفراده، ومخالفته بارتکاب أول وجود منه، حیث بعد تحقق أول الوجود لا یبقی نهی عنه لیکون الاجتناب عنه موافقة وارتکابه مخالفة، عکس ما إذا تعلق الأمر بالطبیعی بمعنی طلب صرف الوجود، فإنه بالإتیان بصرف الوجود تحصل الموافقة، وبترک جمیع أفراده تحصل المخالفة، ولو کان النهی عن الطبیعی بهذا النحو یلزم الاجتناب عن الفرد المشکوک لاحراز ترک الطبیعی وعدم ارتکاب المنهی عنه یعنی الاتیان بصرف الوجود.

نعم، إذا کان المکلف تارکا لصرف الوجود من قبل فیحکم بجواز ارتکاب الفرد المشتبه بالاستصحاب فی ترک الطبیعی مع الاتیان به، فإنه کما یحرز امتثال الواجب والإتیان بصرف وجوده بالأصل کما إذا جری الاستصحاب فی وضوئه، کذلک یحرز موافقة النهی وترک الطبیعی بالأصل.

وعلی الجملة، فالفرد المشتبه فی هذا النحو من النهی عن الطبیعی خارج عن مورد أصالة البراءة، ولو جاز ترکه کما إذا کان المکلف تارکا لصرف وجود الطبیعی

ص :339

.··· . ··· .

من قبل فجواز ارتکابه للاستصحاب لا لأصالة البراءة.

ودعوی العلم الإجمالی بعدم جواز ارتکاب المشتبه أو الفرد الآخر بعد ارتکابه، ومقتضی هذا العلم الاجتناب عن المشتبه أیضا، کما تری لعدم کون هذا العلم منجزا مع جریان الاستصحاب فی بقاء النهی بعد ارتکاب المشتبه، حیث إن مقتضاه ترک الفرد الآخر بعد ارتکاب المشتبه للعلم بمخالفة النهی بعد ارتکابه، وتحقق ما هو متعلقه إما بارتکابه أو بارتکاب الفرد المشتبه من قبل، وبعد إحراز بقاء التکلیف بعد ارتکاب المشتبه بالاستصحاب بعدم کون المشتبه من فرد الطبیعی أو عدم تحقق صرف الوجود منه یلزم رعایة التکلیف بترک الفرد الآخر.

أقول: مما ذکرنا أخیرا یظهر أنه لا یختص جواز ارتکاب المشتبه بما إذا کان المکلف قبل فعلیة النهی فی حقه تارکا لصرف الوجود من الطبیعی لیستصحب بعد ارتکاب المشتبه فیحرز به الامتثال، بل الاستصحاب یجری فی ناحیة عدم کون ارتکاب المشتبه من تحقق صرف وجود الطبیعی ویثبت به بقاء التکلیف ولو کان ارتکاب المشتبه عند فعلیة التکلیف من بقاء ارتکابه.

وقد یقال: ما نحن فیه من قبیل دوران تکلیف النهی بین أن یتعلق بالأکثر أو بالأقل، وقد یأتی أن المرجع فیه أصالة البراءة عن تعلقه بالأکثر، وبیان ذلک أن تعلق النهی بحیث یکون الزجر عن جمیع الأفراد ثبوتاً زجراً واحداً تعلقه بمجموع سائر الأفراد محرز، والشک فی کون المشکوک أیضا مزجور بزجر ضمنی فی ضمن تعلق ذلک بمجموع الأفراد أو لم یتعلق به زجر، فأصالة البراءة عن تعلقه بالمشکوک جاریة، ولکن لا یخفی أن تعلق النهی بصرف الوجود لیس من تعلقه ثبوتا بمجموع أفراده جمیعاً، بل ترک جمیع الأفراد حکم عقلی حیث إن الطبیعی لا ینعدم إلاّ بترک

ص :340

بحیث لو وجد فی ذاک الزمان أو المکان ولو دفعة لما امتثل أصلاً، کان اللازم علی المکلف إحراز أنه ترکه بالمرّة ولو بالأصل، فلا یجوز الإتیان بشیء یشک معه فی ترکه، إلاّ إذا کان مسبوقاً به لیستصحب مع الإتیان به.

نعم، لو کان بمعنی طلب ترک کل فرد منه علی حدة، لما وجب إلاّ ترک ما علم أنه فرد، وحیث لم یعلم تعلق النهی إلاّ بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة

جمیعها فإدخال المقام فی بحث الأقل والأکثر الارتباطیین غیر تام.

النحو الثانی: من تعلق النهی بالطبیعی، ما إذا کان النهی عن الطبیعی انحلالیا بأن یعتبر ثبوتا الحرمة لکل وجود منه لتحقق ملاک الحرمة فی کل من وجوداته کما هو الحال فی جل الخطابات فی المحرمات، وفی هذا القسم تجری أصالة البراءة بالإضافة إلی حرمة المشکوک، فإن خطاب النهی عن الطبیعی علی نحو الانحلال إنما یکون بیانا للحرمة بعد إحراز صغراها لعدم تکفل الخطاب الذی هو بمفاد القضیة الحقیقیة لتعیین صغریاتها، ومع عدم إحرازها فی مورد یکون العقاب علی المخالفة علی تقدیر الصغری من العقاب بلا بیان، ولا أقل من أصالة البراءة وأصالة الحل فیه.

ثم إنه لا ینحصر النهی عن شیء علی أحد النحوین المذکورین، بل یمکن کونه بأحد نحوین آخرین.

أحدهما: کما إذا تعلق النهی بمجموع أفراد الطبیعی فی زمان أو مکان، بأن یکون المراد والمزجور عنه الإتیان بجمیع الأفراد فلا یکون الإتیان ببعضها مع ترک البعض الآخر منهیاً عنه، ویجوز فی الفرض الإتیان ببعض أفراده المحرز کونها أفراداً له، فکیف الإتیان بالمشکوک مع ترک أفراده، نعم یقع البحث فی هذا الفرض فی جواز الإتیان بجمیع أفراده المحرز کونها أفرادا له مع ترک المشکوک، فیقال: الظاهر عدم البأس بذلک؛ لأنّ تعلق النهی بجمیعها مع الاتیان بالمشکوک محرز وتعلقه بها

ص :341

فی المصادیق المشتبهة محکمة.

فانقدح بذلک أن مجرد العلم بتحریم شیء لا یوجب لزوم الإجتناب عن أفراده المشتبهة، فیما کان المطلوب بالنهی طلب ترک کل فرد علی حدة، أو کان الشیء مسبوقاً بالترک، وإلاّ لوجب الإجتناب عنها عقلاً لتحصیل الفراغ قطعاً، فکما یجب فیما علم وجوب شیء إحراز إتیانه إطاعة لأمره، فکذلک یجب فیما علم حرمته إحراز ترکه وعدم إتیانه امتثالاً لنهیه.

مع ترک المشکوک غیر معلوم فتجری أصالة البراءة فی ناحیة تعلقه بها بدون الإتیان بالمشکوک، والمقام عکس ما ذکر فی الواجب الارتباطی المردد أمره بین الأقل والأکثر؛ لأنّ ترک الأقل فی الواجب الارتباطی یوجب العلم بمخالفة التکلیف الوجوبی، بخلاف ترک الجزء المشکوک جزئیته مع الاتیان بالباقی بخلاف المقام، فإن الإتیان بالأفراد المحرزة مع المشکوک یوجب العلم بمخالفة النهی، بخلاف الإتیان بها مع ترک المشکوک.

أقول: هذا إذا لم یکن فی البین أصل موضوعی یثبت عدم کون المشکوک من أفراد الطبیعی، وإلاّ یحرز عدم کونه داخلاً فی تعلق النهی.

والنحو الآخر: أن یتعلق النهی عن جمیع أفراد الشیء لحصول الأمر البسیط المطلوب من ترک الجمیع، کما إذا قیل بأن المطلوب وقوع الصلاة فی غیر ما لا یؤکل لا اعتبار المانعیة لکل ما یدخل فی الأجزاء أو توابع ما لا یؤکل لتجری أصالة البراءة عن مانعیة المشکوک، نعم لو کان المصلی بدأ صلاته فی غیر ما لا یؤکل لحمه یقینا ثم لبس فی الأثناء ما یشک کونه مما لا یؤکل فیمکن القول بجوازه بالاستصحاب فی بقاء وقوع صلاته فی غیر ما لا یؤکل، بل لا یبعد جریان الاستصحاب فیما لم یکن مع المکلف ما لا یؤکل قبل الصلاة، ثم لبس عند الدخول بها ما یشک فی کونه مما

ص :342

غایة الأمر کما یحرز وجود الواجب بالأصل، کذلک یحرز ترک الحرام به، والفرد المشتبه وإن کان مقتضی أصالة البراءة جواز الإقتحام فیه، إلاّ أن قضیة لزوم إحراز الترک اللازم وجوب التحرز عنه، ولا یکاد یحرز إلاّ بترک المشتبه أیضاً، فتفطن.

لا یؤکل إذا کان المعتبر فی الصلاة عدم کون ما لا یؤکل معه، فإنه علی هذا التقدیر یکون المعتبر فی الصلاة بمعنی (واو) الجمع، فالصلاة محرزة بالوجدان وعدم حصول ما لا یؤکل معه فی زمان وقوعها بالأصل، وبضمیمة الوجدان إلی ما اُحرز بالاستصحاب یحرز وقوع متعلّق التکلیف، هذا علی تقدیر کون المأخوذ فی الصلاة وصفا للمصلی وأما إذا کان المأخوذ فی الصلاة وصف اللباس، بأن لا یکون لباسه مما لا یؤکل لحمه، فبناءً علی ما هو الصحیح من جریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیة یجری الاستصحاب فی عدم کون الثوب مما لا یؤکل ولو بنحو العدم الأزلی، ولکن ما ذکر إنما هو فی مقام التصویر. وإلاّ فظاهر النهی عن الطبیعی سواء کان النهی تکلیفیا أو وضعیا فی الانحلال، وعلیه فأصالة البراءة عن مانعیة المشکوک للصلاة جاریة.

لا یقال: الاستصحاب فی عدم کون اللباس من غیر مأکول اللحم أو عدم کون المصلی لابسا غیر مأکول اللحم لا یفید شیئا، فإن المستفاد من موثقة ابن بکیر قوله علیه السلام : لا تقبل تلک الصلاة حتی یصلی فی غیره مما أحل اللّه أکله»(1)، اشتراط کون الثوب ونحوه علی تقدیر کونه من الحیوان من مأکول اللحم، والاستصحاب فی عدم کونه من غیر مأکول اللحم لا یثبت کونه مما یؤکل.

فإنه یقال: ظاهر الصدر کون ما لا یؤکل لحمه وتوابعه مع المصلی مبطل، وکونه معه حرام وضعا، ولا یعتبر فی الصلاة کونها فی أجزاء الحیوان، وذکر مما أحل اللّه

ص :343


1- 1) وسائل الشیعة 4:345، الباب 2 من أبواب لباس المصلی، الحدیث الأول.

الرابع: إنه قد عرفت حسن الاحتیاط عقلاً ونقلاً، ولا یخفی أنه مطلقا کذلک حتی فیما کان هناک حجة علی عدم الوجوب أو الحرمة[1]. أو أمارة معتبرة علی أنه لیس فرداً للواجب أو الحرام، ما لم یخل بالنظام فعلاً، فالاحتیاط قبل ذلک مطلقاً یقع حسناً، کان فی الأمور المهمة کالدماء والفروج أو غیرها، وکان احتمال التکلیف قویاً أو ضعیفاً، کانت الحجة علی خلافه أو لا، کما أن الاحتیاط الموجب لذلک لا یکون حسناً کذلک، وإن کان الراجح لمن التفت إلی ذلک من أول الأمر ترجیح بعض الاحتیاطات احتمالاً أو محتملاً، فافهم.

أکله فی الذیل باعتبار عدم المانع معه، لا أن کونها فیما یؤکل لحمه شرط لها.

[1] لا ینبغی التأمل فی أن حسن الاحتیاط لا ینحصر علی موارد جریان أصالة البراءة أو غیرها من الأصل النافی للتکلیف، بل یجری حتی فیما قامت الأمارة المعتبرة علی نفی التکلیف فی الواقع، فإنّه مع احتمال التکلیف الواقعی یحسن عقلاً بل شرعا رعایة احتماله بموافقة ذلک التکلیف علی تقدیره واستیفاء ملاکه، ویقال: إن حسن الاحتیاط مقیّد بما إذا لم یکن موجبا لاختلال النظام، ولکن لا یخفی أن عدم حسن الاحتیاط مع استلزامه اختلال النظام لعدم تحققه لا عدم حسنه مع تحققه، فإن الاحتیاط هو الاتیان بما یحتمل کونه محبوبا وموافقته للتکلیف الواقعی علی تقدیره، ومع بلوغه إلی حد الاختلال یکون العمل مبغوضا من غیر أن یکون احتیاطا، والملتفت إلی کون الاحتیاط فی جمیع الوقائع کذلک له طریقان.

الأول: أن یأخذ بالاحتیاط فی جمیع ما یبتلی به بلا فرق بین کون التکلیف المحتمل فی بعضها غیر أهم أو احتماله ضعیفا إلی أن یصل إلی حد الاختلال، ویترکه بعد ذلک فیکون الاحتیاط فی جمیع الوقایع ولکن فی فترة من الزمان.

الثانی: اختیار بعض الوقائع من الأول والاحتیاط فی مثلها مما کان التکلیف

ص :344

.··· . ··· .

المحتمل فیه أهم أو احتماله قویا، وذکر الماتن وغیره أن اختیار الثانی لمن التفت إلی ما ذکر من أول الأمر أولی، ولعل وجه الأولویة ما ورد عنهم علیهم السلام أن القلیل من الخیر مع دوامه أولی من الخیر الکثیر الذی لا یدوم.

نعم، هذا مع فرض عدم وجوب الاحتیاط کما هو المفروض فی المقام لکون الموارد من موارد الأصل النافی أو الطریق النافی، وأما مع العلم الإجمالی بالتکالیف فی الوقایع ووصول النوبة إلی أصالة الاحتیاط، وکونه مستلزما لإخلال النظام أو الحرج، فالمتعین هو الوجه الأول إلاّ أن یدخل الفرض فی مقدمات دلیل الانسداد.

ص :345

ص :346

فصل

إذا دار الأمر بین وجوب شیء وحرمته لعدم نهوض حجة علی أحدهما تفصیلاً بعد نهوضها علیه إجمالاً ففیه وجوه[1].

أصالة التخییر

[1] مورد الکلام فی المقام أن یدور حکم الفعل بین الوجوب والحرمة من غیر احتمال إباحته واقعا، وإلاّ لکان من مورد أصالة البراءة بل أولی بها مما تقدم الکلام فیه لعدم جریان ما ذکر وجهاً للاحتیاط فی الشبهات التحریمیة علی دوران حکم الفعل بین الوجوب والحرمة والإباحة، وأیضا مورد الکلام ما إذا لم یکن واحد من الاحتمالین الوجوب أو الحرمة بعینه مورداً للاستصحاب، وإلاّ لانحل العلم الإجمالی بالاستصحاب فی التکلیف السابق فی الشبهات الموضوعیة بل الحکمیة بناءً علی اعتبار الاستصحاب فیها، ثم إنه قد یکون کل من الوجوب والحرمة علی تقدیره واقعا توصلیا أو کان الوجوب علی تقدیره واقعا تعبدیا، وفی کل من الفرضین قد تکون الواقعة مکررة _ ولو بحسب عمود الزمان _ أو لا یکون فیها تکرار، والکلام یقع فی مقامات ثلاثة، الأول: ما إذا کان کل من الوجوب والحرمة توصلیا مع عدم تکرار الواقعة، الثانی: ما إذا کان أحدهما بعینه أو کلاهما تعبدیا مع عدم تکرارها، الثالث: ما إذا کان الدوران مع تکرار الواقعة.

أما المقام الأول: فالاحتمالات بل الأقوال فیه خمسة أولها: جریان البراءة فی کل من احتمالی الحرمة والوجوب عقلاً ونقلاً، وثانیها: الأخذ بجانب احتمال الحرمة بدعوی أن دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة، وثالثها: التخییر فی الأخذ بأحد الاحتمالین والالتزام به والعمل علی طبقه، نظیر التخییر بین الخبرین المتعارضین،

ص :347

.··· . ··· .

ورابعها: التخییر فی الواقعة بین الفعل والترک بتخییر عقلی قهری لعدم خلو الإنسان من الفعل أو الترک من غیر أن یحکم الفعل بالبراءة عقلاً وشرعا، وخامسها: التخییر العقلی القهری مع الحکم بإباحة الفعل ظاهرا بأدلة الحل، والأخیر مختار الماتن قدس سره ولکن الصحیح علی ما نذکر هو الوجه الأول؛ لأنّ کلاً من الوجوب والحرمة تکلیف محتمل ولم یتم له البیان، فیکون العقاب علی خصوص أحدهما لو اتفق واقعا قبیحا کما یجری بالإضافة إلی کل من المحتملین، قوله صلی الله علیه و آله : «رفع عن اُمتی ما لا یعملون»(1). ودعوی أنه لا مجال فی الواقعة لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، حیث لا قصور فی المقام فی ناحیة البیان. فإن العلم الإجمالی بیان وإنما یکون عدم تنجز التکلیف لعدم التمکن من الموافقة القطعیة کالمخالفة القطعیة، ولذا لو کان متمکنا من الاحتیاط کما إذا علم إجمالاً بوجوب فعل أو حرمة الآخر لزم الإتیان بالأول، وترک الثانی إحرازاً لموافقة التکلیف المعلوم بالإجمال لا یمکن المساعدة علیها؛ لما تقدم من أن المراد من البیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو المصحح للعقاب علی المخالفة، ومن الظاهر أن العلم الإجمالی بالإلزام الجامع بین الوجوب والحرمة مع وحدة المتعلق کما هو المفروض فی دوران الأمر بین المحذورین لا یصحح العقاب علی مخالفة خصوص أحد المحتملین، بخلاف ما إذا کان العلم الإجمالی بأحدهما مع تعدد المتعلق کما فی المثال، کما أن دعوی أنه لا مجال فی المقام للبراءة الشرعیة؛ لأنّ جعل الحکم الظاهری إنما یصح إذا لم یعلم بمخالفته الواقع، وأن یکون لذلک الحکم الظاهری أثر عملی.

ص :348


1- 1) وسائل الشیعة 15:370، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحدیث 3.

.··· . ··· .

وبتعبیر آخر إنما تجری البراءة عن التکلیف المجهول إذا کان وضعه الظاهری ممکناً، والوضع الظاهری یکون بإیجاب الاحتیاط. وهذا الوضع غیر ممکن لعدم إمکان الوضع والاحتیاط فی الواقعة لا یمکن المساعدة علیها أیضا؛ لأنّ البراءة الجاریة فی ناحیة الوجوب المحتمل لا یعلم مخالفتها للواقع، وکذلک أصالة البراءة الجاریة فی ناحیة خصوص الحرمة المحتملة، والعلم الإجمالی بمخالفة أحدهما للواقع مع عدم إمکان إحراز المخالفة وعدم امکان الموافقة القطعیة غیر مانع من جریان الأصل، والأثر المترتب علی البراءة، فی کل من المحتملین عدم لزوم رعایة کل منهما بخصوصه.

وعلی الجملة الوضع فی خصوص أحد المحتملین ممکن، یرفع احتماله بأصالة البراءة الجاریة فی کل منهما، وإنما لا یمکن وضعهما معا، ولا یعتبر فی جریان البراءة فی خصوص تکلیف محتمل إمکان وضع تکلیف آخر محتمل معه، ثم إنه إن کان مراد الماتن من أصالة الإباحة أصالة البراءة فی کل من الوجوب المحتمل والحرمة المحتملة فهو صحیح کما ذکرنا، وإن أراد الحلیة المقابلة للحرمة والوجوب فهی للعلم بعدمها واقعا غیر ممکن، والحلیة المستفادة من قوله علیه السلام «کل شیء هو لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه»(1) هی الحلیة المقابلة للحرمة فقط، ومع جریانها فی المقام یبقی احتمال الوجوب، فلابد من نفی احتمال لزوم رعایته من التمسک بأصالة البراءة.

وأما الأخذ بجانب الحرمة المحتملة بدعوی أن دفع المفسدة أولی من جلب

ص :349


1- 1) الکافی 5:313، الحدیث 40. مع اختلاف یسیر.

الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً لعموم النقل، وحکم العقل بقبح المؤاخذة علی خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، ووجوب الأخذ بأحدهما تعییناً أو تخییراً، والتخییر بین الترک والفعل عقلاً، مع التوقف عن الحکم به رأساً، أو مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً، أوجهها الأخیر، لعدم الترجیح بین الفعل والترک، وشمول مثل (کل شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام) له، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً.

المنفعة والالتزام بحرمة الفعل غیر صحیح، فإنه تشریع أولاً، ومع الغمض عنه ان ارتکاب الفعل مع احتمال حرمته فی الشبهة الحکمیه أو الموضوعیة التحریمیة جائز کما تقدم، وجواز الارتکاب المزبور مقتضاه عدم لزوم رعایة المفسدة المحتملة مع العلم بعدم المصلحة فی الفعل أصلاً فما الظن بارتکاب فعل یحتمل فیه المصلحة وعدم المفسدة کما فی المفروض فی المقام.

وکذا احتمال التخییر بین الأخذ بالوجوب المحتمل أو الحرمة المحتملة، فإنه لا دلیل علیه، وقیام الدلیل علیه فی الخبرین المتعارضین علی تقدیره لا یوجب التعدی إلی المقام، فإنه لا یمکن التعدی إلی سائر الأمارات فضلاً عما إذا لم یکن فی البین إلاّ احتمال الوجوب والحرمة، وذکر الماتن قدس سره أن التخییر بین المتعارضین علی مسلک السببیة علی القاعدة ولکنه أمر غیر صحیح، فإن مقتضی القاعدة التساقط عند التعارض من غیر فرق بین مسلکی السببیة والطریقیة؛ لما یأتی فی باب التعارض من أن ثبوت المدلول الالتزامی لکل من الخبرین لنفی مدلول الآخر یوجب أن لا یتم الصلاح والفساد فی ناحیة الفعل الذی قام الخبران المتعارضان علی حکمه، هذا بناءً علی کون المراد من التخییر، التخییر فی المسألة الاُصولیة، وأما بالاضافة إلی التخییر فی المسألة الفرعیة بأن یلتزم بتعلق تکلیف بالجامع بین الفعل والترک فهو أمر غیر

ص :350

وقد عرفت أنه لا یجب موافقة الأحکام التزاماً، ولو وجب لکان الإلتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممکناً، والإلتزام التفصیلی بأحدهما لو لم یکن تشریعاً محرماً لما نهض علی وجوبه دلیل قطعاً، وقیاسه بتعارض الخبرین _ الدالّ أحدهما علی

معقول، فإن حصول الجامع قهری لا یحتاج إلی التکلیف ویکون التکلیف به من طلب الحاصل، وأما التخییر فی مقام التزاحم بین التکلیفین فهو راجع إلی حکم العقل فی مقام الامتثال بعد ثبوت کل من التکلیفین بفعلیة الموضوع لکل منهما وکون صرف القدرة فی موافقة أحدهما موجبا لارتفاع الموضوع للآخر.

ومما ذکرنا یظهر أنه لا بأس بجریان الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل کل من الوجوب والحرمة إذا کانت الشبهة حکمیة، وعدم کون المورد من موضوع الوجوب وموضوع الحرمة فیما إذا کانت الشبهة موضوعیة، ولزوم المخالفة الالتزامیة مع عدم لزوم المخالفة العملیة القطعیة مع عدم إمکان الموافقة کذلک لا محذور فیه، کما إذا کان الواحد من الوجوب أو الحرمة حالة سابقة یؤخذ بها ویلزم العمل علی طبقه، ولا یبقی للأصل النافی فی المحتمل الآخر موضوع أو منافاة مع الاستصحاب الجاری فی ناحیة المحتمل الآخر.

المقام الثانی: ما إذا کان الفعل دائرا أمره بین الوجوب والحرمة مع کون أحدهما أو کلاهما تعبدیا، کما إذا دار أمر المرأة بین الطهر والحیض وبنی علی حرمة الصلاة علی الحائض ذاتا، أو دار الأمر فی تغسیل الأجنبی المرأة المیتة مع فقد المماثل والأرحام بین الوجوب والحرمة، وغیر ذلک من الموارد التی لا یمکن فیها الموافقة القطعیة للتکلیف الواقعی، إلاّ أنه یمکن مخالفته القطعیة باختیار الفعل من غیر قصد التقرب، والصحیح فی الفرض تنجیز العلم الإجمالی بسقوط الاُصول النافیة فی ناحیة کل من الوجوب والحرمة حیث لا ینحصر تنجیز التکلیف الواقعی

ص :351

الحرمة والآخر علی الوجوب _ باطل، فإن التخییر بینهما علی تقدیر کون الأخبار حجة من باب السببیة یکون علی القاعدة، ومن جهة التخییر بین الواجبین المتزاحمین، وعلی تقدیر أنها من باب الطریقیة فإنه وإن کان علی خلاف القاعدة، إلاّ أن أحدهما _ تعییناً أو تخییراً _ حیث کان واجداً لما هو المناط للطریقیة من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط، صار حجة فی هذه الصورة بأدلة

علی موارد إمکان الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة معاً، ولذا لو علم المکلف بوجوب أحد الضدین الذین لهما ثالث لیس له ترکهما باختیار الثالث، فإنه کما لا یصح من المولی الحکیم الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف فی صورة إمکان موافقته القطعیة کذلک لا یصح مع عدم إمکان الموافقة القطعیة، فقد ظهر مما ذکر عدم جریان أصالة الإباحة فی دوران الأمر بین وجوب الفعل تعبدیا أو حرمته لمعارضتها بأصالة البراءة عن وجوبه.

وعلی الجملة أصالة الحلیة والبراءة عن الحرمة تعارضها أصالة البراءة فی وجوبه، لکون جریانهما فی ناحیة کل منهما ترخیص قطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل، ولا یقاس بدوران أمر الفعل بین الوجوب والحرمة التوصلیین، ویلحق بالمقام فی دوران الأمر بین کون شیء جزءاً أو مانعا عن العبادة، کما إذا شک فی السجدة الثانیة بعد الأخذ فی القیام حیث یحتمل کونه دخولاً فی الغیر فلا یعتنی بالشک ولو رجع إلی السجدة تکون صلاته باطلة لزیادة السجدة عمدا، أو أنه لا یعدّ دخولاً فی الغیر فیجب الرجوع إلیها، فإن قلنا بعدم جواز إبطال الصلاة حتی فی مثل الفرض فعلیه إتمام الصلاة بأحد الاحتمالین، وإعادة تلک الصلاة ثانیا؛ لأنّ العلم الإجمالی بوجوب الرجوع مع قصد التقرب أو عدم جوازه وإن لا تکون موافقة قطعیة بالأخذ بأحد الاحتمالین إلاّ أنه یمکن إحراز موافقتها بالإعادة بعد إتمامها ولزوم

ص :352

الترجیح تعییناً، أو التخییر تخییراً، وأین ذلک مما إذا لم یکن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً؟ وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا یکون إلیه بموصل.

نعم، لو کان التخییر بین الخبرین لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما التردید بینهما، لکان القیاس فی محله، لدلالة الدلیل علی التخییر بینهما علی التخییر ها هنا، فتأمل جیداً.

ولا مجال _ ها هنا _ لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإنه لا قصور فیه _ ها هنا _ وإنما یکون عدم تنجز التکلیف لعدم التمکن من الموافقة القطعیة کمخالفتها،

إعادتها، مقتضی الاستصحاب فی عدم تحقق الصلاة المأمور بها الموضوع لبقاء التکلیف بها کما لا یخفی.

ثم إنه قد تعجب المحقق العراقی قدس سره مما ذکره الماتن فی صورة کون أحد التکلیفین أو کلیهما تعبدیا من لزوم اختیار أحد الاحتمالین والإتیان بالفعل بنحو التقرب أو الترک رأسا، حیث التزم فی بحث الاضطرار إلی ارتکاب أحد الأطراف بسقوط العلم الإجمالی عن التأثیر رأسا، فلا بأس بارتکاب باقی الأطراف بعد ارتکابه أحدها لاضطراره سواء کان الاضطرار إلی معین منها أو إلی غیر معین، وفیما نحن فیه حیث إن المکلف مضطر إلی ترک الموافقة القطعیة فلا بأس بعدم رعایته العلم الإجمالی أصلاً، ولکن الظاهر أن عجبه قدس سره فی غیر محله، وبیان ذلک أن الماتن قدس سره قد بنی فی بحث الاضطرار إلی بعض أطراف العلم معینا أو غیر معین، علی أن المعین أو ما یدفع به الاضطرار محلل واقعا عند الارتکاب کما هو مقتضی حدیث رفع الاضطرار، وقولهم علیهم السلام : ما من محرم إلاّ وقد أحلّه الاضطرار(1)، وبعد فرض أن ما

ص :353


1- 1) وسائل الشیعة 23:228، الباب 12 من أبواب کتاب الإیمان، الحدیث 18.

والموافقة الإحتمالیة حاصلة لا محالة، کما لا یخفی.

ثم إن مورد هذه الوجوه، وإن کان ما إذا لم یکن واحداً من الوجوب والحرمة علی التعیین تعبدیاً، إذ لو کانا تعبدیین أو کان أحدهما المعین کذلک، لم یکن إشکال فی عدم جواز طرحهما والرجوع إلی الإباحة، لأنها مخالفة عملیة قطعیة علی ما أفاد شیخنا الأستاذ قدس سره ، إلاّ أن الحکم أیضاً فیهما إذا کانا کذلک هو التخییر عقلاً بین إتیانه علی وجه قربی، بأن یؤتی به بداعی احتمال طلبه، وترکه کذلک، لعدم الترجیح وقبحه بلا مرجح.

یرتکبه لدفع اضطراره مُحللاًّ یکون التکلیف فی سائر الأطراف مشکوکا من حیث التعلق من الأول بخلاف ما نحن فیه، فإن الاضطرار لم یفرض فیه، بل لا یمکن الموافقة القطعیة لعدم إمکان الجمع بین الفعل بقصد التقرب والترک رأسا مع علم المکلف تفصیلاً بعدم جواز الاقتصار علی الفعل المجرد من قصد التقرب عند ارتکابه؛ لأنه إما إتیان بالحرام أو ترک للواجب، وهذا المحذور غیر جار فی ارتکاب سائر أطراف العلم الإجمالی عند الاضطرار إلی ارتکاب بعضها، ولا یقاس أیضا الاضطرار إلی بعض الأطراف بتلف بعض الأطراف، حیث إن العلم الإجمالی ببقاء التکلیف فی التالف، إلی تلفه لیس لحصول الغایة للتکلیف، بل من قبیل العلم الإجمالی بتعلق التکلیف به أو بالطرف الآخر أیضا بالنحو الذی تعلق به، وما ذکره قدس سره فی التفرقة بین الاضطرار والتلف، وإن یکن محل التأمل بل المنع، إلاّ أنه لا یقاس المقام بمسألة الاضطرار کما ذکرنا.

المقام الثالث: فی دوران الأمر بین المحذورین مع تکرار الواقعة، فنقول قد یکون الإلزام المتعلق بالواقعة المتأخرة کالواقعة الفعلیة فعلیا کما هو مفاد الواجب المعلق، مثلاً إذا حلف علی وط ء زوجته فی لیلة جمعة وعلی ترکه فی جمعة اُخری،

ص :354

فانقدح أنه لا وجه لتخصیص المورد بالتوصلیین بالنسبة إلی ما هو المهم فی المقام، وإن اختص بعض الوجوه بهما، کما لا یخفی.

ولا یذهب علیک أن استقلال العقل بالتخییر إنما هو فیما لا یحتمل الترجیح فی أحدهما علی التعیین، ومع احتماله لا یبعد دعوی استقلاله بتعیینه کما هو الحال فی دوران الأمر بین التخییر والتعیین فی غیر المقام، ولکن الترجیح إنما یکون لشدة الطلب فی أحدهما، وزیادته علی الطلب فی الآخر بما لا یجوز الإخلال بها فی صورة المزاحمة، ووجب الترجیح بها، وکذا وجب ترجیح احتمال ذی المزیة فی صورة الدوران.

ولا وجه لترجیح احتمال الحرمة مطلقاً، لأجل أن دفع المفسدة أولی من ترک المصلحة، ضرورة أنه رب واجب یکون مقدّماً علی الحرام فی صورة المزاحمة بلا کلام، فکیف یقدّم علی احتماله احتماله فی صورة الدوران بین مثلیهما؟ فافهم.

واشتبهت الجمعتان فإنّه فی مثل ذلک یکون لزوم الوفاء بالحلف فعلیا مع تحقق الحلف، والتأخر فی زمان الوفاء والوط ء فی کل من اللیلتین، وإن دار أمره بین الوجوب والحرمة إلاّ أنه لا یجوز للمکلف الفعل فی کل منهما أو الترک فیهما معا؛ لأنه یحرز معه المخالفة القطعیة لأحد التکلیفین، واحراز الموافقة القطعیة معها لا یوجب جوازها لما ذکرنا من أن الحاکم بلزوم الموافقة القطعیة هو العقل بملاک دفع الضرر المحتمل، ولا یحکم به العقل مع لزوم المخالفة القطعیة التی هی للتکلیف الآخر.

وقد ذکر المحقق النائینی قدس سره بلزوم رعایة الموافقة القطعیة فی ناحیة أحد التکلیفین إذا کان أهم من الآخر أو محتمل الأهمیة، بدعوی أنه کما یقع التزاحم بین التکلیفین فی مقام الامتثال فیقدم فیه جانب التکلیف الأهم أو محتمل الأهمیة،

ص :355

.··· . ··· .

کذلک یقع التزاحم بینهما فی مقام إحراز الموافقة القطعیة فیهما، وما ذکر فی ناحیة تقدیم الأهم أو محتمل الأهمیة فی الأول یقتضی رعایته فی الثانی أیضا.

وفیه ما لا یخفی فإن الموجب لتقدیم الأهم أو محتمل الأهمیة لا یجری فی عدم إمکان الموافقة القطعیة فی کل من التکلیفین المعلوم إجمالاً ثبوتهما، فإن الموجب لتقدیم الأهم إما إحراز الإطلاق فی خطابه والتقییّد فی خطاب التکلیف الآخر، أو للشک فی تقیید إطلاق خطابه مع العلم بثبوت التقیید فی خطاب التکلیف الآخر، أو القطع بالمعذوریة مع صرف القدرة فی الأهم أو محتملها، وهذا یجری فی ناحیة عدم التمکن من إحراز الموافقة بالإضافة إلی کلا التکلیفین، فإن الحاکم بلزوم إحرازها هو العقل بملاک دفع الضرر المحتمل، ولیس له حکم بذلک مع استلزام إحرازها إحراز المخالفة القطعیة بالإضافة إلی التکلیف الآخر؛ ولذا لا یثبت التخییر مع تساوی التکلیفین فی الملاک، بل یلزم الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة فی کل منهما، وکذا الحال فی تردد أفراد الواجب والحرام، وأما إذا لم یکن التکلیف بالواقعة المتأخرة فعلیا، کما هو مفاد الواجب المشروط کما إذا رأت المرأة الدم مرتین مع عدم تخلل أقل الطهر بینهما وزیادتهما علی عشرة أیام، فإن الصلاة فی کل من الدمین وإن دار أمرها بین الوجوب والحرمة ذاتا، فهل هذا مثل ما إذا کان التکلیف بکل من الفعلین فعلیاً فلا یجوز ترک الموافقة الاحتمالیة فی کل منهما أو یحسب کل منهما واقعة مستقلة، الأصح هو الأول کما یأتی من عدم الفرق بین التدریجیات والدفعیات فی تساقط الاُصول النافیة من أطراف العلم، هذا مع قطع النظر عما ورد فی المثال من الحکم بکون الدم الأول حیضا، والثانی استحاضة.

ص :356

فصل

لو شک فی المکلف به مع العلم بالتکلیف من الإیجاب أو التحریم فتارة لتردّده بین المتباینین[1].

أصالة الاحتیاط

تنجیز العلم الإجمالی فی المتباینین

[1] قد یکون التکلیف فی موارد العلم الإجمالی بنوعه معلوما کان الشک فی متعلقه، کما إذا ترددت الوظیفة یوم الجمعة بین الظهر وبینها، وقد یکون التکلیف بجنسه معلوماً کما إذا لم یعلم أن التکلیف المعلوم بالإجمال وجوب متعلق بهذا الفعل أو حرمة متعلقة بذاک الفعل، وتردّد المتعلق بین الفعلین مع العلم بنوعه تارةً یفرض بین المتباینین سواء کان تباینهما بالذات کصلاتی الظهر والجمعة أو بالاعتبار کالقصر والتمام، حیث إن القصر یشترط فیه عدم لحوق الرکعتین الأخیرتین، والتمام یعتبر فیه لحوقهما ویفرض فی الأقل والأکثر الارتباطیین، حیث إن الأقل هو الفعل لا بشرط الزائد، والأکثر هو المشروط بالزائد، وقد ذکر الماتن قدس سره أن العلم بجنس التکلیف مع إمکان موافقته القطعیة ومخالفتها کذلک، وکذا العلم بالتکلیف بنوعه مع تردد متعلّقه بین المتباینین یکون منجزا للتکلیف المعلوم بالإجمال فیما إذا کان التکلیف فعلیا مطلقا حتی مع العلم الإجمالی بمعنی تعلق إرادة المولی بفعل العبد أو کراهته حتی فی هذا الحال، وتکون فعلیته کذلک موجبة لتخصیص أدلة الاُصول النافیة وحملها علی غیر أطراف هذا العلم بالتکلیف، حیث لا یمکن الترخیص فیها مع الفعلیة للمناقضة، بخلاف ما إذا لم یکن التکلیف المعلوم فعلیا مطلقا بأن کانت فعلیته مادام لم یرخص فی الارتکاب ظاهرا، کما هو الحال فی صورة العلم به

ص :357

.··· . ··· .

تفصیلاً، حیث إن التکلیف لو کان فعلیا مع قطع النظر عن العلم التفصیلی به لکان فعلیا معه أیضا لا محالة، لعدم الموضوع للحکم الظاهری معه بخلاف العلم الإجمالی فإنه یمکن أن لا یکون التکلیف فعلیا معه لثبوت الموضوع للحکم الظاهری فی أطرافه.

أقول: ما ذکر قدس سره من أنّه مع فعلیة التکلیف الواقعی مطلقا لا مجال للاُصول النافیة فی أطراف العلم، بخلاف ما إذا کانت فعلیته غیر مطلقة، فإن الفعلیة غیر المطلقة لا تنافی جعل الحکم الظاهری والترخیص فی أطراف العلم الإجمالی لا یمکن المساعدة علیه، فإنه لا سبیل لنا نوعا إلی إحراز الفعلیة المطلقة فی التکالیف الواقعیة مع عموم خطابات الاُصول أو اطلاقاتها، فإن مدلولات الخطابات الشرعیة عند الماتن قدس سره الأحکام الإنشائیة، وتکون ظاهرة فی فعلیتها مع عدم القرینة علی الخلاف، والعموم والإطلاق فی أدلة الاُصول وخطاباتها قرینة علی الخلاف، أضف إلی ذلک أن الفعلیة تکون فی جمیع الأحکام الواقعیة حتی إذا لم یکن التکلیف إلزامیا، فالفعلیة بالمعنی الذی فسّرها بإرادة المولی الفعل من العبد لا أساس لها أصلاً، فإن حب المولی وبغضه وإن یتعلق بفعل العبد، ولکن الحب أو البغض لا یکون من الإرادة، والإرادة من المولی تتعلق بالمقدور، وفعل العبد غیر مقدور للمولی بما هو مولی، ولو تعلقت إرادته سبحانه بفعل العباد لخرجت أفعالهم عن کونها اختیاریة لهم، وإنما تتعلق إرادة المولی بإیجابه وتحریمه وغیرهما من أحکامه، والمفروض فی المقام ثبوت الإیجاب أو التحریم من قبل المولی لفعلیة الموضوع لهما، ویقع البحث فی أن هذا العلم یکون وصولاً للتکلیف المعلوم بالإجمال لیکون التکلیف منجزا بحیث مع وصوله یقبح من المولی الحکیم

ص :358

.··· . ··· .

الترخیص القطعی فی مخالفته القطعیة، ویلزم موافقته القطعیة أم یمکن مع هذا العلم الأخذ بالإطلاق والعموم من خطابات الاُصول النافیة فی کل من أطراف العلم أو بعضها لتکون النتیجة لزوم الموافقة القطعیة أو عدم جواز المخالفة القطعیة، وذکر العراقی قدس سره أنه مع العلم الإجمالی بالتکلیف یحکم العقل باشتغال الذمة به حتی یحصل الفراغ منه، ولا یمکن للشارع الترخیص فی الارتکاب فی جمیع الأطراف أو ترک جمیعها فی الواجبات، حیث إن الترخیص فیهما کذلک ترخیص فی المعصیة کما لا یجوز الترخیص فی بعضها، حیث إن مورد الترخیص یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه فیکون الترخیص علی تقدیر مصادفة احتماله ترخیصا فی المعصیة أیضا فیقبح من المولی الحکیم وینافی حکم العقل بالاشتغال، وبتعبیر آخر لیس المدعی مناقضة الترخیص فی جمیع الأطراف أو بعضها مع فعلیة التکلیف، یعنی الفعلیة التی تقدمت فی کلام الماتن، فإن الفعلیة المزبورة لا تجتمع مع الترخیص حتی فی الشبهة البدویة، وعلی المولی مع تلک الفعلیة الإیصال إلی المکلف ولو بجعل الاحتیاط فی مورده، بل المراد من الفعلیة ما هو المستفاد من الخطابات الشرعیة فی حرمة الأفعال أو وجوبها کون الغرض من التکلیف التصدی لما فیه إمکان انبعاث العبد إلی الفعل أو منعه عنه بوصوله إلیه، وبما أن العلم الإجمالی بالتکلیف وصول فیستقل العقل بالاشتغال، ولزوم تحصیل الفراغ عن عهدته والترخیص فی کلها أو بعضها غیر ممکن، لکونه ترخیصا فی المعصیة أو ما یحتمل کونه معصیة، ولا ینتقض بموارد انحلال العلم الإجمالی؛ لأنه لا وصول مع الانحلال حتی یحکم العقل بالاشتغال، کما لا ینتقض بموارد جریان قاعدة الفراغ أو التجاوز ونحوهما، لیقال: إنّه فی مورد العلم التفصیلی بالتکلیف یمکن أن لا تجب الموافقة

ص :359

.··· . ··· .

القطعیة، فکیف بالمعلوم بالإجمال، وذلک فإن مفاد قاعدتی الفراغ والتجاوز جعل البدل بالتعبد بحصول الامتثال وحکم العقل بالاشتغال حتی یحرز الامتثال الأعم من الامتثال الوجدانی والتعبدی، ولا یستفاد من خطابات الاُصول النافیة جعل البدل والتعبد بحصول التکلیف لا بالدلالة المطابقیة ولا الإلتزامیة کما لا یخفی.

أقول: ما ذکر الماتن قدس سره من کون المراد من فعلیة التکلیف تعلق الإرادة الحقیقیة من المولی بفعل العبد وإن لا یصح، فإن فعل العبد بما هو فعل العبد غیر مقدور للمولی بما هو مولی، وتعلق مشیئة اللّه سبحانه بأفعال العباد أو الترک منهم، وان کان تعلّقها بفعل العباد موجبا لحصول الأفعال أو الترک منهم لا محالة، إلاّ أن ذلک یوجب وقوع الاضطرار وارتفاع اختیارهم حقیقة کما هو مقرر فی محله، إلاّ أنه مع الغمض عن ذلک فلا یرد ما ذکره قدس سره من وجوب الإیصال؛ لأنّ إطلاق الإرادة أمر إضافی فیمکن إطلاقها بالإضافة إلی موارد العلم الإجمالی، وعدم الإطلاق بالإضافة إلی الشبهة البدویة فلا یجب علیه الإیصال، بل له الترخیص فی موردها، وما ذکره من أنه لا یمکن للشارع الترخیص فی بعض أطراف العلم؛ لأنه ترخیص فی المعصیة لو اتفق مصادفته المعلوم بالإجمال لا یخفی ما فیه، فإن حکم العقل بلزوم رعایة احتمال التکلیف فی جمیع الأطراف لاحتمال الضرر فی ترک رعایته فی بعضها ومع ترخیصه الظاهری، لا احتمال للضرر. ویشهد لذلک موارد الانحلال الحکمی لا الحقیقی، لیقال بأنه لا علم بالتکلیف فی موارد الانحلال والتعبد الظاهری بالامتثال بالاستصحاب أو قاعدتی الفراغ والتجاوز مرجعه أو لازمه عدم أخذ المکلف بالمخالفة الواقعیة لو اتفقت؛ لأنه لا معنی لجعل البدل الظاهری غیر هذا المعنی، وعلی ذلک وبعد البناء علی أن فعلیة التکلیف الواقعی إنما هو بفعلیة الموضوع له

ص :360

.··· . ··· .

کما فی التکلیف غیر الإلزامی، والأحکام الوضعیة التی تکون لسان خطاباتها الأحکام المجعولة بمفاد القضایا الحقیقیة یکون الموضوع للاُصول محققا فی ناحیة کل واحد من أطراف العلم فی نفسه، ورفع الید فیها عن خطابات الاُصول النافیة یحتاج إلی ثبوت مقید لإطلاقاتها من ناحیة العقل أو الشرع، وذلک فان الحکم الظاهری والتکلیف الواقعی لا یکونان متنافیین فی البدء؛ لأنّ التکلیف الواقعی نفسی ناشئ عن الملاک فی متعلقه والحکم الظاهری طریقی ناش عن المصلحة فی ثبوت نفس الحکم من غیر أن یکون فی متعلقه ملاکا غیر ما فیه من الملاک واقعا، کما لا یکون بینهما منافاة فی الغرض؛ لأنّ الغرض من التکلیف الواقعی إمکان کونه داعیا للمکلف إلی الإتیان بمتعلّقه أو ترکه، والغرض من الحکم الظاهری العمل به عند عدم وصول التکلیف الواقعی ولو کان التکلیف الواقعی معلوما ولو بالإجمال لکان الترخیص فی جمیع أطراف العلم منافیا للتکلیف الواقعی فی ناحیة الغرض، حیث لا یجتمع مع وصول التکلیف المعلوم بالإجمال مع الترخیص فی ارتکاب جمیعها، وکون کل من الأطراف فی نفسه مشکوکاً إنما یفید فی اعتبار الحکم الظاهری فی خصوصه إذا کان لذلک البعض معیّن لدخوله تحت خطاب الأصل العملی، کما إذا کان سائر الأطراف موضوعا لموضوع الأصل المثبت للتکلیف أو لغیر ذلک، أو قام دلیل خطاب علی ثبوت الترخیص فی الارتکاب فی أحدهما لا بعینه، کما إذا اضطر إلی شرب أحد الماءین مع علمه بنجاسة أحدهما إجمالاً، فإنه قد تقدم إن الترخیص فیما یختاره لدفع اضطراره منهما حکم ظاهری مستفاد من فحوی أدلة رفع الاضطرار، بخلاف ما إذا لم یکن فی البین معین لبعض الأطراف ولا دلیل خاص، حیث یکون شمول خطاب الأصل النافی لکل واحد من الأطراف علی حدٍ سواء

ص :361

.··· . ··· .

فیسقط فی جمیعها.

لا یقال: لا بأس بجریان الأصل النافی فی کل من الأطراف مشروطا بترک الباقی، فإنّه مع هذا النحو من الترخیص لا یثبت الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل.

فإنه یقال: لا یحتمل أن تکون الحلیة الواقعیة فی کل من الأطراف مقیدة ومشروطة، بل الحکم الواقعی فی کل طرف إما الحلیة الواقعیة أو الحرمة الواقعیة المطلقتین، فلا تعارض بین خطاب التکلیف الواقعی مع خطاب الحلیة الواقعیة، وأما الحلیة الظاهریة فی کل من الأطراف إنما یستفاد من خطاب واحد، لا أن لکل من الأطراف للحلیة الظاهریة خطاباً یخصه حتی یجمع بین الخطابین بما ذکر، فالجمع بین الحکمین بالتخییر أو بتقیید کل منهما بترک الآخر إنما یصح ویعدُّ جمعا عرفیا إذا کان لکل من الحکمین خطاب یخصه کان الحکمان مع احتمال التخییر واقعیین، نعم لو کان بین الأطراف تکلیفا إلزامیا أو وضعا یستتبع الإلزام واحتمل ثبوت الإلزام أو الوضع فی جمیعها، کما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءین أو الثوبین واحتمل نجاسة الآخر أیضا، فلا مانع عن إجراء أصالة الطهارة فی الإناء بعنوان الآخر منهما أو الثوب الآخر، فیحکم بصحة الصلاة إذا صلی فی أحدهما وأعادها فیالثوب الآخر، فإن ثانی الثوبین أو الإناءین محکوم بالطهارة ولو بعنوانه، وهذا الأمر غیر مفروض فی المقام للعلم بثبوت التکلیف الواقعی فی بعض الأطراف، وعدم ثبوته فی البعض الآخر، ثم إنه لا فرق فیما ذکر من سقوط الاُصول النافیة من أطراف العلم بالتکلیف مع عدم المعین بین أصل وأصل آخر، وأما الاُصول المثبتة للتکلیف فی الأطراف فلا مانع من جریانها فی کل منها؛ لانّ الموجب لتعارض الاُصول فیها لزوم الترخیص

ص :362

.··· . ··· .

القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل بینها، ولا یلزم من جریان الاُصول المثبتة هذا المحذور، ولا یکون ملاک التعارض فی الاُصول العملیة عین ملاک التعارض فی الطرق والأمارات، یعنی العلم بعدم مطابقة کلتا الأمارتین للواقع؛ لأنّ مجرد العلم بالخلاف لا یضر فی جریان الاُصول العملیة فیما إذا لم یلزم المخالفة العملیة للتکلیف الواقعی، نعم قد ذکر الشیخ قدس سره وقوع المعارضة بمجرد العلم المزبور بدعوی لزوم المناقضة من شمول أدلتها لأطراف العلم، ولکنها ضعیفة کما بین فی بحث الاستصحاب، ونذکر ضعفها فی المقام إجمالاً، وعن المحقق النائینی قدس سره عدم جریان الاُصول التنزیلیة فی أطراف العلم الإجمالی سواءً کانت نافیة للتکلیف أو مثبتة؛ لأنّ مفاد الاُصول التنزیلیة هو العلم بالواقع من جهة البناء العلمی فیمتنع التعبد به مع العلم بخلافه فی بعض الأطراف.

فنقول قد ذکر الشیخ قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی سواءً کان مفاده ثبوت التکلیف فیها أو نفیها بدعوی أن شمول خطاباته لأطراف العلم یوجب التناقض فی مدلولها من جهة صدرها وذیلها، حیث إن مفاد لا تنقض الیقین بالشک لو عمّ أطراف العلم یکون مفاده النهی عن نقض الیقین بالشک فی کل منها بنحو السالبة الکلیة. وما فی ذیلها: «ولکن انقضه بیقین آخر» مفاده نقض الیقین السابق فی بعض تلک الأطراف للعلم بالخلاف فی بعضها، وهذه الموجبة الجزئیة تناقض السالبة الکلیة.

وفیه أن: «لا تنقض» یعم جمیع الأطراف کلاً بملاحظة نفسه، والیقین السابق متعلق به کذلک، ولکن الیقین بالخلاف لم یتعلق به کذلک حتی ینافی الذیل صدره، وعلی تقدیر الإغماض فعدم الشمول ما کان فیه الذیل المزبور فلا یمنع شمول ما لم یرد فیه الذیل المزبور، مع أن هذا البیان علی تقدیر تمامیته یختص بأدلة

ص :363

.··· . ··· .

الاستصحاب ولا یجری فی خطابات سائر الاُصول، مثل قولهم: «رفع عن امتی ما لا یعلمون»(1) نعم یمکن الوهم فی جریانه فی مثل: «کل شیء حلال حتی تعرف انه حرام»(2) أو «کل شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر»(3).

وأما ما ذکره المحقق النائینی قدس سره فیرد علیه أن التعبد بالعلم بشیء إنما ینافی العلم بالخلاف فی نفس ذلک الشیء وجدانا، بل لا معنی للتعبد فیه معه، وأما مع عدم العلم فیه بخصوصه فانما ینافی التعبد بالعلم فیه إذا استلزم الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بینهما إجمالاً، ولا یکون مجرد التعبد بالعلم من حیث البناء العملی فی طرف منافیا للتعبد بالعلم فی کل من سائر الأطراف أیضا؛ لأنّ التعبد بالعلم فیه لا ینفی المتعبد به من سائر الأطراف، کما إذا توضأ بمائع مردّد بین الماء الطاهر والمضاف النجس، حیث إن التعبد ببقاء الحدث لا یثبت نجاسة الأعضاء حتی لا یجری الاستصحاب فی طهارتها.

جریان الأصل الطولی النافی فی بعض أطراف العلم إذا اختص خطابه بذلک البعض

ثم إنّ ما ذکرنا من تساقط الاُصول النافیة فی أطراف العلم للوجه المتقدم، وهو لزوم الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل بین الأطراف وعدم المعین لبعض الأطراف لیؤخذ بالأصل النافی فیه، مقتضاه عدم المانع من جریان الأصل النافی فی بعض الأطراف إذا کان لذلک الأصل النافی خطاب آخر مفاده غیر

ص :364


1- 1) مستدرک الوسائل 6:423، الباب 26، الحدیث 7136.
2- 2) الکافی 5:313، الحدیث 39.
3- 3) التهذیب 1:284، الحدیث 119.

.··· . ··· .

مفاد الأصل النافی المشترک، ویکون أصلاً طولیا بالإضافة إلی الأصل النافی المشترک، کما إذا علم بنجاسة ماء أو نجاسة ثوب، فإن الاستصحاب فی طهارتهما أو قاعدتها فیهما وإن تسقط بالمعارضة؛ لأنّ شمول خطاب النهی عن نقض الیقین أو: «کل شیء نظیف حتی تعلم انه قذر» بالإضافة إلی کل منهما علی حدٍ سواء، إلاّ أن خطاب «کل شیء حلال حتی تعرف انه حرام» یختص بالماء فیجوز شربه وإن لم یجز استعماله فی التطهیر من الحدث أو الخبث؛ لأنّ أصالة الحلیة لا مورد لها فی ناحیة الثوب، لعدم حرمة لبس الثوب المتنجس تکلیفاً کما هو ظاهر الحلیة والحرمة المضافة إلی الأشیاء، ودعوی أن أصالة الحلیة فی ناحیة الماء یعارضها أصالة الطهارة فی ناحیة الثوب لم یعلم لها وجه، بعد ما ذکرنا أن الموجب للمعارضة عدم المعین للأصل النافی فی بعض الأطراف، نعم إذا کان الأصل الطولی مشترکاً بین الأطراف وکان المختص هو الأصل الحاکم علی ذلک الأصل الطولی، کما إذا علم بنجاسة الماء أو غصبیة الثوب تقع المعارضة بین أصالة الحلیة فی ناحیة الثوب وبین أصالة الطهارة وأصالة الحلیة فی ناحیة الماء، ولا مجال لدعوی أنه تسقط أصالة الطهارة فی الماء وأصالة الحلیة فی الثوب بالمعارضة ویرجع إلی أصالة الحلیة فی الماء؛ لأنها فی الماء أصل طولی لا تصل النوبة إلیها مع أصالة الطهارة فیه، وذلک فإن معنی کونها أصلاً طولیا أنه لا تصل النوبة إلیها مع جریان الأصل الحاکم لا مع عدم جریانه کما هو الفرض فی المقام.

وبتعبیر آخر الأصل الطولی المشترک مع عدم جریان الأصل الحاکم المختص ببعض الأطراف فی عرض الأصل الحاکم، والطولیة إنما هی فی فرض جریان الأصل الحاکم، ولا یقاس ذلک بفرض اختصاص الأصل الطولی واشتراک الأصل الحاکم،

ص :365

.··· . ··· .

فإن خطاب الأصل الطولی شموله للطرف المختص به بلا محذور، نعم إذا کان الأصل الطولی فی أحد الطرفین مثبتا وفی الآخر نافیا وبعد تساقط الأصلین الحاکمین فی کل من الطرفین یجوز الرجوع إلی الأصل الطولی فیهما وینحل بهما العلم الإجمالی انحلالاً حکمیا، کما إذا علم بعد صلاتی المغرب والعشاء إما بنقصان رکوع من صلاة العشاء أو بزیادته فی صلاة المغرب، فإنه لا بأس بعد سقوط قاعدة الفراغ فی ناحیة کل من صلاة المغرب والعشاء بالرجوع إلی الاستصحاب فی عدم الإتیان بالرکوع الزائد فی صلاة المغرب، وعدم الإتیان بالرکوع الرابع فی صلاة العشاء فیحکم ببطلان العشاء وصحة صلاة المغرب، ونظیر ذلک ما إذا علم إما بعدم الاتیان بصلاة العصر أو نقصان رکوع صلاة المغرب التی صلاها فإن قاعدة الحیلولة الجاریة فی صلاة العصر معارضة بقاعدة الفراغ الجاریة فی صلاة المغرب وبعد تساقطهما یرجع إلی أصالة البراءة من وجوب قضاء العصر، بل استصحاب عدم فوتها حیث إن الاستصحاب فی عدم الاتیان بها فی وقتها لا یثبت فوتها، ولکن الاستصحاب فی عدم الاتیان بصلاة المغرب جاریة یثبت بقاء التکلیف بها.

تنجیز العلم الاجمالی له مرتبتان ولا ملازمة بین ثبوتهما وسقوطهما

قد ظهر مما ذکرنا أنّ لتنجیز العلم الإجمالی مرتبتین ولا ملازمة بین التنجیز بالمرتبة الاُولی وهو عدم جواز مخالفته القطعیة والتنجیز بالمرتبة الثانیة یعنی لزوم الموافقة القطعیة، ولکن قد یقال الموارد التی اُشیر إلیها من تنجیز العلم الإجمالی التکلیف بالمرتبة الاُولی دون الثانیة غیر صحیح، فإن العلم الإجمالی فی تلک الموارد غیر منجز أصلاً، بل المنجز فیها الأصل المثبت فی بعض الأطراف والترخیص فیها بالأصل النافی فی بعضها الآخر، ولذا یعبّر عن هذه الموارد بانحلال

ص :366

وأخری بین الأقل والأکثر الإرتباطیین، فیقع الکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی دوران الأمر بین المتباینین.

لا یخفی أن التکلیف المعلوم بینهما مطلقاً _ ولو کانا فعل أمر وترک آخر _ إن کان فعلیاً من جمیع الجهات، بأن یکون واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلی، مع ما هو علیه من الإجمال والتردد والإحتمال، فلا محیص عن تنجزه وصحة العقوبة علی مخالفته، وحینئذ لا محالة یکون ما دلّ بعمومه علی الرفع أو الوضع أو السعة أوالإباحة ممایعم أطراف العلم مخصصاً عقلاً، لأجل مناقضتها معه.

العلم الإجمالی حکما وعدم تأثیره فی التنجز أصلاً، وما ذکر فی مسألة العلم بنجاسة هذا الماء أو نجاسة ذلک الثوب غیر صحیح، بل یجب الاجتناب عن الماء کالثوب للعلم الإجمالی بنجاسته أو نجاسة الثوب.

والتمثیل لانفکاک مرتبتی التنجیز بما إذا علم الزوج بلزوم المبیت عند إحدی الزوجتین واشتبهتا، حیث لا یجوز ترک المبیت فی تلک اللیلة عندهما رأسا مع أنه لا تجب الموافقة القطعیة غیر صحیح؛ لأنّ المنکر فی کلام، صاحب الکفایة والعراقی ما إذا کان بالترخیص من الشارع فی بعض الأطراف للعلم الإجمالی بالتکلیف فیها لا ما إذا کان عدم لزوم الموافقة القطعیة لعدم تمکن العبد من إحراز الإمتثال حیث إن فعلیة التکلیف ینافی ترخیصه لا معذوریة المکلف من إحراز الإمتثال لعدم تمکنه عقلاً لا یمکن المساعدة علیه، فإن سقوط قاعدة الفراغ فی مسألة العلم بزیادة الرکوع إما فی صلاة المغرب أو نقصانه فی العشاء مستند إلی تنجیز العلم الإجمالی، فإنه لولا لزوم الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی بالتکلیف بإعادة إحداهما لکانت کل من الصلاتین محکومة بالصحة، وقد تقدم أن الموجب للتساقط فی الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی غیر الموجب له

ص :367

وإن لم یکن فعلیاً کذلک، ولو کان بحیث لو علم تفصیلاً لوجب امتثاله وصح العقاب علی مخالفته، لم یکن هناک مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلة البراءة الشرعیة للأطراف.

ومن هنا انقدح أنه لا فرق بین العلم التفصیلی والإجمالی، إلاّ أنه لا مجال للحکم الظاهری مع التفصیلی، فإذا کان الحکم الواقعی فعلیاً من سائر الجهات، لا

فی الأمارات، ولا یکون مجرد العلم الإجمالی موجبا للتساقط فی الاُصول من أطراف العلم الإجمالی، ثم إنه بعد تساقط قاعدة الفراغ فی ناحیة کل من الصلاتین یکون ترک إعادة المغرب مستندا إلی الأصل النافی المختص، وهذا معنی التفکیک فی العلم الإجمالی فی تنجیزه بین عدم جواز مخالفته القطعیة وبین لزوم موافقتها القطعیة فی مورد کان الأصل النافی مختصا ببعض أطرافه.

لا یقال: أصالة الحلیة فی ناحیة الماء فیما إذا علم بنجاسته أو نجاسة الثوب غیر جاریة؛ لأنها معارضة بأصالة البراءة عن مانعیة الثوب فی الصلاة.

فإنه یقال: إن أصالة البراءة عن مانعیة الثوب مبتلاة بالمعارض أیضا بأصالة البراءة عن حرمة استعمال الماء فی الأکل والشرب، ولکن أصالة الحلیة بما أن لها خطاباً خاصاً تجری فی ناحیة الماء بلا معارض.

بقی فی المقام أمران، الأول: أن العلم بحدوث التکلیف إجمالاً کما أنه موجب لتنجزه کذلک العلم الإجمالی فی مرحلة الامتثال موجب أیضا لسقوط الاُصول الجاریة فی أطرافها، فما لم یکن فی البین مایثبت الصحة فی بعض الأطراف یجب الاحتیاط فی جمیعها، ولو اقتصر المکلف فی امتثال التکلیف علی بعض الأطراف ثم ظهر کونه مصادفا للواقع یحکم بالإجزاء فی التوصلیات، وهل یحکم بالإجزاء فی التعبدیات، فظاهر کلام الشیخ قدس سره أن الحکم بالإجزاء یختص بما إذا کان عازما علی

ص :368

محالة یصیر فعلیاً معه من جمیع الجهات، وله مجال مع الإجمالی، فیمکن أن لا یصیر فعلیاً معه، لإمکان جعل الظاهری فی أطرافه، وإن کان فعلیاً من غیر هذه الجهة، فافهم.

ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال کان فعلیاً من جمیع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً ولو کانت أطرافه غیر محصورة، وإنما التفاوت بین المحصورة وغیرها هو أن عدم الحصر ربما یلازم ما یمنع عن فعلیة المعلوم، مع کونه فعلیاً لولاه من سائر الجهات.

الموافقة القطعیة ولو لم یکن عازما إلاّ بالاقتصار علی بعض المحتملات فلا یحکم بالصحة حتی إذا ظهر موافقة المأتی به للمکلف به، وما ذکره مبنی علی اعتبار قصد الجزم فی نیة العبادة بأن لا یکون قاصداً بالإتیان بها علی تقدیر، ولکن لم یرد فی شیء من الأدلة اعتبار الجزم بهذا المعنی فی صحة العلم.

وقد یقال: إنه یترتب علی ذلک أنه لو دار الأمر فی الواجبین المترتبین بین تکرار کل منهما، کما إذا اشتبهت القبلة مع وجوب صلاة الظهرین بین طرفین أو أکثر، فما دام لم یفرغ من محتملات الواجب الأول لم یجز الإتیان بمحتمل الواجب الآخر بناء علی اعتبار قصد الجزم، بخلاف ما إذا قیل بعدم اعتباره فإنه یجوز له قبل الفراغ الإتیان ببعض محتملات الواجب الآخر، کما إذا صلی الظهر إلی جهة یجوز صلاة العصر إلی تلک الجهة، ولا یعتبر الفراغ من محتملات صلاة الظهر، نعم لا یجوز له أن یأتی من محتملات العصر إلی غیر الجهة التی صلی الظهر إلیها وإلاّ علم بطلان العصر لفقد الترتیب أو لکونها إلی غیر جهة القبلة، ولکن لا یخفی ما فی هذا التفریع، فإنه بناءً علی قصد الجزم فی صحة العبادة فاللازم أن یکون قاصدا للامتثال الإجمالی، وهذا القصد لا ینافی الدخول فی محتملات العصر علی النحو الذی ذکرنا قبل الفراغ

ص :369

وبالجملة: لا یکاد یری العقل تفاوتاً بین المحصورة وغیرها، فی التنجز وعدمه، فیما کان المعلوم إجمالاً فعلیاً، یبعث المولی نحوه فعلاً أو یزجر عنه کذلک مع ما هو علیه من کثرة أطرافه.

والحاصل: أن اختلاف الأطراف فی الحصر وعدمه لا یوجب تفاوتاً فی ناحیة العلم، ولو أوجب تفاوتاً فإنما هو فی ناحیة المعلوم فی فعلیة البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا یکاد یختلف العلم الإجمالی باختلاف الأطراف

من محتملات صلاة الظهر.

الثانی: ما إذا کان للمعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف أثر زائد کما إذا علم بنجاسة الماء أو نجاسة اللبن فإن النجاسة فی الماء أو اللبن موضوع لحرمة الأکل والشرب، ویختص الماء بأن النجاسة فیه توجب عدم جواز استعماله فی رفع الحدث والخبث، وفی مثل ذلک تسقط أصالة الطهارة فی کل من ناحیة الماء وناحیة اللبن، وکذا أصالة البراءة والحلیة فی استعمال کل منهما فی الشرب والأکل، وأما بالإضافة إلی رفع الحدث أو الخبث باستعمال الماء المزبور فیرجع فیه إلی الأصل الجاری فیه سواء کان مثبتا کما فی المثال فإنه یرجع إلی استصحاب بقاء الحدث أو الخبث، بمعنی أنه لم یغسل بماء طاهر أو لم یتوضأ أو لم یغتسل بالماء الطاهر، أو کان نافیا طولیا کما تقدم فی مسألة العلم بنجاسة الماء أو الثوب بالإضافة إلی حلیّة شرب الماء.

وهذا بخلاف ما إذا کان الاختلاف فی الموضوع المترتب علیه الأثر بأن کان الدوران بین الأقل والأکثر فی الموضوع لا الأثر، فإنه لولم یکن فی الفرض قدر مشترک کما إذا علم بنذره بقراءة سورة خاصة فی صلاته بعد الحمد، وترددت السورة المنذورة بین سورة التوحید وسورة یس، فعلیه الاتیان بصلاتین بکل من

ص :370

قلة وکثرة فی التنجیز وعدمه ما لم یختلف المعلوم فی الفعلیة وعدمها بذلک، وقد عرفت آنفاً أنه لا تفاوت بین التفصیلی والإجمالی فی ذلک، ما لم یکن تفاوت فی طرف المعلوم أیضاً، فتأمل تعرف.

وقد انقدح أنه لا وجه لإحتمال عدم وجوب الموافقة القطعیة مع حرمة مخالفتها، ضرورة أن التکلیف المعلوم إجمالاً لو کان فعلیاً لوجب موافقته قطعاً، وإلاّ لم یحرم مخالفته کذلک أیضاً.

ومنه ظهر أنه لو لم یعلم فعلیة التکلیف مع العلم به إجمالاً إما من جهة عدم الإبتلاء ببعض أطرافه أو من جهة الإضطرار إلی بعضها[1].

السورتین بعد قراءة الحمد لسقوط الاُصول النافیة فی الطرفین، بخلاف ما إذا کان بینهما قدر مشترک خارجی فی الأثر، کما إذا علم إجمالاً بأنه استدان من زید الفاً، أو أتلف علیه ألفین فإن الاستدانة والإتلاف وإن کانا موضوعین ولیس بینهما قدر مشترک خارجی، إلاّ أن وجود القدر المشترک فی حکمها وهو اشتغال الذمة بالأقل کافٍ فی الانحلال.

[1] ظاهر کلامه قدس سره أنه مع عدم العلم بتکلیف فعلی سواء کان عدم العلم بفعلیته من جهة عدم الإبتلاء ببعض أطراف العلم أو من جهة الاضطرار إلی ارتکاب بعضها معینا أو مردداً، أو من جهة العلم بموضوع یعلم بتحققه فی طول الزمان کعلم المستحاضة بحیضها فی بعض أیام الشهر لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته، بخلاف ما إذا علم التکلیف الفعلی فإن العلم الإجمالی یوجب تنجزه ولو کان بین أطراف تدریجیة، فإن التدرج فی متعلق التکلیف لا ینافی فعلیته ضرورة أنه کما یصح التکلیف بأمر حالی، کذلک یصح بأمر استقبالی کوجوب الحج علی المستطیع فی موسمه، ومقتضی کلامه هذا أن العلم الإجمالی بحدوث تکلیف، إما فعلاً أو فی

ص :371

.··· . ··· .

المستقبل لا یوجب التنجز، بخلاف ما إذا کان التکلیف المعلوم فعلیا والتدرج فی متعلق ذلک التکلیف، فإنه لا فرق فی تنجزه بین کون أطراف التکلیف المعلوم بالإجمال دفعیة أو تدریجیة.

تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات

وینبغی الکلام فی المقام فی أقسام التدرج فنقول إن التدرج قد یستند إلی اختیار المکلف کما إذا علم بکون أحد الثوبین غصبا فإنه یمکن للمکلف لبسهما معا، ولکن اختار أن یلبس أحدهما فی زمان والآخر فی زمان آخر، ولا إشکال فی أن هذا القسم یدخل فی العلم الإجمالی بالتکلیف فی الدفعیات والعلم بالحرمة الواقعیة المتعلقة بلبس المغصوب یکون منجزا لها، وقد یستند التدرج إلی عدم إمکان الجمع بین الأطراف فی الارتکاب دفعة، کما إذا علم بحرمة أحد ضدین لهما ثالث، فإنه یتمکن من الإتیان بأی منهما أولاً، ولکن لا یمکن الجمع بینهما فی زمان، ولا ینبغی التأمل فی دخول ذلک فی الدفعیات علی ما تقدم، وقد تستند التدریجیة إلی تقیّد أحد الأطراف بزمان أو بزمان متأخّر، والتکلیف المعلوم بالإجمال إما أن یکون فعلیا علی کل تقدیر أو لا یکون فعلیاً إلاّ علی تقدیر دون تقدیر آخر.

الأول: کما إذا نذر صوم یوم الخمیس فی هذا الاُسبوع أو یومه فی الاُسبوع الآتی فإن وجوب الوفاء بالنذر یکون فعلیا من حین النذر وإن کان متعلّقه الأمر الاستقبالی، وقد التزم الماتن بکون العلم الإجمالی منجزا فی هذه الصورة.

والثانی: وهو ما إذا لم یکن التکلیف علی فرض تأخّر متعلقه فعلیا کما فی مسألة حیض المستحاضة فی طول الشهر، فإن العلم الإجمالی یتعلق بتکلیف فعلی

ص :372

.··· . ··· .

علی تقدیر، واستقبالی علی تقدیر آخر، وفی مثل ذلک مقتضی کلام الماتن جواز الرجوع إلی الأصل النافی فی کل الأطراف مع حصول طرفه، کما إذا رأت ناسیة الوقت دما مستمرا إلی خمسة عشر یوما أو إلی آخر الشهر، فإنه لا یجب علیها محرمات الحائض فی شیء من أیام الدم، حیث تتمسک المرأة بالاستصحاب فی عدم الحیض فی أول الدم إلی أن تبقی ثلاثة أیام من آخر دمها، وفی تلک الأخیرة یتعارض الاستصحاب فی بقاء الحیض المعلوم إجمالاً مع الاستصحاب فی بقاء الطهر المعلوم کذلک فیتساقطان، أو لا یجری شیء من الاستصحابین، فیؤخذ بأصالة الحلیة فی محرمات الحائض؛ لانّ خطاب قاعدة الحلیة، یختص بتلک المحرمات.

ولکن المحقق النائینی قدس سره ذکر عدم جواز الرجوع إلی الأصل النافی فی شیء من الصورتین، وأنه لا فرق فی تنجیز العلم الإجمالی بین الدفعیات والتدریجیات، وعن الشیخ قدس سره التفصیل بین ما کان التکلیف المتأخر تاما من جهة الملاک، بأن تکون القدرة فی المتأخر شرطا فی الاستیفاء أو لم یکن تاما، بأن لم یحرز الملاک فیه إلاّ علی تقدیر القدرة علیه فی ظرفه، ولکن المراجعة إلی کلامه فی الرسالة لا یناسب هذا النقل، حیث ذکر رحمه الله فی الأمر السادس التحقیق أنه لا فرق بین الموجودات فعلاً والموجودات تدریجاً فی وجوب الاجتناب نعم قد یمنع الابتلاء دفعة فی الدریجیات کما فی مثال الحیض، فإنّه فی مثل الحیض تنجّز التکلیف علی الزوج بترک وط ء الحائض قبل زمان حیضها ممنوع، وظاهر هذا الکلام هو بعینه ما ذکره الماتن من أنه لا فرق بین الدفعیات والتدریجیات إذا کان التکلیف فعلیا، وأنه إذا وجب رعایة المعلوم بالإجمال فی الدفعیات لفعلیة التکلیف لزم رعایته فی التدریجیات أیضا، وإن لم یجب فی الثانی لم یجب فی الأول أیضا، لاتحاد ملاک

ص :373

.··· . ··· .

وجوب الاجتناب وهو تعلق العلم بالتکلیف المتوجه إلی المکلف فعلاً، ولذا التزم قدس سره بوجوب الاجتناب فی مسألة الحلف علی ترک الوط ء فی لیلة خاصة، واشتبهت تلک اللیلة بین لیلتین، وفی مسألة علم التاجر بابتلائه فی یومه أو شهره بمعاملة ربویة، نعم ما ذکر فی مسألة علم التاجر خارج عن البحث فی المقام فلا یجوز للتاجر الدخول فی معاملة لا یعلم حکمها ویحتمل دخولها فی معاملة ربویة حتی مع عدم العلم الإجمالی؛ لأنّ جریان البراءة فی الشبهة الحکمیة مشروط بالفحص ومع عدمه کما هو الفرض لا یکون معذوراً، بل یحکم بفساد المعاملة بمعنی عدم جواز ترتیب الأثر علیها؛ لأنه لا یتمسک فیها بعموم «أوفوا بالعقود» لعلمه بخروج المعاملة الربویة عن مثله، وأن التمسک بالعام موقوف علی الفحص وعدم الظفر بالدلیل علی التخصیص، وعلی الجملة العلم الإجمالی فی التدریجیات فی الشبهة الحکمیة قبل الفحص خارج عن مورد الکلام فی المقام، والموضوع للکلام فی المقام ما إذا کانت الشبهة موضوعیة أو حکمیة بعد الفحص، وإن العلم الاجمالی فی التدریجیات کالعلم الإجمالی به فی الدفعیات، وقد ذکرنا أنه لو کان التکلیف المعلوم بالإجمال علی تقدیر تعلقه بأمر استقبالی فعلیا بنحو الواجب المعلق یکون تساقط الاُصول النافیة فی أطرافه کتساقطها فیما کان المعلوم بالإجمال أطرافه دفعیة، وأما إذا کان نفس التکلیف علی بعض التقادیر أمرا استقبالیا وبنحو الواجب المشروط بنحو الشرط المقارن أو الموقت فمع العلم بحصوله مستقبلاً إن لم یکن المعلوم بالإجمال فعلیا فرضان.

احدهما: أن تکون القدرة فی ظرفه علی موافقة التکلیف شرطا فی الاستیفاء للملاک لا لنفس الملاک، بمعنی أن المکلف إذا عجز عن الفعل یفوت عنه ملاک

ص :374

.··· . ··· .

الواجب کفوته ممن یکون قادرا علیه ویترک الفعل اختیارا، وفی هذا الفرض یجب علی المکلف التحفظ علی القدرة علیه فی زمانه لاستقلال العقل بعدم جواز تفویت الملاک الملزم ویکون التکلیف المردّد بین الفعلی والاستقبالی خارجا عن خطابات الاُصول النافیة، حیث إن العلم بالملاک کافٍ فی عدم جواز التفویت، وبتعبیر آخر کما یقبح الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال مع فعلیة أطرافه کذلک یقبح هذا الترخیص فی تفویت الملاک الملزم.

والفرض الثانی: ما إذا کان الملاک علی تقدیر حصول التکلیف متأخرا ینحصر علی القادر فی ذلک الظرف بأن تکون القدرة علیه فی ظرفه دخیلة فی الملاک لا فی استیفائه، فهل یجوز للمولی الترخیص فی مخالفة التکلیف المعلوم بالاجمال المردّد بین کونه فعلیا أو تکلیفا استقبالیا بهذا النحو؟ فالظاهر عدم الفرق فی قبح الترخیص مع العلم بحصول التکلیف فی ظرفه وقدرة المکلف علی موافقته سواء کان فعلیا أو استقبالیا، وعدم لزوم حفظ القدرة فی هذا الفرض لا ینافی عدم جواز الترخیص فی مخالفته فی ظرفه سواء کان ظرفه فعلیا أم استقبالیا؛ لأنّ المفروض أنه لولم یکن ظرفه فعلیا یکون حصوله فی المستقبل، ولفعلیة ملاکه ولزوم استیفائه فی ذلک الظرف لا یصح من المولی الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة فی المعلوم بالإجمال المردّد بین کونه تکلیفا فعلیا وکونه استقبالیا. کما هو المفروض، وإن جاز للمکلف تفویت قدرته علی الموافقة قبل مجیء الظرف الاستقبالی، إلاّ أنه یعلم بأنه لا یفوته ویحصل التکلیف فی المستقبل لولم یحصل فعلا، وما فی ظاهر تقریرات العراقی قدس سره من حفظ القدرة علیه فی الفرض الثانی أیضا، وتعلیل تنجیز العلم الإجمالی بتعلقه بتکلیف إما متعلق بالطرف الفعلی أو بحفظ القدرة علی الاستقبالی

ص :375

معیناً أو مردداً، أو من جهة تعلقه بموضوع یقطع بتحققه إجمالاً فی هذا الشهر، کأیام حیض المستحاضة مثلاً، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته، وأنه لو علم فعلیته ولو کان بین أطراف تدریجیة، لکان منجزاً ووجب موافقته. فإن التدرج لا یمنع عن الفعلیة، ضرورة أنه کما یصح التکلیف بأمر حالی کذلک یصح بأمر استقبالی، کالحج فی الموسم للمستطیع، فافهم.

من غیر ناحیة شرط الوجوب وقیده کما تری، وتوجیهه أخیرا بتنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات کالدفعیات بما سلکه فی فعلیة التکالیف من أن الإرادة الباعثة من المولی تتعلق بالفعل الاستقبالی بعنوانه، وحصول الشرط ودخول الوقت خارجا لا یکون بنفسه دخیلاً فی تعلق إرادة المولی، بل الدخیل فی تعلقها لحاظهما طریقا ومشیرا إلی الخارج فیکون التفاوت فی ناحیة الانبعاث الناشئ عن الخطاب المتوجه إلی المکلف بتلک الإرادة، حیث لا یکون الانبعاث إلاّ بعد تطبیق الشرط والوقت علی المورد وکیفیة الانبعاث بل أصله خارج عن مدلول الخطاب ولا یمکن أخذهما فی مدلوله، حیث إنه متفرع علی الخطاب ومدلوله ووصوله إلی المکلف، وعلی کل تقدیر یتعلق العلم الإجمالی بالإرادة الباعثة الفعلیة الموجبة عند العلم بها لزوم حفظ القدرة علی موافقة التکلیف المشروط أو الموقت الحاصل فیما بعد من غیر ناحیة شرط التکلیف أو قیده لا یخفی ما فیه، فإن الإرادة الباعثة للمولی تتعلق بجعل التکلیف، والتکلیف أمر اعتباری فتارة یعتبر الوجوب المتعلق فعلیا، والاستقبالیة إنما تکون فی نفس الفعل، واُخری یعتبر الحکم والوجوب بعد حصول الشرط أو دخول الوقت خارجا، ففی الثانی لا یجب حفظ القدرة علی الفعل إلاّ بعد تحقق الشرط أو دخول الوقت بخلاف الأول، فإن نفس التکلیف فیه فعلی وتقتضی فعلیته حفظ القدرة علی الفعل الاستقبالی، ولو قبل حصول الشرط ودخول الوقت، کما

ص :376

تنبیهات

الأول: أن الاضطرار کما یکون مانعا عن العلم بفعلیة التکلیف لو کان إلی واحد معین، کذلک یکون مانعا[1].

أوضحنا کل ذلک فی بحث الواجب المشروط بالشرط المقارن والواجب المعلق، وعلی ذلک لم یبق فی البین وجه لتنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات التی یکون نفس التکلیف مرددا بین کونه فعلیا أو أمرا استقبالیا غیر ما ذکرنا من قبح الترخیص القطعی من المولی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الذی هو إما فعلی أو یعلم المکلف بصیرورته فعلیا مستقبلاً.

الاضطرار إلی بعض أطراف العلم

[1] ذکر الماتن قدس سره أن الاضطرار إلی بعض أطراف العلم سواء کان الاضطرار إلی معین أو غیر معین یوجب عدم العلم بفعلیة التکلیف، مثلاً إذا علم نجاسة أحد المایعین أحدهما خل والآخر ماء، واضطر إلی شرب الماء لدفع عطشه المهلک، أو علم نجاسة أحد الماءین واضطر إلی شرب أحدهما لدفعه فشرب الماء فی المثال الأول، وشرب أحد الماءین فی المثال الثانی حلال واقعا بلا فرق بین کونه هو النجس الواقعی أم لا، والخل فی الأول وغیر المختار فی الثانی تعلق التکلیف به مشکوک فتجری فیه أصالة الحلیة، ثم إنه قدس سره ذکر عدم الفرق فی مانعیة الاضطرار عن العلم بالتکلیف الفعلی بین ما کان الاضطرار إلی المعین أو غیره قبل العلم الاجمالی أو طرو الاضطرار بعدم حصول العلم الإجمالی، والتزم بأن العلم الإجمالی فی موارد الاضطرار إلی بعض أطرافه غیر منجز، حیث لا یکون فی هذه الموارد علم بالتکلیف الفعلی ولو إجمالاً، وتعرض قدس سره لما یقال بأن مانعیة الاضطرار عن تنجیز العلم الإجمالی إذا کان الاضطرار سابقا علی العلم صحیح، وأما المانعیة فیما إذا طرأ بعد

ص :377

.··· . ··· .

العلم الإجمالی لم یحرز وجهه، ولم یعلم الفرق بین طرو الاضطرار بعد العلم الإجمالی، وبین فقد بعض الأطراف، حیث إنّه مع فقد بعضها بعد العلم لا یوجب عدم لزوم رعایة احتمال التکلیف فی الأطراف الباقیة، وأجاب بالفرق بینهما، وحاصله أن الأحکام الإلزامیة المجعولة لموضوعاتها بالإضافة إلی تلک الموضوعات لیست بمقیدة بل تثبت لها بحصولها خارجا وترتفع عنها بارتفاعها، مثال حرمة شرب الخمر تکون فعلیة بحصول الخمر، واعتصام الماء الکر یکون فعلیا بحصول الماء الکر وبقائه، وإذا ارتفع الموضوع بأن صار الخمر الخارجی خلاً أو زالت الکریة من الماء ترتفع الحرمة فی الأول والاعتصام فی الثانی، وهذا الارتفاع قهری ولیس من تقیید الحکم وعدم إطلاقه، وعلی ذلک فلو علم إجمالاً بخمریة أحد الاناءین فیعلم بالحرمة الفعلیة المطلقة فی أحدهما، وبعد فقد أحدهما یشک فی ارتفاع تلک الحرمة بعد فعلیتها وتنجزها، وهذا بخلاف طرو الاضطرار حیث إن طروه غایة للتکلیف وحدّ له قیدا، فالماء المغصوب بعد طرو الاضطرار إلی شربه باق، ولکن لا حرمة فی شربه فمع الاضطرار إلی شرب أحد المائعین معینا أو إلی غیر معین، لا یصح القول بأنه کان لنا العلم بالحرمة الفعلیة المطلقة فی أحدهما ویشک فی ارتفاع ما تعلقت به، بل الصحیح أن یقال قد علمنا بالحرمة المغیاة الفعلیة التی نحتمل حصول غایتها فیکون الشک فی الحرمة بعد طرو الاضطرار فی الآخر شکا بدویا.

وبتعبیر آخر طرو الاضطرار غایة للمعلوم بالإجمال أی التکلیف الفعلی بخلاف فقد أحد الأطراف فإنه لیس غایة للمعلوم بالإجمال، بل غایة للعلم به والشک فی الحرمة بعد طرو الاضطرار إلی أحدها من الشک البدوی فی حدوث

ص :378

.··· . ··· .

حرمة مطلقة من الأول، بخلاف فقد بعض الأطراف فإن العلم الإجمالی بحدوث حرمة مطلقة بحاله، غایة الأمر لا علم ببقائها، ومقتضی قاعدة الاشتغال إحراز الخروج عن عهدتها بترک الأطراف الاُخری فی موارد العلم بالحرمة أو بالاتیان بها فی موارد العلم بالوجوب.

أقول: لا فرق بین غایة الاضطرار وسائر القیودات والغایات للتکلیف، ولو کان العلم الإجمالی غیر منجز للتکلیف بعد طرو الاضطرار إلی بعض الأطراف معینا أو غیر معین یکون الأمر کذلک فی غیره أیضا، کما إذا علم إجمالاً بکون أحد العصیرین من العصیر العنبی الذی غلی ولم یذهب ثلثاه، والآخر عصیر زبیب مغلی فیجب الاجتناب عنهما، وإذا ذهب ثلثا أحدهما فلا یجب الاجتناب عن الآخر، والحلّ ما تقدم فی بحث مفهوم الشرط من أن القیود وإن اختلفت بحسب مقام الإثبات وترجع إلی الحکم الوارد فی الخطاب تارة واُخری إلی الموضوع الوارد فیه، إلاّ أن هذا فی مقام الإثبات فقط، وأما بحسب مقام الثبوت فکلها ترجع إلی الموضوع، حیث تفرض فی مقام جعل الحکم مفروض الوجود تارة واُخری مفروض العدم، وکما أن الموضوع للاعتصام هو الماء الکر کذلک الموضوع للحرمة الخمر المفروض عدم کون شربها اضطراریا، وکذلک الحال فی سائر الأحکام بالإضافة إلی موضوعاتها، وثانیا لو فرضنا أن العلم الإجمالی بالإضافة إلی الحکم المغیَّا، بالاضطرار ونحوه غیر منجز بعد طرو الاضطرار أو غیره من الغایة علی بعض الأطراف، ولکن إذا لم یعلم المکلف بطرو الاضطرار إلی أحدهما من قبل، کما إذا کان أحد المائعین ماءً والآخر خلاً، وعلم أیضا بحدوث اضطراره إلی شرب الماء لدفع عطشه فإنه مع العلم فعلاً بنجاسة أحدهما یعلم إجمالاً إما بحرمة شرب الماء علیه فعلاً إلی طرو الاضطرار، أو

ص :379

.··· . ··· .

بحرمة شرب الخل علیه مطلقا لعدم الاضطرار إلیه ولو مستقبلاً، حیث إنه لا یرفع العطش، فأصالة البراءة عن التکلیف فی کل منهما معارضة بأصالة البراءة عن التکلیف المتعلق بالآخر، وبعد تساقطهما یرجع إلی الاستصحاب فی بقاء التکلیف الفعلی إلی ما بعد الاضطرار إلی شرب الماء، فإن هذا الاستصحاب من القسم الثانی من الاستصحاب فی الکلی، بل الأمر کذلک فی حصول الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه کما لا یخفی.

ثم إن فی الاضطرار إلی بعض أطراف العلم صورا.

الاُولی: ما إذا کان الاضطرار إلی بعض معین ثم یحصل العلم الإجمالی، کما إذا علم بوقوع نجاسة فی أحد مایعین أحدهما ماء والآخر خل، وکان المکلف قبل وقوع النجاسة مضطرا إلی شرب الماء لدفع عطشه، ولا ینبغی التأمّل فی هذه الصورة فی عدم تنجیز العلم الإجمالی بالإضافة إلی الخل أیضا؛ لأنّ الماء المزبور یجوز شربه لمکان الاضطرار إلیه سواء وقعت النجاسة فیه أم لا، فیکون الشک فی حرمة شرب الخل شکا بدویا فتجری أصالة الحل فیه، ولکن لا یخفی أن عدم تنجیز العلم الإجمالی والحکم بجواز شرب الخل بأصالة الحلیة إذا کان الماء بقدر رفع الاضطرار لا أزید، وإلاّ فالتنجیز بحاله للعلم الإجمالی عند وقوع النجاسة بحرمة شرب الخل أو الباقی من الماء.

ولا یخفی أیضا أن أصالة الطهارة فی ناحیة الخل فی الفرض تسقط بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی ناحیة الإناء الذی فیه الماء، ولکن لا مجری لأصالة الطهارة فی ظاهر شفتیه بعد شرب الماء، بدعوی أن نجاستهما مانعة عن الصلاة قبل التطهیر، وذلک فإن أصالة الحلیة الجاریة فی الخل لها خطاب خاص وأصل طولی فیؤخذ بها

ص :380

.··· . ··· .

علی ما تقدم سابقا، وأما أصالة الطهارة لظاهر شفتیه فلا أثر لها حتی تقع المعارضة بینها وبین أصالة حلیة الخل، حیث إن المفروض عدم تمکن المکلف من التطهیر لفقد الماء، نعم إذا بقی الخل إلی أن وجد الماء لتطهیره فلا یجوز شربه لوقوع المعارضة.

الصورة الثانیة: ما إذا کان الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه، ثم حصل العلم الإجمالی کما إذا اضطر إلی شرب أحد الماءین ثم علم إجمالاً بوقوع النجاسة فی أحدهما، وقد یقال فی هذه الصورة بعدم تنجیز العلم الإجمالی کالصورة الاُولی، بدعوی أن ما یدفع المکلف اضطراره بشربه حلال وحرمة شرب الآخر بعده مشکوک بدوا، فیؤخذ بأصالة الحلیة فیه، ولکن هذا القول ضعیف، والصحیح تنجیز العلم الإجمالی؛ لأنّ الاضطرار یرفع الحرمة إذا کان طارئا علی ارتکاب الحرام کما هو مفاد رفع الاضطرار، وقوله علیه السلام : ما من محرّم إلاّ وقد أحلّ لمن اضطر إلیه(1)، والمفروض فی هذه الصورة عدم طرو الاضطرار إلی شرب الماء المتنجس، ولذا لو کان المتنجس منهما محرزا کان علی المکلف دفع اضطراره بغیره.

وعلی الجملة النجس منهما واقعا باقٍ علی حرمته وموجب لتساقط الاُصول النافیة فیهما، غایة الأمر لا تجب الموافقة القطعیة فی الفرض؛ لأنّ حکم العقل بلزومها للتحرز عن العقاب المحتمل، ومع کون الموافقة القطعیة موجبة للابتلاء بمحذور آخر کالقاء النفس فی التهلکة لا یحکم العقل بلزومها، أضف إلی ذلک أن الشارع إذا رخص فی ارتکاب المحرم لدفع الاضطرار فالترخیص فی ارتکاب محتمل

ص :381


1- 1) وسائل الشیعة 23:228، الباب 12 من أبواب کتاب الإیمان، الحدیث 18.

.··· . ··· .

الحرمة أولی، غایة الأمر الترخیص فی الأول واقعی وفی الثانی ظاهری، وقد تقدم أن کلام الماتن ظاهره کون الترخیص واقعیا، وکذا یظهر ذلک من المحقق النائینی قدس سره ولکن یختلف ما ذکره عما ذکره الماتن، حیث قال: ما یدفع به الاضطرار قبل دفعه کان محرما علی تقدیر کون المعلوم بالإجمال فیه، ولذا یجب رعایة العلم الإجمالی فی الطرف الباقی حتی بعد دفع اضطراره، حیث لم یطرأ الاضطرار علی خصوص الحرام الواقعی، وانما یکون اختیاره لدفع اضطراره موجبا لسقوط حرمته الواقعیة، ولکن لا یخفی أن تعلق الحرمة الواقعیة بفعل قبل ارتکابه وسقوطها عند اختیار ارتکابه أمر غیر معقول؛ لأنّ التکلیف للزجر عن اختیار متعلقه، وإذا جاز الفعل واقعا باختیار ارتکابه فلا یبقی معنی لتحریمه، والحل أن اختیار شیء لدفع اضطراره إلی الجامع لا یوجب طرو الاضطرار علیه لیکون التکلیف به ساقطا باختیاره لدفع اضطراره، والمتعین ما ذکرنا من عدم حکم العقل فی الفرض بلزوم الموافقة القطعیة، ولا یبعد أن یجری الاستصحاب فی بقاء النجس بعد رفع الاضطرار بأحدهما فی هذا الفرض أیضا، کما یأتی فی الصورة الثالثة. ومما ذکرنا یظهر الحال فی الصورة الثالثة: وهی ما إذا کان طرو الاضطرار إلی شرب أحد ماءین بعد العلم بنجاسة أحدهما، فإنه عند طرو الاضطرار فالمختار لدفعه باق علی حرمته الواقعیة فیما إذا انطبق علیه المعلوم بالإجمال، غایته أنه لا تجب الموافقة القطعیة عقلاً علی ما تقدم، بل یمکن فی الفرض الالتزام بوجوب الاجتناب عن الآخر للاستصحاب فی بقاء ما تنجس واقعا، ولا یعارض بالاستصحاب فی عدم وقوع النجس فی الباقی لسقوطه بالمعارضة مع عدم وقوعه فی المدفوع به الاضطرار قبل طرو الاضطرار إلی شرب أحدهما.

ص :382

لو کان إلی غیر معین، ضرورة أنه مطلقاً موجب لجواز ارتکاب أحد الأطراف أو ترکه، تعییناً أو تخییراً، وهو ینافی العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بینها فعلاً، وکذلک لا فرق بین أن یکون الإضطرار کذلک سابقاً علی حدوث العلم أو لاحقاً، وذلک لأن التکلیف المعلوم بینها من أول الأمر کان محدوداً بعدم عروض الإضطرار إلی متعلقة، فلو عرض علی بعض أطرافه لما کان التکلیف به معلوماً،

لا یقال: کیف یکون المدفوع به الاضطرار محرما واقعا عند اختیاره لدفعه، وما فائدة تحریمه عنده مع کون الغرض من النهی الزجر عن متعلقه، والتأمل فی فائدة النهی والغرض منه یجری فی کل من الصورتین الثانیة والثالثة، فإنه یقال نعم الغرض من النهی الزجر عن متعلقه، وهذا الغرض حاصل، حیث إنه لو علم أثناء الارتکاب أن ما یرتکبه نجس یجب قطع الارتکاب ودفع اضطراره بغیره، بخلاف ما إذا کان الاضطرار إلی معین، فإنه لو علم نجاسته حین ارتکابه فلا یضر لسقوط النهی عنه بالاضطرار إلیه.

والصورة الرابعة: ما إذا علم بنجاسة أحد مائعین، أحدهما ماء والآخر خل، ثم طرأ الاضطرار إلی شرب الماء لدفع عطشه، ففیها ما تقدم من عدم الفرق بین طرو الاضطرار إلی بعض الأطراف وبین فقده، فی أن العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما قبل طرو الاضطرار أو فقد بعض الأطراف مقتضاه لزوم الاجتناب عن الآخر؛ لأنّ الاُصول النافیة فی جمیع الأطراف قد سقطت قبل طروه أو فقد بعض الأطراف، بل یمکن فی الفرض الاستصحاب فی بقاء ما وقعت النجاسة فیه سابقا، فإن المقام من قبیل القسم الثانی من الکلی، ومقتضاه رعایة التکلیف المحتمل فی غیر المضطر إلیه أو الباقی من الأطراف، ولا مجال فی المقام لدعوی معارضة الاستصحاب فی عدم وقوع النجاسة فی الخل مع الاستصحاب فی بقاء الکلی بعد دفع الاضطرار بالماء، أو

ص :383

لاحتمال أن یکون هو المضطر إلیه فیما کان الاضطرار إلی المعین، أو یکون هو المختار فیما کان إلی بعض الأطراف بلا تعیین.

لا یقال: الاضطرار إلی بعض الأطراف لیس إلاّ کفقد بعضها، فکما لا إشکال فی لزوم رعایة الاحتیاط فی الباقی مع الفقدان، کذلک لا ینبغی الإشکال فی لزوم رعایته مع الاضطرار، فیجب الاجتناب عن الباقی أو ارتکابه خروجاً عن عهدة ما تنجز علیه قبل عروضه.

بعد فقد بعض الأطراف، وذلک لسقوط جمیع الاُصول النافیة فی الأطراف قبل طرو الاضطرار أو فقد بعضها.

وهذا بخلاف الصورة الاُولی، من حصول العلم بوقوع النجاسة بعد الاضطرار إلی معین، حیث ذکرنا أن أصالة الحلیة فی الخل جاریة ولم تسقط ومع أصالة الحلیة لا یجری الاستصحاب فی بقاء النجاسة السابقة؛ لأنه لا أثر لبقاء النجاسة إلاّ الاحتیاط لاحتمال دفع الضرر ولا یثبت نجاسة الخل، واحتمال الضرر مدفوع فی شرب الخل بجریان أصالة الحلیة فیه کما أوضحنا ذلک فی بحث الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی إذا احتمل التکلیف فی الفرد الباقی المحتمل، وکان احتماله فیه مدفوعا بالأصل النافی، ولا یخفی أن الملاک فی تنجیز العلم الإجمالی وعدم تنجیزه فی موارد الاضطرار إلی بعض الأطراف معینا، هو حصول العلم الإجمالی لا المعلوم بالإجمال، بمعنی أن سبق المعلوم بالإجمال علی الاضطرار للبعض المعین من الأطراف لا یفید فی تنجیز العلم الإجمالی، وإنما الموجب لتنجیزه ما إذا کان نفس العلم الإجمالی قبل الاضطرار إلی بعض الأطراف معینا، ولو کان لاحقا بالاضطرار فلا یفید التنجیز لأن الموجب لتنجیزه تساقط الاُصول النافیة فی أطرافه، وأطرافه تکون موردا لها عند حصول العلم، فإن الموضوع لها الشک فی الأطراف، الحاصل

ص :384

فإنه یقال: حیث إن فقد المکلف به لیس من حدود التکلیف به وقیوده، کان التکلیف المتعلق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمة به، کان قضیة الإشتغال به یقیناً الفراغ عنه کذلک، وهذا بخلاف الإضطرار إلی ترکه، فإنه من حدود التکلیف به وقیوده، ولا یکون الإشتغال به من الأول إلاّ مقیداً بعدم عروضه، فلا یقین باشتغال الذمة بالتکلیف به إلاّ إلی هذا الحد، فلا یجب رعایته فیما بعده، ولا یکون إلاّ من باب الاحتیاط فی الشبهة البدویة، فافهم وتأمل فإنه دقیق جداً.

الثانی: إنه لما کان النهی عن الشیء، إنما هو لأجل أن یصیر داعیا للمکلف نحو ترکه لولم یکن له داعٍ آخر[1].

بحصول العلم الإجمالی وسبق المعلوم بالإجمال علی الاضطرار لا یؤثر فی المعارضة، إذا کان نفس العلم به لاحقا علی الاضطرار، ومما ذکرنا یظهر أنه لو کان العلم الإجمالی مقارنا لحصول الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه، وأنه لا یکون فی الفرض للأصل النافی فی غیر المضطر إلیه معارض حتی وإن کان نفس المعلوم بالإجمال سابقا علی الاضطرار فتدبر.

اشتراط الابتلاء بجمیع أطراف العلم الإجمالی فی تنجیزه

[1] اعتبر جماعة فی تنجیز العلم الإجمالی بالحرمة الابتلاء بجمیع أطرافه، وذکر فی وجهه أنه لا ینبغی التأمل فی اعتبار التمکن من فعل فی صحة النهی عنه، حیث إن النهی عن فعل لا یتمکن المکلف منه لغو لا یصدر عن المولی الحکیم، وإذا کان الوجه فی عدم صحة النهی فی فرض عدم التمکن من المتعلق ما ذکر جری فیما کان الفعل مما یترک عادة ولا یحصل للمکلف داع إلی ارتکابه مع اطلاعه بما علیه من الخصوصیات، ولذلک التزموا کالماتن قدس سره باشتراط الابتلاء فی فعلیة النهی؛ لأنه مع عدم الابتلاء لا یترتب علی النهی عنه دعوة للمکلف إلی الترک.

ص :385

.··· . ··· .

وقد یقال لازم ما ذکر اشتراط الابتلاء فی التکلیف الوجوبی أیضا، بأن یعتبر فی الوجوب الفعلی إمکان ترتب دعوته إلی الفعل وإذا فرض فعل لا یحصل للمکلف داع إلی ترکه عادة یکون الأمر به لغوا، کایجاب ستر العورة عن غیر الزوجة ووجوب الانفاق علی النفس والولد، واعترف الماتن قدس سره بذلک فی هامش الکفایة، وقد ذکر النائینی قدس سره أن اشتراط الابتلاء یختص بالتکالیف التحریمیة، والمراد من الخروج عن الابتلاء کون الموضوع لحرمة الفعل بحیث یحتاج الاتیان بمتعلق النهی إلی تهیئة مقدمات للوصول إلیه بحیث لا یرغب عادة إلی تلک الهیئة، ککون المایع النجس أو الغصبی فی أرض یحتاج الوصول إلیها إلی سفر طویل، وهذا النحو من الفعل لا یصح النهی عنه، ولکن یصح الأمر بمثل هذا الفعل؛ لأنّ الأمر یکون داعیا له إلی تهیئة المقدمات، وأما إذا لم یکن الموضوع کذلک بل عدم ارتکابه لوجود داع آخر یدعو إلی ترکه ولا یتخلف الداعی عادة، کتحریم أکل الخبائث فیصح النهی عنه کما یصح الأمر بستر العورة، حیث یکون النهی والأمر مؤکدین للارتداع أو الاتیان، ولکن قد یناقش فی الفرق بین ما إذا کان الوصول إلی الموضوع محتاجا إلی تهیئة مقدمات لا یحصل للمکلف عادة الداعی إلیها، وبین ما إذا کان الموضوع بید المکلف ولکن یکون له داع آخر إلی ترک متعلق النهی لا یتخلف عنه عادة، بحیث لا یحصل للنهی المفروض داعویة إلی الترک، ولو کان النهی فی الفرض الأول لغوا لکان فی الثانی أیضا کذلک، وبتعبیر آخر کما یصح أخذ القدرة فی متعلق النهی بأن یضاف النهی إلی الفعل المقدور کذلک یصح أخذ الابتلاء بمعنی عدم الداعی الآخر الذی لا یتخلف عادة فی متعلقه بأن یختص النهی بالفعل الذی یمکن فیه حصول الداعی إلی الارتکاب عادة، ولکن الصحیح عدم اعتبار الزائد علی القدرة لا فی الإیجاب ولا فی

ص :386

.··· . ··· .

التحریم، حیث إن النهی مع الداعی الآخر إلی الفعل أو الترک مؤکد یکون موجبا للقرب فیما إذا کان کل منهما مستقلاً فی الدعوة بمعنی أنه لولم یکن للمکلف داع آخر إلی الفعل أو الترک لکان الأمر أو النهی داعیا له إلی الاتیان أو الترک، وحیث إن الغرض فی الأوامر الشرعیة والنواهی الشرعیة لیس مجرد الفعل أو الترک، بل الغرض منهما استناد الفعل إلی أمر الشارع به، واستناد الترک إلی نهیه، لصح للشارع الأمر والنهی حتی فیما کان للمکلف داعٍ آخر إلی الفعل أو الترک، ولا یقاس ذلک بالموارد التی یکون الغرض من الأمر والنهی مجرد الإتیان بالمتعلق أو ترکه خارجا، لیکون الأمر والنهی مع داعٍ آخر لا یتخلف عادة عبثا.

لا یقال: لو کان الغرض فی الأوامر الشرعیة ونواهیه الاستناد فی الفعل أو الترک إلی أمر الشارع ونهیه لکانت التکالیف کلها من التعبدی مع أن النواهی کلها والأوامر جلّها توصلیات.

فإنه یقال: إنما یکون المتعلق توصلیا أو تعبدیا لملاک فیه، فإن کان الملاک فیه غیر موقوف علی قصد التقرب فهو توصلی، وإن کان موقوفا علی الاستناد وقصد التقرب فهو تعبدی، وبتعبیر آخر فی موارد العبادة یتعلق الأمر بالفعل مع قصد التقرب بخلاف التوصلی فإنه یتعلق بذات الفعل علی ما أوضحنا فی بحث التعبدی والتوصلی، وأما الغرض من التکلیف فی کل من التعبدی والتوصلی الاستناد، وربما یشیر إلی ذلک قوله سبحانه: «وما اُمروا إلاّ لیعبدوا اللّه»(1)، نعم رعایة هذا الغرض فی کل الأوامر والنواهی من مراتب تکمیل النفس والتقرب إلیه سبحانه.

ص :387


1- 1) سورة البینة: الآیة 5.

.··· . ··· .

وعلی الجملة الغرض من النهی عن فعل إمکان کونه داعیا إلی ترکه حتی فیما إذا کان له داعٍ آخر إلی ترکه، وکذلک الغرض من الإیجاب إمکان کونه داعیا إلی الفعل ولو مع فرض داعٍ آخر له إلی الإتیان.

والمشهور بین القوم أنه إذا صح التکلیف بما هو خارج عن الابتلاء بالمعنی المتقدم فی کلام النائینی قدس سره ، بل وغیره مما یکون التکلیف فیها للتأکید والتکرار فی الداعویة بالمعنی المتقدم یترتب علی ذلک تنجیز العلم الإجمالی بالتکلیف بین الداخل فی الابتلاء أو غیره، بخلاف ما إذا قیل باختصاص التکلیف بمورد الابتلاء، فإنه تجری الاُصول النافیة فی الداخل فی الابتلاء بلا معارض، ولکن لا یخفی ما فیه، فإن تنجیز العلم الإجمالی یکون بتعارض الاُصول النافیة فی الأطراف، وإذا اختص بعض الأطراف بأصل طولی نافٍ فلا یکون تنجیز للعلم الإجمالی، وعلی ذلک فالاُصول النافیة کالاستصحاب فی عدم الموضوع وعدم التکلیف فی الأطراف متعارضة، وکذلک أصالة الطهارة والحلیة، إلاّ أن حدیث الرفع بفقرة: «رفع ما لا یعلمون» یختص بما إذا کان الموضوع للحرمة أو الحرمة فی الداخل فی الابتلاء، حیث إن الوضع فیه ثقل علی المکلف بخلاف الوضع فیما هو خارج عن الابتلاء فإنه لا ثقل فیه، حیث لا یرتکبه المکلف فیکون الرفع فی الداخل فی محل الابتلاء امتنانا دون غیره، نعم إذا اختص الخارج عن الابتلاء بأصل مختص لا یجری فی الداخل فی مورد الابتلاء تقع المعارضة بینه وبین أصالة البراءة الجاریة فی الداخل فیه.

ثم علی تقدیر اعتبار الابتلاء فی صحة التکلیف، فإن شک فی خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بالشبهة المفهومیة فإن للخروج عن الابتلاء مراتب، فبعض تلک

ص :388

.··· . ··· .

المراتب متیقن وبعضها مشکوک، فهل یصح مع المرتبة المشکوکة التمسک بإطلاق خطاب تحریم الشیء وتثبت الحرمة فی الفرض بین الاطراف؟ ویکون العلم الإجمالی منجزا کما علیه الشیخ قدس سره ، أو أنه لا یصح معها التمسک بالإطلاق فی الخطاب حیث یعتبر فی التمسک بالإطلاق فی خطاب الحکم فی مورد إحراز إمکان ثبوت الحکم فیه بحسب مقام الثبوت کما علیه ظاهر الماتن، فیجری الأصل النافی فی الطرف الداخل فی الابتلاء، فالصحیح علی القول باشتراط التکلیف بالابتلاء هو الأول، فإنه کما یصح التمسک بالإطلاق من الخطاب فی موارد الشک فی ثبوت الحکم من سائر الجهات، کذلک یتمسک به فی مورد احتمال عدم إمکان ثبوت الحکم فیه ثبوتا، حیث إنه بالإطلاق المزبور یستکشف ثبوته وإمکانه، ولذا لم یحصل إحراز هذا الإمکان من مقدمات الإطلاق وإلاّ لم یمکن التمسک بالإطلاق فی موارد الشک فی ثبوت الحکم ثبوتا، لاحتمال عدم الملاک له فیها، مع أن ثبوت الحکم وجعله فی مورد عدم ملاکه فیه قبیح علی المولی الحکیم.

وعلی الجملة: مع الأخذ بالإطلاق المقتضی لثبوت الحکم بین الأطراف تکون الاُصول النافیة فیها متعارضة إلاّ فی الفرض الذی ذکرناه، نعم لو قیل بانصراف خطابات التکلیف إلی ثبوته فی موارد الابتلاء، کما یدعی ذلک بانصرافها إلی القادرین علی متعلقات التکلیف لما یمکن التمسک بها فی موارد الشک فی الابتلاء بنحو الشبهة المفهومیة، ولکن الدعوی بمراحل عن الواقع، ولو کان مراد الماتن ذلک کان المتعین تعلیل عدم جواز التمسک بعدم إحراز ظهور الخطاب لا بصحة إطلاق الحکم وإمکانه ثبوتا، وإلاّ یؤخذ بالإطلاق فی الخطاب فی موارد تقیید الحکم ثبوتا أو إمکان إطلاقه کذلک کما ذکرنا.

ص :389

.··· . ··· .

هذا کله فی الشبهة المفهومیة للابتلاء، وأما إذا شک فی الخروج عنه بالشبهة المصداقیة فلا یمکن التمسک بإطلاق الخطاب لإثبات التکلیف للموضوع الموجود بین أطراف یحتمل وجودها خارج الابتلاء أو الخارج عن القدرة، کما إذا علم بنجاسة إناء زید أو عمرو، وإناء عمرو مردّد بین کونه هو المتناول بیده أو خارج عن ابتلائه أو قدرته، فإنه لا یمکن فی الفرض التمسک بخطاب تحریم شرب النجس لإثبات التکلیف علی ماهو المقرر فی بحث عدم جواز التمسک بالعام أو المطلق فی شبهتهما المصداقیة، سواء کان التخصیص أو التقیید نقلیا أو عقلیا، وعلیه فیجری الأصل النافی فی الأطراف الداخلة فی موارد الابتلاء أو القدرة لاحتمال وجود الموضوع فیما هو خارج عن ابتلائه أو قدرته.

فی الشک فی کون بعض الأطراف مقدوراً أو داخلاً فی الابتلاء

لا یقال کیف تجری أصالة البراءة أو غیرها من الأصل النافی فی الداخل فی الابتلاء أو القدرة مع أن المعروف فیما بینهم أن الشک فی القدرة مورد الاحتیاط کما إذا شک فی تمکنه من تجهیز المیت فإنه لا یجوز له ترکه أخذا بالأصل النافی، فإنه یقال: یختص لزوم الاحتیاط بموارد العلم بالملاک وعدم اختصاصه بصورة التمکن کما فی المثال، وأما إذا لم یعلم ذلک واحتمل انحصاره علی صورة التمکن من الفعل، فالشک فی القدرة المساوق للشک فی التکلیف مجری للبراءة، بخلاف الصورة الاُولی حیث یلزم فیها الاحتیاط؛ لأنّ العلم بالملاک الملزم کالعلم بالتکلیف فی لزوم الرعایة غایة الأمر یکون المکلف مع عجزه وفوت الملاک لقصوره معذورا، بخلاف تفویته، لکن لا علم لنا غالبا بهذا النحو من الملاک، حیث إن الغالب یکون الکاشف عنه التکلیف، ومع عدم ثبوته فی حق العاجز لا یحرز الملاک، نعم إذا علم

ص :390

_ ولا یکاد یکون ذلک إلاّ فیما یمکن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها، فلیس للنهی عنه موقع أصلاً، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل، بل یکون من قبیل طلب الحاصل _ کان الإبتلاء بجمیع الأطراف مما لابد منه فی تأثیر العلم، فإنه

من الخارج أو دل دلیل من خطاب شرعی کما فی صورة العجز الناشئ عن ترک التعلم، حیث یستفاد من الروایات الواردة فی وجوبه أن العجز الناشئ عن ترکه لا یکون عذرا فیحرز فوت الملاک مع العجز الناشئ عن ترکه.

فی استفادة عموم الملاک من خطابات التکالیف

وأما دعوی استفادة عموم الملاک من إطلاق الخطابات لکون مفادها ثبوت التکالیف فی حق المتمکن والعاجز، غایة الأمر یکون التکلیف بالإضافة إلی العاجز بداعی الإعلام بالملاک والتصدی للفعل مع عدم إحراز عجزه واحتمال تمکنه، ولذا یکون مع إحراز عجزه معذورا ویکون التمکن شرطا لتنجز التکلیف لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنّ التکالیف من الإیجاب والتحریم بل الترخیص کونها بداعی البعث والزجر والإذن فی الارتکاب، فینحصر مدلولها ثبوتا بحکم العقل علی المتمکن من متعلقاتها وأن یکون مدلولها الاستعمالی مطلقا بالإضافة إلی المتمکن والعاجز.

وعلی الجملة اعتبار القدرة فی التکلیف عقلاً من قبیل ثبوت القید ثبوتا ولا یوجب انتقاض ظهوره الاستعمالی، بل یوجب عدم اعتباره، نعم إذا کان مفاد الخطاب القضیة الخارجیة فالأمر کما ذکر لا یکون المکلف معذورا فی مخالفة التکلیف إلاّ مع إحراز عجزه، وذلک فإن إحراز حال المکلف فیما کان الخطاب بمفاد القضیة الخارجیة یکون علی المولی توجیه خطابه إلی عبده، ظاهره أنه أحرز تمکنه من الفعل، بقی فی المقام أمران:

ص :391

.··· . ··· .

أحدهما: قد یقال کما أن خروج بعض الأطراف عن القدرة العقلیة أو حتی عن الابتلاء بناء علی ما تقدم یمنع عن تنجیز العلم الإجمالی کذلک العجز الشرعی فی بعض أطرافه یمنع عن تنجیزه، کما إذا علم بإصابة النجاسة فی الماء أو الثوب الغصبی فإنه تجری أصالة الطهارة فی الماء، ولا یعارضها أصالة الطهارة فی الثوب، فإن الثوب المزبور لا یجوز الصلاة فیه سواء کان طاهرا أو نجسا فلا مورد للأصل فیه.

أقول: لو کان غیر المقدور شرعا بحیث لم یکن للمعلوم بالإجمال أی أثر فیه أصلاً فیجری فی المقدور الاُصول النافیة بلا معارض، بخلاف ما کان له أثر فیه، فإن أصالة الطهارة فی الثوب الغصبی مقتضاها طهارة ما یلاقیه ولو بعد ذلک، ویکون هذا الأصل علی تقدیر جریانه حاکما علی أصالة الطهارة فی ناحیة الملاقی (بالکسر) فأصالة الطهارة فی الماء معارضة بأصالة الطهارة فی الثوب، نعم لا بأس بشرب الماء المزبور أخذا بأصالة الحل فیه علی ما تقدم من أنها أصل طولی یستفاد من خطاب یختص ببعض الأطراف.

وبتعبیر آخر طهارة شیء أو نجاسته وإن کانت جزء الموضوع أو قیده فی تنجس ملاقیه إلاّ أن جزء الموضوع أو قیده فیما کان قابلاً للجعل فی نفسه یمکن التعبد به قبل تمام الموضوع مع احتمال تمامه، بخلاف ما إذا کان الجزء أو القید غیر مجعول بحیث لا معنی للتعبد به إلاّ جعل حکمه، فإن التعبد به لا یمکن إلاّ فی فرض جزئه الآخر أو ذات المقید، وعلیه فالعلم الإجمالی بنجاسة الماء أو الثوب الغصبی کافٍ فی وقوع المعارضة فی الأصل المقتضی لطهارة کل منهما.

وثانیهما: ما إذا فرض تحقق المعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف یکون الحکم فیه فعلیا بخلاف ما إذا تحقق فی البعض الآخر فإن الحکم لا یکون فعلیا، کما إذا علم

ص :392

بدونه لا علم بتکلیف فعلیّ، لإحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

ومنه قد انقدح أن الملاک فی الإبتلاء المصحح لفعلیة الزجر وانقداح طلب ترکه فی نفس المولی فعلاً، هو ما إذا صح انقداح الداعی إلی فعله فی نفس العبد

بوقوع النجاسة فی الماء أو التراب مع انحصار طهور المکلف بهما، فهل یمکن الإلتزام بجریان أصالة الطهارة فی الماء؛ لأنّ وقوع النجاسة فی التراب علی تقدیره لا أثر له؛ لأنّ بطلان التیمم به علی هذا التقدیر غیر مستند إلی نجاسته، بل إلی کون المکلف واجدا للماء.

أقول: هذا أیضا صحیح فیما إذا لم یکن لطهارة التراب أثر شرعی کجواز السجود علیه أو یعلم ملاقاته طاهرا بالرطوبة المسریة ولو بعد ذلک، لتقع المعارضة بین أصالة الطهارة الجاریة فی الماء وأصالة الطهارة الجاریة فی التراب، وإلاّ یجمع المکلّف بین الوضوء بالماء المزبور ثم بعد یبس أعضائه یتیمم به، فإنّ نجاسة الأعضاء علی تقدیر کون الماء نجسا لا یضر بصحة التیمم بالتراب وإن کان الأولی التیمم به أولاً ثم یزیل التراب عن مواضعه ویتوضأ، وأما إذا علم بنجاسة الماء أو کون التراب مغصوبا مع انحصار طهوره علیهما وعدم مرتبة اُخری مما یتیمم به، فبما أن المکلف فی الفرض یعلم بوجوب الصلاة علیه مع الطهور إما بالماء أو بالتراب یتعین علیه رعایته، ولکن الموافقة القطعیة للتکلیف بالصلاة بالجمع بین الوضوء والتیمم توجب المخالفة الاحتمالیة للتکلیف المحتمل المنجز، أعنی حرمة التصرف فی التراب لسقوط أصالة الحلیة فیه بالمعارضة مع أصالة الطهارة والحلیة فی الماء علی ما تقدم یقتصر فی موافقة التکلیف بالصلاة علی موافقته الاحتمالیة أی بالوضوء مع الماء المزبور.

نعم إذا تمکن من المرتبة اللاحقة مما یتیمم به تعین الموافقة القطعیة للتکلیف

ص :393

مع اطلاعه علی ما هو علیه من الحال، ولو شک فی ذلک کان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالإشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلاّ فیما إذا شک فی التقیید بشیء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا فیما شک فی اعتباره فی صحته، تأمل لعلک تعرف إن شاء اللّه تعالی.

الثالث: إنه قد عرفت أنه مع فعلیة التکلیف المعلوم لا تفاوت بین أن تکون أطرافه محصورة، وأن تکون غیر محصورة[1].

بالصلاة بالجمع بین الوضوء والتیمم بتلک المرتبة، ولو عکس الأمر بأن علم إما بغصبیة الماء أو کون التراب نجسا تعین مع انحصار الطهور علیهما التیمم بالتراب المزبور، لاحتمال کون الماء غصبا وتنجز حرمة التصرف فیه بمعارضة أصالة الحلیة فیه بأصالة الطهارة فی ناحیة التراب.

العلم الإجمالی فی أطرافه غیر المحصورة

[1] اشتهر فی الألسنة عدم الاعتبار بالعلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، وأن تنجیز العلم الإجمالی یختص بما إذا کانت أطرافه محصورة، ولذا تصدوا لذکر المعیار فی کون الشبهة أطرافها محصورة أو غیر محصورة، وذکر الماتن قدس سره عدم الفرق فی تنجیز العلم الإجمالی بین قلة أطرافه وکثرتها، نعم ربما تکون کثرة الأطراف فی بعض الموارد موجبة لعسر الموافقة القطعیة للمعلوم بالإجمال بالاجتناب عن جمیع الأطراف أو الاتیان بجمیعها أو کان رعایته موجبة فی جمیع الأطراف الضرر أو غیره مما یوجب رفع التکلیف وعدم فعلیته، وهذا الأمر قد یتفق مع قلة الأطراف أیضا، فلابد من ملاحظة ما یوجب رفع التکلیف وعدم فعلیته وأنه محقق فی مورد العلم الإجمالی أم لا، أو أنه محقق مع کثرة الأطراف ومع أی مرتبة منها، فإن اُحرز تحققه فهو وإلاّ یحکم بتنجز التکلیف المعلوم بالإجمال

ص :394

.··· . ··· .

فیما کان فی البین عموم أو إطلاق فی خطاب ذلک التکلیف، ومع عدمهما یکون المرجع أصالة البراءة لکون الشک فی تحقق تکلیف فعلی فی البین.

أقول: المفروض فی الشبهة غیر المحصورة عدم دخولها فی مورد الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف لا بعینه وإلاّ جری فیها ما تقدم، بل المفروض کون الاجتناب عن جمیع الأطراف عسرا أو حرجا، وقد ذکر الماتن قدس سره فی قاعدة نفی الحرج أنها ترفع التکلیف إذا انطبق عنوان الحرج کالضرر علی الفعل الذی تعلق به التکلیف، وفی موارد الشبهة غیر المحصورة لا ینطبق عنوان الحرج أو الضرر علی الفعل فعلاً أو ترکاً، بل یکون الحرج أو الضرر فی الإتیان بجمیع أطراف العلم الإجمالی أو ترکها فلا مجری لقاعدة نفی الحرج أو قاعدة نفی الضرر فی موارد الشبهة غیر المحصورة، نعم لو قیل بأن الضرر أو الحرج عنوان لنفس التکلیف وأن المنفی نفس التکلیف الحرجی أو الضرری، فقد یدعی أن التکلیف مع العلم الإجمالی به فی أطراف کثیرة حرجی؛ لأنّ الحرج فی التکلیف عبارة عن کون امتثاله حرجیا فینفی بقاعدة نفیه أو نفی الضرر، وبعده لا موجب لرعایة العلم الإجمالی أصلاً.

لا یقال: کیف تکون قاعدة نفی الحرج أو الضرر حاکمة فی أطراف العلم الاجمالی؛ لأنّ الإجتناب عن الحرام الواقعی أو الإتیان بالواجب الواقعی لا حرج ولا ضرر فیهما، وإنما یکون الحرج أو الضرر فی إحراز الإجتناب عن الحرام الواقعی أو إحراز الإتیان بالواجب الواقعی، وهذا الإحراز المعبر عنه بالموافقة القطعیة لزومها عقلی لا یدخل فی المجعول الشرعی لیکون منفیا بنفی جعل الحرج أو الضرر، فلا فرق فی عدم شمول القاعدتین بین القول بأن الحرج أو الضرر عنوان لنفس الفعل

ص :395

.··· . ··· .

المتعلق به التکلیف، أو علی التکلیف المتعلق به الفعل، بل لو فرض انطباقه علی التکلیف لازمه ارتفاعه واقعا فتصیر الحلیّة فی کل واحد من أطراف العلم واقعیة لا ظاهریة، ولا یظن التزام القائلین بعدم اعتبار العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة بذلک.

فإنه یقال: یصدق الحرج علی التکلیف الثابت فی طرف واحد من أطراف کثیرة، وإن امتثاله فی هذا الحال حرجی، حیث إنه یتوقف علی الإتیان بجمیع الأطراف أو ترک جمیعها ورفعه فی هذا الحال أی مقیدا بحال الجهل وبقاء التردد یکون رفعا ظاهریا، فإن کونه ظاهریا مقتضی تقیید الرفع بحال الجهل وبقاء التردد، نعم بناءً علی اعتبار انطباق عنوان الحرج أو الضرر علی الفعل المنطبق علیه عنوانهما التکلیف فلا مجری لهما فی الشبهة غیر المحصورة، نعم بناء علی ذلک یتعین فی موارد العلم الإجمالی بالواجب فی أطراف غیر محصورة الإتیان من أطراف العلم إلی أن یصل رعایة الاحتیاط فی الباقی بحد الحرج فی الفعل، فیعلم بعدم التکلیف بعد ذلک إما للاتیان بالواجب قبل ذلک أو ارتفاع التکلیف علی تقدیر بقائه، فیکون نظیر الاضطرار اللاحق علی البعض المعین من أطراف العلم حیث لا یجب رعایة العلم فی الطرف المضطر إلیه.

وأما فی موارد العلم الإجمالی بالحرمة فی الشبهة غیر المحصورة فإن کان بعض أطرافه خارجا عن القدرة فلا بأس بارتکاب أی طرف مما هو داخل فی القدرة إذا لم یعلم بوجود الحرام فی تلک الأطراف ولو فی طول الزمان، وأما إذا کانت جمیع الأطراف داخلة تحت قدرته کذلک، فاللازم الاجتناب عن جمیعها إلی أن یصل إلی حد الاضطرار إلی ارتکاب البعض، أو یصل مع الاجتناب عن جمیعها فی طول

ص :396

.··· . ··· .

الزمان إلی بقاء بعض الأطراف فقط مما هو بمقدار الحرام المعلوم بالإجمال الأول، ولکن کان الاجتناب عنها أمرا حرجیا، ویتعین ما ذکر أیضا بناءً علی أن الحرج والضرر وإن یکونا عنوانین لنفس التکلیف، إلاّ أن التکلیف الواقعی لیس فی موافقته حرج أو ضرر، وإنما الحرج والضرر فی إحراز الموافقة القطعیة ولزوم الموافقة القطعیة حکم عقلی لا یرتفع بنفی الحرج والضرر فی مقام الجعل، أو أن خطاب نفی الحرج أو الضرر لا یرفع التکلیف برفع ظاهری وإنما مدلولهما نفی الجعل واقعا بالإضافة إلی التکلیف المجعول فی الشریعة.

کلام النائینی قدس سره فی الشبهة غیر المحصورة وبیانه الملاک فی کونها غیر محصورة

ومما ذکرنا یظهر الخلل فیما ذکره المحقق النائینی قدس سره حیث قال: لا یجب الاجتناب عن أطراف الشبهة التحریمیة غیر المحصورة، وذلک؛ لأنّ المکلف لا یتمکن من ارتکاب جمیع أطراف الشبهة ومع عدم تمکنه من ذلک لا یمکن المخالفة القطعیة للحرمة الواقعیة، وإذا لم یمکن المخالفة القطعیة فلا تجب الموافقة القطعیة أیضا، فإن لزوم الموافقة القطعیة تابعة لحرمة المخالفة القطعیة، ولهذا یختص عدم لزوم الإجتناب عن الأطراف بالشبهة التحریمیة غیر المحصورة، وأما التکلیف الوجوبی المعلوم بالإجمال بین أطراف کثیرة فیمکن فیها المخالفة القطعیة بترک جمیع أطراف العلم، ولذا یجب فیها الإتیان بمحتملات التکلیف الوجوبی إلی أن یلزم الحرج أو الضرر أو یکتفی بالموافقة الظنیة بناءً علی تعین الإمتثال الظنی بعد تعذر الامتثال القطعی، ومع تعذره أیضا تصل النوبة إلی الإمتثال الاحتمالی علی ما هو المقرر فی بحث مراتب الإمتثال، فتحصّل أن الملاک فی کون الشبهة التحریمیة غیر محصورة وعدم تنجیز العلم الاجمالی بالحرام فیها هو عدم التمکن من المخالفة

ص :397

.··· . ··· .

القطعیة من جهة کثرة أطراف العلم الإجمالی بالحرام.

فی الاستدلال علی حکم الشبهة غیر المحصورة

أقول: إن کان المراد أنه لا یتمکن من ارتکاب أطراف الشبهة غیر المحصورة حتی بحسب طول الزمان لم یشترطوا ذلک عند قولهم بعدم اعتبار العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، أضف إلی ذلک أن ما ذکره قدس سره من أنه إذا لم یمکن المخالفة القطعیة فلا تجب الموافقة القطعیة أیضا، وأن وجوب الموافقة القطعیة تابع لعدم جواز المخالفة القطعیة لا یمکن المساعدة علیه، فإن جواز المخالفة القطعیة لا یجتمع مع وجوب الموافقة القطعیة، وأما اجتماع وجوب الموافقة القطعیة مع عدم إمکان المخالفة القطعیة فهو أمر واقع فی الشبهة المحصورة أیضا، فإنه إذا تردد الحرام فی زمان بین ضدین لهما ثالث فإنه لا یمکن الجمع بین الضدین فی ذلک الزمان حتی تحصل المخالفة القطعیة، ولکن یمکن موافقتها القطعیة بترکهما إلی ضد ثالث، فاللازم أن لا یکون العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة منجزا بدعوی أنه لا مانع فی مثل ذلک من الأخذ بالاُصول النافیة فی کل من الضدین، حیث لا یلزم من الأخذ بها فی کل منهما المخالفة القطعیة لعدم إمکان تلک المخالفة، نظیر الاُصول النافیة فی کل من الوجوب والحرمة فی دوران الأمر بین المحذورین.

والوجه فی عدم صحة هذا القول فی الشبهة المحصورة المزبورة أنه مع إمکان الموافقة القطعیة باختیار الضد الثالث یکون التکلیف واصلاً، ومقتضی وصوله عقلاً رعایة احتمال التکلیف فی کل من الضدین فیکون ترخیص الشارع فی کل منهما منافیا للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال بینهما، ولا یقاس المثال بدوران الأمر بین

ص :398

.··· . ··· .

المحذورین، حیث إن مع عدم إمکان شیء من المخالفة القطعیة والموافقة القطعیة لا یعتبر التکلیف بنوعه واصلاً، والتکلیف المردد بین الوجوب والحرمة مع وحدة المتعلق لا أثر له ولا یترتب علیه الانبعاث حتی ینافی الحکم الظاهری فی المتعلق ویجری ما ذکرنا فی المثال فی الشبهة غیر المحصورة أیضا إذا اعتبر فیها عدم التمکن من المخالفة القطعیة ولو فی طول الزمان.

وذکر الشیخ قدس سره فی الوجوه التی یمکن الاستناد إلیها فی الالتزام بعدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، واختار الوجه هو أن العلم الإجمالی المزبور لا یعتنی به عند العقلاء ویتعاملون مع أطرافه بالشبهة البدویة، ولذا لا یری العقل هذا العلم بیانا، ویجری فی کل من أطرافه حکمه بقبح العقاب بلا بیان، وفسّر کلامه قدس سره بأن احتمال التکلیف مع کثرة الأطراف فی کل منها یکون موهوما، فیجوز الارتکاب مادام الوهم فی الأطراف، ویرد علی ذلک بأنه إن کان المراد أنه لا یعتنی بمجرد کون الاحتمال ضعیفا بأنه لا یعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی فی أطراف محصورة تساوی احتمال التکلیف فی کل من أطرافها، بل یکون العلم الإجمالی منجزا حتی فیما کان احتمال المعلوم بالإجمال فی بعضها ضعیفا، وإن کان المراد من الاحتمال الموهوم الاطمئنان بعدم المعلوم بالإجمال فیما یرتکبه فلازمه جواز الارتکاب مادام الاطمئنان والوثوق بأن المعلوم بالإجمال فی سائر الأطراف، لا عدم تنجیز العلم الإجمالی فی شیء من الأطراف کما هو ظاهر کلامهم بعدم الاعتبار بالعلم الإجمالی مع کون الشبهة غیر محصورة.

ویمکن أن یکون مراده قدس سره مما ذکره، ما ذکرناه فی بحث الفقه فی مسألة العلم بالنجاسة فی الشبهة غیر المحصورة من أن المراد من العلم هو الذی یغفل عنه عامة

ص :399

.··· . ··· .

الناس ولا یرونه علما مع کونه فی الحقیقة علما، وذکرنا عدم اختصاص ذلک بالعلم الإجمالی، بل یجری فی التفصیلی أیضا، ومثلنا بالبیضة أو الدجاجة التی یشتریها أ یتملکها بغیر الشراء، حیث إن جریان الید العادیة فی طول سابق الزمان علی اُصولهما أمر قطعی، ولکن لا یعتنی به فتدبر.

ثم إن الثمرة بین ما ذکره المحقق النائینی فی وجه عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة غیر المحصورة، وما ذکره الشیخ قدس سره فی وجه عدم تنجیز العلم الإجمالی بناءً علی ما فسروا کلامه به یظهر فیما لو کان الشک فی الشیء بنفسه موردا للاحتیاط، کما لو اشتبه مائع مضاف بین أطراف کثیرة من الآنیة التی فیها ماء فیکتفی بالوضوء بواحد منها، بناءً علی الوجه الذی ذکره الشیخ لکون المختار للوضوء ماءً، فإن احتمال کونه غیر ماء موهوم، بخلاف ما ذکره النائینی قدس سره فإنه یجب تکرار الوضوء بما فی الآخر لإحراز التوضؤ بالماء.

وبتعبیر آخر لا یکون الشک فی کل من الأطراف کالعدم، ولکن العجب منه قدس سره حیث التزم بکفایة الوضوء الواحد، وعلله بأن المضاف المزبور لکثرة أطرافه بحکم التالف، والوجه فی العجب أنه إن کان المراد بالتلف الاستهلاک وارتفاع الموضوع بأن یکون کثرة الأطراف موجبا لانتفاء المضاف فهو غیر تام صغریً وکبریً، أما الصغری فإنه یلزم علی الاستهلاک لوکان درهم واحد من الدراهم الکثیرة ملک الغیر أن یحکم بکل الدراهم أنها ملک لمن کان له سائر الدراهم، وأما الکبری فقد ذکرنا فی بحث المطهرات أن الاستهلاک لا یوجب انتفاء الموضوع وجواز شرب الماء الکثیر الواقع فیه البول أو غیره من النجاسة، لما دل علی اعتصام الماء وجواز شربه واستعماله فی الوضوء، فهذا من التبعیة لحکم الماء الطاهر، ولذا یقتصر علی مورد قیام الدلیل علی

ص :400

.··· . ··· .

التبعیة.

وقد یستدل علی عدم اعتبار العلم فی الشبهة غیر المحصورة بالإجماع، ولا یخفی ما فیه فإن هذه المسألة لم یتعرض لها القدماء من أصحابنا، فکیف یمکن دعوی الإجماع علی حکمها، وعلی تقدیره فلا یمکن إثبات الإجماع التعبدی لاحتمال کون مدرکهم أحد الوجوه المتقدمة، کما یستدل علی عدم اعتبار العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة ببعض الروایات، کروایة أبی الجارود، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن فقلت له: أخبرنی من رأی أنه یجعل فیه المیتة؟ فقال: أمن أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرّم فی جمیع الأرضین؟! إذا علمت أنه میتة فلا تأکله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وکل، واللّه إنی لأعترض السوق، فأشتری بها اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظنُّ کلهم یسمون هذه البربر وهذه السودان»(1) ولا یخفی ما فیه، فإنه یجوز ارتکاب الماخوذ فی أمثال ذلک لا لکون الشبهة غیر محصورة، بل لأنه مع عدم العلم بحرمة المأخوذ بعینه تجری فیه أصالة الطهارة أو الحلیة، ویحکم بکونه مذکی لید المسلم؛ لأنّ غیر المأخوذ محرم علیه قطعا، فإنه إما ملک للغیر أو حرام، کما ذکرنا ذلک فی بحث جوائز السلطان، نعم إذا علم الحرام فی المأخوذ ولو تدریجیا جری علیه حکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی.

بقی فی المقام أمر، وهو أنه ذکر بعض أنَّ کثرة أطراف الشبهة توجب کون الشبهة غیر محصورة فیما إذا لم یکن المعلوم بالإجمال کثیرا، وأما مع کثرة المعلوم بالإجمال کما إذا علم أن ثلث الأوانی المنتشرة فی البلد بأنها نجسة فیجری علیها

ص :401


1- 1) وسائل الشیعة 25:119، الباب 61 من أبواب الأطمعة المباحة، الحدیث 5.

نعم ربما تکون کثرة الأطراف فی مورد موجبة لعسر موافقته القطعیة باجتناب کلها أو ارتکابه، أو ضرر فیها أو غیرهما مما لا یکون معه التکلیف فعلیاً بعثاً أو زجراً فعلاً، ولیس بموجبة لذلک فی غیره، کما أن نفسها ربما یکون موجبة لذلک ولو کانت قلیلة فی مورد آخر، فلا بد من ملاحظة ذاک الموجب لرفع فعلیة التکلیف المعلوم بالإجمال أنه یکون أو لا یکون فی هذا المورد، أو یکون مع کثرة أطرافه وملاحظة أنه مع أیّة مرتبة من کثرتها کما لا یخفی.

ولو شک فی عروض الموجب، فالمتبع هو إطلاق دلیل التکلیف لو کان، وإلاّ فالبراءة لأجل الشک فی التکلیف الفعلیّ، هذا هو حقّ القول فی المقام، وما قیل فی ضبط المحصور وغیره لا یخلو من الجزاف.

الرابع: أنه إنما یجب عقلاً رعایة الاحتیاط فی خصوص الأطراف مما یتوقف علی اجتنابه أو ارتکابه حصول العلم بإتیان الواجب أو ترک الحرام المعلومین فی البین دون غیرها، وإن کان حاله حال بعضها فی کونه محکوما بحکمه واقعاً[1].

حکم الشبهة المحصورة، ویسمی هذا بشبهة الکثیر فی الکثیر، والصحیح ملاحظة الموجب لتنجز العلم الإجمالی وجودا وعدما، فإنه فی مثل جوائز السلطان لا یضر العلم بکثرة الحرام بخلاف ما إذا علم المکلف بکثرة الحرام فیما یبتلی بجمیع الأطراف ولو فی طول الزمان.

فی ملاقی بعض أطراف العلم

[1] لا ینبغی التأمل فی أن العلم الإجمالی بالموضوع بین طرفین أو اکثر یوجب تنجز التکلیف المترتب علیه بسقوط الاُصول النافیة فی الأطراف فیما کان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع له، أو کان فی البین ما یحرز به تمام الموضوع، وأما إذا کان جزء الموضوع أو قیده فقط فلا یکون العلم الإجمالی به موجبا للتنجز ولا تساقط

ص :402

.··· . ··· .

الاُصول النافیة، کما إذا علم المکلف فی جسدین أحدهما جسد إنسان میت لم یغسل والآخر جسد حیوان میتة، فإن الملاقی لأحدهما وإن یکن نجسا إذا کان مع الرطوبة المسریة، إلاّ أن المکلف إذا مس أحدهما لا یوجب ذلک غسل مس المیت؛ لأنه بالملاقاة المزبورة وإن تحرز النجاسة، إلاّ أنه لا یحرز بها تمام الموضوع لوجوب غسل مس المیت، بل مقتضی الأصل أنه لم یمس میت الإنسان، وهذا بخلاف ما إذا کان العلم الإجمالی بموضوع مساوقا لإحراز حصول الموضوع لحکم آخر أیضا، کما إذا علم إجمالاً بطهارة أحد شیئین کانا فی السابق متنجسین، فإنه إذا فرض ملاقاة طاهر لأحدهما مع الرطوبة یحکم بنجاسة الطاهر؛ لأنه مع العلم بالملاقاة یحرز تمام الموضوع لتنجس الطاهر، فإنه لاقی شیئا محکوما بالنجاسة مع الرطوبة والملاقاة معها أمر وجدانی، وکون الملاقی بالفتح نجسا بالاستصحاب، وهذا بحسب الکبری واضح.

جریان الأصل النافی بالإضافة إلی تکلیف لم یتم موضوعه بضم الوجدان إلی الأصل

وإنما وقع الخلاف فی بعض الموارد فی أنها الصغری للکبری المذکورة، وأنّه بالعلم الإجمالی یحرز تمام الموضوع أم لا، کما إذا علم المکلف بأن إحدی العینین فی یده غصب فلا یجوز له التصرف فیها، وإذا کان لأحدهما نماء منفصل بعد ذلک ولم یکن تناول النماء بالتصرف فی أحدهما کتناول بیضة الدجاجة، فهل یجب علیه الاجتناب عن ذلک النماء أیضا ویحکم بضمان النماء أیضا، أم لا یجب الاجتناب عن النماء ولا یحکم بضمانه.

فقد یقال کما عن المحقق النائینی قدس سره بلزوم الاجتناب عن النماء، ودخوله فی الضمان کالعین المتبوعة له، وذکر فی وجهه أن وضع الید علی عین عدوانا وضع لها

ص :403

.··· . ··· .

علی منافعها ونماءاتها، ولذا لو استلم ثالث العین من الغاصب وحصل نماؤها بیده کان لمالکها الرجوع إلی کل منهما علی قرار تعاقب الأیدی علی مال الغیر، فأصالة عدم الضمان من ناحیة العین التی لها نماء قد سقطت بالمعارضة مع أصالة عدم الضمان بالإضافة إلی العین التی لم یتجدد لها نماء، هذا بالإضافة إلی الوضع، وأما التکلیف فلمبغوضیة التصرف فی النماء کالتصرف فی نفس العین المتبوعة.

أقول لا یخفی ما فیه، فإن النماء المتجدد مال آخر، ولو کانت العین للغیر یکون التصرف فی النماء المفروض محرّما آخر غیر التصرف فی العین، ولا تکون حرمة التصرف فیه عند وضع الید علی نفس العین، بل عند حدوثه ولو فی ید شخص ثالث، کما أن وضع الید علیها عدوانا یوجب ضمان نمائها أیضا عند حصوله، فإنه مادام لم یردها علی مالکها فما یفوت من منافعها ونماءاتها عن مالکها یدخل فی الضمان أیضا، فیکون علی العین المملوکة للغیر عدوانا استیلاء علی نمائها المتجدد عند تجدده ولو فی ید ثالث، کما هو مقتضی السیرة العقلائیة فی موارد ضمان الید، وعلی ذلک فحرمة التصرف والضمان فی النماء عند تجدده علی تقدیر کون النماء ملک الغیر ولو بتبع العین، ومقتضی الاستصحاب عدم کون النماء عند حصوله ملکا للغیر لتتعلق به الحرمة والضمان فی النماء، ولا یحتاج فی جواز إثبات جواز التصرف فی النماء وعدم الضمان فیه إلی إحراز کونه ملکا لنفسه، کما یظهر عن الشیخ الأنصاری قدس سره ، حیث استظهر عدم جواز التصرف، ولزوم الاحتیاط فی المال المشتبه من قوله علیه السلام علی المروی «لا یحل مال إلاّ من وجه أحله اللّه»(1) والوجه فی عدم

ص :404


1- 1) وسائل الشیعة 27:156، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 8.

.··· . ··· .

الحاجة أن الروایة مع إرسالها لا تجری فی الفرض، فإن استصحاب عدم کون النماء للغیر أو أصالة الحلیة فیه إحراز لما أحله اللّه، ولا مجال لدعوی معارضة أصالة عدم کون النماء ملک الغیر بأصالة عدم کونه له، وذلک فإن الموضوع للحرمة والضمان مال الغیر ونفیه کاف فی ثبوت الجواز ولا أثر لأصالة عدم کونه ملک نفسه بالاضافة إلی حرمة التصرف فیه، والضمان حیث لا یثبت کونه ملک الغیر، وعلی تقدیر المعارضة أو عدم الجریان تصل النوبة إلی أصالة البراءة عن الحرمة والضمان.

وقد یقال: هذا فیما إذا لم تکن الأطراف مسبوقة بملک الغیر، کما لو اصطاد کل من اثنین صیدا فغصب أحدهما من الآخر، ثم اشتبه المغصوب بغیره وحصل لأحدهما نماء فإنه لا اشکال فی الفرض علی ما تقدم، وأما إذا کانت مسبوقة بملک الغیر کما إذا اشتری شجرة وغصب الاخری، واشتبهتا وحصل لاحدهما نماء فانه یجب فی الفرض الاجتناب والتصرف فی النماء یضمنه، فإن الاستصحاب فی عدم کون الشجرة التی منها النماء، مقتضاه کون الثمرة ملک الغیر، ولا مجال لدعوی المعارضة بینه وبین الاستصحاب فی بقاء الشجرة الاُخری علی ملک الغیر، والوجه فی عدم المجال ما تقدم من أن الاُصول المثبتة للتکلیف تجری فی أطراف العلم، ومجرد العلم الإجمالی بالانتقاض لا یوجب المعارضة بینها کما هو الحال فی تعارض الطرق والأمارات.

أقول: فی التفصیل المزبور تأمل، وذلک فإن عدم المعارضة فی الاُصول المثبتة یختص بموارد یتعین فیها العمل بتلک الاُصول، وأما مع العلم بعدم لزومه شرعا ولو بحسب الظاهر کالعلم الإجمالی بکون أحد المالین للغیر فالمعارضة بحالها، وعلیه فلا بأس بالرجوع فی النماء إلی الأصل النافی من غیر فرق بین کون الأطراف مسبوقة

ص :405

.··· . ··· .

بملک الغیر أم لا.

ومما ذکرنا یظهر الحال فی ملاقی بعض أطراف العلم بالنجاسة، فإن خطاب النهی عن شرب المتنجس أو أکله کسائر الخطابات انحلالیة، ولو کان الملاقی (بالفتح) نجسا فی الواقع یحدث بملاقاته فرد آخر من المتنجس محکوم بحرمة مستقلة وضعا أو تکلیفا، وبما أن حدوث فرد آخر بالملاقاة غیر معلوم، فیجری الاستصحاب، وأصالة الطهارة فی الملاقی (بالکسر) بلا معارض.

وقد یقال: المستفاد من بعض الروایات أن الإجتناب عن الملاقی (بالکسر) بعینه مقتضی وجوب الإجتناب عن ملاقیه (بالفتح) لا أنه حکم آخر یثبت لفرد آخر، کما فیما رواه فی الکافی عن أبی جعفر علیه السلام قال: أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت فما تری فی أکله؟ قال: فقال له أبوجعفر علیه السلام «لا تأکله فقال له الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی لأجلها، قال: فقال له أبو جعفر علیه السلام : إنک لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدینک إن اللّه حرم المیتة من کل شیء»(1)، ووجه الاستفادة أن السائل لم یرد أکل الفأرة، بل أراد أکل السمن أو الزیت الملاقی لها، فیستفاد من الجواب أن تحریم المیتة یدخل فی الاجتناب عن السمن أو الزیت المزبورین فی السؤال.

ولکن لا یخفی، أن المراد من التحریم فی الروایة الحکم بالنجاسة وکونها منجّسة لا الحرمة التکلیفیة، بأن یکون مقتضی تحریم الشیء تکلیفا الإجتناب عن ملاقیه، ولذا لا بأس بأکل ملاقی المیتة من غیر ذی النفس أضف إلی ذلک ضعف

ص :406


1- 1) وسائل الشیعة 1:206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2.

.··· . ··· .

الروایة سندا.

والحاصل نجاسة الملاقی (بالکسر) غیر نجاسة الملاقی (بالفتح)، وکل منهما محکوم بحکم مستقل، غایة الأمر إذا أحرز نجاسة أحد الشیئین إجمالاً، ثم لاقی أحدهما شیئا ثالثا، یحکم بطهارة ذلک الثالث للشک فی حدوث فرد آخر والأصل عدمه.

لا یقال: بعد الملاقاة یعلم إجمالاً إما بنجاسة الملاقی (بالکسر) أو نجاسة الطرف الآخر، فهذا علم إجمالی ثان یکون منجزا لنجاسة الملاقی علی تقدیرها.

فإنه یقال: حیث إنّ الأصل النافی قد سقط فی الطرف الآخر عند حصول العلم الإجمالی الأول، فلا مانع عن الرجوع إلی الأصل النافی فی الملاقی، نعم إذا کان للطرف الآخر أصل طولی لم یسقط من الأول کما إذا علم إجمالاً بنجاسة ثوب أو ماء ثم وقع الثوب فی إناء ثالث یجب الإجتناب عن الإناء الثالث؛ لأنّ أصالة الطهارة والحلیة فیها تسقطان بالمعارضة مع أصالة الحلیة فی الماء الذی کان طرفا للعلم الإجمالی الأول علی ما تقدم بیان ذلک سابقا، وأما ما أجاب به الشیخ قدس سره عن شبهة العلم الإجمالی الثانی بعد العلم بالملاقاة، بأن العلم الثانی لا یمنع من جریان الأصل فی الملاقی (بالکسر) لکون الشک فی الملاقی ناشئا من الشک فی نجاسة الملاقی (بالفتح) فیکون الأصل الجاری فی الملاقی (بالکسر) فی طول الأصل الجاری فی الملاقی (بالفتح) لأنّ الأصل السببی حاکم علی الأصل المسببی ولو جرت أصالة الطهارة فی الملاقی لما کان لها مورد فی ناحیة الملاقی (بالکسر)، وبعد سقوط الأصل فی الملاقی (بالفتح) للمعارضة بینه وبین الأصل فی الطرف الآخر تصل النوبة إلی جریان الأصل فی الملاقی (بالکسر) بلا معارض، فقد تقدم أن مجرد کون

ص :407

ومنه ینقدح الحال فی مسألة ملاقاة شیء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال، وأنه تارة یجب الإجتناب عن الملاقی دون ملاقیه فیما کانت الملاقاة بعد العلم اجمالاً بالنجس بینها[1].

الأصل طولیا فی أحد الأطراف لا یوجب خروجه من أطراف المعارضة، حیث ذکرنا أن الطولیة إنما هی فی فرض جریان الأصل الحاکم، وأما مع عدم جریانه یکون الأصل فی الطرف الآخر معارضا مع الأصل الطولی أیضا، وقد أورد علی الشیخ قدس سره بأن الساقط فی الملاقی (بالفتح) وطرفه الآخر هو أصالة الطهارة لکون أصالة الطهارة فیه حاکما علی أصالة الطهارة فی الملاقی (بالکسر)، ولکن أصالة الحلیة فی ناحیته غیر حاکمه، فأصالة الطهارة فی الملاقی (بالکسر) تتعارض مع أصالة الحلیة فی الطرف الآخر الذی هو طرف للملاقی، وهذا هو المعروف بالشبهة الحیدریة، والصحیح فی الجواب ما ذکرنا من أنه لا تجری أصالة الطهارة فی الملاقی إلاّ بعد فعلیة الملاقاة وإحرازها، وقبل ذلک قد سقطت کل من أصالة الطهارة والحلیة فی ناحیة الملاقی (بالفتح) وطرفه، فإنه لم یکن فی ذلک الزمان ملاقاة وإحرازها لیکون الشک فی طهارة الملاقی أو حلیته من أطراف الاُصول المتعارضة، وعلیه فلا أساس صحیح للشبهة الحیدریة.

[1] ذکر قدس سره لملاقی بعض الأطراف فروضاً ثلاثة، وأنه یجب الاجتناب فی الفرض الأول عن الملاقی (بالفتح) وطرفه دون الملاقی (بالکسر) وهذا یکون فیما إذا کانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بوجود النجس بین الأطراف، وذکر فی الفرض الثانی لزوم الاجتناب عن الملاقی (بالکسر) والطرف الآخر دون الملاقی (بالفتح) وهذا یکون فی صورتین، إحداهما: ما إذا علم أولاً بنجاسة الملاقی (بالکسر) والطرف الآخر أولاً، ثم علم بالملاقاة وأنه کان قبلها إما الملاقی (بالفتح) نجساً أو

ص :408

فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس فی البین قطعاً، ولو لم یجتنب عما یلاقیه، فإنه علی تقدیر نجاسته لنجاسته کان فرداً آخر من النجس، قد شک فی وجوده، کشیء آخر شک فی نجاسته بسبب آخر.

الطرف الآخر، فإن حال الملاقی (بالفتح) فی هذا الفرض کحال الملاقی (بالکسر) فی الفرض الأول من عدم کون الأصل الجاری فیه من أطراف المعارضة، وثانیتهما: ما إذا علم الملاقاة أولاً، ثم حدث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر، ولکن کان عند حدوث العلم الإجمالی الملاقی (بالفتح) خارجا عن محل الابتلاء وصار مبتلی به بعد حصول العلم.

أقول: ما ذکر فی الاُولی من الصورتین إنما یصح فیما إذا علم أولاً بوقوع النجاسة إما فی الملاقی (بالکسر) أو الطرف الآخر، ثم حصل العلم بالملاقاة، وأن نجسا آخر کان واقعا فی الملاقی (بالفتح) أو الطرف الآخر، وأما إذا علم فعلاً أن منشأ نجاسة الملاقی بالکسر علی تقدیرها هی الملاقاة السابقة لکانت أصالة الطهارة فی الملاقی (بالفتح) مثبتة لطهارة الملاقی فعلاً، وعلی ذلک فاللازم الاجتناب عن الطرف الآخر فقط فیکون هذا فرضا رابعا زائداً علی الفروض الثلاثة، ولا یقاس المقام بما إذا علم بنجاسة أحد شیئین ثم علم بأن النجس أحدهما أو الشیء الثالث، حیث یجب فی ذلک الاجتناب عن الجمیع لا خصوص أحد الشیئین الأولین، بدعوی أن جریان الأصل النافی فی الشیء الثالث بلا معارض، والوجه فی عدم صحة القیاس أنه فی مثل ذلک یعلم ثانیا خطأ الأول وبطلانه من أصله، فیکون الشک فی کل من الأطراف بعد العلم الثانی شکا جدیدا فتسقط الاُصول النافیة فیها بالمعارضة، وبالنتیجة یجب الاجتناب عن الجمیع، وهذا بخلاف المفروض فی المقام فإنه لا یعلم الخطأ فی العلم الإجمالی الأول، بل یحصل علم إجمالی ثان غایة

ص :409

ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم أن قضیة تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أیضاً، ضرورة أن العلم به إنما یوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم یعلم حدوثه وإن احتمل.

وأخری یجب الاجتناب عما لاقاه دونه، فیما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شیء آخر ثم حدث (العلم ب_ ) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقی أو ذاک

الأمر لا یکون التکلیف فی أحد طرفیه علی تقدیره تکلیفا فعلیا منجزا بهذا العلم الإجمالی الثانی.

وأما المثال الثانی: فهو ما إذا علم بملاقاة شیء کالثوب لمائع ثم علم بنجاسة ذلک المائع أو شیء آخر، ولکن کان المائع الملاقی (بالفتح) خارجا عن الابتلاء حین حصول العلم الإجمالی بالنجاسة وصار داخلاً فی الابتلاء بعد ذلک، فإنه عند حصول العلم الإجمالی بالنجاسة تسقط أصالة الطهارة فی کل من الملاقی (بالکسر) أو الشیء الآخر بالمعارضة، وبعد دخول الملاقی (بالفتح) فی الابتلاء تجری فیه أصالة الطهارة بلا معارض، ولکن لا یخفی ما فیه فإن جریان أصالة الطهارة فی الملاقی بالفتح عند العلم بنجاسته أو نجاسة شیء آخر لا یتوقف علی بقائه حین حصول العلم أو دخوله فی محل الابتلاء بنفسه، فإن لطهارته ولو مع فقده قبل أن یخرج عن محل الابتلاء أثرا شرعیا وهو طهارة ملاقیه فعلاً، فالعلم الإجمالی بنجاسته أو الشیء الآخر یوجب سقوط أصالة الطهارة فی کل منه وما لاقاه، والطرف الآخر، فیدخل هذا فی القسم الثالث الذی أشار إلیه بقوله: «وثالثة: یجب الاجتناب عنهما فیما لو حصل العلم الاجمالی بعد العلم الملاقاة، ضرورة أنه حینئذ نعلم إجمالاً إما بنجاسة الملاقی والملاقی أو بنجاسة الآخر کما لا یخفی، فیتنجز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین وهو الواحد أو الاثنان».

ص :410

الشیء أیضاً، فإن حال الملاقی فی هذه الصورة بعینها حال ما لاقاه فی الصورة السابقة فی عدم کونه طرفاً للعلم الإجمالی، وأنه فرد آخر علی تقدیر نجاسته واقعاً غیر معلوم النجاسة أصلاً، لا إجمالاً ولا تفصیلاً، وکذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالی، ولکن کان الملاقی خارجاً عن محل الإبتلاء فی حال حدوثه وصار مبتلی به بعده.

ثم لا یخفی أنه کما لا تجری الاُصول النافیة فی أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف أو حصول الموضوع له بینها لما ذکرنا من أن العلم الإجمالی بأحدهما فرض وصول التکلیف فیکون الترخیص فیها ترخیصا قطعیا فی التکلیف الواصل وهو قبیح من المولی الحکیم، وعبّرنا عن ذلک بالمضادة بین التکلیف الواصل والترخیص فی الأطراف من جهة المنتهی والغرض من التکلیف، کذلک لا تجری الاُصول النافیة فی أطراف الطریق الإجمالی القائم بالتکلیف أو الموضوع بینها، کما إذا قامت البینة بوقوع نجس فی أحد إناءین ونحتمل خطئها وعدم أصابة النجس لشیء منهما، فإنه لا مجال فی مثل الفرض لتوهم وقوع المعارضة بین مادل علی اعتبار ذلک الطریق وبین خطابات الاُصول النافیة فی کل من الإناءین، والوجه فی عدم المجال هو أن مقتضی إطلاق اعتبار الطریق العلم بنجاسة أحدهما، فالنجاسة علی تقدیرها تکون واصلة فلا یمکن مع وصولها الترخیص فی الأطراف.

وبتعبیر آخر إطلاق اعتبار الطریق یثبت القرینة العقلیة علی تقیید اعتبار خطاب الاُصول النافیة فی أطرافه لعدم شمول خطاب الأصل النافی لکلا الإناءین؛ لأنّ نجاسة أحدهما معلومة وشموله للآخر منهما غیر معقول للعلم بطهارة الآخر واقعا، وإن اُرید المعین فالحکم بطهارة المعین منهما ترجیح بلا مرجح علی قرار ما تقدم.

وعلی الجملة: لا فرق بین العلم الإجمالی الوجدانی وبین الطریق المعتبر القائم

ص :411

وثالثة یجب الإجتناب عنهما، فیما لو حصل العلم الإجمالی بعد العلم بالملاقاة، ضرورة أنه حینئذ نعلم إجمالاً: إما بنجاسة الملاقی والملاقی أو بنجاسة الآخر کما لا یخفی، فیتنجز التکلیف بالإجتناب عن النجس فی البین، وهو الواحد أو الإثنان.

المقام الثانی: فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیین.

والحق أن العلم الإجمالی بثبوت التکلی_ف بینهما أیضا یوج_ب الاحتیاط عقلاً] 1] بإتیان الأکثر، لتنجزه به حیث تعلق بثبوته فعلاً.

بالتکلیف بین الأطراف غایة الأمر تکون القرینة علی تقیید خطاب الأصل النافی فی الأول نفس العلم الإجمالی، وفی الطریق المعتبر بملاحظة اعتباره، حیث إن معنی اعتباره کونه علما بالتکلیف، نعم لتوهم المعارضة وجه بناء علی أن المجعول جعل المنجزیة لها ولکنه مدفوع أیضا، فإنه إذا لم یکن للأصل العملی مع الطریق التفصیلی مجال فلا یکون له المجال مع الطریق الإجمالی أیضا کما یأتی فی وجه تقدیم الأمارات علی الاُصول.

وحاصله أن مفاد خطاب الأصل یدفع بدلیل اعتبار الأمارة حتی لو قلنا بأن مفاد دلیل اعتباره جعل المنجزیة، وذلک فإن الجهل بالواقع غیر مأخوذ فی اعتبار الأمارة بل مدلولها جعل المنجزیة لها، حیث ما أمکن جعل المنجزیة ومع شمول الاعتبار للأمارة القائمة بین الأطراف لا یمکن للمولی الحکیم الترخیص فی مخالفه التکلیف الواصل منجزیته إلی المکلف.

فی دوران متعلق التکلیف بین الأقل والأکثر الإرتباطیین

[1] لا یخفی أن الشک فیما إذا تعلق بنفس التکلیف یکون مجری لأصالة البراءة بخلاف ما إذا علم التکلیف، وکان الشک والتردد فی متعلّقه، فإنه یکون مجری

ص :412

.··· . ··· .

لقاعدة الاشتغال، ویقال الکلام فی الأقل والأکثر الارتباطیین بحث صغروی وإن الشک فیهما یرجع إلی الشک فی التکلیف لیرجع إلی أصالة البراءة، أو أن التردد فی متعلقه فقط فیکون مجری لقاعدة الاشتغال، ثم إن لدوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین صورتین.

الاُولی: ما کان الشک فی جزئیة شیء للمأمور به بأن تردد التکلیف الواحد ثبوتا بین تعلّقه بمجموع اُمور یکون لا بشرط بالإضافة إلی المشکوک، وبین تعلقه بذلک المجموع مع ذلک المشکوک.

والصورة الثانیة: احتمال شرطیة شیء أو مانعیته لمتعلق التکلیف، بأن یدور متعلق التکلیف بین کونه مطلقابالإضافة إلی المشکوک أو مقیدا بوجوده أو عدمه مع العلم بأن نفس المشکوک لا یدخل فی متعلق ذلک التکلیف، ویلحق بالصورة الثانیة: دوران متعلق التکلیف بین کونه جنسا أو نوعا أو مرددا بین کونه نوعا أو صنفا.

وبتعبیر آخر یکون متعلق التکلیف مرددا بین کونه فعلاً عاما أو خاصا، ومما ذکر یظهر أن دوران الوظیفة یوم الجمعة بین الظهر أو الجمعة أم دورانها بین القصر والتمام لا یدخل فی مباحث الأقل والأکثر، حیث إن الأولین متباینان بالعنوان والقصر والتمام متباینان بشرط لا وبشرط شیء، فتدخلان فی دوران متعلق التکلیف بین المتباینین.

ویقع البحث أولاً فی الصورة الاُولی: یعنی الشک فی جزئیة شیء لمتعلق التکلیف، وقد یقال مع العلم الإجمالی بتعلق الوجوب بالأقل أو الأکثر الارتباطیین لا انحلال فی ناحیة العلم فی التکلیف لا حقیقة ولا حکما ولا عقلاً ولا شرعا، فیجب الاحتیاط بالاتیان بالأکثر کما قد یقال بانحلال العلم المزبور عقلاً وشرعا فتجری فی

ص :413

.··· . ··· .

ناحیة وجوب الأکثر البراءة العقلیة والنقلیة، کما یظهر ذلک من کلمات الشیخ الانصاری فی الرسالة، وقد ذهب جمع منهم المحقق الخراسانی والمحقق النائینی إلی أنه لا انحلال فی ناحیة العلم بالتکلیف حقیقة، ولکن مع ذلک لا یجب الاحتیاط بالاتیان بالأکثر للانحلال الحکمی المستفاد من خطابات البراءة الشرعیة، والکلام فی جریان البراءة العقلیة وعدمه، وقد وجّه الشیخ قدس سره الانحلال عقلاً بأن تعلق التکلیف بالأقل وترتب العقاب علی ترکه محرز؛ لأنه إما واجب نفسیا أو غیریا فلابد من الإتیان به، وأما تعلق التکلیف بالجزء المشکوک وترتب العقاب علی ترک الأکثر بترکه فهو غیر معلوم، فیکون مجری قبح العقاب بلا بیان کسائر موارد الشک فی التکلیف، وقد أورد الماتن علی ما ذکره بوجهین، الأول: کون الانحلال بالنحو المذکور خلفا، والثانی: استلزامه عدم الانحلال وما یلزم من وجوده عدمه مستحیل، وذلک فإن تنجّز التکلیف بالأقل ولزوم الاتیان به علی کل تقدیر یتوقف علی تنجز التکلیف الواقعی حتی ما لو کان متعلقا بالأکثر لتوقف لزوم الاتیان بالمقدمة علی تنجز التکلیف بذیها، ففرض لزوم الاتیان بالأقل علی کل تقدیر فرض لتنجز التکلیف الواقعی ولو کان متعلقا بالأکثر، ولو کان لزوم الاتیان بالأقل علی کل تقدیر موجبا لعدم تنجز التکلیف ولو کان بالأکثر لکان خلفا بالإضافة إلی فرض تنجز التکلیف علی کل تقدیر.

وأیضا عدم تنجز التکلیف علی تقدیر تعلقه بالأکثر یستلزم عدم کون وجوب الأقل منجزا علی کل تقدیر؛ لأنه لا یترتب علی ترک المقدمة شیء فیما إذا جاز ترک ذیها، وعدم کون وجوب الأقل منجزا علی کل تقدیر، یستلزم عدم الانحلال فیلزم من الانحلال عدمه، أی یلزم من عدم تنجز التکلیف ولو کان متعلقا بالأکثر عدم کون

ص :414

.··· . ··· .

الأقل متیقنا فی لزوم الإتیان به وعدم کونه متیقنا یستلزم عدم الانحلال، فالانحلال یستلزم عدمه.

أقول: لا یتم ما ذکره الشیخ قدس سره فی المقام ولا ما ذکره الماتن فی الایراد علیه، اما الأول: فلان الأجزاء فی الواجب الارتباطی لا تکون واجبة بالوجوب الغیری لیقال بأن الأقل متعلق للوجوب نفسیا أو غیریا، فإن المقدمیة بین الجزء والکل غیر واردة علی ما تقرر فی بحث مقدمة الواجب، بل الجزء یتعلق به الوجوب النفسی فی ضمن تعلقه بسائر الأجزاء، فالغیریة والنفسیة تستلزم عدم الانحلال؛ لأنه یعتبر فی الانحلال أن یکون المنحل إلیه أی المعلوم بالتفصیل من سنخ المعلوم بالإجمال ومع عدمه یبقی العلم الإجمالی بحاله.

وأما ما ذکره الماتن قدس سره من توقف الانحلال علی تنجز التکلیف الواقعی علی کل تقدیر فغیر تام، فإن الانحلال إلی العلم التفصیلی للعلم بتعلق الوجوب النفسی بالأقل لا محالة، حیث إن الوجوب لو کان متعلقا بالأکثر لکان الأقل أیضا متعلقا بذلک الوجوب فی ضمن تعلقه بالأکثر، وإذا اُحرز تعلق الوجوب المعلوم بالإجمال بالأقل فیستحق المکلف العقاب فی فرضین یقینا، الأول: ما إذا تعلق الوجوب النفسی بالأقل خاصة وترک المکلف الاتیان بالأقل، والثانی: أن یتعلق الوجوب بالأکثر وکان مخالفته بترک الأقل، وأما إذا تعلق بالأکثر وخالفه بترک الجزء المشکوک فالاستحقاق غیر محرز.

وبتعبیر آخر یمتاز کل واحد من سائر الأجزاء عن الجزء المشکوک، فإن المکلف یستحق العقاب بمخالفة التکلیف بترک کل من سائر الأجزاء، بخلاف ترک الجزء المشکوک فیه، فإن تعلق الوجوب النفسی ولو ضمنیا غیر محرز، کما أن

ص :415

.··· . ··· .

الاستحقاق علی فرض ترکه غیر محرز ولم یتم له بیان، والحاصل لا یتوقف الانحلال علی ما ذکره، بل علی کون الأقل متعلق الوجوب لا محالة، وعدم استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف علی تقدیر تعلقه بالأکثر بترک الجزء المشکوک من أثر الانحلال والتکلیف النفسی وإن یکن واحدا حقیقة إلاّ أن له فی ناحیة متعلقه سعة، ودخول الأقل وأخذه فی متعلق الوجوب محرز، ولکن أخذ المشکوک لیتعلق به الوجوب غیر معلوم، وهذا التبعیض فی ناحیة المتعلق یستدعی فی التکلیف الواحد التبعیض فی تنجزه ولا محذور فیه.

وبتعبیر آخر التبعض فی التکلیف الواحد مع کون متعلقه متعددا بحسب تنجزه لا محذور فیه عقلاً ولا یستلزم خلفا، ولا عدم الانحلال، حیث إن التبعّض بحسب التنجز غیر التبعّض بحسب الثبوت والسقوط واقعاً.

لا یقال: لا مجال فی المقام للرجوع إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی ناحیة تعلق الوجوب بالأکثر ولا یدفع احتمال العقاب علی مخالفته من جهة ترک الجزء المشکوک، بل المرجع قاعدة الاشتغال؛ لأنّ التکلیف تعلقه بالأقل محرز سواء کان نفسیا أو ضمنیا فیکون منجزا، ولابد من إحراز سقوطه سواء کان نفسیا أو ضمنیا وإذا ترک المکلف الجزء المشکوک واقتصر علی الأقل یحتمل أن لا یسقط التکلیف المتعلق بالأقل لکونه متعلقا بالأکثر ثبوتا، حیث إن التکلیف الضمنی لا یسقط إلاّ مع الاتیان بتمام الواجب، والشک فی سقوط التکلیف المعلوم مورد لقاعدة الاشتغال، فإنه یقال: إحراز سقوط التکلیف سقوطا واقعیا غیر لازم فی حکم العقل، بل اللازم فی حکمه أن لا یحتمل العقاب، فإن العلم بمخالفة التکلیف المحرز المعلوم إجمالاً بترک الأقل بیان بالإضافة إلی وجوبه، وأما إحراز سقوطه الواقعی مع فرض تبعض

ص :416

وتوهم انحلاله إلی العلم بوجوب الأقل تفصیلاً والشک فی وجوب الأکثر بدواً _ ضرورة لزوم الإتیان بالأقل لنفسه شرعاً، أو لغیره کذلک أو عقلاً، ومعه

التکلیف فی تنجزه فغیر لازم فی حکم العقل، لا یقال: لو کان التکلیف متعلقا بالأکثر بحسب الواقع فلا یکون الإتیان بالأقل من الإتیان بمتعلق الأمر الضمنی، فإن الإتیان بمتعلقه یکون فی ضمن الإتیان بمتعلق الأمر النفسی کما هو مقتضی الارتباطیة فی التکلیف، فإنه یقال هذا أی الانحصار علی صورة الإتیان بالکل مبنی علی عدم إمکان تبعض التکلیف الواحد فی التنجز وتعین إحراز سقوطه ثبوتا لأجل أن التکلیف الواحد بحسب الواقع لا یقبل التبعض فی الثبوت والسقوط.

لا یقال: لا یوجد فی الخارج الأقل لا بشرط الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی فی المقام، بل ما یؤتی به خارجا إما بشرط لا بحسب الخارج أو بشرط شیء بحسبه، نعم مایوجد خارجا (بشرط لا) ربما یمکن تبدیله بحسبه إلی بشرط الشیء المشکوک جزئیته، کما إذا أمر المولی بالاتیان بمجموع عدة اُمور یحصل بها غرض واحد، ویشک فی دخل شیء معها فی حصول ذلک الغرض الموجب لأمره بها، بحیث لو کان المشکوک دخیلاً یمکن تدارکه ولو بالاتیان به بعد تحقق تلک الاُمور خارجا، ففی مثل هذا یمکن دعوی تنجز التکلیف بالإضافة إلی الأقل، حیث إن ترکه مخالفة للتکلیف المعلوم إجمالاً یقینا، وترتب العقاب علی ترکه محرز سواء کان وجوبه نفسیا أو ضمنیا، وأما إذا لم یمکن تبدیل ما وقع خارجا بشرط لا إلی بشرط شیء فلا یمکن دعوی أن المکلف قد أتی بالمعلوم إجمالاً، یعنی بالأقل المردد کون وجوبه نفسیا أو ضمنیاً، کما إذا شک فی کون السورة جزءاً من الصلاة بعد قراءة الحمد وقبل الرکوع، حیث إنه إذا صلی بلا سورة لا یمکن له دعوی أنه قد أتی بالأقل، حیث إن الأمر الضمنی علی تقدیر وجوب الأکثر تعلق بالرکوع بعد قراءة

ص :417

لا یوجب تنجزه لو کان متعلقاً بالأکثر _ فاسد قطعاً، لإستلزام الإنحلال المحال، بداهة توقف لزوم الأقل فعلاً إما لنفسه أو لغیره علی تنجز التکلیف مطلقاً، ولو کان متعلقاً بالأکثر، فلو کان لزومه کذلک مستلزماً لعدم تنجزه إلاّ إذا کان متعلقاً بالأقل کان خلفاً، مع أنه یلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التکلیف علی کل

السورة وبالحمد قبل السورة، حیث إنّه فی الواجبات الارتباطیة کالصلاة یکون الاتیان بالجزء البعدی شرطا فی الجزء القبلی والقبلی شرطا فی الجزء البعدی، فلا یحرز حصول متعلق الطلب المحرز نفسیا أو ضمنیا، بل مقتضی قاعدة الاشتغال فی ناحیة الأمر المعلوم تعلقه بالأقل نفسیا أو ضمنیا هو الإتیان بالأکثر.

فإنه یقال: الوجوب المتعلق بالأقل علی تقدیر کونه ضمنیا فالأقل مشروط بالمشکوک ثبوتا لا محالة، کما ذکر، إلاّ أن عدم البیان لوجوب الأکثر المساوق لعدم البیان لاشتراط الأقل بالمشکوک موضوع لقبح العقاب علی ترک الأکثر المساوق لقبحه علی عدم رعایة الشرط فی ناحیة الأقل بلا فرق بین ما أمکن تبدیل المأتی به خارجا بنحو بشرط لا، إلی بشرط شیء أم لا.

وعلی الجملة مع حکم العقل بقبح العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی لو کان متعلقا بالأکثر وکانت مخالفته بترک المشکوک لم یبق مجال لقاعدة الاشتغال، فإن موضوعها احتمال العقاب، والفرق بین ما نحن فیه والمتباینین أن أحد طرفی العلم الإجمالی فی المتباینین کان کالطرف الآخر فی احتمال تعلق التکلیف به من غیر أن یکون فی البین تعین لأحدهما بخصوصه، ولذا کان المتعین لرعایة التکلیف المعلوم إجمالاً فی کل منهما بخلاف العلم الإجمالی المزبور فی المقام، فإن کون وجوب الأقل متیقنا یوجب أن لا تُجری فی ناحیته قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بخلاف احتمال وجوب الأکثر، فإن عدم جواز ترکه بترک المشکوک مما لا سبیل للعقل إلیه.

ص :418

حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقاً، المستلزم لعدم الإنحلال، وما یلزم من وجوده عدمه محال.

نعم إنما ینحل إذا کان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حینئذ یکون

فتحصل أن الانحلال فی المقام حتی بحسب البراءة العقلیة متحقق ولکنه حکمی لا حقیقی، بمعنی أن الوجوب المعلوم بالإجمال لا یخرج عن تردده عن کونه متعلقا بالأقل أو الأکثر قد ظهر مما ذکرنا فی تقریب البراءة العقلیة بالإضافة إلی وجوب الأکثر یظهر أن التبعض فی التنجز عقلاً لا یختص بموارد تردد الوجوب بین النفسی والضمنی، بل یجری فی مورد تردد الوجوب بین النفسی والغیری أیضا، وحتی لو لم نقل بالوجوب الغیری الشرعی للمقدمة، کما إذا علم المکلف بتعلق نذره إما بصلاة رکعتین قبل الزوال أو الوضوء قبله، حیث إن ترتب العقاب علی ترک الوضوء قبله أو مع ترکه قبله محرز وجدانا، سواء کان المنذور قبل الزوال الوضوء أو الصلاة، فإن الصلاة قبله لا تکون بدون الوضوء وأما إذا توضأ قبله فلا یحرز ترتب استحقاق العقاب علی ترکها لعدم تمام البیان بالإضافة إلی وجوبها فتدبر.

فی انحلال العلم الإجمالی عقلاً فی موارد دوران الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین

ثم إنه قد التزم العراقی قدس سره فی دوران الأمر بین کون الواجب هو الأقل أو الأکثر، بأن شک فی جزئیة شیء لمتعلّق الأمر وعدمها بالانحلال الحقیقی، وقال فی تقریبه ما حاصله، إن تعلق الوجوب وانبساطه علی الأقل معلوم تفصیلاً، والشک فی انبساط ذلک الوجوب علی المشکوک وأن اللابشرطیة أو بشرطیة الشیء لم تؤخذ قیدا لمتعلق الوجوب، بل یتعلق الوجوب بذات الأقل أو ذات الأکثر، حیث إن المولی عندما لاحظ متعلق وجوبه بلحاظ الغرض الکامن فیه یری تارة دخالة شیء فی

ص :419

معلوماً له، وإنما کان التردید لإحتمال أن یکون الأکثر ذا مصلحتین، أو مصلحة أقوی من مصلحة الأقل، فالعقل فی مثله وإن استقل بالبراءة بلا کلام، إلاّ أنه خارج عما هو محل النقض والإبرام فی المقام.

متعلقه کدخالة غیره من الأجزاء، فینشأ الوجوب الواحد بحیث ینبسط علی الجمیع فیعبر عن ذلک بأن المتعلق بالإضافة إلی ذلک الشیء بشرط شیء، واُخری عدم دخالته فیه بلحاظ حصول الغرض بدونه فینشأ الوجوب بذات الأقل ولا ینبسط الوجوب المنشأ لذلک الشیء، ویعبر عن ذلک بلا بشرطیة المتعلّق، وعلی ذلک فجعل الوجوب الواحد وانبساطه علی الأقل معلوم تفصیلاً، وانبساطه علی ذلک الشیء غیر معلوم لا تفصیلاً ولا إجمالاً، فتجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی ناحیة تعلقه بالمشکوک.

أقول: انبساط الوجوب المنشأ علی ذات الأقل وإن کان محرزا فی الجملة أی فی الموارد التی لا یلاحظ الترتیب الخاص بین الأجزاء، إلاّ أن الوجوب المنبسط علی الأقل بما أنه دائر أمره بین الاستقلالیة والضمنیة فلا یحرز سقوط ذلک التکلیف عن الأقل علی تقدیر جزئیة المشکوک، فیبقی فی البین دعوی أن الشک یرجع إلی سقوط ذلک الوجوب المنبسط علی الأقل بالإتیان به، فلا یقاس المقام بدوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الاستقلالیین وینتهی الأمر إلی تقریب التبعض فی التکلیف فی مرحلة التنجز لو کان متعلقا بالأکثر وهذا انحلال حکمی لا حقیقی.

وأما فی الموارد التی تعتبر الترتیب بین الأجزاء یکون الدخیل فی حصول الغرض حصول الجزء بنحو خاص کما فی أجزاء الصلاة، فذات الملحوظ فی مقام إنشاء الوجوب یختلف فیکون المأخوذ فی متعلّقه علی تقدیر جزئیة السوره بعد الحمد الرکوع الخاص، وهو الرکوع بعد قراءة السورة وعلی تقدیر عدم جزئیتها ذات

ص :420

هذا مع أن الغرض الداعی إلی الأمر لا یکاد یحرز إلاّ بالأکثر بناءً علی ما ذهب إلیه المشهور من العدلیة[1] من تبعیة الأوامر والنواهی للمصالح والمفاسد فی

الرکوع بعد الحمد وهکذا، ومع هذا الاختلاف کیف یمکن دعوی أن تعلق الوجوب وانبساطه علی ذات الأقل محرز تفصیلاً، وأن الانحلال حقیقی فلم یبق فی البین مع عدم إمکان تبعض التکلیف الواحد فی الثبوت والسقوط إلاّ دعوی التبعض فی مقام التنجز، وهو انحلال حکمی؛ لأنّ العلم الإجمالی بالإضافة إلی التکلیف المردد بین تعلقه بالأقل أو الأکثر بیان ولا یجری معه قاعدة قبح العقاب بلا بیان بالإضافة إلی تعلقه بالاقلّ، ولا بالإضافة إلی تعلقه بالأکثر من ناحیة ترک الأقل، وأما بالإضافة إلیه من ناحیة جزئیة المشکوک فلا منع من جریانها کما لا یخفی.

[1] وقد یستدل علی لزوم الاحتیاط عقلاً فی دوران الأمر بین کون الواجب هو الأقل أو الأکثر فی الارتباطیین وأنه لا مجری لقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی ناحیة وجوب الأکثر بوجه آخر، وقد تعرض الشیخ قدس سره لهذا الوجه وأجاب عنه وحاصله أنه فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین یعلم الغرض الملزم فی البین وتحصیل الغرض الملزم للشارع لازم عقلاً، ولذا تکون الواجبات الشرعیة ألطافاً فی الواجبات العقلیة، والغرض اللازم استیفاؤه لا یحرز حصوله بالاتیان بالأقل فقط بل یکون بالاحتیاط والاتیان بالأکثر.

وأجاب عن ذلک تارة بأن مسألة الرجوع إلی البراءة أو الاشتغال عند الشک فی الأقل والأکثر الارتباطیین غیر مبیّن علی المشهور عند العدلیة من وجود المصالح أو المفاسد فی الواجبات أو المحرمات لیقال: إنّ استیفاءها والتحرز عن تلک المفاسد لازم عقلاً لکونهما من الغرض الملزم للشارع، بل تجری علی القول الأشعری المنکر لهما، بل وتجری علی غیر المشهور عند العدلیة من تحقق المصلحة فی نفس الحکم

ص :421

.··· . ··· .

والتکلیف، واُخری بأنه علی تقدیر المصالح والمفاسد فی المتعلقات لم یحرز فی المقام لزوم الاستیفاء، حیث یحتمل دخالة قصد الوجه فی حصول الغرض بعد العلم باعتبار قصد التقرب والامتثال فی حصوله، ولا یتمکن المکلف مع دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین من قصد الوجه، فیبقی فی البین الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالإجمال المنحل إلی وجوب الأقل علی ما تقدم، حیث إن الخروج من عهدة التکلیف المعلوم لازم عقلاً، وإن لم یکن فی المتعلق غرض بحیث یلزم علی المکلف استیفاؤه.

الاستدلال علی لزوم الاحتیاط بالاتیان بالأکثر للوجه العقلی

وقد صحح الماتن قدس سره الاستدلال العقلی المذکور للزوم الاحتیاط بالإتیان بالأکثر، وقال: إن ما ذکره الشیخ قدس سره فی الجواب عنه غیر مفید، فإن من التزم بالمصلحة الملزمة فی الواجب وکونها غرضا داعیا للشارع إلی إیجابه علیه أن یلتزم بالإتیان بالأکثر لاستیفاء الغرض، وقول الأشعری المنکر للمصلحة الملزمة لا یرفع عنه هذا الالتزام، وما ذکره من عدم ابتناء البراءة والاشتغال فی المسألة علی قول المشهور من العدلیة لا یفید من التزم بالمصالح والمفاسد فی الواجبات والمحرمات، بل التزم بما علیه غیر المشهور من العدلیة من احتمال کون المصالح فی نفس التکالیف فإن حصولها فی المتعلق عنده محتمل، وأما ما ذکره ثانیا من احتمال دخالة قصد الوجه فی حصول الامتثال المحصّل للغرض، ولا یتمکن المکلف فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین من قصده فیدفعه أنه علی تقدیر اعتبار قصد الوجه یتمکن منه المکلف فی نفس العمل، وإنما لا یتمکن من قصد التمییز فی الجزء المشکوک جزئیته، وقصد الوجه والتمییز فی خصوص کل جزء غیر معتبر

ص :422

المأمور به والمنهی عنه، وکون الواجبات الشرعیة ألطافاً فی الواجبات العقلیة، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً فی إطاعة الأمر وسقوطه، فلا بد من إحرازه فی إحرازها، کما لا یخفی.

عقلاً فی صحة العمل، وإلاّ لزم عدم إمکان الاحتیاط فی المقام، وإمکان الاحتیاط فیه کالاحتیاط فی العلم الإجمالی فی المتباینین واضح، فللمکلّف مع اعتبار قصد الوجه الإتیان بالأکثر فإنه مصداق للواجب أی متعلق الوجوب فیما دار أمر المشکوک بین کونه جزءاً واجبا أو جزءاً مستحبا المعبر عنه بجزء الفرد، نعم إذا کان أمره دائراً بین کونه جزءاً من المتعلق أو مقارنا خارجا للمتعلق ینطبق متعلق الوجوب علیه بسائر أجزائه، هذا مع أن الکلام فی البراءة والاشتغال فی الأقل والأکثر الارتباطیین یجری فیما کان الواجب توصلیا ولا مجال فی التوصلی لاحتمال دخل قصد الوجه فی العمل فضلاً عن أجزائه.

وذکر قدس سره فی آخر کلامه فی المقام أنه لو قیل باعتبار قصد الوجه فی العبادات حتی فی أجزائها بنحو ینافیه التردد لما یجب الامتثال حتی بالإتیان بالأقل لعدم إحراز الغرض فیه، وعدم إمکان تحصیله لو کان متعلقا بالأکثر ولولم یعتبر قصد الوجه کذلک، بل اعتبر بنحو لا ینافیه التردد فی بعض أجزائه لزم الإتیان بالأکثر للزوم إحراز حصول الغرض.

أقول: یرد علی الماتن قدس سره أنه مع تردد الغرض والملاک فی کونه فی المتعلق أو نفس التکلیف لم یمکن الالتزام بلزوم الاحتیاط من ناحیة العلم بالغرض، ووجهه ظاهر، فإنه إنما یلزم رعایة العلم بالغرض إذا کان الغرض مترتبا علی فعل العبد بحیث یکون مطلوبا منه، ومع کون الغرض فی نفس التکلیف أو احتماله فلا یعلم المکلف باشتغال عهدته بالغرض لیلزم علیه إحراز رعایته وظاهر کلامه قدس سره لزوم رعایته حتی فی هذا الفرض.

ص :423

ولا وجه للتفصی عنه: تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتیاط علی ما ذهب إلیه مشهور العدلیة، وجریانها علی ما ذهب إلیه الأشاعرة المنکرین لذلک، أو بعض العدلیة المکتفین بکون المصلحة فی نفس الأمر دون المأمور به.

وأخری بأن حصول المصلحة واللطف فی العبادات لا یکاد یکون إلاّ بإتیانها

وما ذکره أخیرا من عدم لزوم الاتیان بالأقل مع اعتبار قصد الوجه والتمییز بحیث ینافیه التردد أیضا لا یمکن المساعدة علیه؛ لأنه ذکر فی بحث الواجب التعبدی والتوصلی أن قصد الوجه والتمییز کقصد التقرب مما لا یمکن أخذه فی متعلق التکلیف، وإنما یتعلق التکلیف بذات المتعلق، ولکن العقل حاکم بلزوم رعایة ما ذکر إذا احتمل دخالتها فی حصول الامتثال والغرض من إیجاب ذلک المتعلق، وعلیه ففی المقام بناءً علی الانحلال تعلق الأمر النفسی بذات الأقل محرز، وإنما الشک فی حصول الغرض بالإتیان بالأقل المحرز وجوبه علی الفرض، والتردد فی تعلق الوجوب وانبساطه علی الجزء المشکوک فلا یمکن قصد التمییز والوجه فی ذلک الجزء المشکوک لا فی الأقل المحرز وجوبه یقینا خصوصا فیما إذا لم یکن الترتیب معتبرا بین الأجزاء علی ما تقدم، وعلی الجملة یجب الإتیان بالأقل لاحتمال حصول الغرض المعلوم فی البین به، وأجاب المحقق النائینی قدس سره عن الوجه العقلی بأن مجرد العلم بالغرض فی متعلق التکلیف لا یوجب لزوم رعایته، وذلک فإن الغرض المترتب علی متعلق التکلیف یکون تارة بمنزلة المعلول من علته بأن یکون المتعلق من العلة التامة له کما فی ترتب زهوق الروح علی فری الأوداج، واُخری یکون الإتیان بالمتعلق من قبیل المقدمة الإعدادیة لحصول الغرض کما فی ترتب نبات الزرع علی حرث الأرض وإلقاء الحب فیها، وإذا کان الغرض من قبیل الأول لتعلق الوجوب یلزم علی المکلف إحراز حصوله، بخلاف ما إذا کان من قبیل

ص :424

علی وجه الإمتثال، وحینئذ کان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصیلاً _ لیؤتی بها مع قصد الوجه _ مجال، ومعه لا یکاد یقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعیة إلی الأمر، فلم یبق إلاّ التخلص عن تبعة مخالفته بإتیان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلاً وإن لم یکن فی المأمور به مصلحة ولطف رأساً، لتنجزه بالعلم به إجمالاً.

الثانی فإنه لا یجب علی المکلف إلاّ الإتیان بمتعلق التکلیف، حیث إن الغرض خارج عن فعله فلا یطلب منه وإنما یطلب منه فعله، وفیما إذا لم یحرز أن الغرض من أی القسمین لا یثبت فی حقه إلاّ التکلیف بالفعل، والحاصل أن مجرد العلم بالغرض فی متعلق التکلیف مع تردده بین القسمین لا یوجب القول بلزوم رعایة الاحتیاط لإحراز حصول الغرض، حیث إن الغرض فی القسم الأول مطلوب من المکلف، ولذا لا یفرق بین أمره بقطع الأوداج أو إزهاق روحه، بخلاف القسم الثانی فإنه لا یتعلق التکلیف إلاّ بنفس الفعل فإنه المقدور للمکلف، وترتب الغرض یحتاج إلی أمر أو اُمور خارجة عن اختیاره فلا تطلب منه، بل لا یبعد أن یستفاد من تعلق الأمر فی الخطاب بعنوان الفعل مع عدم معروفیة الملاک بأن الملاک من قبیل الثانی.

وقد أورد بعض الأجلة قدس سرهم علی ما ذکر، بأن متعلق الوجوب وإن یمکن کونه من قبیل المعدّ للغرض الأقصی للمولی، إلاّ أن الغرض المطلوب من المکلف هو الغرض المترتب علی فعله لا الغرض الأقصی، وفعله بالإضافة إلی الغرض المطلوب منه المعبر عنه بالغرض الأدنی مما یترتب علی فعله یکون من قبیل ترتب المعلول علی علّته، وإذا شک المکلف فی ترتب الغرض الأدنی واحتمل عدم حصوله بالإتیان بالفعل لزمه الاحتیاط بالإتیان بالأکثر لإحراز حصوله، فلا یمکن إبطال الوجه العقلی بتقسیم الغرض وتردیده فی موارد الشک فی الأقل والأکثر الارتباطیین بین ما لا یطلب عن المکلف لاحتمال کون فعله معدّا للغرض لا علة وبین ما یطلب لکونه

ص :425

وأما الزائد علیه لو کان فلا تبعة علی مخالفته من جهته، فإن العقوبة علیه بلا بیان. وذلک ضرورة أن حکم العقل بالبراءة _ علی مذهب الأشعری _ لا یجدی من ذهب إلی ما علیه المشهور من العدلیة، بل من ذهب إلی ما علیه غیر المشهور، لإحتمال أن یکون الداعی إلی الأمر ومصلحته _ علی هذا المذهب أیضاً _ هو ما فی الواجبات من المصلحة وکونها ألطافاً، فافهم.

وحصول اللطف والمصلحة فی العبادة، وإن کان یتوقف علی الإتیان بها علی وجه الإمتثال، إلاّ أنه لا مجال لإحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتیانها علی وجهها، کیف؟ ولا إشکال فی إمکان الاحتیاط هاهنا کما فی المتباینین، ولا یکاد یمکن مع اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه کذلک، والمراد بالوجه فی کلام من صرح بوجوب إیقاع الواجب علی وجهه ووجوب اقترانه به، هو وجه

علة له.

ثم ذکر أن الصحیح فی الجواب عن الوجه العقلی المزبور ما حاصله أن الغرض المترتب علی الفعل إذا کان معلوما بعنوان الخاص بلا فرق بین کون الغرض الأقصی وکون الفعل علة تامة له وبین کونه أدنی، فاللازم علی المکلف إحراز حصوله، وأما إذا لم یکن بعنوانه الخاص معلوما واحرز وجوده بالبرهان ونحوه من غیر أن یعرف المکلف عنوانه الخاص فلا حکم للعقل بلزوم خروج المکلف عن عهدته، بل اللازم عنده الخروج عن عهدة التکلیف المتعلق بالفعل مع إحرازه، فإن عدم حصول هذا الغرض مع عدم علم المکلف بعنوان الخاص غیر مربوط بالمکلف، فالمسؤول هو المولی حیث یکون علیه أن یوصله بعنوانه إلی المکلف بحیث یکون علیه رعایته.

وتوضیح ذلک أنه لا ینبغی التأمل فی أن تدارک غرض المولی لیس واجبا مولویا آخر غیر إیجاب الفعل الذی یعلم المکلف بوجوبه نفسیا لیکون المکلف

ص :426

نفسه من وجوبه النفسی، لا وجه أجزائه من وجوبها الغیری أو وجوبها العرضی، وإتیان الواجب مقترناً بوجهه غایة ووصفاً بإتیان الأکثر بمکان من الإمکان، لانطباق الواجب علیه ولو کان هو الأقل، فیتأتّی من المکلف معه قصد الوجه، واحتمال اشتماله علی ما لیس من أجزائه لیس بضائر، إذا قصد وجوب المأتی علی إجماله، بلا تمییز ماله دخل فی الواجب من أجزائه، لا سیما إذا دار الزائد بین کونه جزءاً لماهیته وجزءاً لفرده، حیث ینطبق الواجب علی المأتی حینئذ بتمامه وکماله، لأن الطبیعی یصدق علی الفرد بمشخصاته.

مستحقا لعقابین عند ترک الفعل، کما لا ینبغی التأمل فی أن حکم العقل بلزوم رعایة غرض المولی لیس من الحکم العقلی المستقل نظیر حکمه بقبح الظلم لیستتبع حکما شرعیا مولویا بقانون الملازمة لتکون النتیجة وجوب کل من الفعل واستیفاء الغرض وجوبا نفسیا، بل لزوم رعایه غرض المولی حکم العقل فی مقام الامتثال، یعنی إذا أمر المولی بفعل یحکم العقل بموافقته أو إطاعته بحیث یحصل الغرض الداعی له إلی إیجاب الفعل، وعلی ذلک نقول لا حکم للعقل بذلک فی موارد عدم معلومیة الغرض بعنوانه، بل علی المولی أن یأمر بالفعل المحصل له ویوصل إلی عبده بیانه، وإذا علم المکلف الغرض بعنوان الخاص یکون العلم به وصولاً، وإن تعلق الإیجاب فی خطابه بنفس الفعل فإن ذلک الإیجاب أما غیری أو إرشادی إلی إیجاب تدارک الغرض نظیر أمر الوالد ولده بالذهاب إلی المکتب، فإنه إرشاد أو کنایة إلی أمره بالتعلم أو أن الأمر بالذهاب غیری، وأما إذا لم یعلم الغرض بعنوانه بأن لم یدل علیه خطاب الأمر أو غیره فلا وجوب إلاّ لمتعلق الأمر، ولا یری العقل إلاّ لزوم متابعته حیث إن المولی هو المسؤول عن إیصال غرضه إلی عبده بعنوانه فالوجه العقلی المزبور فاسد من أصله.

ص :427

نعم، لو دار بین کونه جزءاً أو مقارناً لما کان منطبقاً علیه بتمامه لو لم یکن جزءاً، لکنه غیر ضائر لانطباقه علیه أیضاً فیما لم یکن ذاک الزائد جزء غایته، لا بتمامه بل بسائر أجزائه.

هذا مضافاً إلی أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما یقطع بخلافه، مع أن الکلام فی هذه المسألة لا یختص بما لابد أن یؤتی به علی وجه الامتثال من العبادات، مع أنه لو قیل باعتبار قصد الوجه فی الامتثال فیها علی وجه ینافیه التردد والاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً، ولو بإتیان الأقل لو لم یحصل الغرض، وللزم الاحتیاط بإتیان الأکثر مع حصوله، لیحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الأقل بسبب بقاء غرضه، فافهم. هذا بحسب حکم العقل.

أقول: قد ذکرنا فی بحث الواجب النفسی والغیری أن العلم بالملاک وترتبه علی الفعل لا یوجب کون وجوب الفعل غیریاً، فإن الدلیل علی کشف الملاک فی الفعل المعلق به الوجوب حکمة المولی وعدم جعل التکلیف علی العباد عبثاً، وهذا لا یقتضی أن تکون المصلحة الملحوظة بالإضافة إلی الفعل من قبیل المعلول إلی علته بلا فرق بین کون تلک المصلحة الغرض الأعلی أو الأدنی، بل یمکن أن تکون من قبیل الحکمة التی قد تترتب علی الفعل وقد لا تترتب أو تترتب علی الفعل أولا تترتب علی فعل کل واحد منهم، ویکون أمر الشارع الجمیع بذلک الفعل لئلا یکون اختلاف بین المکلفین حتی فیما إذا علم تلک الحکمة بعنوانه کالأمر بغسل الجمعة لإزالة أریاح الآباط.

والحاصل مجرد العلم بعنوان الغرض والمصلحة لا یوجب کون وجوب الفعل إرشادیّاً أو غیریّاً، بل یکون الفعل واجباً نفسیّاً، نعم فی موارد کون الغرض بالإضافة إلی الفعل المتعلق به الوجوب بنحو المعلول علی تقدیر الإحراز فالأمر کما ذکر بعض الأجلّة.

ص :428

وأما النقل فالظاهر أنّ عموم مثل حدیث الرفع قاضٍ برفع جزئیة ما شک فی جزئیته[1].

[1] یقع الکلام فی جریان البراءة الشرعیة عند دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین، فیقال بجریانها ولو لم یکن فی البین الانحلال العقلی، لذا اختار الماتن قدس سره الانحلال الشرعی مع إنکاره انحلال العلم الإجمالی عقلاً، وذکر فی وجهه ما تقریبه: أن العلم الإجمالی بوجوب الأقل أو الأکثر وإن لا ینحل عقلاً إلاّ أنه لا یجب الاحتیاط بالإتیان بالأکثر حیث إن عدم الانحلال إنما هو فی ناحیة العلم بالتکلیف بأحدهما ثبوتاً، ولکن الانحلال شرعاً فی ناحیة الحکم الوضعی المجعول للأجزاء، فإنه یعلم بثبوت الجزئیة لکل من أجزاء الأقل وهذا علم تفصیلی بالإضافة إلی ثبوت الجزئیة للأقل، وأما ثبوت الجزئیة للمشکوک غیر معلوم فیکون مقتضی حدیث الرفع رفعها؛ لأنّ الموضوع للرفع فی الحدیث ما لا یعلمون، وهو یعم جزئیة الجزء المشکوک، فیتعین الواجب فی الأقل بثبوت الجزئیة لأجزاء الأقل وعدم ثبوتها للمشکوک.

ولا یتوهم أن الانحلال فی الحکم الوضعی کان بحسب العقل أیضا مع أنه قدس سره أنکر جریان البراءة العقلیة رأساً، وذلک فإن العلم الإجمالی بوجوب الأقل بنحو اللابشرط أو بوجوبه بشرط المشکوک یعنی وجوب الأکثر کان بیاناً حتی فیما کان التکلیف ثبوتاً متعلقاً بالاکثر بثبوت الجزئیة للمشکوک، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان لم یکن لها مورد بخلاف البراءة الشرعیة فإن الموضوع لها لیس عدم البیان، بل عدم العلم بالحکم تکلیفاً أو وضعاً، والجهل المفروض فی المقام وهو الجهل بجزئیة المشکوک یعمها ما لا یعلمون فیحکم علیها بالرفع.

لا یقال: جزئیة الجزء المشکوک أو المنسی لیست حکماً شرعیاً مجعولاً، کما

ص :429

.··· . ··· .

أنه لیست للجزئیة أثر شرعی مجعول ولزوم الإعادة عند ارتفاع الجهل أو النسیان أثر عقلی لا للجزئیة، بل لبقاء التکلیف الواقعی بلا امتثال، وحدیث الرفع لا یجری إلاّ فیما کان المجهول بنفسه حکماً شرعیاً أو کان له أثر شرعی، وأجاب قدس سره عن ذلک بأن الجزئیة وإن لم تکن مجعولة شرعاً بنفسها، إلاّ أنها تکون مجعولة شرعاً بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو التکلیف بالأکثر، وکونها مجعولاً شرعیاً بهذا المقدار کافٍ فی جریان البراءة الشرعیة فی ناحیتها، لا یقال: إنما یکون رفع المجعول بالتبع برفع منشأ انتزاعها، وإذا ارتفع التکلیف بالأکثر فلا مثبت لثبوت التکلیف بالأقل، بل یکون التکلیف بالأقل ثبوتاً من المشکوک بدواً، وأجاب عن ذلک بأنه وإن یکون رفع الأمر الانتزاعی برفع منشأ انتزاعه إلاّ أن التکلیف بالأقل ثبوتاً لا یکون من المشکوک بدواً، فإن نسبة حدیث الرفع بالإضافة إلی خطابات سائر الأجزاء بمنزلة الاستثناء، فإن إطلاق کل من تلک الخطابات مقتضاه بقاء الوارد فیه علی جزئیته، سقط وجوب شیء آخر عن الجزئیة بنسیانه أو الجهل به أم لم یسقط، فیکون هذا الإطلاق مثبتاً لوجوب الإتیان بالأقل.

أقول: لا یخفی ما فی هذا الجواب، فإن ما دل علی جزئیة شیء للعمل، مقتضاه أن ذلک العمل لا یکون بدونه، وأما ذلک العمل متعلق الأمر فعلا أم لا فلا نظر له إلی ذلک، وعلیه فاللازم إثبات الأمر الفعلی بالأقل أو غیر المنسی فعلاً، ویؤخذ بإطلاق أدلة الجزئیة، فیقال: إن مقتضاه بقاؤها علی الجزئیة فی هذا الحال أیضاً، والمفروض عدم إحراز الأمر بأصل العمل بعد إحراز سقوط الأمر بالأکثر، وهذا فیما کان الرفع فیه رفعاً واقعیاً کما فی موردی النسیان والاضطرار، فإنه فی مثل ذلک یکون رفع جزئیة الشیء برفع الأمر النفسی عن مجموع الأجزاء لو قیل بعدم اعتبار

ص :430

.··· . ··· .

الاستیعاب فی النسیان والاضطرار لجمیع الوقت، وذلک فإن الجزئیة بنفسها غیر قابلة للرفع الواقعی بنفسها، وبعد سقوط الأمر بالمجموع المشتمل للمنسی أو المضطر إلی ترکه یحتاج إثبات الوجوب النفسی الاستقلالی لسائر الأجزاء إلی قیام دلیل علیه، ویقال بأن الدلیل علی ثبوته إطلاق ما دل علی جزئیة کل من سائر الأجزاء، وهذا الجواب وإن کان غیر تام کما أشرنا إلیه، فإن مقتضی إطلاق أدلتها جزئیة کل منها عند الأمر بالعمل المرکب لا ثبوت الأمر بالمرکب فعلاً، إلاّ أن ما ذکر لا مورد له فی موارد الرفع الظاهری کمورد الجهل بجزئیة شیء، حیث إن الرفع الظاهری یقابله الوضع الظاهری والوضع الظاهری لجزئیة المشکوک الأمر بالاحتیاط عند الإتیان بالمرکب فیکون رفعها عند الجهل بالجزئیة عدم لزوم الاحتیاط حتی علی تقدیر تعلق الأمر بالأکثر واقعاً والإتیان بسائر الأجزاء، یعنی الأقل لعدم سقوط التکلیف الواقعی حقیقة کان متعلقاً بالاقل أو الاکثر، بل العلم بکون الأقل متعلقاً للتکلیف واقعاً إما استقلالا أو فی ضمن الأمر بالأکثر منجز للتکلیف الواقعی بالإضافة إلی غیر الجزء المشکوک فی جزئیته، بمعنی أنه لو کان متعلق التکلیف فی الواقع الأقل أو الأکثر فالمکلف معاقب علی مخالفته من ناحیة ترک الأقل، ومعذور لو کانت مخالفته من ناحیة ترک الجزء المشکوک، والتبعض فی تنجز التکلیف الواقعی أمر معقول لا محذور فیه علی ما مر فی بیان الانحلال الحکمی العقلی.

فی بیان جریان أصالة البراءة الشرعیة فی ناحیة وجوب الأکثر

نعم، جریان أصالة البراءة فی نفی الجزئیة بأن یکون مفادها نفی الحکم الوضعی ظاهراً غیر صحیح، وذلک لوجهین.

الأول: فإنه إما أن یلتزم بعدم جریان البراءة فی نفس التکلیف المتعلق بالأکثر؛

ص :431

.··· . ··· .

لأنها تعارض بأصالة البراءة الجاریة فی تعلق الوجوب النفسی المستقل بالأقل، ففی هذه الصورة کما أن أصالة البراءة فی وجوب الأقل تعارض البراءة عن وجوب الأکثر کذلک تعارض أصالة البراءة عن جزئیة المشکوک؛ لما تقدم من أن الأصل النافی فی أحد طرفی العلم الإجمالی یعارض الأصل النافی فی الطرف الآخر، ولو کان الأصل النافی فیه متعدداً وبعضها بالإضافة إلی البعض الآخر طولیاً، کما اعترف الماتن قدس سره بذلک فی مسألة ملاقی أحد أطراف العلم فیما إذا حصل العلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین والملاقاة لأحدهما دفعة واحدة، وذکرنا أنّه مع اختصاص الأصل الطولی بخطاب مستقل لا یجری علی الطرف الآخر لا مانع من الرجوع إلیه والأخذ بمفاده، ولکن هذا لا یجری فی المقام، فإن أصالة البراءة فی الحکم التکلیفی والوضعی مستفاد من حدیث الرفع.

وإما أن یلتزم بجریان أصالة البراءة الشرعیة فی ناحیة تعلق الوجوب بالأکثر ولا یعارضها أصالتها فی ناحیة وجوب الأقل حیث إنه مع العلم الإجمالی بوجوبه استقلالاً أو ضمناً وترتب العقاب علی ترکه لا یبقی للأصل النافی فیه مورد، وعلی ذلک یکون التکلیف الواقعی منجزاً بالإضافة إلی الأکثر أیضا من ناحیة ترک الأقل أولا تجری أصالة البراءة فی تعلق التکلیف بالأقل لکونه خلاف الامتنان بعد علم المکلف بأنه لا یجوز له ترک الصلاة رأساً، فتجری فی ناحیة تعلق الوجوب بالأکثر، ومع جریانها فیه لا یبقی لجریانها فی نفس جزئیة المشکوک مجال للعلم بعدم وجوب الاحتیاط من ناحیة احتمال تعلقه بالأکثر، لا یقال: من التزم بالاحتیاط عقلاً فی دوران أمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر بالوجه العقلی السابق من لزوم إحراز الغرض لا یمکن له الرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب الأکثر أو جزئیة

ص :432

.··· . ··· .

المشکوک، فإن ترتب الغرض الملزم علی الأقل لا بشرط أو الأکثر محرز، وأصالة البراءة عن وجوب الأکثر لا یثبت ترتّبه علی الأقل لا بشرط حتی یرتفع موضوع حکم العقل بلزوم رعایته، نعم یمکن هذا الإثبات فیما قام الدلیل علی نفی جزئیة المشکوک أو کان خطاب الأصل النافی وارداً فی مورد دوران أمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر لیحمل علی إثبات الغرض أیضا صوناً لکلام الحکیم عن اللغویة.

فإنه یقال: إن الغرض کما تقدم لیس لزوم تحصیله واجباً شرعیاً آخر، بل هو حکم العقل لاحتمال الاستحقاق للعقاب مع احتمال بقائه ببقاء التکلیف، وإذا اکتفی الشارع فی مقام امتثال التکلیف بالإتیان بالأقل کما هو مقتضی جریان البراءة فی تعلق التکلیف بالأکثر أو جزئیة المشکوک، فلا سبیل للعقل بالحکم بلزوم رعایته کما هو الحال فی موارد جریان قاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما.

وقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا ان القائل بالبراءة الشرعیة فی دوران الأمر فی الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر إما أن یلتزم بانحلال العلم الإجمالی عقلاً ولو کان هذا الانحلال حکمیاً علی ما تقدم، فالمجری لأصالة البراءة الشرعیة وهو تعلق التکلیف بالأکثر أی تعلقه بالجزء المشکوک؛ لأنّ تعلق الوجوب به ضمناً مما لا یعلم، ورفعه عن الاکثر ظاهری بمعنی عدم وجوب الاحتیاط فی التکلیف الواقعی من ناحیته، بخلاف تعلقه بالأقل فإنه محرز وجداناً نفسیاً مستقلاً أو ضمنیاً فلا موضوع لرفعه، وعلیه فیتنجز التکلیف النفسی علی تقدیر تعلّقه بالأقل، وعلی تقدیر تعلقه بالأکثر من ناحیة ترک الأقل والتنجز فی التکلیف الواحد والتبعض فی تنجزه أمر ممکن کما تقدم، فیؤتی بالأقل بداعی الأمر به علی کل تقدیر لثبوت الإطلاق الظاهری فی متعلقه وإن التزم بعدم الانحلال عقلاً حتی حکماً فالتزامه بالبراءة

ص :433

فبمثله یرتفع الإجمال والتردد عما تردد أمره بین الأقل والأکثر، ویعیّنه فی الأول.

لا یقال: إن جزئیة السورة المجهولة _ مثلاً _ لیست بمجعولة ولیس لها أثر مجعول، والمرفوع بحدیث الرافع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوب الإعادة إنما هو أثر بقاء الأمر الأول بعد العلم مع أنه عقلی، ولیس إلاّ من باب

الشرعیة ممکن أیضاً، لأنّ الموضوع للبراءة الشرعیة الجهل بالحکم وما لا یعلم فینطبق هذا علی تعلق التکلیف الواقعی بالأکثر ولا یرفع الوجوب النفسی عن الأقل؛ لأن تعلق الوجوب النفسی به ولو فی ضمن الأکثر محرز کما ذکرنا، ولا أقل من کون رفع الوجوب المتعلق بالأقل بنحو اللابشرط خلاف الامتنان، والبراءة الشرعیة بکل من التقریبین لا تنافی عدم انحلال العلم الإجمالی عقلاً، فإن الموضوع فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو عدم البیان بمعنی عدم المصحح للعقاب، والعلم الإجمالی المزبور عقلاً وإن یکن مصححاً للعقاب إلاّ أن ملاک استحقاقه احتمال العقوبة فی ترک کل من الطرفین إذا کان التکلیف المعلوم بالإجمال فیه، ومع جریان البراءة الشرعیة فی ناحیة احتمال وجوب الأکثر کما تقدم لا احتمال لاستحقاق العقاب فی ناحیة ترک الأکثر بترک الجزء المشکوک، ولذا تکون البراءة الشرعیة فی موارد جریانها واردة علی حکم العقل فیه بالاحتیاط.

فی التمسک بالاستصحاب لاثبات لزوم الاحتیاط بالإتیان بالأکثر

بقی فی المقام أمر وهو أنه قد یتمسک فی المقام بالإستصحاب للزوم الإتیان بالأکثر تارة، ولجواز الاقتصار علی الاتیان بالأقل اُخری، أما الأول فیقال: إن المکلف بعد الاتیان بالأقل یحتمل بقاء التکلیف المعلوم له إجمالاً من قبل، حیث إن التکلیف علی تقدیر تعلّقه بالأکثر باق علی حاله، ومقتضی الاستصحاب الجاری فیه

ص :434

.··· . ··· .

إحراز بقائه علی حاله وهذا الاستصحاب من قبیل الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی ولا یثبت تعلق التکلیف ثبوتاً بالأکثر إلاّ أنه یتعین الإتیان به لیرتفع الموضوع له فی ناحیة الکلی.

ویجاب عن هذا الاستصحاب بأنه إنما تصل النوبة إلی الاستصحاب فی ناحیة الکلی إذا سقط الأصل فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل بالمعارضة مع الأصل النافی فی ناحیة الفرد القصیر، وأما إذا جری الأصل النافی فی ناحیة الفرد الطویل بلا معارضة فی ناحیة الفرد القصیر فلا مورد للاستصحاب فی ناحیة الکلی، کما إذا کان المکلف محدثاً بالأصغر ثم خرج منه بلل مردّد بین البول والمنی، فإن الاستصحاب فی بقاء الحدث الأصغر وفی عدم حدوث الجنابة له یعیّن أن رافع حدثه هو الوضوء فلا حدث له بعد الوضوء، بخلاف ما إذا کان متطهراً من الحدثین وخرج منه بلل مردد بین البول والمنی فإنه بعد الوضوء یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء الحدث؛ لأن الاستصحاب فی عدم حدوث جنابته قد سقط بالمعارضة مع الاستصحاب فی عدم حدوثه بالبول المعبر عنه بالحدث الأصغر، وما نحن فیه من قبیل الأول؛ لأنّ الاستصحاب فی عدم تعلق التکلیف بالأکثر جار بلا معارض الإستصحاب فی ناحیة عدم تعلقه بالأقل لا موضوع له للعلم بتعلقه به استقلالاً أو ضمناً، والإستصحاب فی عدم تعلقه بالأقل بنحو اللابشرط لا یثبت تعلقه بالأکثر.

وعلی الجملة لا مورد لاحتمال جواز ترک الأقل لیجری الاستصحاب فی عدم تعلق التکلیف به کما لا مجال لإثبات تعلقه بالأکثر فإنه من الأصل المثبت.

أقول: مجرد عدم المعارضة بین الأصل الجاری فی ناحیة الفرد الطویل والفرد القصیر لا یوجب سقوط الإستصحاب فی ناحیة بقاء الکلی، ولذا لو کان المکلف

ص :435

وجوب الإطاعة عقلاً.

لأنه یقال: إن الجزئیة وإن کانت غیر مجعولة بنفسها، إلاّ أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا کافٍ فی صحة رفعها.

لا یقال: إنما یکون ارتفاع الأمر الإنتزاعی برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر

متطهراً من الحدثین ومع ذلک توضأ تجدیداً وبعد الوضوء علم بخروج بلل منه قبل الوضوء مردد بین البول والمنی فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم جنابته فیجوز له ما یحرم علی الجنب کالمکث فی المساجد قبل الغسل، ولکن لا یجوز له مس کتابة القرآن من غیر اغتسال لجریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء الحدث، وذلک فإن الاستصحاب فی عدم الجنابة فی هذا المثال لا یعین حال البلل وأنه کان بولاً، بخلاف ماخرج البلل المشتبه بعد کون المکلف محدثاً بالأصغر فإن الاستصحاب فی بقاء الأصغر بعد البلل وعدم تبدله بالأکبر یترتب علیه أن رافعه هو الوضوء هذا بناءً علی مسلک هذا القائل، وأما بناءً علی ما ذکرنا فی محله من أن المحدث إذا لم یکن جنباً فهو مکلف بالوضوء یحکم بطهارته فی المثال أیضا فعلاً کما یحکم بذلک إذا خرج البلل المشتبه من المتطهر من الحدثین بعد وضوئه بعد البلل؛ لأنّ المستفاد من آیة «إذا قمتم إلی الصلاة . . .»(1)، هو أن المحدث إذا لم یکن جنباً ولم یحصل منه ما یوجب الغسل یرتفع حدثه بالوضوء عند وجدانه الماء، وإلاّ یتیمم لصلاته وسائر ما یشترط فیه الطهارة.

والصحیح فی الجواب عن الاستصحاب أنه لا مجری للاستصحاب فی ناحیة الکلی فی أمثال المقام مما یکون المستصحب هو التکلیف الثابت سابقاً المردد بین تکلیف یقطع بعدم بقائه وبین تکلیف یشک فی حدوثه من الأول وکان متعلق

ص :436


1- 1) سورة المائدة: الآیة 6.

الأول، ولا دلیل آخر علی أمر آخر بالخالی عنه.

لأنه یقال: نعم، وان کان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلاّ أن نسبة حدیث الرفع _ الناظر إلی الأدلّة الدالّة علی بیان الأجزاء _ إلیها نسبة الإستثناء، وهو معها یکون دالّة علی جزئیتها إلاّ مع الجهل بها، کما لا یخفی، فتدبر جیداً.

التکلیفین بحیث لم یکن للأصل مجری فی ناحیة عدم التکلیف بمتیقن الارتفاع، کما فی المقام؛ لأنّ الاستصحاب فی بقاء التکلیف فی فرض الإتیان بالأقل لیس له إلاّ أثر عقلی وهو احتمال استحقاق العقاب علی تقدیر بقاء التکلیف بأن یتعلق التکلیف بالأکثر، وإذا جری الأصل فی ناحیه عدم تعلقه بالأکثر لا یبقی فی البین الأثر العقلی؛ لأن احتماله لاحتمال التکلیف بالأکثر.

لا یقال: الاستصحاب فی ناحیة عدم تعلقه بالأکثر قبل الإتیان بالأقل معارض بعدم تعلقه بالأقل، لأنه یقال الاستصحاب فی ناحیة عدم تعلقه بالأقل لا أثر له بعد العلم بلزوم الإتیان به، فإنه إما واجب مستقل أو واجب ضمنی، وإنه یترتب علی ترکه مخالفة التکلیف الواقعی یقیناً، هذا فیما إذا کان المطلوب بالتکلیف ذات الأقل أو ذات الأکثر بلا اعتبار ترتیب بین الأجزاء، وأما إذا کان المعتبر الترتیب بین الأجزاء بحیث لا یتحقق الأقل أیضا إذا کان الواجب هو الأکثر کما فی اعتبار السورة المشکوک اعتبارها بعد الحمد وقبل الرکوع فعلی تقدیر وقوع المعارضة بین الاستصحاب فی ناحیة عدم وجوب الأقل والاستصحاب فی ناحیة عدم وجوب الاکثر، تجری أصالة البراءة فی ناحیة عدم وجوب الأکثر ولا یعارض بأصالة البراءة فی ناحیة عدم وجوب الأقل؛ لکون البراءة فی ناحیة الأقل خلاف الامتنان، ومع جریان البراءة عن وجوب الأکثر لا مجال للاستصحاب فی ناحیة بقاء الکلی؛ لأنّ الاستصحاب فیه لا یثبت تعلق التکلیف الواقعی بالأکثر، وذکرنا أن أثره العقلی یعنی احتمال استحقاق العقاب علی تقدیر بقائه فینتفی بجریان البراءة فی ناحیة احتمال وجوب الأکثر.

ص :437

ص :438

المجلد 5

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص : 1

اشارة

ص : 2

ص : 3

ص : 4

تتمة المقصد السابع

وینبغی التنبیه علی أمور:

الأوّل: أنه ظهر مما مرّ حال دوران الأمر بین المشروط بشیء ومطلقه وبین الخاص کالانسان وعامّه کالحیوان[1].

دوران الأمر بین المشروط بشیء ومطلقه

[1] یقع الکلام فی دوران أمر الواجب بین کونه مطلقاً بالإضافة إلی المشکوک أو مشروطاً به، ولا یخفی أن الشک فی شرطیة شیء ودخل خصوصیة فی متعلق الأمر یکون علی أنحاء: فإنه قد یکون لما یطلق علیه الشرط وجود منحاز خارجاً، کما إذا تردّد فی تقیّد الصلاة بالستر، واُخری لا یکون لما یطلق علیه الشرط وجود منحاز خارجاً، بل تکون من قبیل خصوصیة قائمة بمتعلق متعلق التکلیف عرضاً، کما إذا تردد الواجب بین عتق رقبة أو عتق رقبة مؤمنة، بأن یکون الشرط من قبیل العرض لمتعلق متعلق التکلیف، وثالثة لا تکون الخصوصیة فعلاً ممتازاً فی الخارج ولا من قبیل العرض لمتعلق متعلق التکلیف، بل من قبیل المقوم الداخل فی المتعلق أو اللازم له، کما إذا دار الأمر بین کون الواجب بین المجیء بالإنسان أو مطلق الحیوان، أو کون الواجب عتق الرقبة الشامل للذکر والاُنثی، أو خصوص عتق العبد، ویطلق علی النحو الثالث دوران الأمر بین وجوب العام أو الخاص، وعلی النحوین الأولین دوران الأمر بین المطلق والمشروط، والتزم الماتن قدس سره بعدم انحلال العلم الإجمالی فی الصور الثلاث عقلاً ولو التزم بالانحلال العقلی فی موارد الشک فی الجزئیة، نعم تجری البراءة الشرعیة فی موارد الشک فی الشرطیة فی ناحیة شرطیة المشکوک،

ص : 5

.··· . ··· .

ولکن لا مجری لها فی موارد دوران الواجب بین العام والخاص، وأشار إلی عدم الانحلال العقلی فی مورد الشک فی الشرطیة حتی بناءً علی الانحلال عقلاً فی موارد الشک فی الجزئیة بما تقریبه أنه لو کان الستر مثلاً شرطاً فی الصلاة ولوحظ فیها عند الأمر بها، یکون ما فی الخارج مع رعایته عین المأمور به، وإذا لم یراع فی الإتیان بها یکون ما فی الخارج مبایناً لما تعلق الأمر به، بخلاف موارد الشک فی جزئیة شیء فإنه لو لم یراع لم یکن المأتی به مبایناً علی تقدیر تعلق الأمر بالأکثر، بل کان بعضه، ولذا قیل بأن تعلق الوجوب بالأقل فی تلک المسألة یقینی، نفسیاً أو غیریاً، ولکن هذا لا یجری فی الشک فی الشرطیة حیث لا یمکن الالتزام بالوجوب الغیری عند الشک فی کون الواجب هو المطلق أو المشروط، حیث إن انحلال المشروط إلی الطبیعی وتقیده بما یسمی شرطاً عقلی، والأجزاء العقلیة لا یتعلق بها الوجوب، بخلاف إنحلال الکلی إلی الأجزاء، فإن الانحلال فیه إلیها خارجی فیتعلق الوجوب بکل منها غیریاً أو ضمنیاً علی ما تقدم.

ثم ذکر قدس سره أنه یمکن الأخذ بالبراءة الشرعیة فی موارد الشک فی شرطیة شیء، حیث إن شرطیته مما لا یعلم فیمکن رفعها بحدیث الرفع، بخلاف دوران الأمر بین العام والخاص فإنه لا مجری للبراءة الشرعیة فی ناحیة خصوصیة الخاص.

وتقریبه، أن فی اشتراط الصلاة بالستر مثلاً نفس الصلاة ملحوظة فی مقام الأمر لا محالة، والشک فی لحاظ أمر زائد علی لحاظ نفسها، بخلاف تردد المأمور به بین العام والخاص، فإنّ الملحوظ فی مقام الأمر إما مجیء الحیوان أو الإنسان، ولیس بینهما أمر متیقن بحسب اللحاظ فی ذلک المقام، فیدور المتعلق بحسب اللحاظ بین أمرین، وإن کان بین الملحوظین مورد تصادق خارجاً، ففی النتیجة تکون شرطیة

ص : 6

.··· . ··· .

الستر أمراً مجعولاً قابلاً للوضع والرفع زائداً علی ذات المشروط، بخلاف العموم والخصوص فإنه لا یزید علی ذات الملحوظ فی تعلق الأمر بالخاص.

والمتحصل أنه لا مجری للبراءة العقلیة فی شیء من الأقسام الثلاثة المتقدمة حتی بناءً علی انحلال العلم الإجمالی عقلاً فی موارد الشک فی الجزئیة، وأما البراءة الشرعیة فلا بأس بجریانها عند الشک فی شرطیة شیء بکلا قسمیه الأول والثانی؛ لأنّ الشرط فیهما منتزع عن أخذ شیء ولحاظه فی متعلق الأمر زائداً علی لحاظ ذات المشروط فتکون مجعولة بالأمر بالمشروط لا محالة، بخلاف خصوصیة الخاص فإن لحاظها لا یکون أمراً زائداً علی لحاظ العام فی مقام الأمر، بل یتردد الملحوظ فیه بین أمرین مختلفین علی ما تقدم، أقول: فیما ذکره قدس سره للمناقشة مجال بوجهین.

الأول: أن التفرقة بین الشک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته بإمکان الالتزام بالانحلال عقلاً فی الأول دون الثانی لا تتم فیما إذا کان المشکوک علی تقدیر کونه جزء یؤتی فی محل خاص، أو اعتبر الموالاة بینه وبین سائر الأجزاء، وإلاّ فلا یکون الأقل المأتی به القدر المعلوم من تعلق التکلیف به نفسیاً أو ضمنیاً، بل یدور أمره بین أن یکون عین متعلق التکلیف مصداقا أو مباینا له، کما فی دوران الأمر بین المتباینین.

الثانی: أنه إنما یفترق الجزء المشکوک والشرط المشکوک عن العام والخاص إذا کان الانحلال فی الجزء أو الشرط حقیقیاً، وأما بناءً علی کونه انحلالاً حکمیاً، بأن قلنا بجریان البراءة فی ناحیة الأمر بالأکثر أو المشروط لکون رفعه الظاهری من ناحیة جزئیة المشکوک أو شرطیته بعدم إیجاب الاحتیاط من أجلهما موافقاً للإمتنان بخلاف جریان البراءة فی ناحیة وجوب الأقل لا بشرط، أو ذات المشروط، فإن رفعه

ص : 7

.··· . ··· .

خلاف الامتنان فیجری هذا الانحلال الحکمی فی مورد دوران الأمر بین وجوب العام أو الخاص بعین البیان فی الفرق.

فی دوران الواجب بین کونه تعیینیاً أو تخییریاً

ثم إن المحقق النائینی قدس سره قد أدخل دوران الأمر بین کون الواجب هو العام أو الخاص فی دوران الأمر بین کون الواجب فعلاً واحداً تعیینیاً أو متعدداً تخییریاً، وذلک فإن الجنس لا یمکن أن یتعلق به الأمر فإنه لا تَحصّل له فی الخارج إلاّ فی ضمن الفصل فیتعلق به الأمر متمیزاً بالفصل، فإن کان الفصل المتمیز به فصلاً معیناً یکون الواجب تعیینیاً، أو کان فصلاً ما (أیّ فصل) کان الواجب تخییریاً، وعلیه یکون المقام من دوران الأمر بین کون الواجب تعیینیاً أو تخییریاً لا من دوران الأمر بین کون الواجب هو الأقل أو الأکثر؛ لأنه لا یعقل أن یقال إن تعلق التکلیف بالجنس متیقن والشک فی تقید الجنس بالفصل، بل لابد من القول بأنّ تقیّده بالفصل یقینی والأمر دائر بین کونه فصلاً معیناً أو فصلاً ما، ویکون المقام من موارد قاعدة الاشتغال، ولا مجال للرجوع إلی البراءة عن کلفة التعیین، وذلک لأنه لا یمکن أن یقال إن تعلق التکلیف فیه بالجامع بین الفعلین أو الأفعال معلوم والشک فی تعیّن فعل خاص، ثم إنه قدس سره قد تعرض لجمیع أقسام دوران الأمر بین التعیین والتخییر مع الالتزام بأن الحکم فی جمیعها الاشتغال، ولا بأس فی المقام من التعرض لما ذکره من الأقسام والحکم بالاشتغال الذی ذکره فیها، فالقسم الأول: وهو الذی یدور الأمر فیه بین جعل الحکم علی نحو التخییر أو التعیین فی مقام جعل التکلیف، وله فروض.

الأول: أن یعلم التکلیف فی کل واحد منهما ولکن یتردد التکلیف فی کل منها

ص : 8

.··· . ··· .

بین أن یکون تعیینیاً أو تخییریاً کما فی الإفطار بالمحرم، حیث یدور أمر التکلیف بین وجوب کل واحد من الخصال تعییناً أو تخییراً.

والفرض الثانی: ما إذا علم کون فعل مسقطاً للواجب ودار الأمر فیه بین أن یکون عدلاً للواجب بنحو الواجب التخییری أو أنه غیر واجب، بل هو فعل مسقط للواجب فقط، نظیر السفر فی شهر رمضان حیث یسقط وجوب الصوم بالسفر فیه.

فی دوران امر الفعل بین کونه مسقطاً للواجب أو عدلاً له

والثمرة بین کون شیء عدلاً للواجب مسقطاً له، وبین کونه مجرد مسقط، تظهر فیما إذا تعذر ذلک الواجب، فإن کان الفعل الآخر عدلاً مسقطاً یتعین الإتیان به، وأما مع کونه مجرد مسقط لا یجب الإتیان به، وربما مثلوا لذلک بالایتمام فی الصلاة فإنه مسقط للقراءة عن المأموم، فیدور الأمر بین کون الایتمام عدلاً للقراءة المعتبرة فی الصلاة أو أن الایتمام مستحب مسقط لاعتبار القراءة، وإذا لم یتمکن المکلف من القراءة الصحیحة فی صلاته فمع کون الایتمام عدلاً مسقطاً یتعین الایتمام، بخلاف ما إذا کان فعلاً مستحباً مسقطاً لها فإنه لا یجب الإیتمام، بل یکفی الإتیان بالقراءة التی یحسنها المکلف ویأتی الکلام فی المثال مفصلاً.

الفرض الثالث: ما إذا علم بوجوب فعل ودار الأمر بین کون وجوبه تعیینیاً لا یکفی الإتیان بفعل آخر فی سقوط التکلیف به، وبین کون وجوبه تخییریاً یکفی الإتیان بفعل آخر فی سقوطه، کما فی المظاهر، حیث یعلم بوجوب شهرین متتابعین علیه، ولکن یحتمل کونه تخییریاً بینه وبین إطعام ستین مسکیناً فیسقط بالإطعام، ویحتمل أن یکون وجوبه تعیینیاً فلا یکفی فی سقوطه الإطعام، وقد التزم قدس سره فی الفروض الثلاثة بأن کلاً منها مورد لقاعدة الاشتغال، نعم ذکر فی الفرض الثانی أنه إذا

ص : 9

.··· . ··· .

دار أمر الفعل بین کونه مباحاً أو مستحباً مسقطاً للواجب، أو کونه عدلاً مسقطاً للواجب فمقتضی الاشتغال الإتیان مع التمکن من الواجب الإتیان به لا بذلک الفعل؛ لأنه یحتمل أن تکون مسقطیته للواجب من باب تفویت ملاکه ومانعیته عن استیفائه، وإذا لم یتمکن مما علم بتعلق الوجوب به فمقتضی أصالة البراءة عدم لزوم الإتیان بذلک الفعل الآخر، وذکر قدس سره قبل التعرض للفروض الثلاثة فرضاً آخر، وهو الشک فی أصل ثبوت التکلیف المردد بین کونه تعیینیاً أو تخییریاً، کما إذا شک فی کون الارتماس فی نهار شهر رمضان هل یقتضی وجوب الکفارة أم لا، وعلی تقدیر اقتضائه هل یقتضی کفارة معینة أو المخیرة بین الخصال، وأنه لا ینبغی التأمل فی رجوعه إلی أصالة البراءة؛ لأنّ الشک فی أصل جعل التکلیف علی المرتمس فی نهاره، والتزام الشیخ قدس سره بأن الاشتغال لیس راجعاً إلی هذا الفرض، فما نسبه بعض إلی ظاهر کلام الشیخ من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال فی هذا الفرض أیضا لا أساس له، والوجه فی کون المرجع قاعدة الاشتغال فی الفروض المتقدمة هو أن التعیین فی التکلیف وإن کان ضیقاً.

وبتعبیر آخر الصفة التعیینیة فی التکلیف تقتضی الضیق علی المکلّف، ولذا التزم بعض بجریان البراءة عن التکلیف التعیینی بالفعل، ولکن هذه الصفة لیست أمراً مجعولاً مرتبطاً بالتکلیف المتعلق بالفعل، بل التعیینیة تنتزع للتکلیف من عدم التکلیف بالفعل الآخر عدلاً، فإن تعلق التکلیف بالفعل الآخر عدلاً یکون التکلیف المعلق بالفعل تخییریاً وإن لم یتعلق التکلیف بالفعل الآخر کذلک یکون وجوبه تعیینیاً، فلو فرض جریان البراءة عن التکلیف بالآخر وإن لم یجر لکونها علی خلاف المنّة، کان مقتضاها کون الوجوب المتعلق بهذا الفعل وجوباً تعیینیاً.

ص : 10

.··· . ··· .

وعلی الجملة کما أن الوجوب التخییری فی مقام الإثبات یحتاج إلی مزید بیان غیر بیان وجوب الفعل، والبیان المزید هو بیان العدل للواجب، کذلک الأمر فی مقام الثبوت فنفس التکلیف المتعلق بفعل لا یختلف من ناحیة نفسه فی التعیینی والتخییری، وإنما یختلف من وجوب فعل آخر عدلاً له، فلیس فی ناحیة التکلیف بالفعل أمر زائد فی موارد التعیینیة لتجری فی نفی ذلک الزائد البراءة.

أقول: لا ینبغی التأمل فی جریان أصالة البراءة فی الفرض الأول والثالث فی ناحیة احتمال الوجوب التعیینی، وذلک فإنَّ التخییریة فی الواجب ثبوتاً لیس تعلق الوجوب بالفعل الآخر أیضاً، فإن الأمر بفعل آخر أیضاً لا یوجب کون وجوب الفعل الأول تخییریاً، ولیس للأمر بالفعل الآخر عدلاً واقعیاً بحسب مقام الجعل، إلاّ تعلق التکلیف فی ذلک المقام بالجامع بینهما، سواءً کان ذلک لحصول الملاک الملحوظ بحصول أی منهما أو لعدم إمکان اجتماع الملاکین فی الخارج للتضاد بینهما بحسب ملاکهما، ولا یدخل الفعلان مع تضادهما فی الملاک فی المتزاحمین، فإن التزاحم بین التکلیفین إنما ینشأ عن عجز المکلف اتفاقاً من الجمع بین التکلیفین فی الامتثال مع تمکنه من امتثال کل منهما مع قطع النظر عن الآخر، وأن کلاً من التکلیفین مجعول فی حق المتمکن علی الإتیان بمتعلقه، فالتخییر عقلاً فی مقام التزاحم بین التکلیفین فی الامتثال مع تساوی التکلیفین وعدم المرجح لتقدیم أحدهما فی الامتثال غیر التخییر فی التکلیف فی مقام الجعل للتضاد بین الفعلین ذاتاً أو بحسب الملاک، فإنه لا معنی لهذا التکلیف وجعل الوجوب التخییری إلاّ بتعلق التکلیف ثبوتاً بالجامع بینهما، کما أنه لیس للواجب التعیینی فی مقام الثبوت واقعیة إلاّ تعلق التکلیف بالفعل بعنوانه الخاصّ، نعم فی مقام الإثبات وإبراز کون وجوب الفعل ثبوتاً تخییریاً

ص : 11

.··· . ··· .

یتعلق الوجوب بکل منهما مع عطف أحدهما علی الآخر ب (أو) أو ما یرادفه، فاحتیاج الوجوب التخییری فی مقام الإثبات بذلک یکشف عن تعلق التکلیف ثبوتاً بالجامع بینهما، لا أنه تعلق بکل منهما نحو تعلق والتکلیف فی نفسه أمر اعتباری یمکن تعلقه بالجامع ولو کان ذلک الجامع أیضا اعتباریاً لا جامعاً ذاتیاً، بل لو کان التکلیف عرضاً فهو عرض للآمر لا لمتعلق الأمر، لیقال: إن العرض لا یقوّم بشیء اعتباری، وعلی ذلک فمع تردد تعلق التکلیف بخصوص فعل أو الجامع بینه وبین غیره، کما فی الفرض الثالث تجری البراءة عن تعلق التکلیف بخصوص ذلک الفعل ولا یعارض بأصالة البراءة عن تعلقه بالجامع بینهما؛ لأنّ رفع التکلیف عن الجامع ظاهراً علی تقدیر تعلقه به واقعاً خلاف المنة، بخلاف رفعه ظاهراً إذا تعلق بخصوص أحدهما فإن فی الوجوب التعیینی ضیقاً علی المکلف فیناسب الامتنان رفعه، ولا مجال للقول بجریان الاستصحاب فی التکلیف الواقعی بعد الإتیان بالعدل المحتمل، وذلک لما تقدم من أنَّ الاستصحاب فیه لا یثبت تعلق التکلیف ثبوتاً بالفعل المتروک، بل مع جریان البراءة عن تعلق التکلیف به ثبوتاً یکون مفادها عدم وجوب الاحتیاط فی التکلیف المحتمل تعلقه به، وعدم استحقاق العقاب علی مخالفته فلا یبقی للاستصحاب فی ناحیة الکلی أثر عقلی حتی یجری فیه بلحاظ ذلک الأثر العقلی علی قرار ما تقدم.

وکذلک الحال فی الفرض الأول حیث تجری أصالة البراءة فی ناحیة الوجوب التعیینی المحتمل فی کل من الأفعال ولا تعارض بأصالة البراءة عن تعلقه بالجامع بینهما.

واما ما ذکره قدس سره فی الفرض الثانی من أنه مع تمکن المکلف من فعل الواجب

ص : 12

.··· . ··· .

لا یجوز له الإتیان بالمسقط لاحتمال أن تکون مسقطیته من تفویت ملاک الواجب ومانعیته عن استیفائه، نعم مع عدم التمکن تجری البراءة فی احتمال وجوب الإتیان بذلک الفعل فلا یمکن المساعدة علیه، فإنه إذا کان شیء رافعاً لوجوب فعل لانتفاء الملاک فی ذلک الواجب مع وجوده یؤخذ ذلک الفعل شرطاً فی نفس وجوب الواجب، کاشتراط وجوب الصوم بعدم کون المکلف مسافراً، وإذا کان موجباً لتفویت ملاکه ومانعیته عن استیفائه یؤخذ ذلک الفعل فی متعلق الواجب مانعاً بأن یکون ترکه قیداً للواجب، وإذا دار أمر شیء بین کون عدمه شرطاً لوجوب الواجب أو عدمه قیداً لنفس الواجب، فأصالة البراءة عن وجوبه مع وجوده، مقتضاها عدم التکلیف بذلک الواجب مع وجوده علی ما هو المقرر فی دوران أمر شیء بین کونه قیداً للوجوب أو للواجب، وکذا تجری أصالة البراءة فی احتمال وجوب ذلک المسقط عند سقوط ذلک الواجب من جهة اُخری هذا بحسب الکبری.

حکم الایتمام ممن لا یتمکن من القراءة الصحیحة

وأما ما ذکره فی مسألة القراءة والایتمام فی الصلاة من أنه یستفاد مما ورد فی کون سین بلال شیناً، أن الایتمام مجرد مسقط للقراءة ولیس عدلاً للواجب حتی أن المکلف عند عدم تمکنه من القراءة التامة یصلی بما یحسن من القراءة، فقد أورد علیه بأنه لا دلالة فی الروایة علی ذلک، أولا: أن الروایة نبویة ضعیفة بالإرسال، وثانیاً: أن ما یتحمله الإمام من القراءة لیس فیها حرف الشین لیتعین الایتمام عند عدم التمکن منها، بل حرف الشین واقع فی تشهد الصلاة ولا فرق فیها بین صلاة المنفرد والایتمام، وإذا کانت القراءة الصحیحة معتبرة فی الصلاة مطلقا نظیر اعتبار الطهارة من الحدث فیسقط التکلیف بالصلاة عمن لا یتمکن من قرائتها، فغایة ما تدل علیه

ص : 13

وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلاً، بل کان الأمر فیهما أظهر، فإن الإنحلال المتوهم فی الأقل والأکثر لا یکاد یتوهم هاهنا، بداهة أن الأجزاء التحلیلیة لا یکاد یتصف باللزوم من باب المقدمة عقلاً، فالصلاة _ مثلاً _ فی ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعین وجودها، وفی ضمن صلاة أخری فاقدة لشرطها

الروایة عدم سقوط التکلیف بالصلاة مع القراءة التامة، أضف إلی ذلک أن مدلولها تنزیل السین منزلة الشین لا التنزیل فی مطلق ألفاظ القراءة، وثانیاً: أن التمثیل للمقام بمسألة القراءة والایتمام غیر صحیح، فإن الواجب علی المکلف طبیعی الصلاة، فللمکلف أن یوجد الطبیعی فی ضمن أی فرد، وکما أن الإتیان بالصلاة فی أول الوقت أو فی المسجد وغیر ذلک من أفراد الطبیعی کذلک الصلاة فرادی أو الإتیان بها جماعة، وکما أنّه مع عدم التمکن من بعض الأفراد یتعین الإتیان بالطبیعی ولو فی ضمن الفرد المتمکن منه، کذلک مع عدم التمکن من الفرادی یتعین الإتیان بالایتمام؛ لأنّ الامام یتحمل القراءة فیکون متمکناً من الفرد الصحیح من الطبیعی، هذا مع الإغماض عن نصوص کثیرة واردة تدل علی جواز اکتفاء المکلف فی قرائته فی الصلاة بما یحسن وما یتیسر من القرآن، ولولا هذه النصوص کان مقتضی القاعدة لمن لا یتمکن من القراءة الصحیحة تعین الایتمام.

أقول: لو کانت صلاة الفرادی فرداً وصلاة الجماعة فرداً آخر من الواجب، کالصلاة فی البیت والمسجد وأول الوقت وغیر ذلک لکان ما ذکر صحیحاً، ولکن ظاهر ماورد فی الصلاة جماعة أنها فعلان، صلاة وتبعیة، واختلاف الصلاة فرادی مع الصلاة جماعة، بأن الأول فعل واحد والثانی فعلان، أحدهما: واجب تعبدی، والثانی: مستحب توصلی، غایة الأمر الفعل الثانی مسقط للقراءة المعتبرة فی الصلاة، وعلیه فأصالة البراءة عن وجوب الایتمام لغیر المتمکن من القراءة لا موجب لرفع

ص : 14

وخصوصیتها تکون متباینة للمأمور بها، کما لا یخفی.

نعم لا بأس بجریان البراءة النقلیة فی خصوص دوران الأمر بین المشروط وغیره، دون دوران الأمر بین الخاص وغیره، لدلالة مثل حدیث الرفع علی عدم شرطیة ما شک فی شرطیته، ولیس کذلک خصوصیة الخاص، فإنها إنما تکون

الید عنها، فإن المفروض أن من لا یتمکن من القراءة التامة لا تسقط الصلاة عنه، وعلی الجملة لو لم یکن فی البین الروایات المشار إلیها لقلنا أیضا بعدم وجوب الایتمام علی العاجز من القراءة التامة، هذا فیما لم یکن العجز ناشئاً من ترک التعلم، وأما مع العجز الناشئ عن ترکه فیتعین علیه الایتمام حتی بلحاظ تلک الروایات؛ لأن الشخص التارک للتعلم مکلف بالصلاة مع القراءة التامة أو مأخوذ بملاک الصلاة التامة علی ما هو المقرر فی بحث وجوب تعلم الدین، وعدم معذوریته فی مخالفة التکلیف بنفسه أو بملاکه، فیما إذا کانت المخالفة ناشئة عن ترک التعلم، وعلیه فعلی العاجز المزبور الایتمام فی صلاته مع تمکنه من الایتمام، وأورد العراقی قدس سره علی ما ذکره النائینی قدس سره من عدم الفرق بین الوجوب التعیینی المتعلق بفعل والوجوب التخییری المتعلق به، وأن الوجوب التعیینی لا یزید علی التخییری بشیء لیقال بنفی الزائد بأصالة البراءة، بأنه فی مورد الأمر التعیینی یکون طلب الفعل بحیث یطرد تمام فروض ترکه، بخلاف الأمر التخییری فإن الطلب فیه لا یطرد تمام فروض ترکه، بل یطرد بعضها، وإذا شک فی الأمر بفعل أنه یحرم تمام فروض ترکه أم لا، أو لا یحرم بعض فروض ترکه فأصالة البراءة جاریة فی ناحیة هذه الزیادة، کما إذا تردد الوجوب المتعلق بکل من الأفعال المتعددة تعیینیاً أو تخییریاً فتجری البراءة فی الناحیة التعیینیة.

ثم قال: نعم لو فرض وجوب فعل وشک فی وجوب فعل آخر، وأنه یکون بدیلاً أم لا فلا بأس بالالتزام بالاشتغال للعلم الإجمالی بأن علی المکلف إما أن یأتی

ص : 15

منتزعة عن نفس الخاص، فیکون الدوران بینه و (بین) غیره من قبیل الدوران بین المتباینین، فتأمل جیداً.

الثانی: إنه لا یخفی أن الأصل فیما إذا شک فی جزئیة شیء أو شرطیته فی حال نسیانه عقلاً ونقلاً ما ذکر فی الشک فی أصل الجزئیة أو الشرطیة[1].

بالواجب بعد وجود ما یحتمل کونه بدیلاً، أو أن علیه الإتیان بذلک البدیل المحتمل عند ترک ذلک الواجب، فهذا العلم الإجمالی منجز یوجب الإتیان بذلک الواجب وعدم جواز ترکه.

أقول: یرد علی ما ذکره بأنّ الأمر بالشیء لا یطرد جمیع فروض ترکه إلاّ بتعلق الوجوب بنفس ذلک الفعل بعنوانه ثبوتاً ولا یطرد بعض فروض ترکه إلاّ بتعلق الوجوب بالجامع ثبوتاً، ولو کان ذلک الجامع اعتباریاً أو کونه واجباً مشروطاً، وإذا فرض عدم الاشتراط فی ناحیة الوجوب المتعلق بالفعل بترک الفعل الآخر کما هو المقرر فی بحث الواجب التخییری، فیدور الأمر بین تعلق الوجوب بالفعل بعنوانه الخاص أو بالجامع، فأصالة البراءة تجری فی ناحیة تعلقه بالفعل بعنوانه الخاص ولا یعارضها أصالة البراءة فی تعلق الوجوب بالجامع، وتصویر العلم الإجمالی فی فرض احتمال العدل للواجب، فرض لعلم إجمالی غیر منجز، فإن العلم الإجمالی إما أن یتعلق بتکلیف فعلی بین أطراف فعلیة أو بین أطراف تدریجیة یعلم المکلف بابتلائه بها، وفی المفروض مع التمکن من الواجب متمکن أیضاً من الفعل المحتمل کونه بدیلاً وأطراف هذا العلم تعلق التکلیف به أو بالجامع، والابتلاء بواقعة لا یتمکن فیها إلاّ بالمحتمل کونه عدلاً واقعة محتملة غیر داخلة فی أطراف العلم الإجمالی لعدم علمه بالابتلاء بها.

الأصل فیما إذا شک فی جزئیة شیء أو شرطیته

[1] إذا أحرز کون شیء جزءاً أو شرطاً للمأمور به وشک فی کون جزئیته أو

ص : 16

.··· . ··· .

شرطیته مطلقة أم لا، تکون الجزئیة أو الشرطیة فیه مطلقة، ولا یخفی أن الإطلاق فی الجزئیة والشرطیة تلاحظ تارة بالإضافة إلی حالتی الذکر والنسیان، بمعنی أن دخالته فی تمام متعلق التکلیف لا یختص بحال الذکر، ونتیجة ذلک أن المکلف إن نسیه فی تمام الوقت لا یکون فی حقه تکلیف لا بالإضافة إلی الکل أو المشروط، ولا بالإضافة إلی الخالی عن المنسی کما أنه لو نسیه بعض الوقت لا یکون الفاقد لما هو المنسی مصداقاً لمتعلق التکلیف، بل التکلیف بالکل أو المشروط باقٍ، فعلیه الإتیان بالمأمور به عند تذکره، وهذا بخلاف ما إذا کانت الجزئیة أو الشرطیة مختصة بحال الذکر فإنه یتعلق التکلیف بالباقی فی حال النسیان سواء فیما کان النسیان مستوعباً فی تمام الوقت أم فی بعضه، ویترتب علی ذلک عدم لزوم القضاء والإعادة، واُخری یلاحظ الإطلاق فی الجزئیة والشرطیة بالإضافة إلی زمان التمکن منه وعدمه، فإن کان شیء جزءً أو شرطاً بنحو الإطلاق یکون لازمه سقوط التکلیف عن الکل والمشروط إذا استوعب عدم التمکن تمام الوقت وعدم الأمر بالباقی، وإذا کان فی بعض الوقت یتعین امتثال التکلیف بالکل أو المشروط عند تجدد تمکنه منه، بخلاف ما إذا کانت الجزئیة أو الشرطیة مختصة بحال الاختیار فقط، فإنه یتعین علیه الإتیان بالباقی مع استیعاب عجزه تمام الوقت، ویتخیّر بین الإتیان بالباقی حال عدم تمکنه أو الإتیان بالکل أو المشروط عند تجدد تمکنه قبل خروج الوقت مع عدم استیعابه، والکلام فی هذا التنبیه فی الإطلاق أو الاختصاص فی الجزئیة والشرطیة بلحاظ حال النسیان، وأنه إذا ثبت کون شیء جزءً أو شرطاً للمأمور به، ولکن شک فی إطلاقهما أو اختصاصهما بحال الذکر.

وربما یقال بعدم إمکان اختصاص جزئیة شیء أو شرطیته بحال الذکر، فإن

ص : 17

.··· . ··· .

ثبت فیه إحداهما تکون الشرطیة أو الجزئیة مطلقة، وإلاّ فلا یکون له جزئیة ولا شرطیة أصلاً، وذلک فإن ثبوت الجزئیة لشیء أو الشرطیة له یکون بالتکلیف بالکل أو المشروط فهما مجعولتان بتبع التکلیف لا محالة، ولو أراد المولی اختصاص الجزئیة لشیء أو شرطیته لمتعلق الأمر بحال الذکر، فعلیه أن یعتبر تکلیفین أحدهما، التکلیف: بالکل أو المشروط، وثانیهما: التکلیف بالخالی عن الجزء المنسی أو الشرط المنسی فی حق الناسی، واعتبار التکلیف بالباقی کذلک غیر معقول لعدم إمکان التفات المکلف حال عمله إلی کونه ناسیاً، وألاّ یتذکر فلا یکون التکلیف المزبور قابلا للبعث، وإمکان کون التکلیف بحیث لا یمکن کونه داعیاً لغو لا یصدر عن الحکیم، وعلیه فإن ثبت فی مورد الإجزاء وکفایة الباقی فی سقوط التکلیف بالکل أو المشروط فهو بالإتیان بالمسقط ولو لوفائه بالملاک فی هذا الحال، کما فی موارد نسیان ما لا یدخل فی المستثنی فی حدیث «لا تعاد» من الاخلال بالجزء أو الشرط نسیاناً، وعلی ما ذکر فإن اُحرز کون شیء جزءاً لمتعلق الأمر أو شرطاً فیه تکون جزئیته أو شرطیته مطلقة، ولا یبقی مجال لدعوی أن الشک فی کون جزئیة شیء أو شرطیته مطلقة أو مختصة بحال الذکر من صغریات دوران أمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر، وأنه یکون مقتضی البراءة فی جزئیته أو شرطیته حال نسیانه جواز الاکتفاء بالإتیان بالباقی، فللقائل بالبراءة فی المقام إثبات إمکان الأمر علی الناسی بالباقی، وإثبات إمکان اختصاص جزئیة شیء أو شرطیته للواجب بحال الذکر، وقد وجه الماتن قدس سره إمکان الأمر بالباقی کذلک بوجهین کما یأتی، ولکن لابد من فرض الکلام فیما إذا لم یثبت بالأدلة الاجتهادیة إجزاء المأتی به أو عدم إجزائه، فإنه مع ثبوت أحدهما لا تصل النوبة إلی التمسک بالأصل العملی ولا تترتب

ص : 18

.··· . ··· .

ثمرة عملیة علی البحث فی إمکان اختصاص التکلیف بالکل أو المشروط للذاکرین والتکلیف علی الناسی بالخالی عن المنسی، حیث إنّه مع قیام الدلیل علی الإجزاء لا حاجة إلی التدارک بعد التذکر سواء أمکن الاختصاص المذکور أم لم یمکن، بأن کان السقوط من باب الوفاء بالملاک ومع قیام الدلیل علی عدم الإجزاء لزم التدارک من غیر فرق بین القولین، وعلی ذلک فإن کان لخطاب الأمر بالکل أو المشروط إطلاق، وکذلک لما دل علی اعتبار الجزء أو الشرط إطلاق تکون النتیجة الالتزام بالجزئیة المطلقة أو الشرطیة المطلقة، وکذا إذا لم یکن لخطاب الأمر بالکل أو الشرط إطلاق، ولکن کان للخطاب الدال علی جزئیة المنسی أو شرطیته إطلاق، فإنه یحکم أیضاً بإطلاق الشرطیة والجزئیة، وأما إذا انعکس الأمر بأن کان لخطاب الأمر بالکل والمشروط إطلاق بالإضافة إلی المنسی، ولکن لم یکن إطلاق فی ناحیة ما دل علی جزئیته وشرطیته، کما إذا قام الإجماع علی اعتبار شیء جزءاً أو شرطاً وشک فی جزئیته وشرطیته حال النسیان، فإنه بناءً علی إمکان تخصیص الجزئیة والشرطیة بحال الذکر یؤخذ بإطلاق خطاب الأمر بالکل والمشروط، فیحکم بعدم اعتبار جزئیته حال النسیان أو عدم شرطیته فیه.

لا یقال: لا یمکن الأخذ بالخطاب الدال علی جزئیة شیء أو شرطیته حال نسیانه؛ لأن تکلیف الناسی بالمنسی أمر غیر ممکن، فلا فرق بین الفرض الأخیر والفرضین السابقین فی الإلتزام بوجوب الباقی علی تقدیر إمکان الاختصاص.

فإنه یقال: لیس مدلول الخطاب الدال علی جزئیة شیء أو شرطیته هو الأمر والتکلیف بالإتیان به، لیقال إن التکلیف المنسیّ علی الناسی غیر ممکن، بل مدلوله الإرشاد إلی الجزئیة وعدم تحقق الکل أو المشروط بدونه، ولازم ذلک سقوط الأمر

ص : 19

.··· . ··· .

بالکل أو المشروط فیما إذا استوعب النسیان جمیع الوقت والإعادة مع عدمه.

وعلی الجملة لیس مدلول الخطاب الدال علی الجزء أو الشرط هو التکلیف بهما حتی فیما إذا کان بلسان الأمر بالجزء أو الشرط، بل الأمر بهما إرشاد إلی کون متعلقه دخیلاً فی متعلق الأمر النفسی، وأن ذلک المتعلق لا یتحقق بدونه. ولذا لا تعتبر قدرة المکلف علی متعلقه والتفاته إلیه، وإنما تعتبر القدرة فی متعلق الأمر النفسی المتعلق بالکل أو المشروط، وعلی ذلک فلو کان لما دل علی جزئیة شیء أو شرطیته إطلاق یحکم بسقوط التکلیف عن الکل والمشروط مع استیعاب النسیان لتمام الوقت، وإن لم یستوعب یحکم ببقاء التکلیف بالکل أو المشروط فعلیه الإعادة، کما أنه لو لم یکن للدال علی جزئیته أو شرطیته إطلاق یؤخذ بإطلاق الأمر بالکل وذات المشروط، فیحکم بعدم اعتبار الجزئیة والشرطیة حال نسیانهما، وأما إذا لم یکن إطلاق فی ناحیة الأمر بالکل والمشروط ولا فی ناحیة الدال علی الجزئیة والشرطیة یکون المورد من دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر بناءً علی إمکان اختصاص الجزئیة والشرطیة ثبوتاً بغیر حال النسیان، نعم مع عدم إمکانه یکون المورد من موارد الاشتغال للعلم بالواجب والشک فی کون غیره مسقطاً له أم لا، نعم هذا بالإضافة إلی الإعادة، وأما بالإضافة إلی القضاء فیرجع إلی أصالة البراءة عن وجوب القضاء، حیث إن الاستصحاب فی عدم جعل الفاقد مسقطاً لا یثبت فوت الفریضة فی وقتها إذا کان التذکر بعد خروج وقت العمل، نعم مع التذکر فی الوقت وعدم الإعادة یجب القضاء، ومما ذکرنا یظهر أن ما صنعه المصنف قدس سره من الجمع بین التمسک بحدیث الرفع، وحدیث «لا تعاد» غیر صحیح، فإن حدیث «لا تعاد» دلیل اجتهادی حاکم علی إطلاق أدلة الأجزاء والشرائط للصلاة ولیس مدلوله فی ناحیة

ص : 20

.··· . ··· .

المستثنی أو ناحیة المستثنی منه حکماً ظاهریاً، بخلاف حدیث الرفع بفقرة «ما لا یعلمون» واحتمال کون مراده فقرة رفع النسیان غیر صحیح؛ لأنّ رفع النسیان رفع واقعی لا یجری إلاّ مع نسیان الجزء أو الشرط فی تمام الوقت، ولکن لا یثبت وجوب الباقی فی الوقت ولا یجری مع نسیان الجزء حال العمل فضلاً عن إثباته الأمر بغیر المنسی فی ذلک الحال.

وقد تحصل من جمیع ما ذکرنا أن کون المقام من دوران الأمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر مبنی علی امکان اختصاص الجزئیة أو الشرطیة بحال الذکر، وإلاّ بأن لم یمکن هذا الاختصاص، بل کان ثبوت الجزئیة أو الشرطیة فی شیء ملازماً لجزئیته أو شرطیته مطلقة، وکان سقوط التکلیف بالکل أو المشروط بدون الجزء أو الشرط من أجل الوفاء بالغرض، وإلاّ فسوف یکون المرجح عند الشک هو الاشتغال علی ما تقدم، فالعمدة صرف الکلام إلی إمکان الاختصاص وعدمه، وقد وجّه الماتن قدس سره هذا الإمکان بوجهین.

الأول: أن یوجه الخطاب المتضمن للتکلیف إلی جمیع المکلفین بغیر المنسی من الأجزاء والشرائط، ووجه خطاباً آخر علی دخل المنسی فی متعلق الأمر بالإضافة إلی الذاکر، أو وجه خطاباً بإیجاب الإتیان بتمام الأجزاء مع شرائطه، ثم وجه خطاباً یتضمن الأمر علی الناسی بالإتیان بغیر المنسی من سائر الأجزاء والشرائط حال نسیانه، غایة الأمر لا یکون الموضوع فی خطاب الأمر بالخالی الأمر به بعنوان الناسی، بل بعنوان آخر خاص أو عام بحیث لا یشمل الذاکر حال العمل.

أقول: ما ذکر علی تقدیر تمامیته إنما یکون علاجاً بالإضافة إلی مقام الإثبات، وأما فی مقام الثبوت فلابد من تصویر الأمر بتمام الأجزاء والشرائط بالإضافة إلی

ص : 21

فلولا مثل حدیث الرفع مطلقاً ولا تعاد فی الصلاة لحکم عقلاً بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسیاناً، کما هو الحال فیما ثبت شرعاً جزئیته أو شرطیته مطلقاً نصاً أو إجماعاً.

الذاکرین، بأن یکون فی حق کل واحد من الذاکرین وجوب یتعلق بتمام الأجزاء والشرائط، ووجوب آخر بالإضافة إلی کل من الأفراد الناسین یتعلق الوجوب بغیر منسیه من الأجزاء والشرائط حال العمل، حیث إن المفروض أن الواجب فی حق کل من الذاکرین والناسین ارتباطی یتعلق ذلک الوجوب الواحد بتمام العمل الواجب فی حقه ثبوتاً، وما ذکر الماتن قدس سره من الوجهین راجع إلی تصحیح مقام الإثبات وهو فرع إمکان ثبوت تکلیف آخر للناسی ثبوتاً غیر التکلیف فی حق الذاکر اللهم إلاّ أن یقال إنه یمکن أن یلاحظ الشارع الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها ثم یوجبها کذلک علی من یتمکن من الاتیان بها کذلک فی کل جزء من أجزاء الوقت المضروب لوجوبها، وأما من یتمکن من الأجزاء الرئیسیة کالأرکان ولو فی بعض الوقت فیجب علیه علی نحو التخییر بین الإتیان بالصلاة بتمام أجزائها وشرائطها فی وقت التمکن منها، وبین الإتیان بالأجزاء الرئیسة مع ما یتمکن منه من سائر الأجزاء حال عدم تمکنه من جمیعها، وهذا العنوان یشمل الناسی أیضا کسائر أفراد العاجز، غایة الأمر لا یکون الأمر بهذا العنوان داعیاً للناسی إلی العمل إلاّ بنحو الخطأ فی التطبیق بأن یری الناسی نفسه أنه یأتی بالعمل بداعویة الأمر المتعلق بالصلاة بتمامها علی المتمکن منها بتمامها، ولا یضر هذا التخلف والخطأ فی صحة جعل الوجوب کما ذکر، حیث یمکن کونه داعیاً لغیر المتمکن إذا کان عدم تمکنه من غیر ناحیة النسیان، أو کان لنسیان نفس ما یطلق علیه الجزء أو الشرط، کما إذا نسی المکلف نفس السورة بعد الحمد مع التفاته بأن قرائتها جزء من الصلاة بحیث لو کان عنده المصحف وکان

ص : 22

ثم لا یذهب علیک أنه کما یمکن رفع الجزئیة أو الشرطیة فی هذا الحال بمثل حدیث الرفع، کذلک یمکن تخصیصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الإجتهادیة، کما إذا وجه الخطاب علی نحو یعم الذاکر والناسی بالخالی عما شک فی دخله مطلقاً،

عارفاً بالکتابة لقرأها فی المصحف فی صلاته، وإنما لا یلتفت إلی نسیانه فیما کان منشأ ترکه الجزء أو الشرط نسیان الجزئیة أو الشرطیة حال العمل أو بعده أیضاً، والمقدار المذکور من إمکان الداعویة فی حق غیر المتمکن کافٍ فی جعل الوجوب التخییری المذکور، وإذا شک فی کون الجزئیة أو الشرطیة فی شیء مطلقة أو ساقطة حال النسیان عن الجزئیة والشرطیة، فمقتضی البراءة عن الوجوب التعیینی المتعلق بالعمل الواجد به، مقتضاه جواز الاقتصار علی المأتی به حال النسیان.

وبتعبیر آخر یدور الأمر فی المقام بین کون التکلیف تعیینیاً أو تخییریاً، ومقتضی أصالة البراءة عدم التعیین، وبهذا یظهر أنه لا مجال فی المقام لأصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التکلیف بعد احتمال کون الوجوب فی حق من یکون ناسیاً للجزء أو الشرط فی بعض الوقت تکلیفاً تخییریاً، نعم لو لم یمکن التکلیف التخییری فرضاً بل ثبوت الجزئیة أو الشرطیة لشیء ملازماً للاطلاق فی الجزئیة والشرطیة کان مقتضی الأصل فی عدم جعل المسقط للتکلیف لزوم الإعادة فی الوقت، فإن ترکها یجب القضاء، بخلاف ما لم یتذکر إلاّ بعد خروج الوقت، وکان لفائته قضاء، حیث لا یجب القضاء لعدم إحراز فوت الواجب لکون ما أتی به حال النسیان مسقطاً ووافیاً بالملاک، حیث إن الاستصحاب فی عدم کونه مسقطاً لا یثبت الفوت الموضوع لوجوب القضاء.

فی أن مقتضی أصالة البراءة عدم إطلاق جزئیة الشیء أو شرطیته

ینبغی التنبه فی المقام لأمر وهو أن ما ذکرناه من أن مقتضی الأصل العملی فیما

ص : 23

وقد دلّ دلیل آخر علی دخله فی حق الذاکر، أو وجه إلی الناسی خطاب یخصه بوجوب الخالی بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسی کی یلزم استحالة إیجاب ذلک علیه بهذا العنوان، لخروجه عنه بتوجیه الخطاب إلیه لا محالة، کما توهم لذلک استحالة تخصیص الجزئیة أو الشرطیة بحال الذکر وإیجاب العمل الخالی عن المنسی علی الناسی، فلا تغفل.

إذا شک فی أصل جزئیة شیء أو شرطیته أو فیما إذا شک فی إطلاق الجزئیة أو الشرطیة یکون مقتضی الأصل هو عدم الاشتراط وعدم الجزئیة أو عدم إطلاقهما یختص بأجزاء المأمور به وشرائطه، وأما إذا کان الشک فی جزئیة شیء أو شرطیته فی المعاملة فلا مجری لأصالة البراءة فی شیء منها، بل یکون مقتضی الأصل بطلانها بدونه؛ لأنّ أدلة الإمضاء انحلالیة یحرز ثبوت الإمضاء فی المعاملة الواجدة لذلک القید المحتمل وثبوت الإمضاء فی غیره مشکوک، فالأصل عدمها بخلاف التکلیف المتعلق بالکل أو المشروط، فإنّه مع ثبوت جزء أو شرط فیه یکون مقتضی حدیث الرفع عدم الاحتیاط فیه.

فی الشک فی مانعیة الزیادة فی الجزء والشرط

ذکر الماتن قدس سره أنه إذا شک فی اعتبار عدم زیادة الجزء فی متعلق الأمر سواء کان المحتمل أخذ عدم الزیادة فی متعلق الأمر جزءاً أو شرطاً یکون المقام من صغریات دوران أمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر، ومقتضی حکم العقل بالاشتغال، وإن کان ترک الزیادة لإحراز سقوط التکلیف المعلوم بالإجمال علی ما تقدم من عدم انحلال العلم الإجمالی فی دوران الأمر الواجب الارتباطی بینهما، إلاّ أن مقتضی حدیث «رفع ما لا یعلمون» عدم لزوم الاحتیاط بترک زیادة الجزء بل یجوز الاتیان بالمأمور به معها، وحیث إن فی اعتبار عدم زیادة الجزء خفاء؛ لأنّ جزء متعلق الأمر

ص : 24

الثالث: إنه ظهر _ مما مر _ حال زیادة الجزء إذا شک فی اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً فی الواجب _ مع عدم اعتباره فی جزئیته، وإلاّ لم یکن من زیادته بل من نقصانه _ وذلک لإندراجه فی الشک فی دخل شیء فیه جزءاً أو شرطاً، فیصح لو أتی به مع الزیادة عمداً تشریعاً أو جهلاً قصوراً أو تقصیراً أو سهواً، وإن استقل العقل لولا النقل بلزوم الإحتیاط، لقاعدة الاشتغال.

إما أن یکون لا بشرط بالإضافة إلی زیادتها، أو یکون بشرط لا، ولو کان الجزء هو لا بشرط بالإضافة إلی زیادة نفسه فلا یکون تکراره من الزیادة، وإن تکراره وعدمه سیان بالإضافة إلی تحقق ذلک الجزء فلا یخل التکرار، وإن اُخذ بشرط لا بالإضافة إلی تکراره فمع التکرار لا یتحقق الجزء أصلاً، فیکون الإخلال بعدم تحقق الجزء ونقصه، فأوضح قدس سره بأن الجزء المأخوذ فی متعلق الأمر یکون لا بشرط ومع ذلک یحتمل اعتبار عدم تکراره فی نفس متعلّق الأمر النفسی بنحو لو حصل تکراره حصل جزئه، ولکن لا یحصل شرط متعلّق الأمر أو جزئه الآخر؛ لاحتمال اعتبار عدم تکراره فی متعلق الأمر النفسی جزءاً أو شرطاً، ویترتب علی جریان البراءة فی ناحیة احتمال اعتبار عدم زیادته بأحد النحوین جواز الاتیان بمتعلق الأمر النفسی مع تکراره، بل یصح العمل حتی فیما کان تکراره بقصد کون الزیادة جزءاً من العمل تشریعاً أو جهلاً قصوراً کان أو تقصیراً، أو مع عدم الالتفات والغفلة، نعم لو کان متعلق الأمر النفسی عبادة یحکم ببطلانها مع تلک الزیادة فیما إذا لم یکن الأمر النفسی داعیاً له إلی العمل لولا تلک الزیادة، أما مطلقاً أو فی صورة عدم دخل تلک الزیادة فی متعلق الأمر النفسی واقعاً، وأما لو فرض دخل تلک الزیادة فی متعلق الأمر واقعاً فرضاً فتصح تلک العبادة لعدم قصور فی الإمتثال فی هذا الفرض، فقوله قدس سره : «لعدم قصد الامتثال فی هذه الصورة» تعلیل لصحة عبادته لو اتفق اعتبار تلک الزیادة واقعاً

ص : 25

نعم لو کان عبادة وأتی به کذلک، علی نحو لو لم یکن للزائد دخل فیه لما یدعو إلیه وجوبه، لکان باطلاً مطلقاً أو فی صورة عدم دخله فیه، لعدم قصد الإمتثال فی هذه الصورة، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الإشتغال.

المفهوم من قوله: «أو فی صورة عدم دخله» واقعاً فیکون المتحصّل من کلامه أنه لو کان متعلق الأمر عبادة وکرر فیها الجزء ولم یقصد الامتثال إلاّ علی فرض تعلق الأمر بها، کما أتی بها من زیادة الجزء تشریعاً أو جهلاً أو قصوراً یکون العمل المزبور محکوماً بالبطلان إما مطلقا أی سواء کان الأمر النفسی فی الواقع کما قصده أم لا، أو یختص البطلان بما إذا کان الأمر النفسی فی الواقع متعلقاً بالمرکب بنحو اللابشرط بالإضافة إلی تلک الزیادة، ووجه البطلان فی هذه الصورة أن الأمر النفسی الواقعی لم یقصد امتثاله، وما قصد امتثاله من الأمر غیر ثابت فی الواقع. ویعبّر عن قصده کذلک بتقیید الامتثال، وأما الصحة فیما کان الأمر الواقعی متعلقاً بالمرکب مع تلک الزیادة فلعدم قصور فی قصد امتثاله، نعم مع عدم العلم بأخذ الزیادة فی متعلق الأمر کذلک وجب إعادة العمل بغیر زیادة قصد الجزئیة لإحراز امتثال التکلیف.

أقول: صحة العمل مع اتفاق اعتبار الزیادة واقعاً فی متعلق الأمر النفسی تنحصر بما إذا کان حین العمل معتقداً باعتبارها، وأما مع التشریع وجهله باعتبارها حال العمل فیحکم ببطلانها، لعدم قصد التقرب بعدم الحسن الفاعلی فی العمل فإنه لا یتحقق مع التشریع فی أصل العمل، والحاصل إذا أتی المکلّف بالعبادة بزیادة الجزء وکان قصده موافقة الأمر المتعلق بالمأتی به خاصة مع جزمه أو جهله حال العمل بأن المأتی به زائد عن متعلق الأمر النفسی المتعلق بالعبادة لا یحصل التقرب المعتبر فی صحة العمل عبادة، حتی لو فرض تصادف بنائه الواقع بکون الزائد جزءاً

ص : 26

وأما لو أتی به علی نحو یدعوه إلیه علی أیّ حال کان صحیحا،[1] ولو کان مشرعا فی دخله الزائد فیه بنحو مع عدم علمه بدخله فان تشریعه فی تطبیق المأتی مع المأمور به.

أیضا، فإن القصور فی الامتثال لأجل عدم کون العمل بداعویة الأمر بها شرعا، بل الإتیان بها وقع بداعویة الأمر البنائی المفروض کونه بنحو التشریع، ولا فرق فی عدم جواز التشریع والافتراء بین کون ما نسبه إلی الشارع مع عدم علمه به أو مع اعتقاده بعدمه حقا أو باطلاً والمعیار هو النسبة بغیر علم.

فی مبطلیة الزیادة فی الصلاة ونحوها

[1] مراده قدس سره أنه إذا زاد المکلّف فی المأتی به جزءاً، ولکن کان قصده امتثال الأمر المتعلق بالعبادة واقعا ولکن بنی أنه ینطبق علی المأتی به بتمامه فیحکم بصحة العمل؛ لأنّ الداعی إلی الإتیان هو الأمر النفسی الواقعی، غایة الأمر أنه غیر خال من التشریع فی تطبیق متعلق ذلک الأمر النفسی علی المأتی به، والتشریع فی التطبیق وإن کان غیر جائز، إلاّ أنّه لا یوجب بطلان أصل العبادة التی أتی بها بداعویة الأمر الشرعی الواقعی المتعلق بها.

أقول: هذا إذا لم یکن عدم زیادة الجزء مأخوذاً فی العبادة، وإلاّ یحکم بفسادها ثم لا یخفی أن المرکب المفروض فی المقام اعتباری فیکون زیادة شیء فیها بعنوان زیادة الجزء بقصد الجزئیة فقط، ولو تکرّر الجزء من المرکب لا بقصد الجزئیة من ذلک العمل، بل بقصد کونه عملاً آخر فلا یکون ذلک من زیادة الجزء، وکذا ما إذا کان الزائد من غیر جنس الأجزاء، نعم ربما یرد التعبد بکون نفس الإتیان بشیء عند الاشتغال بالمرکب زیادة فیه حتی ما لم یقصد کونه جزءاً، کما فی السجود لقراءة آیة العزیمة أو لاستماعها، حیث ورد أن سجودها أثناء الصلاة زیادة فی الفریضة

ص : 27

.··· . ··· .

ویتعدی منه إلی الرکوع أیضا، فإنه إذا کان السجود لا للصلاة زیادة، فلا یحتمل أن یکون الأمر فی الرکوع علی خلاف ذلک، ویترتب علی ذلک عدم جواز إقحام صلاة فی صلاة، ولکن هذا خارج عن زیادة الجزء، فإن الکلام فی المقام فی زیادة الجزء فی الصلاة وغیرها مع الإغماض عن نظیر التعبد فی السجود والرکوع، وعلی ذلک فلا ینحصر احتمال مانعیة الجزء علی ما ذکر الماتن من إمکان کون شیء جزءاً للواجب لا بشرط، ومع ذلک یمکن أخذ عدم تکراره شرطاً أو جزءاً لنفس المرکب، بل یمکن کون شیء بصرف وجوده جزءاً للمرکب ویکون المرکب أیضا لا بشرط بالإضافة إلی تکراره، ولکن إذا کان تکراره بقصد کون المکرر أیضا جزءاً من المرکب تصدق علی تکراره کذلک زیادة الجزء، ومثلها ما لو کان الزائد من غیر جنس الأجزاء وقصد کونه من الأجزاء، وعلی ذلک کلما صح العمل من جهة قصد التقرب المعتبر فیه ولم یؤخذ عدم الزیادة أو عدم التکرار قیداً للعمل یحکم بصحته، بخلاف ما إذا أخذ عدم الزیادة قیداً کما فی الصلاة والطواف ونحوهما، فإنه یحکم بالبطلان علی تفصیل مذکور فی الفقه، وملخصه علی نحو الإجمال أنه لا ینبغی التأمل فی أن الزیادة عمداً إذا کانت قبل إتمام الصلاة توجب بطلانها مطلقاً، سواء کان الزائد من الأرکان أو من غیرها، مع کون غیر الأرکان بقصد کونه جزءاً من الصلاة أخذاً بقوله علیه السلام : «من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة»(1) فإن هذا کأدلّة سائر الأجزاء والشرائط والموانع ناظر إلی بیان مانعیة الزیادة، بخلاف حدیث لا تعاد فإنه ناظر إلی تحدید اعتبار الأجزاء من حیث الجزئیة وشرطیة الشرائط ومانعیة الموانع، ولکن الحدیث

ص : 28


1- (1) وسائل الشیعة 8:231، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 2.

.··· . ··· .

لا یشمل صورة الإخلال بالجزء والشرط والمانع عمداً؛ لأنّ العامد حین العمل مکلف بالإتیان بالعمل وترک الزیادة وعدم الإخلال فی العمل، وکذا لا یشمل صورة الإخلال بالجزء أو الشرط أو المانع حال العمل مع جهله تقصیراً، فإنه لو أخذ بحدیث «لا تعاد» فی صورة الجهل تقصیراً یلزم حمل أدلة الأجزاء والشرائط مما یکون لسانها إیجاب الإعادة مع الإخلال علی صورة الإخلال مع العلم والعمد، وهذا من قبیل حمل تلک الخطابات علی الفرد النادر من مدلولاتها وعلی ذلک فالداخل فی مدلول حدیث لا تعاد صورة الإخلال عن نسیان أو عن جهل قصوراً ونحوهما، ومقتضاه أن الإخلال کذلک لا یوجب بطلان الصلاة فی غیر الأرکان ویوجبه إذا کان الإخلال بها سواء کان الإخلال بالزیادة أو بالنقیصة وعدم تصویر الزیادة فی بعض المذکورات فی المستثنی لا یوجب اختصاص الحکم فی المستثنی والمستثنی منه بصورة الإخلال بالنقیصة، ونظائر ذلک فی الخطابات کثیرة، ثم حدیث «لا تعاد» حاکم علی تمام ما دل علی اعتبار شیء فی الصلاة جزءاً أو شرطاً أو مانعاً حتی بالإضافة إلی قوله علیه السلام «من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة» ومقتضی حکومته علیه أن الزیادة إذا کانت فی مثل الرکوع والسجدتین معاً تبطل الصلاة حتی فیما کانت الزیادة سهویاً، وأما فی غیرهما مما یدخل تحت المستثنی فلا تبطل الصلاة فیما کانت الزیادة عن عذر وغفلة فلا تلاحظ النسبة بین الحدیث وقوله علیه السلام من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة، أو من استیقن أنه زاد فی صلاته فعلیه الإعادة؛ لأنّ حدیث «لا تعاد» حاکم بالإضافة إلیهما.

لا یقال: قوله علیه السلام : «من زاد فی صلاته فعلیه الاعادة»، أو من استیقن انه زاد فی صلاته فعلیه الاعادة، مع حدیث «لا تعاد» بلسان واحد واختلافهما بالنفی والإثبات

ص : 29

وهو لا ینافی قصده الإمتثال والتقرب به علی کل حال.

ثم إنه ربما تمسک لصحة ما أتی به مع الزیادة باستصحاب الصحة[1] وهو

فکیف یکون حدیث «لا تعاد» حاکماً علیهما.

فإنه یقال: الأمر بالإعادة قد یقع فی بیان أصل الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة، وربما یقع أو ینفی الإعادة بعد فرض ثبوت أصل الجزئیة والشرطیة والمانعیة فیکون حاکماً علی ما ورد فی مقام بیان أصل الجزئیة والشرطیة والمانعیة، فیفید الأمر بالإعادة إطلاقها ونفی الإعادة انحصار الجزئیة والشرطیة والمانعیة بغیر صورة نفی الإعادة کما هو الحال بالإضافة إلی حدیث «لا تعاد».

التمسک باستصحاب الصحة عند الشک فی مانعیة الزیادة

[1] ذکر الشیخ قدس سره أنه قد یتمسک فی إثبات عدم مانعیة زیادة الجزء فی المرکب سواء کان الزائد من مثل أجزائه أو غیرها بالاستصحاب فی صحة الأجزاء السابقة بعد تحقق الزائد، وردّه بأن المستصحب إن کان الصحة الفعلیّة فهذه لا یحصل إلاّ بعد الإتیان بمتعلق الأمر بتمامه، ومع الإتیان ببعضه لم تکن حاصلاً حتی یستصحب بعد الإتیان بما یحتمل کونه زیادة مانعة، وإن کان المستصحب صحة الأجزاء السابقة بمعنی کونها موافقة للأمر الغیری أو الضمنی المتعلق بها المعبر عن ذلک بالصحة التأهلیّة والشأنیّة، وهی کون الأجزاء بحیث لو انضم إلیها سائر الأجزاء بشرائطها حصل متعلّق التکلیف، فهذه الصحة مقطوع بقاؤها، ولکن لا یفید العلم ببقائها حصول سائر الأجزاء بشرائطها التی یحتمل کون عدم الزیادة منها، واستشکل العراقی قدس سره بأن ما ذکر من عدم الحالة السابقة للصحة الفعلیة مبنی علی کون تلک الصحة تحدث دفعة بحصول الجزء الأخیر من المرکّب، وأما إذا کان حصولها کحصول المرکّب تدریجیا فی مراتبها بحیث تحصل مرتبتها الأخیرة بتمام

ص : 30

.··· . ··· .

العمل، فحصولها ببعض مراتبها کافٍ فی استصحابها نظیر الاستصحاب فی بقاء سائر الاُمور التدریجیة.

و مما ذکر یظهر أنه لو کان المراد من الصحة موافقة الأمر فهی أیضا قابلة للاستصحاب؛ لأنّ موافقة الأمر بالکلّ وإن تحصل تمامها بتمام العمل، إلاّ أن الإتیان بالمرکب تدریجی فتکون موافقة الأمر بها تدریجیا وتکون فعلیة الأمر بالجزء اللاحق عند الفراغ عن الجزء السابق، وعلی ذلک یشک فی بقاء تلک الموافقة الفعلیة التی کانت قبل الإتیان بالزیادة المحتملة مانعیتها.

أقول: لا یخفی ما فیه، فإنه قد تقدم فی تصویر زیادة الجزء واعتبار عدمها، بأنّ زیادته ومانعیتها بأخذ عدمها فی المرکب الذی هو عین الأجزاء خارجا، فعدمه علی تقدیر اعتبار عدم زیادته مأخوذ فی ناحیة الأجزاء بأسرها، وعلیه فلا یمکن إثبات صحة المرکب مع تلک الزیادة المحتملة اعتبار عدمها بالاستصحاب فی صحة الأجزاء السابقة؛ لأنّ المتیقن حصوله بالإتیان ببعض الأجزاء هی الصحة المهملة أی المردّدة بین کونها صحة فعلیة کما إذا لم تکن عدم زیادة الجزء مأخوذا فی المرکب أو تعلیقیة، کما إذا کان عدم تلک الزیادة قیدا للمرکب المفروض کونه عین الأجزاء السابقة مع اللاحقة، والاستصحاب فی الصحة المهملة لا یفید الموافقة الفعلیة اللازم إحرازها عقلاً بعد تنجز التکلیف، نعم لو جرت أصالة البراءة فی ناحیة عدم تعلّق التکلیف بالمرکب المأخوذ فیه عدم الزیادة تحرز الموافقة الفعلیة اللازمة بعد بیان الشارع عدم لزوم الاحتیاط من ناحیة احتمال اعتبار عدم الزیادة، کما هو مفاد حدیث الرفع عند دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر ومع إحرازها لا موضوع للاستصحاب ولا حاجة إلیه.

ص : 31

.··· . ··· .

والعجب أنه قدس سره أورد علی نفسه بأن الصحة بالمعنی المذکور غیر داخل فی الحکم الشرعی، بل حکم عقلی فکیف یستصحب؟ وأجاب بأن الصحة قابلة للتعبد حیث إن منشأها أمر الشارع وتکلیفه، ووجه العجب أنه إذا کان المنشأ أمر الشارع وتکلیفه وجری الأصل فی نفس التکلیف یعنی تعلقه بالأکثر فلا یبقی فی الناشئ عنه شک، لیکون مورد الاستصحاب.

وقد یقال: فی المقام أنه لو أتی المکلّف بالزیادة المحتمل مانعیتها أو ترک المشکوک فی شرطیته، یکون مقتضی العلم الإجمالی بوجوب إتمام المأتی به أو وجوب إعادته الجمع بین الاتمام والإعادة؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی متعلق بالمتباینین لا بوجوب الأقل أو الأکثر، ولکن هذا أیضا غیر صحیح؛ لأنه لا یحرم القطع فی غیر صلاة الفریضة من الواجبات، ولیس الکلام فی المقام منحصرا علی صلاة الفریضة، وثانیا: أن مقتضی جریان البراءة فی التکلیف بالأکثر ینفی العقاب علی ترک الأکثر، فکیف یجب إعادة العمل مع أن المکلف لا یعاقب علی ترکه من ناحیة الجزء أو القید المحتمل.

التمسک باستصحاب الصحة فی موارد الشک فی القاطعیة

ثم إن الشیخ قدس سره قد فصّل فی استصحاب الصحة بین موارد الشک فی مانعیة الشیء، وموارد الشک فی القاطعیة، إذ إن التعبیر عن وقوع شیء أثناء العمل بالقاطعیة ظاهره اعتبار الهیئة الاتصالیة بین أجزائه کما فی القهقهة أثناء الصلاة، أو البکاء لاُمور الدنیا، إذ بوقوع أحدهما أثناء الصلاة تنقطع الهیئة الاتصالیة المعتبرة بین أجزائها کالفصل الطویل بین أجزائها التی تنتفی به تلک الهیئة الاتصالیة وجداناً،

ص : 32

الرابع: أنّه لو علم بجزئیة شیء أو شرطیته فی الجملة، ودار الأمر بین أن یکون جزءاً أو شرطا مطلقا[1]، ولو فی حال العجز عنه.

ففیما شک فی کون شیء قاطعا للعمل ومزیلاً لتلک الهیئة المعتبرة فلا بأس بالاستصحاب فی بقائها، حیث یمکن أن تخرج الأجزاء السابقة بحصول ذلک الشیء عن قابلیتها للحوق الأجزاء اللاحقة، وهذا بخلاف موارد الشک فی مانعیة الشیء، فإن الاستصحاب فی بقاء صحة الأجزاء السابقة لا یفید شیئا فی إحراز الصحة الفعلیة.

أقول: لا یخفی ما فیه فإن کون شیء قاطعا أو مانعا فی الحقیقة إختلاف فی التعبیر وإلاّ لا یکون الشیء مبطلاً للعمل إلاّ ویؤخذ عدمه فیه عند الأمر به، وإلاّ کیف یکون الشیء قاطعا مع عدم أخذ عدمه فیه، أو اعتبار الموالاة بین أجزائه. وعلی ذلک فلو جرت أصالة البراءة عن تعلق الأمر بالأکثر یعنی بما هو مقید بعدم المشکوک فلا یبقی شک فی إجزاء المأتی به ولو کان هو الأقل فتدبّر.

لو علم بجزئیة شیء أو شرطیته فی الجملة

[1] قد تقدم أن الشک فی إطلاق جزئیة الجزء أو إطلاق شرطیة الشرط یلاحظ تارة بالإضافة إلی حال الذکر والنسیان واُخری بالإضافة إلی حال التمکن منهما وحال العجز منهما، وإذا علم جزئیة الشیء أو شرطیته لمتعلق الأمر ودار بین کونه جزءاً أو شرطا حتی فی حال عدم التمکن منه بأن یکون الأمر بالکل أو المشروط ساقطا مع عدم التمکن منه من غیر أن یتعلق بالباقی أو ذات المشروط وجوب، وبین کونه جزءاً أو شرطا حال التمکن منه ومقتضاه تعلق الأمر مع عدم التمکن منه بالباقی أو بنفس المشروط، فإن وصلت النوبة إلی الأصل العملی، کما إذا لم یکن للخطاب الدالّ علی اعتباره جزءاً أو شرطا إطلاق یقتضی اعتباره مطلقا، ولم یکن أیضا فی ناحیة الأمر بذلک المرکب أو المشروط إطلاق یقتضی عدم اعتبار المشکوک جزءاً أو شرطا فیه،

ص : 33

وبین أن یکون جزءاً أو شرطاً فی خصوص حال التمکن منه، فیسقط الأمر بالعجز عنه علی الأول، لعدم القدرة حینئذ علی المأمور به، لا علی الثانی فیبقی متعلقاً بالباقی، ولم یکن هناک ما یعین أحد الأمرین، من إطلاق دلیل اعتباره

حیث إنه لو کان لدلیل اعتبار الجزء أو الشرط إطلاق یقتضی عدم تحقق المرکب أو نفس المشروط بدونه یؤخذ به، ویحکم بسقوط الأمر النفسی مع عدم التمکن منه، فإن تقدیم خطاب الجزء علی إطلاق خطاب الأمر النفسی من قبیل رفع الید عن إطلاق المتعلق بالخطاب الدالّ علی القید له، هذا مع الإطلاق فی الخطاب الدال علی الأمر النفسی، ومع عدم الإطلاق له بأن یکون مجملاً کما فی الأمر بالعبادات علی القول الصحیحی أو مهملاً کما فی أکثر خطاباتها بناءً علی الأعمی، فالأمر أوضح، وکذا إذا لم یکن فی الدلیل الدالّ علی جزئیة الشیء أو شرطیته إطلاق، وکان فی ناحیة الخطاب الدال علی الأمر النفسی بالمرکب إطلاق، حیث یدفع به اعتبار جزئیة غیر المقدور أو شرطیته عند الاضطرار إلی ترکه فیثبت بالإطلاق المزبور الأمر بالباقی وذات المشروط، وإذا لم یکن إطلاق فی شیء من ناحیة الأمر النفسی بالمرکب ولا من ناحیة الدلیل الدال علی الجزئیة أو شرطیة الشیء له، ووصلت النوبة إلی الأصل العملی تجری أصالة البراءة عن وجوب الباقی، وذات المشروط هذا مع استیعاب العجز جمیع الوقت، ولا یقاس المقام بدوران الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین، حیث تقدم فی دوران الأمر بینهما جریان البراءة عن وجوب الأکثر من غیر معارضتها بالبراءة عن وجوب الأقل، وذلک فإن التکلیف فی تلک المسألة کان معلوما بالإجمال، بخلاف هذه المسألة حیث یحتمل عدم التکلیف رأسا بعد تعذر الجزء أو الشرط، نعم إذا کان العجز غیر مستوعب للوقت فیبقی الأمر بالکل والمشروط بحاله لتمکن المکلف من صرف وجوده ولو فی آخر الوقت، نعم

ص : 34

جزءاً أو شرطاً، أو إطلاق دلیل المأمور به مع إجمال دلیل اعتباره أو إهماله، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقی، فإن العقاب علی ترکه بلا بیان والمؤاخذة علیه بلا برهان.

لا یقال: نعم، ولکن قضیة مثل حدیث الرفع عدم الجزئیة أو الشرطیة إلاّ فی حال التمکن منه[1].

لو لو یکن لدلیل الجزء أو الشرط إطلاق بحیث یحتمل إجزاء الفاقد للجزء أو الشرط فی فترة عدم التمکن بأن یسقط اعتبار الجزء أو الشرط المتعذر فی تلک الفترة، فیدور الأمر بین کون الواجب التام تعیینیا إلی آخر الوقت أو تخییریاً فی تلک الفترة بین الناقص فیها وبین الاتیان بالتام فی غیرها ولو فی آخر الوقت، وقد تقدم أن مقتضی البراءة عن الوجوب التعیینی کفایة الفاقد.

[1] لا یخفی أنه لا مجال فی المقام لهذا الکلام، حیث إنه مع استیعاب عدم التمکن من الجزء أو الشرط لا علم بثبوت أصل التکلیف فی الوقت، بخلاف مسألة دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین، ومع عدم إحراز أصل التکلیف یرجع فیه إلی البراءة، ومع عدم استیعاب عدم التمکن لجمیع الوقت یکون أصل التکلیف محرزاً فتجری البراءة عن وجوب الأکثر تعیینیاً، ونتیجة ذلک کفایة الفاقد فی فترة عدم التمکن من الجزء أو الشرط علی ما تقدم.

وما ذکر الماتن فی المقام من أنه لا مجال فی المقام للرجوع إلی رفع الجزئیة والشرطیة إلاّ فی حال التمکن منه؛ لأنه ورد فی مقام الامتنان فیختص بما یوجب نفی التکلیف لا إثباته لا یخفی ما فیه، فإن حدیث الرفع لا یثبت التکلیف فی موارد الشک حتی مع قطع النظر عن کونه وارداً مقام الامتثال، سواء کان المراد فقرة «رفع ما لا یعلمون» أو فقرة «ما اضطروا إلیه» أما فقرة «ما لا یعلمون» فان «ما لا یعلمون» مع

ص : 35

فإنه یقال: إنه لا مجال ها هنا لمثله، بداهة أنه ورد فی مقام الامتنان، فیختص بما یوجب نفی التکلیف لا إثباته.

نعم ربما یقال: بأن قضیة الاستصحاب فی بعض الصور وجوب الباقی فی حال التعذر أیضاً[1].

استیعاب عدم التمکن نفس التکلیف بالباقی، ومع عدم الاستیعاب أصل التکلیف معلوم بالوجدان.

وبتعبیر آخر الرفع فیما لا یعلمون رفع ظاهری فی مقابل الوضع الظاهری والرفع الظاهری لجزئیة المشکوک عبارة عن عدم إیجاب الاحتیاط فیه، ونفیه فرع ثبوت أصل التکلیف، وأما فقرة رفع الاضطرار فهو رفع واقعی إذا کان الاضطرار مستوعباً لجمیع الوقت ویکون مقتضاه انتفاء أصل الأمر بالکل، والأمر بالباقی یحتاج إلی الدلیل، ومع عدم استیعاب الإضطرار لا تجری فقرة رفع الاضطرار أصلاً کما لا یخفی.

[1] یمکن أن یراد من بعض الصور ما إذا کان المکلّف متمکناً علی التام فی الأول ثم طرأ العجز عن بعض الأجزاء مما یشک فی جزئیته مطلقاً أو فی خصوص حال التمکن، بأن یقال فی الفرض: إن کل واحد من الأجزاء کان علی الوجوب الضمنی قبل طرو العجز، ویحتمل بقاء کل منها علی الوجوب الضمنی أیضا لعدم إطلاق لما دل علی جزئیة المتعذر حال تعذره.

وفیه أن الوجوب الضمنی الثابت لکل منها فی الأول متیقن الارتفاع بارتفاع الوجوب المتعلق بالکل المتعذر بعض اجزائه ولو ثبت بعده وجوب ضمنی لکل من الأجزاء المقدورة، کان هذا فی ضمن وجوب استقلالی متعلق بالباقی المیسور من الکل، فیدخل الاستصحاب فی الوجوب الضمنی لکل منها فی الاستصحاب الکلی

ص : 36

.··· . ··· .

من القسم الثالث، حیث إن المستصحب طبیعی الوجوب الضمنی لکل من الأجزاء لا شخص الوجوب الضمنی الثابت فی الأول فإنه مقطوع الإرتفاع، أضف إلی ذلک أن الاستصحاب المذکور من الاستصحاب فی الشبهة الحکمیّة ولا اعتبار به علی ما تقرر فی محله.

ومما ذکرنا یظهر الحال فی الاستصحاب فی الوجوب الاستقلالی الثابت سابقاً، حیث یقال: یحتمل بقاؤه ولو لتعلق الوجوب بقاءً بالباقی، ووجه الظهور أن المستصحب وهو طبیعی الوجوب الاستقلالی والفرد المتیقن السابق قد ارتفع بتعذر الجزء، ویشک فی حدوث فرد آخر عند طرو العجز علی بعض الأجزاء، ویحتمل أن یکون المراد من بعض الصور طرو العجز بالجزء أو الشرط بحیث لم یکن التعذر مقوماً للعنوان المتعلق به الوجوب عرفاً، بأن یصح أن یقال بنظرهم الوجوب مع بقائه هو نفس ذلک الوجوب ونفس ذلک الواجب، فیکون الاستصحاب فی الشخص حیث یتسامح العرف فی تعیین الموضوع.

أقول: یمکن أن یقال مع الغمض عن کون الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة إن تسامح العرف محرز فی ناحیة الموضوع لا فی ناحیة متعلق التکلیف، مثلاً إذا حکم الشارع علی الماء الکر المتغیر بالنجاسة، فالعرف یری أن الموضوع للنجاسة نفس الماء وأن تغیره سبب للحکم علیه بالنجاسة، وبعد زوال التغیر من قبل نفسه یشک فی بقاء تلک النجاسة الثابتة من قبل، بخلاف المتعلق فهو یری متعلق الطلب السابق من المأمور به الاختیاری، والمطلوب عند الاضطرار المأمور به الاضطراری، وأن متعلق تکلیف المتمکن غیر متعلق تکلیف العاجز، وهذا بناءً علی أن الصلاة أو نحوها عنوان للمرکب أو المشروط ظاهر، وأما بناءً علی أنها بسائط ینطبق علیها

ص : 37

ولکنه لا یکاد یصح إلاّ بناءً علی صحة القسم الثالث من استصحاب الکلی، أو علی المسامحة فی تعیین الموضوع فی الاستصحاب، وکان ما تعذر مما یسامح به عرفاً، بحیث یصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قیل بوجوب الباقی، وارتفاعه لو قیل بعدم وجوبه، ویأتی تحقیق الکلام فیه فی غیر المقام.

کما أن وجوب الباقی فی الجملة ربما قیل بکونه مقتضی ما یستفاد من

بلحاظ الأثر وتختلف مصادیق ذلک العنوان بحسب الحالات فإنه وإن یمکن الاستصحاب فی وجوبها، إلاّ أنه لا یثبت اعتبار الفاقد مصداقاً، بل عدم اعتباره مصداقاً یکون حاکماً، ولا أقل من کونه معارضاً فی الاستصحاب فی وجوبها.

ثم إنه کما ذکرنا یختص هذا الاستصحاب فی ناحیة التکلیف بما إذا کان المکلف متمکناً من التام فی أول الوقت، وأما إذا کان التعذر مقارناً لدخول الوقت أو قبله فلا مورد للاستصحاب أیضاً، ولکن المحکی عن النائینی قدس سره الالتزام بجریان الاستصحاب، ولو کان العجز عن الأول بدعوی أن جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیة غیر موقوف علی فعلیة الموضوع خارجاً، فإن إجرائه فی الشبهات الحکمیة وظیفة المجتهد، ومن ثم یتمسک الفقیه بالاستصحاب فی حرمة وط ء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل اغتسالها، وفیه أن الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة یتوقف علی فرض فعلیتها قبل زمان الشک حتی یجری الاستصحاب فیه بلحاظ ذلک الزمان، وکون الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة وظیفة المجتهد لا ینافی أن یفرض الفعلیة فی التکلیف المتوجه إلی الغیر حتی یمکن الاستصحاب فی ذلک التکلیف فی حقه، نعم فی موارد الشک فی بقاء جعل الحکم لاحتمال فسخه لا یحتاج إلی فرض الفعلیة فی الحکم المجعول، ولکن هذا أجنبی عن مورد الکلام فإن المقام عند الشک فی کون جزئیة شیء أو شرطیته مطلقة، أم أنها مختصة بحال التمکن.

ص : 38

قوله صلی الله علیه و آله : «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم»[1].

فی قاعدة المیسور

اشارة

[1] کان ما تقدم بحسب الأصل العملی عند الشک فی إطلاق جزئیة الشیء أو شرطیته أو اختصاصهما بحال التمکن منه، ولکن قد یقال فی البین بعض الروایات یستفاد منها قاعدة کلیة، وهی انتقال الوظیفة إلی الإتیان بالمقدار المتمکن من الواجب فی أی مورد فیما إذا عد ذلک المقدار میسوراً فیؤخذ بتلک القاعدة، إلاّ إذا قام الدلیل فی مورد علی خلافها، ویعبّر عن تلک القاعدة بقاعدة المیسور، ویذکر فی المدرک لها ثلاث روایات.

الاُولی: ما روی عن أبی هریرة بطرق العامة قال: «خطبنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال أیها الناس إن اللّه عزّ وجلّ قد فرض علیکم الحج فحجوا، فقال رجل: أکلّ عام یا رسول اللّه؟ فسکت صلی الله علیه و آله حتی قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لو قلت نعم لوجب، ولما استطعتم ثم قال: ذرونی ما ترکتکم فإنما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم علی أنبیائهم، فإذا امرتکم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فدعوه»(1)، ونقل فی المتن ما یختلف عما نقلناه فی الجملة، وکیف کان فالروایة ضعیفة سنداً، وقد تصدی بعض لإثبات أن الراوی من المتعمدین فی الکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد نقل هذه الروایة عن کتاب عوالی اللآلی، وقد ناقش فیه وفی مؤلفه من لیس عادته القدح فی کتب الاخبار کصاحب الحدائق قدس سره فلا مجال فی المقام لدعوی انجبار ضعفها بعمل الأصحاب، فإنه کما یاتی لم یعلم عمل بعض الأصحاب بها فضلاً عن عمل المشهور.

أضف إلی ذلک أنها فی صحیح النسائی مرویة بوجه آخر، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «فإذا

ص : 39


1- (1) مسند أحمد 2:508، والسنن الکبری 4:326.

وقوله: «المیسور لا یسقط بالمعسور»(1) وقوله: «ما لا یدرک کله لا یترک کله»(2) ودلالة الأول مبنیة علی کون کلمة (من) تبعیضیة، لا بیانیة، ولا بمعنی الباء، وظهورها فی التبعیض وإن کان مما لا یکاد یخفی، إلاّ أن کونه بحسب الأجزاء غیر واضح، لإحتمال أن یکون بلحاظ الأفراد، ولو سلم فلا محیص عن أنه _ ها هنا _ بهذا اللحاظ یراد، حیث ورد جواباً عن السؤال عن تکرار الحجّ بعد أمره به، فقد روی أنه خطب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال: (إن اللّه کتب علیکم الحجّ، فقام عکاشة

أمرتکم بشیء فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فاجتنبوه» ولفظة (ما) بحسب هذا النقل زمانیة فیکون مدلولها کون المکلف مأخوذاً بالأمر بالشیء زمان تمکّنه منه، ومع الإغماض عن ذلک وسندها لا دلالة لها علی قاعدة المیسور، لا لأن لفظة (من) بمعنی الباء أو بیانیة کما قیل، فإن ظهورها حیث ما تطلق فی کونها تبعیضیة مما لا ینکر، ولکن یقال کون التبعیض بحسب الأجزاء غیر ظاهر، بل الظاهر بمناسبة المورد کونه بحسب الأفراد، فمدلولها أن الحکم الثابت للعام والطبیعی لا یسقط بعدم التمکن من سائر الأفراد، بل یبقی مع التمکن فی بعض أفراده بحاله، وهذا المیسور، ولکن لا یخفی کما أن التبعیض بحسب الأجزاء لا یناسب مورد الخبر کذلک التبعیض بحسب الأفراد، فإنه لا یجب الحج إلاّ مرة واحدة حتی فیما إذا کان المکلف مستطیعاً فی السنوات المتوالیة، بل الظاهر من الخبر علی تقدیر صحتة کون المراد بالاستطاعة ما یتحمله نوع الناس کلفة التکلیف بنحو لا یکون شاقاً لنوعهم بقرینة قوله «ولو قلت نعم لوجب»، و«ما استطعتم» فإنه لو کان بمعنی العجز فکیف یجب علی مکلف یعجز عن الإتیان بمتعلق التکلیف.

ص : 40


1- (1) عوالی اللآلی 4 : 58.
2- (2) عوالی اللآلی 4 : 58.

_ ویروی سراقة بن مالک _ فقال: فی کل عام یا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتّی أعاد مرتین أو ثلاثاً، فقال: ویحک، وما یؤمنک أن أقول: نعم، واللّه لو قلت: نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو ترکتم لکفرتم، فاترکونی ما ترکتم، وإنما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم، واختلافهم إلی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فاجتنبوه).

ومن ذلک ظهر الإشکال فی دلالة الثانی أیضاً، حیث لم یظهر فی عدم سقوط المیسور من الأجزاء بمعسورها، لإحتمال ارادة عدم سقوط المیسور من أفراد

وحاصل معنی الخبر إذا أمرتکم بشیء یجب منه، أی بحسب وجوداته ما یتحمله نوع الناس، وحدد ذلک فی الحج بالمرة الواحدة طول زمان التکلیف.

الاستدلال لقاعدة المیسور بحدیث المیسور لا یسقط بالمعسور

الثانیة: ما رواه فی عوالی اللآلی أیضاً، وهو قوله علی ما فی الروایة: المیسور لا یسقط بالمعسور(1)، وقد اورد علی الاستدلال بذلک بوجهین.

الأول: أنه یمکن أن یکون المراد بالمیسور، المیسور من أفراد العام بمعنی أن عدم التمکن من امتثال التکلیف فی بعض أفراد العام وسقوطه عن المکلف فیه لا یوجب السقوط فیما یتمکن فیه من الامتثال من سائر الأفراد فلا موجب لحمل المیسور علی المیسور من أجزاء المرکب بأن یکون مفاده تعلق التکلیف بسائر الأجزاء المقدورة.

الوجه الثانی، من الاشکال هو أنه لو کان المراد المیسور من أجزاء المرکب وشرائطه فلابد من الإلتزام بعدم کون الحکم المستفاد من الحدیث حکماً إلزامیاً، بل

ص : 41


1- (1) غوالی اللآلی 4:58. مع اختلاف یسیر.

العام بالمعسور منها.

هذا مضافاً إلی عدم دلالته علی عدم السقوط لزوماً، لعدم اختصاصه بالواجب، ولا مجال معه لتوهم دلالته علی أنه بنحو اللزوم، إلاّ أن یکون المراد عدم سقوطه بماله من الحکم وجوباً کان أو ندباً، بسبب سقوطه عن المعسور، بأن یکون قضیة المیسور کنایة عن عدم سقوطه بحکمه، حیث إن الظاهر من مثله هو ذلک، کما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) هو نفی ماله من تکلیف أو وضع، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه علی عهدة المکلف کی لا یکون له دلالة علی جریان القاعدة فی المستحبات علی وجه، أو لا یکون له دلالة علی وجوب

مدلوله کون الإتیان بالمقدار المیسور أولی، حیث إنه لا یمکن الإلتزام مع شمول الحدیث للمستحبات أن الاتیان بالمیسور منها واجب أو یقید المیسور والمعسور فیه بالواجبات فلا یبقی فیه دلالة علی جریان القاعدة فی المستحبات، ویدفع هذا الإشکال بأن المراد من عدم السقوط لیس وجوب المیسور، بل المراد عدم سقوطه عن حکمه السابق، فإن کان فی السابق واجباً لا یسقط میسوره عن الوجوب، وإن کان مستحباً یستحب الإتیان بمیسوره، فالالتزام بأن الحدیث ناظر إلی المرکب والمشروط الذی عسر الإتیان بجمیع أجزائه وشرائطه لا یوجب الإلتزام بشیء من الأمرین کما هو الحال فی المراد من نفی الضرر، حیث إن المنفی فیه الحکم السابق فی الفعل لولا الضرر من تکلیف أو وضع.

وأما الوجه الأول، من الإشکال فیجاب عنه بأنه إن حمل الحدیث علی تعذر بعض الموافقة فی بعض أفراد العام، وأن التکلیف لا یسقط فی أفراده المیسورة یکون مدلوله حکماً إرشادیاً محضاً، حیث لا حاجة فی إثبات بقاءالتکلیف فی الأفراد المیسورة إلی خطاب شرعی، بخلاف ما إذا کان المراد هو المیسور من المرکب

ص : 42

المیسور فی الواجبات علی آخر، فافهم.

وأما الثالث، فبعد تسلیم ظهور کون الکل فی المجموعی لا الأفرادی، لا دلالة له إلاّ علی رجحان الإتیان بباقی الفعل المأمور به __ واجباً کان أو مستحباً __ عند تعذر بعض أجزائه، لظهور الموصول فیما یعمهما، ولیس ظهور (لا یترک) فی الوجوب _ لو سلم _ موجباً لتخصیصه بالواجب، لو لم یکن ظهوره فی الأعم قرینة علی إرادة خصوص الکراهة أو مطلق المرجوحیة من النفی، وکیف کان فلیس ظاهراً فی اللزوم هاهنا، ولو قیل بظهوره فیه فی غیر المقام.

ثم إنه حیث کان الملاک فی قاعدة المیسور هو صدق المیسور علی الباقی عرفاً، کانت القاعدة جاریة مع تعذر الشرط أیضاً، لصدقه حقیقة علیه مع تعذره عرفاً، کصدقه علیه کذلک مع تعذر الجزء فی الجملة، وإن کان فاقد الشرط مبایناً للواجد عقلاً، ولأجل ذلک ربما لا یکون الباقی _ الفاقد لمعظم الاجزاء أو لرکنها _

الاعتباری یعنی الکل، فإن لزوم الإتیان بالباقی فی الواجبات واستحبابه فی المستحبات یحتاج إلی قیام الدلیل علیه، وإذا دار أمر الخطاب الصادر عن المعصوم کونه إرشاداً إلی حکم العقل أو بیاناً للحکم الشرعی یحمل علی الثانی، وقد یورد علی ذلک بأن الحمل علی المولویة ینحصر علی موارد العلم بالمراد من المتعلق، ودوران الأمر بین کون طلبه حکماً شرعیاً أو إرشادیاً کالروایات الواردة فی الأمر والترغیب فی أکل بعض الثمار وشرب بعض المائعات، وأما إذا لم یعلم المراد من المتعلق ودار الأمر بین أن یراد منه شیء قابل للطلب المولوی أو ما یقبل الإرشاد فقط فلم یثبت ظهور الخطاب فی کون المراد ما هو قابل للطلب المولوی.

أقول: المیسور من الشیء یعم المیسور من أفراد العام، والأجزاء المیسورة من المرکب الاعتباری وظهور الطلب فی المولوی إن کان مقتضاه اختصاص الحدیث

ص : 43

مورداً لها فیما إذا لم یصدق علیه المیسور عرفاً، وإن کان غیر مباین للواجد عقلاً.

نعم ربما یلحق به شرعاً مالا یعد بمیسور عرفاً بتخطئته للعرف، وإن عدم العد کان لعدم الإطلاع علی ما هو علیه الفاقد، من قیامه فی هذا الحال بتمام ما قام علیه الواجد، أو بمعظمه فی غیر الحال، وإلاّ عد أنه میسوره، کما ربما یقوم الدلیل

بمورد الکل الاعتباری وأنه لا یسقط میسوره بتعسّر معسوره فهو، وإلا یلتزم بعموم الطلب حتی بالإضافة إلی موارد العام الاستغراقی، غایة الأمر یکون الطلب بالإضافة إلی موارد تعسّر بعض أجزاء المرکب حکماً مولویاً وبالاضافة إلی موارد تعذر بعض أفراد العام إرشادیاً، نظیر ما ذکرنا فی «أوفوا بالعقود» وأنه بالإضافة إلی مثل البیع إرشاد إلی لزومه، وبالإضافة إلی العهد والنذر تکلیف، فإن المستعمل فیه فی کل منهما شیء واحد، واختلاف التکلیف عن الإرشاد إنما هو فی الغرض الداعی إلی البعث الاعتباری، ونظیر ذلک فی الأمر بالوفاء بالشرط فإنه بالإضافة إلی موارد شرط الفعل تکلیف، وبالإضافة إلی شرط الخیار إمضاء، ثم إن متعلق السقوط لا یکون حکم الفعل لولا تعذر بعض أجزائه لیقال بأن الالتزام بالتقدیر أو العنایة فی الإسناد خلاف الظاهر، ومع سقوط الوجوب النفسی عن الکل المعسور یکون الثابت للمیسور حکماً جدیداً لم یکن له ثبوت سابقاً، ولا المراد بعد سقوطه عن عهدة المکلف بتعذر الکل، بل المراد عدم سقوط المیسور من الکل عن مقام الجعل فی فرض تعذر الکل، فیجری هذا المفاد فی الواجبات والمستحبات بخلاف کون المراد عدم السقوط عن عهدة المکلف فإنه معه یختص مدلوله بالواجبات ولا یجری فی المستحبات، حیث لا یکون المستحب علی عهدة المکلف، ولا یخفی أن صدق المیسور من الشیء ومطلوبیته عند تعذر الکل لحصول الملاک فیه ولو ببعض مراتبه، وإذا قام دلیل فی مورد علی عدم مطلوبیة میسور الشیء فیه یعلم أن المیسور فاقد

ص : 44

علی سقوط میسور عرفی لذلک _ أی للتخطئة _ وأنه لا یقوم بشیء من ذلک.

وبالجملة: ما لم یکن دلیل علی الإخراج أو الإلحاق کان المرجع هو الإطلاق، ویستکشف منه أن الباقی قائم بما یکون الأمور به قائماً بتمامه، أو بمقدار یوجب إیجابه فی الواجب واستحبابه فی المستحب، وإذا قام دلیل علی أحدهما فیخرج أو یدرج تخطئة أو تخصیصاً فی الأول، وتشریکاً فی الحکم، من دون الإندراج فی الموضوع فی الثانی، فافهم.

للملاک، کما أنه إذا أمر الشارع ببعض العمل مع عدم صدق أنه میسور عرفاً یعلم بحصول الملاک فیه ببعض مراتبه فیکون الأمر فی الثانی، وبیان عدم مطلوبیة الباقی فی الأول من التخطئة لنظر العرف، وذلک فإنه إذا کان الحکم فی الحدیث متعلقاً علی المیسور الشرعی لکان مدلوله مجملاً بالإضافة إلی موارد الکل والجزء، فما فی کلام الماتن من التردد بین التخطئة والتخصیص لا وجه له، وفی غیر ذلک یؤخذ بالإطلاق، ولکن هذا کله مع الغمض عن ضعف السند فیه، وفیما رواه أیضا فی کتاب «عوالی اللآلی» من قوله: ما لا یدرک کله لا یترک کله(1)، ولا یبعد ظهور هذا فی الإرشاد إلی نظیر موارد العام الاستغراقی وموارد العلم بمطلوبیة الفعل بجمیع مراتبه کما یأخذون فی العرف بالکلام المزبور فی نظیر هذه الموارد دون موارد، مثل المعجون الذی لا یدرک تمام ما هو معتبر فیه فی معالجة الأمراض کما لا یخفی.

ص : 45


1- (1) عوالی اللآلی 4:58. مع اختلاف یسیر.

تذنیب: لا یخفی أنه إذا دار الأمر بین جزئیة شیء أو شرطیته وبین مانعیته أو قاطعیته لکان من قبیل المتباینین[1].

فی دوران الأمر بین جزئیة الشیء أو شرطیته وبین مانعیته أو قاطعیته

[1] إذا دار الأمر بین جزئیة شیء أو شرطیته وبین مانعیته أو قاطعیته لا یدخل الفرض فی دوران أمر الواجب الإرتباطی بین الأقل والأکثر ولا فی دوران أمر التکلیف بین المحذورین، بل یکون من موارد تردد الواجب بین المتباینین، کما إذا دار أمر المکلف بین کون الصلاة الواجبة علیه جهراً أو صلاة إخفاتیة أو کونه مکلفاً بالصلاة عاریاً أو فی ثوب نجس، وعدم کونه من قبیل تردد الواجب بین الأقل والأکثر ظاهر، فإن متعلق التکلیف فی موارد تردده بین الأقل والأکثر مردد بین کونه الأقل بنحو اللابشرط أو الأکثر بشرط، وفی مفروض الکلام أمر الواجب مردّد بین کونه بشرط بالإضافة إلی شیء أو بنحو بشرط لا بالإضافة إلیه، نظیر دوران أمر الصلاة الواجبة بین کونها قصراً أو تماماً، وأما عدم کونه من قبیل دوران الأمر بین المحذورین، فلأن الجهر فی القراءة أو لبس الثوب النجس وإن یکن أمره مردداً بین کونه شرطاً أو مانعاً إلاّ أنه لیس بمتعلق التکلیف، وإنما یتعلق التکلیف بالصلاة المقیدة بالجهر أو المقیدة بعدمه، وکذا متعلقه، إما الصلاة عاریاً أو الصلاة فی الثوب النجس، وإذا تمکن المکلف من الصلاة فی الوقت جهراً وإعادتها إخفاتاً أو الصلاة عاریاً وإعادتها فی الثوب النجس یکون متمکناً من إحراز الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، وإذا لم یتمکن علی التکرار لضیق الوقت ونحوه، فهو متمکن من المخالفة القطعیة، والمعیار فی دوران الأمر بین المحذورین عدم التمکن من شیء من الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، ففی صورة التمکن من کلتا المرتبتین من التنجیز یجب إحراز الموافقة القطعیة ومع عدم التمکن من الموافقة القطعیة تعیّن الموافقة الاحتمالیة.

ص : 46

ولا یکاد یکون من الدوران بین المحذورین، لإمکان الإحتیاط بإتیان العمل مرتین، مع ذاک الشیء مرة وبدونه أخری، کما هو أوضح من أن یخفی.

ومن العجب عن الشیخ قدس سره أنه أدخل المقام فی دوران الأمر بین المحذورین مع التزامه فی دوران الواجب بین القصر والتمام بأنه من دوران أمر الواجب بین المتباینین مع وضوح عدم الفرق بینه وبین المفروض فی المقام، ثم إنه إذا لم یکن المکلف متمکناً من إحراز الموافقة القطعیة وأتی بإحدی الصلاتین فی الوقت لم یجب علیه الإتیان بالمحتمل الآخر، کما إذا قام من النوم فی وقت ولم یبق إلی آخر الوقت إلاّ بمقدار ثمانیة رکعات ولم یصل الظهرین، ودار أمره فی کل منهما بین الصلاة عاریاً أو فی ثوب نجس، فإنه فی الفرض یلزم علیه الموافقة الاحتمالیة إما بالإتیان بهما عاریاً أو فی الثوب النجس، وإذا أتی بما یحتمل معه الموافقة الاحتمالیة لم یجب علیه الإتیان بالمحتمل الآخر خارج الوقت قضاءً؛ لأنّ الموضوع للقضاء فوت الواجب فی الوقت، ولا یمکن إحراز الفوت بالاستصحاب فی عدم امتثال التکلیف بما أتی به لسقوط التکلیف بالإتیان بأحد المحتملین إما للامتثال أو خروج الوقت، ولا یقاس بما إذا شک المکلف فی وقت الصلاة فی الإتیان بها فإن مع جریان الاستصحاب فی عدم الإتیان، وترکه بعد ذلک الإتیان بها مع تمکنه یعلم وجداناً فوت الواجب المحرز بالاستصحاب.

وقد یقال: إن المکلف المزبور الذی تردد أمر الواجب علیه بین الصلاة عاریاً أو فی ثوب نجس إذا کان متمکناً من الموافقة القطعیة فی الوقت ومع ذلک اقتصر علی الموافقة الاحتمالیة یلزم علیه قضاء الواجب الآخر فی خارج الوقت، ولکن فیه أیضا إشکال؛ لأنّ الاستصحاب بعد الإتیان بأحد المحتملین فی بقاء التکلیف الثابت فی حقه من قبل لا یثبت أن الفائت عند خروج الوقت هو المحتمل الآخر، فأصالة البراءة

ص : 47

خاتمة فی شرائط الاُصول العملیة

أما الإحتیاط: فلا یعتبر فی حسنه شیء أصلاً، بل یحسن علی کل حال[1].

بعد خروجه عن وجوب المحتمل الآخر جاریة ومعها لا موجب للإتیان به.

[1] لا ینبغی التأمل فی حسن الاحتیاط عقلاً وشرعاً، بمعنی أنه إذا أصاب التکلیف الواقعی یکون موافقة وامتثالاً له، وإن لم یصب یحسب انقیاداً، بل یظهر من بعض الروایات فی کونه مستحباً نفسیاً لترتب الملاک علیه وإن لم یصادف التکلیف الواقعی بلا فرق بین موارد الشبهات الحکمیة والموضوعیة، بل فی مطلق موارد احتمال التکلیف الواقعی حتی مع قیام دلیل معتبر علی نفیه فی تلک الموارد وبلا فرق بین کونه موجباً لتکرار العمل أم لا، سواء کان فی المعاملات أو فی العبادات، نعم ما لم یستلزم اختلال النظام ومعه لا یکون احتیاطاً کما لا یخفی، وقد تقدم فی بحث العلم الإجمالی جواز ترک تحصیل العلم التفصیلی والاقتصار بالإمتثال بالعلم الإجمالی حتی فی العبادات مع استلزامه تکرار العمل، وان یورد علی ذلک بأن الإمتثال الإجمالی بتکرار العمل مع التمکن من الامتثال التفصیلی یعد عبثاً ولعباً بأمر المولی فینافی قصد التقرب المعتبر فی العبادة، وأجاب الماتن قدس سره عن ذلک بوجهین.

الأول: أنه ربما یکون التکرار لداع عقلائی معه لا یعدّ التکرار لعباً وعبثاً بأمر المولی.

والثانی: أنَّ اللازم فی العبادة صدور متعلق الأمر بداع أمر الشارع، وأما ما هو خارج عن متعلق التکلیف فلا یعتبر فیه قصد التقرب، وإذا کان المکلف بحیث لولا أمر الشارع بأحد العملین أو الأعمال لم یکن یأتی به، فیکون الإتیان لتعلق الأمر بالإمتثال.

ص : 48

إلاّ إذا کان موجباً لإختلال النظام، ولا تفاوت فیه بین المعاملات والعبادات مطلقاً ولو کان موجباً للتکرار فیها، وتوهم کون التکرار عبثاً ولعباً بأمر المولی __ وهو ینافی قصد الإمتثال المعتبر فی العبادة __ فاسد، لوضوح أن التکرار ربما یکون بداعٍ صحیح عقلائی، مع أنه لو لم یکن بهذا الداعی وکان أصل إتیانه بداعی أمر مولاه بلا داع له سواه لما ینافی قصد الإمتثال، وإن کان لاغیاً فی کیفیة امتثاله، فافهم.

بل یحسن أیضاً فیما قامت الحجة علی البراءة عن التکلیف لئلا یقع فیما کان فی مخالفته علی تقدیر ثبوته، من المفسدة وفوت المصلحة.

وعلی الجملة کون الخصوصیات الخارجة عن متعلق الأمر صادرة بداع آخر لا یضر بصحة العمل ولو کان ذلک الداعی من الدواعی النفسانیة، نعم قد تکون الخصوصیة الصادرة بداع آخر موجبة لبطلان العمل، کما إذا أتی بصلاته فی أول الوقت أو فی مکان خاص کالمسجد ریاءً، وهذا البطلان ثبت بخطاب شرعی ورد فی بطلان العبادة بالریاء فیها ولا یجری فی سائر الدواعی النفسانیة، ثم إن المستفاد من الخطاب الوارد فی الریاء هل هو خصوص الریاء فیما یتحد مع العبادة خارجاً کالمثالین، أو یجری حتی فیما کانت للخصوصیة تحقق آخر کالقنوت فی الصلاة ونحوها فموکول إلی بحث النیة فی بحث الفقه.

وکیف کان فما ذکرنا من جواز الاحتیاط وحسنه حتی فی العبادات مع استلزامه تکرار العمل فضلاً عن عدم استلزامه له یوجب أن یأخذ المکلف فی الوقائع التی یبتلی بها بالإحتیاط فیها ولو مع تمکنه من الإجتهاد أو التقلید فیها، نعم یعتبر معرفته بطریق الإحتیاط فیها وإلاّ لا یکون احتیاطاً، کما أنه إذا استلزم ذلک الإخلال بمعاشه لا یکون من الاحتیاط علی ما تقدم.

ص : 49

وأما البراءة العقلیة: فلا یجوز إجراؤها إلاّ بعد الفحص والیأس عن الظفر بالحجة علی التکلیف[1].

لما مرت الإشارة إلیه من عدم استقلال العقل بها إلاّ بعدهما.

واما البراءة النقلیة: فقضیة اطلاق أدلتها وإن کان هو عدم اعتبار الفحص فی جریانها[2] کما هو حالها فی الشبهات الموضوعیة إلاّ أنه.

[1] وأما البراءة العقلیة فلا یجوز الأخذ بها إلاّ بعد الفحص والیأس عن الظفر بالحجة علی التکلیف ولزوم الفحص والیأس عن الظفر بها یکونان معتبرین فی جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان، باشتراط داخلی لا شرطان خارجیان؛ لأن الموضوع لقبح العقاب وهو عدم البیان للتکلیف لا یحصل بمجرد الجهل به ولو کان فی البین ما یمکن مع الوصول إلیه محرزاً للتکلیف لکفی ذلک فی البیان، فإن المراد بالبیان فی قاعدة قبح العقاب هو ما یکون مصححاً للعقاب لا خصوص العلم والإحراز هذا فی الشبهة الحکمیة، ولا یبعد أن یکون الأمر کذلک حتی فی الشبهة الموضوعیة أیضاً، بمعنی لا استقلال للعقل بالبراءة وقبح العقاب بلا بیان، إلاّ مع عدم إمکان إحراز حال الموضوع للتکلیف بالفحص والسؤال، بل قد یقال بأنه لا سبیل لجریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی الشبهة الموضوعیة حتی بعد الفحص، فإن العلم بالکبری الکلیة وإحرازها بیان بالإضافة إلی التکلیف فیجب موافقتها فی مصادیقها المحتملة کالمصادیق المحرزة، ولکن لا یخفی ما فیه، فإن الکبری إذا کانت منحلّة إلی التکالیف باعتبار انحلال الموضوع الوارد فیها فمادام لم یحرز ولو بعد الفحص تحققه لم یکن مجرد إحراز الکبری بیاناً للتکلیف فی ذلک المورد علی ما تقدم فی البحث فی البراءة العقلیة.

[2] قد تقدم أن العمدة من أدلة البراءة الشرعیة رفع ما لا یعلمون فی حدیث

ص : 50

.··· . ··· .

الرفع، وذکر أن المراد من الرفع بالإضافة إلی ما لا یعلمون مقابل وضعه، والوضع فیما لا یعلمون یکون بالأمر بالاحتیاط فیه طریقیاً فیکون الرفع عدم الأمر به کذلک، وما لا یعلمون یعم الإلزام والوضع فی الشبهات الموضوعیّة والحکمیّة، ومقتضی إطلاق الرفع فیهما عدم لزوم الفحص، إلاّ أنه یتعین رفع الید عن الإطلاق بالإضافة إلی الشبهات الحکمیة، بخلاف الشبهات الموضوعیة فإنه یؤخذ فیها بالإطلاق إلاّ فی موارد خاصة یعلم فیها باهتمام الشارع بالواقع حیث یجب الإحتیاط فیها، ویستدل علی رفع الید عن الإطلاق فی الشبهات الحکمیّة والإلتزام بلزوم الفحص فیها عن التکلیف أو الوضع الملزوم للتکلیف بوجوه منها، الإجماع، ومنها حکم العقل، حیث یعلم إجمالاً بثبوت التکالیف الواقعیة فی الشبهات بنحو یمکن الوصول إلیها بالفحص، ولازم ذلک عدم جواز الرجوع إلی أصالة البراءة فی شبهة قبل إحراز خروجها عن أطراف العلم الإجمالی المزبور بالفحص، ولکن لا یخفی أن دعوی الإجماع التعبدی فی مثل المسألة مما یحتمل أو یعلم مدرک القائلین بلزوم الفحص غیر ممکن، والإجماع المدرکی محصله لا یکون دلیلاً فضلاً عن منقوله، وأما دعوی العلم الإجمالی فقد أورد الماتن علیه بما حاصله انه یفرض الشبهة الحکمیة قبل الفحص فی موارد یلاحظها المجتهد بعد انحلال العلم الإجمالی بالظفر بالتکالیف الواقعیّة فی جل الوقائع التی فحص فیها عن التکلیف الواقعی بحیث لا یبقی له علم إجمالی بتکالیف اُخری فی سائر الوقائع أو کانت الشبهات التی یعلم بثبوت التکالیف فیها إجمالاً جلّها خارجة عن ابتلاء المکلف ولو لعدم الالتفات إلیها، فإنّه مع عدم الالتفات إلیها تکون أصالة البراءة فی الواقعة الملحوظة جاریة لفعلیة الشک فی التکلیف فیها، بخلاف سائر الوقائع فإن الشک التقدیری فیها بحیث

ص : 51

استدلّ علی اعتباره بالإجماع وبالعقل، فإنه لا مجال لها بدونه، حیث یعلم إجمالاً بثبوت التکلیف بین موارد الشبهات، بحیث لو تفحص عنه لظفر به.

ولا یخفی أن الإجماع هاهنا غیر حاصل، ونقله لوهنه بلا طائل، فإن تحصیله

لو التفت إلیها صار شکه فیها فعلیاً لا أثر له لعدم کون الشک التقدیری بموضوع فی شیء من الاُصول العملیة.

وفیه أن فرض الانحلال بدعوی عدم الالتفات إلی سائر الوقائع حین إجراء أصالة البراءة فی شبهة حکمیة لا یمکن المساعدة علیها، فإنه وإن فرض کون سائر الوقائع من المجتهد مغفولاً عنها فی مقام ملاحظة واقعة یشک فی التکلیف فیها، لکن مع ملاحظة سائر الوقائع والابتلاء بها تدریجیاً فی البحث عن أحکامها یکون الأصل الجاری فیها معارضاً بالأصل الجاری النافی الذی أجراه فی مسألة سابقة، وهذا نظیر ما إذا لاقی شیء أحد أطراف العلم بالنجاسة وحکم للملاقی بالکسر بالطهارة بأصالة الطهارة، وبعد زمان لاقی شیء آخر سائر الأطراف فإنه مع بقاء الملاقی الأول تکون أصالة الطهارة الجاریة فیه معارضة بأصالة الطهارة فی الملاقی الآخر، نعم إذا لم یبق الملاقی الأول ولم یکن لطهارته ونجاسته سابقاً أثر شرعی فعلاً، فیمکن الرجوع فی الملاقی الآخر بأصالة الطهارة، وبهذا أمکن الجواب عما یمکن أن یقال: إنه کیف یجوز للمکلف الرجوع إلی الاُصول النافیة للتکلیف أو الوضع الملزوم له فی الشبهات الموضوعیة مع أنه قد یحصل له بعد برهة من الزمان من الابتلاء بالشبهات الموضوعیة أن التکلیف کان فی بعضها واقعاً، ووجه ظهور الجواب أنه لا یکون أثر لهذا العلم الإجمالی بالاضافة إلی الوقائع السابقة فعلاً بخلاف الواقعة المشکوکة التی ابتلی بها فعلاً فیجری فیها الأصل النافی وأما الوقائع الکلیة التی یفتی فیها المجتهد بالوظائف الفعلیة، فلکون فتواها بنحو القضیة

ص : 52

فی مثل هذه المسألة مما للعقل إلیه سبیل صعب لو لم یکن عادة بمستحیل، لقوة احتمال أن یکون المستند للجل _ لولا الکل _ هو ما ذکر من حکم العقل، وأن الکلام فی البراءة فیما لم یکن هناک علم موجب للتنجز، إما لانحلال العلم الإجمالی بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم الإبتلاء إلاّ بما لا یکون

الحقیقیة تکون کلها ذا أثر فعلاً، ومع العلم بمخالفة فتواها بنفی التکلیف فی بعض الوقائع للواقع فثبوته فیها یسقط عن الاعتبار کل ما افتی بنفی التکلیف أخذاً بالأصل النافی فیها.

الاستدلال علی اعتبار الفحص فی الشبهات الحکمیة بالعلم الإجمالی بالتکالیف فیها

وذکر المحقق النائینی قدس سره أن العمدة فی عدم جریان أصالة البراءة فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص هو العلم الإجمالی بثبوت التکالیف فی الموارد التی یکون المدرک فیها بالتکلیف بین أیدینا، والمعلوم بالإجمال المعنون بهذا العنوان من قبیل ما إذا علم بحرمة بعض الغنم البیض فی قطیع غنم مرکب من البیض والسود، ودار الأمر فی البیض من الغنم بین الأقل والأکثر فإنه یجب فی الفرض البحث عن سائر الغنم، وأنه من أفراد البیض أو السود ومجرد الظفر بمقدار من البیض یحتمل انحصار الحرام منها فی ذلک المقدار لا یؤثر فی انحلال العلم الإجمالی لاندراج المعلوم بالإجمال فی کل ما یندرج فی عنوان البیض، ووجه کون المقام من هذا القبیل. لا من قبیل العلم بحرمة بعض الغنم من قطیع جمیعه من السود ودار الحرام فیها بین عشرة أو أکثر ظاهر؛ لأنّ العلم بالتکالیف إجمالاً فی الوقائع التی فیها مدرک لها حاصل لکل من تصدی للاجتهاد، فلابد من الفحص عن تلک الوقائع، نظیر ما إذا علم المکلف بکونه مدیوناً للأشخاص الذین ضبط أسماءهم فی دفتره فإنه لا یمکن له الرجوع إلی أصالة البراءة بعد أداء دین جملة من الأشخاص الذین یحتمل منه ضبط اسمه فی

ص : 53

بینها علم بالتکلیف من موارد الشبهات، ولو لعدم الإلتفات إلیها.

الدفتر منحصر علیهم.

أقول: مع احتمال التطابق بین المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصیل ینحل العلم الإجمالی لا محالة من غیر فرق بین أن یکون للمعلوم بالإجمال عنوان خاص أم لا، وسواء کان ذلک العنوان أیضا مردداً بین الأقل والأکثر کما فی مسألة العلم بحرمة بعض البیض من الغنم أم لم یکن، کما إذا علم بنجاسة إنا زید المردد بین الأوانی المعلوم بالإجمال نجاسة بعضها، وإذا علم تفصیلاً بنجاسة بعض الأوانی واحتمل أن یکون إناء زید بعض ذلک المعلوم بالتفصیل بحیث یحتمل طهارة جمیع الباقی فلا موجب لرفع الید عن أصالة الطهارة فی الباقی، فإن الموجب لتساقط الاُصول النافیة فی أطراف العلم هو لزوم الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف الواصل، وهذا المحذور یختص بما قبل الفحص وقبل انحلال العلم بالظفر بالتکالیف فی الوقائع بمقدار یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال ولو بالعنوان علیها، وإذا انحل بعد الفحص بحیث احتمل خلو الوقائع الباقیة عن التکلیف والمدرک له فیرجع فیها إلی أصالة البراءة.

ومما ذکر یظهر أنه لا وجه لدعوی أن لازم العلم الإجمالی عدم جواز الرجوع إلی الأصل النافی فی الواقعة المشتبهة حتی بعد الفحص وعدم الظفر بالمدرک للتکلیف فیها لبقاء العلم الإجمالی بحاله، ووجه الظهور هو أن المفروض ثبوت العنوان للمعلوم بالإجمال وهو التکلیف فی الوقائع التی مدارکها ممکنة الوصول بالفحص، ومع عدم الظفر بالمدرک فی واقعة بعد الفحص یعلم خروجها عن أطراف المعلوم بالإجمال، فیکون احتمال التکلیف فیها من قبیل الشک فی الشبهة البدویة بعد الفحص.

ص : 54

فالأولی الإستدلال للوجوب بما دل من الآیات والأخبار علی وجوب التفقه والتعلم] 1] والمؤاخذة علی ترک التعلم فی مقام الإعتذار عن عدم العمل بعدم العلم.

وعلی الجملة اعتبار الفحص فی الرجوع إلی أصالة البراءة فی الشبهة الحکمیة مطلقاً بدعوی أنَّ مقتضی العلم الإجمالی بالتکالیف فی الوقائع غیر تام، لما تقدم من عدم جریانها فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص حتی بعد انحلال العلم الإجمالی المزبور.

اعتبار الفحص فی الرجوع إلی الاُصول فی الشبهات الحکمیة

[1] ذکر الماتن قدس سره أن الأولی الاستدلال علی اعتبار الفحص فی الشبهات الحکمیة وعدم اعتبار البراءة فیها قبل الفحص بما دل علی وجوب التفقه والتعلم وترتب المؤاخذة علی ترک التعلم فی مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم، ولعل نظره إلی آیة السؤال، فإن الأمر بالسؤال عند الجهل مقتضاه لزوم تحصیل العلم، ومورده بالقرینة الداخلیة والخارجیة ما إذا کان فیه احتمال التکلیف فإن الآیة المبارکة لا تعم الشبهة الموضوعیة لما ورد فی تفسیرها من کون المراد من أهل الذکر الأئمة علیهم السلام ، ومن الظاهر أنه لا شأن للامام علیه السلام فی إحراز المشتبه الخارجی فی الشبهات الموضوعیة، أضف إلی ذلک ماورد فی الشبهات الموضوعیة من عدم لزوم السؤال والفحص فیها، وعلی ذلک یکون مدلول الآیة أخص بالإضافة إلی ماورد فی حدیث الرفع من فقرة رفع ما لا یعلمون، ولو بعد تقییدها بغیر الشبهة الموضوعیة فإنه ورد فیها الحکم بالحلیة والعذر ما لم یعلم الحرمة، وبالعذر ما لم یعلم الإلزام وعدم لزوم الفحص عن الموضوع والسؤال عنه.

لا یقال ماورد فی تفسیر الآیة لا یدل علی انحصار مدلول الآیة فی الشبهة

ص : 55

.··· . ··· .

الحکمیة کما یشهد بذلک مورد نزول الآیة، وعلیه یکون مدلولها عاماً یشمل الاُمور الاعتقادیة والأحکام الفرعیة فتکون النسبة بینها وبین حدیث الرفع من فقرة «رفع ما لا یعلمون» العموم والخصوص من وجه، فإنه یقال: لا مانع من شمول الآیة للاُمور الاعتقادیة أیضا کما لا مانع عن شمول «رفع ما لا یعلمون» لها فیلزم الفحص فی الاُمور الاعتقادیة التی یجب فیها تحصیل العلم والیقین، وإذا لم یتمکن من العلم بها ولو بعد الفحص فترفع عن المکلف کما یرفع التکلیف فی الشبهة الحکمیة بعد الفحص وعدم التمکن من إحرازه.

وعلی الجملة مدلول الآیة أخص بالإضافة إلی ما لا یعلمون، بل لو کانت النسبة بینهما العموم من وجه فلابد من رفع الید فی مورد اجتماعهما عن إطلاق حدیث الرفع فإن الخبر المخالف للکتاب العزیز غیر حجة، وربما یحتمل أن نظر الماتن من قوله بما دل علی التفقه آیة النفر ولکن لا یخفی ما فیه، فإن التفقه الوارد فی الآیة وجوبه نفسی کفائی یعم الإلزامیات وغیرها من الأحکام التکلیفیة والوضعیة حتی الأحکام المجعولة علی صنف من المکلفین لا یدخل المکلّف فیه کالأحکام للنساء، وهذا لا یرتبط بالمقام، فإن وجوب التعلم فی المقام وجوبه طریقی بالإضافة إلی کل مکلف أو إرشادی له إلی تنجز التکلیف فی الوقائع التی یبتلی بها، ولا یکون جهله بالتکلیف فیها عذراً مع تمکنه من الوصول إلیه بالفحص. وأما الأخبار فهی علی طوائف ثلاث.

منها مادل علی عدم کون الجهل بالتکلیف مع ترک التعلم عذراً کموثقة مسعدة بن زیاد التی رواها فی تفسیر البرهان فی ذیل آیه «فللّه الحجة البالغة»(1) عن أمالی

ص : 56


1- (1) سورة الأنعام: الآیة 149.

بقوله تعالی کما فی الخبر: (هلا تعلمت) فیقید بها أخبار البراءة، لقوة ظهورها فی أن المؤاخذة والإحتجاج بترک التعلم فیما لم یعلم، لا بترک العمل فیما

الشیخ، قال: حدثنا محمد بن محمد (المفید قدس سره ) عن أبی القاسم جعفر بن محمد (یعنی جعفر بن محمد بن قولویه) قال: حدثنی محمد بن عبداللّه بن جعفر عن أبیه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زیاد، قال: سمعت جعفر بن محمد علیه السلام وقد سئل عن قول اللّه تعالی: «فللّه الحجة البالغة»فقال: إن اللّه تعالی یقول للعبد یوم القیامة عبدی أکنت عالماً فإن قال: نعم قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: کنت جاهلاً. قال له: أفلا تعلمت حتی تعمل فیخصمه فتلک الحجة البالغة»(1) وظاهرها لزوم تعلم التکالیف ومتعلقاتها وعدم کون الجهل مع التمکن من التعلم عذراً، ویختص ذلک بالشبهات الحکمیة حیث یکون التعلم فی التکالیف ومتعلقاتها کالعبادات.

ومنها ماورد فی لزوم الفحص فی الشبهة الحکمیة ولزوم الاحتیاط قبله، کصحیحة عبدالرحمن بن الحجاج قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجلین أصابا صیداً وهما محرمان، الجزاء بینهما أو علی کل منهما جزاء؟ فقال: لا بل علیهما أن یجزی کل واحد منهما الصید، قلت: إن بعض أصحابنا سألنی عن ذلک فلم أدر ما علیه، فقال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعلیکم بالاحتیاط حتی تسألوا عنه فتعملوا»(2)، وظاهرها أیضاً عدم کون الجهل فی الشبهة الحکمیة قبل الفحص عذراً، وبهذه الصحیحة وما قبلها یجمع بین الأخبار الآمرة بالتوقف والاحتیاط فی الشبهات الحکمیة، وبین الأخبار الواردة فی السعة ورفع ما لا یعلمون، وجواز الارتکاب عند الجهل بالحرمة بحمل الثانیة علی ما بعد الفحص وعدم إحراز التکلیف وحمل

ص : 57


1- (1) بحار الأنوار 2:29. عن أمالی الشیخ المفید.
2- (2) وسائل الشیعة 13:46، الباب 18 من أبواب کفارات الصید، الحدیث 6.

علم وجوبه ولو إجمالاً، فلا مجال للتوفیق بحمل هذه الأخبار علی ما إذا علم إجمالاً، فافهم.

ولا یخفی اعتبار الفحص فی التخییر العقلی أیضاً بعین ما ذکر فی البراءة، فلا تغفل.

الاُولی علی ما قبل الفحص، وهذا مع الفحص عما ذکرنا فی الأخبار الواردة فی التوقف عند الشبهات والأخذ بالاحتیاط فی الدین.

ومنها الأخبار الواردة فی «کون طلب العلم فریضة»(1)، حیث إن تلک الأخبار کما تعم الاُمور الاعتقادیة کذلک تعم التکالیف الواقعیة فی الوقائع التی یبتلی بها المکلف ووجوبه بالإضافة إلی الاُمور الاعتقادیة نفسی، وبالإضافة إلی التکالیف طریقی یوجب عدم کون الجهل بها مع مخالفتها عذراً، والجمع بین الوجوب النفسی والطریقی لا یدخل فی استعمال اللفظ فی أکثر من معنی، کما لا یدخل فیه إرادة الوجوب النفسی والغیری فی مثل قوله علیه السلام «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور».

بقی فی المقام أمر وهو أنّ لزوم الفحص والتعلم بالإضافة إلی التکالیف فی الوقائع التی یبتلی بها المکلف طریقی أو إرشادی إلی عدم کون الجهل بها مع إمکان الوصول إلیها بإحرازها عذراً، وأما تعلیم أحکام الشریعة بنحو الواجب الکفائی للتحفظ بالشریعة فی الاُمور الاعتقادیة والأحکام الفرعیة للإبلاغ والنشر وتعلیم الجاهلین فهو أمر آخر، کما هو المستفاد من آیة النفر وغیرها، وعلی ذلک فإن أحرز المکلف ابتلاءه بواقعة ولو بنحو العلم الإجمالی فلا یکون ترک تعلم تکلیفه فیها

ص : 58


1- (1) وسائل الشیعة 27:25، الباب 4 من أبواب صفات القاضی، الأحادیث 15_18 و 20 و 21 و 23_28.

ولا بأس بصرف الکلام فی بیان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والاحکام.

أما التبعة، فلا شبهة فی استحقاق العقوبة علی المخالفة فیما إذا کان ترک التعلم والفحص مؤدیاً إلیها، فإنها وإن کانت مغفولة حینها وبلا اختیار، إلاّ أنها منتهیة إلی الإختیار، وهو کافٍ فی صحة العقوبة، بل مجرد ترکهما کافٍ

عذراً، بلا فرق بین کون ترک التعلم قبل حصول شرط التکلیف ودخول وقته مع عدم تمکنه من التعلم بعد حصوله أو دخول وقته، أو کان ترک التعلم والفحص بعد فعلیة التکلیف بحصول شرطه أو دخول وقته فیما إذا تمکن من التعلم بعدهما، فإن أخبار وجوب التعلم بل آیة السؤال تکشف عن أن ترک العمل الناشئ من ترک التعلم یوجب تفویت الملاک حتی فیما کان ترکه موجباً للغفلة عن التکلیف زمان حصول شرطه أو دخول وقته، وإنما الکلام بالإضافة إلی الوقائع التی لم یحرز الابتلاء بها، بل یکون الابتلاء بها مجرد احتمال فإنه قد یقال بعدم وجوب التعلم بالإضافة إلیها أخذاً بالاستصحاب فی عدم ابتلائه بها، حیث یجری الاستصحاب فی الاُمور الاستقبالیة کما یجری فی الاُمور الماضیة، وأورد علی هذا الاستصحاب المحقق النائینی قدس سره بأنه یعتبر فی جریانه کون المستصحب حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی، والابتلاء بالواقعة وعدمه لیس بموضوع لوجوب تعلم حکمها، بل وجوبه یثبت فی موارد احتمال الضرر وهذا الاحتمال محرز بالوجدان بمجرد احتمال الابتلاء بالتکلیف.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإن احتمال الضرر مترتب علی ثبوت وجوب التعلم حتی بالإضافة إلی الواقعة التی یحتمل الابتلاء بها، وکیف یکون احتماله موضوعاً لوجوب التعلم بالإضافة إلیها، وثانیاً: أنه یأتی أنّ اعتبار کون المستصحب موضوعاً لحکم شرعی أو نفس حکم شرعی لإمکان التعبد، ولو أمکن التعبد وإن کان

ص : 59

.··· . ··· .

المستصحب بحیث یمکن التعبد به ولو بأثره العقلی فلا بأس بالاستصحاب فیه، ولو لم یکن المستصحب من الموضوع لحکم شرعی أو نفس الحکم الشرعی کما فی موارد الاستصحاب موجب لإحراز امتثال التکلیف أو عدم امتثاله من حصول متعلق التکلیف خارجاً وعدم حصوله فإن الاستصحاب فیهما موجب لإحراز امتثال التکلیف أو عدم امتثاله.

وعلی ذلک فکما أن العقل یحکم بعدم الضرر فی ترک التعلم بالإضافة إلی واقعة یعلم المکلف بعدم الابتلاء بها کذلک فیما إذا أحرز عدم الابتلاء بالاستصحاب، ولکن الصحیح أن إطلاق أخبار وجوب التعلم یعم الموارد التی یحتمل المکلف الابتلاء بمخالفة التکلیف فیها علی تقدیر ترک التعلم ما لم یکن احتماله ضعیفاً، بحیث یکون هناک وثوق بعدم الابتلاء وخروج موارد إحراز عدم الابتلاء عن أخبار وجوب التعلم تخصصی، لکون وجوبه علی تقدیره شرعیاً طریقی بالإضافة إلی التکالیف الشرعیة العملیة فلا یکون إیجابه طریقیاً لمن یحرز عدم ابتلائه بالواقعة وجداناً، وعلی ذلک یجب التعلم باحتمال الابتلاء فلا یبقی للاستصحاب فی عدم الابتلاء مورد؛ لأنّ عدم الابتلاء والابتلاء الواقعیین لیسا بموضوعین لعدم وجوب التعلم ووجوبه لیکون فی البین موضوع للاستصحاب، والعمدة فی المقام فی عدم جریان الاستصحاب فی عدم الابتلاء ما ذکرنا، لا ما یقال من أن تقدیم الاستصحاب یستلزم حمل أخبار وجوب التعلم علی الفرض النادر أو علی موارد العلم الإجمالی بالابتلاء.

وبتعبیر آخر مع شمول ماورد فی وجوب التعلم بالإضافة إلی مورد الابتلاء یثبت وجوب التعلم أی یحرز وجوبه فلا یکون فی وجوبه شک لیکون لجریان

ص : 60

فی صحتها، وإن لم یکن مؤدیاً إلی المخالفة، مع احتماله، لأجل التجری وعدم المبالاة بها.

نعم یشکل فی الواجب المشروط والمؤقت، ولو أدی ترکهما قبل الشرط والوقت إلی المخالفة بعدهما، فضلاً عما إذا لم یؤد إلیها[1].

استصحاب عدم الابتلاء موضوع، لما ذکر أن خروج موارد إحراز عدم الابتلاء لیس تقییداً فیما دل علی وجوب التعلم، بل لعدم إمکان جعل الحکم الطریقی فی تلک الموارد، والاستصحاب فی عدم الابتلاء لا یثبت امتناع جعل الحکم الطریقی فی مورده.

[1] لا ینبغی التأمل فی استحقاق المکلّف علی مخالفة تکلیف فعلی إذا أدی ترک الفحص والتعلم إلی مخالفته حتی فیما إذا کان عند مخالفته غافلاً عن کون عمله مخالفة للتکلیف، إلاّ أنه حیث کانت مخالفته مستندة إلی ترک تعلمه فیستحق العقاب علیه، ولکن ربما یستشکل فی وجوب التعلم واستحقاق العقاب فیما إذا کان الواجب مشروطاً بشرط أو کون وجوبه مؤقتاً بوقت، ویکون المکلف غیر متمکن من الإتیان به بعد حصول الشرط أو دخول الوقت بترک التعلم من قبل، ووجه الإشکال أنه قبل حصول الشرط أو قبل حصول الوقت لم یکن وجوب الفعل فی حق المکلف حتی یجب تعلمه، وبعد حصولهما لا یکون أیضا فی حقه تکلیف لعدم تمکنه من إتیان الواجب أو غفلته عنه، والتزم الماتن فی حل الإشکال بما ذکره المحقق الأردبیلی من الالتزام بکون وجوب التعلم نفسیاً تهیئیاً، فیکون العقاب علی ترک التعلم لا علی مخالفة الواجب فی وقته وحصول شرطه بترک التعلم، وذکر أیضا وجهاً آخر فی حل الإشکال وهو الالتزام بکون الواجب قبل الشرط وقبل الوقت من الواجب التعلیقی لا من قبیل الواجب المشروط، غایة الأمر قد أخذ سائر مقدماته

ص : 61

حیث لا یکون حینئذ تکلیف فعلی أصلاً، لا قبلهما وهو واضح، ولا بعدهما وهو کذلک، لعدم التمکن منه بسبب الغفلة، ولذا التجأ المحقق الأردبیلی وصاحب المدارک (قدس سرهما) إلی الإلتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسیاً تهیئیاً، فتکون العقوبة علی ترک التعلم نفسه لا علی ما أدی إلیه من المخالفة.

بنحو لا یکاد یسری إلیها الوجوب الغیری قبل حصول الشرط أو دخول الوقت، وعلیه فلا یکون العقاب علی ترک التعلم، فإن التعلم من مقدماته الوجودیة فی الفرض، ولکن حیث یسری إلیه الوجوب الغیری فیوجب استحقاق العقاب علی ترک الواجب بعد حصول الشرط أو دخول الوقت إذا کان ترکه مستنداً إلی ترک التعلم والفحص.

أقول: ظاهر ماورد فی ترک التعلم العقاب علی ترک العمل لا علی ترک التعلم فالتخلص عن الإشکال المتقدم بالالتزام بالعقاب علی ترک التعلم طرح لظهوره، فلا یمکن الإلتزام به فی الواجبات المشروطة والمؤقتة قبل حصول شرطها أو وقتها فضلاً عن الالتزام به فی غیرهما أیضا، بدعوی استحقاق العقاب علی ترک التعلم إذا لم تصدق کفایة الانتهاء إلی الاختیار فی استحقاق العقاب علی مخالفة تکلیف معقول عنه بترک التعلم، کما لا یمکن الالتزام بالواجب التعلیقی الذی ذکره، حیث إن الإلتزام بأن التکالیف فی الوقائع بنحو الواجب المعلق خلاف ظاهر الخطابات کما اعترف بذلک فی بحث الواجب المطلق والمشروط، وکیف کان فیرد علیه بأنه بعد الالتزام بکون وجوب التعلم نفسیاً تهیئیاً توجب مخالفته العقاب، فیلزم علیه قدس سره الالتزام بعقابین فی الواجبات والمحرمات المطلقین إذا أوجب ترک التعلم مخالفتهما، حیث إنه قدس سره یصدق کفایة الانتهاء إلی الاختیار فی استحقاق العقاب علی المخالفة، ولو کان مغفولاً عنه حین المخالفة، والصحیح فی الجواب أن یقال: إن

ص : 62

فلا إشکال حینئذ فی المشروط والمؤقت، ویسهل بذلک الأمر فی غیرهما لو صعب علی أحد، ولم تصدق کفایة الإنتهاء إلی الإختیار فی استحقاق العقوبة علی ما کان فعلاً مغفولاً عنه ولیس بالاختیار، ولا یخفی أنه لا یکاد ینحل هذا الإشکال إلاّ بذلک، أو الإلتزام بکون المشروط أو المؤقت مطلقاً معلقاً، لکنه قد اعتبر علی نحو لا تتصف مقدماته الوجودیة عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غیر التعلم،

تفویت الغرض الملزم فی الموارد التی تکون القدرة بالفعل شرطاً لاستیفائه لا دخیلاً فی کون الفعل ذا ملاک غیر جائز، وحیث إن ماورد فی وجوب التعلم یعم جمیع موارد احتمال الابتلاء علی ما تقدم حتی الواجبات المشروطة والمؤقتة قبل حصول الشرط ودخول الوقت، فیعلم بأن الملاک حتی فی تلک الواجبات من ناحیة التعلم ملزم، وأن القدرة بها من ناحیة تعلمها ولو قبل الشرط والوقت شرط الاستیفاء، بخلاف العجز الناشئ من ناحیة سائر المقدمات، وکذا لا یجب تحصیل القدرة علیها بتحصیلها قبل الوقت أو قبل حصول شرط التکلیف.

ثم إن استحقاق العقاب فی صورة أداء ترک التعلم إلی مخالفة التکلیف الواقعی أو تفویت الغرض والملاک الملزم، بحیث لو تعلم أو فحص یصل إلی الحجة بالتکلیف أو الملاک الملزم ظاهر، وأما مع عدم أدائه إلی ذلک بحیث لو فحص أیضا لم یظفر بالحجة علی ذلک التکلیف أو الملاک، فهل یستحق العقاب علی مخالفته أیضا لعدم المعذّر له حین الارتکاب أو لا یستحق العقاب إلاّ علی هذا التجری بناءً علی کونه موجباً لاستحقاقه، فقد یقال: بالأول لحکم العقل باستحقاق العبد العقاب علی مخالفة التکلیف الواقعی مع عدم المؤمن له عقلاً أو شرعاً، والمفروض فی المقام عدمه لعدم حکم العقاب بقبح العقاب قبل الفحص والیأس عن الظفر بالحجة، وکذلک البراءة الشرعیة کما هو المفروض فی الشبهة الحکمیة، وقد یقال

ص : 63

فیکون الإیجاب حالیاً، وإن کان الواجب استقبالیاً قد أخذ علی نحو لا یکاد یتصف بالوجوب شرطه، ولا غیر التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.

وأما لو قیل بعدم الإیجاب إلاّ بعد الشرط والوقت، کما هو ظاهر الأدلة وفتاوی المشهور، فلا محیص عن الإلتزام یکون وجوب التعلم نفسیاً، لتکون

بالثانی فإن عقاب الشارع علی مخالفة تکلیف أو فوات ملاک ملزم لم یصل بیانه إلی المکلف قبیح، والمفروض عدم البیان بالإضافة إلی التکلیف أو الملاک فی الواقعة، ولکن لا یخفی أن المراد من البیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو المصحح للعقاب علی المخالفة وإذا لم یکن احتمال التکلیف فی الواقعة مورداً للبراءة الشرعیة والعقلیة قبل الفحص یکون نفس احتماله بیاناً، ولذا یحکم العقل فی الواقعة بالتخییر بین التعلم والفحص وبین الأخذ بالاحتیاط، فما یظهر من الماتن قدس سره أن العقاب فی هذه الصورة أیضا لأجل التجری کما فی صورة عدم التکلیف فی الواقعة واقعاً لا یمکن المساعدة علیه.

لا یقال المقدار الذی یرفع الید فیه عن عموم «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون» هو عدم العلم فی مورد لو فحص المکلف فیه لظفر بالحجة علی التکلیف علی تقدیر وجوده واقعاً، فإنه یجب فی هذه الموارد قبل الفحص التخییر بین التعلم والاحتیاط، وأما المورد الذی لا یظفر فیه بالحجة حتی علی تقدیره واقعاً فلم تخرج عن عموم رفع ما لا یعلمون ولذا لا یجب فیه الفحص، وإذا احتمل المکلف أن الواقعة من القسم الأول أو الثانی، فالاستصحاب فی عدم علمه بالتکلیف ولو بعد الفحص بعدم الظفر بالحجة یدرجها فی القسم الثانی، فلا یجب فیها الفحص فإنه یقال قد تقدم أن اختصاص لزوم الفحص بالقسم الأول؛ لأنّ الوجوب النفسی التعیینی علی المکلف الذی هو طریقی فی القسم الثانی من اللغو المحض، فامتناع الطلب لغواً من الحکیم

ص : 64

العقوبة _ لو قیل بها _ علی ترکه لا علی ما أدی إلیه من المخالفة، ولا بأس به کما لا یخفی، ولا ینافیه ما یظهر من الأخبار من کون وجوب التعلم إنما هو لغیره لا لنفسه، حیث إنّ وجوبه لغیره لا یوجب کونه واجبا غیریاً یترشح وجوبه من وجوب غیره فیکون مقدمیّاً، بل للتهیؤّ لإیجابه، فافهم.

وأما الأحکام فلا إشکال فی وجوب الإعادة فی صورة المخالفة، بل فی صورة الموافقة أیضا فی العبادة، فیما لا یتأتی منه قصد القربة[1].

أوجب هذا الاختصاص فی أدلة وجوب التعلم والاستصحاب فی عدم الظفر بالحجة بعد الفحص أیضا لا یثبت امتناع طلب الفحص فی الواقعة وکونه لغواً لیوجب رفع الید عن إطلاق أدلة وجوب الطلب والسؤال، نظیر ما أجبنا به عن الاستصحاب فی عدم ابتلاء المکلف بواقعة یحتمل وجداناً الابتلاء بها مستقبلاً.

[1] فصل فیما إذا عمل المکلف بلا فحص لازم علیه من تقلید أو اجتهاد، فنقول: إذا أخذ العامی بالعمل بلا تقلید معتبر ومن غیر احتیاط ففیه صور:

الاُولی: أن ینکشف مخالفة عمله للواقع بحسب فتوی من یجب علیه تقلیده حین العمل، وبفتوی من یجب علیه تقلیده فعلاً، فإنه فی هذه الصورة یحکم ببطلان عمله أی بعدم إجزائه لعدم مطابقته للواقع بحسب الحجة السابقة والحجة الفعلیة.

الثانیة: أن ینکشف مطابقة عمله للواقع بحسب الحجة حال عمله والحجة الفعلیة، ولا ینبغی التأمل فی الحکم بإجزاء عمله السابق ولو کانت عبادة حیث إن التقرب المعتبر فیها یحصل بالإتیان بها لاحتمال أنها الواقع.

الثالثة: مطابقة عمله لفتوی من یجب علیه تقلیده فعلاً ومخالفته لفتوی من کان یجب علیه تقلیده حال العمل، وفی هذه الصورة أیضا لا یجب علیه تدارک العمل السابق بالإعادة أو القضاء، فإن الإجزاء مقتضی الحجة الفعلیة التی یجب علیه

ص : 65

وذلک لعدم الإتیان بالمأمور به مع عدم دلیل علی الصحة والإجزاء، إلاّ فی الإتمام فی موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات فی موضع الآخر، فورد فی الصحیح _ وقد أفتی به المشهور _ صحة الصلاة وتمامیتها فی الموضعین مع الجهل مطلقاً، ولو کان عن تقصیر موجب لإستحقاق العقوبة علی ترک الصلاة المأمور

اتباعها، ولکن عدم استحقاق العقاب علی عدم تدارک الواقع إذا اتفق کون الواقع علی خلاف الحجة الفعلیة فی هذه الصورة، وعلی خلاف الحجة السابقة أیضا فی الصورة السابقة لا یوجب عدم استحقاقه العقاب علی مخالفة الواقع فی الوقت، حیث إن تلک المخالفة فی وقت العمل لم تکن عن عذر وبالاستناد إلی الحجة، کما إذا أتی یوم الجمعة سابقاً بصلاة الظهر فی أیام الجمعة وکان الواجب الواقعی فی علم اللّه وجوب صلاة الجمعة تعییناً، فإنه بما أنه لم یستند حین العمل بالفتوی یکون مستحقاً للعقاب علی ترک صلاة الجمعة یوم الجمعة حتی مع فتوی المجتهد الفعلی والمجتهد السابق بوجوب صلاة الظهر.

الصورة الرابعة: ما إذا کان عمله مطابقاً لفتوی من یجب علیه تقلیده حین العمل، ویخالف فتوی من یجب علیه الرجوع إلیه فعلاً، وفی هذه الصورة یجب علیه تدارک عمله السابق بحسب فتوی المجتهد الفعلی بالإعادة أو القضاء حتی فیما لو کان ذلک العمل بتقلید من المجتهد السابق لم یجب علیه تدارکه، کمن ترک السورة فی صلاته مدة من الزمان ثم قلد مجتهداً یری وجوب السورة بعد الحمد فی الفریضة، فإنه یجب علیه قضاء تلک الصلوات حتی فیما لو کان حال العمل یفتی من کان یجب الرجوع إلیه بعدم وجوب السورة بعد الحمد، والوجه فی لزوم القضاء أن المکلف المزبور لو کان مقلداً لذلک المجتهد حال العمل کان بنظر المجتهد اللاحق الذی یری وجوب السورة قاصراً یعمّه حدیث «لا تعاد»، بخلاف فرض عدم تقلیده

ص : 66

بها، لان ما أتی بها وإن صحت وتمت إلاّ أنها لیست بمأمور بها.

إن قلت: کیف یحکم بصحتها مع عدم الأمر بها؟ وکیف یصح الحکم باستحقاق العقوبة علی ترک الصلاة التی أمر بها، حتی فیما إذا تمکن مما أمر بها؟ کما هو ظاهر إطلاقاتهم، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات وقد بقی من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً، ضرورة أنه لا تقصیر هاهنا یوجب استحقاق العقوبة، وبالجملة کیف یحکم بالصحة بدون الأمر؟ وکیف یحکم

فإنه بترک الإحتیاط وترک التقلید کان مقصراً، فلا یعمه الحدیث مع تردده فی إجزاء عمله حال العمل، کما أن الفرض خارج عن مورد الإجماع علی إجزاء العمل السابق علی طبق التقلید السابق، ومما ذکرنا یظهر الحال فی العمل السابق الصادر عن غیر العامی بلا اجتهاد ومن غیر احتیاط فی الواقعة، کما ظهر أن الجاهل فیما إذا أتی بعمل ثم ظهر أنه لم یکن مطابقاً للوظیفة الواقعیة لزم تدارکه بالإعادة أو القضاء فیما کان لفائته قضاء، ولکن ذکروا من غیر خلاف أن المسافر الجاهل بوجوب القصر إن صلی تماماً فلا یجب علیه إعادتها ولا قضاؤها حتی فیما لو علم فی الوقت بوجوب القصر علی المسافر، والمستند فی ذلک الروایات، والمنسوب إلی المشهور کما یظهر من الماتن أیضاً أنه مع عدم وجوب الإعادة والقضاء یکون مستحقاً للعقاب علی ترک القصر، وکذا الحال فیمن جهر فی موضع الإخفات أو بالعکس جهلاً بالحکم ویشکل بأنه کیف یحکم بصحة العمل مع عدم الأمر به، وکیف یستحق المکلف العقاب علی ترک ما تعلق به الأمر مع تمکنه من الإتیان به فی وقته ولا یجب علیه الإعادة مع تمکنه منها، فالحکم بعدم لزوم الإعادة مع الإستحقاق للعقاب علی ترک الواجب متهافتان، کما إذا علم المکلف بوجوب القصر علیه قبل خروج الوقت مع الإتیان بالصلاة إتماما، وکذا الحال فی مورد الإخفات فی موضع الجهر أو

ص : 67

باستحقاق العقوبة مع التمکن من الإعادة؟ لولا الحکم شرعاً بسقوطها وصحة ما أتی بها.

قلت: إنما حکم بالصحة لأجل اشتمالها علی مصلحة تامة لازمة الإستیفاء فی نفسها مهمة فی حد ذاتها، وإن کانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنما لم یؤمر بها لأجل أنه أمر بما کانت واجدة لتلک المصلحة علی النحو الأکمل والأتم.

وأما الحکم باستحقاق العقوبة مع التمکن من الإعادة فإنها بلا فائدة، إذ مع استیفاء تلک المصلحة لا یبقی مجال لاستیفاء المصلحة التی کانت فی المأمور بها، ولذا لو أتی بها فی موضع الآخر جهلاً _ مع تمکنه من التعلم _ فقد قصر، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا یتمکن من صلاة القصر صحیحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا من

بالعکس، وأجاب الماتن قدس سره عن کلتا الجهتین بأن صحة العمل عبادة لا تتوقف علی تعلق الأمر به فعلاً، بل لو کان فیه ملاک المحبوبیّة وأتی المکلف به علی نحو قربی یحکم بصحته، کما ذکر ذلک فی مزاحمة التکلیف بالصلاة فی أول وقتها مع التکلیف بالأهم، کالأمر بالإزالة.

والحاصل أن الصلاة تماماً جهلاً بوجوب القصر مشتملة لمقدار من المصلحة تکون ملزمة فی نفسها، وإنما لم یؤمر بها لکون الصلاة قصراً ملاکها أکثر بمقدار لازم، وهذه المصلحة الأهم لا یمکن استیفاؤها بعد الصلاة تماماً، وهکذا الأمر فی الجهر من الجاهل بوجوب الإخفات وبالعکس، ولذا یستحق المکلف العقاب علی مخالفة التکلیف بالقصر أو بالإخفات أو الجهر الذی فوته المکلف علی نفسه بترک تعلمه حیث لا یمکن له بعد الإتیان بصلاته تماماً مع الجهل الإتیان بها قصراً، بحیث یتدارک ویستوفی ملاکه الملزم الأتم وکذا الحال فی الجاهل بوجوب الجهر والإخفات.

ص : 68

الجهر کذلک بعد فعل صلاة الإخفات، وإن کان الوقت باقیاً.

إن قلت: علی هذا یکون کل منهما فی موضع الآخر سبباً لتفویت الواجب فعلاً، وما هو سبب لتفویت الواجب کذلک حرام[1].

[1] حاصله کیف یمکن الحکم بصحة الصلاة تماماً من الجاهل بوجوب القصر علیه مع کونها سبباً لفوات الصلاة قصراً والإتیان بما هو سبب لفوت الواجب غیر جائز، والحرمة فی العبادة موجبة لفسادها، وأجاب قدس سره بأن المتضادین فی نفسهما أو بملاکهما یکون من قبیل المتلازمین فی مرتبة واحدة ولا یکون الإتیان بأحدهما سبباً لترک الآخر کما بین فی بحث الضد الخاص للمأمور به، ولذا لا یکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضده الخاص، نعم اشتمال الصلاة تماماً لملاک ملزم فی نفسه، وکذا الصلاة جهراً فی موضع الإخفات أو بالعکس یختص بصورة جهل المکلف بالتکلیف الأولی، فبطلان الصلاة تماماً من العالم بوجوب القصر أو بطلانها جهراً من العالم والملتفت بوجوب الإخفات وبالعکس لا یکون منافیاً لما ذکره فی صورة الجهل.

أقول: الصحیح فی الجواب هو القول بأن المسافر مع جهله بوجوب القصر علیه، له أن یأتی بصلاته تماماً، بمعنی أن مع جهله یتخیر بین القصر والتمام، ولذا لو أتی بالقصر اتفاقاً یحکم بصحة صلاته، کما إذا اعتقد أنه فی الرکعة الرابعة وسلم فتذکر بعد السلام أنه سلم فی الرکعتین، وکذا الحال فی وجوب الصلاة جهراً أو إخفاتاً، فإن الجاهل مخیر ولیس المراد من التخییر الوجوب التخییری المعروف وتوجیه خطاب إلی الجاهل بالأمر بإحدی الصلاتین، فإن تخصیص وجوب القصر تعییناً بالعالم به غیر ممکن، بل المراد کما تقدم فی نسیان الجزئیة والشرطیة جعل الفاقد مسقطاً لما تعلق به الوجوب التعیینی، وعلی ذلک فلا یکون ماورد فی وجوب

ص : 69

وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا کلام.

قلت: لیس سبباً لذلک، غایته أنه یکون مضاداً له، وقد حققنا فی محله أن الضد وعدم ضده متلازمان لیس بینهما توقف أصلاً.

لا یقال: علی هذا فلو صلی تماماً أو صلی إخفاتاً _ فی موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما فی موضعهما _ لکانت صلاته صحیحة، وإن عوقب علی مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه یقال: لا بأس بالقول به لو دل دلیل علی أنها تکون مشتملة علی المصلحة ولو مع العلم، لإحتمال اختصاص أن یکون کذلک فی صورة الجهل، ولا بعد أصلاً

التعلم موجباً لاستحقاقه العقاب علی ترک القصر لسقوط التکلیف الواقعی امتثالاً بالإتیان بالبدل فی الامتثال، وکذا فی الجهر موضع الإخفات وبالعکس، وما ذکر الماتن قدس سره من کون الإتمام واجد لملاک ملزم فی نفسه فی حق المسافر الجاهل، ولکن معه لا یمکن استیفاء المصلحة الأتم والأکمل فی القصر، ولذا لا یؤمر المسافر إلاّ بالقصر، وبعد الإتیان بالتمام لا یبقی مجال للإعادة قصراً فیعاقب علی تفویته المقدار من المصحلة الأتم لا یمکن المساعدة علیه، فإن تصویره وإن کان ممکناً إلاّ أن التضاد فی الاستیفاء کما ذکر لا یساعد ماورد فی الروایة من أنه تمت صلاته ولا إعادة علیه، ویمکن أن یورد علیه بأن لازم ما ذکره تعدد العقاب عند ترک الجاهل بوجوب الصلاة رأساً، أحدهما علی ترک الواجب یعنی القصر، والآخر العقاب علی عدم استیفائه الملاک اللازم فی نفسه مع ترکه القصر علی ما هو المقرر فی باب التزاحم بین الواجبین، نعم لا یتعدد العقاب ممن ترک الصلاة رأساً مع العلم بوجوب القصر؛ لأن المفروض عدم مصلحة ملزمة فی نفسها فی الصلاة تماماً عند العلم بوجوب القصر، وهکذا الحال فی الجهر موضع الإخفات وبالعکس.

ص : 70

فی اختلاف الحال فیها باختلاف حالتی العلم بوجوب شیء والجهل به، کما لا یخفی. وقد صار بعض الفحول بصدد بیان إمکان کون المأتی فی غیر موضعه مأموراً به بنحو الترتب[1].

[1] المحکی عن کاشف الغطاء قدس سره أن التضاد بین القصر والتمام فی حق المسافر والجاهل بوجوب القصر یصحح الترتب بین التکلیفین، بأن یکون المسافر الجاهل مکلفاً بوجوب القصر کالعالم به، ولکن الجاهل بوجوبه علی تقدیر ترکه القصر حال جهله مکلف بالصلاة تماماً، وأورد علیه الماتن أن الأمر بالضدین بنحو الترتب غیر ممکن کما بیناه فی بحث النهی عن الضد بما لا مزید علیه.

ولکن هذا کما تری لا یصلح للجواب بعد إثبات إمکان الأمر بالضدین علی نحو الترتب وعدم لزوم محذور منه.

ولکن أجاب عن الترتب المذکور المحقق النائینی قدس سره بأن المعتبر فی الأمر بکل من الضدین علی نحو الترتب أن یکون الموضوع للأمر بالمهم عصیان الأمر بالأهم، وهذا العنوان غیر صالح لأن یکون موضوعاً فی المقام؛ لأنّ الجاهل بوجوب القصر والآتی بالتمام لا یمکن أن یلتفت إلی عصیانه فی وجوب القصر علیه، وإلا لانقلب إلی العالم بوجوب القصر، وأیضاً العصیان لا یتحقق إلاّ بانقضاء وقت الصلاة، ومن صلی تماماً ثم التفت إلی وجوب القصر علیه والوقت باق یمکن له موافقة الأمر بوجوب القصر، أضف إلی ذلک أن الترتب یثبت فی موارد قیام الدلیل علی کل من التکلیفین، بحیث یلزم علی القادر علی کل منهما الجمع بینهما فی الامتثال، ویلتزم بالترتب عند عدم قدرة المکلف علی الجمع بینهما لوقوع المزاحمة.

ولکن لا یخفی أن ما ذکره کاشف الغطاء ترتب فی مقام الجعل وما ذکره قدس سره ترتب فی مقام التزاحم بین التکلیفین فی الامتثال، ولا یعتبر فی الترتب بین التکلیفین

ص : 71

.··· . ··· .

بحسب الجعل إلاّ جعلهما بحیث لا یقتضی الجمع بین الفعلین، لا تعلیق التکلیف بالثانی علی عنوان العصیان بالإضافة إلی التکلیف الأول، بل لا یلزم ذلک فی الترتب بین التکلیفین فی مقام الامتثال أیضا، کما ذکرنا فی بحث الترتب، نعم الترتب بحسب الجعل یحتاج إلی قیام دلیل علیه بخلاف الترتب بین التکلیفین فی مقام التزاحم فی الامتثال، فإنه یکفی فیه الدلیل علی ثبوت کل من التکلیفین فی حق القادر علی الإتیان بمتعلقه، وماورد فی المقام من صحة الصلاة تماماً من الجاهل بوجوب القصر لا یدل علی الترتب فی مقام الجعل، بل غایته کون الإتمام من الجاهل مسقطاً لما یجب علی المسافر من وجوب القصر، نعم یلزم علی قول کاشف الغطاء أن یکون المسافر الجاهل بالقصر مکلفاً فی الیوم واللیلة بأزید من الصلوات الخمس، بل یمکن أن یقال: إن الجاهل بوجوب القصر لا یلتفت إلی کونه جاهلاً به، لیکون إیجاب التمام علی الجاهل بوجوب القصر داعیاً له إلی الإتیان بالتمام.

بقی فی المقام أمر وهو أنه قد تقدم عدم اعتبار الفحص فی جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیة، فإن قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وإن قلنا بأنها قاصرة لا تشمل لما قبل الفحص فیها، وإن إمکان تحصیل الحجة علی التکلیف الواقعی بإمکان استعلام حال المشتبه الخارجی بیان ومصحح للعقاب علی مخالفته، إلاّ أن مادل علی البراءة الشرعیة غیر قاصر عن الشمول لما قبل الفحص فیها، فإن الموضوع للرفع فیها عدم العلم بالتکلیف، وقد یتمسک لعدم وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیة بما ورد فی صحیحة زرارة: «من أنه لیس علی المکلف عند احتمال وقوع النجاسة علی ثوبه النظر» ولکن التمسک به فی عدم اعتبار الفحص فی الشبهات الموضوعیة غیر صحیح، حیث إن النجاسة فی ثوب المصلی لا تکون مانعة

ص : 72

.··· . ··· .

عن الصلاة إلاّ مع إحرازها واعتبار الفحص المنفی فی المقام فی الشبهة الموضوعیة فیما إذا کان الشیء بوجوده الواقعی موضوعاً للتکلیف أو الوضع الملازم له.

فی عدم اعتبار الفحص فی الشبهات الموضوعیة

وأیضا قد یقال باعتبار الفحص فی بعض الشبهات الموضوعیة وعدم جواز الرجوع فیها إلی الأصل النافی، وهذا فی الموارد التی لا یکون إحراز الموضوع غالباً وعادة بالفحص کبلوغ السفر حد المسافة، فإنه یجب عند الجهل السؤال من أهل الخبرة وساکنی تلک المواضع، فإن لم یحرز الحال بالفحص یرجع إلی عدم بلوغه حد المسافة فی سفره، وکبلوغ المال الزکوی حد النصاب أو کفایة ماله لمؤنة الحج، أو کون المرأة قد طهرت من حیضها، أو کون الاستحاضة قلیلة أو متوسطة أو کثیرة، أو زیادة ربحه علی مؤنة سنته، ونحو ذلک مما یوجب ترک الفحص فیها إلی مخالفة التکالیف الواقعیة، وفیه إن حصل للمکلف علم بمخالفة التکلیف مع ترک الفحص فی بعض الوقائع من الشبهات الموضوعیة التی یبتلی بها ولو تدریجیاً فهذا العلم الإجمالی الحاصل بمخالفة بعض الاُصول النافیة الموجب للمخالفة القطعیة للتکلیف فی بعض تلک الوقائع مانع عن الأخذ بالاُصول النافیة فیها، وفی غیر ذلک لا موجب لرفع الید عنها مع شمول إطلاق خطاباتها أو عمومها لتلک الموارد، نعم إذا کان فی مورد الشک فی التکلیف أصل مثبت له فلا یبقی فیه لاصالة البراءة موضوع، کما إذا شک فی امرأة کونها أجنبیة أو امرأته، فإنّ الاستصحاب فی عدم زوجیتها له یدخلها فیما یحرم الاستمتاع بها، ومن هذا القبیل الشک فی صرف ربح السنة فی مؤنتها، سواء قلنا بأن الخمس یتعلق بالربح إذا لم یصرف فی المؤنة أو أن صرفه فی المؤنة مسقط لوجوب الخمس فیه، فإن الاستصحاب فی عدم صرفه فی المؤنة محرز لوجوب

ص : 73

وقد حققناه فی مبحث الضد امتناع الأمر بالضدین مطلقاً، ولو بنحو الترتب، بما لا مزید علیه فلا نعید.

ثم إنه ذکر لأصل البراءة شرطان آخران:

أحدهما: أن لا یکون موجباً لثبوت حکم شرعی[1] من جهة اُخری.

الخمس فیه، بخلاف ما إذا قیل بتعلّقه بالربح الزائد علی مؤنته، فإنه یکون من الشک فی

تحقق موضوع التکلیف، ودعوی أن أصالة البراءة أصل امتنانی لا یشمل موارد خلاف الامتنان لا یمکن المساعدة علیها، فإن الکلام فی مطلق الأصل النافی، وعن النائینی قدس سره عدم جریان الأصل النافی فی الموارد التی یحصل للمکلف مقدمات العلم بحال الموضوع، ویحتاج إلی مثل مجرد النظر والإلتفات بدعوی أن النظر لا یصدق علیه الفحص المحکوم بعدم اعتباره فی الشبهات الموضوعیة فی جریان الأصل، ولکن لا یخفی أن الفحص وعدمه لیسا بالموضوع فی الاُصول، بل الموضوع لها هو الجهل وعدم العلم بالواقع ولا یفرق فی صدق العلم وعدمه حصول مقدمات العلم وعدمه.

شرطان آخران للبراءة

[1] ذکر الفاضل التونی لجریان أصالة البراءة أمرین آخرین غیر الفحص والیأس عن الظفر بالحجة علی التکلیف الواقعی فی الشبهة الحکمیة.

الأول: أن لا یثبت بأصالة البراءة حکم شرعی من جهة اُخری، مثل أن یقال فی أحد الإناءین المشتبهین الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه یوجب الحکم بوجوب الاجتناب عنه، أو یقال بأن الأصل عدم بلوغ الماء الملاقی للنجاسة کراً، أو أن الأصل عدم تقدم الکرّیة، حیث یعلم بملاقاته للنجاسة علی ملاقاتها، فإن إعمال الاُصول یوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقی أو الماء، ولا یخفی أن المثالین الأخیرین لا یرتبطان بأصالة البراءة إلاّ أن یراد منها ما یعم الاستصحاب فی عدم

ص : 74

ثانیهما: أن لا یکون موجباً للضرر علی آخر.

الشیء، وکیف ما کان فقد ذکر الماتن فی الشرط الأول ما حاصله، أنه لو کانت الإباحة الظاهریة کما هو مفاد قاعدة الحل، ورفع التکلیف کما هو مفاد حدیث الرفع موضوعاً لحکم شرعی آخر أو ملازماً للإباحة ورفع التکلیف حتی فیما کانا ظاهریین یثبت ذلک الحکم الآخر لثبوت موضوعه أو ثبوت حکم لا ینفک عن الحکم الآخر، ولو کان الحکم الآخر ظاهریاً، وأما إذا کان الحکم الشرعی مترتباً علی نفی التکلیف وعدمه واقعاً أو ملازمه لعدمه کذلک فلا یثبت ذلک الحکم الآخر بأصالة البراءة؛ لأنها لا تنفی التکلیف واقعاً، ومما یمکن أن یمثل به فی المقام فیما إذا لم یکن عند المکلف إلاّ ماء واحد یشک فی حلیته وحرمته، فإنه إذا جرت فی ذلک الماء أصالة الحلیة یثبت وجوب الوضوء أو الغسل لصلاته؛ لأنّ مع حکم الشرع بجواز تصرفه فیه یکون المکلف واجداً للماء فلا تصل النوبة إلی التیمّم لصلاته، وکذا إذا شک فی ثبوت الدین علیه للناس بحیث یمنع عن استطاعته للحج فإنه بأصالة البراءة عن الدین علیه یحرز الاستطاعة الموضوع لوجوب الحج، نعم إذا ظهر بعد العمل أنه کان مدیوناً فبناء علی أن عدم وجوب الحج علی المدیون، لعدم تحقق الاستطاعة المعتبرة فی وجوب الحج عرفاً، ظهر أن حجه لم یکن حجة الإسلام، وأما بناءً علی أن عدم وجوبه علی المدیون لکون وجوب الحج معه حرجیاً، فیحکم بتحقق حجة الإسلام؛ لأنّ نفی التکلیف عند الحرج امتنانی فلا یعم الفرض، وهذا بخلاف مالو ظهر أن الماء کان ملک الغیر وأنه لم یکن راضیاً فی التصرف فیه، فإنه یحکم بصحة وضوئه وصلاته بناءً علی أن الموجب للتقیید فی خطاب الأمر بالوضوء للصلاة فی باب اجتماع الأمر والنهی هو النهی المنجز لا النهی الواقعی، وإلاّ کان کالحج کما لا یخفی، وأما استصحاب عدم الکرّیة فی الماء المزبور ملاقاته مع النجاسة فلا بأس

ص : 75

ولا یخفی أن أصالة البراءة عقلاً ونقلاً فی الشبهة البدویة بعد الفحص لا محالة تکون جاریة، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلیة والإباحة أو رفع التکلیف الثابت بالبراءة النقلیة، لو کان موضوعاً لحکم شرعی أو ملازماً له فلا محیص عن ترتبه علیه بعد إحرازه، فإن لم یکن مترتباً علیه بل علی نفی التکلیف واقعاً، فهی وإن کانت جاریة إلاّ أن ذاک الحکم لا یترتب، لعدم ثبوت ما یترتب علیه بها، وهذا لیس بالإشتراط.

وأما اعتبار أن لا یکون موجباً للضرر، فکل مقام تعمه قاعدة نفی الضرر وإن

بجریانه وإثبات النجاسة بذلک؛ لأنّ الموضوع لانفعال الماء هو الماء إذا لم یکن کراً، کما هو مقتضی مفهوم قولهم علیهم السلام «إذا کان الماء قدر کرٍ لم ینجسه شیء»(1) وکون الماء المزبور ملاقیاً للنجاسة محرز بالوجدان، وعدم کونه کراً محرز بالأصل، فیتم موضوع الانفعال، وأما مع إحراز کون الماء کراً وإحراز ملاقاته للنجاسة والشک فی التقدم والتأخر، فیقال بأن الاستصحاب فی عدم کریة الماء إلی زمان الملاقاة معارض بالاستصحاب فی عدم ملاقاته للنجاسة إلی زمان حدوث الکرّیة فیتساقطان ویرجع إلی أصالة الطهارة فی الماء، هذا مع الجهل بتاریخ حدوثهما، وأما مع العلم بتاریخ أحدهما فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم الآخر إلی زمانه فیحکم بمقتضاه، ولکن الصحیح الحکم بنجاسة الماء فی فرضی الجهل بتاریخهما أو تاریخ أحدهما لجریان الاستصحاب فی عدم کرّیته عند ملاقاته النجاسة، والاستصحاب فی عدم ملاقاته إلی زمان الکرّیة لا یثبت ملاقاتها المزبورة التی کانت عند الکرّیة حتی لا ینفعل، وتمام الکلام فی بحث الفقه.

ص : 76


1- (1) وسائل الشیعة 1:158، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الأحادیث 1 و 2 و 5.

لم یکن مجال فیه لأصالة البراءة[1] کما هو حالها مع سائر القواعد

[1] الثانی من الشرطین فی کلام الفاضل التونی لجریان البراءة، هو أن لا یتضرر مسلم بإعمالها کما لو فتح قفص طائر وطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسک رجلاً فشردت دابّته، فإن البراءة عن الضمان فیها وفی مثلها یوجب الضرر علی مالک الطائر والشاة والدابة وغیرها، ویحتمل إندراج هذه الموارد فی قاعدة الإتلاف وعموم قوله صلی الله علیه و آله «لا ضرر ولا ضرار»(1) لأنّ المراد من نفی الضرر هو نفی الضرر غیر المنجبر، وإلاّ فالضرر فی نفسه غیر منفی فلا العلم ولا الظن بأن الواقعة غیر منصوصة، فلا یتحقق شرط التمسک بالأصل من فقدان النص بل یحصل القطع بتعلق حکم شرعی بالضار، ولکن لا یعلم أنه مجرد التعزیر أو الضمان أو هما معاً، فینبغی تحصیل العلم بالبراءة ولو بالصلح، ویرد علیه بأنه لو شملت قاعدة نفی الضرر الموارد المزبورة وثبت الضمان فیها لکون مفادها نفی الضرر غیر المتدارک، فتلک الموارد وأمثالها وإن لم تکن من موارد أصالة البراءة إلا أن عدم کونها منها من جهة عدم بقاء الموضوع لأصالة البراءة، حیث لا موضوع للأصل العملی مع الدلیل الاجتهادی، ولذا لو قلنا بشمول قاعدة الإتلاف لتلک الموارد وقلنا بأن نفی الضمان فیها خلاف الإمتنان علی المالک فلا یبقی موضوع لأصالة البراءة أیضاً.

وعلی الجملة عدم وجود دلیل اجتهادی علی الإلزام الواقعی من التکلیف أو الوضع لا یکون شرطاً زائداً علی تحقق موضوع الأصل، نعم إذا لم یحرز استناد التلف إلی الفاعل فی تلک الموارد أو بعضها فلا باس بالرجوع إلی أصالة عدم الضمان مع ثبوت التعزیر فیها؛ لأنّ التصرف فی ملک الغیر بلا رضا مالکه کفتح قفصه

ص : 77


1- (1) وسائل الشیعة 18:32، الباب 17 من أبواب الخیار، الحدیث 3.

الثابتة بالأدلة الاجتهادیة، إلاّ أنه حقیقة لا یبقی لها مورد، بداهة أن الدلیل الإجتهادی یکون بیاناً وموجباً للعلم بالتکلیف ولو ظاهراً، فإن کان المراد من الإشتراط ذلک، فلا بد من اشتراط أن لا یکون علی خلافها دلیل اجتهادی، لا خصوص قاعدة الضرر، فتدبر، والحمد للّه علی کل حال.

أو إمساک دابته وکذا التصرف فی بدنه إیذاءً حرام موجب للتعزیر، وقد یوجه کلام الفاضل التونی بأن مراده عدم جریان أصالة البراءة لا استصحاب عدم ضمانه، حیث إن جریانها فی مثل المقام مما یوجب تضرر المالک خلاف الامتنان، ولکن لا یخفی ما فی التوجیه فإنه علل فی آخر کلامه عدم جریان الأصل، بأن البراءة تجری فی موارد عدم العلم والظن بعدم النص، وهذا لا یختص بأصالة البراءة، بل یجری فی جمیع الاُصول، بل مسألة خلاف الامتنان تختص بحدیث الرفع، ولا تعم مثل: «کل شیء حلال حتی تعرف الحرام»، وما ذکر الفاضل التونی من أنّه مع احتمال دخول المورد فی النص الموجود لا یجری الأصل یلزم علیه عدم جریان أصالة البراءه فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ شرط جریانها العلم أو الظن بعدم النص، ویحتمل فی الشبهات الموضوعیة دخول المشکوک فی خطاب التکلیف لحصول موضوعه خارجاً، ولا یحتمل الفرق بینها وبین ما ذکره من الامثلة، أنّ الشبهة فیما ذکره عن الشبهة المفهومیة، حیث لا یحرز صدق الإتلاف فی تلک الامثلة وکون الشبهة فیما ذکرنا موضوعیة.

ص : 78

ثم إنه لا باس بصرف الکلام إلی بیان قاعدة الضرر والضرار علی نحو الإقتصار[1] وتوضیح مدرکها وشرح مفادها.

فی قاعدة نفی الضرر

اشارة

[1] یقع الکلام فی قاعدة نفی الضرر فی جهات، الأولی: فی الروایات التی ذکر لها مدرکاً ومنها موثّقة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: «إن سمرة بن جندب کان له عذق فی حائط لرجل من الأنصار، وکان منزل الأنصاری بباب البستان، فکان یمر إلی نخلته ولا یستأذن، فکلّمه الأنصاری أن یستأذن إذا جاء، فأبی سمرة فلما تأبّی جاء الأنصاری إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فشکا إلیه، وخبّره الخبر فأرسل إلیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وخبّره بقول الأنصاری وما شکا، وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبی، فلما أبی ساومه حتی بلغ به من الثمن ماشاء اللّه، فأبی أن یبیع، فقال: لک بها عذق یمدّ لک فی الجنة فأبی أن یقبل، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله للأنصاری إذهب فاقلعها وارم بها إلیه، فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1) وفی روایة الحذاء عن أبی جعفر علیه السلام بعد الإباء قال صلی الله علیه و آله لسمرة: «ماأراک یا سمرة إلاّ مضاراً إذهب یا فلان فاقطعها، فاضرب بها وجهه»(2)، وروایة عقبة بن خالد عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قضی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بین أهل المدینة فی مشارب النخل أنه لا یمنع نفع الشیء وقضی بین أهل البادیة أنه لا یمنع فضل ماء لیمنع فضل کلأ، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(3)، وبهذا السند روی عقبة ابن خالد عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قضی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالشفعة بین الشرکاء فی الأرضین والمساکن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرّفت الأُرف وحددت

ص : 79


1- (1) وسائل الشیعة 25:428، الباب 12 من أبواب کتاب إحیاء الموات، الحدیث 3.
2- (2) المصدر المتقدم: 427_428، الحدیث الأول.
3- (3) وسائل الشیعة 25:420، الباب 7 من أبواب کتاب إحیاء الموات، الحدیث 2.

وإیضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحکام الثابتة للموضوعات بعناوینها الأوّلیة أو الثانویة، وإن کانت أجنبیة عن مقاصد الرسالة، إجابةً لإلتماس بعض الأحبّة، فأقول وبه أستعین:

إنه قد استدل علیها بأخبار کثیرة:

الحدود فلا شفعة»(1)، والمروی فی الفقیه فی باب میراث أهل الملل عن النبی صلی الله علیه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»(2)، والثابت مما تقدم قوله صلی الله علیه و آله لا ضرر ولا ضرار، وأما زیادة: علی مؤمن، أو زیادة فی الاسلام، فلم یثبت شیء منها، فإن روایة زرارة الواردة فیها علی مؤمن(3) ضعیفة سنداً، حیث فی سندها إرسال، وما رواه فی الفقیه مرسل ولو رواه عنه «صلوات اللّه وسلامه علیه وآله» بالقطع.

لا یقال: العمدة فی المقام من الروایات موثقة زرارة التی وردت فی قضیة سمرة بن جندب، وقد وردت هذه القضیة فی روایة أبی عبیدة الحذاء بلا نقل جملة لا ضرر ولا ضرار، فإنه یقال مع المناقشة فی روایة الحسن بن زیاد الصیقل سنداً أنها لا تنافی موثّقة زرارة؛ لأنّ اختلاف النقلین بحسب الزیادة والنقیصة بمثل ذلک لا یوجب تعارضاً بل یؤخذ بالزیادة.

ثم إنه لایبعد أن یکون قوله علیه السلام فی روایتی عقبة بن خالد: وقال لا ضرر ولا ضرار، من قبیل الجمع فی الروایة لا فی المروی بأن یکون قوله صلی الله علیه و آله : لا ضرر ولا ضرار، حکم مستقل لا یرتبط بمسألتی حق الشفعة ومسألة إعطاء فضول الماء، ولکن أبو عبداللّه علیه السلام قد جمع فی الروایة لعقبة، ویؤید ذلک أن الشفعة لا تثبتها

ص : 80


1- (1) وسائل الشیعة 25:399-400، الباب 5 من أبواب کتاب الشفعة، الحدیث الأول.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 4:334.
3- (3) وسائل الشیعة 18:32، الباب 7 من أبواب الخیار، الحدیث 5.

منها: موثقة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام : (إن سمرة بن جندب کان له عذق فی حائط لرجل من الأنصار، وکان منزل الأنصاری بباب البستان، وکان سمرة یمر إلی نخلته ولا یستأذن، فکلّمه الأنصاری أن یستأذن إذا جاء فأبی سمرة، فجاء الأنصاری إلی النبی صلی الله علیه و آله فشکی إلیه، فأخبر بالخبر، فأرسل رسول اللّه وأخبره بقول الأنصاری وما شکاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبی، فلما أبی فساومه

قاعدة نفی الضرر، حیث ربما یکون بیع الشریک حصته من شخص آخر أرفق لشریکه الآخر لکون المشتری لحصته شخصاً خیّراً یراعی مصلحة الشریک بأزید من بائع حصته، مع أن حق الشفعة علی تقدیر کون بیع الحصة ضرریاً بالإضافة إلی الشریک، کان البیع محکوماً بالفساد لکونه ضرریاً، ولیس معنی لا ضرر تدارک الضرر وحق الشفعة للشریک تدارک، وأما مسألة عدم منع فضول الماء فهو حکم استحبابی لا یمکن أن یعلل بقاعدة نفی الضرر، ویؤکد ما ذکر من کونه من قبیل الجمع فی الروایة تکرار (قال) فی الروایتین بحرف العطف.

وقد یقال: بأن الوارد فی الروایتین: وقال لا ضرر ولا ضرار، من قبیل الجمع فی المروی، وأن نفی الضرر فی الموردین حکمة التشریع، وأن الشارع قد سد سبیل الضرر فی بعض الموارد لحکمة بجعل حق الشفعة للشریک الآخر بنحو القضیة الکلیة، کما أنه دفعاً لبعض الضرر منع منعاً تنزیهیاً عن بیع فضول الماء، وهذا نظیر نفی الحرج حیث إن نفیه قد یکون حکمة التشریع، کما فی قوله سبحانه، «ومن کان مریضاً أو علی سفر فعدة من أیام اُخر یرید اللّه بکم الیسر ولا یرید بکم العسر»(1) وقوله سبحانه: «وإن کنتم مرضی أو علی سفر أو جاء أحد منکم من الغائط . . . فلم تجدوا ماء

ص : 81


1- (1) سورة البقرة: الآیة 185.

حتی بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبی أن یبیعه، فقال: لک بها عذق فی الجنة، فأبی أن یقبل، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله للأنصاری: اذهب فاقلعها وارم بها إلیه، فإنه لا ضرر ولا ضرار).

وفی روایة الحذّاء عن أبی جعفر علیه السلام مثل ذلک، إلاّ أنّه فیها بعد الإباء (ما أراک یا سمرة إلاّ مضاراً، إذهب یا فلان فاقلعها وارم بها وجهه) إلی غیر ذلک من الروایات الواردة فی قصة سمرة وغیرها. وهی کثیرة وقد ادعی تواترها، مع اختلافها لفظاً ومورداً، فلیکن المراد به تواترها إجمالاً، بمعنی القطع بصدور بعضها، والإنصاف أنه لیس فی دعوی التواتر کذلک جزاف، وهذا مع استناد المشهور إلیها موجب لکمال الوثوق بها وانجبار ضعفها، مع أن بعضها موثقة،

فتیمموا صعیدا طیباً فامسحوا بوجوهکم وأیدیکم منه ما یرید اللّه لیجعل علیکم من حرج»(1)، حیث إن انتفاء الحرج عن المریض وغیره حکمة للتشریع، وقد یکون نفی الضرر قاعدة حاکمة علی إطلاق خطابات التکالیف وعموماتها، نظیر قاعدة نفی الحرج فی قوله سبحانه: «ما جعل علیکم فی الدین من حرج»(2)، ولکن لا یخفی أن نفی الضرر وإن یمکن کونه حکمة فی جعل حق الشفعة ولکنه لا یکون حکمة فی المنع عن بیع فضول الماء أو منعه تنزیهاً، حیث إنّ الحکمة فی المنع هو أن یمنع فضل الکلأ.

وعلی الجملة فتکرار (قال) مع (الواو) العاطفة فی الروایتین یمنع عن ظهور کونهما من قبیل الجمع فی المروی، ومع الإغماض عن ذلک فلابد من توجیه کون نفی الضرر حکمة التشریع.

ص : 82


1- (1) سورة المائدة: الآیة 6.
2- (2) سورة الحج: الآیة 78.

فلا مجال للإشکال فیها من جهة سندها، کما لا یخفی.

وأما دلالتها: فالظاهر أن الضرر هو ما یقابل النفع من النقص[1] فی النفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم والملکة.

[1] هذه الجهة الثانیة، ویقع الکلام فیها فی مفاد المفردات الواقعة فی جملة لا ضرر ولا ضرار ومفاد الهیئة الترکیبیة، وقد ذکر الماتن قدس سره أن الضرر یقابل النفع کالعدم والملکة، وأن المراد من الضرر النقص فی النفس أو الطرف أو العرض أو المال، ولکن لا یخفی أنه لو کان الضرر یقابل النفع بالعدم والملکة لکان نفی الضرر عدم النفع فی مورد قابل للنفع، لا أن یکون معناه النقص کما أن ظاهر النفع الزیادة فیما ذکر.

وعلی الجملة: بین الضرر وبین النفع الظاهر فی الزیادة واسطة، نعم قد یطلق الضرر ویراد به عدم النفع کما فی قوله علیه السلام : «علامة الإیمان أن تُؤثر الصدق حیث یضرک علی الکذب حیث ینفعک»(1)، حیث لا یحتمل أن لا یکون اختیار الصدق فیما لا ینفع الشخص علی الکذب النافع له من علامة الإیمان، ولکن هذا غیر ظاهر الضرر، حیث ما یطلق بلا قرینة فإنّ ظاهره کما ذکر النقص نفساً أو طرفاً أو عرضاً أو مالاً منه أو ممن یحسب النقص الوارد علیه نقصاً لهذا الشخص، کما أن النفع ظاهره الزیادة فی شیء من ذلک، وقد یقال: بأنه لا یستعمل الضرر فی موارد النقص فی العرض ولا أقل من أن إطلاقه لا یعمّه، کما أن النفع کذلک بالإضافة إلی الزیادة فی العرض، ولکن لا یخفی ما فیه، فإن صح أن یقال: نفعه فیما إذا فعل ما یزید به عزّه وکرامته، کما یصح أن یقال: أضرّ به فیما إذا فعل ما یوجب نقص کرامته وشرفه، ولا یبعد أن یستشهد

ص : 83


1- (1) وسائل الشیعة 12:255، الباب 141 من أبواب أحکام العشرة، الحدیث 11.

.··· . ··· .

لذلک بما ورد فی روایة أبی عبیدة الحذاء من قوله صلی الله علیه و آله «یا سمرة ما أراک إلاّ مضاراً»، حیث إن الضرر الوارد فی قضیة سمرة من قبیل العرض، ودعوی أن الضرر فی هذه الموارد یستعمل بمعنی إدخال المکروه والتضییق علی الغیر، ولذا ذکرا من معانی الضرر لا یمکن المساعدة علیها، فإن إدخال المکروه والضیق فیما لا یوجب نقصاً لم یدخل فی ظاهر الضرر.

وعلی الجملة: الضرر حیث ما یطلق ظاهره النقص فی شیء مما تقدم، وأما لفظ (ضرار) فلیس المراد به الجزاء بالضرر لعدم کون ذلک ظاهره، سواء قیل بأن (ضرار) مصدر للمجرد أو للمزید من باب المفاعلة، کما أنه لیس المراد منه فی الموثقة بمعنی المفاعلة بالمعنی المعروف، بقرینة قوله صلی الله علیه و آله : «ما أراک یا سمرة إلاّ مضاراً»، بل یقال: إن ما هو المعروف من معنی المفاعلة أنه فعل بین الاثنین لا أساس له، فإن التتبع فی موارد استعمالات باب المفاعلة یشهد بخلافه، وأن هیئة مفاعلة وضعت لإفادة تصدی الفاعل لإیجاد المادة، قال: عز من قائل «یخادعون اللّه والذین آمنوا وما یخدعون إلاّ أنفسهم»(1)، حیث أراد سبحانه وتعالی بأن المنافقین یتصدون لخدیعة اللّه والمؤمنین، ولکن خدعتهم لا تقع إلاّ علی أنفسهم، ولذا عبر عن تصدیهم بهیئة المفاعلة وعن وقوعها علی أنفسهم بهیئة المجرد، وهذا أیضا لا یمکن المساعدة علیه، فإن الاستعمال فی بعض الموارد کذلک علی تقدیره لا یثبت الظهور، فلاحظ مثل: عانقه وکاتبه ولازمه وخادعه وداینه وصالحه، إلی غیر ذلک مما لا یحصی، والحاصل أنه لم یثبت غیر معنی الضرر، إلاّ أن (الضرار) حیث ما یطلق

ص : 84


1- (1) سورة البقرة: الآیة 9.

.··· . ··· .

ظاهره إیراد الضرر علی الآخر.

وأما مفاد الهیئة الترکیبیة، فذکر الماتن ما حاصله أن (لا) الداخلة علی طبیعی الضرر المسماة ب_(لا) النافیة للجنس ظاهرها نفی الطبیعی، وإذا علم عدم کون نفیه بنحو الحقیقة خارجاً یحمل علی نفیه بالادعاء وإرادة نفی الطبیعی من (لا) النافیة للجنس معروفة فی استعمالاتها یجده من أمعن النظر إلیها، نعم لابد فی البین من مصحح للادعاء وهو أن یکون انتفاء الوصف أو الأثر سواء کان أثر الطبیعی من الأمر الخارجی، أو الأمر الشرعی فلاحظ: یا أشباه الرجال ولا رجال، ولا علم إلاّ ما نفع، ولا ربا بین الوالد والولد، ولا صلاة إلاّ بطهور، ونفی الطبیعی ادعاءً بلحاظ کون المصحح له ما ذکر غیر جعل مدخولها الوصف أو الأثر بنحو الإضمار أو باستعمال لفظة (لا) فی نفی الأثر، أو الوصف بنحو المجاز فی الکلمة، وعلی ذلک یکون معنی لا ضرر نفیه خارجاً، ولکن بنحو الادعاء والمصحح للنفی نفی أثره أی حکمه بمعنی أن کل عمل أو معاملة انطبق علیها عنوان الضرر والضرار فلا یترتب علیه الحکم المترتب لولا عنوان الضرر، فلا یکون الوضوء الضرری أو الصوم الضرری مما یتعلق به الوجوب، ولا یکون المرور إلی نخلته بلا استیذان من مالک الدار جائز إذا انطبق علیه عنوان الضرر إلی غیر ذلک.

کون المنفی هو الفعل الضرری أو الحکم والتکلیف الضرریین

وذکر الشیخ قدس سره أن المنفی بقاعدة نفی الضرر هو منشأ الضرر والسبب الذی یدخل فی سلطان الشارع بما هو شارع، وهذا المنشأ والسبب یکون بتشریع الحکم الموجب له لا سائر الأسباب من الاُمور الخارجیة، وأورد علیه فی الکفایة مشیراً إلیه بضرورة بشاعة استعمال الضرر وإرادة سبب من أسبابه فیکون المفاد بناءً علی ما ذکر

ص : 85

.··· . ··· .

الشیخ أن کل حکم وتکلیف یکون منشأً للضرر فهو غیر مجعول، ویمکن الجواب عما ذکره الماتن قدس سره فی مقام الإیراد أن الضرر لم یستعمل فی سبب من أسبابه، بل الضرر المنفی هو الضرر فی مقام التشریع وأنه لم یشرع فی ذلک المقام الضرر، والضرر فی ذلک المقام ینطبق علی الحکم والتکلیف الموجب للضرر، ویؤید ذلک المرسلة المرویة فی الفقیه «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام» حیث إن الإسلام فی فروعه هو الأحکام والتکالیف المجعولة علی العباد، وإلاّ فما ذکره الماتن قدس سره من أن المنفی هو طبیعی الضرر خارجاً ویکون نفیه کذلک بنحو الادعاء والمصحح للادعاء نفی الحکم أو الوصف کما فی سائر موارد استعمالات (لا) النافیة للجنس بنحو الادعاء لا یمکن المساعدة علیه، فإن النفی کذلک ادعاءً إنما یکون بالإضافة إلی الموضوعات التی یترتب علی وجوداتها الأثر، فإنه إذا لم یترتب الأثر المترقب من الشیء علی الموجود أو لم یکن فیه الأثر المرغوب من الشیء ینفی ذلک الشیء خارجاً ولو بنحو الادعاء، وأما بالإضافة لمتعلقات التکالیف فعدم تعلق الوجوب بفعل یعد ضرراً علی المکلف أو تعلق الحرمة مع ترکه أو إیجاده خارجاً عصیاناً لا یصحح نفی الضرر خارجاً، ولو بنحو الادعاء کما لا یخفی. وإن شئت قلت: إن ما ذکره الماتن قدس سره من حمل نفی الضرر علی نفی الطبیعی خارجاً غایة الأمر أن نفیه خارجاً بالادعاء لانتفاء الأثر علی غرار «لا صلاة إلاّ بطهور» و«یا أشباه الرجال ولا رجال» غیر صحیح، فإن المنفی فی تلک الموارد نفس الشیء ولو بداعی عدم الوصف والأثر المرغوب فی أشباه الرجال أو فی الصلاة من غیر طهور، وفی موارد نفی الضرر لا ینتفی الأثر المرغوب أو المترتب لنفس عنوان الضرر وإنما ینتفی الأثر المترتب علی مورد صدقه لولا انطباق عنوان الضرر، نظیر ما تقدم فی رفع الإکراه

ص : 86

.··· . ··· .

والاضطرار من حدیث الرفع، وما ذکرنا فی رافعیة الإکراه والاضطرار ونفی الحرج غیر جار فی نفی الضرر أیضاً، فإن ما استکره علیه أو ما اضطر إلیه عنوان لنفس العمل الذی کان متعلق التکلیف أو الموضوع للوضع لولا طریانها بخلاف الضرر، فإنه کما تقدم بمعنی النقص فی المال أو العرض أو الطرف أو النفس، وهذ لا ینطبق علی نفس الوضوء والصوم وغیر ذلک من متعلقات التکالیف، لیقال: إن عنوان الضرر کعنوان الإکراه والاضطرار والحرج من العناوین الرافعة للتکالیف، بل الضرر أمر مسبب عن الأفعال والأعمال ونفی السبب بنفی مسببه غیر ظاهر من (لا) النافیة للجنس، وإذا کان المراد نفی سببه بنحو العنایة یکون التکلیف والوضع أیضا سبباً للضرر.

والصحیح کما یأتی لیس المراد من نفی الضرر ونفی الضرار نفیهما فی الخارج ولو ادعاءً، بل المراد نفیهما فی مقام التشریع بمعنی أنّ الشارع لم یجعل فی مقام التشریع ما یوجب الضرر علی المکلف أو غیره، ومرجعه إلی عدم جعل تکلیف ضرری أو الحکم الوضعی الضرری لموضوع، ولعل هذا مراد الشیخ قدس سره .

وکیف کان فقد یقال بظهور الثمرة بین ما ذکره الماتن فی معنی نفی الضرر والضرار وما التزم به الشیخ قدس سره فیما إذا لم یکن الفعل أو المعاملة المتعلق بهما التکلیف أو الوضع ضرریاً، بل کان الضرر فی ناحیة نفس الحکم والتکلیف الثابت أو المتعلق بأحدهما، کما إذا کان التکلیف المعلوم إجمالاً للجهل بمتعلقه أو موضوعه وتردده بین أطراف أحرز موافقته ضرریاً أو کان الضرر فی لزوم المعاملة، کما فی مورد خیار الغبن، ولکن الثمرة المذکورة فی مورد الجهل بین أطراف العلم الإجمالی بالتکلیف محل منع، کما إذا علم المکلف بکون أحد الماءین ملک الغیر وغیر راضٍ

ص : 87

کما أن الأظهر أن یکون الضرار بمعنی الضرر جیء به تأکیداً، کما یشهد به إطلاق المضار علی سمرة، وحکی عن النهایة لا فعل الإثنین، وإن کان هو الأصل فی باب المفاعلة، ولا الجزاء علی الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة، وبالجملة لم یثبت له معنی آخر غیر الضرر.

بالتصرف فیه مع عطشه الذی یخاف علی صحته مع ترکه شربهما مع انحصار الماء علیهما، فإنه فی الفرض لا یکون ترک شرب المغصوب منهما ضرریاً، بل الضرر فی ناحیة نفس حرمة شربه فإنها مع العلم الإجمالی بها تقتضی الموافقة القطعیة، هکذا قیل ولکن لا یخفی أن الضرر فی ناحیة إحراز امتثال التکلیف فی الفرض لا فی ناحیة أصل امتثاله، کما أنه فی ناحیة إحراز ترک المغصوب لا فی ناحیة نفس ترکه فلا مجری لنفی الضرر علی کلا المسلکین.

نعم مع اضطرار المکلف إلی شرب أحدهما یجوز له ذلک؛ لأنّ الحرام الواقعی إذا کان المکلف مضطراً إلیه یجوز ارتکابه ویکون حلالاً فکیف بالمحتمل الحرمة من أطراف العلم، ولکن الجواز فی الاضطرار إلی أحدهما غیر المعین فی المختار حلیة ظاهریة مادام الجهل علی ما تقدم فی بحث الاضطرار إلی بعض أطراف العلم، وأما مسألة خیار الغبن فقد ذکرنا فی بحث الخیارات فی بحث المکاسب أنه لا مجری لقاعدة نفی الضرر فی المعاملة الغبنیة فإن الضرر فیها ینشأ من نفس إمضاء المعاملة الغبنیة، ولو کانت جاریة لکان مقتضاه عدم صحة تلک المعاملة لا نفی لزومها؛ لأن نفی لزومها تدارک للضرر، ولکن المعاملات المبنیة علی التغابن والمداقّة وسائر المعاملات المالیة المعاوضیة فیها شرط ارتکازی عند الإطلاق من المتعاملین بأنّ إقدام کل منهما علی المعاملة علی تقدیر التزام الآخر بالخیار له علی تقدیر غبنه، ومع هذا الإشتراط لا یکون إمضاء المعاملة المنشأة کذلک خلاف الإمتنان؛ لأنّ نفی

ص : 88

کما أن الظاهر أن یکون (لا) لنفی الحقیقة، کما هو الأصل فی هذا الترکیب حقیقةً أو إدعاءً، کنایة عن نفی الآثار، کما هو الظاهر من مثل: (لا صلاة لجار المسجد إلاّ فی المسجد) و (یا أشباه الرجال ولا رجال) فإن قضیة البلاغة فی الکلام هو إرادة نفی الحقیقة ادعاءً، لا نفی الحکم أو الصفة، کما لا یخفی.

صحته لا یفید للمغبون شیئاً مع تمکنه من فسخها عند إطلاعه بالغبن فیها.

وقد یقال بظهور الثمرة بین القولین فیما إذا تردد المکلف بکونه مدیوناً لزید أو عمرو أو تردد کون ما بیده لزید أو لعمرو، فإنه لا یکون نفس أداء الدین إلی دائنه أو ردّ العین التی فی یده علی مالکها ضرریاً، وإنما ینشأ الضرر من التکلیف بالأداء أو ردّ المال علی صاحبه، حیث إنّه مع الجهالة بالدّائن أو المالک وترددهما بین شخصین أو أشخاص یکون التکلیف بالأداء والردّ ضرریاً، ولکن قد ظهر مما تقدم کون الضرر فی إحراز الأداء والرد، بل یمکن أن یقال إن إحرازهما أیضا أمر ممکن لا ضرر فیه، وذلک بأن یؤدی الدین أو العین إلی أحدهما أولاً ثم أخذهما ممن أدی إلیه ولو قهراً بلا رضاه، والرد علی الثانی ثانیاً حیث یعلم بسقوط الدین أو ردّ المال علی صاحبه والأخذ ممن أعطاه أولاً ولو بلا رضاه مجری أصالة الحلیة وعدم الضمان، کما یمکن إحراز الإمتثال بالمصالحة مع الشخصین أو الرجوع إلی القرعة بینهما.

وقد یقال بظهور الثمرة بین القولین فیما إذا توقف الإغتسال أو الوضوء علی صرف المال الکثیر بشراء المال ونحوه، فإن إیجاب الإغتسال أو الوضوء یکون ضرریاً حیث یتوقف إمتثاله علی تحصیل الماء الموقوف علی صرف المال المذکور بخلاف نفس الوضوء، فإن الوضوء لا ضرر فی نفسه، بل الضرر فی شراء الماء الذی یقتضیه التکلیف به، وفیه أن نفس الوضوء کوجوبه فی الفرض ضرری أیضا حیث یوجب نقص ماله بالشراء.

ص : 89

ونفی الحقیقة ادعاءً بلحاظ الحکم أو الصفة غیر نفی أحدهما ابتداءً مجازاً فی التقدیر أو فی الکلمة، مما لا یخفی علی من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلک بُعد إرادة نفی الحکم الضرری، أو الضرر الغیر المتدارک، أو إرادة النهی من النفی جداً، ضرورة بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص الغیر المتدارک منه[1]، ومثله لو اُرید ذاک بنحو التقیید، فإنه وإن لم یکن ببعید، إلاّ أنه بلا دلالة علیه غیر سدید، وإرادة النهی من النفی وإن

[1] ربما یقال إن المنفی فی قوله صلی الله علیه و آله : «لا ضرر ولا ضرار» خصوص الضرر غیر المتدارک، بأن استعمل الضرر فی الضرر الخاص أی غیر المتدارک منه، أو یقال بإرادة الضرر غیر المتدارک بتعدد الدال والمدلول، فیکون مفاده أن کل ضرر فی الخارج متدارک، ولا یوجب إرادته بنحو تعدد الدال والمدلول مجازاً، ولعل نظر القائل من الدال علی القید هو وقوع الضرر فی الخارج غالباً، ولکن لا یخفی ما فیه فإن مجرد حکم الشارع بتدارک الضرر لا یکون تدارکاً، ألا تری أنه إذا أتلف ماله متلف وحکم علی المتلف بالضمان مع کونه معسراً لم یصح أن یقال لا ضرر، وإذا کان هذا فی مورد الضرر المالی فما الظن فی موارد الضرر العرضی أو الطرفی وما حال الضرر الذی یورده الشخص علی طرفه أو نفسه أو ماله أو یقع الضرر علیه من غیر أن یستند إلی الغیر، کإنهدام داره بالزلزلة واحتراق بیته بوقوع النار فیها أو نحو ذلک.

وعلی الجملة لا یتدارک کل ضرر فی الخارج، والموارد التی یحکم فیها علی الغیر بالتدارک لا یعد مجرد الحکم تدارکاً وما یتدارک بحق القصاص ونحوه لا یوجب صحة نفی الضرر الخارجی، لیقال إن المنفی هو الضرر الخارجی والمصحح لنفیه ادعاء لزوم تدارکه مع أن هذا لا یناسب مورد الروایة.

ص : 90

کان لیس بعزیز إلاّ أنه لم یعهد من مثل هذا الترکیب[1].

فیما قیل بأن المراد من نفی الضرر والضرار تحریمهما

[1] وقد یقال إن المراد من النفی هو النهی، حیث إن الضرر والضرار عنوانان للفعل ویراد من نفیهما النهی عنها، وما ذکر الماتن قدس سره من عدم معهودیة هذا النحو من الاستعمال فی مثل هذا الترکیب بأن یراد ب_(لا) النافیة للجنس الداخلة علی الاسم النهی، لا یمکن المساعدة علیه، لوقوع ذلک فی قوله سبحانه: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فی الحج»(1)، وکقوله علیه السلام : «لا غش بین المسلمین»، وتوضیح ذلک أنه کما یصح الإخبار بالشیء خارجاً بداعی الأمر به کذلک فی مقام النهی عنه یصح نفیه خارجاً، وکما أنه فی صورة الإخبار بحصوله بداعی الأمر به إن کان المخبر به هو الفعل الخارجی یکون الأمر به تکلیفاً بإیجاده، کذلک فی مقام النهی نفیه، وأما إذا کان المخبر به فعلاً اعتباریاً یکون الإخبار بوقوعه إرشاداً إلی صحته ویکون نفیه إرشاداً إلی عدم صحته وإمضائه، کقوله «لا بیع فیما لیس بملک»، و«لا طلاق إلاّ بعد نکاح»، و«لا یمین للولد مع الوالد» إلی غیر ذلک، فما عن بعض الأجلّة من استعمال النفی فی هذه الموارد فی غیر النهی لا یخفی ما فیه، فإن النفی فی هذه الموارد من المعاملات کالنهی فیها إرشاد إلی عدم الإمضاء والمشروعیّة، والکلام فی المقام فی خصوص (لا) النافیة للجنس الداخلة علی الفعل الخارجی نظیر الرفث والغش ونحوهما، وقد ذکر شیخ الشریعة فی تأیید ما ذهب إلیه من کون النفی بمعنی النهی بقوله صلی الله علیه و آله «ما أراک یا سمرة إلاّ مضاراً»، فإنه بمنزلة الصغری للکبری لا ضرر ولا ضرار، وأنّ فعلک ضرار ویحرم الإضرار، والضرار بخلاف المعانی المتقدمة فی معنی الکبری

ص : 91


1- (1) سورة البقرة: الآیة 197.

.··· . ··· .

فإنه لا یرتبط بقوله صلی الله علیه و آله ما أراک یا سمرة إلاّ مضاراً.

أقول: الجواب عن هذا الوجه هو أن المنفی فی المقام الضرر والضرار، والضرر لیس عنواناً للفعل الخارجی، بل هو بمعنی الاسم المصدری، والضرر بهذا المعنی یراد من نفیه نفی سببه، وکما أن الفعل سبب للضرر وموجب له کذلک الحکم والتکلیف موجب له، ولو کان المراد من نفیه نفی الفعل فیکون من حمل نفیه علی النهی علی غرار ما ذکر فی «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فی الحج»(1) بخلاف ما اُرید الحکم والتکلیف الموجب له، حیث یؤخذ بظاهر نفیه، وأن الحکم والتکلیف الموجب له غیر مجعول فلا قرینة علی حمل النفی علی النهی، وإن کان ذلک غیر بعید فی نفی الضرار حیث إنه مصدر یمکن جعله عنواناً للفعل خصوصاً بملاحظة ما ورد فی روایة أبی عبیدة من قوله علیه السلام «ما أراک یا سمرة إلاّ مضاراً».

وقد ذکر فی مدلول لا ضرر ولا ضرار وجهاً آخر.

وحاصله أن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله له مناصب ثلاثة کونه نبیاً مرسلاً أی مخبراً عن اللّه سبحانه بأحکام الدین الحنیف اُصولاً وفروعاً، وموصلاً إیاها إلی العباد، ومجریاً للحدود، وقاضیاً فی فصل الخصومات، وکونه رئیساً وزعیماً للاُمة الاسلامیة، فله ولایة الأمر والنهی علی ما هو مقتضی رعایة مصالح الرعیة وحفظ النظام، فیکون أمره ونهیه صلی الله علیه و آله علی سنخین، ففیما أمر بفعل أو نهی عنه بما هو مخبر عن اللّه سبحانه بأحکام الدین وأحکام اللّه یکون أمره ونهیه إرشاداً إلی أمر اللّه سبحانه، أو نهیه، فتکون مخالفته عصیاناً للّه سبحانه فی أمره ونهیه، بخلاف ما أمر أو نهی بما هو

ص : 92


1- (1) سورة النساء: الآیة 59.

.··· . ··· .

زعیم الاُمة الإسلامیة وسائسهم فإن نفس أمره ونهیه یکون مولویاً وموافقته إطاعة له ومخالفته ترکاً لطاعته، کما یشیر إلی ذلک قوله سبحانه «اطیعوا اللّه وأطیعوا الرسول واُولی الأمر منکم»(1) والأئمة علیهم السلام من بعد النبی صلی الله علیه و آله أولیاء فی تبلیغ أحکام الشریعة ولهم أیضا ولایة القضاء وإجراء الحدود وولایة الأمر والنهی فیکون أمرهم ونهیهم إرشاداً إلی حکم اللّه وأحکام الشریعة، فیکون الملاک فی الطاعة والعصیان موافقة الحکم المرشد إلیه من أمر اللّه ونهیه، بخلاف ما إذا أمروا أو نهوا بما هم أولیاء الأمر والنهی علی الرعیة.

ثم إن الأمر والنهی الواردین عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إن کانا ظاهرین فی الأخبار بالشرع المبین، والوظائف المقررة علی العباد من قبل اللّه سبحانه فلا کلام، وأما إذا لم یکن فی البین ظهور فی ذلک، کما ورد أنه صلی الله علیه و آله قضی أو حکم ونحو ذلک، فإن کانت قرینة خارجیة علی أن مراده الإبلاغ وبیان الأحکام الشّرعیّه فلا کلام أیضاً، وإلاّ فظاهر الکلام المزبور أنه حکم مولوی من قبله صلی الله علیه و آله ویؤید ذلک أنه لم ترد مثل هذه التعبیرات فیما ورد عن غیر الرسول صلی الله علیه و آله وغیر علی علیه السلام من سائر الأئمة الذین منعوا عن التصدی لحق الوصایة، وعلی ذلک فالمنقول فی حدیث لا ضرر ولو من طریق العامة أنه قضی بأنه لا ضرر ولا ضرار، وحیث إنّ المورد للحدیث لیس من قبیل الشبهة الحکمیة ولا الموضوعیة لتحمیل القضاء بمعنی فصل الخصومة فی المرافعة فی أحدهما یتعین کونه نهیاً مولویاً سیاسیاً صدر للتحفظ عن وقوع الضرر، وهذا النهی المولوی عام لجمیع الأدوار والأعصار صادر عن رئیس الملة والاُمة فاللازم

ص : 93


1- (1) سورة النساء: الآیة 59.

.··· . ··· .

اتباعه، فیکون کسراً لما عند العقلاء من سلطنة المالک علی ماله، وإن هذه السلطنة لا تکون مع الإضرار والضرار، فیکون الحدیث حاکماً علی سلطنة الملاک بالإضافة إلی أموالهم ومناسباً لمورد الحدیث، ویترتب علی ذلک عدم صحة التمسک بالحدیث فی موارد کون تکلیف الشرع ضرریاً کالوضوء والغسل والصوم ونحو ذلک، بل یتعین حکومته علی قاعدة سلطنة المالک.

فی کون المستفاد من نفی الضرر والضرار حکم شرعی

ولکن لا یخفی ما فیه، أما أولاً: فإن للنبی صلی الله علیه و آله إذن فی التشریع بأن یجعل من شرعه وجوب فعل أو استحبابه وغیرهما، فالحکم الذی یجعله من شرعه حکم شرعی کسائر الأحکام بالإضافة إلی جمیع الأدوار والأعصار، فإن ماسنّ النبی صلی الله علیه و آله من التکالیف والأحکام تکلیفاً أو وضعاً فی مقابل فرض اللّه سبحانه، أمر معروف عند الخاصة والعامة، وهذه الولایة بالإیکال من اللّه، وکما أن الأئمة علیهم السلام مبیّنون لأحکام الشریعة فی غیر موارد السنن کذلک مبیّنون ومبلّغون فی موارد السنن، نعم هم علیهم السلام اُولو الأمر بالإضافة إلی الرعیة کالنبی الأکرم، وکلٌ أولی بالمؤمنین من أنفسهم مثله (صلوات اللّه علیه وعلیهم) علی ما ذکر فی بحث الولایة التی هی إحدی الخمس المبنی علیها الإسلام، وما یحکی عن النبی صلی الله علیه و آله بحیث یعم، کسائر أحکام الشریعة، جمیع الأدوار والأعصار ظاهره التشریع أو إظهار التنزیل، سواء کان بلفظ (قضی) أو (حکم) أو (رخص) أو (نهی) کما فی المحکی عنه، بأنه صلی الله علیه و آله نهی عن بیع الضرر، وعن بیع مالیس عندک، مع أن قوله صلی الله علیه و آله لاضرر ولاضرار، لم یحک فی روایاتنا بقضائه وحکمه، بل وقع تعلیلاً للترخیص للأنصاری فی قلعه نخلة سمرة، وذکر أیضاً فی روایات الشفعة والمنع عن بیع فضول الماء، وقد تقدم أنه إمّا من قبیل

ص : 94

.··· . ··· .

الجمع فی الروایة أو بیان حکمة التشریع وحکمه المولوی (صلوات اللّه وسلامه علیه) بالإضافة إلی شخص أو أشخاص أو طائفة فی عصره واقع لا محالة.

وثانیاً: أنه لو فرض وقوع الحکم المولوی منه بالإضافة إلی جمیع الرعیة والمسلمین فی جمیع الأعصار والأدوار بحیث لا یدخل فی التشریع فإثباته فی قوله صلی الله علیه و آله لا ضرر ولا ضرار غیر ممکن؛ لأنّ التعبیر ب_(قضی) فی بعض روایات العامة مع عدم اعتبار النقل لا یکون قرینة علی أنه من قبیل الحکم المولوی، أضف إلی ذلک احتمال کون المورد من موارد المرافعة فی الشبهة الحکمیة، ولعل سمرة کان یری لنفسه الدخول والمرور فی حائط الأنصاری بلا استیذان، ولعل الأنصاری أیضا فی بدو الأمر لا یعلم أنه حق له أم لا، ولذا شکا إلی النبی صلی الله علیه و آله .

والحاصل إن أُرید بالنفی فی لا ضرر، النهی عن الإضرار فلا یفرق فی کونه خلاف الظاهر سواء کان النهی بما هو رسول اللّه صلی الله علیه و آله أو بما هو زعیم المسلمین، وذلک فإن الضرر إسم مصدر وهو یترتب علی الفعل لا أنه عنوان للإضرار وکون النفی کنایة عن النهی عن الإضرار یحتاج إلی قرینة اُخری، وإذا کان حمل نفیه علی ظاهره فی کون نفیه بمعنی انتفائه خارجاً ممکناً، غایة الأمر فیه خلاف ظاهر من جهة واحدة فیما لو ادعی أن المنفی هو الضرر الخارجی خارجاً، حیث یتوجه النفی إلی منشئه وسببه، وهو الحکم الشرعی الموجب له، فلا تصل النوبة معه إلی نفی سببه وجعل النفی کنایة عن النهی عنه، کما إذا کان متعلق النفی الفعل الموجب للضرر هذا مع الإغماض عما ذکرنا من أن المنفی هو الضرر الخارجی فی مقام التشریع لا فی الخارج وإلاّ فلا مخالفة فیه للظاهر أصلاً.

ص : 95

.··· . ··· .

فی توجیه الحکم الوارد فی قضیة سمرة

نعم، قد یقال: بأن مقتضی قاعدة لاضرر أن لا یجوز لسمرة الدخول إلی حائط الأنصاری بلا استیذان، سواء کان المنفی جواز الدخول والمرور بلا استیذان أو کان النفی بمعنی النهی، وأمّا قلع النخلة والرمی بها إلیه فلا یکون مقتضاها حتی بناءً علی أن نفی الضرر والضرار حکم مولوی، وعلی ذلک یقع الکلام فی أنه صلی الله علیه و آله کیف علل أمره بقلع النخلة بالکبری المزبورة مع أنها لا تقتضیه، وذکر الشیخ صلی الله علیه و آله بأن الجهل بکیفیة تطبیق الکبری علی الحکم المذکور لا یضر بالأخذ بمفاد الکبری.

وذکر النائینی قدس سره بأن نفی الإضرار کما یحصل برفع جواز الدخول بلا استیذان کذلک یرتفع بارتفاع حق سمرة فی بقاء نخلته فی حائط الأنصاری، وما نحن فیه من قبیل رفع المعلول برفع علته.

وبتعبیر آخر کما یرتفع الضرر عن الأنصاری برفع جواز دخول سمرة بلا استیذان کذلک یرتفع برفع الموضوع لجواز الدخول وهو رفع حق سمرة فی بقاء نخلته فی حائط الأنصاری، ونظیر ذلک ما إذا کان جزء الواجب أو شرطه ضرریاً فإن الضرر وإن کان ینشأ من وجوب الجزء والمقدمة إلاّ أنّه یرتفع بوجوب ذیها، ولا ینحصر بإیجاب الخالی عنه.

وفیه أنّه لا یقاس المقام برفع وجوب المقدمة فإن رفع ذلک الوجوب یکون برفع وجوب ذیها ووضعه بوضع وجوب ذیها، ولذا لو لم نقل بوجوب المقدمة یکون الأمر أیضا کذلک، بخلاف ما إذا کان الأمر الاعتباری موضوعاً للاحکام، وکان ثبوت بعض الأحکام فی مورد ضرریاً فلا موجب مع إمکان نفی ذلک البعض رفع

ص : 96

.··· . ··· .

نفس ذلک الأمر الاعتباری، کما إذا کان استمتاع الزوج من زوجته بالوطی ضرریاً لها، فیرتفع جواز الوطی ولا ترتفع الزوجیة بینهما، وإذا کان تصرف إنسان فی ملکه ضرریاً علی الغیر فلا یرتفع إلاّ جواز التصرف لا أصل ملکیة ذلک المال، وحقه فی بقائه.

وعلی الجملة: فما ذکره رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قضیة سمرة بن جندب مع الأنصاری أمران، أحدهما: نهی سمرة أن یدخل حائط الأنصاری بلا استیذان، وثانیهما: أمره صلی الله علیه و آله بقلع النخلة، والإشکال فی تطبیق قاعدة لا ضرر مبنی علی أن یکون قوله صلی الله علیه و آله : «فإنه لا ضرر ولا ضرار» تعلیلاً للأمر الثانی أو لکلا الأمرین، وأما إذا کان تعلیلاً للأمر الأول فقط فلا إشکال، وأما أمره الثانی، فقد یقال بأن مقتضی ولایته صلی الله علیه و آله علی الاُمة فی أموالهم بل نفوسهم، ولیس من قبیل الحکم الشرعی الثابت فی الشریعة حتی یقال بأن الحکم المزبور ینافی قاعدة نفی الضرر، حیث إنّ جواز إتلاف مال الغیر ضرر علیه أو لا أقل من عدم استفادة جواز الإتلاف من قاعدة لا ضرر فکیف یعلّل بها.

ویرجع إلی ذلک أیضاً ما یقال أن قوله صلی الله علیه و آله : «إذهب واقلعها وارم بها إلیه» خطاباً للأنصاری وقوله صلی الله علیه و آله : «انطلق فاغرسها حیث شئت» خطاباً لسمرة من کونه فی مقام تأدیب سمرة وإظهار غضبه علیه، لا أنه من الحکم الشرعی من غیر استعمال ولایته علی الرعیة.

أقول: قد ذکرنا فی بحث الولایة فی بحث المکاسب وأشرنا إلیه سابقاً أن کون نفی الضرر والضرار تعلیلاً للحکم الأول صحیح، حیث إن مقتضی نفی الحکم الضرر وحرمة الضرار عدم جواز دخول سمرة حائط الأنصاری بلا استیذان، ولیس فی هذا أی ضرر علی سمرة، والنافی فرض عدم اعتناء سمرة لعدم جواز الدخول

ص : 97

وعدم إمکان إرادة نفی الحقیقة حقیقة لا یکاد یکون قرینة علی إرادة واحد منها، بعد إمکان حمله علی نفیها إدعاءً، بل کان هو الغالب فی موارد استعماله.

ثم الحکم الذی اُرید نفیه بنفی الضرر هو الحکم الثابت للأفعال بعناوینها أو المتوهّم ثبوته لها کذلک فی حال الضرر[1].

بلا استیذان وعدم الإجابة لبیع النخلة بأی ثمنٍ شاء، والأمر أو الترخیص للأنصاری بقلع النخلة حکم شرعی ولا یرتبط بمسألة ولایة النبی صلی الله علیه و آله علی الاُمة فی أموالهم، ولا یستفاد من الحدیث هذه الولایة ولا استعمالها، والوجه فی ذلک دوران أمر الأنصاری بین أن یراعی وجوب التحفظ علی عرضه، وبین عدم جواز التصرف فی نخلة سمرة وإزالة حقه بقلعها، وفی مقام التزاحم لا یحتمل أن لا یکون وجوب حفظ عرضه أهم من إتلاف حق الغیر بقلع نخلته، ولذا أمره صلی الله علیه و آله بقلع نخلته نظیر سائر ما لو دار الأمر فی مقام التزاحم بین رعایة التکلیف المحرز الأهمیة أو محتملها، وبین التکلیف الآخر یقدم التکلیف الأهم أو محتمله، ولو کان ما ذکر صلی الله علیه و آله للأنصاری من أعمال الولایة المشار إلیها لم یکن حاجة إلی المذکور، بل کان للنبی صلی الله علیه و آله تملیک النخلة للأنصاری مجاناً أو مع العوض، بل یمکن أن یقال إن مقتضی نفی الضرر أیضاً انتفاء حرمة التصرف عن قلع النخلة للانصاری لأنّ ابقائها مع وجوب التحفظ علیه علی عرضه وعیاله فی الفرض لغو محض، ولیس کسائر موارد التزاحم مما یکون المکلف مؤاخذاً علی ترک موافقة التکلیف بالمهم علی تقدیر ترک العمل بالأهم کما یظهر ذلک بالتأمل.

[1] قد تقدم أن عنوان الضرر عند الماتن قدس سره کعنوان الإکراه أو الاضطرار فی أنه إذا انطبق علی فعل خارجی أو اعتباری یکون انطباقه موجبا لارتفاع الحکم الثابت لذلک الفعل فی نفسه أی بعنوانه الأولی أو المحتمل ثبوته له کذلک، ولذا یتقدم

ص : 98

.··· . ··· .

خطاب نفی الضرر علی الخطاب الدال علی ثبوت الحکم المزبور لذلک الفعل، حیث یجمع بین الخطابین، بأنّ الحکم الثابت للفعل اقتضائی بالإضافة إلی عنوان الضرر فیثبت له ویتعلق به ما لم یطرأ علیه عنوان الضرر، ولا تلاحظ النسبة بین الخطابین، لیقال: إن النسبة بینهما العموم من وجه، فإن ملاحظة النسبة ینحصر علی ما کانت دلالة کل من الخطابین علی حکم الفعل بالعنوان الأولی أو بالعنوان الثانی کما هو الحال أیضا فی الخطابات الدالة علی حکم الأفعال بعناوینها الأولیة مع خطاب نفی الاضطرار والإکراه والعسر والحرج.

والحاصل أن قاعدة نفی الضرر لا تنفی الحکم الثابت لنفس عنوان الضرر وإنما یرفع الحکم فیما إذا تعلق به بعنوان ذلک الفعل إذا صار ضررا، نعم إذا ثبت فی مورد أن الحکم الثابت لفعل بعنوان ذلک الفعل لا یکون اقتضائیا، بل یثبت حتی مع طریان عنوان الضرر فلابد فی ذلک المورد من رفع الید عن إطلاق نفی الضرر.

أقول: لا یخفی الجمع العرفی بین الخطابین بالحمل علی العنوان الأولی والثانوی فیما إذا ثبت حکم فی أحدهما لمطلق الفعل وبعنوانه الأولی، وفی الآخر منهما حکم آخر لعنوان ثانوی یعم ذلک الفعل أیضا فی بعض الموارد، کما إذا ورد الأمر بالوضوء للصلاة فی خطاب وورد النهی عن الغصب فی خطاب آخر، ففیما انحصر ماء الوضوء بالمغصوب یجمع بین الخطابین بأن الوضوء بالماء المغصوب حرام، وأن الوضوء واجب لولا طرو المغصوب علیه، وکذلک إذا لم ینحصر بالماء المغصوب ولکن المکلف أراد الوضوء، فیقال الوضوء لا یجوز بذلک الماء بل علیه أن یتوضأ بغیره، حیث لا ترخیص فی تطبیق طبیعی الوضوء علی الوضوء بالمغصوب بل هو حرام، وأما فی مثل قاعدة لاضرر فقد تقدم أن الماتن قدس سره بنی علی

ص : 99

.··· . ··· .

أن نفی الضرر ادعائی والمصحح للادعاء لا یمکن أن یکون نفی الأثر المجعول لنفس الضرر کما اعترف به قدس سره حیث إن عنوان الموضوع تحققه یوجب تحقق الحکم المجعول له فلا یمکن أن یکون رافعا له، بل نظیر الحکم المجعول علی عنوان الاضطرار أو الإکراه أو الخطأ والنسیان حیث یثبت ذلک الحکم بثبوتها.

فلابد من أن یکون المنفی نفس الفعل الذی یطرأ علیه عنوان کونه ضرریا بأن یکون المنفی نفس الوضوء أو الغسل، والصوم بأن یکون معنی لا ضرر، أنه لا وضوء ولا غسل ولا صوم مع الضرر، والمصحح لهذا النفی عدم الأثر لهذا الوضوء أو الغسل أو الصوم، وهکذا، وإذا کان الأمر کذلک وعلی هذا المنوال فیدخل نفی الضرر فی الحکومة بالإضافة إلی الخطابات الدالة علی ثبوت الآثار للوضوء والغسل والصوم بالتصرف فی عقد الوضع فی تلک الخطابات، نظیر حکومة لا ربا بین الوالد وولده، حیث إنه نفی للربا بینهما بنحو الادعاء، والمصحح انتفاء ما یکون ثابتا للربا فی نفسه من الآثار، ونتیجة هذا النفی وإن یرجع إلی تقیید الحکم الثابت للربا فی مقام الثبوت إلاّ أنه بالإضافة إلی مقام الإثبات یکون خطاب نفی الربا بین الوالد وولده حاکما علی الخطاب الدال علی حرمة الربا بلا منافاة بین مدلولهما، حیث إنّ خطاب حرمة الربا لا یعین الربا خارجا، وخطاب نفی الربا بین الوالد والولد ینفی الربا بین الوالد والولد کما هو الحال بالإضافة إلی حکومة: «لا شک للامام مع حفظ من خلفه»، بالإضافة إلی الخطاب الدال «إذا شککت فابن علی الأکثر» أو أنّه «إذا شک فی الاُولیین یعید صلاته»، وهذا النحو من الحکومة قد یقتضی التضییق ثبوتا فی الحکم المستفاد من خطاب الدلیل المحکوم کما فی الأمثلة المتقدمة، وقد یفید التوسعة کما فی خطاب «الفقاع خمر» أو «إن الطواف بالبیت صلاة» ونحوهما.

ص : 100

.··· . ··· .

وعلی الجملة: فالجمع بین ما ذکره من أن نفی الضرر نفی الطبیعی ولکن ادعاءً والمصحح للادعاء انتفاء الأثر الثابت للفعل لولا نفیه بعنوان نفی الضرر وبین الالتزام بالجمع بین الخطاب الدال علی ثبوت الأثر للفعل وخطاب نفی الضرر بالعنوان الأولی والثانوی غیر تام، وأیضا قد ذکرنا أن الضرر إسم مصدر فلابد من أن یکون المنفی ما یکون منه الضرر ویدور ما یکون منه الضرر بین نفس الفعل الضرری وبین التکلیف والوضع الموجب رعایتهما الضرر، وأن یکون النفی فی ارادة الفعل الضرری ادعائیا، بخلاف نفی الحکم من التکلیف والوضع الملازم له فإن نفیهما یکون حقیقیا، ویترتب علی نفی التکلیف أو الوضع الملازم له أنه لا یعم مدلول نفی الضرر موارد الحکم الترخیصی حتی فیما کان الترخیص فی الفعل مطلقا، بل ینحصر النفی بقاعدة نفی الضرر فی موارد ثبوت التکالیف والإلزامات فیما إذا شملت خطاباتها بإطلاقاتها صورة کون التکلیف والإلزام ضرریا.

وعلی الجملة بناءً علی ما ذکرنا من کون نفی الضرر ناظرا إلی التکالیف والإلزامات التی تکون فیها مدلولات الخطابات الشرعیة بیانا لعقد الحمل فیها، وأنه مثلاً لم یجعل الوجوب للوضوء أو الغسل أو الصوم إذا کان ضرریا، وأما الأحکام الترخیصیة فیما إذا کان الموجب للضرر اختیار المکلف فلا یکون بالإضافة إلیها حکومة، فإن الضرر لم ینشأ من الترخیص، نعم الجمع العرفی بین الخطابین بحمل أحدهما علی الحکم بالعنوان الأولی والآخر علی الحکم بالعنوان الثانوی یصح بالإضافة إلی فقرة لا ضرار بناءً علی أن نفیه بمعنی تحریم الإضرار بالغیر، وتکون النتیجة بمقتضی الجمع مثلاً جواز الفعل فی غیر صورة الإضرار بالغیر وعدم الجواز معه.

ص : 101

.··· . ··· .

وکذا یصح الجمع بهذا النحو بتقیید خطابات التکالیف بقاعدة نفی الضرر بناءً علی أن معنی لا ضرر ولا ضرار بمعنی تحریمهما، فالوضوء الضرری یکون حراما فیقید لا محالة وجوبه واستحبابه بما إذا لم یکن ضرریا، وکذا غیره من الأفعال المحکومة بالجواز بالمعنی الأعم بحیث یشمل الوجوب والاستحباب والإباحة بالمعنی الأخص، والفرق بین کون نفی الضرر تحریما للضرر أو نفیاً لوجوبه عند کونه ضرریا، أنه إذا توضأ المکلف مع کونه ضرریا یحکم ببطلانه، بناءً علی تحریم الضرر حیث إن تحریمه یعم الضرر علی المکلف، بخلاف الضرار فإنه ظاهر فی إضرار الغیر ولا یعم ضرر الفاعل، وأما بناء علی کون لا ضرر نفی الوجوب الضرری فلا یحکم ببطلانه إلاّ إذا کان الضرر بحیث یعد جنایة علی النفس فیحرم إیراد ذلک الضرر ولو کان علی نفسه؛ لأنّ خطاب نفی الضرر وإن یرفع وجوب الوضوء، ولکن لا یرفع استحبابه مادام لم یصل إلی حدّ الضرر المحرم، بخلاف ما إذا قیل بأن معنی لا ضرر تحریم الضرر مطلقا وإن لم یکن بتلک المرتبة فإن تحریمه مطلقا یوجب التقیید فی خطاب استحباب الوضوء أیضا.

وعلی الجملة التقیّید فی أدلة التکالیف بقاعدة نفی الضرر بنحو الجمع العرفی یصح بناءً علی مسلک شیخ الشریعة من کون نفی الضرر والضرار بمعنی تحریمهما، فالوضوء الضرری یکون محرما فیقید إطلاق خطاب الأمر بالوضوء عند القیام إلی الصلاة ونحوها بما إذا لم یکن ضرریا.

ثم إنه قد یستشکل فی الأخذ بعموم قاعدة نفی الضرر فی غیر الموارد التی قام فیها دلیل خاص لنفی الحکم الضرری أو عمل فیها المشهور بالقاعدة، وذلک لثبوت الأحکام والتکالیف الضرریة فی الشریعة کثیرا، بدوا من الحکم بتنجس المائعات

ص : 102

.··· . ··· .

بملاقاة النجاسة المسقط لها عن المالیة رأسا أو موجبا لنقص مالیتها کما هو الحال فی بعض الجامدات، کتنجس الجلود حیث تنقص مالیتها بالغسل، وختما إلی أبواب الغرامات من الضمانات المالیة وغیرها کالحدود والتعزیرات، فإن کل واحد من الأحکام المشار إلیها کوجوب الخمس والزکاة والجهاد وغیر ذلک أحکام ضرریة ثبتت فی الشریعة، ولا یمکن تخصیص القاعدة بخروج هذه الموارد بمخصص منفصل، لاستهجان تخصیص العام بحیث لا یبقی تحته إلاّ القلیل، فیعلم أن نفی الضرر کان مقترنا بقید غیر واصل إلینا فیکون خطاب نفیه مجملاً لا یمکن التمسک به إلاّ مع إحراز أن نفی الضرر مع القید المزبور یعم المورد، کما إذا عمل المشهور فیه بالقاعدة، والقید المنکشف لا یتعین بکونه من قبیل القرینة اللفظیة، بل یمکن کونه من قبیل قرینة الحال.

کثرة التخصیص فی قاعدة لا ضرر

قد یجاب عن الإشکال کما عن الشیخ قدس سره باختصاص الاستهجان بما إذا کان المخصص متعددا وبعناوین کثیرة، وأما إذا کان خروج الأفراد الکثیرة بورود مخصص یخرج الکثیر بعنوان واحد فلا استهجان فیه، ولکن لا یخفی عدم الفرق فی الاستهجان بینهما، کما إذا ورد فی خطاب المولی لعبده: أکرم کل عالم فی البلد، وفرض أنّ کلهم من غیر الهاشمیین إلاّ واحد أو اثنین أو ثلاثة، فإنه کما یستهجن إخراج البقیة بالخطابات المتعددة، کذلک ما إذا کان بخطاب واحد بأن یرد خطاب یذکر فیه: لا تکرم غیر الهاشمی من علماء البلد، إلاّ إذا کان بنحو النسخ، والمفروض فی المقام خلافه، نعم قد یقال: إن الاستهجان یختص بما إذا کان العام بمفاد القضیة الخارجیة کالمثال المتقدم، وأما إذا کان بمفاد القضیة الحقیقیة فقلة الأفراد بعد

ص : 103

.··· . ··· .

تخصیص ذلک العام غیر مستهجن، وذلک: لأنّ القضیة الحقیقیة غیر ناظرة إلی الفرد الخارجی إلاّ بنحو الفرض والتقدیر، فیمکن أن لا یکون للعام فرد خارجا بالفعل، ولکن مفاد خطاب قاعدة نفی الضرر قضیة خارجیة علی ما تقدم فی تقریب حکومتها علی أدلة الأحکام المجعولة، وأنه لیس فی مدلولاتها من الأحکام حکم ضرری، فالإلتزام بالتخصیص بخطاب آخر ولو بعنوان واحد لا یوجب ارتفاع الاستهجان.

والتزم هذا القائل بأن الإشکال بلزوم تخصیص الأکثر غیر صحیح، فإن الموارد المشار إلیها فی الإشکال قسم منها ما یکون أصل الحکم والتکلیف المجعولین فی الشریعة ضرریا، کما فی تنجس المائعات بملاقاة النجاسة وکذا بعض الجامدات علی ما تقدم، وکذا تعلق الزکاة بالمال الذی یعتبر فی تعلقها به دوران الحول، وقاعدة نفی الضرر غیر ناظرة إلی نفی هذه الأحکام لقیام الدلیل علی ثبوت الحکم والتکلیف مع کونهما فی أصلهما ضرریین، وقسم منها لا یرتبط أصلاً بمدلول قاعدة نفی الضرر کالموارد التی قام الدلیل فیها علی تدارک الضرر والجنایة، نظیر ضمان المال المتلف فی یده بإفراط أو تفریط، أو ضمان المال الذی أتلفه ودیة الجنایة التی ارتکبها، فإنّ هذه الموارد غیر داخلة فی عموم نفی الضرر فإن مفادها نفی الحکم والتکلیف الموجب للضرر، لا نفی الحکم الموجب لتدارک الضرر، فإن شئت قلت نفی الضرر کنفی ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه للإمتنان، ولا إمتنان لنفی الضرر فی موارد تدارک الضرر، فإن الحکم بعدم التدارک یفتح بابا لانتشار الضرر، نظیر المصلحة الملزمة فی القصاص الذی یفصح عنه قوله سبحانه: «ولکم فی القصاص حیاة یا اُولی

ص : 104

.··· . ··· .

الألباب لعلکم تتقون»(1)، ولذا یمکن دعوی أن خروج الموارد التی یکون التکلیف فی أصله ضرریا للمصلحة الموجودة فی متعلقه جعله امتنان، فلا یعم مواردها قاعدة نفی الضرر، وهذه الدعوی علی إطلاقها محل تأمل، إلاّ أنه إذا کان من قبیل جعل الحکم والتکلیف لواقع الضرر بخصوصه فلا یرتفع کسائر الأحکام الموضوعة لعنوان الخطأ والنسیان وغیرهما.

وعلی الجملة: قاعدة نفی الضرر لا تشمل الموارد التی یکون الحکم والتکلیف فیها موجبا لعدم نفع المکلف، کموارد تعلق الخمس بالمال حیث إن المکلف لا یملک من الربح مقدار الخمس، وکذا لا یشمل موارد الحکم بتدارک الضرر، بل لا یکون تخصیصها بالدلیل القائم علی ثبوت الحکم والتکلیف الضرریین فی أصلهما، نعم ثبوتهما فی مورد کونهما ضرریین کشراء ماء الوضوء ولو بثمن غالٍ تخصیص، وهذه الموارد لیست بحیث یوجب خروجها عن قاعدة نفی الضرر الاستهجان فی خطاب نفیه، فیؤخذ بعموم القاعدة فی الموارد التی یقتضی إطلاق خطاب التکلیف والوضع اللازم له ثبوتهما حتی فی حال کونهما ضرریین، ویحکم باختصاصهما بغیر حال الضرر، وإذ قام دلیل علی ثبوت ذلک الحکم حتی فی حال کونه ضرریا فی مورد یکون مخصصا للقاعدة کقیام الدلیل علی تنجس الزیت والمرق بملاقاة النجاسة أیضا کسائر الأشیاء الطاهرة، وقد ظهر مما ذکرنا أن قاعدة نفی الضرر تنحصر حکومتها علی الموارد التی یکون إطلاق خطاب التکلیف أو الوضع الملازم له مقتضیا لثبوت ذلک التکلیف والوضع حتی فی مورد کونهما

ص : 105


1- (1) سورة البقرة: الآیة 179.

.··· . ··· .

ضرریین فیحکم بعدم ثبوتهما فی مورد کونهما ضرریین، وأما الموارد التی یکون أصل جعل التکلیف والوضع ضرریاً فیمکن أن یقال بأن خروجها عن القاعدة بالتخصّص؛ لأنها من قبیل جعل الحکم لعنوان الضرر بخلاف ما إذا کان مقتضی خطاب التکلیف أو الوضع الملازم له ثبوتهما حتی فی مورد کونه ضرریا، فیکون الدلیل المزبور مخصصا لها نظیر قیام الدلیل علی تنجس الملاقی للنجس ولو کان الملاقی مثل الزیت والسمن والجلود، فإن الأخذ بإطلاق ما دل علی تنجس الطاهر لقیام الدلیل الخاص فی الزیت والسمن ونحوهما، وکبقاء الزوجیّة فیما إذا غاب زوجها المعلوم حیاته فإنه تبقی الزوجیة ما لم یطلقها زوجها، وإن لم یکن فی البین من ینفق علیها من قبل زوجها.

موارد حکومة قاعدة نفی الضرر، وإن المراد بالضرر الضرر الواقعی

الأمر الثانی: قد تقدم أن المنفی بقاعدة نفی الضرر کل حکم یقتضی إطلاق خطابه وعمومه ثبوته فی مورد الضرر، فإن لم یقم دلیل خاص علی ثبوته فی ذلک المورد مع کونه ضرریا ینفی بقاعدة نفی الضرر، والضرر من العناوین الواقعیة التی لا دخل للعلم والجهل فیهما، وعلیه فلو فرض کون لزوم البیع ضرریا یرتفع سواء کان المکلف عالما بحال البیع والشراء أو جاهلاً به، مع أنهم ذکروا فی خیاری العیب والغبن أنّ المشتری إن کان عالما بحال المبیع، وأنه معیوب أو أنّ القیمة السوقیة أقل مما یشتری بها، فلا یثبت له خیار العیب أو الغبن، وکذلک ذکروا أن المکلّف لو کان جاهلاً بحال الوضوء أو الغسل من کونهما ضرریین فتوضأ أو اغتسل یحکم بصحة وضوئه وغسله، ولو کان الحکم الضرری منتفیا، لزم الحکم بثبوت خیاری العیب والغبن فی الصورة الاُولی، وبفساد الوضوء أو الغسل فی الصورة الثانیة، ولکن

ص : 106

.··· . ··· .

لا یخفی ما فیه، فإنه قد ذکرنا سابقا عدم کون الدلیل علی ثبوت خیار الغبن والعیب هو قاعدة نفی الضرر، بل هو مقتضی اشتراط السلامة وعدم اختلاف القیمة السوقیة مع الثمن المسمی باختلاف لا یتسامح فیه، ومع علم المشتری بحال المبیع من کونه معیبا أو مع علمه بالاختلاف الفاحش بین القیمتین بلا اشتراط بین المتبایعین، نعم أصل صحة البیع فی مورد الغبن أو العیب وإن یکن ضرریا، إلاّ أن قاعدة نفی الضرر لا تنفی الصحة؛ لأنّ نفیها خلاف الإمتنان، فإنّ المشتری مع جهله بالحال یمکن له فسخ المعاملة بتخلف شرطه، والعالم بالحال ربما یکون غرضه الوصول إلی المعیب أو المثمن ولو بثمن غال، ونفی الصحة سدّ لوصوله إلی غرضه، ولذلک قد فرقوا بین إکراه شخص بمعاملة أو اضطراره إلیها، وقالوا إن نفی الإکراه یرفع صحة المعاملة المکره علیها، لکون الرفع موافقا للإمتنان، ورفع الاضطرار لا یعم المعاملة المضطر إلیها لکون رفعها بعدم إمضائها خلاف الإمتنان، وبهذا یظهر الحال فی الوضوء والغسل الضرریین، فإنه لو کان الضرر المترتب علی الوضوء أو الغسل بحیث لا یحرم ارتکابه یمکن أن یحکم بصحته، نظیر کون الوضوء أو الغسل حرجیّا فإنّ قاعدة نفی الضرر کقاعدة نفی الحرج، لا تعم الفرض لکون الرفع خلاف الإمتنان مع الغفلة عن الضرر، بل لو حکم بعدم وجوبهما أمکن الحکم بصحتهما بأدلة استحباب الوضوء والغسل کقوله سبحانه: «إن اللّه یحب التوابین ویحب المتطهرین»(1) بخلاف ما إذا کان الضرر بحیث یکون إیراد ذلک الضرر محرما علی المکلف، فإن الفعل فیه غیر قابل للتقرب به، وهذا بخلاف ما إذا صام المکلف فی شهر رمضان مع کونه مریضا

ص : 107


1- (1) سورة البقرة: الآیة 222.

.··· . ··· .

یضرّ به الصوم فإنه یحکم ببطلانه حتی فیما إذا اعتقد عدم الضرر، وذلک لا لحکومة قاعدة نفی الضرر علی وجوب الصوم، بل لأنّ المریض لم یشرّع فی حقه الصوم إذا أضرّ به؛ وعلی الجملة فیمکن الالتزام بأن الوضوء أو الغسل مع کونهما ضرریین بضرر لا یحرم إیراده علی النفس صحیح، أخذا، بعموم أدلة استحباب الطهارة من الحدث، وحدیث لا ضرر لا حکومة له بالإضافة إلی أدلة المستحبات وسائر الأحکام الترخیصیة إذا کان الضرر فیها متوجها إلی نفس المکلف، نعم إذا کان الضرر المتوجه إلیه بحدّ الحرام فالوضوء أو الغسل محکوم بالبطلان إلاّ فی فرض الغفلة والنسیان عن کونهما ضرریین، بناءً علی عدم الحرمة الواقعیة فی حق الغافل، نظیر ما ذکرنا فی باب اجتماع الأمر والنهی من أنه مع الغفلة ونسیان الغصب یحکم بصحة الوضوء أو الغسل، ولو مع کون الماء ملک الغیر فیما إذا لم یکن الغافل والناسی هو الغاصب، ولکن ذکر المحقق النائینی قدس سره أن الوضوء أو الغسل فی مورد کونهما ضرریین محکوم بالبطلان حتی فیما إذا لم یکن الضرر بحدّ الحرام.

وبتعبیر آخر لا فرق بین صوم المریض إذا کان ضرریا وبین الوضوء والغسل الضرریین، وذکر فی وجه ذلک أن المکلف قد قسّم فی الآیة المبارکة إلی واجد الماء وفاقده، وأن الأول مکلف بالوضوء أو الغسل لصلاته والثانی یجب علیه التیمم لها، والتقسیم قاطع الشرکة، ومقتضی التخییر بین الوضوء والغسل وبین التیمم مع عدم کون الضرر بحدّ الحرام کون المکلف فی زمان واحد فاقد الماء وواجده، فلا یجتمع هذا مع التقسیم وفیه أن هذا التقسیم بلحاظ وظیفة المکلّف بالإضافة إلی صلاته إذا کان عند القیام إلیها محدثا، وفی موارد کون الوضوء أو الغسل حرجیا أو ضرریا لا بحدّ الحرام یکون الحکم بصحة الوضوء أو الغسل بما دلّ علی استحباب الطهارة

ص : 108

.··· . ··· .

نفسیا للمحدث، ولا حکومة لقاعدتی نفی الحرج والضرر مع عدم کونه بحد الحرام بالإضافة إلی خطاب استحباب الطهارة، فیکون الوضوء أو الغسل صحیحا، ومعه یخرج المکلف عن المحدث المزبور عند قیامه إلی الصلاة هذا أولاً، وثانیا: أن الموضوع لوجوب التیمم للصلاة فی الآیة المبارکة هو من لم یجد الماء، أی من لم یتمکن من استعماله لفقد الماء أو لمرضه کما هو مقتضی تفریع قوله سبحانه: «فلم تجدوا ماءً»(1) علی قوله: «وإن کنتم مرضی أو علی سفر . . .»(2) وإذا کان الضرر غیر محرم فالمکلف متمکن من استعماله، ومقتضی التقسیم فی الآیة لزوم الوضوء أو الغسل فی حقه، فإنما التزمنا بعدم وجوب الوضوء فی حقه لقاعدة نفی الضرر کما هو الحال أیضا فی موارد کونه حرجیا.

وذکر النائینی قدس سره أنه إذا اعتقد الضرر فی الوضوء أو الغسل ثم ظهر بعد ذلک عدم الضرر فی استعمال الماء یحکم بصحة صلاته؛ لأنّ المکلف فی فرض اعتقاده الضرر لا یتمکن من استعمال الماء، نظیر ما إذا اعتقد عدم الماء فتیمّم وصلی ثم علم أن الماء کان موجودا عنده.

أقول: إنما لا تجب الإعادة فیما إذا اعتقد عدم الماء وتیمّم وصلی إذا کان انکشاف وجود الماء عنده بعد خروج الوقت؛ لأنّ هذا الانکشاف لا یترتب علیه أثر؛ لأنه مع اعتقاده عدم الماء فی تمام الوقت لا یتوجه إلیه خطاب الوضوء أو الغسل للصلاة فیدخل فی قوله سبحانه: «فلم تجدوا ماءً» حیث إن المراد منه عدم تمکنه من الوضوء والغسل لصلاته ولو لغفلته عن الماء واعتقاده عدمه، وأما فی فرض

ص : 109


1- (1) و (2) سورة النساء: الآیة 43.

.··· . ··· .

اعتقاد الضرر وحتی مع خوفه من الضرر مع کون الضرر المحتمل مما یحرم إیقاع نفسه فیه کالهلاکة ویجب علیه التحفظ علی نفسه منه، فالأمر کما ذکر فی فرض الاعتقاد بعدم الماء من أنه لو انکشف بعد خروج الوقت أنه لم یکن فی استعماله ذلک الضرر فیحکم بإجزاء ما صلی فی الوقت بتیمم، نعم إذا انکشف فی فرض الاعتقاد بعدم الماء، وجود الماء عنده حین الصلاة مع التیمم أو عدم الضرر کما ذکر فی الوضوء أو الغسل یجب علیه إعادة الصلاة بالطهارة المائیة فی الوقت، وأما إذا کان اعتقاده بالضرر فی استعمال الماء بالضرر غیر المحرّم، فتیمّم وصلی ثم انکشف بعد خروج الوقت أنه لم یکن فی استعماله ذلک الضرر أیضا، فاللازم الحکم بقضائها ولا یجری فی هذه الصورة حکم الاعتقاد بعدم الماء، وذلک فإنه بناءً علی حرمة الإضرار بالنفس بهذه المرتبة کان علیه فی الوقت أمر بالصلاة مع الطهارة المائیة، غایة الأمر کان یعتقد أن هذا الأمر استحبابی وکان فی الواقع واجبا لعدم الضرر أصلاً، فالصلاة الواجبة قد فاتت فعلیه قضاؤها، هذا کله بالإضافة إلی قاعدة لا ضرر مع قطع النظر عن الروایات الواردة فی التیمّم فی بعض هذه الفروض، وإلاّ مع النظر إلیها فإن الذی اعتقد عدم الماء معه عند صلاته بتیمّم ثم ظهر قبل خروج الوقت وجوده فعلیه الإعادة، وأما إذا اعتقد أو احتمل الضرر المحرم فی الوضوء أو الغسل فتیمّم وصلی ثم انکشف قبل خروج الوقت أنه لیس فی الوضوء أو الغسل ذلک الضرر فلا یجب علیه الإعادة.

وفی صحیحة أبی بصیر قال: «سألته عن رجل کان فی سفر، وکان معه ماءً فنسیه فتیمّم وصلی، ثم ذکر أن معه ماء قبل أن یخرج الوقت، قال: علیه أن یتوضأ

ص : 110

لا الثابت له بعنوانه، لوضوح أنه العلّة للنفی، ولا یکاد یکون الموضوع یمنع عن حکمه وینفیه بل یثبته ویقتضیه.

ومن هنا لا یلاحظ النسبة بین أدلّة نفیه وأدلّة الأحکام، وتقدم أدلّته علی أدلّتها _ مع أنها عموم من وجه _ حیث إنه یوفق بینهما عرفاً، بأن الثابت للعناوین الأوّلیة اقتضائی، یمنع عنه فعلاً ما عرض علیها من عنوان الضرر بأدلّته، کما هو الحال فی

ویعید الصلاة»(1)، وفی صحیحة عبداللّه بن سنان أنه سأل أبا عبداللّه علیه السلام : «عن رجل أصابته الجنابة فی لیلة باردة یخاف علی نفسه التلف إن اغتسل قال: یتیمم ویصلّی، فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة»(2)، وتحمل الإعادة فیها علی الاستحباب أو حصول الأمن قبل خروج الوقت علی ما ذکرنا فی بحث التیمم من أنّ استمرار الخوف إلی خروج الوقت کافٍ فی جواز التیمم، کما یشهد بذلک مثل صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل تصیبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو یخاف علی نفسه من البرد، فقال: لا یغتسل ویتیمّم»(3) وظاهره کون الوظیفة مع استمرار الخوف هو التیمّم لصلاته حتی لو فرض عدم الضرر واقعاً.

بقی فی المقام أمر، وهو ما یمکن أن یتوهم أن الضرر بالنفس أو الطرف وإن یکن حراما إلاّ أنه لا ینطبق علی نفس الوضوء ولا یتحدان وجودا فیکون التکلیف بالوضوء مع حرمة الإضرار بالنفس أو الطرف من المتزاحمین، ولازم ذلک الحکم بصحة الوضوء ولو مع علمه بالضرر، لا أنه یقع التعارض بین الأمر بالوضوء وحرمة الظلم والإضرار بالنفس لیقدم حرمتهما علی خطاب الأمر بالوضوء بالتقیید، بل کما

ص : 111


1- (1) وسائل الشیعة 3:367، الباب 14 من أبواب التیمم، الحدیث 5.
2- (2) المصدر السابق: الحدیث 6.
3- (3) وسائل الشیعة 3:348، الباب 7 من أبواب التیمم، الحدیث 8.

.··· . ··· .

قیل فی البین وجودان أحدهما: وصول الماء إلی الأعضاء بالکیفیة الخاصة بقصد الوضوء، والثانی: حصول النقص فی النفس والطرف، وهذا هو الضرر، ویحصل الثانی بحصول الأول فیتسبب الضرر من حصول الوضوء، ولکن لا یخفی لو سلّمنا أنّ الضرر علی النفس أو الطرف لا یتحد مع الوضوء وجودا إلاّ أن الأمر بالوضوء علی تقدیر عصیان النهی المتعلق بالمسبب أمر غیر معقول حتی لو کان الأمر استحبابیا، کما هو الحال فی موارد الترکیب الاتحادی وتقدیم جانب النهی، وکما إذا کان الماء منحصرا بالمغصوب لا یمکن الأمر بالوضوء ولو بنحو الترتب، حیث إن عصیان النهی یکون بحصول الأمر المتحد مع المنهی عنه فیکون الأمر الترتبی به من قبیل طلب الحاصل کلاً أو بعضا، وکذا الحال فی موارد تسبب المنهی عنه عما ینطبق علیه عنوان متعلق الأمر کلاً أو بعضا، وفی الفرض بما أن الضرر علی النفس أو الطرف بأی سبب حرام، ومع فرض حصوله بغسل البدن تماما کما فی الغسل أو بعضه کما فی الوضوء لا یمکن الأمر بهما لکونه من قبیل طلب الحاصل، ودعوی أنّ الأمر یتعلق بقصد الوضوء أو الغسل علی تقدیر غسل البدن أو الأعضاء کما تری، فإن الأمر بالوضوء أو الغسل طلب إحداثهما لا قصدهما فقط.

وبالجملة مع عدم الأمر بهما ولو ترتبا لا کاشف عن الملاک فیهما لیحکم بصحتهما حتی مع العلم، نعم مع الغفلة عن کونهما مضرّین یمکن الحکم بصحتهما لسقوط النهی عن الإضرار بالنفس أو الطرف للغفلة، ویؤخذ بإطلاق الأمر بالوضوء والغسل کما هو المقرر فی باب اجتماع الأمر والنهی، وهذا الأخذ بالإطلاق مبنی علی سقوط النهی والحرمة مع الغفلة عن الفعل کنسیانه، وإلاّ فالصحة فی فرض الغفلة أیضا فیها تأمل بل منع.

ص : 112

التوفیق بین سائر الأدلّة المثبتة أو النافیة لحکم الأفعال بعناوینها الثانویة، والأدلّة المتکفّلة لحکمها بعناوینها الأوّلیة.

نعم ربما یعکس الأمر فیما أحرز بوجه معتبر أن الحکم فی المورد لیس بنحو الإقتضاء، بل بنحو العلیّة التامة.

وبالجملة الحکم الثابت بعنوان أوّلی:

تارة یکون بنحو الفعلیة مطلقاً، أو بالإضافة إلی عارض دون عارض، بدلالة لا یجوز الإغماض عنها بسبب دلیل حکم العارض المخالف له، فیقدّم دلیل ذاک

ثم إنه قد یستظهر حرمة الإضرار بالنفس بأی مرتبة من الضرر من بعض الروایات کالتی رواها فی الکافی فی أول کتاب الأطعمة، حیث ورد فیها «ولکنه خلق الخلق وعلم (عزّ وجلّ) ما تقوم به أبدانهم وما یصلحهم فأحلّه لهم وأباحه تفضلاً منه علیهم به لمصلحتهم، وعلم ما یضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه علیهم»(1)، ولکن لا یخفی أن الإضرار بالنفس فی مثل هذه الروایات یؤخذ حکمة للتحریم کتحریم المیتة والدم وغیر ذلک، کما یجعل حکمة فی النهی التنزیهی فی بعض المأکولات، ومن الظاهر أن لحاظ الإضرار حکمة فی بعض الأحکام غیر کونه موضوعا للحکم بالحرمة وعلة لها، وما ینفع فی التعدی أو التمسک به هو الثانی لا الأول.

الأمر الثالث: قد یقال بأن قاعدة نفی الضرر کما تکون حاکمة علی التکلیف والوضع الملازم له، فیما إذا اقتضی إطلاق خطابهما ثبوتهما حال الضرر، وکذلک تکون حاکمة علی الأحکام العدمیة أی عدم الحکم فیما إذا کان عدمه فی مورد ضرریا، مقتضی قوله علیهم السلام «الطلاق بید من أخذ بالساق»(2) عدم إمضاء الشارع

ص : 113


1- (1) الکافی 6:242، الحدیث الأول.
2- (2) مستدرک الوسائل 15:306.

العنوان علی دلیله.

وأخری یکون علی نحو لو کانت هناک دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً، حیث کان اجتماعهما قرینة علی أنه بمجرد المقتضی، وأن العارض مانع فعلی، هذا ولو لم نقل بحکومة دلیله علی دلیله، لعدم ثبوت نظره إلی مدلوله، کما قیل.

ثم انقدح بذلک حال توارد دلیلی العارضین، کدلیل نفی العسر ودلیل نفی الضرر مثلاً، فیعامل معهما معاملة المتعارضین لو لم یکن من باب تزاحم

الطلاق الصادر من غیر الزوج، وإذا کان عدم الإمضاء ضرریا بالزوجة کما إذا امتنع الزوج عن إنفاقها وطلاقها یکون للحاکم أن یطلقها، حیث إنّ عدم إمضائه ضرری بالزوجة فنفیه یکون بإمضائه، وقد ذکر السید الیزدی قدس سره علی ما فی ملحقات العروة فی مسألة زوجة المفقود وأیّده ببعض الروایات الواردة فی زوجة الغائب المفقود خبره، وکذا فیما حبسه شخص وشردت دابته فإن الحکم بعدم ضمان الحابس ضرر علی المالک المحبوس، فیکون مقتضی رفع الضرر ضمانه، ونظیره ما إذا حبسه فأبق عبده أو فتح قفصه وطار طیره، ولکن لا یخفی أن الحکم بالضمان فی هذا وما قبله من قبیل تدارک الضرر الناشئ عن اختیار الحابس وإرادته، وقاعدة نفی الضرر لا تتکفل بحکم تدارک الضرر علی ما تقدم، ودعوی أن فتح القفص أو حبس المالک یعد إتلافا لطیره أو دابته لا یمکن المساعدة علیها مطلقا، نعم إذا صح الاستناد فی مورد فلا بأس بالأخذ بقاعدة الإتلاف التی تقدم عدم حکومة قاعدة لا ضرر بالإضافة إلیها، وأما إثبات صحة طلاق غیر الزوج مع إمتناعه عن إنفاقها فهو أیضا لا یمکن؛ لأنّ الضرر ینشأ من ترک إنفاق الزوج وطلاق الحاکم یکون تدارکا للضرر، وإلاّ فالضرر فی نفس بقاء الزوجیة، فیکون مقتضی قاعدة نفیه انفساخ الزوجیة، نعم جعل الشارع لتخلّصها طریقا فیما إذا امتنع الزوج عن إنفاقها وطلاقها، فإنّ للحاکم الطلاق بعد

ص : 114

المقتضیین، وإلاّ فیقدّم ما کان مقتضیه أقوی وإن کان دلیل الآخر أرجح وأولی، ولا یبعد أن الغالب فی توارد العارضین أن یکون من ذاک الباب، بثبوت المقتضی فیهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته إلاّ فی أحدهما، کما لا یخفی، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولی أو ثانوی آخر.

وأما لو تعارض مع ضرر آخر فمجمل القول فیه أن الدوران إن کان بین ضرری شخص واحد أو اثنین فلا مسرح إلاّ لإختیار أقلهما[1]. لو کان، وإلاّ فهو مختار.

ثبوت ذلک عنده وهذا لا یرتبط بنفی الضرر وقاعدة نفیه، ومما ذکرنا یظهر الحال فیما هو المبتلی به فی عصرنا من تحمل الدائن بعض المصارف لتحصیل الدین علی مدیونه الممتنع عن الأداء، أو استخلاص ملکه عن ید الغیر الغاصب، حیث إن الحکم بالضمان من قبیل تدارک الضرر یکون بامتناع المدیون أو إمساک الغاصب داعیا له إلی صرف المالک المال، لا أنه سبب له بحیث یستند التلف إلیه لا إلی المالک.

[1] یقع الکلام فی حکم تعارض الضررین فی مسائل: الاُولی، ما إذا دار أمر المکلف بإیراد أحد ضررین یکون کل منهما من قبیل الإضرار بالنفس لا بالغیر، والثانیة: ما إذا دار أمره بین ضررین یکون کل منهما من قبیل الإضرار بالغیر، الثالثة: ما إذا دار أمره بین ضرر نفسه وضرر الغیر.

أما المسألة الاُولی: فإن کان کل من الضررین من قسم غیر الحرام أو أحدهما محلّل والآخر محرّم، فیتخیر فی الأول، ولزم اختیار المحلل فی الثانی، وأما إذا کان کل منهما محرّما فلاینبغی التأمل فی دخول الفرض فی المتزاحمین، ویتعین اختیار المهم والاجتناب عن الأهم أو محتمل الأهمیة، ومع التساوی أو احتمال الأهمیة فی کل منهما یکون الحکم هو التخییر علی ما هو المألوف فی باب التزاحم، وبهذا یظهر

ص : 115

.··· . ··· .

الحال فی المسألة الثانیة، فإن الاضرار بالغیر بکل من الضررین محرم، فلابد من اختیار الأخف، وملاحظة احتمال الأهم، ویترتب علی ذلک أنه إذا أدخل رأس دابته فی إناء شخص آخر فإن للحاکم الأمر بکسر الإناء، فیما إذا لم یتراضیا بغیره، ویکون ضمان تلف الإناء علیهما بقاعدة العدل والإنصاف، فإنه لا یمکن للحاکم ذبح الحیوان أو الأمر به، حیث لا موجب لإدخال الضرر الکثیر علیهما، نعم إذا کان إدخال رأسها بفعل شخص ثالث لا یبعد تخییر الثالث فی اختیار کسر الإناء أو ذبح الحیوان؛ لأنه مکلف بإیصال أحد المالین إلی مالکه بعینه، والآخر إلی الآخر ببدله وضرر الإتلاف یتوجه إلی نفسه.

ومن هنا لو کان الإدخال بفعل أحد المالکین یتوجه علیه إتلاف مال نفسه، وتخلیص مال صاحبه لو لم یرض صاحبه بإتلاف ماله مع الضمان أو بدونه، فإن إتلاف مال نفسه مقدمة لإیصال مال صاحبه إلیه، لا یقال: إتلاف مال نفسه ضرری بالإضافة إلیه فینفی بقاعدة لا ضرر، فإنه یقال: لا حکومة لقاعدة نفی الضرر فی المقام حیث إن نفی وجوب رد مال صاحبه إلیه ضرری مع أنه أقدم علی ضرر نفسه بإدخاله رأس الحیوان فی الإناء.

وهذا فیما إذا لم یحرز أهمیة التحفظ علی أحد الضررین، وإلاّ یتعین الاحتفاظ علیه ولو کان بفعل أحد المالکین، کما إذا أدخل مالک العبد رأس عبده فی قدر شخص آخر، أو أدخل العبد رأسه فیه، أو أدخل شخص آخر رأسه حیث یجب التحفظ علی النفس المحترمة.

وأما المسألة الثالثة: وهی ما إذا دار الأمر بین ضرر نفسه والإضرار بالغیر، ویلحقها ما إذا دار الأمر بین حرمانه وعدم انتفاعه بملکه وبین ضرر الغیر، کما لو کان

ص : 116

.··· . ··· .

حفر البالوعة فی داره إضرارا بالجار، وترک حفرها ضررا علیه أو فیه حرج علیه، وقد یقال: فیما إذا کان حفرها إضراراً بالجار وترک حفرها حرجا أو ضررا علی نفسه بالجواز، فإنه فی صورة الحرج فی ترک حفرها ترتفع حرمة الإضرار بنفی الحرج، وفی صورة تضرّره إما یکون حدیث نفی الضرر والإضرار مجملاً للعلم بخروج الفرض إما من صدر الحدیث أو من ذیله؛ لأنّ جواز تصرفه فی ملکه بحفرها إضرار بالجار وحرمة حفرها ضرر علی نفسه، فلا یمکن التمسک بشیء من الصدر والذیل فیرجع إلی أصالة البراءة بالإضافة إلی احتمال الحرمة فی التصرف فی ملکه بحفرها، وأما لأنّ فقرة لا ضرار لا یمکن التمسک بها فإنها للإمتنان، ولا إمتنان فی ترک الإضرار بالغیر بحرمانه من التصرف فی ملکه إذا کان فی ترکه ضرر علی نفسه، فیرجع إلی عموم ما دل علی جواز تصرف المالک فی ملکه وعموم سلطنته.

ولکن لا یخفی أنه لو کان ترک التصرف فی ملکه وحرمانه عن الانتفاع به بحفر البالوعة فیه حرج لا یرتفع بقاعدة نفی الحرج، حرمة الإضرار بالغیر؛ لأنّ قاعدة نفی الحرج کقاعدة نفی الضرر مورد جریانها موارد الامتنان فی الرفع، ولا امتنان فی رفع حرمة الإضرار بالغیر، فیؤخذ فیه بقاعدة نفی الحرج.

وعلی الجملة: لا یجری فی الفرض لا قاعدة نفی الحرج ولا نفی الضرر، وعلی ذلک فإن کان فی البین عموم أو إطلاق یدل علی جواز تصرف المالک فی ملکه ولم یرفع الید عن إطلاقه فیما کان ذلک التصرف إضرارا بالغیر وعدوانا علیه فهو، وإلاّ فالتصرف المزبور محکوم بعدم الجواز إلاّ إذا کان التصرف بحیث لا یتضرر الجار به، ولو فرض أن الضرر یتوجه إلی شخص لا بفعل شخص آخر فلا یجوز له دفع الضرر عن نفسه بإیراده علی الغیر، بخلاف ما إذا کان الضرر متوجها إلی ذلک الغیر لا بفعله

ص : 117

وأما لو کان بین ضرر نفسه وضرر غیره، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر، ولو کان ضرر الآخر أکثر، فإن نفیه یکون للمنّة علی الأمة، ولا منّة علی تحمل الضرر، لدفعه عن الآخر وإن کان أکثر.

نعم لو کان الضرر متوجهاً إلیه، لیس له دفعه عن نفسه بإیراده علی الآخر، اللّهمّ إلاّ أن یقال: إن نفی الضرر وإن کان للمنّة، إلاّ أنه بلحاظ نوع الأمة، واختیار الأقل بلحاظ النوع منّة، فتأمل.

فإنه لا یجب علیه إیراد الضرر علی نفسه بدفعه عن الغیر، فإنّ توجیه الضرر إلی الغیر لدفعه عن نفسه داخل فی عنوان التعدی والإضرار علی الغیر، ولا حکومة فی الفرض لقاعدتی لا ضرر ولا حرج، نعم إذا کان دفع الضرر عن نفسه أهم وإیراد الضرر علی الغیر مهم، کما إذا توقف حفظ حیاته علی إتلاف مال الغیر تعین دفع الضرر عن نفسه ولو باتلاف مال الغیر، کما إذا توقف حفظ حیاة الجالس فی السفینة علی إلقاء مال الغیر الموجود فیها فی البحر، جاز إذا أکره بالقتل إذا لم یدفع إلی المکره (بالکسر) مال الغیر، ولا یبعد الإلتزام بعدم الضمان أیضا لو لم یکن الإمساک بمال الغیر لتلفه بغرق السفینة، أو بأخذ المکره لا محالة، وأما إذا لم یکن الأمر کذلک بأن لم یکن مال الغیر تالفا لولا إتلافه، فإتلافه وإن کان جائزا إلاّ أنه یوجب الضمان، فإنّ الضمان لا ینافی جواز الفعل تکلیفا، وقاعدة نفی الضرر لا تنفی ضمان الإتلاف، فإن الضمان من الأحکام المجعولة لعنوان الضرر علی الغیر بل نفیه خلاف الإمتنان، وقد یقال من هذا القبیل أی من قبیل توجه الضرر إلی الغیر ما إذا أکرهه شخص علی أخذ مال الغیر ودفعه إلی المکرِه (بالکسر)، وإلاّ یأخذ ذلک المکره (بالکسر) من نفس المکره (بالفتح) بدعوی ما تقدم، من أنه لا یجب دفع الضرر المتوجه إلی الغیر بتحمله، ولکن لا یخفی ما فیه فإن متعلق الإکراه فی الفرض الجامع بین الأمرین،

ص : 118

.··· . ··· .

أحدهما: وهو دفع المال عن الغیر تصرف حرام، والآخر: محلل وهو دفع ماله فلا موجب للبین لحلیة التصرف فی مال الغیر، ولو کان أقل لعدم جریان قاعدة لا ضرر ولا حرج، لکون رفع حرمة التصرف فی مال الغیر خلاف الامتنان، نعم إذا کان ضرر المکره علیه بحیث یجب التحفظ منه فیجوز التصرف فی مقام التزاحم، کما ذکرنا ذلک فی قضیة سمرة وفی المثال المتقدم فی المقام.

ص : 119

ص : 120

الاستصحاب

اشارة

فصل

فی الاستصحاب وفی حجیته إثباتاً ونفیاً أقوال للأصحاب ولا یخفی أنّ عباراتهم فی تعریفه وإن کانت شتی إلاّ أنها تشیر إلی مفهوم واحد ومعنی فارد، وهو الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شک فی بقائه:[1]

إما من جهة بناء العقلاء علی ذلک فی أحکامهم العرفیة مطلقاً، أو فی الجملة تعبداً، أو للظن به الناشیء عن ملاحظة ثبوته سابقاً.

[1] ذکر الماتن قدس سره فی تعریف الاستصحاب الذی وقع الخلاف فی إثباته ونفیه مطلقاً أو فی الجملة هو الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شک فی بقائه، والسند للحکم بالبقاء إما بناء العقلاء علی ذلک فی أحکامهم العرفیة مطلقاً أو فی الجملة تعبداً أو من جهة الظن بالبقاء الناشی من ملاحظة ثبوت الشیء سابقاً أو من جهة قیام النص أو الإجماع علیه، وهذا المعنی قابل لیقع الخلاف فی ثبوته ونفیه مطلقاً أو فی الجملة، ویقع الکلام فی وجه ثبوته مطلقاً أو فی الجملة.

وتعریفه فی بعض الکلمات بما ینطبق علی وجه ثبوته وإن یوهم أن الاستصحاب غیر الحکم بالبقاء عند الشک فیه کقول بعضهم أن الاستصحاب هو الظن بالبقاء أو کون موضوع أو حکم یقینی الحصول ومشکوک البقاء إلی غیر ذلک، إلاّ أنه لا یقتضی کون الاستصحاب ذلک الوجه، بل المذکور للإشارة إلی ثبوته من ذلک الوجه نظیر ما یذکر فی التعریف الذی من قبیل شرح الاسم کما هو الغالب علی التعاریف؛ ولذا لا مورد للمناقشة فیها بعدم الاطراد تارة، وبعدم الانعکاس اُخری، وبتعبیر آخر لو کان الاستصحاب هو نفس الوجه للثبوت لما تقابلت فیه الأقوال؛ لأن نفی وجه للثبوت لا ینافی ثبوت وجه آخر له کما هو ظاهر.

ص : 121

وإما من جهة دلالة النص أو دعوی الإجماع علیه کذلک، حسبما تأتی الإشارة إلی ذلک مفصلاً.

وذکر الشیخ قدس سره (1) أن للاستصحاب فی کلمات القوم تعاریف أسدّها أنه إبقاء ما کان، کما أن هذا أخصرها، وأزیفها ما قیل من کون حکم أو وصف یقینی الحصول فی السابق مشکوک البقاء فی اللاحق، وقال فی وجه کونه أسدّها وأخصرها: إن المراد من الإبقاء لیس هو الإبقاء الخارجی بل التعبدی أی الحکم بالبقاء وتوصیف ما ب_(کان) مع استفادته من الإبقاء للإشعار بأن الموجب للحکم ببقاء الشیء هو أنه (کان) فیخرج عن التعریف الحکم بالبقاء لثبوت علّته فی الزمان الثانی کثبوته فی الزمان الأول، أو لقیام الدلیل علی ثبوته فی الزمان الثانی أو العلم الوجدانی بثبوته فیه، وأما کون الأخیر أزیف التعاریف فإنّ کون حکم أو وصف یقینی الحصول فی السابق مشکوک البقاء مورد للحکم بالبقاء لا أنه بنفسه استصحاب.

أقول: کون الاستصحاب أمارة أو أصلاً مذکور فی کلماتهم ولو قیل بأنه من الأمارات یتعین أن یکون الاستصحاب غیر الحکم بالبقاء حیث إن الحکم نتیجة اعتبار الاستصحاب لا نفس الاستصحاب حیث إنّ الأمارة ما یکشف عن الواقع ظناً لو کان ظناً نوعیاً، وأیضاً مجرد ثبوت الشیء سابقاً بنفسه غیر موجب للظنّ بالبقاء ولا یکون ظناً بالبقاء بل الممکن دعوی الملازمة الغالبیة بین ثبوت الشی سابقاً وبقائه لاحقاً، وهذه الغلبة هی الموجبة للظن بالبقاء فی موارد احتماله، وهذا بخلاف القول بأنه أصل عملی فإنه علیه حکم ظاهری، وهل الحکم متعلقه بقاء الشیء بنفسه أو بحکمه؟ کما علیه الماتن أو نفس الیقین بالثبوت بأن یعتبر الیقین بالثبوت

ص : 122


1- (1) فرائد الاُصول 3 : 9 _ 10.

ولا یخفی أن هذا المعنی هو القابل لأن یقع فیه النزاع والخلاف فی نفیه وإثباته مطلقاً أو فی الجملة، وفی وجه ثبوته، علی أقوال.

ضرورة أنه لو کان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء علی البقاء أو الظن به الناشئ مع العلم بثبوته، لما تقابل فیه الأقوال، ولما کأن النفی والإثبات واردین علی مورد واحد بل موردین، وتعریفه بما ینطبق علی بعضها، وإن کان ربما یوهم أن لا یکون هو الحکم بالبقاء بل ذاک الوجه، إلاّ أنه حیث لم یکن بحد ولا برسم بل من قبیل شرح الإسم، کما هو الحال فی التعریفات غالباً، لم یکن له دلالة علی أنه نفس الوجه، بل للإشارة إلیه من هذا الوجه، ولذا لا وقع للإشکال علی ما ذکر فی تعریفه بعدم الطرد أو العکس، فإنه لم یکن به إذا لم یکن بالحد أو الرسم بأس.

فانقدح أن ذکر تعریفات القوم له، وما ذکر فیها من الإشکال، بلا حاصل وطول بلا طائل.

سابقاً یقیناً بالبقاء لاحقاً، أو أن متعلقه العمل علی وفق الحالة السابقة ومقتضاها المعبر عن ذلک بالإبقاء العملی والأمر بترتیب آثارها زمان الشک؟ نتعرض لذلک عند التعرض لمدارک اعتباره، وظاهر کلام الماتن لا یساعد علی کون الاستصحاب هو الإبقاء العملی فإن الحکم بالبقاء بجعل الحکم المماثل للسابق فیما کان المستصحب هو الحکم الشرعی أو جعل أثره الشرعی فیما کان المستصحب الموضوع من فعل الشارع، وعبارة الشیخ قدس سره تساعد علی الإبقاء العملی؛ ولذا یستند الاستصحاب إلی المکلف لا إلی الشارع، نعم حکم الشارع المستفاد من أدلة اعتبار الاستصحاب هو منشأ الإبقاء العملی عند المکلف فیکون المستفاد من أدلتها اعتبار الاستصحاب بخلاف ما إذا قیل إنه _ یعنی الحکم بالبقاء _ هو الاستصحاب فإنه یکون من فعل الشارع.

ص : 123

ثم لا یخفی أن البحث فی حجیته مسألة أصولیة، حیث یبحث فیها لتمهید قاعدة تقع فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة، ولیس مفادها حکم العمل بلا واسطة، وإن کان ینتهی إلیه، کیف؟ وربما لا یکون مجری الاستصحاب إلاّ حکماً أصولیاً کالحجیة مثلاً، هذا لو کان الاستصحاب عبارة عما ذکرنا.[1]

[1] لا یخفی أنه بناءً علی تعریفه قدس سره حقیقة الاستصحاب بأنه هو الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم لا یکون البحث عن حجیته بل یکون البحث عن نفس ثبوت الاستصحاب یعنی الحکم وعدم ثبوته، نعم بناءً علی أنه نفس الإبقاء العملی یمکن البحث عن اعتبار هذا الإبقاء أو عدمه سواء فسر الاعتبار بالحکم الوضعی أو بالحکم التکلیفی، کما أنه بناءً علی ما نذکره _ من أن الاستصحاب عبارة عن کون الیقین المتعلق بالحالة السابقة یقیناً بالبقاء عند الشک فیه _ أیضاً یکون البحث فی الاستصحاب بحثاً عن ثبوته وعدم ثبوته، وکیف ما کان، ذکر الماتن أن البحث عن حجیة الاستصحاب من المسائل الاُصولیة حیث یبحث فیها لتمهید قاعدة تقع فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة، ولکنه قدس سره قد ذکر فی تعریف علم الاُصول وبیان المیزان فی مسائلها _ فی أول الکتاب _ أنه یعرف بها القواعد التی تقع فی طریق الاستنباط أو التی ینتهی إلیها أمر المجتهد فی مقام العمل، وقال: إن الاُصول العملیة _ ومنها الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة بناءً علی أنه أصل عملی _ داخلة فیما ینتهی إلیه أمر المجتهد فی مقام العمل ولا یستنبط منها حکم شرعی فرعی، وما ذکر فی المقام یناقض المذکور هناک، نعم نفی فی المقام أیضاً کون الاستصحاب قاعدة فقهیة وقال لیس مفاد قاعدة الاستصحاب حکم العمل بلا واسطة، وإن کان ینتهی إلی حکم العمل وعلّله بأنها کیف تکون قاعدة فقهیة وهی قد تجری فی مسألة اُصولیة کما إذا شک فی بقاء حجیة خبر العدل أو الثقة، إذا خرج بعد إخباره عن

ص : 124

.··· . ··· .

وصف العدالة أو الثقة، والقاعدة الفقهیة هی التی یکون الحکم الوارد فیها بنفسه حکماً فرعیاً عملیاً سواء کان ذلک الحکم من سنخ التکلیف کوجوب الوفاء بالنذر والیمین أو من سنخ الوضع کمسألة وجوب الوفاء بالشرط إذا کان المراد من الوجوب نفوذه، ومسألة کل عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده، وإن کانت نتیجة تطبیق القاعدة الفقهیة علی صغراها هی الحکم الشرعی الکلی بأن یقال بثبوت الضمان فی البیع الفاسد کثبوته فی صحیحه.

أقول: لا ینبغی التأمل فی اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیة وأن ما دلّ علی اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة بعینه یدلّ علی اعتباره فی الشبهات الموضوعیة وإذا کان شمول خطاب لا تنقض الیقین بالشک لحکم اُصولی شک فی بقائه لاحقاً کالحجیة فی المثال المتقدم شاهداً لعدم کون قاعدة الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة الفرعیة الکلیة من القواعد الفقهیة لاقتضی أن لا یکون جریانه فی الشبهة الموضوعیة أیضاً بعدم کونها من القواعد الفقهیة مع أن المتسالم علیه عند الکل أن الاستصحاب الجاری فی الشبهة الموضوعیة قاعدة فقهیة خصوصاً فیما کان المستصحب هو الحکم الجزئی، وکما یقال فی وجه ذلک إنّ مدلول أخبار «لا تنقض»(1) انحلالی وهو الحکم بالبقاء عند الشک فیه فیکون الحکم بالبقاء بالإضافة إلی الشبهات الموضوعیة قاعدة فقهیة کذلک یقال بأن مدلولها بالإضافة إلی استصحاب الحکم الاُصولی لیس قاعدة فقهیة ولکن بالإضافة إلی الشبهة الحکمیة الکلیة کموارد استصحاب الحرمة أو الوجوب أو الإباحة أو الوضع

ص : 125


1- (1) تهذیب الاحکام 1 : 59، باب الأحداث الموجبة للطهارة، الحدیث 11.

.··· . ··· .

کالضمان والملکیة ونحوها قاعدة فقهیة، والإلتزام بأن الاستصحاب فیها قاعدة اُصولیة یحتاج إلی بیان الفارق بینه وبین القواعد الفقهیة.

فی الفرق بین المسألة الاُصولیة والمسألة الفقهیة

ونقول فی بیان الفارق: بأن الاستصحاب بناءً علی کونه قاعدة مستفادة من الأخبار بحیث تجری فی الشبهة الحکمیة ولو فی الجملة یدخل فی القواعد الاُصولیة لا الفقهیة سواء قلنا بأن ظاهر تلک الأخبار اعتبار علم المکلف بالحالة السابقة علماً بالحالة اللاحقة أیضاً، أو قلنا بأن المستفاد منها الحکم ببقاء المتیقن فإنه علی الأول یکون نتیجة ضمّ کبری الاستصحاب إلی صغراها فی الشبهة الحکمیة العلم بالحکم الواقعی الفرعی الکلی لا نفس الحکم الفرعی الکلی، وکون النتیجة العلم بالحکم الواقعی الفعلی من خواص المسألة الاُصولیة منفردة أو منضمة إلی مسألة اُخری من المسائل الاُصولیة، وهذا بخلاف المسائل الفقهیة فإن القیاس فیها نتیجة ثبوت نفس الحکم الفرعی سواء کان الثابت جزئیاً أو کلیاً، وبتعبیر آخر یکون المحمول فی کبری المسألة الاُصولیة هو العلم بالحکم بخلاف المسألة الفقهیة فإن المحمول فیها نفس الحکم الشرعی العملی، وکذا ما إذا قیل بأن المستفاد من أخبار لا تنقض الحکم ببقاء المتیقن بجعل المماثل للحکم السابق مادام الجهل بالبقاء أو الأمر بالعمل علی طبق الحالة السابقة مادام الجهل فإن الفرق بین الاستصحاب والقواعد الفقهیة التی تکون نتیجتها عند التطبیق حکماً کلیاً أیضاً هو أن الحکم المجعول فی مورد الاستصحاب حکم طریقی یکون الغرض منه تنجیز الواقع أو التعذیر عنه کما هو مفاد دلیل اعتبار الأمارة أیضاً عند الشیخ قدس سره وهذا بخلاف القاعدة الفقهیة فإن المذکور فی القاعدة الفقهیة التی تکون نتیجة التطبیق الحکم

ص : 126

وأما لو کان عبارة عن بناء العقلاء علی بقاء ما علم ثبوته، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته، فلا إشکال فی کونه مسألة أصولیة.

الفرعی نفس الحکم الفرعی الکلی النفسی یعنی مقابل الطریقی.

لا یقال: ما الثمرة بین کون الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة مسألة اُصولیة وبین کون قاعدة «ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده» مسألة فقهیة مع کون الأخذ بهما من وظیفة المجتهد فإنه یقال: الثمرة تظهر بناءً علی ما یأتی فی مسألة جواز التقلید علی العامی من اختصاص الجواز بالمسائل الفرعیة فإنه إذا أفتی المجتهد بأن کل عقد لا یضمن بصحیحه لا ضمان فی فاسده أیضاً، وأفتی بأن العین المستأجرة لا تدخل فی ضمان المستأجر فی الإجارة الصحیحة والأحوط مراعاة الضمان فی الإجارة الفاسدة فإنه یکون الاحتیاط استحبابیاً لا محالة حیث إن الاحتیاط وجوباً نقض لفتواه فیجوز للعامی عدم مراعاة الاحتیاط بخلاف ما إذا بنی علی اعتبار الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة، وذکر فی رسالته العملیة أن العصیر الزبیبی وإن لم یثبت دلیل علی حرمته بالغلیان إلاّ أن الأحوط وجوباً الاجتناب عنه فإن هذا الاحتیاط لا یکون نقضاً للفتوی حیث إنه لم یفتِ فی المسألة الفرعیة فیتعین للعامی الاحتیاط أو الرجوع إلی المجتهد الآخر الذی أفتی فی تلک المسألة فتدبر.

ثمّ إن الفرق بین الاستصحاب وقاعدة الیقین هو اختلاف زمان المتیقن والمشکوک، وسبق الأول علی الثانی فی الاستصحاب، والمفروض فی قاعدة الیقین اختلاف نفس زمان الشک مع زمان الیقین بأن یکون زمان الیقین سابقاً وزمان الشک لاحقاً مع اتحاد متعلقهما حتی من حیث الزمان، وسنذکر عند التعرض لأخبار الاستصحاب أنها لا تعم قاعدة الیقین بل مدلولها خصوص اعتبار الاستصحاب لظهورها فی فعلیة وصفی الیقین والشک فی ظرف التعبد، والأمر فی الاستصحاب

ص : 127

وکیف کان، فقد ظهر مما ذکرنا فی تعریفه اعتبار أمرین فی مورده: القطع بثبوت شیء، والشک فی بقائه، ولا یکاد یکون الشک فی البقاء إلاّ مع اتحاد القضیة المشکوکة والمتیقنة بحسب الموضوع والمحمول، وهذا مما لا غبار علیه فی الموضوعات الخارجیة فی الجملة[1].

کذلک بخلاف قاعدة الیقین المعبّر عنها بالشک الساری فإن الیقین فیها غیر فعلی فی ظرف التعبد، وحیث إن ظهور تلک الأخبار فی سبق زمان المتیقن علی زمان المشکوک ولو بقرینة موردها فلا مجال لدعوی شمولها لقاعدة الیقین، ولا لما یسمی بالاستصحاب القهقری الذی یکون المشکوک فیه سابقاً والمتیقن لاحقاً، وأصالة عدم النقل الجاریة فی اتّباع الظهورات الفعلیة عند الشک فی النقل لا ترتبط بذلک الاستصحاب المعدود علی فرض اعتباره من الاُصول العملیة بل هی ببناء العقلاء فی اتباع الظهورات الفعلیة حتی مع احتمال النقل کسائر الظهورات التی لا احتمال للنقل فیها.

وکذا لا یرتبط الاستصحاب بقاعدة المقتضی وعدم المانع فإن مقتضی هذه القاعدة علی تقدیر اعتبارها الحکم بتحقق المقتضی بالفتح عند إحراز المقتضی له وعدم العمل بتحقق المانع الذی یمنع علی تقدیر حصوله عن حصول المقتضی سواء کان المقتضی بالفتح أمراً تکوینیاً کوصول الماء الی بشرة العضو المتحقق بصبه علی العضو إذا لم یکن مانع عن وصوله إلی البشرة أو أمراً اعتباریاً لتنجس الماء الملاقی للنجس إذا لم یکن کراً.

[1] قد ذکر الماتن قدس سره فی المقام أنه لا یکون الاستصحاب إلاّ مع تحقق أمرین: أحدهما _ العلم بثبوت شیء من الحکم أو الموضوع أو عدمهما، وثانیهما _ الشک فی بقائه، ولا یکون الشک فی البقاء إلاّ إذا کانت القضیة المشکوکة بعینها القضیة المتیقنة

ص : 128

وأما الأحکام الشرعیة سواء کان مدرکها العقل أم النقل، فیشکل حصوله فیها، لأنه لا یکاد یشک فی بقاء الحکم إلاّ من جهة الشک فی بقاء موضوعه، بسبب تغیر بعض ما هو علیه مما احتمل دخله فیه حدوثاً أو بقاءً، وإلاّ لما تخلّف الحکم عن موضوعه إلاّ بنحو البداء بالمعنی المستحیل فی حقه تعالی، ولذا کان النسخ بحسب الحقیقة دفعاً لا رفعاً.

بأن یکون الموضوع والمحمول فی إحداهما متحدین مع الموضوع والمحمول فی الاُخری، وهذا الاتحاد حاصل فی الشبهات الموضوعیة غالباً کما فی استصحاب عدالة زید أو عدم ملاقاة الثوب مع النجاسة ونحو ذلک. نعم، قد لا یحصل فیها هذا الاتحاد بین القضیتین حقیقة کما فی الشک فی بقاء الماء علی کریته إذا نقص منه مقدار أوجب الشک فی کریة الباقی فإن ما علم کریته من قبل لم یکن مجرد هذا الماء بعینه، وعدم الاتحاد حقیقة.

فی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة وعدمه

مفروض فی جمیع الشبهات الحکمیة، مثلاً إذا علم حرمة العصیر العنبی بعد غلیانه وشک فی بقاء الحرمة بعد صیرورته دبساً قبل ذهاب ثلثیه فلا یمکن دعوی أن الاتحاد بین القضیتین حقیقی؛ لأن المتیقن حرمة العصیر الذی لم یکن دبساً، والمشکوک حرمة ما صار دبساً بعد الغلیان، وعلی الجملة لا یحصل الاتحاد کما ذکر فی الشبهات الحکمیة إلاّ فی مورد الشک فی النسخ بمعناه الحقیقی المستحیل فی حقه سبحانه؛ ولذا ذکروا أن النسخ فی الشریعة دفع فی الحقیقة لا رفع، والحاصل أن الحکم لا یختلف عن موضوعه، وإذا شک فی بقاء الحکم فی الشبهة الحکمیة فلابد من فرض تخلف أمر یحتمل دخله فی موضوع الحکم قیداً له فلا یکون حینئذٍ شک فی البقاء حقیقة، وهذا محصل ما یقال من أن الاستصحاب علی النحو المذکور من

ص : 129

ویندفع هذا الإشکال، بأن الإتحاد فی القضیتین بحسبهما، وإن کان مما لا محیص عنه فی جریانه، إلاّ أنه لما کان الاتحاد بحسب نظر العرف کافیاً فی تحققه وفی صدق الحکم ببقاء ما شک فی بقائه، وکان بعض ما علیه الموضوع من الخصوصیات التی یقطع معها بثبوت الحکم له، مما یعد بالنظر العرفی من حالاته _ وإن کان واقعاً من قیوده ومقوماته _ کان جریان الاستصحاب فی الأحکام الشرعیّة

اعتبار الاتحاد لا یتحقق فی الشبهات الحکمیة، وما یسمی بالاستصحاب فیها فی الحقیقة قیاس بمعنی إسراء حکم من موضوع إلی موضوع آخر.

أقول: تقریر الإشکال فی الشبهة الحکمیة بما تقدم لا یخلو عن الإشکال فإنه قدس سره جعل فی المقام العلم بالحالة السابقة کالشک فی البقاء رکناً مع أنه یأتی منه قدس سره أن المعتبر فی الاستصحاب هو الأمر الثانی فقط، وأما العلم بالحالة السابقة فلا یکون رکناً للاستصحاب، وأن مفاد أدلة الاستصحاب جعل الملازمة الظاهریة بین ثبوت الحالة السابقة وبقائها عند الشک فی البقاء، وبهذا صحح جریان الاستصحاب فی موارد إحراز الحالة السابقة بقیام الأمارة أو بالإطلاق أو العموم، وأیضاً فاتحاد القضیتین فی صدق الشک فی البقاء وإن کان لازماً إلاّ أن هذا الاتحاد لابد أن یکون من غیر جهة الزمان کما تقدم فی بیان الفرق بین قاعدة الاستصحاب وقاعدة الشک الساری، وإذا اعتبر الاتحاد بینهما من غیر جهة الزمان فربما تکون القضیة المشکوکة متحدة مع المحرزة حقیقة کما فی مورد الشک فی نسخ حکم الشریعة بمعناه الممکن، وکما إذا علم بثبوت خیار الغبن أو غیره علی الفور أو علی نحو التراخی، وعلی الجملة اعتبار الاتحاد کما ذکر لا یوجب اختصاص جریان الاستصحاب بالشبهة الموضوعیة بل یجری فی الشبهة الحکمیة أیضاً فی کل مورد یحتمل اختصاص الحکم بالحالة السابقة التی تخلف الأمر المفروض فیها وأوجب ذلک

ص : 130

الثابتة لموضوعاتها عند الشک فیها _ لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فیها، مما عد من حالاتها لا من مقوّماتها، بمکان من الإمکان، ضرورة صحة إمکان دعوی بناء العقلاء علی البقاء تعبداً، أو لکونه مظنوناً ولو نوعاً، أو دعوی دلالة النص أو قیام الإجماع علیه قطعاً، بلا تفاوت فی ذلک بین کون دلیل الحکم نقلاً أو عقلاً.

أما الأول فواضح، وأما الثانی، فلأن الحکم الشرعی المستکشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله فی موضوعه، مما لا یری مقوماً له، کان مشکوک البقاء عرفاً، لإحتمال عدم دخله فیه واقعاً، وإن کان لا حکم للعقل بدونه قطعاً.

الشک فی البقاء.

وأجاب الماتن عن الإشکال بأن الاتحاد بین القضیة المتیقنة والقضیة المشکوکة مما لابد منه إلاّ أن المعتبر الاتحاد بنظر العرف حیث إن الاتحاد بینهما بنظره کاف فی صدق الشک فی البقاء، وفی شمول عموم أخبار اعتبار الاستصحاب مع تحقق هذا الاتحاد، وبیانه أن الشک فی بقاء الحکم الکلی بعد تخلف أمر کان الحکم عند ثبوته متیقناً وأن ینشأ من تخلف ذلک الأمر إلاّ أن ذلک الأمر کثیراً ما یعد بنظر العرف حالة للموضوع لا قیداً مقوماً له بحسب الحدوث والبقاء کما فی استصحاب نجاسة الماء الکر بعد زوال تغیره فإن التغیّر یعد من حالات الماء والموضوع هو الذی یعد من المعروض عرفاً نفس الماء؛ ولذا یقال: تنجس الماء بتغیّره، بلا فرق بین کون الحالة السابقة مستفادة من الخطابات المعدة من الأدلة اللفظیة أو من دلیل غیر لفظی من إجماع أو حتی بالملازمة بین حکم العقل بالحسن أو القبح وبین الحکم الشرعی فإنه وإن یقطع مع تخلف القید المحتمل بانتفاء الإجماع أو حکم العقل حیث لا یتصور الإهمال فی موضوع حکم العقل ولا إجماع مع الخلاف إلاّ أن الحکم الشرعی المستفاد منه قد یشک فیه بأن یحتمل بقاؤه لبقاء

ص : 131

إن قلت: کیف هذا؟ مع الملازمة بین الحکمین.

قلت: ذلک لأن الملازمة إنما تکون فی مقام الاثبات والاستکشاف لا فی مقام الثبوت، فعدم إستقلال العقل إلاّ فی حال غیر ملازم لعدم حکم الشرع فی غیر تلک الحال، وذلک لإحتمال أن یکون ما هو ملاک حکم الشرع من المصلحة أو المفسدة التی هی ملاک حکم العقل، کان علی حاله فی کلتا الحالتین، وإن لم یدرکه إلاّ فی إحداهما، لإحتمال عدم دخل تلک الحالة فیه، أو إحتمال أن یکون معه ملاک آخر بلا دخل لها فیه أصلاً، وإن کان لها دخل فیما اطلع علیه من الملاک.

ملاکه، ولا یلزم أن یکون الحکم الشرعی تابعاً فی التوسعة والضیق لملاک حکم العقل بالحسن أو القبح، بل یمکن کون الملاک للحکم الشرعی أوسع ثبوتاً من ملاک حکم العقل فیبقی الحکم الشرعی ببقائه، والحاصل أن الموضوع للحکم أو المتعلق فی مثل هذه الموارد نفس الشیء أو الفعل فی الحالة الاُولی لا المقید بالحالة الاُولی حتی فیما ذکرت فی لسان الدلیل بصورة القید ألا تری أنه إذا قال البایع: بعت هذا العبد بکذا، فظهر المبیع حیواناً یحکم بانتفاء البیع وفساده لانتفاء المبیع، وأما إذا قال: بعت هذا العبد الکاتب، فظهر أنه غیر کاتب یحکم بحصول البیع ویثبت الخیار بتخلف الشرط، ونظیر ذلک ما إذا ورد فی الخطاب: الماء لا یتنجس إذا کان کراً، وأما إذا قال: الماء الکر لا یتنجس، فإن المحکوم بالنجاسة نفس الماء، وبلوغه کراً من حالاته فکل ما یکون الأمر المتخلف الذی کان الحکم معه محرزاً بنظر العرف من حالات الموضوع لا یمنع تخلفه کتخلف نفس الزمان عن جریان الاستصحاب.

والحاصل أن الموارد التی یکون الأمر المتخلف الموجب لاحتمال ارتفاع الحکم السابق ظرفاً له دخیلاً فی حدوث الحکم أو جهة تُعد بنظر أهل العرف من قبیل الواسطة فی الثبوت کذلک فلا یمنع تخلفه عن جریان الاستصحاب فی الشبهة

ص : 132

وبالجملة: حکم الشرع إنما یتبع ما هو ملاک حکم العقل واقعاً، لا ما هو مناط حکمه فعلاً، وموضوع حکمه کذلک مما لا یکاد یتطرق إلیه الإهمال والإجمال، مع تطرقه إلی ما هو موضوع حکمه شأناً، وهو ما قام به ملاک حکمه واقعاً، فربّ خصوصیة لها دخل فی إستقلاله مع إحتمال عدم دخله، فبدونها لا إستقلال له بشیء قطعاً، مع إحتمال بقاء ملاکه واقعاً. ومعه یحتمل بقاء حکم الشرع جداً لدورانه معه وجوداً وعدماً، فافهم وتأمّل جیّداً.

الحکمیة، بخلاف ما إذا کان من القید المقوم لموضوع الحکم فإنه لا سبیل للاستصحاب بعد انتفاء ذلک القید، ویختلف ذلک باختلاف الموارد بحسب مناسبة الحکم والموضوع، ولکن الاستصحاب فی موارد الشبهة الحکمیة فیما کان التخلف من قبیل الواسطة فی الثبوت وإن کان جاریاً فی نفسه، وکذا فی موارد الظرفیة للحکم الثابت إلاّ أنه مبتلی بالمعارض نوعاً، والمعارض هو الاستصحاب فی عدم جعل الحکم الوسیع بحیث یعم الحالة اللاحقة بل لا یبعد حکومة استصحاب عدم جعله کذلک وجریانه بلا أن یعارض بالاستصحاب فی عدم جعل الحکم الضیق؛ لأنه لا أثر له مع الیقین بثبوت الحکم قبل التخلف والاستصحاب فی عدم جعله لا یثبت جعل الحکم الوسیع.

وبتعبیر آخر بما أن الحکم فی نفس سعته وضیقه أمر اعتباری یکون ثبوته فی الحالة اللاحقة بجعله وسیعاً یکون الأصل عدم جعله کذلک ففی الحقیقة لا تصل النوبة إلی دعوی وقوع المعارضة بین استصحاب الحکم الفعلی وبین استصحاب عدم جعله بحیث یعم الحالة السابقة ثبوتاً، بل یکون الاستصحاب فی الثانی حاکماً علی الاستصحاب فی الحکم الفعلی السابق نظیر ما إذا تردد فی زوجیة امرأة بین الانقطاع والدوام مع اتفاق الزوجین فی المهر فإنه قد ذکرنا فی بحث القضاء أن

ص : 133

ثم إنه لا یخفی اختلاف آراء الأصحاب فی حجّیة الاستصحاب مطلقاً، وعدم حجیته کذلک، والتفصیل[1]

الاستصحاب فی عدم حدوث عقد الدوام یجری وینفی الزوجیة بعد انقضاء تلک المدة فیکلف المدعی للعقد الدائم بالإثبات، وإلاّ یحلف منکره.

نعم، إذا کان الحکم الثابت فی الحالة اللاحقة حکماً مجعولاً علی خلاف الحالة السابقة فلا بأس بالاستصحاب فی عدم جعله، وقد ذکرنا سابقاً أنه إذا لم یکن الحکم المخالف من نحو الإلزام أو الوضع الملازم للإلزام فلا بأس بجریان الاستصحاب فی عدم جعل کل منه ومن الحکم الوسیع؛ لعدم لزوم الترخیص فی المخالفة العملیة للتکلیف المحرز المعلوم بالإجمال. نعم، مع لزومه عن جریانهما یسقطان، ویرجع إلی الأصل الآخر من قاعدة الاشتغال، ولا یخفی أن المراد بقولنا حکومة الاستصحاب فی عدم الجعل علی استصحاب الحکم المجعول مجرد تعبیر، وإلاّ فإن الاستصحاب فی عدم الجعل عین الاستصحاب فی عدم المجعول، ویعبر عنه قبل فعلیة الموضوع بالجعل، وبعد فعلیة الموضوع له یقال له الحکم المجعول الفعلی.

[1] قد تعرض الشیخ قدس سره للأقوال فی اعتبار الاستصحاب وما قیل أو یمکن أن یقال فی وجه کل من الأقوال ونقده من التفصیل فی جریانه بین الموضوعات والأحکام وجریانه بین الأحکام التکلیفیة والوضعیة، وکون المستصحب حکماً جزئیاً أو کلیاً أو کون الحالة السابقة أمراً وجودیاً أو عدمیاً إلی غیر ذلک، وحیث إن التعرض لکل من الأقوال کذلک والتعرض لما قیل فی وجهها وردها تطویل بلا طائل.

شرع الماتن قدس سره فی المقام فی التکلم عن الوجوه المذکورة فی اعتبار الاستصحاب، وذکر أن عمدتها الأخبار لأن ما قیل فی وجه اعتباره من غیرها من

ص : 134

بین الموضوعات والأحکام، أو بین ما کان الشک فی الرافع وما کان فی المقتضی، إلی غیر ذلک من التفاصیل الکثیرة، علی أقوال شتی لا یهمنا نقلها ونقل ما ذکر من الإستدلال علیها، وإنما المهم الإستدلال علی ما هو المختار منها، وهو الحجیة مطلقاً، علی نحو یظهر بطلان سائرها، فقد استدل علیه بوجوه:

الوجه الأول: استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوی الشعور من کافة أنواع الحیوان علی العمل علی طبق الحالة السابقة، وحیث لم یردع عنه الشارع کان ماضیاً.

سیرة العقلاء وبنائهم علی العمل بالحالة السابقة مع عدم العلم بارتفاعها، وأن الثبوت سابقاً یوجب الظن بالبقاء أو دعوی الإجماع علی العمل علی طبق الحالة السابقة عند الشک فی البقاء غیر مفید، وذلک حیث إن السیرة علی العمل بالحالة السابقة تختلف فیکون للرجاء والاحتیاط أو للاطمئنان أو الظن بالبقاء وللعادة أی الاُلفة علی الحالة السابقة مع الغفلة عن الزوال کما فی الإنسان فی بعض الأحیان، وفی الحیوان دائماً، ولو فرض تمامیة السیرة العقلائیة علی العمل علی وفق الحالة السابقة فمجرد ذلک لا یکفی فی الاعتماد علیها بل لابد من إحراز رضاء الشارع بها وإمضائها، وهذا غیر ممکن لاحتمال الردع، ویکفی فی الردع عنه ما دل من الکتاب والسنة علی عدم جواز الاعتماد والعمل بغیر العلم، وما دل علی البراءة فی الشبهات البدویة وعلی الاحتیاط فی غیرها، وعلی الجملة فلابد فی جواز الاعتماد علی الاستصحاب والبناء علی العمل بالحالة السابقة من قیام الدلیل علی إمضاء السیرة.

لا یقال: لو تمت السیرة علی العمل علی الحالة السابقة فلا ینبغی التأمل فی اعتبارها؛ لعدم الردع عنها، وما عن الماتن من أنه یکفی فی الردع العمومات الناهیة عن اتباع غیر العلم، وأدلة اعتبار البراءة الشاملة لموارد الاستصحاب لا یمکن المساعدة علیه کما ذکر فی دعوی الردع عن السیرة العقلائیة الجاریة علی اعتماد

ص : 135

وفیه: أولاً منع استقرار بنائهم علی ذلک تعبداً، بل إما رجاءً واحتیاطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظناً ولو نوعاً، أو غفلةً کما هو الحال فی سائر الحیوانات دائماً وفی الإنسان أحیاناً.

وثانیاً: سلمنا ذلک، لکنه لم یعلم أن الشارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ، ویکفی فی الردع عن مثله ما دل من الکتاب والسنة علی النهی عن اتباع غیر العلم، وما دل علی البراءة أو الإحتیاط فی الشبهات، فلا وجه لإتباع هذا البناء فیما لابد فی اتباعه من الدلالة علی إمضائه، فتأمل جیداً.

الوجه الثانی: إن الثبوت فی السابق موجب للظن به فی اللاحق. وفیه: منع

أخبار الثقات، والسیرة العقلائیة علی تقدیر تمامیتها فی المقام تکون نظیر تلک السیرة التی لا یمکن ردعها بالعمومات فإنه یقال یمکن التفرقة بین المقامین بأن خبر الثقة فی نفسه کاشف عن ثبوت مضمونه فی الواقع، والسیرة العقلائیة جاریة علی اعتبار هذا الکشف، ومع إمضاء الشارع یکون خبر الثقة حجة علی الواقع _ علی تقدیر ثبوته _ وعلماً به تعبداً فیکون ردع السیرة بالعمومات دوریاً؛ لاحتمال عدم شمولها لخبر الثقة؛ لکونه علماً بالواقع تنزیلاً بخلاف اعتبار الاستصحاب فإن السیرة جاریة علی قاعدة عملیة ظاهریة عند الجهل بالواقع، واعتبارها وعدم ردعها یوجب تخصیص النهی عن اتباع غیر العلم، ومع عدم ثبوت الدلیل علی التخصیص یوءخذ بعمومه کما هو الحال فی عموم خطاب أصالة البراءة، والأمر بالاحتیاط فی الشبهات، وهذا کله مع قطع النظر عن الأخبار الواردة فی الاستصحاب ودعوی اعتباره بالسیرة العقلائیة مع قطع النظر عن سائر الوجوه.

وأما ما قیل فی وجه اعتبار الاستصحاب: من أن ثبوت الحالة السابقة یوجب الظن ببقائها زمان الشک؛ فإن اُرید الظن الفعلی أی الشخصی فمن الظاهر أن مجرد

ص : 136

اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلاً ولا نوعاً، فإنه لا وجه له أصلاً إلاّ کون الغالب فیما ثبت أن یدوم مع إمکان أن لا یدوم، وهو غیر معلوم، ولو سلّم، فلا دلیل علی إعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجة علی عدم اعتباره بالعموم.

الوجه الثالث: دعوی الإجماع علیه، کما عن المبادئ حیث قال: الاستصحاب حجة، لإجماع الفقهاء علی أنه متی حصل حکم، ثم وقع الشک فی أنه طرأ ما یزیله أم لا؟ وجب الحکم ببقائه علی ما کان أولاً، ولولا القول بأن الاستصحاب حجة، لکان ترجیحاً لأحد طرفی الممکن من غیر مرجح، انتهی. وقد نقل عن غیره أیضاً.

وفیه: إن تحصیل الإجماع فی مثل هذه المسألة مما له مبانٍ مختلفة فی غایة الإشکال، ولو مع الاتفاق، فضلاً عما إذا لم یکن وکان مع الخلاف من المعظم، حیث ذهبوا إلی عدم حجیته مطلقاً أو فی الجملة، ونقله موهون جداً لذلک، ولو قیل بحجیته لولا ذلک.

الثبوت سابقاً لا یوجب الظن بالبقاء دائماً خصوصاً فی الشبهات الحکمیة التی یختلف فیها أمر یحتمل دخالته فی ثبوت الحکم وبقاؤه، أضف إلی ذلک أن الاستصحاب علی تقدیر کون موضوع الاعتبار فیه هو الظن الشخصی نظیر الظن بالقبلة وعدد الرکعات فلا یمکن وقوع التعارض بین الاستصحابین أو تقدیم الاستصحاب السببی علی المسببی؛ وإن اُرید الظن النوعی بملاحظة أن الغالب فیما ثبت البقاء فمن الظاهر أن الأشیاء تختلف فی البقاء وعدمه وفی مقدار البقاء والغلبة ونحوها غیر محرزة لو کان أصلها محرز ویرد أیضاً أنه لو قیل بأن المعتبر هو الظن الشخصی أو النوعی الحاصل من الغلبة فلم یقم علی اعتبارهما دلیل بل یدخلان فی غیر العلم مما ورد النهی عن اتباعه.

ص : 137

الوجه الرابع: وهو العمدة فی الباب، الأخبار المستفیضة.

منها صحیحة زرارة: «قلت له الرجل ینام وهو علی وضوء أیوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ قال: یا زرارة قد تنام العین ولا ینام القلب والاُذن، وإذا نامت العین والاُذن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حُرِّک فی جنبه شیء وهو لا یعلم قال: لا حتی یستیقن أنه قد نام حتی یجیء من ذلک أمر بیّن، وإلاّ فإنه علی یقین من وضوئه، ولا ینقض الیقین أبداً بالشک، ولکنه ینقضه بیقین آخر[1]

وأما دعوی الإجماع علی اعتبار الاستصحاب فهی موهونة جداً؛ لوجود الخلاف فی اعتباره وعدمه فی الشبهات الحکمیة بل مطلقاً کما تقدم فی الإشارة إلی الأقوال مع أنه علی تقدیره مدرکی حیث تمسک القائلون باعتباره بوجوه مختلفة، وإذا کان هذا حال الإجماع _ علی تقدیر تحصیله _ فکیف یعتبر نقله؟ والمتعین فی المقام ملاحظة الأخبار فإنها العمدة فی اعتباره ومقدار دلالتها علیه.

[1] أقول: هذه الصحیحة وإن ذکرت فی کلمات بعض الأعلام عن زرارة عن الباقر علیه السلام إلاّ أنه لم یثبت هذا النقل ولکن لا یضر ذلک؛ لأن أمثال زرارة لا یسأل عن الحکم غیر الإمام علیه السلام ثمّ ینقله بعنوان الروایة من غیر التعرض وبیان أن ذلک قول غیر الإمام، وهذه الصحیحة تتضمن فقرتین:

الاُولی _ ناظرة إلی السوءال عن الشبهة الحکمیة وأن الخفقة والخفقتین من نواقض الوضوء أم لا، ولعل زرارة یحتمل کون الخفقة داخلة فی النوم أو کونها من نواقض الوضوء أیضاً، وجواب الإمام علیه السلام ظاهره هو الأول، وأن النوم الناقض للوضوء هو نوم العین والاُذن والقلب لا ما یعم نوم العین خاصة، وفی نسخة الوسائل التی عندنا فإذا نامت العین والاُذن والقلب، ولکن فی المحکی فی المتن لم یذکر القلب وکذا فی سائر الکلمات، ولو کانت النسخة الصحیحة غیر مشتملة علی ذکر القلب

ص : 138

.··· . ··· .

فلا یضر؛ لاحتمال التلازم بین نوم الاُذن والقلب.

والفقرة الثانیة _ مشتملة علی السوءال عن الشبهة الموضوعیة ولا ینافی التلازم؛ لاحتمال عدم السماع للغفلة لا لنوم الاُذن، وکیف کان فهذه الفقرة ناظرة إلی السوءال بأن عدم حسِّ الشخص بما حرک فی جنبه یحسب أمارة عن النوم فأجاب علیه السلام بالنفی؛ لأن عدم الحس یمکن أن یکون لاشتغال القلب بشیء کما یتفق للإنسان، وإذا شک فی حصول النوم فلا یجب علیه الوضوء حتی یستیقن بالنوم، ولا کلام فی أنه یستفاد من الفقرة الثانیة اعتبار الاستصحاب عند الشک فی بقاء الوضوء أو حصول ناقضه، وإنما الکلام فی أنه یستفاد من الجواب فی الفقرة الثانیة اعتبار الاستصحاب فی غیر مورد الوضوء حیث التزم جماعة بأنه یستفاد منها اعتبار الاستصحاب مطلقاً؛ لأن قوله علیه السلام : «وإلاّ فإنه علی یقین من وضوئه» یتضمن القضیة الشرطیة وهی إن لم یجئ أمر بیّن من نومه لا یجب علیه الوضوء فإنه علی یقین من وضوئه.

والجزاء فی القضیة الشرطیة غیر مذکور حیث إنه یعلم من التعلیل ومما ذکر قبل ذلک من قوله علیه السلام : «لا حتی یستیقن أنه قد نام» وحذف الجزاء وقیام التعلیل مقامه أمر متعارف فی الاستعمالات نظیر قوله سبحانه: «ومن کفر فإن اللّه غنی عن العالمین»(1) فإن قوله سبحانه «فإن اللّه غنی عن العالمین» لا یکون جزاءً؛ لأنهّ تعالی غنی عن العالمین کفروا أم لم یکفروا. وفی المقام أیضاً لا یکون یقینه من وضوئه مترتباً علی عدم مجیء الأمر البین فإن الیقین بالوضوء السابق موجود جاء أمر بیّن

ص : 139


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 97.

وهذه الروایة وإن کانت مضمرة إلاّ أن إضمارها لا یضر باعتبارها، حیث کان مضمرها مثل زرارة، وهو ممن لا یکاد یستفتی من غیر الإمام علیه السلام لا سیما مع هذا الإهتمام.

وتقریب الاستدلال بها أنه لا ریب فی ظهور قوله علیه السلام : (وإلاّ فإنه علی یقین.. إلی آخره) عرفاً فی النهی عن نقض الیقین بشیء بالشک فیه، وأنه علیه السلام بصدد بیان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله علیه السلام : (لا) فی جواب: (فإن حرک فی جنبه. . . إلی آخره)، وهو اندراج الیقین والشک فی مورد السؤال فی القضیّة الکلیّة الارتکازیّة غیر المختصة بباب دون باب، واحتمال أن یکون الجزاء هو قوله: (فإنه علی یقین...

من نومه أو لم یجئ.

ودعوی «فإنه علی یقین» بنفسه جزاء وبمعنی طلب العمل علی یقینه السابق، وقوله: «لا تنقض الیقین بالشک» تأکید للجزاء خلاف الظاهر؛ لأنه لم یعهد مورد جعل الجملة الاسمیة بمعنی طلب الفعل، وإنما یستعمل فی الطلب الجملة الفعلیة. نعم، إنشاء الأمر الاعتباری بالجملة الاسمیة متعارف کقوله: هی طالق، وأنت حر، إلی غیر ذلک، وهذا غیر طلب الفعل.

وربما یقال: الیقین فی قوله علیه السلام : «لا ینقض الیقین بالشک أبداً» غیر ظاهر فی الجنس لو لم نقل بظهوره فی العهد علی ما ذکروا من أن سبق مدخول الألف واللام فی الکلام یکون موجباً لظهور أن المراد فی المدخول بعد ذلک هو المسبوق، وبتعبیر آخر لو سلم أن جزاء قوله علیه السلام : «وإلاّ» محذوف والتقدیر وإن لم یجئ من نومه أمر بیّن فلا یجب الوضوء وأن قوله علیه السلام : «فإنه علی یقین من وضوئه» تعلیل للجزاء المحذوف، ولکن التعلیل مجموع المعطوف والمعطوف علیه فیکون مفاد الشرطیة إن لم یجئ أمر بیّن فلا یجب الوضوء؛ لأن الیقین بالوضوء لا ینقض بالشک فیه فی

ص : 140

إلی آخره) غیر سدید، فإنه لا یصح إلاّ بإرادة لزوم العمل علی طبق یقینه، وهو إلی الغایة بعید، وأبعد منه کون الجزاء قوله: (لا ینقض. . إلی آخره) وقد ذکر: (فإنه علی یقین) للتمهید.

وقد انقدح بما ذکرنا ضعف احتمال اختصاص قضیة: (لا تنقض... إلی آخره) بالیقین والشک بباب الوضوء جداً، فإنه ینافیه ظهور التعلیل فی أنه بأمر ارتکازی لا تعبدی قطعاً، ویؤیده تعلیل الحکم بالمضی مع الشک فی غیر الوضوء فی غیر هذه الروایة بهذه القضیة أو ما یرادفها، فتأمل جیداً.

شیء من الموارد أی سواء کان لاحتمال النوم أو حدوث غیره من النواقض.

والمناقشة فی ذلک _ بأنه علی ذلک یکون مفاد التعلیل عین مفاد الحکم المعلل، وتعلیل الحکم بنفسه غیر صحیح _ مدفوعة بأن الحکم المعلل عدم انتقاض الیقین بالوضوء بالشک فی النوم، ومفاد التعلیل هو عدم انتقاض الوضوء بالشک فی شیء من الحالات سواء کان احتمال النوم أو غیره نظیر قوله: یحرم العصیر إذا أسکر فإن کل مسکر حرام، ولکن الصحیح أن المراد بالیقین فی قوله علیه السلام : «ولا ینقض الیقین بالشک أبداً» جنس الیقین لا خصوص الیقین بالوضوء وذلک فان هذه الکبری بعینها قد طبق علی غیر موارد الشک فی الوضوء فی سائر الروایات، وقوله علیه السلام : «فإنه علی یقین من وضوئه» غیر ظاهر فی التقیید بأن یکون الحکم بعدم النقض لدخالة تعلق الیقین بخصوص الوضوء، بل ذکره لکون الیقین من الصفات ذات الإضافة فلابد من ملاحظة إضافته لشیء وإلاّ فالحکم المذکور بعده حکم باعتبار نفس الیقین والشک ولکون الیقین أمراً مبرماً مستحکم لا یرفع الید عنه بالشک، وبتعبیر آخر عدم رفع الید عن الیقین بالشک قضیة ارتکازیة عقلائیة لا تختص بمورد دون مورد، وما هو عند ارتکاز العقلاء هو عدم رفع الید عن الیقین والأخذ بالمشکوک، ولا ینافی هذا ما

ص : 141

هذا مع أنه لا موجب لإحتماله إلاّ احتمال کون اللام فی الیقین للعهد، إشارة إلی الیقین فی (فإنه علی یقین من وضوئه) مع أن الظاهر أنه للجنس، کما هو الأصل فیه، وسبق: (فإنه علی یقین... إلی آخره) لا یکون قرینة علیه، مع کمال الملاءمة مع الجنس أیضاً، فافهم.

مع أنه غیر ظاهر فی الیقین بالوضوء، لقوة احتمال أن یکون (من وضوئه) متعلقاً بالظرف لا ب (یقین)، وکان المعنی: فإنه کان من طرف وضوئه علی یقین، وعلیه لا یکون الأوسط إلاّ الیقین، لا الیقین بالوضوء، کما لا یخفی علی المتأمل.

تقدم من عدم اعتبار الاستصحاب بسیرة العقلاء وذلک فإن ما هو فی سیرة العقلاء هو عدم رفع الید عن الیقین والأخذ بالمشکوک کما إذا أراد شخص السفر إلی بلد وفی البین طریقان أحدهما یوصل سالکه إلی ذلک البلد ولکن الآخر مشکوک وفیه احتمال الضلال فإنهم لا یأخذون بالمشکوک والإمام علیه السلام قد طبق هذه القاعدة علی موارد الاستصحاب فهذا التطبیق تعبدی مستفاد من الروایات.

وحاصل الکلام أن تطبیقها علی الموارد المختلفة والأبواب المختلفة ظاهر فی اعتبار الشارع تلک القاعدة فی موارد إحراز الحالة السابقة والشک فی بقائها فلا منافاة بین اعتبار الاستصحاب تعبداً، وکون قاعدة عدم نقض الیقین بالشک قاعدة عقلائیة لا یختص بمورد خاص من مواردها خصوصاً بملاحظة ذکر: «أبداً» فإنه قرینة علی أن القضیة عامة لا یختص بمورد السوءال المفروض فیه الشک فی بقاء الوضوء لاحتمال النوم، ولو کان سبق الیقین بالوضوء قرینة علی کون المراد بالیقین فی الکبری هو الیقین بالوضوء لکان ذکر الشک فی النوم قبل ذلک قرینة علی کون المراد بالشک هو الشک فی النوم، ولازم ذلک کون الحکم أی الجزاء المحذوف معللاً بنفسه، ودعوی أن الجزاء للشرط نفس قوله علیه السلام : «ولا تنقض الیقین بالشک» وقوله علیه السلام : «فإنه علی

ص : 142

وبالجملة: لا یکاد یشک فی ظهور القضیة فی عموم الیقین والشک، خصوصاً بعد ملاحظة تطبیقها فی الأخبار علی غیر الوضوء أیضاً.

ثم لا یخفی حسن اسناد النقض _ وهو ضد الإبرام _ إلی الیقین، ولو کان متعلقاً بما لیس فیه اقتضاء للبقاء والاستمرار، لما یتخیل فیه من الإستحکام بخلاف الظن، فإنه یظن أنه لیس فیه إبرام واستحکام وإن کان متعلقاً بما فیه اقتضاء ذلک، وإلاّ لصح أن یسند إلی نفس ما فیه المقتضی له، مع رکاکة مثل (نقضت الحجر من مکانه) ولما صح أن یقال: (انتقض الیقین باشتعال السراج) فیما إذا شک فی بقائه للشک فی استعداده، مع بداهة صحته وحسنه[1].

یقین» تمهید للجزاء المذکور بعده لا یمکن المساعدة علیها فإن ذکر الواو العاطفة یمنع عن جعل ما ذکر بعده جزاء للشرط کما أن جعله تکراراً للجزاء وأن الجزاء نفس قوله: «فإنه علی یقین» غیر صحیح؛ لما تقدم من أن الجملة الاسمیة لا یُنشأ بها الطلب.

فی اختصاص اعتبار الاستصحاب بمورد الشک فی الرافع وعدمه

[1] قد استظهر الشیخ قدس سره من أخبار الاستصحاب التی ورد فیها النهی عن نقض الیقین بالشک اختصاص اعتباره بموارد الشک فی الرافع، وعدم شمولها لموارد الشک فی المقتضی من غیر فرق بین الشبهة الحکمیة والموضوعیة، والوجه فی استظهاره هو أن المنهی عنه فیها نقض الیقین بالشک، والأمر دائر بین أن یراد من النقض رفع الید عن الشیء الثابت _ یعنی ما أُحرز فیه قابلیة البقاء والاستمرار کما فی موارد الشک فی الرافع _ وبین أن یراد منه رفع الید عن مطلق الشیء ولو لم یحرز قابلیته للبقاء والاستمرار، والأول أنسب بالنقض بمعناه الحقیقی وهو قطع الهیئة الاتصالیة من الشیء المتصل کالحبل، وإن شئت قلت إن ذکر النقض فی الروایات

ص : 143

.··· . ··· .

قرینة علی أن المنهی عنه هو رفع الید عن المتیقن الذی له قابلیة البقاء حیث لا یکون المنهی عنه هو نقض نفس الیقین فإنه فی نفسه منتقض لتعلقه بالحالة السابقة فیکون المقام نظیر (لا تضرب أحداً) فی کون الفعل المنهی عنه قرینة علی کون المراد من (أحد) الأحیاء؛ لظهور الضرب فی المؤلم، وعلی الجملة الیقین فی موارد الاستصحاب منتقض وجداناً فلا مورد للنهی عن النقض بالإضافة إلیه بخلاف المتیقن فإنه یحتمل بقاؤه وإحکامه فیقبل التعبد بالنهی عن نقضه العملی وأن المناسب لهذا النهی موارد الشک فی الرافع وکأن ترک الإبقاء العملی فیها قطع للهیئة الاتصالیة الاقتضائیة.

المراد من النهی عن نقض الیقین بالشک فی أخبار لا تنقض

وأورد الماتن قدس سره علی ما ذکره من أن إسناد النقض إلی الیقین باعتبار نفس الیقین لا باعتبار المتیقن لیحمل علی ما کان ثابتاً علی النحو المذکور فإن الیقین کالبیعة یتخیل أن له استحکاماً وإبراماً فیکون رفع الید عنه بترک العمل علی طبقه ومقتضاه عند الشک فی البقاء نقضاً له. ویشهد لکون إطلاق النقض باعتبار نفس الیقین لا المتیقن عدم صحة إطلاق النقض فی مورد لم یفرض فیه یقین ونحوه بل کان المفروض فیه نفس الشیء القابل للبقاء لولا الرفع فلا یقال: نقضت الحجر من مکانه، وأنه یصح إطلاق النقض بارتفاع الیقین ولو لم یحرز فی المتیقن قابلیة البقاء کما فی قوله: انتقض الیقین باشتعال السراج فیما شک فی بقائه علی اشتعاله من جهة الشک فی استعداده.

ثمّ تعرض لأمرین ربما یورد علی کلامه.

ص : 144

وبالجملة: لا یکاد یشک فی أن الیقین کالبیعة والعهد إنما یکون حسن إسناد النقض إلیه بملاحظته لا بملاحظة متعلقة، فلا موجب لإرادة ما هو أقرب إلی الأمر المبرم، أو أشبه بالمتین المستحکم مما فیه اقتضاء البقاء لقاعدة (إذا تعذرت الحقیقة فأقرب المجازات) بعد تعذر إرادة مثل ذاک الأمر مما یصح إسناد النقض إلیه حقیقة.

الأول _ أن الیقین بالحالة السابقة مرتفع بالإضافة إلی البقاء وجداناً، وبتعبیر آخر نفس الیقین منتقض فی موارد الاستصحاب فلا یمکن أن یکون إسناد النقض باعتبار نفس الیقین، وأما الحالة السابقة فلا علم بانتقاضها لاحتم_ال بقائها علی حالها، وإذا کان الإسناد بلحاظ نفس المتیقن فتعین أقرب المجازات مقتضاه إرادة المتیقن فی موارد الشک فی الرافع، وأجاب عن ذلک بأن إسناد النقض إلی الیقین؛ لاتحاد متعلقی الیقین والش_ک مع قطع النظر عن الزمان فکان ترک العمل علی طبق الیقین نقض له بالشک.

والأمر الثانی _ أنه یعمل فی موارد الاستصحاب علی طبق المتیقن فإنه إما حکم أو موضوع للحکم لا علی طبق الیقین وربّما لا یکون للمتیقن فی زمان الحدوث أثر بالإضافة إلی المکلف، وإنما یکون علیه العمل علی طبقه زمان الشک. وبتعبیر آخر کما لا یکون النهی عن نقض الیقین قابلاً للتکلیف فإن انتقاضه أمر قهری کذلک النهی عن نقض المتیقن فإن بقاءه أیضاً وارتفاعه خارج عن اختیاره، وما یقبل التکلیف هو النقض بحسب العمل، وهذا لا یتصور إلاّ بالإضافة إلی المتیقن فإن ما هو موضوع للحکم أو نفس الحکم المعبر عنه بالأثر العملی هو نفس المتیقن کما هو مورد الصحیحة لا نفس الیقین وأثره فلا یکاد یلاحظ النقض إلاّ بالإضافة إلی المتیقن، وأجاب عن ذلک بأن الأثر العملی یلاحظ بالإضافة إلی الیقین لا بما هو هو وبالنظر

ص : 145

فإن قلت: نعم، ولکنه حیث لا انتقاض للیقین فی باب الاستصحاب حقیقة، فلو لم یکن هناک اقتضاء البقاء فی المتیقن لما صح إسناد الإنتقاض إلیه بوجه ولو مجازاً، بخلاف ما إذا کان هناک، فإنه وإن لم یکن معه أیضاً انتقاض حقیقة إلاّ أنه صح إسناده إلیه مجازاً، فإن الیقین معه کأنه تعلق بأمر مستمر مستحکم قد انحلّ وانفصم بسبب الشک فیه، من جهة الشک فی رافعه.

قلت: الظاهر أن وجه الإسناد هو لحاظ اتحاد متعلقی الیقین والشک ذاتاً، وعدم ملاحظة تعددهما زماناً، وهو کافٍ عرفاً فی صحة إسناد النقض إلیه

الاستقلالی بل بما هو ملحوظ طریقاً وبنحو المرآتیة والنظر الآلی کما هو الظاهر فی مثل: «لا تنقض الیقین بالشک» حیث إنه کنایة عن لزوم العمل بالتزام حکم مماثل للمتیقن ظاهراً إذا کان حکماً أو لحکمه کذلک إذا کان موضوعاً لا إلزامیاً بترتیب آثار نفس الیقین بما هو هو بالالتزام بحکم مماثل لحکمه.

أقول: ما ذکره قدس سره من عدم صحة إطلاق النقض علی رفع الشیء القابل للبقاء لولا الرفع لا یمکن المساعدة علیه والشاهد إطلاق النواقض للوضوء وصدق قوله: نقض وضوءه بالحدث. نعم، لا بأس بالالتزام بأن إطلاق النقض باعتبار نفس الیقین لکونه أمراً مبرماً کالبیعة وحیث إنه ملحوظ آلیاً فیساوق النهی عن نقض المتیقن من غیر حاجة إلی الالتزام یکون المراد من الیقین المتیقن أو آثاره أو إضماراً وحیث إن النهی حکم ظاهری والحالة السابقة حکم واقعی أو موضوع له یکون النهی عن النقض العملی کنایة عند الماتن عن جعل حکم ظاهری مماثل للحالة السابقة فیما کانت بنفسها حکماً أو مماثلاً لحکمها فیما کانت موضوعاً للحکم، ولکن ما عند الماتن من کون النهی عن النقض کنایة عما ذکره لیس بظاهر، بل مقتضی النهی عن نقض الیقین هو أن الشارع اعتبر العلم بالحالة السابقة علماً بالحالة اللاحقة أیضاً

ص : 146

واستعارته له، بلا تفاوت فی ذلک أصلاً فی نظر أهل العرف، بین ما کان هناک اقتضاء البقاء وما لم یکن، وکونه مع المقتضی أقرب بالانتقاض وأشبه لا یقتضی تعیینه لأجل قاعدة (إذا تعذرت الحقیقة)، فإن الإعتبار فی الأقربیة إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله، هذا کله فی المادة.

فیترتب علی العلم بالحالة السابقة المنجزیة والمعذریة بالإضافة إلی الحالة اللاحقة أیضاً، والحاصل فی ظاهر الخطاب إسناد النهی عن النقض إلی نفس الیقین الظاهر بما أنه ملحوظ طریقاً، والمراد أن ترک العمل علی طبق الیقین بالحالة السابقة بالإضافة إلی زمان الشک نقض لذلک الیقین فیلزم علی ذلک أنه اعتبر الشارع ذلک الیقین یقیناً بالحالة اللاحقة أیضاً، ومن الظاهر أن اعتبار الیقین بالحالة السابقة یقیناً بالحالة اللاحقة أیضاً أمر ممکن فلا موجب لحملها علی جعل الحکم المماثل للمتیقن فیما کان حکماً أو حکم الموضوع فیما کان موضوعاً نظیر ما ذکرنا فی إجازة البیع الفضولی من أنه إذا أمکن جعل الملکیة بعد الإجازة من حین العقد فلا داعی إلی الالتزام بجعل آثارها بعد الإجازة من حین العقد فالالتزام بالکشف الحکمی فی الإجازة مقتضاها ثبوت الملکیة بعد الإجازة من حین العقد لا جعل آثارها بعدها من حین العقد.

المراد من النهی عن نقض الیقین بالشک فی الصحیحة وغیرها

ثمّ إنه لو أغمضنا عما ذکرنا وفرضنا أن إطلاق النقض بلحاظ المتیقن الذی بنی علیه الشیخ قدس سره فیمکن أن یقال باعتبار الاستصحاب فی موارد الشک فی المقتضی أیضاً أخذاً بما لم یرد فیه عنوان النهی عن نقض الیقین بالشک کقوله علیه السلام : «الیقین لا یدخل فیه الشک صم للروءیة وافطر للروءیة»(1) وما عن الشیخ قدس سره من أن المراد من

ص : 147


1- (1) وسائل الشیعة 7 : 184، الباب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان، الحدیث 13.

وأما الهیئة، فلا محالة یکون المراد منها النهی عن الإنتقاض بحسب البناء والعمل لا الحقیقة، لعدم کون الإنتقاض بحسبها تحت الإختیار، سواء کان متعلقاً بالیقین _ کما هو ظاهر القضیة _ أو بالمتیقن، أو بآثار الیقین بناءً علی التصرف فیها بالتجوز أو الاضمار، بداهة أنه کما لا یتعلق النقض الاختیاری القابل لورود النهی علیه بنفس الیقین، کذلک لا یتعلق بما کان علی یقین منه أو أحکام الیقین، فلا یکاد یجدی التصرف بذلک فی بقاء الصیغة علی حقیقتها، فلا مجوّز له فضلاً عن الملزم، کما توهّم.

الیقین هو الیقین باشتغال الذمة بصوم شهر رمضان، وأن هذا الاشتغال لا یرتفع إلاّ برافع لا یمکن المساعدة علیه فإن التکلیف بصوم شهر رمضان یرتفع وینتهی بانقضاء نفس رمضان وفی مورد الشک فی کون الشهر تاماً أو ناقصاً یکون الشک من قبیل الشک فی المقتضی مع أن إرجاع الیقین إلی الیقین بالتکلیف خلاف ظاهر الروایة، بل ظاهرها عدم الفرق فی یوم الشک بین الابتداء أو الانتهاء، ویوءید اعتبار الاستصحاب مطلقاً حتی فی مورد الشک فی المقتضی: «من کان علی یقین فشک فلیمض علی یقینه»(1) الوارد فی حدیث الأربعمئة والتعبیر بالتأیید لضعف السند بل الدلالة أیضاً لاحتماله قاعدة الیقین کما هو مقتضی ظهوره فی اتحاد متعلقی الیقین والشک حتی من حیث الزمان فإن إلغاء اعتبار اتحاد القضیتین من حیث الزمان فی أخبار الاستصحاب کان بملاحظة مواردها.

التفصیل بین موارد الشک فی الرافع والمقتضی وبیان المراد منهما

ثمّ إنه یقع الکلام فی معیار الشک فی الرافع والمقتضی وقد ذکر النائینی قدس سره ما

ص : 148


1- (1) الخصال 2 : 752. حدیث الأربعمئة.

لا یقال: لا محیص عنه، فإن النهی عن النقض بحسب العمل لا یکاد یراد بالنسبة إلی الیقین وآثاره، لمنافاته مع المورد.

فإنه یقال: إنما یلزم لو کان الیقین ملحوظاً بنفسه وبالنظر الإستقلالی، لا ما إذا کان ملحوظاً بنحو المرآتیة بالنظر الآلی، کما هو الظاهر فی مثل قضیة (لا تنقض الیقین) حیث تکون ظاهرة عرفاً فی أنها کنایة عن لزوم البناء والعمل، بإلتزام حکم مماثل للمتیقن تعبداً إذا کان حکماً، ولحکمه إذا کان موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس الیقین بالإلتزام بحکم مماثل لحکمه شرعاً، وذلک لسرایة الآلیّة

حاصله: أنه لیس المراد بالمقتضی ملاک الحکم وصلاحه، وبالرافع المزاحم لذلک الملاک وذلک فإن إحراز الملاک وکذا إحراز المزاحم له وظیفة المولی ولا سبیل للعبد إلیه لیوکل علیه مع أنه علی تقدیره یحصل فی بعض الشبهات الحکمیة بخلاف الشبهة الموضوعیة فإنه یکون الشک فیه فی وجود الملاک وأن الاستصحاب یجری فی ناحیة عدم الموضوع وعدم الحکم ولا یکون لعدم الموضوع أو لعدم الحکم ملاک، وکذلک لیس المراد من المقتضی موضوع الحکم بأن لا یعتبر الاستصحاب فی موارد الشک فی بقاء الموضوع فإن بقاء الموضوع بمعنی اتحاد القضیة المتیقنة مع القضیة المشکوکه أمر مفروغ عنه فی جریان الاستصحاب وإلاّ لم یکن من الاستصحاب لا أنه استصحاب غیر معتبر، وکذا لیس المراد من المقتضی ما هو المعروف عند الفلسفی من الموءثر فی مقابل المانع فإن المستصحب لاسیما إذا کان من الأحکام لا یکون له موءثر وسبب أو مانع عن التأثیر، وکذا یجری الاستصحاب فی العدمیات مع عدم إمکان فرض المقتضی والمانع فیها بل الذی یظهر من تتبع کلمات الشیخ قدس سره فی موارد مختلفة هو أن المراد من الشک فی المقتضی أن لا یحرز بقاء المستصحب فی عمود الزمان حتی مع کون المستصحب إلی زمان الشک علی

ص : 149

والمرآتیّة من الیقین الخارجی إلی مفهومه الکلّی، فیؤخذ فی موضوع الحکم فی مقام بیان حکمه، مع عدم دخله فیه أصلاً، کما ربما یؤخذ فیما له دخل فیه، أو تمام الدخل، فافهم.

ثم إنه حیث کان کلّ من الحکم الشرعی وموضوعه مع الشک قابلاً للتنزیل بلا تصرف وتأویل، غایة الأمر تنزیل الموضوع بجعل مماثل حکمه، وتنزیل الحکم بجعل مثله _ کما أشیر إلیه آنفاً _ کان قضیة (لا تنقض) ظاهرة فی اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة، واختصاص المورد بالأخیرة لا یوجب تخصیصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنها قضیة کلیة ارتکازیة، قد أتی

الحالة التی کان علیها عند حدوثه بالإضافة إلی الزمانیات المقارنة معه وجوداً وعدماً، وبتعبیر آخر یحتمل انقضاء المستصحب بانقضاء نفس الزمان السابق، والمراد من الشک فی الرافع أن یحرز بقاء المستصحب فی عمود الزمان وبقاؤه فی زمان الشک لو کان علی الحالة التی کان علیها عند حدوثه بأن لا یحتمل انقضاؤه بانقضاء نفس الزمان بل الموجب لاحتمال عدم بقائه حدوث زمانی آخر کان معدوماً عند حدوثه أو موجوداً عند حدوثه وزال فیما بعد، وعلی ذلک یکون الشک فی الخیار أنه علی الفور أو التراخی من الشک فی المقتضی، والشک فی کون المعاطاة جائزة أو لازمه من الشک فی الرافع؛ لاحتمال أن الحادث ملزم لها، وکذا یکون الشک فی أن الغایة لوجوب صلاتی المغرب والعشاء انتصاف اللیل أو طلوع الفجر أو کون الغایة للظهرین غروب الشمس بمعنی استتار القرص فی الاُفق الحسی أو ذهاب الحمرة المشرقیة من الشک فی المقتضی وکذا الشک فی کون الغایة لوجوب صلاة الصبح طلوع الشمس أو ظهور الحمرة فی الاُفق الشرعی. نعم، الشک فی مثل طلوع الشمس بناءً علی کون طلوعها هو الغایة کما فی الشبهة الموضوعیة

ص : 150

بها فی غیر مورد لأجل الإستدلال بها علی حکم المورد، فتأمّل.

ومنها: صحیحة أخری لزرارة: (قال: قلت له: أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من المنی، فعلمت أثره إلی أن أصیب له الماء، فحضرت الصلاة، ونسیت أن بثوبی شیئاً وصلّیت، ثم إنی ذکرت بعد ذلک، قال: تعید الصلاة وتغسله، قلت: فإن لم أکن رأیت موضعه، وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر علیه، فلما صلّیت وجدته، قال علیه السلام : تغسله وتعید، قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتیقن ذلک،

من الشک فی الرافع حکماً.

أقول: بالتأمل فیما ذکرنا یظهر أن التفصیل المزبور فی حقیقته تفصیل فی الشک فی البقاء، وأنه کلّما کان منشؤه مضی الزمان فلا یعتبر، وکل ما کان منشؤه غیر مضی الزمان بل تخلف زمانی ونحوه کان فی زمان الیقین وجوداً أو معدوماً فهو مورد للاستصحاب، وعلی ذلک فیرد علیه أن لازمه عدم اعتبار الاستصحاب فی موارد الشک فی نسخ الحکم فإن النسخ فی حکم الشریعة علی ما ذکر فی محله من أنه راجع إلی تقیید الحکم ثبوتاً بحسب الزمان کما أن لازمه عدم جریانه فی مورد الشک فی بقاء الشهر، ودعوی أن الشک فی الغایة بالشبهة الموضوعیة لاحق بموارد الشک فی الرافع لم یعلم له وجه إلاّ ورود بعض الروایات، وتطبیق قاعدة: «لا تنقض الیقین بالشک» علی الشک فی بقائه، ولکن التطبیق المذکور قرینة علی عدم اختصاص الاستصحاب بموارد الشک فی الرافع، وعلی الجملة مفاد أخبار الاستصحاب فرض الشک فیما تعلق به الیقین واتحاد متعلقهما من غیر ناحیة الزمان المعبر عن ذلک بالحدوث والبقاء، وأن الشارع اعتبر الیقین بالحدوث یقیناً بالبقاء أیضاً ما دام الجهل بالواقع.

ودعوی أن الیقین بالثبوت فی موارد الشک فی الرافع یقتضی العمل علی طبقه

ص : 151

فنظرت فلم أر شیئاً فصلیت، فرأیت فیه، قال: تغسله ولا تعید الصلاة، قلت: لم ذلک؟ قال: لأنک کنت علی یقین من طهارتک فشککت، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً، قلت: فإنی قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أین هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبک الناحیة التی تری أنه قد أصابها، حتی تکون علی یقین من طهارتک، قلت: فهل علیّ إن شککت فی أنه أصابه شیء أن أنظر فیه؟ قال: لا ولکنک إنما ترید أن تذهب الشک الذی وقع فی نفسک، قلت: إن رأیته فی ثوبی وأنا فی الصلاة، قال: تنقض الصلاة وتعید، إذا شککت فی موضع منه ثم رأیته،

فی عمود الزمان، وورد فی أخبار الاستصحاب التعبد بعدم التوقف عن هذا الاقتضاء بالشک بخلاف موارد الشک فی المقتضی فإن الیقین بالثبوت فیها لا یقتضی العمل علی طبقه فی عمود الزمان فلا تعمه أخبار «لا تنقض» لا یمکن المساعدة علیها؛ لأن الاقتضاء فی الیقین السابق لا معنی له إلاّ التنجیز والمعذریة ومع انتقاضه بالشک لا یقین لیقتضی العمل به فی زمان الشک.

الاستدلال علی الاستصحاب بصحیحة زرارة الثانیة

الاستدلال علی اعتبار الاستصحاب بفقرتین من هذه الصحیحة(1) الاُولی ما ذکر علیه السلام بعد سوءال زرارة «ولم ذلک» من جوابه: «لأنک کنت علی یقین من طهارتک وشککت فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً» وذکر الماتن قدس سره أن دلالتها علی اعتبار الاستصحاب مبنی علی أن یکون مراده علیه السلام من الیقین بالطهارة الیقین بها قبل ظن الإصابة، والظن بالإصابة یعد شکاً فی بقاء تلک الطهارة حیث إن الشک المقابل للیقین یشمل الظن أیضاً فیکون قوله علیه السلام : «فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین

ص : 152


1- (1) تهذیب الأحکام 1 : 432، باب المیاه وأحکامها، الحدیث 8.

وإن لم تشک ثم رأیته رطباً، قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنیت علی الصلاة، لأنک لا تدری لعله شیء أوقع علیک، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک.

وقد ظهر مما ذکرنا فی الصحیحة الأولی تقریب الإستدلال بقوله: (فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک) فی کلا الموردین، ولا نعید.

نعم دلالته فی المورد الأوّل علی الاستصحاب مبنی علی أن یکون المراد من الیقین فی قوله علیه السلام : (لأنک کنت علی یقین من طهارتک) الیقین بالطهارة قبل ظن الإصابة کما هو الظاهر، فإنه لو کان المراد منه الیقین الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤیة بعد الصلاة، کان مفاده قاعدة الیقین، کما لا یخفی.

بالشک أبداً» الکبری الکلیة التی تنطبق علی المفروض فی السوءال، وأما إذا کان المراد بالیقین بالطهارة الیقین الحاصل بها بعد ظن الإصابة بالنظر فی الثبوت وعدم روءیة شیء فیه ثمّ إذا رأی بعد الصلاة فی الثوب نجاسة یحتمل کونها هی النجاسة المظنونه یکون المفروض صغری قاعدة الیقین فیکون قوله علیه السلام : «ولیس ینبغی لک» کبری قاعدة الیقین فلا یصح الاستدلال حینئذ بفقرتها الاُولی علی اعتبار الاستصحاب، ولکن لا یخفی ما فیه فإنه لم یفرض فی هذه الفقرة حصول الیقین بالطهارة بعد ظن الإصابة والفحص هذا أوّلاً، وثانیاً ظاهر قول زرارة: «فنظرت فلم أرَ شیئاً فصلیت فرأیت فیه» هو روءیة النجاسة التی ظن بها أوّلاً، وفی قاعدة الیقین یشک فی نفس الیقین السابق ولا یعلم بطلانه فظاهر الصحیحة هو العلم بالنجاسة المظنونة بعد الصلاة، وعلی الجملة یستفاد من الصحیحة صحة الصلاة مع نجاسة ثوبه واقعاً إذا لم تکن منسیة أو معلومة قبل الصلاة ولو إجمالاً وأما العلم بوقوعها جهلاً فی الثوب النجس بعد الفراغ من الصلاة فلا یضر بصحتها.

نعم، الفقرة الثانیة مع دلالتها علی اعتبار الاستصحاب تدلّ علی أنه إذا علم فی

ص : 153

ثم إنه أشکل علی الروایة، بأن الإعادة بعد انکشاف وقوع الصلاة فی النجاسة[1 [لیست نقضاً للیقین بالطهارة بالشک فیها، بل بالیقین بارتفاعها، فکیف یصح أن یعلل عدم الإعادة بأنها نقض الیقین بالشک؟

أثناء الصلاة بنجاسة ثوبه وأن ما أتی به من الصلاة کانت واقعة فی النجاسة الواقعة علی الثوب من قبل تبطل صلاته، وأما إذا احتمل وقوعها علی ثوبه حین روءیته فی الصلاة ولم یکن نجساً من قبل یجوز له قطع الصلاة وغسله والبناء علی صلاته، والفقرة الثانیة هی قوله علیه السلام : «وإن لم تشک ثمّ رأیته رطباً قطعت ثمّ بنیت علی الصلاة؛ لأنک لا تدری لعله شیء أوقع علیک فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک أبداً».

ودعوی أن الصلاة مع وقوعها بتمامها فی الثوب النجس فی فرض الجهل إذا کانت صحیحة فصحتها مع وقوع بعضها فی النجاسة الواقعیة مع الجهل بها أولی کما عن الشیخ قدس سره لا یمکن المساعدة علیها؛ لعدم علمنا بملاکات الأحکام، ولا یمکن رفع الید عن ظاهر الخطابات بمثل هذه الأولویة الموهومة، ولا یخفی أن دلالة هذه الصحیحة علی اعتبار الاستصحاب أوضح من سابقتها والوجه فی ذلک ما تقدم من دعوی أن قوله علیه السلام : «فإنه علی یقین من وضوئه ولا تنقض الیقین . . .» یحتمل کونه جزاءً للشرطیة المستفادة من قوله علیه السلام : «وإلاّ» لا أنه تعلیل للجزاء المحذوف بخلاف هذه الصحیحة فإنه لا مورد فیها للتشکیک فی التعلیل وإعادة ما تقدم فی الاُولی من هذه الصحیحة مع التأبید دلیل علی کلیة الکبری وعدم اختصاصها بمورد دون مورد.

[1] حیث علل علیه السلام صحة الصلاة وعدم لزوم إعادتها بالاستصحاب فی موردین:

الأول _ ما إذا علم بعد الصلاة أن ثوبه کان متنجساً قبل الشروع فی الصلاة وحال

ص : 154

.··· . ··· .

الصلاة وعند الالتفات.

والثانی _ أن یکون عند الالتفات فی أثناء الصلاة کان ثوبه نجساً ومن حین الشروع کانت نجاسته مشکوکة مع أن الاستصحاب غیر دخیل فی الحکم بالصحة فی شیء من الموردین، بل نفس عدم العلم بنجاسة ثوبه حال صلاته فی الأول، وعدم العلم بسبق نجاسة ثوبه علی صلاته فی الثانی کافٍ فی صحتها واقعاً؛ ولذا لو لم یکن الاستصحاب معتبراً أصلاً کانت الصلاة فی الصورتین صحیحة؛ لأن شرط صحتها عدم العلم بنجاسة ثوبه حال الصلاة أو قبلها ومع الإغماض عن ذلک فلا یکون الحکم الظاهری موجباً للإجزاء مع کشف الخلاف ولو فیما بعد العمل فضلاً عن أثنائه. وذکر الشیخ قدس سره فی توجیه التعلیل أن التعلیل مبنی علی إجزاء الإتیان بالمأمور به الظاهری علی الواقعی وحیث إن الإجزاء کان مفروغاً عنه بین السائل والمجیب علل علیه السلام الإجزاء فی الموردین بالاستصحاب، وأنه لو وجبت الإعادة فیهما لکان کاشفاً عن عدم اعتبار الاستصحاب قبل الصلاة وبعدها فی المورد الأول، وعن عدم اعتباره حال الصلاة فی المورد الثانی وفی التوجیه ما لا یخفی؛ لان صحة الصلاة فی الموردین لا ترتبط باعتبار الاستصحاب، وأن الأمر الظاهری موافقته لا تجزی عن الواقعی مع کشف الخلاف فضلاً عن أن یکون الإجزاء أمراً مفروغاً عنه بین السائل والإمام وإلاّ لو کان الأمر الظاهری موجباً للإجزاء لما قید الإمام علیه السلام صحة الصلاة بصورة روءیة النجاسة حال الصلاة رطباً حیث إن مقتضی التقیید الحکم ببطلانها فیما إذا علم بأنها کانت قبل الشروع فی الصلاة؛ ولذا قیل: بأن فائدة الاستصحاب جواز الدخول فی الصلاة قبل غسل الثوب لا عدم إعادتها بعد کشف الخلاف.

ص : 155

نعم إنما یصح أن یعلل به جواز الدخول فی الصلاة، کما لا یخفی، ولا یکاد یمکن التفصی عن هذا الإشکال إلاّ بأن یقال: إن الشرط فی الصلاة فعلاً حین الإلتفات إلی الطهارة[1] هو إحرازها، ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها، فیکون قضیة استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انکشف وقوعها فی النجاسة بعدها، کما أن إعادتها بعد الکشف یکشف عن جواز النقض وعدم حجیة الاستصحاب حالها، کما لا یخفی، فتأمل جیداً.

تعلیل عدم لزوم الإعادة بالاستصحاب فی طهارة الثوب حال الصلاة

[1] ذکر الماتن قدس سره بأنه لا یمکن دفع الإشکال إلاّ بالالتزام بأن الشرط فی صحة الصلاة أحد أمرین: إما الطهارة الواقعیة، أو إحرازها ولو حال الصلاة وتعلیل عدم لزوم إعادة الصلاة بالاستصحاب لعدم اشتراطها بخصوص طهارة الثوب واقعاً بل الشرط الأعم من الطهارة الواقعیة وإحرازها فیحکم بالإجزاء فی الصورتین لکون المکلف محرزاً لها وإن لم یصادف إحرازها الواقع، فلا یقال: إذا لم تکن الطهارة الواقعیة شرطاً فلا یجری الاستصحاب فیها لاعتبار کون المستصحب حکماً أو موضوع الحکم؛ لما ذکر من أن الطهارة الواقعیة لا تسقط عن الشرطیة، کما إذا اعتقد بنجاسة ثوبه وصلی فیه غفلة ثمّ ظهر بعد الصلاة أنه کان طاهراً واعتقاده بنجاسته کان خطأً وهذا المقدار من الشرطیة کافٍ فی جریان الاستصحاب فیها مع أنه یکفی فی جریان الاستصحاب فی شیء کونه قیداً للموضوع والطهارة الواقعیة قید للإحراز المفروض کونه شرطاً فی الصلاة، لا یقال: لو کان الشرط فی الصلاة طهارة الثوب الأعم من الواقعیة والظاهریة یتعین تعلیل الإجزاء وعدم لزوم الإعادة بإحراز المکلف طهارة ثوبه حال صلاته لا بنفس الطهارة حال الصلاة حیث إن التعبد بطهارته حال الصلاة غیر قابلة للتعبد بعد انکشاف الخلاف وروءیة النجاسة السابقة فإنه یقال: لو کان تعلیل الإجزاء بلحاظ

ص : 156

.··· . ··· .

زمان کشف الخلاف کان المتعین تعلیله بإحرازها حال الصلاة وأما لو کان تعلیله بلحاظ حال الصلاة وأن الصلاة المفروضة کانت محکومة بالإجزاء وعدم لزوم الإعادة حالها صح التعلیل بکل من الأمرین واختیار التعلیل بالثانی للإشارة إلی اعتبار الاستصحاب ولو علل الإجزاء بنفس إحراز الطهارة لم یعلم أن إحرازها لاعتبار الاستصحاب أو لقاعدة الطهارة.

أقول: کما أنه لا طهارة لثوب المکلف بعد الصلاة بلحاظ حالها کذلک لا إحراز لطهارته بعد الصلاة بلحاظ حالها، ثمّ إن تعلیل الإجزاء بلحالظ حال الصلاة قبل انکشاف الحال بطهارة ثوبه مبنی علی مسلکه من أن معنی اعتبار الاستصحاب جعل مماثل المستصحب بنفسه أو بحکمه حکماً ظاهریاً، وأما بناءً علی ما ذکرنا من أن مفاد أخبار الاستصحاب اعتبار الیقین بالحالة السابقة یقیناً ببقائها یکون تعلیل الإجزاء بنفس إحراز الطهارة حال الصلاة لا بنفس الطهارة، غایة الأمر التعلیل بإحراز الطهارة لیس من قبیل التعلیل بعنوان الإحراز حتی لا یدلّ علی اعتبار الاستصحاب بل بمصداق الإحراز یعنی قاعدة الاستصحاب فیکون مفاد التعلیل أن الاستصحاب فی طهارة الثوب حال الصلاة قبل الانکشاف أوجب الإجزاء لا لأن الحکم الظاهری یجزی عن الواقع بل؛ لأن الشرط فی صحة الصلاة إحراز طهارة الثوب والبدن حالها.

وأما ما ذکره قدس سره من أنه یکفی فی جریان الاستصحاب فی الطهارة کونها قیداً لموضوع الإجزاء حیث إن إحراز الطهارة بخصوصها شرط فی الصلاة ففیه ما لا یخفی فإنه قدس سره قد ذکر فی بحث قیام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ فی موضوع حکم ولو بنحو الطریقیة لا الوصفیة أن الاستصحاب فی قید الموضوع أو الجزء یحتاج إلی إحراز ذات الموضوع أو الجزء الآخر بالوجدان أو ثبوته بالتعبد الآخر فی

ص : 157

لا یقال: لا مجال حینئذ لإستصحاب الطهارة فإنها إذا لم تکن شرطاً لم تکن موضوعة لحکم مع أنها لیست بحکم، ولا محیص فی الاستصحاب عن کون المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم.

عرضه ولذا لا یقوم الاستصحاب فی شیء مقام القطع به المأخوذ فی الموضوع لحکم آخر. نعم، ذکرنا فی ذلک البحث أن هذا غیر لازم، وأنه یکفی فی جریان الاستصحاب فی قید الموضوع وجزئه ثبوت ذات المقید أو الجزء الآخر وجداناً بنفس جریان الاستصحاب فی نفس القید أو الجزء الآخر کما فی المقام وسائر الموارد التی یوءخذ العلم بشیء موضوعاً للحکم بنحو الطریقیة لا الوصفیة، وقد یقال فی وجه الإجزاء فی المقام ما تقدم من الماتن قدس سره فی بحث الإجزاء من أن الاُصول المثبتة لقیود متعلق التکلیف والموضوع بمقتضی دلیل اعتبارها حاکمة علی الخطابات الدالة علی اعتبار تلک القیود فیهما وأن القید لهما أمر موسع من حیث القید الظاهری والواقعی ومع هذا التعمیم لا یکون انکشاف الخلاف بعد العمل موجباً لفقدان شرطه وقیده فمقتضی اعتبار الاستصحاب فی طهارة الثوب حال الصلاة حصول الصلاة المشروطة بالطهارة ولا أثر لکشف الخلاف بعد الصلاة، وهذا بخلاف موارد إحراز القید بالأمارة سواء کان من قبیل الإخبار بها أو غیره فإنه دلیل اعتبار الإمارة لا یقتضی حکومتها علی ما دل علی قیود متعلق التکلیف والموضوع.

أقول: قد تقدم فی بحث الإجزاء فساد القول المذکور، وفساد التفصیل بین قیام الأمارة ومدلول الأصل وعدم اقتضاء شیء منها التوسعة فی الواقع حیث إن الواقع أمر نفسی، والثابت بمفاد الأصل أو بدلیل اعتبار الأمارة حکم طریقی ولذا یلتزم بصحة الصلاة حتی فی موارد ثبوت طهارة الثوب بالأمارة کالأصل ولو بعد کشف الخلاف.

ص : 158

فإنه یقال: إن الطهارة وإن لم تکن شرطاً فعلاً، إلاّ أنها غیر منعزلة عن الشرطیة رأساً، بل هی شرط واقعی اقتضائی، کما هو قضیة التوفیق بین بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب، هذا مع کفایة کونها من قیود الشرط، حیث إنه کان إحرازها بخصوصها لا غیرها شرطاً.

عدم الفرق فی المقام بین الالتزام بشرطیة طهارة الثوب والبدن أو مانعیة نجاستهما

ثمّ إنه لا مورد فی المقام للتکلم فی أن طهارة الثوب والبدن شرط فی الصلاة أو أن نجاستهما أو العلم بها مانعة فإن ما یذکر ثمرة بین کون شیء شرطاً للمعاملة أو العبادة أو کون ضده مانعاً عن أحدهما من أنه علی فرض اشتراط الشیء یکون اللازم إحرازه ولا یکفی إحراز عدم ضده بخلاف ما إذا کان ضده مانعاً حیث یحرز عدمه ولو بالأصل کما إذا شک فی کون اللحم من مذکی أو من المیتة فإنه لو کان جواز الأکل مشروطاً بکونه مذکی فلابد من إحرازه کما إذا کان جواز بیعه أیضاً کذلک بخلاف ما إذا کانت حرمة البیع أو عدم جواز الأکل معلقاً علی کونه میتة حیث یحکم بجواز أکله وجواز بیعه فیما جری الأصل فی عدم کونه من المیتة فإن هذه الثمرة لا تجری فی المقام؛ لأن المشکوک فی طهارته ونجاسته محکوم بالطهارة فیمکن إحراز طهارة الثوب بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة کما یمکن نفی نجاسته بالاستصحاب، ودعوی أن کلاً من طهارة الثوب ونجاسته شرط ومانع لا یخفی ما فیها؛ لکون أحد الاعتبارین لغواً. نعم یمکن فیما إذا کان لضدین ثالث اعتبار أحدهما شرطاً والآخر مانعاً حیث یمکن عدم تحقق المانع وعدم حصول الشرط بأن یوجد ذلک الثالث.

نعم، قد ذکر فی بحث الطهارة أن ظاهر جملة من الخطابات مانعیة العلم بالنجاسة بالإضافة إلی ثوب المصلی وبدنه، ولکن بعد العلم بالنجاسة یکون الشرط طهارتهما فلابد من إحراز طهارتهما من النجاسة المعلومة.

ص : 159

لا یقال: سلمنا ذلک، لکن قضیته أن یکون علة عدم الإعادة حینئذ، بعد انکشاف وقوع الصلاة فی النجاسة، هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها، لا الطهارة المحرزة بالإستصحاب، مع أن قضیة التعلیل أن تکون العلة له هی نفسها لا إحرازها، ضرورة أن نتیجة قوله: (لأنک کنت علی یقین... إلی آخره)، أنه علی الطهارة لا أنه مستصحبها، کما لا یخفی.

فإنه یقال: نعم، ولکن التعلیل إنما هو بلحاظ حال قبل انکشاف الحال، لنکتة

بقی فی المقام أمر وهو أن المستفاد من الفقرة الأخیرة من الصحیحة أن تنجس الثوب أثناء الصلاة مع تطهیره والإتیان ببقیة الصلاة لا یضر بصحتها بمعنی أن تخلل شرط طهارة الثوب بل البدن فی أثنائها لا یضر ولا یجری علیه حکم الحدث فی أثناء الصلاة ولا بأس بالالتزام بذلک. نعم، یشترط أن یکون تطهیره منافیاً لسائر ما یعتبر فی الصلاة من الاستدبار إلی القبلة وغیر ذلک من مبطلات الصلاة فإن الصحیحة ناظرة إلی أن تخلل شرط الطهارة مع عدم العلم بسبق النجاسة لا یضر لا أن ارتکاب سائر المنافیات لا ینافی صحتها ثمّ لا یخفی أنه یمکن الالتزام بأن المعتبر فی الصلاة خصوص الطهارة الواقعیة، ولکن شرطیتها کسائر الأجزاء والشرایط غیر الرکنیة لا تقتضی الإعادة إذا کان الإخلال بها عن عذر حقیقة أو حکماً کما هو مقتضی حدیث: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة»(1) فإن مفاده أن الإخلال فی غیر الخمسة عن عذر وعدم لزوم الإعادة ولو بجعل ما فیه من الخلل المفروض بدلاً عن متعلق الأمر فی مقام الامتثال وتنجس الثوب والبدن واقعاً مع استصحاب طهارتهما عذر ولذا علل علیه السلام عدم لزوم الإعادة بالاستصحاب الجاری فی الثوب حال الصلاة قبل

ص : 160


1- (1) الفقیه 1:279.

التنبیه علی حجیة الاستصحاب، وأنه کان هناک استصحاب مع وضوح استلزام ذلک لأن یکون المجدی بعد الإنکشاف، هو ذاک الاستصحاب لا الطهارة، وإلاّ لما کانت الإعادة نقضاً، کما عرفت فی الإشکال.

ثم إنه لا یکاد یصح التعلیل، لو قیل باقتضاء الأمر الظاهری للإجزاء، کما قیل، ضرورة أن العلة علیه إنما هو اقتضاء ذاک الخطاب الظاهری حال الصلاة للإجزاء

الانکشاف فی بیان الفرق بین المورد الثانی الذی حکم فیه بلزوم الإعادة وبین المورد الثالث الذی حکم فیه بالإجزاء، وأما المورد الأول وهو الإتیان بالصلاة فی الثوب المنسی نجاسته فالنسیان فیه وإن کان عذراً إلاّ أن مورد نسیانها خارج عن حدیث «لا تعاد» بالتخصیص فی المستثنی کمورد نسیان تکبیرة الإحرام.

لا یقال: علی ذلک فلو التفت إلی نجاسة ثوبه أثناء الصلاة وعلم أن نجاسته کانت من قبل کما إذا کانت نجاسته یابسة فلا یجزی إلقاء الثوب أو غسله أثناء الصلاة کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «لأنک لا تدری لعله شیء أوقع علیک» مع أن الثوب المزبور إلی حین العلم بنجاسته کان محکوماً بالطهارة فتعلیل عدم الإعادة فی صورة روءیته رطباً بالاستصحاب أثناء الصلاة لا یناسب لزوم الإعادة فی صورة رؤیته یابساً فإن الإخلال بالطهارة لعذر یجری فی کلتا الصورتین.

أقول: یستفاد من التعلیل الوارد فی الصحیحة أن النجاسة الواقعیة فی الثوب والبدن مع انکشافها أثناء الصلاة موجبة لبطلانها، ولکن حدوث نجاسته أثناء الصلاة مع أزالتها والإتیان ببقیة الصلاة لا تضر نظیر دم الرعاف الحادث أثناء الصلاة وفیما إذا رأی المکلف النجاسة رطبة بحیث یحتمل إصابته حین الروءیة یکون مقتضی الاستصحاب الإتیان بالأجزاء السابقة مع الطهارة المستصحبة والمفروض أنه یأتی ببقیة الأجزاء بالطهارة الواقعیة فلا علم له بالإتیان بشیء من أجزاء الصلاة مع

ص : 161

وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة کما لا یخفی، اللّهمّ إلاّ أن یقال: إن التعلیل به إنما هو بملاحظة ضمیمة اقتضاء الأمر الظاهری للإجزاء، بتقریب أن الإعادة لو قیل بوجوبها کانت موجبة لنقض الیقین بالشک فی الطهارة قبل الإنکشاف وعدم حرمته شرعاً، وإلاّ للزم عدم اقتضاء ذاک الأمر له، کما لا یخفی، مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً، فتأمل.

ولعل ذلک مراد من قال بدلالة الروایة علی إجزاء الأمر الظاهری. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توجیه التعلیل، مع أنه لا یکاد یوجب الإشکال فیه _ والعجز عن التفصی عنه _ إشکالا فی دلالة الروایة علی الاستصحاب، فإن لازم علی کل حال، کان مفاده قاعدته أو قاعدة الیقین، مع بداهة عدم خروجه منهما، فتأمل جیداً.

ومنها صحیحة ثالثة لزرارة] 1] (وإذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع، وقد

النجاسة الواقعیة فیحکم بصحة الصلاة بخلاف ما إذا رأی النجاسة یابسة فإنه عند روءیتها یعلم بوقوع الأجزاء السابقة مع النجاسة فیکون تعلیل الإمام علیه السلام عدم لزوم الإعادة فی فرض روءیة النجاسة رطبة أمراً صحیحاً حیث إن الاستصحاب الجاری بضم الطهارة الواقعیة بالإضافة إلی الأجزاء الباقیة ینفی النجاسة المانعة عن صحة الصلاة ویثبت بهما موضوع العفو کما لا یخفی. نعم، فی هذا الفرض یلزم التخصیص فی حدیث: «لا تعاد» بالإضافة إلی صورة روءیة النجاسة یابسة.

عدم دلالة الصحیحة الثالثة علی اعتبار الاستصحاب

[1] وقد استدل باعتبار الاستصحاب بما رواه الکلینی(1) والشیخ(2) بسند

ص : 162


1- (1) الکافی 3 : 353، باب السهو فی الثلاث والأربع، الحدیث 3.
2- (2) تهذیب الأحکام 2 : 174، باب أحکام السهو فی الصلاة، الحدیث 41.

.··· . ··· .

صحیح عن زرارة عن أحدهما علیهماالسلام حیث ورد فیها قال: «إذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إلیها اُخری ولا شیء علیه ولا ینقض الیقین بالشک ولا یدخل الشک فی الیقین ولا یخلط أحدهما بالآخر ولکنه ینقض الشک بالیقین ویتم علی الیقین فیبنی علیه ولا یعتد بالشک فی حال من الحالات» وذکر الشیخ قدس سره أنه إن کان المراد من قوله علیه السلام : «قام فأضاف إلیها اُخری» الإتیان بالرکعة المضافة متصلة کما هو مقتضی الاستصحاب یکون ذلک خلاف المذهب من لزوم الإتیان بالرکعة المشکوکة منفصلة فیلزم حمل الجواب علی التقیة حیث إن الإتیان بالمشکوکة متصلة مذهب العامة وحملها علیها ینافی ما فی صدر الروایة قال زرارة: «قلت له: من لم یدر فی أربع هو أم فی اثنین وقد أحرز الثنتین قال: یرکع رکعتین وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الکتاب» حیث إن قوله علیه السلام : «وهو قائم بفاتحة الکتابة» ظاهره تعین ذلک الملازم للإتیان بهما مفصولتین وإن کان المراد القیام إلی رکعة مفصولة یکون المراد من قوله علیه السلام : «ولا ینقض الیقین بالشک» القاعدة المشروعة فی الشک فی الرکعات المعبر عنها بالیقین فی قوله علیه السلام : «إذا شککت فابن علی الیقین، قلت: هذا أصل قال: نعم» والمفسرة فی بعض الروایات بقوله علیه السلام : «ألا اُعلمک شیئاً إن زدت أو نقصت فلا شیء علیک إذا شککت فابن علی الأکثر» وهذه القاعدة لا ترتبط بالاستصحاب أصلاً. ومما ذکر یظهر أنه لا مجال لدعوی أن قوله علیه السلام : «لا ینقض الیقین بالشک» مفاده الاستصحاب غایة الأمر یکون تطبیق الاستصحاب علی المورد لرعایة التقیة فالتقیة فی التطبیق علی المورد لا فی أصل الکبری نظیر ما ورد فی کون الإفطار والصوم یوم الشک إلی السلطان، فإن الکبری وهی تعیین الوظیفة یوم الشک إلی السلطان أی سلطان المسلمین صحیحة، ولکن تطبیقها علی

ص : 163

أحرز الثلاث، قام فأضاف إلیها أخری ولا شیء علیه، ولا ینقض الیقین بالشک، ولا یدخل الشک فی الیقین، ولا یخلط أحدهما بالآخر، ولکنه ینقض الشک بالیقین، ویتم علی الیقین فیبنی علیه، ولا یعتدّ بالشک فی حال من الحالات).

والإستدلال بها علی الاستصحاب مبنی علی إرادة الیقین بعدم الاتیان بالرکعة الرابعة سابقاً والشک فی إتیانها.

المتصدی فی زمانه علیه السلام لرعایة التقیة، والوجه فی عدم المجال لها أن التطبیق کما ذکر وإن کان ممکناً إلاّ أنه خلاف الظاهر ولا یحمل علیها إلاّ بقیام القرینة کما فی مسألة الصوم والإفطار بخلاف مورد الصحیحة؛ فإنه قد ورد فی صدرها قرینة علی عدم التقیة فحملها علیه یخالف الظهور من جهتین.

وذکر الماتن ما حاصله أنه یمکن الأخذ بظاهر قوله علیه السلام : «ولا ینقض الیقین بالشک» حیث إن ظهوره فی الیقین الموجود من المصلی الشاک فعلاً غیر قابل للإنکار، وهذا الیقین متعلق بعدم الإتیان بالرکعة الرابعة سابقاً، ومقتضی عدم نقض المصلی یقینه هذا بالشک هو الاستصحاب المقتضی بالإتیان بالرکعة الرابعة، وأما الإتیان بها متصلة وهو مقتضی إطلاق التعبد بعدم الإتیان بتلک الرکعة ویرفع الید عنه بما دل علی تعین الإتیان بصلاة الاحتیاط أی بالرکعة المشکوک نقصها منفصلة بل قیل باستفادة الإتیان بها منفصلة من هذه الصحیحة حیث ذکر علیه السلام : «ولا یخلط أحدهما بالآخر» بناءً علی أن المراد الإتیان بالمشکوکة منفصلة لا متصلة، ولکن ظاهر الفقرات هو التأکید لما ذکر أوّلاً من النهی عن نقض الیقین بالشک.

ثمّ قال الماتن: إن کان المراد بما فی الصحیحة من النهی عن نقض الیقین بالشک هو الاستصحاب فی عدم الإتیان بالرکعة الرابعة فلا تدلّ علی اعتبار الاستصحاب فی سائر الموارد؛ لأن ظهور الفقرات فی کون الأفعال الواردة فیها مبنیة

ص : 164

.··· . ··· .

علی الفاعل، والفاعل فیها ضمیر یرجع إلی المصلی، ولا یخفی أنه لیس مقتضی الاستصحاب إلاّ الإتیان بالرکعة الرابعة متصلة؛ لأن من صلی من صلاته الظهر ثلاث رکعات فعلیه الإتیان بالرابعة متصلة حیث إن مسلک الماتن فی جریان الاستصحاب فی ناحیة الموضوع جعل حکمه وحکم من لم یصلِّ من صلاته الرکعة الرابعة الإتیان بها متصلة، وما دل علی لزوم الإتیان بالمشکوکة بصلاة الاحتیاط إلغاء للاستصحاب فی الشک فی الرکعات لا تقیید لحکم ظاهری علی ما یأتی، والمفروض أن هذا قد اُحرز بالاستصحاب، وعلی الجملة الاستصحاب فی عدم الإتیان بالرکعة الرابعة لا یقتضی أمرین: بأن یدلّ علی الإتیان بالرکعة الرابعة بدلالة وضعیة، وأن یدلّ علی الإتیان بها متصلة بالإطلاق لیقال: یرفع الید عن إطلاقه بالدلیل الوارد علی التقیید، بل مدلوله إحراز المکلف بأنه لم یأت بالرکعة الرابعة والمکلف بصلاة الظهر مثلاً یجب علیه أربع رکعات بعنوان الظهر متصلة، وقد یورد علی الاستصحاب بأمر آخر أیضاً وهو أن الاستصحاب الجاری فی عدم الإتیان بالرکعة الرابعة لا یثبت کون الرکعة المأتی بها بعد ذلک رکعة رابعة لیترتب علیها التشهد والتسلیم بعدها؛ ولذا یعلم أن الاستصحاب فی موارد الشک فی رکعات الصلاة ملغی رأساً، وأنه یتعین فی مورد الشکوک الصحیحة بقاعدة الیقین المشار إلیها فی بعض الأخبار من قوله علیه السلام : «ألاّ اُعلمک شیئاً إن زدت أو نقصت فلا شیء علیک . . .» وفی غیر موارد الشکوک الصحیحة یحکم علی الصلاة بالبطلان، وفیه أن لزوم التشهد والتسلیم لما دل علی أنهما آخر أجزاء الصلاة یوءتی بهما بعد تمام الرکعات ما لم یتخلل بینهما وبین الرکعات المنافی، وإتمام الرکعات محرز بالوجدان، وعدم الفصل المنافی أی الإتیان بالرکعة الخامسة بالأصل هذا أولاً.

ص : 165

وقد أشکل بعدم إمکان إرادة ذلک علی مذهب الخاصة، ضرورة أن قضیّته إضافة رکعة أخری موصولة، والمذهب قد استقرّ علی إضافة رکعة بعد التسلیم مفصولة، وعلی هذا یکون المراد بالیقین الیقین بالفراغ، بما علّمه الإمام علیه السلام من الاحتیاط بالبناء علی الأکثر، والإتیان بالمشکوک بعد التسلیم مفصولة.

وثانیاً _ لو فرض کون المعتبر من التشهد والتسلیم هو ما یکون الرکعة التی یتشهد ویسلم بعدها کونها رکعة رابعة فیمکن إحراز کون المکلف فی الرکعة الرابعة بالاستصحاب فإنه بالإتیان بالرکعة الاحتیاطیة یعلم کونه فی الرکعة الرابعة إما فعلاً أو قبل ذلک، ویحتمل بقاؤه فیها إلی أن یفرغ منها نظیر الاستصحاب فی أول الشهر فیما کان مقتضی الاستصحاب کون الشهر السابق تاماً حیث إن المکلف یعلم بعد یوم الشک أنه دخل فی الشهر اللاحق إما فعلاً أو من قبل فیحمل بقاء أول الشهر المتیقن إلی غروب الیوم اللاحق لیوم الشک. أضف إلی ذلک أنه قد ورد فی بعض الروایات الواردة فی صلاة الاحتیاط فی الشکوک اعتبار التشهد والتسلیم بعدها.

ودعوی أن الکلام فی مقتضی الاستصحاب مع قطع النظر عن الروایات الخاصة فقد تقدم أن مقتضاه الإتیان بالرکعة المشکوکة متصلة لا الإتیان بها مطلقاً فضلاً عن کونها مفصولة فلابد من حمل الصحیحة علی قاعدة الیقین المشار إلیها فی الشک فی رکعات الصلاة وإن کان هذا خلاف الظاهر من جهة ظهور الیقین فی قوله علیه السلام : «لا ینقض الیقین بالشک» فی الیقین الموجود لا لزوم تحصیل ذلک الیقین المطلوب فی الشک فی الرکعات، وقد یوجه دلالة هذه الصحیحة علی الاستصحاب بأن مفاده عدم إتیان المصلی الشاک بالرکعة الرابعة، وحیث علم مما ورد من أن الشاک بین الثلاث والأربع إذا عمل بوظیفة الشاک ثمّ ظهر أن صلاته الأصلیة کانت ثلاث رکعات فلا یعید، وأنه أتی بما هی الوظیفة فی حقه یعلم أن ما دل علی أن

ص : 166

ویمکن ذبه بأن الاحتیاط کذلک لا یأبی عن إرادة الیقین بعدم الرکعة المشکوکة، بل کان أصل الإتیان بها باقتضائه، غایة الأمر إتیانها مفصولة ینافی إطلاق النقض، وقد قام الدلیل علی التقیید فی الشک فی الرابعة وغیره، وأن المشکوکة لا بد أن یؤتی بها مفصولةً، فافهم.

وربّما أشکل أیضاً، بأنه لو سلم دلالتها علی الاستصحاب کانت من الأخبار الخاصة الدالّة علیه فی خصوص المورد، لا العامة لغیر مورد، ضرورة ظهور الفقرات فی کونها مبنیة للفاعل، ومرجع الضمیر فیها هو المصلّی الشاک.

وإلغاء خصوصیة المورد لیس بذاک الوضوح، وإن کان یؤیده تطبیق قضیة (لا تنقض الیقین) وما یقاربها علی غیر مورد.

صلاة الظهر أو العصر أو العشاء أربع رکعات متصلة قد ورد علیه تقیید بما إذا لم یکن شاکاً بالشکوک الصحیحة، وإلاّ فمع کون صلاته ثلاث رکعات واقعاً فعلیه الإتیان بصلاة الاحتیاط. وعلی الجملة ما دل علی وجوب صلاة الاحتیاط للشاک مدلوله أن الوظیفة الواقعیة للشاک مع نقصان صلاته صلاة الاحتیاط؛ ولذا لو ظهر له بعد صلاة الاحتیاط کون صلاته ناقصة فیجبر النقص بصلاة الاحتیاط، وعلی ذلک فإذا جری الاستصحاب فی عدم الإتیان بالرکعة الرابعة فی حق الشاک یتعین علیه الإتیان بصلاة الاحتیاط فلا منافاة بین إرادة الاستصحاب من قوله علیه السلام : «ولا ینقض الیقین بالشک» وبین لزوم الإتیان بالرکعة الرابعة مفصولة أو الإتیان برکعتین جلوساً.

ولکن لا یخفی أن مدلول الاستصحاب هو علم المصلی بأنه لم یأت بالرکعة الرابعة ووظیفة من یعلم بأنه أتی من صلاة الظهر ثلاث رکعات الإتیان بالرکعة الرابعة متصلة، ولم یرد لما دل علی أن صلاة الظهر أربع رکعات متصلة تقیید فی حق العالم، وتعین وظیفة الشاک فی الإتیان بصلاة الاحتیاط مقتضاه إلغاء اعتبار الاستصحاب

ص : 167

بل دعوی أن الظاهر من نفس القضیة هو أن مناط حرمة النقض إنما یکون لأجل ما فی الیقین والشک، لا لما فی المورد من الخصوصیة، وإن مثل الیقین لا ینقض بمثل الشک، غیر بعیدة.

ومنها قوله: «من کان علی یقین فأصابه شک فلیمض علی یقینه فإن الشک لا ینقض الیقین[1] أو «فإن الیقین لا یدفع بالشک».

عند الشک فی رکعات الصلاة کما تقدم. والمتحصل أنه لا یرتبط ما ورد فی هذه الصحیحة علی اعتبار الاستصحاب بوجه، وعلی تقدیر الإغماض فلا ینبغی التأمل فی أن الضمیر فی کل من الفقرات الست والسبع یرجع إلی المصلی الشاک فلا تکون دلیلاً علی اعتبار الاستصحاب فی سائر الموارد، وما عن الماتن قدس سره من إمکان القول بعدم خصوصیة للمورد فإن تطبیق قاعدة: «لا تنقض» وما یرادفها علی سائر الموارد قرینة علی أن الحکم فی المورد لما فی الیقین والشک من الملاک لا یمکن المساعدة علیه فإنّ دعوی تمام الملاک لما فی الیقین والشک لم یظهر لها وجه؛ ولذا لا یجری الاستصحاب فی الشک فی الرکعات فی غیر موارد الشکوک الصحیحة، والنهی عن نقض الیقین بالشک لم یذکر فی الصحیحة بنحو الکبری الکلیة وإن وردت فی سائر الروایات وطبّقت علی غیر الشک فی الرکعات إلاّ أنه یکون الدلیل علی اعتبار الاستصحاب هی لا هذه الصحیحة.

الاستدلال علی اعتبار الاستصحاب بحدیث الأربعمئة

[1] من الروایات المستدل بها علی اعتبار الاستصحاب روایة الخصال المعروفة بحدیث الأربعمئة عن أبیه عن سعد بن عبداللّه عن محمد بن عیسی الیقطینی عن القاسم بن یحیی عن جده الحسن بن راشد عن أبی بصیر عن محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام حیث ورد فیه: «من کان علی یقین فشک فلیمض علی

ص : 168

وهو وإن کان یحتمل قاعدة الیقین لظهوره فی اختلاف زمان الوصفین، وإنما یکون ذلک فی القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمکان اتحاد زمانهما، إلاّ أن المتداول فی التعبیر عن مورده هو مثل هذه العبارة، ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفین وسرایته إلی الوصفین، لما بین الیقین والمتیقن من نحو من الاتّحاد، فافهم.

یقینه فإن الشک لا ینقض الیقین»(1) وفی نسخة اُخری: «فإن الیقین لا یدفع بالشک» وفی السند القاسم بن یحیی ولم یثبت له توثیق. نعم، ما ذکر العلاّمة(2) من تضعیفه غیر معتمد فإنه أخذه من الکتاب المنسوب إلی الغضائری (أحمد بن الحسین بن عبیداللّه) ولم یثبت أن الکتاب له، ویستشکل فی دلالته بأن ظاهره قاعدة الیقین لاعتبار تقدم الیقین علی الشک فی تلک القاعدة بخلاف الاستصحاب فإن المعتبر فیه تقدم المتیقن علی المشکوک سواء حصل الوصفان أی الیقین والشک فی زمان واحد أو حتی حصل الشک قبل الیقین بالحدوث، وحیث إن ظاهره سبق الیقین وطرو الشک فیکون مفاده قاعدة الیقین، وأجاب الماتن عن ذلک بأن التعبیر بما فی الحدیث عن الاستصحاب أمر متعارف منشؤه نحو من الاتحاد بین المتیقن والیقین والمشکوک بالشک، ومعه یسری وصف المتیقن إلی الیقین، والمشکوک إلی الشک. والحاصل التعارف المذکور یجعل اعتبار إرادة قاعدة الیقین من الحدیث خلاف الظاهر.

وذکر قدس سره فی هامش الکتاب أن الوجه فی ظهوره فی الاستصحاب کون الزمان فی قاعدة الیقین قیداً لمتعلق الیقین والشک، وفی مورد الاستصحاب ظرفاً وبما أن ظاهر الزمان المستفاد من (کان) الظرفیة ویحتاج أخذه قیداً إلی القرینة یکون مفاده

ص : 169


1- (1) الخصال 2 : 752، حدیث الأربعمئة.
2- (2) الخلاصة: 389 / 6. طبعة مؤسسة نشر الفقاهة.

.··· . ··· .

قاعدة الاستصحاب، وذکر قدس سره فی آخر کلامه فی الکتاب أن قوله: «فإن الیقین لا ینقض بالشک» ظاهر فی أنها قضیة ارتکازیة واردة فی سائر موارد الاستصحاب، وفیه: أنّ «الشک لا ینقض الیقین» نسخة لم تثبت، وأن الزمان فی کل من قاعدة الیقین والاستصحاب ظرف، وإنما الاختلاف بینهما اتحاد متعلقی الیقین والشک فی القاعدة حتی من حیث الظرف أیضاً، وفی الاستصحاب اتحاد متعلقهما مع قطع النظر عن الظرف وظاهر حذف المتعلق من کل من الیقین والشک وأن یوجب اتحاد المتعلقین من جمیع الجهات إلاّ أن الحدیث ظاهر صدره إرادة الاستصحاب حیث إنه فرق بین أن یقال: من کان علی یقین فأصابه شک فلا یعتد بالشک، وبین قوله: من کان علی یقین فأصابه شک فلیمض علی یقینه، فإن ظاهر الثانی وجود الیقین فعلاً وهذا حاصل فی موارد الاستصحاب حیث إن الیقین بالحالة السابقة یجتمع مع الشک فی بقائها بخلاف مورد القاعدة فإن الیقین فیها قد زال بإصابة الشک، ولیس فی نفس المکلف فعلاً إلاّ الشک.

ومما ذکر یظهر أن موثّقة إسحاق بن عمار قال: قال لی أبو الحسن الأول علیه السلام : «إذا شککت فابن علی الیقین قال: قلت هذا أصل قال: نعم»(1) یمکن دعوی ظهورها فی الاستصحاب لفرض الیقین عند حدوث الشک، ولیس فیها قرینة علی ورودها فی الشک فی رکعات الصلاة لیقال: إن المراد من البناء علی الیقین تحصیل الیقین بالفراغ بصلاة الاحتیاط. نعم، أخرجها فی الفقیه فی باب السهو فی الصلاة ولکن مجرد إخراجه قدس سره لا یکون قرینة علی اختصاصها برکعات الصلاة مع أن المعروف فی

ص : 170


1- (1) وسائل الشیعة 5 : 318، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 2.

هذا مع وضوح أن قوله: (فإن الشک لا ینقض... إلی آخره). هی القضیة المرتکزة الواردة مورد الاستصحاب فی غیر واحد من أخبار الباب.

ومنها: خبر الصفار، عن علی بن محمد القاسانی، قال: کتبت إلیه _ وأنا بالمدینة[1] _ عن الیوم الذی یشک فیه من رمضان، هل یصام أم لا؟ فکتب: الیقین

کلمات جماعة من الأعلام التعبیر عنها بالموثّقة کما ذکرنا، ولکن فی کونها کذلک تأمل فإن فی السند علی بن إسماعیل المعروف بابن السندی ولم یثبت له توثیق کما ذکر فی محله.

[1] ومما استدل به علی اعتبار الاستصحاب ما رواه الشیخ قدس سره : «بإسناده إلی محمد بن الحسن الصفار عن علی بن محمد القاسانی قال: کتبت إلیه وأنا بالمدینة أساله عن الیوم الذی یشک فیه من رمضان هل یصام أم لا؟ فکتب: الیقین لا یدخل فیه الشک صم للروءیة وافطر للروءیة»(1) وفی علی بن محمد القاسانی کلام فإن النجاشی ذکره وقال أنه مکثر الروایة فاضلاً غمز علیه أحمد بن محمد بن عیسی، وأنه سمع منه مذاهب منکرة ولکن لیس فی کتبه ما یدلّ علیه(2) وذکر الشیخ قدس سره الرجل فی أصحاب الهادی علیه السلام وضعفه وقال _ بعد ذلک _ : علی بن شیرة القاسانی من أصحاب الهادی علیه السلام وأنه ثقة(3)، وظاهر ذلک تعددهما، وأن من وثقه غیر من ضعفه قبل ذلک، وقد یقال کما عن العلامة(4) باتحادهما، وإن تضعیف الشیخ معارض بتوثیقه فیوءخذ بما عن النجاشی من المدح فیعد حدیثه روایة حسنة،

ص : 171


1- (1) تهذیب الأحکام 4 : 139، الباب 41 فی علامة شهر رمضان، الحدیث 17.
2- (2) رجال النجاشی: 255، الرقم 669. وفیه: علی بن محمد بن شیرة.
3- (3) رجال الطوسی: 388، الرقم 5711 و 5712.
4- (4) الخلاصة: 363 / 6.

لا یدخل فیه الشک، صم للرؤیة وافطر للرؤیة) حیث دلّ علی أن الیقین ب (شعبان) لا یکون مدخولاً بالشک فی بقائه وزواله بدخول شهر رمضان، ویتفرع علیه عدم وجوب الصوم إلاّ بدخول شهر رمضان.

وللکلام محل آخر. وإن السند لا یخلو عن تأمل. وأما دلالتها فقال الشیخ الأنصاری قدس سره أنها أظهر ما فی الباب فی الدلالة علی اعتبار الاستصحاب(1) حیث إن قوله علیه السلام «الیقین لا یدخل فیه الشک» قضیة کلیة تعم الیقین بعدم دخول شهر رمضان وغیره فیکون مقتضاها عدم وجوب الصوم إلی أن یعلم دخول شهر رمضان کما أنه لا یجوز الإفطار إلی أن یعلم دخول شهر شوال.

وقد یقال: إن مراجعة الأخبار الواردة فی یوم الشک یوجب الجزم بأن الصوم بنیة شهر رمضان لابد من أن یکون مع إحراز دخول شهر رمضان، ولا یجوز الصوم یوم الشک بنیة رمضان حتی بعنوان الرجاء والاحتیاط، ومن صام کذلک فعلیه قضاء ذلک الصوم مع تبین أنه کان من رمضان، وقد جعل فی الوسائل لذلک باباً، والمکاتبة ظاهرها لا أقل من احتمال أنها من تلک الروایات، وقد أید هذا الاحتمال النائینی قدس سره وقال: ولذا لم یعبّر فی هذه المکاتبة بالنقض، وورد فیها بأن الیقین لا یدخل فیه الشک بمعنی أن یوم الشک لا یدخل فی الصوم فی أیام شهر رمضان بحیث یجوز صومه بنیة شهر رمضان، ولو بعنوان الرجاء والاحتیاط، ولکن لا یخفی عدم کون المکاتبة من تلک الأخبار فإنه لو کان المراد منها ما ذکر لم یکن فی ذیلها «وافطر للروءیة» لأن تلک الأخبار ناظرة إلی خصوص یوم الشک المردد بین کونه آخر شعبان أو أول رمضان وما ذکر النائینی قدس سره من قرینیة التعبیر بالدخول لا یمکن المساعدة

ص : 172


1- (1) فرائد الاُصول 3 : 71.

وربما یقال: إن مراجعة الأخبار الواردة فی یوم الشک یشرف القطع بأن المراد بالیقین هو الیقین بدخول شهر رمضان، وأنه لابد فی وجوب الصوم ووجوب الإفطار من الیقین بدخول شهر رمضان وخروجه، وأین هذا من الاستصحاب؟ فراجع ما عقد فی الوسائل لذلک من الباب تجده شاهداً علیه.

علیه؛ لأن الدخول عبارة اُخری للنقض ولذا یقال دلیل الخصم مدخول وکأن ما یدخل فیه یفکک أجزاءه وینقضه.

نعم، قد یقال کما فی کلام الماتن أیضاً: إنّ المراد بالیقین فی المکاتبة خصوص الیقین بدخول الشهر بمعنی أنه یعتبر فی لزوم ترتیب آثار دخول الشهر إحراز دخوله؛ ولذا لا یجب صوم شهر رمضان إلاّ بإحراز دخوله کما لا یجوز الإفطار إلاّ بإحراز دخول شوال، وهذا لا یرتبط بالاستصحاب فإن هذا الحکم ثابت ولو قیل بعدم اعتبار الاستصحاب، ولذلک أیضاً باب فی الوسائل.

وفی صحیحة محمد بن مسلم: «إذا رأیتم الهلال فصوموا وإذا رأیتموه فافطروا ولیس بالرأی ولا التظنی ولکن بالروءیة»(1) والمراد بالروءیة العلم بها بقرینة مثل صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام : «عن الرجل یری الهلال فی شهر رمضان وحده لا یبصره غیره، أله أن یصوم؟ قال: إذا لم یشک فلیفطر وإلاّ فلیصم مع الناس»(2) والمراد انفراد الشخص بروءیة هلال شوال کما یظهر من الجواب، ولکن فیما رواه علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام : «قال سألته عمن یری هلال شهر رمضان وحده لا یبصره غیره أله أن یصوم؟ فقال: إذا لم یشک فیه فلیصم وحده، وإلاّ یصوم مع الناس إذا صاموا»(3) والحاصل

ص : 173


1- (1) وسائل الشیعة 7 : 182، الباب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان، الحدیث 2.
2- (2) المصدر السابق : 188، الباب 4، الحدیث الأول.
3- (3) المصدر السابق: الحدیث 2.

ومنها: قوله علیه السلام : «کل شیء طاهر حتی تعلم أنه قذر»[1] وقوله علیه السلام : (الماء کله طاهر حتی تعلم أنه نجس) وقوله علیه السلام : (کل شیء حلال حتی تعرف أنه حرام) وتقریب دلالة مثل هذه الأخبار علی الاستصحاب أن یقال: إن الغایة فیها إنما هو

یدور الأمر فی المکاتبة بین حملها علی قاعدة الاستصحاب وهی النهی عن نقض الیقین بالشک، وبین الحمل علی حکم الصوم وحکم الإفطار فی الیوم المردد بین آخر شعبان أو أول رمضان أو الیوم المردد بین آخر رمضان وأول شوال، وهذه قاعدة تختص بالشهور وحکم ظاهری عند الشک فیها ولیس فی البین قرینة علی الأول فما ذکره الشیخ قدس سره من کونها أظهر ما فی الباب لا یمکن المساعدة علیه لعدم التفریع فی المکاتبة أوّلاً، وصحة التفریع علی کلا الاحتمالین ثانیاً.

[1] من الروایات المستدل بها علی الاستصحاب موثقة عمار عن أبی عبداللّه علیه السلام : «کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر»(1) وذکر الماتن فی تقریب الاستدلال بها علی الاستصحاب أن الصدر وهو قوله علیه السلام : «کل شیء نظیف» حکم لجمیع الأشیاء بعناوینها الواقعیة وأن کلّ ما یفرض فی الخارج من الأشیاء کالحجر والنبات والحیوان محکوم بالطهارة بعنوانه الواقعی، وبذیلها تدلّ علی استمرار الطهارة فیه إلی أن یعلم بعروض القذارة له سواء کانت فی الشبهة الحکمیة کما إذا شک فی أن غلیان العصیر یوجب نجاسته أم لا أو فی الشبهة الموضوعیة کما إذا شک فی قذارة شیء لاحتمال إصابة البول إیاه، وهذا الحکم أی الحکم باستمرار الطهارة الثابتة له إلی أن یعلم طرو القذارة هو الاستصحاب حیث إن استمرار الطهارة الواقعیة بحسب الواقع لا یدور مدار العلم بل تبقی إلی عروض القذارة سواء علم بعروضها

ص : 174


1- (1) وسائل الشیعة 2 : 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

لبیان استمرار ما حکم علی الموضوع واقعاً من الطهارة والحلیّة ظاهراً، ما لم یعلم بطروء ضده أو نقیضه، لا لتحدید الموضوع، کی یکون الحکم بهما قاعدة مضروبة لما شک فی طهارته أو حلّیته، وذلک لظهور المغیّی فیها فی بیان الحکم للأشیاء بعناوینها، لا بما هی مشکوکة الحکم، کما لا یخفی.

المکلف أم لم یعلم فالاستمرار المتعبد به فی ذیل الروایة حکم ظاهری کما هو مفاد الاستصحاب فیکون العلم بالقذارة قیداً وغایة لنفس الاستمرار الظاهری لا قیداً للشیء المحکوم بالطهارة فی الصدر بأن یکون معنی الحدیث: کل شیء إلی أن یعلم بقذارته محکوم بالطهارة، کما هو مفاد قاعدة الطهارة فإن الغایة المفروضة لا یمکن أن تکون قیداً للموضوع وقیداً لنفس الحکم فإن لحاظها قیداً للحکم عدم لحاظها فی مرتبة لحاظ الموضوع، وکونها قیداً لحاظها قبل لحاظ الحکم، وفیه محذور استعمال اللفظ فی معنیین، وبتعبیر آخر لو کانت الغایة قیداً للموضوع فی الصدر بأن یکون مفادها بهذا اللحاظ قاعدة الطهارة، وقیداً وغایة للاستمرار حتی یستفاد اعتبار الاستصحاب لزم أن تلاحظ الغایة بلحاظین مختلفین بخلاف ما إذا جعلت غایة للحکم بالطهارة للأشیاء بعناوینها، وأن هذا الحکم مستمر إلی أن یعلم بالقذارة فیکون مفادها اعتبار الاستصحاب فقط.

فی إمکان شمول الروایات لقاعدة الطهارة والحلیة وبیان الحکم الواقعی للأشیاء

فتحصل أنّ الأمر یدور بین أن یکون مفاد الموثقة قاعدة الطهارة فقط کما إذا کانت الغایة قیداً للموضوع المذکور فی الصدر وبین أن یکون مفادها الاستصحاب کما إذا کان الصدر متکفلاً للحکم الواقعی للأشیاء بعنوانیها الواقعیة، والذیل دالّ علی استمراره ظاهراً إلی العلم بالخلاف، وبما أن ظهور الصدر فی کونه حکماً للأشیاء بعناوینها الواقعیة یتعین حمل الموثقة علی بیان اعتبار الاستصحاب

ص : 175

.··· . ··· .

لا قاعدة الطهارة ودعوی أنها متکفلة لبیان الاستصحاب والقاعدة معاً فقد تقدم أن ذلک یوجب محذور اللحاظین المختلفین فی الغایة.

ثمّ ذکر قدس سره فی آخر کلامه أن ما فی ذیل الموثقة من قوله علیه السلام : «فإذا علمت أنه قذر فقد قذر وما لم تعلم فلیس علیک» یوءید بأن مفادها الاستصحاب لا قاعدة الطهارة حیث إن ظاهر الذیل تفریع علی الاستمرار المستفاد من الغایة فقط، وأنه بیان حدّ للغایة منطوقاً ومفهوماً لا أنه تفریع علی المغیَّا مع الغایة بأن یکون تفریعاً لقاعدة الطهارة المستفادة من المغیَّا بالغایة وذکر قدس سره فی هامش الکتاب إمکان استفادة قاعدة الطهارة والاستصحاب من الموثقة بدعوی أن العموم فی الصدر یعم بعض الأشیاء المشتبهة کالمایع المردد بین البول والماء والمردد بین الخل والخمر، وإذا حکم علی تلک الأشیاء بالطهارة، وأن الطهارة فی الأشیاء مستمرة إلی العلم بالقذارة یکون مفادها بالإضافة إلی بعض الأشیاء قاعدة الطهارة، وبالإضافة إلی غیرها مفاد الاستصحاب ویتم الأمر فی بعض المشکوکات التی لا یعمها الصدر بعدم احتمال الفرق.

أقول: الحلیة الثابتة لما هو مردد بین البول والماء لا یمکن أن تثبت له بما هو عنوانه الواقعی، ولا بما هو مصداق الشیء بل تثبت بما هو مردد بینهما، وظاهر الصدر ثبوت الحلیة لما یصدق علیه عنوان الشیء بما هو مصداقه أو بعنوانه الواقعی بل وظاهر العموم الثانی، وذکر المحقق النائینی قدس سره أنه لا یمکن أن یعم الصدر بیان الطهارة أو الحلیة للأشیاء بعناوینها الواقعیة والطهارة والحلیة بمفاد قاعدتیهما ولو بملاحظة الغایة وذلک فإن الحکم الظاهری متأخر عن الحکم الواقعی بمرتبتین فإن جعله موقوف علی جعل الحکم الواقعی لموضوعه، وفرض الشک فیه بأن یلاحظ

ص : 176

.··· . ··· .

العصیر العنبی بعد غلیانه فیجعل له الطهارة أو النجاسة واقعاً لیمکن الشک فی حکمه الواقعی فیجعل له الطهارة ما دام الجهل بحکمه الواقعی وإذا کان جعل الطهارة الظاهریة بمفاد قاعدتها موقوفاً علی جعل الحکم الواقعی وفرض الشک فیه لکان قوله علیه السلام : «کل شیء طاهر» قاصراً عن بیان الحکم الظاهری مع کونه فی مقام بیان الطهارة للأشیاء بعناوینها الواقعیة وبما أن الغایة للطهارة المجعولة فی العلم بالنجاسة فلا یستفاد منهما إلاّ قاعدة الطهارة وقاعدة الحلیة فإن الحکم الواقعی لا یمکن أن یکون مغیّاً بالعلم بالخلاف فالغایة الواردة تهدم ظهور الصدر وتقلبه إلی مفاد القاعدتین وذلک فإنه وإن أمکن أن تکون غایة الطهارة عروض النجاسة أو الحرمة بأن تکون الغایة غایة للحکم الواقعی ویکون العلم مذکوراً فیها بما هو طریق محض إلی عروض النجاسة والحرمة بأن یکون مفاده کل شیء طاهر إلی عروض القذارة له، وحلال إلی عروض الحرمة له إلاّ أن هذا خلاف الظاهر فی أن للعلم دخلاً فی انتهاء الطهارة والحلیة.

وکذا حمل الغایة فی تلک الروایات علی کونها بمفاد مستقل بأن یکون الصدر متکفلاً ببیان الطهاة والحلیة للأشیاء بعناوینها الواقعیة والغایة متکفلة ببیان استمرارهما للأشیاء إلی حصول العلم بالخلاف کما هو ظاهر کلام صاحب الکفایة خلاف الظاهر، وذلک فإن الحکم الواقعی سنخ من الحکم یثبت للأشیاء بعناوینها الواقعیة، والحکم بالاستمرار الظاهری سنخ آخر من الحکم حیث إنه حکم ظاهری یکون طریقاً والموضوع له الشک فی استمرار الحکم الواقعی وعدمه فیحتاج استفادة الحکم الواقعی من الصدر، والحکم علیه بالاستمرار إلی العلم بالخلاف إلی تقدیر الموضوع للحکم بالاستمرار کما لو کان الوارد فی الروایة کل شیء طاهر، وتلک

ص : 177

.··· . ··· .

الطهارة تستمر فیه إلی العلم بالخلاف لأمکن استفادة الحکمین، وهذا بخلاف ما إذا کانت الغایة بیاناً للاستمرار الواقعی فإن ثبوت الحکم الواقعی واستمراره فی الحقیقة حکم واحد کما إذا ورد کلّ شیء طاهر إلی أن یلاقی نجساً فلا یحتاج فیه إلی تقدیر الموضوع فإن الموضوع له نفس الشی بعنوانه الواقعی ما لم یلاق نجساً کما هو مفاد قوله: البئر طاهر إلی أن یتغیر لونه أو طعمه أو ریحه(1).

أقول: ما ذکره قدس سره من أن حمل الغایة علی بیان حکم ظاهری بمفاد الاستصحاب والالتزام بکون الصدر بیاناً لحکم الأشیاء بعناوینها الواقعیة خلاف الظاهر حیث یحتاج ذلک إلی تقدیر الموضوع للحکم الثانی المدلول علیه بالصدر خلاف الظاهر صحیح.

وأما ما ذکره رحمه الله من أنّ عدم تکفل الصدر للحکم الواقعی الثابت للأشیاء بعناوینها الواقعیة وللحکم الظاهری لها بمفاد قاعدة الطهارة أو الحلیة مستحیل للوجه الذی ذکره لا یمکن المساعدة علیه فإنه یمکن تقریب تکفل خطاب واحد للطهارة الواقعیة لجملة من الأشیاء والطهارة الظاهریة لما یشک فی نجاسته بشبهة مفهومیة أو مصداقیة بأن اعتبر الشارع النجاسة لبعض الأشیاء بعناوینها الواقعیة من قبل کالخمر والخنزیر والمیتة وغیر ذلک، ثمّ لاحظ الأشیاء التی لا تدخل فی تلک العناوین التی جعل لها النجاسة من قبل مع ملاحظة الأشیاء المحتمل دخولها فی تلک العناوین بشبهة مفهومیة أو موضوعیة عند المکلف ویجعل الطهارة لکل منها بحیث تکون الطهارة المجعولة بالإضافة إلی غیر الداخلة فی العناوین المجعولة لها

ص : 178


1- (1) وسائل الشیعة 1 : 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیثان 6 و 7.

.··· . ··· .

النجاسة طهارة واقعیة، وبالإضافة إلی ما یحتمل دخوله فیها لشبهة مفهومیة أو موضوعیة طهارة ظاهریة کما إذا قال: کل شیء طاهر حتی یلاقی نجساً أو یعلم نجاسته.

وبتعبیر آخر: لا یلزم فی جعل الطهارة الظاهریة للمشکوکات جعل الطهارة لها من قبل بعناوینها الواقعیة لیدعی لزوم المحذور المذکور بل یکفی فی جعلها لحاظ احتمال المکلف ثبوت النجاسة لاحتمال کونه داخلاً فی العنوان المحکوم علیه بالنجاسة بل احتمال ثبوت کون الشیء منها. ولا یخفی أن المدعی إمکان تکفل خطاب واحد للحکم الواقعی بالطهارة أو بالحلیة لجملة من الأشیاء واعتبار الطهارة أو الحلیة الظاهریة لجملة اُخری. وأما وقوع ذلک فی الروایات المتقدمة فلا ندّعیه فإن الغایة المذکورة فی تلک الروایة أمر واحد، وظاهره أنه قید لنفس الحکم المذکور فیها بصورة واحدة لا لبعض الأحکام الانحلالیة فیتعین أن یکون مفادها الحکم الظاهری فقط؛ لأن الغایة قید للموضوع لا محالة، والحکم الواقعی یثبت للشیء بعنوانه لا یعتبر فیه عدم العلم بنجاسته أو بحلیته. نعم، إذا کانت الغایة متعددة کما فی المثال تکون قرینة علی أن کلاً منهما غایة لبعض الأحکام الانحلالیة ولا محذور فیه، وإذا قام دلیل علی نجاسة شیء بعنوانه کالدم من الإنسان أو الحیوان ذی النفس یعلم أنه غیر داخل فی مدلول قوله: کل شیء طاهر إلی أن یلاقی نجساً أو یعلم نجاسته، وإذا شک فی نجاسة شیء بالشبهة المفهومیة أو المصداقیة یصح التمسک بقوله: کل شیء طاهر إلی أن یلاقی نجساً أو یعلم قذارته، من غیر أن یکون من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة.

وقد یجاب عن امتناع تکفل الصدر لکل من الطهارة للأشیاء بعناوینها الواقعیة

ص : 179

.··· . ··· .

وللأشیاء المشکوکة طهارتها بشبهة خارجیة أو حکمیة بأن ما ذکر من تأخر رتبة الحکم الظاهری عن الواقعی بمرتبتین إنما یوجب امتناع الجمع بینهما فی الإنشاء لو قیل بأن الأمر الإنشائی ومنه الحکم _ طهارة کانت أو غیرها _ توجد باستعمال اللفظ فإنه علی هذا المسلک لا طهارة للأشیاء بعناوینها الأولیة یعنی الواقعیة لیمکن لحاظ الشک فیها لبعض الأشیاء لیجعل لها الطهارة الظاهریة أیضاً وأما إذا قلنا بما هو الصحیح من أن الأمر الإنشائی لا یوجد باللفظ بل بمجرد الاعتبار الذی هو فعل النفس، وإنما یکون اللفظ مبرزاً لتحققه الذی یکون بالنفس فلا محذور حیث یمکن اعتبار الطهارة للأشیاء بعناوینها الواقعیة ثمّ اعتبار الطهارة للأشیاء بلحاظ الشک فی الاعتبار الأول فیها وإبراز کلا الاعتبارین بمبرز واحد مثل قوله علیه السلام : «کل شیء طاهر» أو «حلال».

أقول: الظاهر أن الوجه الذی ذکره المحقق النائینی قدس سره غیر صحیح حتی علی القول بأن الأمر الإنشائی یوجد باللفظ حتی مع الغمض عن الجواب السابق الذی ذکرناه، وذلک لما تقدم فی بحث إمکان قصد التقرب فی متعلق الأمر من أن المتأخر عن الحکم بمرتبة أو مرتبتین لا یمکن أن یلاحظ قبل الحکم بشخصه تفصیلاً إلاّ أنه یمکن لحاظه بالعنوان المشیر إلیه المتحقق فی ظرفه، وعلیه فما یتوقف علیه جعل الطهارة الظاهریة لبعض الأشیاء لحاظ الشک فی طهارتها الواقعیة المتحقق فی ظرفها ولو بعد ذلک ومع لحاظ الأشیاء بعناوینها الواقعیة ولحاظ المشکوک فی طهارتها فی موطنها بالعنوان المشیر إلیها یمکن جعل الطهارة لکل منها فتکون الطهارة واقعیة لما جعل له بعنوانه الواقعی، وظاهریة بالإضافة إلی ما جعل له بذلک العنوان المشیر.

وأما ما ذکر فی الجواب من التفصیل بین الالتزام بأن الإنشاء إبراز أو إیجاد

ص : 180

.··· . ··· .

فالظاهر أنه لا یفید فی المقام فإن الاُمور الاعتباریة تعتبرها النفس إلاّ أن مجرد اعتبارها لا یکفی فی حصول عناوینها حتی عند المعتبر (بالکسر) بل لابد من إبرازها بقول أو فعل حیث إن الإبراز مقوم لعناوینها فاعتبار ملکیة شیء لآخر مجاناً أو بالعوض لا یکون تملیکاً مجانیاً أو بیعاً ما لم یبرز لیعمه ما دل علی صحة الهبة أو نفوذ البیع، وکذا مجرد الطهارة فإن اعتبارها للأشیاء إنما تکون حکماً بطهارتها بالإبراز فیتأخر الحکم علی شیء مشکوک بالطهارة عن جعل الطهارة له بعنوانه الواقعی فیعود المحذور. أضف إلی ذلک أن الروایات کلّها إخبار عن أحکام الشریعة المجعولة من قبل لا أنها تحصل بقوله علیه السلام لیقال: إن الإنشاء هو الإبراز لا الإیجاد فتدبر.

وقد یقال فی امتناع تکفل صدر الروایات لبیان الطهارة للأشیاء بعناوینها الواقعیة وللأشیاء المحتملة دخولها فی العناوین النجسة وجه آخر وهو: أن الطهارة الواقعیة کالحلیة الواقعیة لا تکون من الأحکام المجعولة الاعتباریة بل المجعول الإنشائی هی النجاسة والحرمة فإنه لو کانت الطهارة أو الحلیة الواقعیة مجعولة لزم أن لا تکون الأشیاء قبل الجعل لا طاهرة ولا نجسة، ولا حلالاً ولا حراماً مع أن الأعیان الخارجیة قسم منها یستقذره العرف، وقسم منها لا یستقذره، ویکون الاستقذار فی الثانی بتلوثه بالأول، والتطهیر عرفاً إزالة ذلک التلوث بالغسل ونحوه، وإرجاعه إلی الحالة الأصلیة التی لا استقذار فیها لا أیجاد أمر آخر وتکون الطهارة والتطهیر عند الشارع أیضاً کذلک فلا تکون طهارة المغسول أمراً اعتباریاً إنشائیاً. نعم، للشارع إلحاق بعض غیر المستقذر بالمستقذر العرفی أو إلحاق المستقذر العرفی کالخارج بالتقیؤ بغیره، وکذا الحال فی الحلیة الواقعیة. نعم، الطهارة أو الحلیة الظاهریة من

ص : 181

.··· . ··· .

المجعولات الإنشائیة وعلی ذلک فلو کان قوله علیه السلام : «کل شیء نظیف» أو «طاهر» ناظراً إلی بیان الطهارة الواقعیة للأشیاء بعناوینها الواقعیة یکون إخباراً وعلی تقدیر إرادة الطهارة الظاهریة إنشاءً والجمع بین الإخبار والإنشاء فی استعمال واحد غیر ممکن. أضف إلی ذلک أن الطهارة الواقعیة ولو علی تقدیر کونها مجعولة مغایرة للطهارة الظاهریة حیث إن الاُولی مجعولة بنفسها والطهارة الظاهریة هو البناء العملی علی الطهارة فإرادتهما من کل شیء طاهر یوجب استعمال اللفظ فی المعنیین والجمع بین اللحاظین المتنافیین.

أقول: فی کلامه (طاب ثراه) موارد للنظر:

أولاً _ وقوع التهافت فیه حیث ذکر فی الأول أن النجاسة الواقعیة مجعولة شرعاً ثمّ ذکر أن الأعیان الخارجیة بعضها مستقذر عرفاً وبعضها غیر مستقذر، ولیس عند الشارع إلاّ إلحاق بعض الأعیان من القسم الثانی بالأول، ومن الأول بالثانی، وأن التطهیر عبارة عن إزالة التلوث من العین غیر المستقذرة فی نفسها وأرجاعها إلی حالتها الأولیة فإن مقتضی ذلک کون النجاسة أیضاً غیر مجعولة وأن المراد بالإلحاق الإلحاق الحکمی بأن یحکم لبعض الأعیان غیر المستقذرة کغیر المذکی من الحیوان بتذکیة شرعیة بعدم جواز أکلها واستعمالها فی الصلاة فیها إلی غیر ذلک.

وثانیاً _ أن الاستشهاد لعدم کون الطهارة والحلیة الواقعیتین مجعولتین بما ذکره غیر صحیح، فإن لزوم عدم الاتصاف بالطهارة والنجاسة، وکذلک عدم الاتصاف بالحلیة والحرمة قبل الجعل لیس من المنکرات عند المتشرعة کیف فإن البحث فی الأفعال بأنها قبل حکم الشارع کانت علی الحظر أو الإباحة أو علی الوقف عند العقل مسألة معروفة عند القدماء، وقد ترکها المتأخرون لعدم ترتب ثمرة عملیة علیها.

ص : 182

.··· . ··· .

والحاصل کون الحلیة الشرعیة مجعولة لا تحتاج بعد الإمکان إلی أزید من ظاهر الأدلة مثل قوله سبحانه: «اُحل لکم صید البحر»(1) و«اُحل لکم لیلة الصیام الرفث إلی نسائکم»(2) و«أحلت لکم بهیمة الأنعام»(3) وهکذا حیث لا یفهم منها عرفاً إلاّ مقابل التحریم فی مثل قوله سبحانه: «حرمت علیکم المیتة والدم»(4) إلی غیر ذلک. نعم، قیل: إن کلاًّ من الطهارة والنجاسة أمر واقعی قد کشف عنهما الشارع، وهذا أیضاً کالالتزام بأن الطهارة أمر واقعی والنجاسة أمر جعلی خلاف الظاهر، وقد ورد فی ذیل الصحیحة الدالة علی أمر إصابة البول وحکمه المجعول لبنی إسرائیل: «وقد وسع اللّه علیکم بأوسع ما بین السماء والأرض وجعل لکم الماء طهوراً»(5).

وثالثاً _ أن الجمع بین الإخبار والإنشاء فی استعمال واحد بأن یکون المراد بالإضافة إلی بعض موارد الانحلال مدلول الخطاب هو الإنشاء بالإضافة إلی بعضها الآخر الإخبار لا محذور فیه فإن الاختلاف بین الإخبار والإنشاء فیما إذا لم یکن صیغة خاصة للإنشاء بل فیها أیضاً لیس فی ناحیة المستعمل فیه بل المستعمل فیه فی موارد الإخبار والإنشاء أمر واحد وهو إظهار ثبوت الشیء، ویکون الغرض من الإظهار قصد الحکایة عن ثبوته الواقعی مع قطع النظر عن الإظهار، واُخری قصد ثبوته بهذا الإخبار فیکون الأول إخباراً والثانی إنشاءً مع أن الإخبار والإنشاء لا یجری

ص : 183


1- (1) سورة المائدة: الآیة 96.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 187.
3- (3) سورة المائدة: الآیة 1.
4- (4) سورة المائدة: الآیة 3.
5- (5) وسائل الشیعة 1 : 100، الباب الأول من أبواب الماء المطلق، الحدیث الأول.

فهو وإن لم یکن له بنفسه مساس بذیل القاعدة ولا الاستصحاب إلاّ أنه بغایته دلّ علی الاستصحاب، حیث إنها ظاهرة فی استمرار ذاک الحکم الواقعی ظاهراً ما لم یعلم بطروء ضده أو نقیضه، کما أنه لو صار مغیّیً لغایة، مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما یوجب الحرمة، لدلّ علی استمرار ذاک الحکم واقعاً، ولم یکن له حینئذ بنفسه ولا بغایته دلالة علی الاستصحاب، ولا یخفی أنه لا یلزم علی ذلک استعمال اللفظ

فی مثل قوله علیه السلام ؛ فإن قوله علیه السلام کما ذکرنا کله إخبار عن حکم الشریعة من حین تأسیسها حتی فیما إذا کان قوله بصورة الإنشاء، وإذا کان مدلول الکلام انحلالیاً فیمکن أن یکون القصد بالإضافة إلی بعض المدلول الإنشاء وبالإضافة إلی بعضه الآخر الإخبار. مثلاً إذا باع البایع أحد المتاعین من المشتری بمئة واستدعی المشتری المتاع الآخر أیضاً بالمئة وقال البایع: بعت المتاعین بما ذکرت فیرید بإبراز البیع بالإضافة إلی المتاع الأول الحکایة وبالإضافة إلی الثانی حصول البیع وإنشاءه.

ومما ذکرنا یظهر الحال فی الطهارة الواقعیة والطهارة الظاهریة فإن الاختلاف فیهما لیس فی المستعمل فیه بالإضافة إلی لفظ الطهارة لیکون إرادتهما استعمالاً للفظ فی معنیین بل هما أمر واحد فی ناحیة المستعمل فیه، وإنما یکون أحدهما نفسیاً والآخر طریقیاً فإنه لا یکون فی الشیء ملاک یوجب اعتبار القذارة له فیعتبر کونه طاهراً من غیر اعتبار العلم والجهل، ویعتبر للشیء مع الجهل بطهارته الواقعیة طهارة ما دام الجهل لتسهیل الأمر علی المکلف بکون جهله عذراً فیما إذا أوجب ارتکابه مخالفة الواقع فتکون طهارة ظاهریة، فالاختلاف فی ناحیة الملاک والفرض من الاعتبار، ولکن هذا کله فی تصویر إمکان الاستعمال، وإلاّ فقد تقدم ظهور الروایات فی الحکم الظاهری خاصة.

ودعوی أن الغایة الواردة فی الروایات قید للحکم ولکن بالإضافة إلی الأشیاء

ص : 184

فی معنیین أصلاً، وإنما یلزم لو جعلت الغایة مع کونها من حدود الموضوع وقیوده غایة لاستمرار حکمه، لیدلّ علی القاعدة والاستصحاب من غیر تعرض لبیان الحکم الواقعی للأشیاء أصلاً، مع وضوح ظهور مثل (کل شیء حلال، أو طاهر) فی أنه لبیان حکم الأشیاء بعناوینها الأوّلیة، وهکذا (الماء کله طاهر)، وظهور الغایة فی کونها حداً للحکم لا لموضوعه، کما لا یخفی، فتأمل جیّداً.

ولا یذهب علیک انه بضمیمة عدم القول بالفصل قطعاً بین الحلّیة والطهارة وبین سائر الأحکام، لعمّ الدلیل وتمّ.

بعناوینها الواقعیة لیس قیداً بل ذکر العلم لمجرد الطریقیة المحضة فیکون الحکم بالطهارة بالإضافة إلی المشکوکات طهارة ظاهریة، وبالإضافة إلی الأشیاء بعناوینها الواقعیة طهارة واقعیة لا یمکن المساعدة علیها؛ لما تقدم من أن الغایة الواردة فیها واحدة، والحکم المذکور فیها وإن کان انحلالیاً إلاّ أنه مذکور بصورة واحدة وظاهرها کون الغایة قیداً لذلک الحکم المذکور بصورة واحدة.

وأما ما ذکر فی الفصول من أن الروایات دالة بصدرها علی قاعدة الطهارة وقاعدة الحلیة، وبذیلها علی استصحابهما و . . . فلا یخفی ما فیه فإنه إذا کان الشیء محکوماً بالطهارة الظاهریة وشک فی تنجسه بعد ذلک فمفاد قاعدة الطهارة کافٍ فی الحکم بطهارته حیث لم یعلم نجاسته، وکذلک الحال فی الشک فی طرو الحرمة لما کان محکوماً بالحلیة الظاهریة فلا موضوع للاستصحاب لعدم خروج الشیء عن موضوع القاعدتین.

وعن الشیخ قدس سره التفصیل بین الروایات فی دلالتها علی اعتبار الاستصحاب وعدم دلالتها حیث ذکر أن قوله علیه السلام : «الماء کلّه طاهر حتی تعلم أنه قذر» ظاهره الاستصحاب؛ لأن المیاه کلّها مسبوقة بالطهارة ولو کان مفاده قاعدة الطهارة لاختص

ص : 185

ثم لا یخفی أن ذیل موثقة عمار: (فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فلیس علیک) یؤید ما استظهرنا منها، من کون الحکم المغیّی واقعیاً ثابتاً للشیء بعنوانه، لا ظاهریاً ثابتاً له بما هو مشتبه، لظهوره فی أنه متفرع علی الغایة وحدها، وأنه بیان لها وحدها، منطوقها ومفهومها، لا لها مع المغیّی، کما لا یخفی علی المتأمل.

مدلوله بموارد نادرة کما إذا طرأ علی الماء حالتان من الطهارة والانفعال ولم یعلم المتقدم منهما وذلک لحکومة الاستصحاب فی طهارته علی قاعدة الطهارة، ولکن لا یخفی ما فیه فإنه إنما یلزم الحمل المذکور لو قیل باعتبار الاستصحاب حتی فی الشبهات الحکمیة وأما لو قیل بعدم اعتباره فیها کالشک فی تنجس ماء البئر بملاقاة النجاسة أو فی مقدار الکر مع ملاقاة المشکوک کریته بالنجاسة فیرجع فی جمیعها إلی قاعدة الطهارة.

مع أنّه لا دلالة فی الروایة علی أن الحکم بالطهارة لکون المیاه مسبوقة بالطهارة لتدل علی اعتبار الاستصحاب بل مدلولها الحکم بطهارة کل ماء شک فی طهارته ونجاسته فیمکن أن یکون الوجه فی الحکم بالطهارة نظیر الحکم فی الأهلة قاعدة مضروبة فی المیاه عند الشک فی تنجسها نظیر القاعدة المضروبة فی الأهلة فلا دلالة لها علی اعتبار الاستصحاب بحیث لو لم یتم دلیل علی اعتبار الاستصحاب من غیر ناحیة هذه الروایة لقلنا باعتباره أخذاً بهذه الروایة مطلقاً أو فی المیاه خاصة. نعم، قد یقال بدلالة صحیحة عبداللّه بن سنان الواردة فیمن أعار ثوبه الذمی علی اعتبار الاستصحاب قال: «سأل أبی أبا عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر أنی أُعیر الذمی ثوبی وأنا أعلم أنه یشرب الخمر ویأکل لحم الخنزیر فیرده علیّ فأغسله قبل أن اُصلی فیه؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : صلِّ فیه ولا تغسله من أجل ذلک، فإنک أعرته أیاه وهو طاهر

ص : 186

.··· . ··· .

ولم تستیقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلی فیه حتی تستیقن أنه نجسه»(1) نعم مدلولها لا یعم الاستصحاب فی غیر الطهارة.

أقول: قد ذکرنا فی بحث الفقه عدم دلالة الصحیحة علی اعتبار الاستصحاب حتی فی الطهارة الخبثیة فإنه لو کان السوءال عن مثل الإناء الذی یعیره الذمی المفروض فی السوءال وکان جوابه علیه السلام لا بأس بالأکل والشرب فیه لأنک أعرته وهو طاهر ولم تعلم أنه نجسه کان ظاهراً فی اعتبار الاستصحاب؛ لأن المشروط فی جواز الأکل والشرب فی الإناء طهارته بخلاف الثوب فإنه لم یذکر الإمام علیه السلام طهارة الثوب بل ذکر عدم البأس بالصلاة فیه والصلاة فی الثوب الذی لا یعلم نجاسته جائز واقعاً وإن لم نقل باعتبار الاستصحاب ولا اعتبار قاعدة الطهارة. نعم، بعد العلم بنجاسة الثوب لابد فی الصلاة فیه من إحراز طهارته وتمام الکلام فی بحث الفقه.

ولا یخفی أن الطهارة من الخبث کالطهارة من الحدث حکم وضعی فیکون أمراً اعتباریاً کالخبث ولیست طهارة شیء مجرد عدم اعتبار النجاسة فیه بل اعتبار خلو الشیء عن الخبث کما یشهد بذلک خطابات کیفیة تطهیر المتنجسات کما هو الحال فی الحلیة أیضاً فی مقابل الحرمة فلیست حلیة شیء مجرد عدم اعتبار حرمته بل هی اعتبار عدم حرمته، ودعوی عدم الحاجة إلی هذا الاعتبار بعد اعتبار النجاسة کدعوی عدم الحاجة إلی اعتبار الحلیة بعد اعتبار الحرمة للمحرمات مدفوعة بأن الأمر الاعتباری یکفی فیه الأثر والخروج عن اللغویة فاعتبار الطهارة لغیر النجاسات للردع عن ما عندهم فی بعض الأشیاء من عدها من الأخباث والقذارات کما یری من

ص : 187


1- (1) وسائل الشیعة 3 : 4348، الباب 74، من أبواب النجاسات، الحدیث الأول.

ثم إنک إذا حققّت ما تلونا علیک مما هو مفاد الأخبار، فلا حاجة فی إطالة الکلام فی بیان سائر الأقوال [1] والنقض والإبرام فیما ذکر لها من الاستدلال ولا بأس بصرفه إلی تحقیق حال الوضع وأنه حکم مستقل بالجعل کالتکلیف أو منتزع عنه وتابع له فی الجعل أو فیه تفصیل حتی یظهر حال ما ذکر ها هنا بین التکلیف والوضع من التفصیل [2].

العادات عند بعض المجتمعات حتی من المتشرعة.

[1] لا بأس بالتعرض فی المقام إلی ما یقال من التفصیل بین الشک فی الرافع وبین الشک فی رافعیة الموجود بجریان الاستصحاب فی الأول دون الثانی کما حکی ذلک عن السبزواری رحمه الله بدعوی أن الیقین بالرافعیة لا ینافی الیقین بالشیء کما أن الیقین به لا ینافی الیقین بها فإنه إذا توضأ شخص یکون علی یقین بطهارته مع یقینه بأن البول رافع للطهارة، وإنما لا یجتمع الیقین بالطهارة مع الیقین بحصول الرافع أو الشک فی حصوله فرفع الید عن الیقین بالطهارة السابقة مع الشک فی حصول الرافع داخل فی صدر أخبار لا تنقض ورفع الید عنها بالیقین بحصول الرافع داخل فی ذیلها، وحیث إن الیقین برافعیته شیء لا یصلح ناقضاً کذلک الشک فی ناقضیة شیء کالمذی لا یصلح ناقضاً للمتیقن بالطهارة ولا یستند النقض إلی الشک فی ناقضیة المذی ولکن لا یخفی أن المنهی عنه فی الأخبار هو رفع الید عن الیقین بالحالة السابقة مع احتمال بقائها، وأن الیقین بالحالة السابقة یحسب یقیناً ببقائها من غیر فرق بین أن یکون احتمال بقائها مستنداً إلی الشک فی وجود الرافع مع إحراز الرافعیة أو إلی الشک فی الرافعیة مع إحراز وجود المشکوک رافعیته.

[2] ومن جملة الأقوال التفصیل فی اعتبار الاستصحاب بین الحکم التکلیفی والوضعی وجریانه فی الثانی دون الأول کما نسب الفاضل التونی إلی نفسه وإن فسّر

ص : 188

فنقول وباللّه الإستعانة:

لا خلاف کما لا إشکال فی اختلاف التکلیف والوضع مفهوماً، واختلافهما فی الجملة مورداً، لبداهة ما بین مفهوم السببیة أو الشرطیة ومفهوم مثل الإیجاب أو الإستحباب من المخالفة والمباینة.

الوضعی بما یخرجه عن قسم الحکم.

وذکر الماتن قدس سره ما حاصله أنه لا کلام ولا خلاف فی أن المفهوم من لفظ الوضع یخالف المفهوم من لفظ التکلیف وإنهما یختلفان بحسب موارد الصدق فی الجملة بمعنی أنه یتحقق فی موارد الوضع من غیر أن یکون تکلیف فیه کالحدث من الصبی بوطیه صبیة أو امرأة ویتحقق فی مورد التکلیف من غیر حصول الوضع فیه کتحریم الکذب علی المکلف بل لا یمکن الالتزام باتحاد التکلیف والوضع لکمال الاختلاف بینهما کالسببیة أو الشرطیة فإنهما یحملان علی مثل زوال الشمس مما لا یمکن أن یتعلق به التکلیف، ولا ینبغی التأمل فی أن الحکم ببعض معانیه وإن لا یقبل التقسیم إلیها کما إذا اُرید منه المجعول الشرعی المقتضی لاختبار أحد طرفی الفعل تعییناً أو تخییراً إلاّ أنه بالمعنی الآخر قابل للتقسیم إلیهما کما إذا کان المراد منه ما یوءخذ من الشارع بما هو شارع، ویشهد علی إطلاق الحکم علی کل من التکلیف والوضع صحة تقسیمه إلیهما فیقال: إن الزوجیة أو الملکیة حکم، ودعوی أن إطلاقه علی الوضع بنحو من العنایة والتجوز یدفعها ملاحظة موارد الإطلاق.

ثمّ إنه قد وقع الخلاف فی الوضع فی بعض جهات لا یهم البحث فیها کالبحث فی أن الحکم الوضعی منحصر علی اُمور خاصة کالسببیة والشرطیة والمانعیة کما عن العلامة أو مع زیادة العلیة والعلامیة کما یقال فی أن قصر الصلاة عند خفاء الأذان والجدران لکون عدم السماع والخفاء علة لوجوب القصر أو کونهما علامة للبعد

ص : 189

کما لا ینبغی النزاع فی صحة تقسیم الحکم الشرعی إلی التکلیفی والوضعی، بداهة أن الحکم وإن لم یصح تقسیمه إلیهما ببعض معانیه ولم یکد یصح إطلاقه علی الوضع، إلاّ أن صحة تقسیمه بالبعض الآخر إلیهما وصحة إطلاقه علیه بهذا المعنی، مما لا یکاد ینکر، کما لا یخفی، ویشهد به کثرة إطلاق الحکم علیه فی کلماتهم، والإلتزام بالتجوز فیه، کما تری.

وکذا لا وقع للنزاع فی أنه محصور فی أمور مخصوصة، کالشرطیة والسببیة والمانعیة _ کما هو المحکی عن العلامة _ أو مع زیادة العلیة والعلامیة، أو مع زیادة

الخاص الموجب للقصر أو مع زیادة الصحة والبطلان والعزیمة والرخصة أو أن الحکم الوضعی لا ینحصر علیها بل کل ما لیس من التکلیف مما له دخل فیه أو موضوع له أو متعلق له أو حتی ما لم یکن له دخل فیه ولکن یصح إطلاق الحکم علیه فهو وضع، والوجه فی عدم کون البحث فی هذه الجهة مهماً ما یأتی من عدم ترتب ثمرة عملیة علی انحصاره علی ما ذکر وعدم انحصاره علیه بل المهم البحث فی أن الحکم الوضعی کالتکلیف مجعول بنفسه أو أنه مجعول تبعی یکون بتبع إنشاء التکلیف أو أنه غیر مجعول أصلاً.

أقول: لم یظهر الفرق بین العلیة والسببیة لتزداد الاُولی علی الثانیة، ولم یظهر أیضاً کون العزیمة أو الرخصة وضعاً فإن العزیمة تطلق فی موارد سقوط التکلیف المتعلق بالفعل رأساً بحیث لا تبقی مشروعیته کسقوط التغسیل عن المیت الشهید، وسقوط وجوب التمام فی حق المسافر، والأذان للصلاة فیمن حضر للصلاة فی المسجد بعد تمام صلاة الجماعة وقبل تفرق الصفوف إلی غیر ذلک مما لا یکون تکلیف متعلق بالفعل ولو ندباً بحیث أمکن الإتیان به بنحو قربی، واُخری یتعلق به تکلیف تخییری أو استحبابی بعد سقوط الوجوب التعیینی. وأما الصحة والفساد

ص : 190

الصحة والبطلان، والعزیمة والرخصة، أو زیادة غیر ذلک _ کما هو المحکی عن غیره _ أو لیس بمحصور، بل کلّ ما لیس بتکلیف مما له دخل فیه أو فی متعلقه وموضوعه، أو لم یکن له دخل مما أطلق علیه الحکم فی کلماتهم، ضرورة أنه لا وجه للتخصیص بها بعد کثرة إطلاق الحکم فی الکلمات علی غیرها، مع أنه لا تکاد تظهر ثمرة مهمة علمیّة أو عملیّة للنزاع فی ذلک، وإنما المهم فی النزاع هو أن الوضع کالتکلیف فی أنه مجعول تشریعاً بحیث یصح انتزاعه بمجرد إنشائه، أو غیر مجعول کذلک، بل إنما هو منتزع عن التکلیف ومجعول بتبعه وبجعله.

والتحقیق أن ما عُدّ من الوضع علی أنحاء.

منها: ما لا یکاد یتطرق إلیه الجعل تشریعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن کان

فیأتی الکلام فیهما کما یأتی بیان عدم الفرق بین السببیة والشرطیة للتکلیف، وإنما یطلق الشرط فی مورد قید التکلیف کما یقال: دخول الوقت شرط لوجوب الصلاة، والاستطاعة شرط لوجوب الحج، والسبب یطلق فی موارد الوضع کما یقال: الملاقاة مع النجس رطباً سبب لنجاسة الطاهر، والموت سبب لنجاسة المیت إلی غیر ذلک. وعلی الجملة الحکم الشرعی هو المجعول من الشارع فإن کان ذلک المجعول داخلاً فی عنوان الإیجاب والتحریم أو الترخیص فهو حکم تکلیفی، وإن لم یکن داخلاً فیها وکان مما یحمل علی الفعل أو غیره من الموضوع فهو حکم وضعی سواء کان جعله بنحو الاستقلال أو تبعاً للتکلیف، وقد قسم الماتن الحکم الوضعی إلی أقسام ثلاثة، منها: ما لا یکون مجعولاً لا بنحو الاستقلال ولا بنحو التبع للتکلیف، والمراد من المجعول أن یکون جعل التکلیف یوجب حصول المنشأ لحصوله وهذا القسم من الحکم الوضعی لا یقبل الجعل الإنشائی بوجه، بل هو أمر واقعی کالسببیة والشرطیة والمانعیة والرافعیة للتکلیف فیکون اتصاف ما هو سبب بالسببیة، وما هو شرط ومانع

ص : 191

مجعولاً تکویناً عرضاً بعین جعل موضوعه کذلک.

ومنها: ما لا یکاد یتطرق إلیه الجعل التشریعی إلاّ تبعاً للتکلیف.

ومنها: ما یمکن فیه الجعل استقلالاً بإنشائه، وتبعاً للتکلیف بکونه منشأً لانتزاعه، وإن کان الصحیح انتزاعه من إنشائه وجعله، وکون التکلیف من آثاره وأحکامه، علی ما یأتی الإشارة إلیه.

أما النحو الأول: فهو کالسببیّة والشرطیّة والمانعیّة والرافعیّة لما هو سبب التکلیف وشرطه ومانعه ورافعه، حیث إنه لا یکاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التکلیف المتأخر عنها ذاتاً، حدوثاً أو ارتفاعاً، کما أنّ اتصافها بها لیس إلاّ لأجل ما علیها من الخصوصیة المستدعیة لذلک تکویناً، للزوم أن یکون فی العلّة بأجزائها

ورافع بالشرطیة، والمانعیة والرافعیة حاصلة من غیر أن تتوقف علی جعل إنشائی استقلالاً أو تبعاً، والوجه فیما ذکره فی هذا القسم ما تقرر فی محله من لزوم الارتباط الخاص بین الشیء وأجزاء علته، وإلاّ لأثر کل شیء فی کل شیء، وعلیه فذلک الارتباط الخاص والخصوصیة الموجبة أمر خارجی لا یحصل بالإنشاء بمثل قوله دلوک الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر والعصر لبقاء الدلوک بحاله بعد ذلک ولو کان فاقداً لتلک الخصوصیة لکان فاقداً لها بعده، ولو کان واجداً کان واجداً لها قبله أیضاً والحاصل أن تلک الخصوصیة الموجبة لإنشاء التکلیف عند حصول الدلوک مثلاً لا یمکن أن تحصل من التکلیف المتأخر عنه ولو أطلق بعد قوله یجب الصلاة عند الدلوک السببیة لوجوبها وأنه صار سبباً، لوجوبها فهذا الإطلاق بنحو العنایة أو أنه کنایة عن وجوبها عنده، وفی الحقیقة السببیة ونحوها منتزعة عن الخصوصیة الخارجیة الکامنة فیما یطلق علیه السبب أو الشرط أو المانع أو الرافع قبل إنشاء التکلیف بالصلاة.

ص : 192

من ربط خاص به کانت مؤثرة فی معلولها، لا فی غیره، ولا غیرها فیه، وإلاّ لزم أن یکون کل شیء مؤثراً فی کل شیء، وتلک الخصوصیة لا یکاد یوجد فیها بمجرد إنشاء مفاهیم العناوین، ومثل قول: دلوک الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاءً لا إخباراً، ضرورة بقاء الدلوک علی ما هو علیه قبل إنشاء السببیة له، من کونه واجداً لخصوصیةٍ مقتضیةٍ لوجوبها أو فاقداً لها، وإن الصلاة لا تکاد تکون واجبة عند الدلوک ما لم یکن هناک ما یدعو إلی وجوبها، ومعه تکون واجبة لا محالة وإن لم ینشأ السببیة للدّلوک أصلاً.

ومنه انقدح أیضاً، عدم صحة انتزاع السببیة له حقیقةً من إیجاب الصلاة عنده، لعدم اتصافه بها بذلک ضرورة.

نعم لا بأس باتصافه بها عنایةً، واطلاق السبب علیه مجازاً، کما لا بأس بأن

فی السببیة والشرطیة والمانعیة لنفس التکلیف

أقول: لا یخفی ما فی کلامه من الضعف فإنه لا ینبغی التأمل فی أن الوجوب أو غیره من التکلیف أمر إنشائی یحصل بالإنشاء والاعتبار، وإرادة المولی لا تتعلق بفعل العبد فإن فعله غیر مقدر للمولی بما هو مولی والحب والبغض والرضا وإن أمکن تعلقها بفعل العبد إلاّ أن شیئاً منها لا یکون مصداقاً للتکلیف ولا الإرادة حقیقة، بل إرادة المولی تتعلق بفعل نفسه وهو إنشاء التکلیف من الوجوب والحرمة، والترخیص یعنی الإباحة، وإذا کان الوجوب أمراً إنشائیاً فلا یمکن أن تکون الخصوصیة الخارجیة للدلوک موجدة لوجوب الصلاة، بل یکون وجوبها بالإنشاء المعبر عنه بالإیجاب، والإیجاب فعل اختیاری للمولی وإرادته الإیجاب یکون بعد اُمور موطنها جمیعاً النفس، ومنها لحاظ صلاح الفعل عند الدلوک فالخصوصیة الخارجیة فی الدلوک توجب الصلاح فی الصلاة عند حصوله، ومن الظاهر أن الصلاح

ص : 193

یعبّر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوک _ مثلاً _ بأنه سبب لوجوبها فکنی به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلک أنه لا منشأ لانتزاع السببیة وسائر ما لأجزاء العلة للتکلیف، إلاّ ما هی علیها من الخصوصیة الموجبة لدخل کل فیه علی نحو غیر دخل الآخر، فتدبر جیداً.

وأما النحو الثانی: فهو کالجزئیة والشرطیة والمانعیة والقاطعیة، لما هو جزء المکلف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حیث إن اتصاف شیء بجزئیة المأمور به أو شرطیته أو غیرهما لا یکاد یکون إلاّ بالأمر بجملة أمور مقیدة بأمر وجودی أو عدمی، ولا یکاد یتصف شیء بذلک _ أی کونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به _ إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما یشتمل علیه مقیداً بأمر آخر، وما لم یتعلق بها الأمر کذلک لما کاد

فی الفعل لا یکون تکلیفاً ولا موضوعاً لتکلیف. وقد اعترف قدس سره فی بحث الشرط المتأخر عندما ذکر أن ما یطلق علیه شرط التکلیف لا یکون شرطاً له حقیقة حیث إن المؤثر لحاظه لا نفسه، وإذا کان الکلام فی المقام فی السببیة والشرطیة بالإضافة إلی التکلیف المجعول لا بالإضافة إلی إنشائه فالدلوک الموجب للصلاح فی الصلاة بحصوله بلحاظه یکون داعیاً للمولی إلی إنشاء الوجوب لها عنده، والإنشاء بالإضافة إلی المنشأ لا یکون من قبیل الإیجاد والوجود لیکون الفرق بینهما بمجرد الاعتبار واللحاظ، وإلاّ ففی الحقیقة الإیجاد نفس وجود الشیء بل الإنشاء أمر والمنشأ أمر آخر؛ ولذا یکون المنشأ أمراً متأخراً عن إنشائه زماناً فإن الإنشاء متقوم بقصد تحقق الأمر الاعتباری ولو متأخراً بإبرازه أو مع إبرازه، والکلام فی المقام فی السبب والشرط والمانع للتکلیف المنشأ وکل ذلک لیس إلاّ بأخذ ما یطلق علیه السبب والشرط والمانع قیداً فی ناحیة موضوع التکلیف ثبوتاً أو فی ناحیته أو ناحیة نفس التکلیف

ص : 194

اتصف بالجزئیة أو الشرطیة، وإن أنشأ الشارع له الجزئیة أو الشرطیة، وجعل الماهیة واختراعها لیس إلاّ تصویر ما فیه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها، فتصورها بأجزائها وقیودها لا یوجب اتصاف شیء منها بجزئیة المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها، فالجزئیة للمأمور به أو الشرطیة له إنما ینتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، بلا حاجة إلی جعلها له، وبدون الأمر به لا اتصاف بها أصلاً، وإن اتصف بالجزئیة أو الشرطیة للمتصور أو لذی المصلحة، کما لا یخفی.

إثباتاً فإن کان القید أمراً وجودیاً یطلق علیه الشرط أو السبب، وإن کان أمراً عدمیاً یعبّر عن وجوده بالمانع، وإن کان قیداً لاستمراره وبقائه یعبر عنه بالرافع أو الغایة، وکل ذلک یکون بلحاظ المولی عند إنشائه التکلیف علی المکلف بنحو القضیة الحقیقیة المعبر عنه بمقام الجعل، وبهذا یظهر إمکان الشرط المتأخر بالإضافة إلی نفس التکلیف، وعلی ذلک فیمکن أن یکون الشیء بتحققه موضوعاً للحکم المقارن له أو بتحققه السابق أو المتأخر، وبهذا صححنا سابقاً الشرط المتأخر للتکلیف.

ومما ذکرنا یظهر أنه لا فرق بین السببیة للتکلیف والشرطیة له فکل منهما ینتزع عن کون شیء قیداً لموضوع التکلیف والحکم فیقال: الاستطاعة شرط لوجوب الحج، والتقاء الختانین أو الإنزال سبب لوجوب غسل الجنابة. وعلی الجملة الشرطیة والمانعیة للتکلیف نظیر الشرطیة والمانعیة والجزئیة للمأمور به تنتزع عن إنشاء التکلیف وجعله، وفی ذلک المقام یوءخذ الشیء قیداً فی ناحیة موضوع التکلیف والوضع أو فی ناحیة متعلق التکلیف أو موضوع الوضع والفرق بینهما أن کون شیء شرطاً وقیداً للتکلیف لدخالته فی صلاح الفعل، ولذا قد یکون أمراً غیر اختیاری، ویعتبر التکلیف علی تقدیر حصوله بخلاف القید أو الجزء لمتعلق التکلیف فإن حصوله دخیل فی استیفاء الملاک أو لقیام الملاک به وبغیره کما فی

ص : 195

وأما النحو الثالث: فهو کالحجیة والقضاوة والولایة والنیابة والحریّة والرقیّة والزوجیة والملکیة إلی غیر ذلک حیث إنها وإن کان من الممکن انتزاعها من الأحکام التکلیفیة التی تکون فی مواردها _ کما قیل _ ومن جعلها بإنشاء أنفسها، إلاّ أنه لا یکاد یشک فی صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالی، أو من بیده الأمر من قبله _ جل وعلا _ لها بإنشائها، بحیث یترتب علیها آثارها، کما یشهد به ضرورة صحة انتزاع الملکیّة والزوجیّة والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الإیقاع ممن بیده الاختیار بلا ملاحظة التکالیف والآثار، ولو کانت منتزعة عنها لما کاد یصح اعتبارها إلاّ بملاحظتها، وللزم أن لا یقع ما قصد، ووقع ما لم یقصد[1].

الجزء؛ ولذا یجب الإتیان بهما، وعلی ذلک لو ورد خطاب وجوب الصلاة عند الدلوک یکون الدلوک بنفسه قیداً للوجوب ومع کون التکلیف انحلالیاً بالإضافة إلی الدلوک کما هو کذلک بالإضافة إلی أفراد المکلف ففی کل دلوک یثبت وجوب الصلاة فی حق کل مکلف بمعنی یکون وجوب الصلاة فعلیاً بفعلیة الدلوک لکل مکلف کما هو الحال فی الحکم المجعول بنحو القضیة الحقیقیة. وقد ظهر مما تقدم حال قیود متعلق التکلیف، وأن الشرطیة أو المانعیة لشیء بالإضافة إلی متعلق التکلیف تحصل بتبع تعلق التکلیف بالمقید کحصول الجزئیة لأجزاء متعلق التکلیف بلحاظ تعلق التکلیف فی مقام الجعل بها.

فی القسم الثالث من الأحکام الوضعیة

[1] وذکر قدس سره فی القسم الثالث من الأحکام الوضعیة أنه یمکن جعلها مستقلاً بإنشائها کما یمکن جعلها تبعاً بإنشاء التکلیف فی موردها بحیث تکون منتزعة من التکلیف المجعول کالحجیة والقضاوة _ أی منصبها _ والولایة والنیابة والحریة والرقیة والزوجیة والملکیة إلی غیر ذلک، ولکن الصحیح أنها مجعولة مستقلة وابتداءً حیث

ص : 196

کما لا ینبغی أن یشک فی عدم صحة انتزاعها عن مجرد التکلیف فی موردها، فلا ینتزع الملکیّة عن إباحة التصرفات، ولا الزوجیة من جواز الوطئ، وهکذا سائر الإعتبارات فی أبواب العقود والإیقاعات.

فانقدح بذلک أن مثل هذه الإعتبارات إنما تکون مجعولة بنفسها، یصح انتزاعها بمجرد إنشائها کالتکلیف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.

یصح انتزاعها بمجرد جعلها ممن بیده أمر جعلها مع الغمض عن التکلیف الثابت فی مواردها فإنه تنتزع الملکیة والزوجیة وغیرهما بمجرد العقد أو الإیقاع ممن بیده اختیارهما مع الغمض عما یترتب علیهما من التکلیف، ولو کانت مجعولة بتبع التکلیف لم یصح انتزاعها مع الغمض عنه وأیضاً العاقد أو الموقع یقصد بعقده وإیقاعه حصول الوضع ولو لم یحصل وحصل التکلیف لزم عدم حصول ما قصد، وحصول ما لم یقصد، أضف إلی ذلک عدم صحة انتزاع تلک الاُمور عن التکلیف المذکور فی مواردها مثلاً لا یصح انتزاع الملکیة من جواز التصرف حتی مع جواز التصرف الموقوف علی الملک؛ لأن هذا الجواز یثبت فیما إذا کان الشیء ملک غیر أیضاً ویقتضی جواز تملکه قبل التصرف الموقوف علی مالکیته وکذا لا یصح انتزاع الزوجیة من جواز الاستمتاع من المرأة فإنه یثبت فی موارد عدم الزوجیة کموارد تحلیل المالک أمته للغیر أو کون الأمة ملکاً له، وتثبت الزوجیة بدون جواز الوطی کما فی وط ء الزوجة قبل بلوغها إلی غیر ذلک، والحاصل أن الاُمور المشار إلیها فی القسم الثالث من الوضع بنفسها قابلة للجعل کالتکلیف ولا تنتزع من التکلیف الثابت فی مواردها بل التکلیف یترتب علیها کسائر ترتب الأحکام علی موضوعاتها.

أقول: الاستدلال علی کون هذا القسم من الأحکام الوضعیة مجعولة مستقلاً لا بتبع التکلیف بإنشاء العاقد والموقع لها مع الغمض عن التکلیف فی مواردها ولو

ص : 197

وهم ودفع: أما الوهم: فهو أن الملکیّة کیف جعلت من الإعتبارات الحاصلة بمجرد الجعل والإنشاء التی تکون من خارج المحمول، حیث لیس بحذائها فی الخارج شیء، وهی إحدی المقولات المحمولات بالضمیمة التی لا تکاد تکون بهذا السبب، بل بأسباب أخر کالتعمّم والتقمّص والتنعّل، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملک، وأین هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟

لم تحصل لزم عدم حصول ما قصد وحصول ما لم یقصد غیر صحیح، والوجه فی ذلک أنه لا کلام بل ولا خلاف فی أن من بیده أمر العقد أو الإیقاع ینشئ ملکیة المال وزوجیة المرأة أو فرقتها ابتداءً فی البیع والنکاح والطلاق إلی غیر ذلک، والکلام فی أن الملکیة والزوجیة والفرقة وغیر ذلک مما ینشئه العاقد أو الموقع غیر داخل فی الحکم الشرعی والداخل فیه مما یکون حکماً شرعیاً وضعیاً هل یحصل بإمضاء الشارع ما جعله العاقد والموقع کما یستظهر ذلک من قوله سبحانه: «أحل اللّه البیع»(1) و«انکحوا ما طاب لکم من النساء»(2) أو یحصل بجعل الشارع الحکم التکلیفی علی ما یجعله العاقد أو الموقع کما فی قوله سبحانه «الذین هم لفروجهم حافظون إلاّ علی أزواجهم»(3) وقوله صلی الله علیه و آله علی المروی: «الناس مسلطون علی أموالهم»(4) إلی غیر ذلک، وبالجملة لا یبطل ما ذکره الشیخ قدس سره من کون الزوجیة والملکیة وغیرهما من الأحکام الوضعیة یتبع جعل الأحکام التکلیفیة بما ذکر من حصولها بالعقد والإیقاع من العاقد أو الموقع مع غمضهما عن التکلیف فی موردها،

ص : 198


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.
2- (2) سورة النساء: الآیة 3.
3- (3) سورة المؤمنون: الآیتان 5 _ 6.
4- (4) عوالی اللآلی 1 : 457، حدیث 198.

وأما الدفع: فهو أن الملک یقال بالإشتراک علی ذلک، ویسمی بالجدة أیضاً، واختصاص شیء بشیء خاص، وهو ناشیء إما من جهة إسناد وجوده إلیه، ککون العالم ملکاً للباری (جل ذکره)، أو من جهة الإستعمال والتصرف فیه، ککون الفرس لزید برکوبه له وسائر تصرفاته فیه، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختیاره بیده، کملک الأراضی والعقار البعیدة للمشتری بمجرد عقد البیع شرعاً وعرفاً.

وإلاّ لزم حصول ما لم یقصد وعدم حصول ما قصد، والحاصل أن الأحکام الوضعیة فی القسم الثالث مجعولة بنفسها ولا تنتزع من التکلیف الثابت فی مواردها أخذاً بظاهر الخطابات حیث إن مقتضاها کون تلک الأحکام یعنی الوضعیة مجعولة، والتکلیف فی مواردها أثر لثبوتها کسائر الأحکام بالإضافة إلی موضوعاتها کظاهر آیات إرث أولی الأرحام والأقارب حیث إن ظاهرها ثبوت ملکیة ترکة المتوفی لهما بعد الدین والوصیة، وما ورد فی ثبوت الخیارات من خیار المجلس والحیوان والشرط والروءیة فی البیع مطلقاً ما دام المجلس وفی شراء الحیوان للمشتری إلی غیر ذلک، وما ورد فی ثبوت ضمان الإتلاف والتلف فی کون الضمان مجعولاً وکذا حق الشفعة وحق القصاص وملکیة الدیة والوکالة والولایة وهکذا فی کون ما ذکر بنفسها مجعولات تأسیساً أو إمضاءً، ویترتب علیها التکالیف الثابتة فی مواردها.

القسم الثالث من الحکم الوضعی

ثمّ إن الماتن قدس سره تعرض فی ذیل کلامه فی هذا القسم لأمر وتوضیح وعبر عن الأول بالوهم، وعن الثانی بالدفع أما الأول فهو: أن الملکیة جعلت من القسم الثالث من الأحکام الوضعیة المجعولة بإنشائها تأسیساً أو إمضاءً فتکون من الاعتبارات الحاصلة بالإنشاء وکل الاعتبارات الحاصلة بالإنشاء والمنتزعة عنه داخل فی خارج المحمول حیث إن الاعتبارات لا یکون بإزائها فی الخارج شیء غیر منشأ الانتزاع لها

ص : 199

فالملک الذی یسمی بالجدة أیضاً، غیر الملک الذی هو اختصاص خاص ناشیء من سبب اختیاریّ کالعقد، أو غیر اختیاری کالإرث، ونحوهما من الأسباب الاختیاریّة وغیرها، فالتوهّم إنما نشأ من إطلاق الملک علی مقولة الجدة أیضاً، والغفلة عن أنه بالاشتراک بینه وبین الاختصاص الخاص والإضافة الخاصة الإشراقیّة کملکه تعالی للعالم، أو المقولیة کملک غیره لشیء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غیرها من الأعمال، فیکون شیء ملکاً لأحد بمعنی، ولآخر بالمعنی الآخر، فتدبّر.

المعبر عنه بإنشاءاتها مع أنه قد ذکر فی محله أن الملکیة من المحمولات بالضمیمة التی لا تحصل بالإنشاء بل لابد فیها من سبب خارجی کالتعمم والتقمص والتنعل فالحالة الحاصلة للإنسان منها هو الملک فأین هذا من الاعتبار المنتزع من مجرد الإنشاء أقول الظاهر أن مراد الماتن من قوله فالحالة الحاصلة منها کون (منها) بیانیة؛ لأن نفس التعمم أو التقمص أو التنعل هو الملک لا أن الملک حالة توجد بالتعمم والتقمص والتنعل ضرورة أنها بنفسها حالة للإنسان حدوثاً وبقاءً، وأما الثانی یعنی الدفع هو أن الملک یطلق علی الاشتراک علی أمرین؛ أحدهما _ ما ذکر من کونها من المحمولات بالضمیمة وتکون لها خارجیة. والثانی _ هو اختصاص شیء لشیء، والاختصاص أما بالإضافة الإشراقیة کإضافة المعلول إلی علته، ومنها إضافة العالم إلی الباری تعالی، وأما إضافة مقولیة وتکون هذه الإضافة باختصاص التصرف والاستعمال کاختصاص الفرس بزید لرکوبه له وسائر تصرفاته فیه أو بسبب غیر اختیاری کالإرث أو اختیاری کالعقد فالتوهم نشأ من اشتراک الملک بین الحالة المتقدمة التی یطلق علیها الجدة أیضاً وبین الاختصاص الخاص التی تکون بالإضافة الإشراقیة أو المقولیة الحاصلة بالتصرف واستعمال أو أرث أو عقد أو غیرهما فعلی

ص : 200

إذا عرفت اختلاف الوضع فی الجعل، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب دخل ماله الدخل فی التکلیف[1] إذا شک فی بقائه علی ما کان علیه من الدخل، لعدم کونه حکماً شرعیاً، ولا یترتب علیه أثر شرعیّ، والتکلیف وإن کان مترتّباً علیه إلاّ أنه لیس بترتب شرعی، فافهم.

ذلک یختلف إضافة الفرس إلی اللّه سبحانه عن إضافته إلی زید فإن الأول إضافة إشراقیة والثانی إضافة مقولیة.

أقول: إنّ الملکیة التی تعدّ من الأحکام الوضعیة من الاعتبارات الحاصلة بإنشائها کما أنها لا تکون من المحمولات بالضمیمة کذلک لا تکون من خارج المحمول فإن خارج المحمول من المنتزعات المعبر عنها بالاعتبارات العقلیة التی لها منشأ انتزاع حقیقی کالفوقیة للفوق فی مقابل المحمولات بالضمیمة کالسواد للجسم، وبتعبیر آخر الاعتبارات العرفیة لیس لها تحقق لا بنفسها، ولا منشأ انتزاع حقیقی لها وهی خارجة عن المقسم للمحمولات بالضمیمة والمحمولات بخارج المحمول، ولذا تقبل الإلغاء ولو بإلغاء منشأ اعتبارها بخلاف الاعتبارات العقلیة فإنها غیر قابلة للإلغاء کما هو ظاهر.

جریان الاستصحاب فی الأحکام الوضعیة وعدمه

[1] قد فرع الماتن قدس سره علی ما ذکر فی القسم الأول من الحکم الوضعی عدم جریان الاستصحاب فیه حیث ذکر سابقاً أنه لا جعل فیها لا استقلالاً ولا تبعاً للتکلیف کالسببیة والشرطیة والمانعیة له فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة دخل ما کان له الدخل فی التکلیف فیما إذا شک فی بقائه علی ما کان من الدخل وذلک لعدم کون دخالته حکماً شرعیاً ولا یترتب علیها أثر شرعی والتکلیف وإن کان مترتباً علی دخالته إلاّ أن الترتب أمر قهری لا شرعی.

ص : 201

.··· . ··· .

فی عدم جریان الاستصحاب فی القسم الأول من الأحکام الوضعیة

أقول علی الماتن قدس سره أن یلتزم بعدم جریان الاستصحاب فی ناحیة نفس شرط التکلیف أو عدم مانعه أو رافعه فی الشبهة الموضوعیة أیضاً فإنه کما التزم بعدم جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء شیء علی شرطیته للتکلیف کا لشک فی أن غلیان العنب بعد صیرورته زبیباً یوجب حرمته کذلک لا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم غلیان العنب فیما إذا شک فی غلیانه فإن غلیانه وإن تترتب علیه حرمته إلاّ أن الترتب قهری لیس بشرعی وکذلک الاستصحاب فی ناحیة عدم ذهاب ثلثیه بعد غلیانه، ومن هذا القبیل جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم دلوک الشمس، ولا أظن أن یلتزم هو أو غیره بعدم جریان الاستصحاب فی مثل هذه الشبهات الموضوعیة.

وعلی الجملة فالماتن قدس سره قد خلط شرایط الجعل بشرایط المجعول، وبیان ذلک أنه کما تکون شرطیة شیء لمتعلق التکلیف من الواجب أو الحرمة بتعلق الوجوب أو الحرمة بالفعل بحیث یکون ذلک الشیء قیداً ویعبّر عنه بالشرط إذا کان الدخیل فی متعلق التکلیف وجوده والمانع إذا کان الدخیل عدمه فکذلک المأخوذ فی مقام الثبوت فی ناحیة موضوع التکلیف فإن کان حصول شیء قیداً لموضوع التکلیف یعبر عنه بشرط التکلیف، وإن کان المأخوذ فیه عدمه یعبر عن وجوده بالمانع عن التکلیف، والتکلیف سواء کان وجوباً أو حرمة أو غیرهما فی فعلیته تابع لجعله حیث إن التکلیف بأقسامه مجعول للمولی وقد ذکرنا مراراً أن التکلیف المجعول بنحو القضیة الحقیقیة له مقامان؛ مقام الجعل، ومقام الفعلیة، ومقام الفعلیة إنما هو بفعلیة ما فرض فی مقام الجعل حصوله وثبوت التکلیف معه أو بعده أو قبله علی اختلاف

ص : 202

وإنه لا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الوضع المستقلّ بالجعل، حیث إنه کالتکلیف، وکذا ما کان مجعولاً بالتبع، فإنّ أمر وضعه ورفعه بید الشارع ولو

الشرط للتکلیف من کونه مقارناً أو مقدماً أو متأخراً أو إطلاق الشرط علیه لیس بمعناه الفلسفی بل بمعنی کونه قیداً للموضوع للتکلیف سواء عبر عنه بالشرط أو السبب فما دام لم یجعل التکلیف لموضوعه علی تقدیر حصوله لا شرطیة ولا سببیة ولا مانعیة ولا رافعیة للتکلیف کما کان الحال کذلک فی الشرطیة والمانعیة لمتعلق التکلیف، ویکون ترتب التکلیف علی فعلیة موضوعه وقیده ترتباً شرعیاً حیث إنه تابع لجعله الذی هو فعل المولی؛ ولذا لو شک فی بقاء التکلیف بالشبهة الموضوعیة یحرز بقاؤه بالاستصحاب فی بقاء الموضوع أو بقاء قیده، وإذا شک فی حصوله وعدمه یحرز عدمه بالاستصحاب فی ناحیة الموضوع وقیده، وإذا شک فیه بالشبهة الحکمیة یجری الاستصحاب فی ناحیته بناءً علی جریانه فی الشبهات الحکمیة علی ما تقدم الکلام فی ذلک مفصلاً عند التعرض لأخبار الاستصحاب.

وأما دخالة حصول شیء فی صلاح الفعل أو مفسدته فلحاظه داع للمولی إلی جعل الوجوب أو الحرمة ودخالته بلحاظه فی إرادة المولی جعل التکلیف علی تقدیر حصوله أو عدم حصوله خارجة عن مقسم الحکم وإحراز دخالته وکیفیة دخالته وظیفة المولی ولا دخل لاعتقاد المکلف وشکه فیها لیکون مورداً للاستصحاب، وقد اعترف الماتن فی بحث الشرط المتأخر أن الدخیل لحاظ الشیء لا نفسه، وذکرنا أنّ لحاظه دخیل فی الجعل لا فی الحکم المجعول، وکلامه فی المقام ککلامه فی الشرط المتأخر خلط بین شرط الجعل وشرط الحکم المجعول فلا تغفل.

ثمّ إنه قد ظهر مما ذکرنا أنّ الشرطیة أو السببیة والمانعیة والرافعیة للتکلیف

ص : 203

بتبع منشأ انتزاعه [1]، وعدم تسمیته حکماً شرعیاً لو سلّم غیر ضائر بعد کونه مما تناله ید التصرف شرعاً، نعم لا مجال لاستصحابه، لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه، فافهم.

لیست اُموراً مجعولة شرعیاً توجد بجعل التکلیف بل هی فی نفسها حکم العقل یتبع الحکم بعد تمام جعله بنحو القضیة الحقیقیة فإنه إذا اعتبر الشارع الحرمة لتناول العصیر عند غلیانه وقبل ذهاب ثلثیه بعد غلیانه یحکم العقل بأن فعلیة حرمة العصیر تکون بالغلیان، وإذا اعتبر وجوب صلاتی الظهر والعصر عند دلوک الشمس إلی أن تغرب یحکم بأن الدلوک شرط أو سبب لوجوبهما الفعلیین، وکل ذلک لحکم العقل بأن الحکم المجعول الموضوع له قید یکون فعلیة ذلک الحکم فی فرض ذات الموضوع منوطاً بحصول قیده فی موطنه فإن حکمه هذا نظیر حکمه بأنه لا فعلیة للکل إلاّ بفعلیة کل من أجزائه بل یمکن جریان ما ذکر فی الشرطیة والمانعیة لمتعلق التکلیف فإنها فی الحقیقة حکمه بأنه لا فعلیة للمتعلق من غیر فعلیة شرطه أو فقد مانعه.

[1] التزم قدس سره بجریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الحکم الوضعی کالاستصحاب فی شرطیة شیء أو مانعیته للواجب فإن هذا القسم من الحکم الوضعی قابل للتعبد حیث إنه مجعول ولو بجعل منشأ انتزاعه أی التکلیف حیث إن وضعه ورفعه یکون بوضع التکلیف ورفعه وهذا المقدار یکفی فی التعبد به ثبوتاً أو نفیاً فشمول خطاب: «لا تنقض الیقین بالشک» له فی نفسه لا مانع منه إلاّ أنه لا تصل النوبة إلی جریانه فیه مع جریانه فی منشأ انتزاعه یعنی التکلیف. مثلاً إذا شک فی بقاء شرطیة الاستقبال إلی القبلة فی الصلاة فی مورد لا تصل النوبة إلی الاستصحاب فی شرطیة الاستقبال فیها بل یجری الاستصحاب فی بقاء نفس التکلیف السابق

ص : 204

.··· . ··· .

المتعلق بالصلاة إلی القبلة، وإذا لم یجرِ الاستصحاب فی نفس التکلیف لابتلائه بالمعارض صحّ جریانه فی نفس الحکم الوضعی، ولذا قیل فی دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین بأن الاستصحاب فی عدم تعلق الوجوب بالأکثر یعارض بالاستصحاب فی عدم تعلقه بالأقل بنحو اللابشرط وبعد تعارضهما یرجع إلی الاستصحاب فی عدم جزئیته المشکوک فی جزئیته وکذا فی الشک فی شرطیة شیء أو مانعیته وفیه أن هذا القول وإن کان ضعیفاً لکن الاستصحاب علی تقدیر جریانه فی نفسه فی ناحیة عدم تعلق الوجوب بالأقل بنحو اللابشرط لم یجرِ فی الفرض لا فیه ولا فی عدم جزئیة الجزء المشکوک فی جزئیته أو شرطیة المشکوک فی شرطیته، ولا یفید کون الاستصحاب فی عدم الجزئیة أو الشرطیة أصلاً مسبباً وذلک فی السببیة والمسببیة فی الأصل إنما یفید فی صورة جریان الأصل السببی، وأما فی صورة عدم جریانه یکون الأصل المعارض للأصل السببی معارضاً للأصل المسببی أیضاً لفعلیة الشک فی کل من السبب والمسبب والطرف الآخر فی زمان واحد، ونسبة خطاب الأصل العملی بالإضافة إلیها جمیعاً علی حد سواء حیث إن الاستصحاب فی عدم تعلق الوجوب بالأقل کما یعارض الاستصحاب فی عدم تعلق الوجوب بالأکثر یعارض الاستصحاب فی عدم جزئیة المشکوک أو شرطیته؛ ولذا ذکروا ومنهم الماتن قدس سره فی الحکم فی الملاقی لأحد أطراف العلم بالنجاسة بأنه إذا کانت الملاقاة حاصلة حین العلم بالنجاسة یجب الاجتناب عن الملاقی بالکسر والملاقی بالفتح والطرف الآخر، وأما إذا حدثت الملاقاة بعد العلم بالنجاسة یجب الاجتناب عن الملاقی بالفتح والطرف الآخر دون الملاقی بالکسر، وما نحن فیه من قبیل الأول دون الثانی.

ص : 205

.··· . ··· .

بقی فی المقام أمران:

الأول _ قد تقدم عدّ الصحة والفساد من الأحکام الوضعیة بمعنی أن کلاً منهما مجعول شرعی وعن الشیخ والماتن التفصیل بین الصحة والفساد فی العبادات بأنهما فیهما أمران خارجیان عن جعل الشارع حیث إن الصحة فیها بمعنی مطابقة المأتی به لمتعلق الأمر وفسادها عبارة عن عدم مطابقته له بخلاف الصحة والفساد فی المعاملات حیث إن الصحة فیها بمعنی جعل الأثر للمتحقق منها والفساد بمعنی عدم جعل الأثر له فالفرد الموجود من المعاملة خارجاً إن ترتب الأثر المترتب منها علیه فهو صحیح، وإلاّ ففاسد وربما یقال: إن الصحة فی المعاملات أیضاً مطابقة المأتی به منها لما تعلق به الإمضاء وفسادها عدم مطابقتها له.

والحاصل أن الصحة والفساد من أوصاف ما یتحقق خارجاً فما هو المحقق فی الخارج فعلاً أو تقدیراً مطابقاً لما تعلق به الإمضاء یوصف بالصحة، وإلاّ فبالفساد. نعم، هذا بالإضافة إلی الصحة والفساد الواقعیین فی العبادات والمعاملات، وأما الصحة والفساد الظاهریان فهما مجعولان فی العبادة والمعاملة فإنّ للشارع أن یعتبر عند جهل المکلف غیر المطابق مطابقاً کما فی موارد قاعدتی الفراغ والتجاوز، والمطابق غیر مطابق کما فی مورد جریان الاستصحاب فی عدم حصول الشرط فی العبادة أو المعاملة إذا کان الواقع علی خلاف مقتضاها.

أقول: لا ینبغی التأمل فی أن إحراز صحة العبادة المأتی بها وعدم صحتها وکذا إحزاز صحة معاملة توجد فی الخارج وعدم صحتها یکون بملاحظة خطاب الشارع وملاحظة دلیل یکون مفاده بیان متعلق الأمر أو الموضوع للإمضاء، والکلام فی المقام لیس فی الإحراز وإنما فی أن کلاً من الصحة فی العبادة والمعاملة أمر مجعول

ص : 206

.··· . ··· .

للشارع أم لا، أو یفصل بین العبادة والمعاملة والظاهر هو التفصیل؛ لأن المتحقق خارجاً لا یتعلق به الأمر حیث إنه طلب الإیجاد لا طلب الشیء بعد وجوده، ومطابقة المأتی به لما یطلب إیجاده أمر واقعی یدرکه العقل بخلاف المعاملات فإن الحکم الشرعی والإمضاء یجعل لوجوداتها ولو بمفاد القضیة الحقیقیة فشمول الإمضاء الحاصل بنحو القضیة الحقیقیة للمتحقق خارجاً أیضاً حیث إن الإمضاء وجعل الأثر لوجودات المعاملة ولو بجعل العناوین مشیرة إلیها فیکون المحقق للصحة جعل الأثر للمتحقق ولو بملاحظته فی ضمن قضیة حقیقیة.

الثانی _ قد یقال إن المجعولات الشرعیة تکون من قبیل الحکم _ تکلیفیة کانت أو وضعیة _ ومن قبیل غیر الحکم قال الشهید فی قواعده: الماهیات الجعلیة کالصلاة والصوم وسائر العقود لا یطلق علی الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضی فیه، ومرادهم من جعل الماهیة إما أن الشارع لاحظ أموراً متعددة شیئاً واحداً وسماه باسم خاص کما هو مسلک من التزم بالحقیقة الشرعیة بالوضع التعیینی أو بالوضع التعیّنی بأن استعمل اللفظ فی مجموع تلک الاُمور بالعنایة حتی صار بکثرة الاستعمال حقیقة فیه فی عصره أو أن المراد أن الشارع جعل التکلیف المتعلق بها ولا یطلق الأسامی والألفاظ الدالة علی المتعلق إلاّ علی الصحیح أی التام والمجموع الذی تعلق به التکلیف إلاّ الحج حیث یطلق علی الفاسد أیضاً لکون فاسده أیضاً متعلق التکلیف کصحیحه من وجوب المضی فیه. وعلی کل تقدیر التکلیف فی الحج الفاسد بالمضی لا یدلّ علی التفرقة فی الماهیات الجعلیة فی أسامیها وذلک لأن المراد من الحج الفاسد لیس هو الحج الباطل بل الحج الذی یجامع المکلف امرأته بأن یجامعها بعد إحرامه للعمرة قبل السعی، أو بعد إحرامه للحج قبل الوقوف بالمزدلفة

ص : 207

ثم إن ها هنا تنبیهات:

الأول _ إنه یعتبر فی الاستصحاب فعلیّة الشک والیقین[1] فلا استصحاب مع الغفلة لعدم الشک فعلاً ولو فرض أنه یشک لو التفت ضرورة أنّ الاستصحاب وظیفة الشاک، ولا شک مع الغفلة أصلاً، فیحکم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل

فإنه یجب علیه تکرار العمر ة والحج بعد إتمامها جزاءً لا أن ما وقع فیه الجماع فاسد کفساد الصلاة بارتکاب مبطلاتها بل فی الروایة المعتبرة حجة إسلامه هو الحج الأول لا المعاد، أضف إلی ذلک أن وجوب المضی لا ینحصر علی الحج بل یثبت فی صوم شهر رمضان أیضاً حیث إنه لو أفطر صومه فیه بتناول المفطر عمداً یجب علیه الإمساک بعد إبطاله کما هو المقرر فی محله مع أن الفساد فیه واقعی.

تنبیهات الاستصحاب

اشارة

[1] المعتبر فی جریان الاستصحاب إحراز الحالة السابقة والشک فی بقائها، والشک المعتبر فی جریانه المعبر عنه بأحد رکنی الاستصحاب هو الشک الفعلی کما هو ظاهر خطابات الاستصحاب، وظاهر العناوین المأخوذة فی الخطابات موضوعات لسائر الأحکام سواء کانت الأحکام ظاهریة أم واقعیة فإنه کما لا اعتبار بالتغیر الشأنی أی التقدیری فی نجاسة الماء الکثیر کذلک لا اعتبار فی التعبد بالبقاء بالشک التقدیری فی بقاء الحالة السابقة بمعنی أن المکلف لو کان ملتفتاً إلی تلک الحالة السابقة وشک فی بقائها، وقد رتب الماتن قدس سره تبعاً للشیخ قدس سره علی اعتبار الشک الفعلی وعدم کفایة التقدیری أمرین:

أحدهما _ أنه لو کان المکلف علی حدث ثمّ غفل عن حاله وصلی حال الغفلة وبعد الصلاة التفت واحتمل أنه قد توضأ قبل صلاته وغفلته عن حاله فیحکم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، ولکن یجب علیه الوضوء أخذاً فی حدثه السابق

ص : 208

وصلّی ثم شک فی أنه تطهّر قبل الصلاة، لقاعدة الفراغ، بخلاف من ألتفت قبلها وشک ثم غفل وصلّی، فیحکم بفساد صلاته فیما إذا قطع بعدم تطهیره بعد الشک، لکونه محدثاً قبلها بحکم الاستصحاب، مع القطع بعدم رفع حدثه الإستصحابی.

بالاستصحاب الجاری بعد الصلاة. لا یقال: کما أن مقتضی الاستصحاب بعد الصلاة اعتبار الوضوء للصلوات الآتیة لبقاء حدثه السابق کذلک مقتضاه بطلان صلاته التی یکون مقتضی الاستصحاب بعد الصلاة وقوعها حال الحدث فإنه یقال: قاعدة الفراغ الجاریة بالإضافة إلی الصلاة الماضیة حاکمة علی الاستصحاب بالإضافة إلی الصلاة المفروغ منها علی ما یأتی فی بحث تعارض الاُصول، ولا تثبت کونه علی وضوء بالإضافة إلی الصلاة الآتیة.

وثانیهما _ أن المکلف المفروض إذا التفت إلی حاله قبل الصلاة واحتمل بقاء حدثه لعدم توضئه ثمّ غفل وصلی فإنه یجب علیه إعادة تلک الصلاة علی تقدیر إحرازه لعدم توضئه بعد الشک فی بقاء حدثه فإنه لا یجری فی الفرض قاعدة الفراغ بل کان اللازم علیه لزوم الوضوء قبل دخوله فی الصلاة لإحراز کونه محدثاً قبلها بالاستصحاب.

وقد ناقش المحقق الهمدانی علی ما هو ببالی فی تعلیقته علی الرسالة فی کلا الأمرین حیث إن المناقشة فی الأمر الثانی ظاهرة والصلاة المفروضة لا یحکم بصحتها سواء قیل بکفایة الشک التقدیری فی جریان الاستصحاب، أو یقال: باعتبار الشک الفعلی، أو قیل: بعدم اعتبار الاستصحاب أصلاً فإن عدم جریان قاعدة الفراغ فی الصلاة المفروضة کافٍ فی لزوم إعادتها لإحراز امتثال الأمر المتعلق بها مع الطهارة والوجه فی عدم جریان القاعدة اختصاصها بالشک الحادث بعد العمل وهذا المکلف قبل أن یصلی عند الالتفات إلی حاله کان علی شک فی صحة صلاته التی

ص : 209

.··· . ··· .

یصلیها علی ذلک الحال بعد ذلک.

وأما المناقشة فی الأول فإنه لو قیل باعتبار احتمال الذکر حال العمل فی جریان قاعدة الفراغ فالصلاة المفروضة غیر مجزیة لعدم جریان قاعدة الفراغ بالإضافة إلی حال غفلته حال العمل سواء قیل بکفایة الشک التقدیری فی جریان الاستصحاب أو قیل بکفایة الشک التقدیری فإن الصلاة المزبورة واقعة حال الحدث بمقتضی الاستصحاب فی الحدث بعد الصلاة أو حتی قبلها بناءً علی الشک التقدیری، ولو قیل بعدم اعتبار احتمال الذکر حال العمل فی جریان قاعدة الفراغ فیحکم بصحة العمل حتی بناءً علی کفایة الشک التقدیری فی جریان الاستصحاب فإنه بناءً علی کفایة الشک التقدیری وأن یجری الاستصحاب فی حدثه السابق قبل الصلاة إلاّ أن قاعدة الفراغ الجاریة فی الصلاة بعد الفراغ تکون حاکمة علی ذلک الاستصحاب بناءً علی أن الموضوع فی القاعدة یختص بالشک الفعلی الحادث بعد الفراغ کما هو الصحیح.

ثمّ أنه قد أورد بعض الأعاظم (رضوان اللّه علیه) علی ما ذکره الماتن من اعتبار فعلیة الشک فی جریان الاستصحاب من أن اعتباره فعلیة الشک فی جریانه ینافی ما یذکره فی التنبیه الآتی من أن مقتضی خطابات الاستصحاب جعل الملازمة بین ثبوت الشیء وبقائه عند الشک فی البقاء علی تقدیر حدوثه، ووجه المنافاة أن الشک فی البقاء فی شیء _ علی تقدیر حدوثه _ شک تقدیری لا فعلی. بل ذکر الماتن فیه فی ذیل کلامه أن مقتضی خطابات الاستصحاب هو جعل الملازمة بین ثبوت الشیء وبقائه، ولازم ذلک أن لا یکون عنوان الیقین مأخوذاً فی موضوع اعتبار الاستصحاب وکذا الشک.

ص : 210

.··· . ··· .

ولکن لا یخفی ما فی الإیراد فإن المراد بفعلیة الشک فی المقام هو الشک فی بقاء الحالة السابقة فإن کانت الحالة السابقة أمراً معلوم الحصول فالشک إنما هو فی البقاء کذا إن لم یکن حصوله معلوماً فالشک فی البقاء فعلی سواء وإنما التقدیر فی الحالة السابقة حیث إن حصولها فی فرض جزمی وفی فرض آخر غیر جزمی فإنه لولا الحصول لا بقاء.

وما تقدم من عدم کفایة الشک التقدیری المعبر عنه بالشک التعلیقی المراد منه عدم الشک عند جریان الاستصحاب أصلاً بل لو کان المکلف ملتفتاً حصل له الشک فی البقاء والشک التقدیری بهذا المعنی لا یکفی فی جریان الاستصحاب، وأما إذا کان الشک فی البقاء فعلیاً والبقاء فرع ثبوت الشیء فتارة یکون ثبوته معلوماً واُخری محتملاً، وهذا لا یضر بجریان الاستصحاب علی ما یذکره الماتن فی الأمر الآتی. نعم، ما ذکر الماتن قدس سره فی هذا الأمر وفی ذیل تعریف الاستصحاب من کون الیقین بالثبوت کالشک فی البقاء معتبراً فی جریان الاستصحاب ینافی ما یذکر فی الأمر الآتی من عدم اعتبار الیقین بالثبوت فی جریانه وأن أدلة الاستصحاب ناظرة إلی التعبد بالبقاء عند الشک فیه سواء کان الثبوت محرزاً بالعلم أو بغیره.

بقی فی المقام ما یقال: من أنّ البحث فی أن المراد من الشک المأخوذ موضوعاً لاعتبار الاستصحاب هو خصوص الشک الفعلی وأنه لا یعمّ الشک التقدیری لغو محض حیث إن البحث فی أن العنوان الوارد موضوعاً فی الخطابات خصوص فعلیته أو یعم الشأنی أیضاً یصح فیما إذا أمکن للمکلف الالتفات حال العمل علی طبق الحکم إلی تحقق العنوان الشأنی کما فی تغیر الماء ولا یمکن الالتفات إلی الشک الشأنی حیث إن المکلف لا یلتفت إلیه لیعمل علی طبق حکمه، وإلاّ تحقق له

ص : 211

لا یقال: نعم، ولکن استصحاب الحدث فی حال الصلاة بعد ما ألتفت بعدها یقتضی أیضاً فسادها.

فإنه یقال: نعم، لولا قاعدة الفراغ المقتضیة لصحتها المقدمة علی أصالة فسادها.

الشک الفعلی، ولو کان جعل الحکم للشک الشأنی أمراً معقولاً لم یکن فی مقام الإثبات بالإضافة إلی بعض الاُصول قصوراً نظیر قوله علیه السلام : «کل شیء نظیف حتی یعلم أنه قذر» و«کل شیء حلال حتی تعرف أنه حرام» حیث إن ظاهرهما عدم دخل الشک الفعلی فی الحکم بالطهارة والحلیة بل الشیء ما لم ینکشف حرمته ونجاسته محکوم علیه بالطهارة والحلیة، وعلی الجملة البحث فی مقام الإثبات وأن الشک الوارد فی خطابات الاستصحاب ظاهر فی خصوص الشک الفعلی، ولا یعم الشک التقدیری إنما یفید بعد عدم ثبوت الامتناع فی موضوعیة کل منهما ثبوتاً.

وقد ذکر أن الشک الشأنی لا یمکن جعله موضوعاً للتکلیف أو الوضع لعدم إمکان التفات المکلف إلیه حال العمل بالحکم ویجری ذلک فی الشک بعد العمل الموضوع فی قاعدة الفراغ فإنه لا یکون الموضوع للحکم بالصحة إلاّ الشک الفعلی بعد العمل. أقول: ما ذکر من عدم إمکان جعل الحکم الظاهری حال الشک الشأنی یتم بالإضافة إلی الحکم التکلیفی الطریقی حیث لا یکون ذلک التکلیف حال الغفلة داعیاً إلی العمل، وأما بالإضافة إلی الحکم الوضعی فإن کان لثبوته حال الشک الشأنی أثر ولو بعد انقضاء حال الغفلة فلا بأس من جعله لحال الغفلة کما إذا علم المکلف أن علی ثوبه شعر ما لا یوءکل لحمه ثمّ شک بعد زمان أنه رفعه عن ثوبه أم لا فصلی فیه لاحتمال أنه رفعه فلا یحکم بعد الفراغ بصحة صلاته سواء بقی الشک أو علم ببقائه علی ثوبه، أما فی فرض بقاء شکه فلعدم جریان قاعدة الفراغ لکون شکه

ص : 212

الثانی: إنه هل یکفی فی صحّة الاستصحاب الشک فی بقاء شیء علی تقدیر ثبوته [1]، وإن لم یحرز ثبوته فیما رتب علیه أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشکال من عدم إحراز الثبوت فلا یقین، ولابد منه، بل ولا شک، فإنه علی تقدیر لم یثبت، ومن أن

لم یحدث بعد العمل وأما فی فرض علمه بالبقاء لعدم جریان قاعدة «لا تعاد» لأنه حین الدخول فی الصلاة کانت صلاته محکومة بالخلل فیها، وأما إذا غفل بعد شکه فی الرفع وصلی حال غفلته ثمّ عاد الشک فی البقاء بعد الفراغ أو علم بالبقاء فلا تجری قاعدة الفراغ لکون الشک فی الصحة حادثاً قبل الصلاة، ولکن یحکم بصحتها بحدیث «لا تعاد» حیث إن غفلته عذر فالخلل معه لا یضر بصحة صلاته إذا علم البقاء فضلاً عن الاحتمال هذا لو قلنا بسقوط الاستصحاب قبل الصلاة بطرو الغفلة؛ لأنه لا موضوع له بعد طروها بخلاف ما لو قیل بکفایة الشک التقدیری فی جریان الاستصحاب حیث إنه لا تجری بعد الصلاة قاعدة الفراغ لکونه حادثاً قبل العمل، ولا قاعدة «لا تعاد»؛ لأن الاستصحاب حال الغفلة علی الفرض قد قطع المعذریة عن الغفلة حیث إن مقتضی الاستصحاب _ لکونه حکماً طریقیاً _ الإسقاط والتنجیز علی تقدیر بقاء الثوب علی الخلل حال الصلاة.

[1] قد أشکل فی جریان الاستصحاب فیما کان إحراز الحالة السابقة بغیر العلم والیقین بل بالأمارة المعتبرة أو حتی بالأصل العملی کما أحرز تمام الوضوء بقاعدة الفراغ ثمّ شک بعده فی زواله وبقائه لاحتمال الحدث فإنه لا علم فی مثل هذه الموارد بالثبوت بل ولا شک فی البقاء منجزاً بل معلقاً علی الثبوت، وقد أخذ فی خطابات اعتبار الاستصحاب أمران: أحدهما _ الیقین بالحالة السابقة، والثانی _ الشک فیها أی بقائها، وظاهر کلام الماتن أنه لا مورد لهذا الإشکال بناءً علی أن مقتضی اعتبار الأمارة جعل مدلولها حکماً ولو بعنوان الحکم الطریقی مثلاً إذا قامت الأمارة

ص : 213

اعتبار الیقین إنما هو لأجل أن التعبد والتنزیل شرعاً إنما هو فی البقاء لا فی الحدوث، فیکفی الشک فیه علی تقدیر الثبوت، فیتعبّد به علی هذا التقدیر، فیترتب علیه الأثر فعلاً فیما کان هناک أثر، وهذا هو الأظهر، وبه یمکن أن یذب عما فی استصحاب الأحکام التی قامت الأمارات المعتبرة علی مجرد ثبوتها، وقد شک

علی حرمة العصیر بغلیانه، وشک فی بقاء حرمته عند ذهاب ثلثیه بغیر النار یمکن استصحاب الحرمة المجعولة للعصیر العنبی بمقتضی اعتبار الأمارة بعد ذهاب ثلثیه بغیر النار بتقریب أن حرمته بالغلیان معلومة ویشک فی بقائها بعد ذهاب ثلثیه بغیر النار، وأما بناءً علی أن مقتضی اعتبار الأمارة مجرد جعل الحجیة أی المنجزیة والمعذریة له کما هو مختاره قدس سره فیشکل جریانه لعدم الیقین بالحالة السابقة یعنی الحرمة الواقعیة ولا حرمة للعصیر غیرها علی الفرض، وجریان الاستصحاب فی نفس الحجیة فهو معقول فی الفرض؛ لأنها وصف للأمارة ولا أمارة بالإضافة إلی ما بعد ذهاب الثلثین بغیر النار وإلاّ لم یحتج إلی الاستصحاب.

أقول: لا یخفی ما فی الفرق واختصاص الإشکال بالالتزام بمسلکه دون مسلک الشیخ قدس سره فإنه لا فرق فی جریان الإشکال علی المسلکین حیث إن ثبوت الحکم التکلیفی الطریقی موضوعه کونه مدلول الأمارة والمفروض أنه لا أمارة علی حرمة العصیر بعد غلیانه وذهاب ثلثیه بغیر النار، وإلاّ لم یحتج إلی الاستصحاب. والحاصل أن ذلک الحکم التکلیفی الطریقی قد ارتفع قطعاً ولو ثبت تکلیف طریقی من غیر ناحیة الأمارة المفروضة فهو مثل الحکم الأول لا أنه بقاء الحکم الأول.

ومما ذکر یظهر الإشکال فی جریان الاستصحاب فیما کان إحراز الحالة السابقة بالأمارة حتی بناءً علی مسلک السببیة فإن الموضوع للحکم النفسی الثابت واقعاً علی ذلک المسلک قیام الأمارة وکونه مدلولها والمفروض أن الحکم بعد ذهاب

ص : 214

.··· . ··· .

الثلثین بغیر النار خارج عن مدلول الأمارة. نعم، لا بأس علی مسلک السببیة بالالتزام بأن الحرمة الواقعیة الثابتة قبل ذهاب ثلثیه بغیر النار مرددة بین الفرد القصیر بأن تحدث الحرمة بقیام الأمارة، وبین أن تکون الحرمة الواقعیة ثابتة مع قطع النظر عن قیامها، وتکون طویلة تعم ما بعد الذهاب المفروض فیجری علیه ما ذکرنا فی الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی إذا کان المستصحب حکماً تکلیفیاً.

ثمّ إنه قد أجاب الماتن عن الإشکال علی مسلکه بأن العلم بثبوت الحالة السابقة غیر دخیل فی التعبد ببقائها وذکر الیقین والعلم فی خطاباته لمجرد کونه کاشفاً عن ثبوت الحالة السابقة وفی الحقیقة الموضوع لاعتباره الشک فی بقاء الحالة السابقة ومعنی اعتباره جعل الملازمة بین ثبوت الشیء واقعاً وبقائه فی ظرف الشک فی البقاء تعبداً أی ظاهراً فتکون نتیجة التعبد أنه أحرز ثبوتها بمحرز یحکم ببقائها فی ظرف الشک فی البقاء وتصیر الحجة علی الثبوت حجة علی البقاء بضمیمة أخبار الاستصحاب، وبما أنه یبقی السوءال عن القرینة لحمل الیقین فی أدلة الاستصحاب علی ذکره لمجرد کونه طریقاً إلی ثبوت الشیء وعدم کونه مأخوذاً فی موضوع اعتباره دفعه بأن ظاهر خطابات الاستصحاب أنها ناظرة إلی التعبد بالبقاء فقط ولیست ناظرة إلی کیفیة ثبوت الحالة السابقة فیکفی حینئذٍ فی جریانه إحراز الحالة السابقة بالأمارة.

أقول: دعوی أن أخبار الاستصحاب ناظرة إلی التعبد بالبقاء حتی فیما لم یحرز الثبوت بأن لم یکن العلم مأخوذاً فی موضوع اعتبار الاستصحاب ولو بعنوان الطریقیة خلاف الظاهر، بل جعل الملازمة حتی فی موارد عدم إحراز الثبوت بینه وبین احتمال البقاء لغو محض، وظاهر تلک الأخبار أن التعبد بالبقاء فی فرض الیقین

ص : 215

فی بقائها علی تقدیر ثبوتها، من الإشکال بأنّه لا یقین بالحکم الواقعی، ولا یکون هناک حکم آخر فعلیّ، بناءً علی ما هو التحقیق، من أن قضیّة حجیّة الأمارة لیست إلاّ تنجّز التکالیف مع الإصابة والعذر مع المخالفة، کما هو قضیة الحجة المعتبرة عقلاً، کالقطع والظن فی حال الإنسداد علی الحکومة، لا إنشاء أحکام فعلیّة شرعیة ظاهریة، کما هو ظاهر الأصحاب.

بالحدوث کیف وقد ذکر قدس سره سابقاً فی بیان المصحح لاستعمال کلمة النقض أنه بلحاظ ما فی نفس الیقین من الإبرام والاستحکام ومقتضی ذلک أن یلاحظ فی التعبد بالبقاء فی ظرف الشک فیه فرض الیقین بالثبوت، ولحاظه فی موضوع اعتبار الاستصحاب من جهة طریقیته لا یفید فی قیام الأمارات مقامه علی مسلکه کما التزم بذلک فی بحث أخذ العلم فی موضوع الحکم ولو بنحو الطریقیة مع أنه لا یناسبه استعمال کلمة النقض کما ذکرنا، والمتعین فی الجواب عن الإشکال ما ذکرنا فی اعتبار الأمارات من أن معنی اعتبارها هو اعتبارها علماً بالواقع فتکون الحالة السابقة المحرزة بالأمارة محرزة بالعلم فیعتبر ذلک العلم بالحدوث علماً بالبقاء أیضاً.

وقد اُورد علی الماتن فی تصحیحه جریان الاستصحاب فی موارد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة بوجه آخر وهو أن الالتزام بأن مدلول أخبار الاستصحاب هو الملازمة بین ثبوت الشیء وبقائه لا یمکن أن یکون المراد الملازمة الواقعیة؛ لأن الأشیاء مختلفة بعضها لا یبقی بعد حصوله، وبعضها یبقی ویختلف الباقی فی زمان البقاء فکیف یمکن أن تکون ملازمة واقعیة بین ثبوت شیء وبقائه، بل لازم الملازمة الواقعیة أن یکون الاستصحاب من الأمارات ویکون مقتضاه أی مقتضی أخباره أن الأمارة القائمة بثبوت شیء أمارة ببقائه واقعاً نظیر ما دل علی وجوب التقصیر فی السفر إلی أربعة فراسخ إذا عاد منه بأن صار ثمانیة فراسخ ذهاباً وإیاباً من غیر انقطاعه

ص : 216

.··· . ··· .

بقواطع السفر فهو کما أنه أمارة علی قصر الصلاة فیه کذلک هو دلیل علی لزوم الإفطار فیه حیث إن الدلیل علی أحد المتلازمین دلیل علی ثبوت الآخر بل المتعین أن یکون المراد الملازمة الظاهریة بمعنی أنه إذا تنجز الشیء حدوثاً فلا یحتاج فی تنجزه بقاءً _ عند الشک فی البقاء _ إلی منجز آخر بل مجرد احتمال بقائه منجز للبقاء، وبتعبیر آخر الملازمة بین حدوث التنجیز وبقائه عند الشک فی البقاء تثبت بأخبار الاستصحاب، وهذه أیضاً لا یمکن الالتزام بها حیث إن فی موارد العلم الإجمالی بالحرمة یکون المعلوم بالإجمال منجز بالعلم الإجمالی ثمّ لو قامت الأمارة علی حرمة بعض الأطراف بالخصوص من الأول ینحلّ العلم الإجمالی باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی ذلک البعض یرتفع تنجز العلم الإجمالی فلا ملازمة بین حصول التنجز وبقائه، وقد التزم بهذا الإنحلال الماتن قدس سره وغیره فی ردّ استدلال الإخباریین علی لزوم التوقف والاحتیاط فی الشبهات التحریمیة الحکمیة وأن قیام الأمارات المعتبرة علی تحریم جملة من الأفعال فی الوقایع المحتمل کونها بمقدار المعلوم بالإجمال یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز فی سائر المحتملات.

جریان الاستصحاب فی مورد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة

أقول: مراد الماتن من الملازمة بین ثبوت شیء وبقائه فی ظرف الشک فی البقاء الملازمة الظاهریة لا الواقعیة حیث إنّ تنجیز البقاء علی تقدیره فی ظرف الشک فیه، ومعنی الملازمة الظاهریة جعل الحکم المماثل للحالة السابقة فی ظرف الشک أو المماثل لحکمه کما یصرح به فیما بعد. أضف إلی ذلک أن النقض بمورد انحلال العلم الإجمالی بالإمارات القائمة بثبوت التکلیف فی جملة من الأفعال فی الوقایع غیر وارد فإن مدلول أخبار الاستصحاب الملازمة بین حصول شیء واقعاً وبقائه

ص : 217

.··· . ··· .

الظاهری أی یکون ذلک المنجزاً للحدوث مع بقائه منجزاً للحدوث منجزاً للبقاء أیضاً لا أنه یبقی منجزاً للحدوث والبقاء وفی مورد الانحلال لا یبقی العلم الإجمالی منجزاً للحدوث لیکون منجزاً للبقاء أیضاً. وعن بعض الأجلة (رضوان اللّه علیه) أن المراد بالعلم فی أخبار الاستصحاب بمناسبة الحکم والموضوع هو الحجة علی الثبوت بمعنی أن الحجة علی الثبوت لا یرفع الید عنها بالشک أی ما لا یکون حجة علی زوال الشیء وعدم بقائه وذکر الوضوء وطهارة الثوب فی موارد الأخبار یحسب قرینة علی ذلک فإن طهارة الثوب أو الوضوء لا یحرز بالعلم الوجدانی غالباً بل یحرز بمثل أخبار ذی الید وقاعدة الفراغ ونحوهما.

وعلی الجملة ورود العلم أو الیقین فی أخبار الاستصحاب کوروده غایة فی قاعدتی الطهارة والحلیة من قوله علیه السلام : «کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر»(1) و«کل شیء حلال حتی تعرف الحرام»(2) فی کون المراد منه الحجة فلا مجال للمناقشة فی موارد ثبوت الحالة السابقة بغیر العلم من سائر الحجج والفرق بین هذا الوجه وبین الملازمة الظاهریة المتقدمة هو أن مقتضی الملازمة الظاهریة شمول التعبد بالبقاء فی الموارد التی کان حدوث الشیء محرزاً ولکن لم یکن لإحرازه أثر حتی عقلاً، ولکن کان ذلک الشیء فی بقائه ذا أثر شرعی فمدلول الأخبار کما تقدم تنجز بقائه علی تقدیر البقاء بخلاف هذا الوجه فإنه لا تعمه أخبار الباب لعدم الحجة أی المنجزیة والمعذریة فی العلم بحدوثه کما فی موارد کون الشیء موضوعاً للحکم الشرعی فی

ص : 218


1- (1) التهذیب 1 : 285.
2- (2) انظر الکافی 5 : 313، و 6 : 339.

.··· . ··· .

البقاء فقط کما إذا علمنا بنجاسة إناء کان خارجاً عن محل الابتلاء وتمکن التصرف فیه ثمّ دخل فی الابتلاء مع احتمال وقوع المطهر علیه قبل دخوله فی محل الابتلاء فإن مقتضی أدلة الاستصحاب بناءً علی الملازمة الظاهریة جعل النجاسة الظاهریة لتلک الإناء طریقیاً بخلاف ما إذا قیل بأن الحجة علی الثبوت لا ترفع الید عنه إلاّ بالحجة علی الزوال فإن العلم فی الفرض لا یکون حجة علی الحدوث لخروج المعلوم بالإجمال زمان العلم عن التمکن فی التصرف والابتلاء لیحکم علیه بأنه لا ترفع الید عنه إلاّ بالحجة علی الزوال أو أنه حجة علی البقاء أیضاً. أضف إلی ذلک أن الوارد فی جلّ أخبار الاستصحاب الیقین وحمله علی معنی الحجة لا قرینة علیه، وما ذکر من القرینة فیه ما لا یخفی.

فتلخص مما ذکرنا أن الصحیح فی دفع الإشکال المتقدم فی موارد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة هو أن معنی اعتبارها اعتبارها علماً بالشیء ومدلول أخبار الاستصحاب أن العلم بالشیء حدوثاً یحسب علماً ببقاء ذلک الشیء فی ظرف الشک، واعتبارها علماً لا یقتضی أن یکون بلحاظ التنجیز فقط بل یمکن أن یکون بلحاظ الأثر المترتب علی کون العلم موضوعاً لاعتبار آخر من تکلیف أو وضع منفرداً أو منضماً.

جریان الاستصحاب فی مورد ثبوت الحالة السابقة بالأصل العملی

بقی الکلام فیما کان إحراز الحالة السابقة بالأصل فإن هذا علی قسمین:

الأول _ أن یکون مفاد ذلک الأصل ثبوت الشیء من غیر تعرض لبقائه کما فی مورد جریان قاعدة الفراغ فی الوضوء، وما إذا غسل الثوب المتنجس بماء کانت

ص : 219

.··· . ··· .

طهارته بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة فإنه إذا شک فی حدوث الحدث بعد ذلک الوضوء أو فی إصابة نجس لذلک الثوب المغسول بذلک الماء بعد غسله به فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء نفس الوضوء المفروض أو فی طهارة نفس الثوب المغسول فإنه من قبیل الاستصحاب فی الحکم الوضعی بل یجری الاستصحاب فی ناحیة الموضوع لبقاء الوضوء، وفی ناحیة الموضوع لبقاء الطهارة للثوب حیث إن مقتضی الاستصحاب عدم خروج البول أو غیره من النواقض بعد الوضوء المفروض، وعدم إصابة نجس للثوب المفروض بعد غسله وبضمیمة قاعدة الفراغ إلی الاستصحاب فی عدم خروج الناقض للوضوء یثبت الوضوء وبقاؤه فإنه إذا حکم الشارع بصحة الوضوء وتمامه وعدم خروج البول وغیره من النواقض یثبت الوضوء وبقائه فإن الشارع حکم ببقاء الوضوء إذا توضأ المکلف ولم یحدث بعده ناقض، وکذلک الأمر فی ضم الاستصحاب فی عدم إصابة النجاسة للثوب إلی قاعدة الطهارة أو استصحابها الجاری فی ناحیة طهارة الماء یثبت طهارة الثوب وبقاء طهارته. وعلی کل مجری الاستصحاب فی المثالین غیر ما یثبت بالأصل أولاً، بل فی ناحیة بقاء الموضوع لبقائه.

لا یقال: لا مانع عن جریان الاستصحاب فی ناحیة نفس الوضوء المحرز بقاعدة الفراغ وطهارة الثوب المحرز بأصالة الطهارة الجاریة فی الماء المغسول به أو بالاستصحاب فی طهارة نفس الماء أخذاً بإطلاق ما دل علی النهی عن نقض الیقین بالشک.

فإنه یقال: الاستصحاب فی نفس الوضوء بعد احتمال خروج الحدث وفی طهارة الثوب بعد احتمال إصابة النجس إن صح فهو استصحاب فی الحکم ولا تصل

ص : 220

ووجه الذبّ بذلک، إنّ الحکم الواقعی الذی هو مؤدّی الطریق حینئذ محکوم بالبقاء، فتکون الحجة علی ثبوت حجة علی بقائه تعبّداً، للملازمة بینه وبین ثبوته واقعاً.

إن قلت: کیف؟ وقد أخذ الیقین بالشیء فی التعبد ببقائه فی الأخبار، ولا یقین فی فرض تقدیر الثبوت.

النوبة إلیه مع جریان الاستصحاب فی موضوعهما. أضف إلی ذلک ما ذکرنا فی جریان الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیة من أنه لولم یجر الاستصحاب فی ناحیة الموضوع لکان الاستصحاب فی بقاء الحکم الجزئی غیر جار؛ لأنه یبتلی باستصحاب فی عدم جعله نظیر ما ذکرنا من المعارضة فی الاستصحاب الجاری فی الشبهات الحکمیة نعم المعارضة مختصة بمثل استصحاب الوضوء لا طهارة الثوب حیث تجری فیه _ مع قطع النظر عن الاستصحاب عند الشک فی إصابة النجس _ أصالة الطهارة وما فی صحیحة زرارة من ظهور قوله علیه السلام فی جریان الاستصحاب فی نفس الوضوء لتسهیل تفهیم الاستصحاب وإلاّ مجراه فی ذلک المثال الاستصحاب فی عدم النوم المثبت لبقاء الوضوء.

القسم الثانی _ أن یکون مفاد الأصل العملی ثبوت الحالة السابقة وثبوت تلک الحالة حتی یعلم زوالها کما إذا شک فی مایع أنه بول أو ماء حیث یحکم بطهارته، ولکن معها لا یجوز الوضوء والغسل والتطهیر به؛ لأن أصالة الطهارة الجاریة فیه لا تثبت أنه ماء، ولو شک فی إصابة نجاسة له بعد ذلک لا یحتاج فی المقام إلی استصحاب آخر فإن قاعدة الطهارة الجاریة تثبت أولاً طهارة المایع المفروض إلی حصول العلم بنجاسته، وإذا أصابه النجس وأحرز هذه الإصابة یحرز نجاسته أما من الأول أو فعلاً، وما ذکر مبنی علی عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم کون

ص : 221

قلت: نعم، ولکن الظاهر أنه أخذ کشفاً عنه ومرآةً لثبوته لیکون التعبّد فی بقائه، والتعبد مع فرض ثبوته إنما یکون فی بقائه، فافهم.

المایع المفروض بولاً، وإلاّ یدخل فی مثال القسم الأول کما لا یخفی.

لا یقال: کیف یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم کونه بولاً مع عدم الحالة السابقة حتی بناءً علی اعتبار الاستصحاب فی العدم الأزلی فإن جریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیة یختص بما إذا کان المسلوب عن الشیء قبل وجوده أیضاً من أوصاف الموجود وعوارضه لا عنوان الذات والذاتی فإن الذات والذاتیات لا تکون مسلوبة عن الشیء ولو قبل وجوده حیث إن البول بول حتی فی مرتبة الذات، ومع الإغماض عن ذلک فالاستصحاب فی عدم کونه بولاً معارض بالاستصحاب فی عدم کونه ماءً؟

فإنه یقال: بناءً علی جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی لا فرق بین أن یکون المستصحب عدم الوصف اللازم أو عنوان الذات والذاتی فإن عدم صحة السلب ولزوم الحمل فی الذاتی للشیء حتی فی مقام الذات إنما هو بالحمل الأولی والموضوع للأثر الشرعی هو المسلوب بالسلب الشایع وکما أن الوصف اللازم یسلب عن الشیء قبل وجوده کذلک عنوان الذات أو الذاتی یکون مسلوباً عنه قبل وجوده بذلک السلب مع أنه فی مثل المایع یمکن الاستصحاب بنحو السالبة بانتفاء المحمول کما ذکرنا فی محله.

ثمّ إنه لا یجری من جریان الاستصحابین الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة حیث لا یجوز الوضوء به أی لا یجزی للصلاة ولا یحکم بنجاسة ملاقیه حتی فیما إذا لم یکن للمکلف ماء آخر للوضوء لصلاته فتنتقل الوظیفة إلی التیمم؛ لأنه غیر واجد للماء کما لا یخفی.

ص : 222

الثالث: إنه لا فرق فی المتیقن السابق بین أن یکون خصوص أحد الأحکام، أو ما یشترک بین الإثنین منها [1]، أو الأزید من أمر عام فإن کان الشک فی بقاء ذاک العام من جهة الشک فی بقاء الخاص الذی کان فی ضمنه وارتفاعه، کان استصحابه کاستصحابه بلا کلام، وإن کان الشک فیه من جهة تردد الخاص الذی فی ضمنه، بین ما هو باقٍ أو مرتفع قطعاً، فکذا لا إشکال فی استصحابه، فیترتّب علیه کافّةً ما

فی جریان الاستصحاب فی أقسام الکلی

[1] قد یکون المستصحب أمراً جزئیاً یشک فی بقائه واُخری یکون أمراً کلیاً ویجری الاستصحاب فی بقاء ذلک الأمر الجزئی أو الکلی فیما کان کلّ منهما موضوعاً لحکم شرعی أو قابلاً للتعبد بالبقاء فیما کان بقاؤه ولو تعبداً موضوعاً لأثر عقلی کالإجزاء فی مقام الامتثال والماتن قدس سره فرض کون المتیقن کلیاً أو جزئیاً فی خصوص الأحکام، ویظهر الحال فیها بعد التکلم فی أقسام الکلی من جهة الشک فی بقائه فنقول: ذکروا فی استصحاب الکلی أقساماً:

الأول _ ما إذا کان الشک فی بقاء الکلی وعدمه للشک فی بقاء الجزئی السابق من الفرد المعین المحرز أو عدم بقائه، وجریان الاستصحاب فی هذا القسم فی ناحیة الکلی کجریانه فی ناحیة الجزئی بلا کلام؛ لتمام رکنی الاستصحاب فی ناحیة الکلی کتمامهما فی ناحیة الفرد، ولکن قد یقال: بأن الاستصحاب فی الفرد لا یغنی عن الاستصحاب فی ناحیة الکلی بل لابد من إجراء الاستصحاب فی ناحیة کل من الفرد والکلی لیترتب علی الاستصحاب الأثر المترتب علی الکلی والأثر المترتب علی الفرد، ویجری فی ناحیة ذی الأثر خاصة إذا لم یکن الأثر الشرعی إلاّ لأحدهما کما إذا کان المکلف محدثاً بالأصغر وشک فی أنه توضأ أم لا فیجری الاستصحاب فی ناحیة کونه محدثاً فلا یجوز له الدخول فی الصلاة، ولا مسّ کتابة القران وأما إذا

ص : 223

یترتب علیه عقلاً أو شرعاً من أحکامه ولوازمه، وتردد ذاک الخاص _ الذی یکون الکُلّی موجوداً فی ضمنه ویکون وجوده بعین وجوده _ بین متیقّن الإرتفاع ومشکوک الحدوث المحکوم بعدم حدوثه، غیر ضائر باستصحاب الکلّی المتحقق فی ضمنه، مع عدم إخلاله بالیقین والشک فی حدوثه وبقائه، وإنما کان التردد بین الفردین ضائراً باستصحاب أحد الخاصین اللذین کان أمره مردداً بینهما، لإخلاله بالیقین الذی هو أحد رکنی الاستصحاب، کما لا یخفی.

کان جنباً واحتمل أنه اغتسل من جنابته فلا یجوز له أیضاً الدخول فی الصلاة ولا مسّ کتابة القران، ویکفی فی ذلک الاستصحاب کونه محدثاً ولا یکفی هذا الاستصحاب فی حرمة مکثه فی المساجد وقراءته سور العزائم بل لابد من ملاحظة جریانه فی ناحیة الجنابة حیث إن حرمة المکث فیها وحرمة قراءتها أثر للجنابة لا الحدث بخلاف عدم إجزاء الصلاة وعدم جواز مسّ کتابة القرآن فإنهما من أثر الحدث. أقول: لا یترتب علی هذا البحث أثر عملی بعد فرض تمام رکنی الاستصحاب فی ناحیة کل من الفرد والکلی، وإن کان الصحیح إغناء الاستصحاب فی الفرد فیما کان الأثر الخاص مترتباً علیه عن الاستصحاب فی ناحیة الکلی، والوجه فی ذلک أن الأثر المترتب علی الکلی لیس أثراً لعنوانه بل أثر لما یکون ذلک الکلی بالحمل الشایع، واستصحاب الفرد ولو کان لخصوصیة ذلک الفرد أثر أیضاً یکون ذلک الکلی لا محالة فیترتب علی الاستصحاب فی ناحیته کلا الأثرین کالاستصحاب فی بقاء الجنابة فی المثال المتقدم. نعم، الاستصحاب فی ناحیة الکلی لا یثبت الفرد؛ لأن التعبد بوجود الکلی ولو کان بنحو الحمل الشایع إلاّ أنه لا یثبت خصوصیة الفرد الخاص کما یأتی وقد یستظهر من صحیحة زرارة التعبد بشخص الوضوء السابق مع أن الدخیل فی الصلاة طبیعی الوضوء لا خصوص ذلک الوضوء، وفی الاستظهار ما لا یخفی فإن

ص : 224

.··· . ··· .

المعتبر فی الصلاة الوضوء بالحمل الشایع والمستصحب هو الوضوء بالحمل الشایع المحرز سابقاً کما هو ظاهر الصحیحة، وبتعبیر آخر الطهارة من الحدث بالإضافة إلی غیر الجنب هی الوضوء خاصة لا الجامع.

جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی

والقسم الثانی _ ما إذا اُحرز حصول الکلی بفرد لا یعلم ذلک الفرد بعینه بل یتردد أمره بین أن یکون بقاؤه مقطوعاً به علی تقدیر کونه هو الحاصل وبین ما ارتفاعه مقطوع علی تقدیر حصوله کما إذا کان الشخص متطهراً من الحدثین وخرج منه بلل مردد بین البول والمنی وإذا توضأ فیشک قهراً فی بقاء حدثه فالکلام فی أنه یجری فی الفرض الاستصحاب فی ناحیة بقاء حدثه المقطوع حصوله سابقاً حتی لا یجوز له الدخول فی الصلاة ما لم یحرز ارتفاع حدثه السابق بالاغتسال وکذا لا یجوز له مسّ کتابة القرآن أو لا یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء الحدث، وحیث تقدم أن رکنی الاستصحاب؛ الیقین بحصول الشیء، والشک فی بقائه بأن یحتمل أن ما اُحرز حصوله سابقاً باق فلا مانع من شمول خطابات «لا تنقض الیقین بالشک» لنفس الکلی المحقق سابقاً فیحرز بقاؤه بإطلاق تلک الخطابات، ولکن قد نوقش فی جریان الاستصحاب فی مثل الفرض بوجهین:

الأول _ عدم تمامیة رکنی الاستصحاب حیث إن تحقق الکلی بفرد تحقق وتحققه بفرده الآخر تحقق آخر، وعلیه فإن تحقق فی ضمن الفرد القصیر فقد علم ارتفاعه، وإن تحقق بفرده الآخر فهو مقطوع البقاء فلا یکون فی الفرض علم بتحقق، والشک فی بقاء ذلک التحقق.

ص : 225

.··· . ··· .

والوجه الثانی _ أن الشک فی بقاء الکلی مسبب عن احتمال حصول الفرد طویل العمر فیکون الأصل الجاری فی ناحیة عدم حصول ذلک الفرد حاکماً علی الاستصحاب فی ناحیة نفس الکلی، ومقتضی الوجه الأول کما تری عدم تمامیة رکنی الاستصحاب فی ناحیة الکلی، ومقتضی الوجه الثانی وجود المانع عن جریانه فی ناحیة الکلی، وهو وجود الأصل السببی الحاکم علی الاستصحاب فی ناحیته.

والجواب: عن الوجه الأول أن الکلی وإن لا یکون له تحقق بغیر الفرد إلاّ أن الفرد المتحقق له إضافتان إضافة إلی الکلی وبهذا اللحاظ یکون تحققاً للکلی وإضافة إلی خصوصیاته وبهذا الاعتبار یعد شخصاً، والتردد بین ما هو باق قطعاً وغیر موجود أصلاً بملاحظة خصوصیة کل من الفردین وأما بالإضافة إلی الطبیعی فالعلم بأن الطبیعی کان موجوداً ونحتمل بقاء عین ذلک الطبیعی الموجود سابقاً حاصل فعلاً، وإن شئت قلت المستصحب فی هذا القسم أیضاً کالقسم السابق هو الشخص؛ لأن الموضوع للأثر الشرعی أو العقلی هو ما یکون بالحمل الشایع ذلک الطبیعی أو التکلیف والحکم، وإنما یسمی الاستصحاب من استصحاب الکلی؛ لأن الأثر الثابت لذلک الشخص لیس أثراً بلحاظ خصوصیته بل بلحاظ أنه الطبیعی بالحمل الشایع فالطبیعی الموجود بالحمل الشایع یحتمل بقاؤه بعین تحققه السابق لاحتمال کونه هو الفرد الطویل، ولیس الشک الوارد فی خطابات الاستصحاب إلاّ احتمال البقاء، وإلی ما ذکرنا یرجع ما ذکره الماتن قدس سره حیث قال بأن ما ذکر لا یوجب الإخلال فی رکنی الاستصحاب فی ناحیة الکلی، وذلک فإن الکلی مع قطع النظر عن خصوصیة کل من الفردین معلوم الحدوث ویحتمل تحققه فعلاً بتحققه السابق المعبر عنه بالبقاء، وإنما یختل الاستصحاب بالملاحظة إلی خصوصیة کل من الفردین حیث

ص : 226

.··· . ··· .

بهذه الملاحظة یعلم بالارتفاع فی أحدهما ولا یعلم الحدوث فی الآخر، ولازم ذلک أن یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل فیما إذا لم یوجب ذلک المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال ففی المثال المتقدم یعنی ما إذا خرج البلل المردد بین البول والمنی من المتطهر من الحدثین لا مجال للاستصحاب فی عدم جنابته لکونه معارضاً بالاستصحاب فی عدم خروج البول منه فالمکلف یعلم إجمالاً أما باعتبار الوضوء لصلاته أو الغسل لها، ولا یجری بعد وضوئه الاستصحاب فی عدم کونه جنباً لسقوطه بالمعارضة قبل الوضوء، ولکن یجری بعده الاستصحاب فی بقاء حدثه المعبر عنه بالاستصحاب فی الکلی فیلزم علیه لإحراز الطهارة لصلاته الاغتسال، وکذا لجواز مسه کتابة القرآن، ولکن لا بأس بقراءته العزائم، والمکث فی المساجد؛ لأصالة الحل الجاریة بالإضافة إلیهما حتی قبل الوضوء؛ لأنها أصل طولی له خطاب خاص، ولیس فی البین مانع عن شمول خطابها لهما، وهذا بخلاف ما إذا کان متطهراً من الحدثین وتوضأ وضوءاً تجدیدیاً ثمّ علم بخروج البلل المردد بین البول والمنی قبل الوضوء التجدیدی فإنه یجری الاستصحاب فی عدم جنابته بلا معارض فإن خروج البول لا أثر له فی الفرض لیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم خروجه فیجوز له ارتکاب ما لا یجوز للجنب.

الإشکال فی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی

وقد یقال: أنه لا مجال للاستصحاب فی عدم الجنابة فی الفرض؛ لأنه معارض أیضاً بالاستصحاب فی ناحیة عدم خروج البول، وعدم إصابته المخرج حیث یعتبر فی تطهیر المخرج من البول غسله مرتین ولا یعتبر فی تطهیره من خروج المنی إلاّ طبیعی الغسل فالاستصحاب فی عدم إصابة البول مخرجه الاکتفاء بغسله مرة

ص : 227

نعم، یجب رعایة التکالیف المعلومة إجمالاً المترتبة علی الخاصین، فیما علم تکلیف فی البین، وتوهم کون الشک فی بقاء الکلی الذی فی ضمن ذاک المردّد مسبباً عن الشک فی حدوث الخاص المشکوک حدوثه المحکوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه فاسد قطعاً، لعدم کون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه،

فالمکلف یعلم إجمالاً إما بوجوب الاغتسال علیه أو غسل مخرج بوله مرتین، وهذا العلم الإجمالی یوجب سقوط الاستصحاب النافی فی ناحیة کل منهما.

أقول: لو بنی علی أن تطهیر مخرج البول یکون بغسله الموضع مرتین لا یکون ذلک موجباً للفرق بین هذا الفرض والفرض السابق عملاً؛ لأن الاستصحاب فی عدم إصابة البول المخرج وإن یوجب أن یقع المعارضة بینه وبین الاستصحاب فی عدم خروج المنی، وکذا تقع المعارضة بین أصالة البراءة عن اشتراط الصلاة بغسله مرتین، وبین أصالة البراءة عن اشتراطها بالاغتسال إلاّ أنه لا تختلف فی النتیجة حیث یلزم علی المکلف الاغتسال لإحراز الطهارة لصلاته ولانقطاع الاستصحاب فی الحدث المتیقن حصوله بخروج البلل حتی یجوز له مسّ کتابة القرآن وأما جواز مکثه فی المساجد وقراءته العزائم فلأصالة الحل الجاریة فیهما؛ لأنها أصل مختص ولعله لذلک لم یفصل الشیخ وغیره بین الفرضین فی الحکم.

وأما بناءً علی کفایة غسل الموضع مرة واحدة أو أن غسله مرتین احتیاط لبعض ما ورد فی تطهیر مخرج البول مما ظاهره کفایة المرة فلا معارض لأصالة عدم خروج المنی فی الفرض الثانی، ولکن هذا لا یوجب عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة کلی الحدث المحرز بخروج البلل حتی فی الفرض الثانی إلاّ بناءً علی ما نذکره بعد التعرض للوجه الثانی من الإشکال وجوابه وهو أن ما هو معتبر فی جریان الاستصحاب من إحراز الحالة السابقة والشک فی بقائها وإن کان متحققاً بالإضافة إلی

ص : 228

.··· . ··· .

الکلی إلاّ أن الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل حاکم علی الاستصحاب فی ناحیته فعدم جریانه فی ناحیة الکلی للمانع لا لفقد المقتضی والوجه فی الحکومة أن الشک فی بقاء الکلی مسبب عن احتمال حدوث ذلک الفرد الطویل، وإذا جری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوثه یحرز عدم بقائه.

وأجاب الماتن عن هذا الإشکال:

أوّلاً _ بأن الکلی کان موجوداً یقیناً فارتفاعه بعد انقضاء الفرد القصیر من لوازم کون الحادث سابقاً ذلک الفرد القصیر والاستصحاب فی عدم حدوث الفرد الطویل لا یثبت أن الحادث سابقاً هو الفرد القصیر کما أن بقاء الکلی فعلاً من لوازم کون الحادث هو الفرد الطویل.

وثانیاً _ أن بقاء الکلی أی الطبیعی عین بقاء الفرد الذی فی ضمنه لا أنه لازمه وحکومة أصل علی أصل آخر إنما یکون فیما کان مجری الأصل المحکوم أثراً ولازماً لمجری الأصل الحاکم.

وثالثاً _ بأن بعد الإغماض عن ذلک، وفرض کون بقاء الطبیعی لازماً فلیس اللزوم شرعیاً بل اللزوم عقلی ولا یترتب بأصالة عدم حدوث الفرد الطویل إلاّ نفی آثاره الشرعیة لا ارتفاع الکلی وعدم وجوده، وقد فهم سیدنا الاُستاذ من الجواب الأول عن دعوی الحکومة غیر ما ذکرنا حیث قرر مراد صاحب الکفایة بأن الشک فی بقاء الکلی مسبب عن احتمال کون الفرد المتیقن حدوثه هو الفرد الطویل وارتفاعه عن عدم حدوثه، وحیث لا أصل فی البین یعین عدم کونه الفرد الطویل فلا یکون فی البین حکومة علی الاستصحاب فی ناحیة بقاء الکلی، ولذا أورد علی جوابه بأنه إذا قلنا بجریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیة فیحرز به عدم کون الحادث الفرد

ص : 229

.··· . ··· .

الطویل حیث قبل خروج البلل لم یکن البلل الفرد الطویل ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع وبعد خروجه یشک فی بقاء السالبة بحالها حیث إن السالبة المحصلة صادقة مع انتفاء الموضوع ومع انتفاء المحمول بعد وجود الموضوع، وبالاستصحاب المذکور یحرز عدم کون البلل الخارج هو الفرد الطویل نظیر ما تردد أن ما أصاب الثوب عرق الجنب عن الحرام الکافی فی تطهیره غسله مرة أو أنه بول فاللازم فی تطهیره غسله مرتین فإنه إذا جری عدم کون ما أصابه بولاً یکتفی فی تطهیره بالغسل مرة فیکون هذا الاستصحاب حاکماً علی استصحاب بقاء نجاسة الثوب ولا یعارضه الاستصحاب فی عدم کون ما أصابه عرقاً؛ لأنه لا أثر لهذا الاستصحاب للزوم غسل الثوب مرة لا محالة؛ لأن الشارع قد حکم بطهارة کل متنجس غسل بالماء مرة إلاّ ما أصابه البول فإنه یتعین فی تطهیره الغسل مرتین والصحیح فی الجواب عن الماتن أن یقال: إن المطلوب فی الاستصحاب الجاری فی ناحیة الکلی إحراز وجوده فی الزمان الثانی أو عدم وجوده فیه وعنوان الارتفاع لم یوءخذ موضوعاً للحکم لیکون اللازم إحراز أن الحادث کان الفرد القصیر لا الطویل وفی إحراز عدم الطبیعی فی الزمان الثانی یکفی إحراز عدم حدوث الفرد الطویل إذ انتفاؤه فی ضمن الفرد القصیر مقطوع به وإذا أحرز عدم وجوده فی ضمن الفرد الطویل بالاستصحاب بعدم حدوثه یثبت انتفاؤه، وأیضاً الجواب الصحیح عن دعوی حکومة الاستصحاب فی عدم حدوث الفرد الطویل أنه مبتلی بالمعارض بالاستصحاب فی عدم حدوث الفرد الصغیر کما إذا خرج من المتطهر من الحدثین بلل مردد بین البول والمنی کما هو الفرض الأول من الفرضین السابقین، وأما فی الفرض الثانی کما إذا علم بخروج البلل المردد بین البول والمنی بعد تجدید الوضوء

ص : 230

بل من لوازم کون الحادث المتیقن ذاک المتیقن الإرتفاع أو البقاء، مع أن بقاء القدر المشترک إنما هو بعین بقاء الخاص الذی فی ضمنه[1] لا أنه من لوازمه، علی أنه لو

قبله ففی هذا الفرض یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل بلا معارض له بل یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم کون البلل الخارج منیاً بناءً علی جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی بمعنی أنه إذا کان الموضوع للحکم الشرعی بمفاد السالبة بانتفاء المحمول، وکانت الحالة السابقة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع یمکن إحراز السالبة بانتفاء المحمول بجریان الاستصحاب فی تلک السالبة الصادقة مع انتفاء الموضوع وبانتفاء المحمول؛ لأن سلب الوصف عن شیء لا یحتاج إلی وجود ذلک الشیء والوصف فی ثبوته یحتاج إلی ثبوت الموضوع أی تحققه دون انتفائه وعلی الجملة فمع إحراز الموضوع والاستصحاب فی نفی الوصف عنه یحرز تمام الموضوع للحکم.

[1] کأنه قدس سره یرید بیان حکومة أصل علی أصل آخر یقتضی الاثنینیة بین مجری الأصل الحاکم ومجری الأصل المحکوم بأن یکون مجری الثانی لازماً لمجری الأصل الحاکم کما إذا شک فی طهارة الثوب المتنجس بعد غسله بماء یشک فی طهارته ونجاسته فإنه إذا جری الاستصحاب فی طهارة ذلک الماء یترتب علیه أثره وهو طهارة الثوب المفروض، وفیما نحن فیه لیس بقاء الکلی الطبیعی أثراً لوجود الفرد الخاص الذی فی ضمنه بل یکون بقاؤه بعین بقاء الخاص فلا اثنینیة فی البین لیکون الأصل الجاری فی ناحیة الفرد حاکماً علی الاستصحاب فی ناحیة الکلی، ولکن لا یخفی ما فیه فإن حکومة أصل علی أصل آخر یکون فی موردین أحد الموردین ما ذکرنا، والمورد الثانی ما إذا کان مجری الأصلین أمراً واحداً ولکن کان جریان أحد الأصلین فیه موجباً لانتفاء الموضوع للأصل الثانی کما إذا شک فی بقاء

ص : 231

سلّم أنه من لوازم حدوث المشکوک فلا شبهة فی کون اللزوم عقلیاً [1]، ولا یکاد یترتب بأصالة عدم الحدوث إلاّ ما هو من لوازمه وأحکامه شرعاً.

حرمة العصیر المغلی بعد ذهاب ثلثیه بالنار فإنه إذا جری الاستصحاب فی بقاء حرمته ینتفی الموضوع لقاعدة الحل فیه، وذلک فإن مفاد خطاب قاعدة الحل وهو قوله علیه السلام : «کل شیء حلال حتی تعلم أنه حرام» حلیة المشکوک فی حلیته وحرمته وهذه الکبری لا تعین صغراها کما هو شأن کل حکم مجعول بمفاد القضیة الحقیقیة، وإذا کان فی مورد أصل آخر ینفی الشک فی حلیته أو حرمته لا یبقی لأصالة الحل موضوع کما فی الاستصحاب فی بقاء الحرمة حیث إن مفاد خطابات الاستصحاب کون علم المکلف بالحرمة السابقة علماً ببقائها مع عدم العلم بانتفائها فلا یبقی شک فی حرمة العصیر بعد ذهاب ثلثیه بغیر النار لیجری فیه أصالة الحلیة والإشکال فی المقام هو أن الشک فی بقاء الکلی مسبب عن حدوث الجنابة سابقاً بأن کان البلل الخارج منیاً وإذا جری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الجنابة بأن علم عدمها أو عدم کون البلل السابق منیاً فلا یکون شک فی ناحیة بقاء الکلی؛ لأن طبیعی الحدث غیر موجود فی ضمن الحدث الأصغر یقیناً وفی ضمن الحدث الأکبر تعبداً.

[1] مراده قدس سره أنه لو کان وجود الطبیعی من لوازم حدوث الفرد الطویل فلا شبهة فی أن لزومه علی حدوثه ترتب عقلی لا شرعی ولا یثبت بالاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل إلاّ نفی الآثار واللوازم الشرعیة المترتبة علی حدوث ذلک الفرد لا نفی لوازمه العقلیة فلو کان فی مورد للطبیعی أثر شرعی یجری الاستصحاب فی ناحیة بقائه لترتیب ذلک الأثر مع جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل وینفی به الأثر الشرعی المترتب علی خصوص ذلک الفرد علی ما تقدم وإن شئت قلت الاستصحاب فی عدم حدوث الفرد الطویل أو عدم کون الحادث

ص : 232

.··· . ··· .

الفرد الطویل لا یثبت انتفاء الطبیعی الذی هو القدر المشترک بعد العلم بحدوث أحدهما إلاّ أن یثبت أن الحادث کان هو الفرد القصیر حتی بناءً علی أن الاستصحاب فی الفرد فی القسم الأول من الاستصحاب فی الکلی یغنی عن الاستصحاب فی نفس الکلی وأن الاستصحاب عند الشک فی حدوث فرد معین فی ناحیة عدم حدوثه یثبت عدم حدوث الکلی فیما کان عدم حدوث سائر الأفراد محرزاً بالوجدان أو بالتعبد أیضاً، والوجه فی عدم إثبات انتفاء القدر المشترک بالاستصحاب فی ناحیة عدم الفرد الطویل فی القسم الثانی من الکلی هو أن الاستصحاب فی ناحیة عدم الفرد الطویل لا یثبت کون الحادث هو القصیر وانتفاء الطبیعی حیث إن وجوده کان محرزاً إنما هو فی فرض کون الحادث هو الفرد القصیر، وحدوثه لازم عقلی لعدم حدوث الفرد الطویل أو عدم کون الحادث الفرد الطویل إذا کانا واقعیین لا بالتعبد کما هو المفروض فی المقام، وما تقدم من أن الاستصحاب فی ناحیة الفرد یغنی عن الاستصحاب فی ناحیة الکلی فی القسم الأول؛ لأن الطبیعی المحرز وجوده سابقاً ویشک فی بقائه فیه بعینه کان الفرد الذی یشک فی بقاء شخصه فالتعبد ببقاء ذلک الشخص بعینه تعبد ببقاء تحقق الطبیعی السابق کما أن التعبد بعدم حدوث الشخص من الطبیعی مع إحراز عدم حدوث سائر أفراده وجداناً أو تعبداً بعینه تعبد بعدم صرف وجود ذلک الطبیعی.

نعم، إذا کان الطبیعی بنفسه مجعولاً شرعیاً أو اعتباریاً وعلق ارتفاعه علی عدم حدوث الفرد الطویل بلا فرق بین صورة وجود الفرد القصیر وعدمه فیمکن انتفاء ذلک الطبیعی بالاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل کما فی فرض کون المکلف محدثاً بالأصغر وشک فی أنه صار جنباً أیضاً أم لا فإن الاستصحاب فی

ص : 233

.··· . ··· .

ناحیة عدم جنابته مقتضاه أن رافع حدثه هو الوضوء؛ لأن ظاهر قوله سبحانه: «إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم»(1) الآیة أن من نام أو بال وظیفته الوضوء لصلاته إلاّ إذا کان جنباً کما هو مفاد الآیة بضمیمة قوله سبحانه: «فإن کنتم جنباً فاطهروا» بل یمکن هذا حتی فیما إذا کان المکلف متطهراً من الحدثین وخرج منه البلل المردد بین البول والمنی حیث إن المکلف فی الفرض محدث وجداناً، والأصل عدم کونه جنباً فتکون وظیفته الوضوء لرفع حدثه، وقد ورد فی الروایات الأمر بالوضوء عقیب البول والنوم وغیرهما من نواقض الوضوء إلاّ أن الأمر إرشاد إلی کونها نواقض للوضوء والموضوع للوضوء فی الآیة المبارکة المحدث إذا لم یکن جنباً، وإلاّ فوظیفة الجنب لرفع حدثه هو الغسل وقد ورد فی تفسیر الآیة فی الموثق قوله سبحانه: «إذا قمتم إلی الصلاة»أی من النوم، ولکن ذکر النوم لا خصوصیة له بل المراد القیام لها مع الحدث، وتمام الکلام ذکرناه فی بحث الفقه فراجع وإجماله أن ما ورد فی الموثقة لا یفید أن الموضوع لوجوب الوضوء للصلاة خصوص المحدث بالأصغر الذی لم یکن جنباً بل المحدث الذی لم یکن جنباً وإذا کان الموضوع لاعتبار الوضوء الثانی فیمکن إحرازه حتی فی الصورة الثانیة.

لا یقال: إذا فرض أن الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث الفرد الطویل أو عدم کون الحادث الفرد الطویل حاکماً علی الاستصحاب فی ناحیة بقاء الکلی یلزم من جریانه فی ناحیة الکلی لزوم الاحتیاط فی مسألة دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین حیث لا یکون الاستصحاب فی ناحیة عدم تعلق الوجوب بالأکثر

ص : 234


1- (1) سورة المائدة، الآیة 6.

.··· . ··· .

أو أصالة البراءة عن وجوبه مانعاً عن جریان الاستصحاب فی نفس طبیعی الوجوب المتحقق سابقاً قبل الإتیان بالأقل.

فإنه یقال: لا مجال للاستصحاب فی ناحیة طبیعی الوجوب فی تلک المسألة حتی بناءً علی القول بجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة، وذلک فإن جریان الاستصحاب فی ناحیة الکلی ینحصر بما إذا کان المستصحب موضوعاً لحکم شرعی أو عقلی أعم من الظاهری والواقعی کما فی استصحاب الحدث والخبث وإذا کان المستصحب من طبیعی التکلیف فقط فلا یترتب علی استصحابه إلاّ أثره العقلی من لزوم الطاعة لاحتمال الضرر فی مخالفته وإذا فرض فی دوران الأمر فی الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر جریان الأصل فی ناحیة عدم وجوب الأکثر سواء کان الأصل هو الاستصحاب أو أصالة البراءة فلا یبقی لاستصحاب جامع التکلیف أثر عقلی أیضاً حیث إن حکم العقل بلزوم طاعته لاحتمال الضرر فی عدم رعایته، ومع حکم الشارع بعدم وجوب الاحتیاط، وعدم ترتب الضرر علی تقدیر تعلق التکلیف بالأکثر واقعاً لا یبقی سبیل لاحتمال الضرر فی ترک موافقة الطبیعی بعد الإتیان بالأقل وجریان أصالة البراءة فی ناحیة تعلقه بالأکثر؛ لأن الاستصحاب فی بقاء طبیعی الوجوب بعد الإتیان بالأقل لا یثبت تعلق التکلیف بالأکثر حتی لا یکون وجوب الأکثر مما لا یعلمون.

ومما ذکر یظهر وجه الخلل فیما ذکر الماتن فی عنوان هذا التنبیه بأنه لا فرق فی المستصحب بین أن یکون خصوص أحد الأحکام أو ما یشترک بین الاثنین أو الأزید من أمر عام حیث ذکرنا الفرق بین أن یکون المستصحب طبیعی التکلیف وما إذا کان الطبیعی الموضوع للحکم.

ص : 235

.··· . ··· .

کلام العراقی قدس سره فی الفرق بین الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وبین الاستصحاب فی الفرد المردد

وذکر العراقی قدس سره أن جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی ما إذا کان القدر المشترک بنفسه موضوعاً للأثر الشرعی کما فی الحدث المتحقق بخروج البلل بین البول والمنی فإن الحدث _ بالأصغر کان أو بالأکبر _ موضوع لعدم جواز مسّ کتابة القرآن وعدم الدخول فی الصلاة معه بخلاف ما إذا کان الموضوع للأثر هو الفرد خاصة ولکن تردد ذلک الفرد بین أمرین خارجاً بحیث لو کان هو الأمر القصیر فقد زال، ولو کان الأمر الطویل فهو باق جزماً کما إذا أصاب الثوب دمّان فی موضعین منه، فی أحد الموضعین أصابه دم السمک وفی موضعه الآخر دم الإنسان، وغسل أحد الموضعین، ولکن لم یعلم أن المغسول ما أصابه دم السمک أو ما أصابه دم الإنسان فإن الموضوع للتکلیف أو الوضع الملازم له أحد الفردین، ولا یجوز فی الفرض الاستصحاب فی تنجس الثوب بدم الإنسان وذلک؛ لأن ما هو الموضوع للأثر الشرعی بواقعه لا شک فی بقائه بعد حدوثه بل الموضوع الخارجی إما باق قطعاً أو زایل قطعاً، وکذا لا یجری الاستصحاب فیما إذا تلف أحد الإناءین بوقوع أحدهما فی البحر ثم علم بنجاسة التالف قبل تلفه أو نجاسة الإناء الباقی فإنه یرجع فی الباقی إلی أصالة الطهارة ولم یکن فی البین مجال لدعوی أن الإناء النجس کان قبل تلف أحدهما ویحتمل بقاؤه فیلزم الاجتناب عن الباقی للخروج عن التکلیف الثابت بالاستصحاب.

لا یقال: عدم جریان الاستصحاب فی بقاء الإناء المتنجس لکونه لا یثبت أنه الإناء الباقی، وما لم یثبت ذلک لا یحکم العقل بلزوم رعایة التکلیف المتعلق بشرب

ص : 236

.··· . ··· .

النجس فعدم جریان الاستصحاب فی الفرض لا یرتبط بدعوی أنه لا مجال للاستصحاب فی الفرد المردد.

فإنه یقال: لا حاجة فی حکم العقل بلزوم رعایة التکلیف إلی إثبات أن الإناء الباقی هو مورده فالاجتناب عنه لإحراز امتثال التکلیف الثابت بالاستصحاب وإن لم یثبت أن مورده هو الإناء الباقی فعدم لزوم رعایة التکلیف المحتمل والرجوع إلی الأصل النافی هو عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة الفرد المردد وأن الالتزام بجریانه فی القسم الثانی لا یکون موجباً للالتزام بجریانه فی الفرد المردد، ومما ذکر یظهر أنه لا یجری الاستصحاب فی بقاء الإناء النجس حتی ما لو تلف أحد الإناءین بعد العلم بنجاسة أحدهما إجمالاً فإن الاجتناب عن الإناء الآخر فی الفرض لتنجیز العلم الإجمالی بالتکلیف لا لاستصحاب الموضوع بعد تلف أحدهما.

وعلی الجملة ففی موارد الفرد المردد الموضوع للأثر واقع الإناء النجس ولا شک فی بقائه بل هو مقطوع البقاء أو مقطوع الزوال وما یشک فی بقائه هو الإناء النجس بعنوانه، وعنوانه لیس موضوعاً لحکم شرعی لیجری الاستصحاب فیه بخلاف القسم الثانی من الکلی فإن الکلی بعنوانه کعنوان الحدث موضوع للحکم، ویشک فی بقائه ولو بتردد فرده بین ما هو مقطوع البقاء أو الزوال.

لا یقال: کما إذا علم إجمالاً نجاسة أحد الاناءین یکون العلم بالنجاسة بعنوان أحد الاناءین منجزاً للتکلیف الواقعی المتعلق بما هو ملاق للنجس واقعاً کذلک الشک المتعلق بعنوان ما هو أحدهما کما هو مقتضی التعبد بمنجزیة الشک فی البقاء.

فإنه یقال: العلم بنجاسة أحد الاناءین یسری إلی ما هو الموضوع للأثر واقعاً والمورد للتکلیف بخلاف الشک فی البقاء فی الإناء النجس فإنه لا یسری إلی مورد

ص : 237

.··· . ··· .

الیقین واقعاً لیشک فی بقائه بل مورده إما مقطوع البقاء أو مقطوع الزوال، ومما ذکر یظهر أن الإشکال فی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی بالشبهة العبائیة الآتیة ناش عن الخلط وعدم التمییز بین الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وبین الفرد المردد الذی التزمنا بعدم جریان الاستصحاب فیه حیث إن الشبهة العبائیة داخلة فی الفرد المردد بخلاف القسم الثانی من الکلی حیث إن الموضوع للأثر الشرعی هو الطبیعی.

عدم الفرق بین جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وبین ما سمّاه بالفرد المردد

أقول: المستصحب فی موارد الاستصحاب ما اُحرز تحققه فی السابق واحتمال بقاء ذلک التحقق. نعم، یعتبر فی جریان الاستصحاب ترتب أثر علی التعبد بالبقاء لئلا یکون التعبد به لغواً وقد تقدم أن الأثر فی موارد الاستصحاب فی الکلی یترتب علی تحققه أی بما یحمل علیه الکلی بالحمل الشایع، ولابد فی جریانه من احتمال بقاء ذلک التحقق الذی کان سابقاً وتسمیته بالاستصحاب فی الکلی باعتبار إضافة المتحقق خارجاً بعنوان الطبیعی محرز وأما إضافة إلی خصوصیة الفرد غیر محرز، وعلیه فإن کان مع إضافته إلی الکلی موضوعاً لحکم کدم الإنسان حیث تنجس الثوب ونحوه بإصابته فتکون نجاسة الثوب المزبور أی نجاسة موضع إصابة الدم محرزاً، ومع احتمال بقاء ذلک الموضع علی نجاسته السابقة یجری الاستصحاب حیث إن المراد بالشک فی أخبار الاستصحاب خلاف الیقین، وکما یکون اتحاد متعلقی الیقین والشک بنظر العرف کذلک فی الشک بمعنی احتمال البقاء یکون الملاک نظرهم وأن لم یکن من احتمال البقاء بالدقة العقلیة بل من التردد فی موضع

ص : 238

.··· . ··· .

النجاسة من الثوب، بل یمکن أن احتمال البقاء عقلی وإن کان منشؤه التردد فی حصوله بأی من الفردین، وعلی ذلک فلا بأس بالاستصحاب فی بقاء موضع النجاسة علی نجاسته لاحتمال بقاء ذلک الموضع علیها، وأما عدم جریان الاستصحاب فی بقاء التکلیف أو الموضوع له فیما إذا تلف بعض الأطراف قبل حصول العلم الإجمالی فهو لا لکون المستصحب فرداً مردداً، بل لأن المستصحب لا یترتب علیه الأثر العقلی، بل ولا الأثر الشرعی بعد جریان الأصل النافی فی الطرف الباقی حیث إن العلم الإجمالی بنجاسة أحد الاناءین بعد تلف أحدهما لا یمنع عن جریان أصالة الطهارة فی الإناء الباقی فیجوز شربه واستعماله فی رفع الحدث والخبث فلا یبقی لاستصحاب بقاء الإناء المتنجس سابقاً أثر عقلی ولا شرعی فی الفرض علی ما تقدم فی عدم جریان الاستصحاب فی التکلیف فی مورد دوران أمر الواجب الارتباطی بین الأقل والأکثر.

ومما ذکرنا یظهر الحال فی الشبهة المعروفة بالشبهة العبائیة التی ذکروها إشکالاً علی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وتقریر الشبهة أنه إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الموضعین من الثوب کالعباء وغسل أحد الموضعین ثم وقع الثوب بتمامه فی ماء قلیل فإنه بناءً علی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی یلزم الحکم بنجاسة ذلک الماء؛ لأن الثوب حتی موضعه النجس سابقاً لاقی الماء المفروض، ومقتضی الاستصحاب بقاء ذلک الموضع علی نجاسته مع أن الطرف المغسول من الثوب لا یکون منجساً لطهارته بالغسل علی تقدیر کون النجس ذلک الموضع، وکذلک الطرف الآخر غیر المغسول فإن الماء من قبیل الملاقی لأحد طرفی العلم الإجمالی.

ص : 239

.··· . ··· .

وأجاب المحقق العراقی قدس سره عن الشبهة بأن الاستصحاب فیها من قبیل الاستصحاب فی الفرد المردد، وعدم جریانه فیه لا ینافی جریانه فی القسم الثانی من الکلی.

وکذلک المحقق النائینی قدس سره حیث قال: لا یکون الالتزام بجریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی التزاماً بجریانه فی نجاسة الثوب فی المثال وذلک لأن الاستصحاب فی بقاء نجاسة الثوب من الاستصحاب فی الفرد المردد مکانه بین موضعین یعلم بزوال الفرد الحادث علی تقدیر کونه فی الموضع المغسول کما یعلم بقاؤه علی تقدیر کونه فی الموضع الآخر نظیر ما علم بکون زید فی البلد إما فی شرقه أو غربه، وفرض خراب الشرق من البلد بحیث لو کان زید فیه مات قطعاً وعلی تقدیر کونه فی غربه فهو حیٌّ قطعاً ففی مثل ذلک لا یجری الاستصحاب فی حیاة زید لعدم الشک فی بقائه علی کل تقدیر بل لا شک فیه فی شیء من التقدیرین، ومثله ما لو علم تلف درهم من دراهم لزید وعمرو ولکن لم یعلم أن التالف هو درهم زید أو عمرو فلا یجری الاستصحاب فی بقاء دراهم زید.

موارد جریان الاستصحاب فی الفرد الذی سمّوه بالفرد المردد

أقول: فی مسألة حیاة زید: إن عدم جریان الاستصحاب فیه لا یرجع إلی محصل، وکونه عند خراب الطرف الشرقی من بلده فیه أو فی طرفه الغربی منشأ الشک فی بقاء حیاته فالاستصحاب فی بقاء حیاته وعدم موته جار ویترتب علیه عدم انتقال أمواله إلی ورثته وبقاء زوجته علی زوجیته وکونها ذات بعل إلی غیر ذلک، وکذا لو فرض ترتب أثر علی بقاء درهم زید فیما إذا لم یعارضه بقاء دراهم

ص : 240

.··· . ··· .

غیره، والحاصل ما هو الموضوع لجریان الاستصحاب فی ناحیة الکلی من القسم الثانی من رکنی الاستصحاب حاصل فی مسألتی حیاة زید أو بقاء الدرهم وتنجس الثوب سمی الاستصحاب بکون المستصحب کلیاً أو فرداً حیث إن المراد من الشک احتمال البقاء فیما اُحرز حصوله سابقاً.

وأجاب النائینی قدس سره عن الشبهة المتقدمة بوجه آخر وهو أن مراد تنجس الثوب بمفاد (کان) التامة بالاستصحاب لا یفید شیئاً فإن الأثر مترتب علی مفاد کان الناقصة، وبتعبیر آخر بقاء تنجس الثوب لازمه ملاقاة الطاهر بالنجاسة نظیر ما إذا وقع متنجس فی موضع کان فیه سابقاً الماء الکر وشک فی بقاء الکر عند وقوع المتنجس فی ذلک المکان فإن الاستصحاب فی بقاء الکر فی ذلک المکان حال وقوعه فیه لا یثبت أنه غسل بالماء الکر لیحکم بطهارته. ولا یخفی ما فی الجواب والتنظیر فإن الموضوع لنجاسة الماء القلیل إصابة النجس إیاه، والمراد بالنجس الأعم من عین النجاسة أو المتنجس فإصابة الثوب بذلک الموضع المتنجس سابقاً الماء محرز بالوجدان ومقتضی الاستصحاب بقاء ذلک الموضع علی نجاسته فأین الاستصحاب فی مفاد (کان) التامة. نعم، ما ذکره من الأصل المثبت یجری فیما ذکر من التنظیر إذا لم یحرز وجود الماء السابق عند وقوع المتنجس فی ذلک الموضع ومثله ما إذا قلنا بعدم تنجس بدن الحیوان وإنما النجس هو العین علی بدنه، وإذا لاقی بدنه مع الماء القلیل وشککنا فی أن العین باقیة عند ملاقاة بدنه الماء فلا یفید الاستصحاب فی بقاء العین فی الحکم بنجاسة الماء؛ لأنه لا یثبت ملاقاة الماء تلک العین فتحصل من جمیع ما ذکرنا أن الاستصحاب فی ناحیة بقاء نجاسة الثوب الملاقی للماء القلیل یجری ویحکم بنجاسة الماء ولا ینافی ذلک مع الحکم بطهارة الملاقی لأحد أطراف

ص : 241

.··· . ··· .

العلم فإن الحکم بالطهارة فیه للأصل وإذا لم یجر ذلک الأصل بل جری الأصل الحاکم علیه یوءخذ بمقتضی الأصل الحاکم والتفکیک بین حکم الملاقی فی الفرض وسائر المواضع التی یحکم بطهارته لا محذور فیه کما لا موءد للدهشة منه. نعم، لو غسل أحد طرفی ثوب وبعد غسله حصل العلم الإجمالی بإصابة نجس أما بذلک الطرف المغسول أو بطرفه الآخر.

بقی فی المقام أمر وهو أنه تعرض سیدنا الاستاد (طاب ثراه) لفرعین: الأول ما إذا علم نجاسة شیء فعلاً ودار تنجسه بین کونه ذاتیاً لا یطهر بالغسل وبین کونه عرضیاً یطهر به کما فی الصوف المردد بین کونه من الخنزیر أو الشاة وقد أصابته نجاسة عرضیة بحیث لو غسل یشک فی طهارته ونجاسته فإنه لو بنی علی جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی یحکم بطهارته بعد غسله؛ وذلک للاستصحاب فی عدم کونه من شعر الخنزیر والشارع حکم بطهارة کل شیء أصابته النجاسة إذا لم یکن من الأعیان النجسة کالکلب والخنزیر وإن منعنا جریانه فی الأعدام الأزلیة فیحکم بالاستصحاب بنجاسته فإنها تدخل فی الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی الثانی أنه إذا حکم بطهارة شیء مشکوک طهارته ونجاسته الذاتیتان کما إذا لم یعلم شیء أنه من شعر الخنزیر أو من صوف الشاة ثمّ تنجس بإصابة النجاسة فإنه إذا غسل یحکم بطهارته حتی بناءً علی عدم جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی ولا مجال فیه لاستصحاب النجاسة کما فی الفرع الأول؛ لأن قاعدة الطهارة الجاریة فیه قبل إصابة النجاسة مقتضاها أنه یجری علیه أحکام الطاهر، ومن أحکامه أنه إذا غسل بعد إصابته النجاسة یطهر به.

أقول: یحکم بطهارة الصوف المفروض فی الفرع الأول أیضاً ولو بنی علی عدم

ص : 242

.··· . ··· .

اعتبار الاستصحاب فی العدم الأزلی فإنه وإن یعلم فیه بنجاسته فعلاً إلاّ أنه یشک فعلاً فی طهارته ونجاسته قبل إصابة النجاسة، وإذا جرت قاعدة الطهارة فیه بلحاظ حاله قبل إصابة النجاسة یکون مقتضاها جریان حکم الطاهر علیه وهو طهارته بالغسل بعد إصابته النجاسة نظیر ما إذا توضأ بماء وقع بعد الوضوء فی البحر وشک حینئذٍ فی طهارة الماء عند التوضأ منه هل کان طاهراً أم نجساً فإنه یحکم بصحة الوضوء لا لقاعدة الفراغ فإنها لا تجری عند من یعتبر فی جریانها احتمال الذکر حال العمل بل لقاعدة الطهارة أو استصحابها الجاریة فعلاً فی ذلک الماء قبل تلفه ولا بأس بالجریان لترتب الأثر الفعلی علی طهارته فی ذلک الزمان.

تذنیب:

لا یخفی أن ما ذکرنا من الثمرة بین القول بتنجس بدن الحیوان وطهارته بزوال العین وبین القول بعدم تنجسه أصلاً، وإنما النجس هو عین النجاسة الموجودة علی الموضع من بدنه مبنی علی ما ذکره جماعة وإلاّ فالصحیح هو الحکم بطهارة الملاقی لبدن الحیوان مع احتمال بقاء عین النجاسة فی موضع الملاقاة بلا فرق بین القولین أما علی القول بعدم تنجس بدنه فلما تقدم من أن الاستصحاب فی بقاء العین لا یثبت ملاقاة الطاهر بالعین وأما علی القول بعدم تنجسه لعدم إمکان إحراز ملاقاة الطاهر مع موضع العین مع بقاء العین؛ لأن احتمال العین مانع عن إحراز ملاقاة الطاهر موضعها، والعلم الإجمالی بملاقاة الطاهر أما العین أو موضعها مع بقاء العین غیر ممکن لاحتمال طهارة الموضع بزوال العین أو مانعیة العین عن ملاقاة الموضع فیرجع فی الملاقی إلی أصالة الطهارة بل إلی الاستصحاب فی عدم ملاقاته للعین فیحکم بطهارته.

ص : 243

وأما إذا کان الشک] 1] فی بقائه من جهة الشک فی قیام خاص آخر فی مقام ذاک الخاص الذی کان فی ضمنه بعد القطع بارتفاعه ففی استصحابه إشکال أظهره عدم جریانه، فإن وجود الطبیعی وإن کان بوجود فرده، إلاّ أن وجوده فی ضمن

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی

[1] اختار الماتن قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة الکلی فی القسم الثالث بلا فرق بین أن یکون الشک فی الکلی فی الزمان الثانی لاحتمال حدوث فرد آخر منه مقارناً لحدوث الفرد المقطوع ارتفاعه أو لاحتمال حدوثه مقارناً لارتفاع الفرد المتیقن ارتفاعه بلا فرق أیضاً بین أن یکون احتمال حدوث الفرد الآخر مقارناً لارتفاع المقطوع بملاکه أو لاحتمال حدوث ملاکه من الأول وإنما یکون فرداً فعلیاً عند ارتفاع الفرد المتیقن حدوثه، وعلل عدم جریانه فی ناحیة الکلی فی هذا القسم بأن الکلی حیث یتعدد بتعدد أفراده بل هو عین فرده خارجاً فبانتفاء الفرد المتیقن ینتفی ذلک الکلی المتیقن حصوله ولم یحرز حدوث طبیعی آخر بفرده الآخر، ومقتضی الاستصحاب عدم حدوث آخر لذلک الطبیعی.

ومما ذکر یظهر ضعف ما التزم به الشیخ قدس سره من الفرق بین فرض احتمال حدوث فرده الآخر مقارناً لحصول الفرد المتیقن ارتفاعه فیجری الاستصحاب فی ناحیة الکلی وبین احتمال حدوثه مقارناً لارتفاع فرده المتیقن فلا یجری الاستصحاب فی ناحیته، وعلی ما ذکره قدس سره فإن ارتفع وجوب فعل وشک فی استحبابه بأن احتمل عدم مطلوبیته أصلاً فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء مطلوبیته، لا یقال: الاستحباب مع الوجوب لا یتعددان فی التحقق بل الاختلاف بینهما بالشدة والضعف، وبتعبیر آخر إرادة المولی المتعلقة بفعل العبد المعبر عنه بالطلب قد تصل فی الشدة بحیث لا یرضی ولا یرخص فی ترکه وقد لا تکون هذه

ص : 244

المتعدد من أفراده لیس من نحو وجود واحد له، بل متعدد حسب تعددها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها، لقطع بارتفاع وجوده، وإن شک فی وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاک الفرد، أو لإرتفاعه بنفسه أو بملاکه، کما إذا شک فی الإستحباب بعد القطع بارتفاع الإیجاب بملاک مقارن أو حادث.

الشدة فیها بحیث یرضی ویرخص فی ترکه فلا یکون الاستصحاب فی مطلوبیة فعل بعد زوال وجوبه إلاّ کاستصحاب السواد فی الجسم بعد العلم بزوال شدته والاحتمال فی بقاء أصل سواده بل هذا کما ذکر الشیخ قدس سره من الاستصحاب فی القسم الأول من الکلی بل من الاستصحاب فی ناحیة الفرد بنظر العرف.

وأجاب الماتن رحمه الله بأن اختلاف الوجوب والاستحباب وإن یکون کما ذکر، ولازم ذلک أن یکون استحباب الفعل بعد زوال وجوبه من احتمال بقاء أصل المطلوبیة السابقة إلاّ أن هذا بنظر العقل لا العرف فإن أهل العرف یرون الوجوب مبایناً مع الاستحباب لا أنهما شیء واحد یختلف فی شدته وضعفه بحسب الزمان کما فی السواد الشدید الذی زالت شدته وبما أن أدلة الاستصحاب ناظرة إلی موارد الشک فی البقاء عرفاً فلا یکون الشک فی استحباب الفعل بعد ارتفاع وجوبه من احتمال المطلوبیة السابقة لیجری الاستصحاب فیها.

أقول: ما أفاد الماتن قدس سره فی وجه عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی متین؛ لأن الأثر المترتب علی الکلی یترتب علی ما یحمل علیه بالحمل الشایع، وما هو بالحمل الشایع الذی تعلق به الیقین قد زال، وآخر یحمل علیه بالحمل الشایع أیضاً مشکوک الحدوث والأصل عدم حدوثه بلا فرق بین احتمال کونه حادثاً مع حدوث الفرد الزائل أو مقارناً لزواله.

ولکن کلامه قدس سره نفی جریان الاستصحاب فی بقاء کلی التکلیف مع الشک فی

ص : 245

.··· . ··· .

قیام فرد آخر من التکلیف مقام الفرد الزائل منه إشکال غیر تام فإن کلی التکلیف لبقائه أثر عقلی وهو وجوب رعایته لاحتمال الضرر فی مخالفته ولا یثبت الاستصحاب فیه حدوث فرد آخر وإذا جری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث فرد آخر یکون مفاده عدم احتمال العقاب فی مخالفة ذلک الفرد ومعه لا یبقی للکلی أثر عقلی علی ما تقدم فی استصحاب بقاء التکلیف فی دوران الأمر فی الواجب الارتباطی بین کونه هو الأقل أو الأکثر، وإنما یکون الإشکال والتأمل فیما إذا کان الطبیعی ذا أثر شرعی وفرده المتیقن حدوثه قد زال واحتمل حدوث فرده الآخر مع حدوث ذلک الفرد الزائل أو مقارناً لارتفاعه کما إذا أصاب الثوب الماء المتنجس فغسلناه مرة، ولکن احتملنا حدوث نجاسة اُخری فیه مقارناً لطهارته من إصابة الماء المتنجس بإصابة البول بموضعه الآخر ففی هذه الصورة یمکن دعوی جریان الاستصحاب فی ناحیة طبیعی النجاسة فیه وإن تقدم أنه لا مجال للاستصحاب فی الطبیعی؛ لأن المتیقن من حدوثه قد زال بالغسل، وإنما الشک فی تحقق الطبیعی بتحقق فرده الآخر ومقتضی الأصل عدم تحققه به علی ما تقدم.

لا یقال: الاستصحاب فی بقاء الثوب علی نجاسته فی مثل المثال من الاستصحاب فی بقاء الشخص لأنه إذا أصاب الثوبَ البولُ مقارناً لتمام غسله لا تزول نجاسته السابقة بل تبقی إلی أن یُغسل الثوب مرتین.

فإنه یقال: لا یجری الاستصحاب فی ناحیة بقائه علی نجاسته حتی فیما کان استصحابه من قبیل الاستصحاب فی الفرد أیضاً؛ لأن الاستصحاب فی عدم إصابته البول مقتضاه ارتفاع نجاسته السابقة بتمام الغسل حیث إن الشارع حکم بطهارة کل متنجس ومنه الثوب بطبیعی الغسل إلاّ إذا أصابه قبل غسله البول وإصابة الماء

ص : 246

.··· . ··· .

المتنجس للثوب محرزة والأصل عدم إصابته البول فیطهر بالغسل مرة ویقال مثل ذلک أیضاً فیما إذا کان للطبیعی الحاصل سابقاً بالفرد المحرز تفصیلاً حدوثه أثر یترتب ذلک الأثر إذا حصل بفرده الآخر أیضاً، وإذا کان حدوث فرده الآخر محتملاً، وفرده المحرز حدوثه تفصیلاً زائلاً قطعاً فمع جریان الأصل فی عدم حصوله بفرد آخر لا یبقی للاستصحاب فی نفس الطبیعی مجال لعدم تمامیة رکنی الاستصحاب؛ لأن ما کان المکلف منه علی یقین من وجود الطبیعی قد زال والمفروض أن الأثر کان مترتباً علی ذلک الوجود مستقلاً والحصول الآخر للطبیعی لیترتب علیه الأثر أیضاً غیر متیقن والأصل عدم حصوله.

ولا یقاس المقام بالاستصحاب فی الطبیعی فی القسم الثانی من الکلی فإن المستصحب فی ذلک القسم کان الطبیعی المتیقن حدوثه المحتمل انطباقه علی کل من الفردین المعلوم حدوث أحدهما وبقاؤه بعینه محتمل بخلاف هذا القسم فإن المتیقن هو الطبیعی المنطبق علی فرد محرز قد زال یقیناً وحصوله الآخر غیر محرز حدوثاً فلا موضوع للاستصحاب.

وقد یقال: بجریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی أیضاً فی الجملة وإنما لا یجری فیه أصلاً لو بنی علی أن الموضوع لاعتبار الاستصحاب احتمال البقاء بنظر العقل، وتقریره: أنه إذا بنی علی اعتبار احتمال البقاء بنظر العرف فلا ینبغی التأمل فی صدق البقاء فی الطبیعی مع تبادل أفراده ولو فی بعض الموارد کما یقال: إن الإنسان یعیش علی الأرض منذ آلاف السنین وأکثر، وأن الحیوان الفلانی باق علی الأرض بأکثر من قرن إلی غیر ذلک. نعم، لو کانت خصوصیة الفرد أو النوع بحیث لو توجهت النفس إلی الطبیعی أو الفرد تتوجه إلی خصوصیة النوع أو الفرد فلا یصدق

ص : 247

.··· . ··· .

البقاء مع تبادل النوع أو الفرد، وإن حصل نوع آخر أو فرد آخر کما فی تحقق الإنسان فإنه لا یصدق بقاؤه بتحقق الحمار ونحوه بخلاف ما إذا تحقق الإنسان بفرده فإن مع انتفائه وحصول فرد آخر یصدق أنه بقاء الإنسان بل فی بعض أنواع جنس یصدق البقاء فیما زال نوع وحصل نوع آخر.

وفیه: أن البقاء المضاف إلی الطبیعی بلحاظین: أحدهما _ عدم انقضاء انطباقاته طراً علی الخارج والبقاء بهذا اللحاظ یصدق عقلاً فی موارد عدم انقطاع النسل، وإن تبادل أفراد الطبیعی. والثانی _ استمرار الطبیعی بنفس ثبوته السابق وهذا لا یتحقق فی موارد انقضاء ثبوت وحدوث ثبوت آخر حتی بنظر العرف ولم یرد فی خطابات الاستصحاب عنوان الشک فی البقاء لیقال إنه یعم الشک فی بقاء الکلی بکلا اللحاظین بل الوارد فیها التعبد بنفس الثبوت السابق للشیء وإن العلم بکونه السابق علم به فی ظرف الشک فی ذلک الثبوت، والمفروض فی موارد القسم الثالث من الکلی إحراز زوال ثبوته السابق الذی کان عین ذلک الطبیعی بالحمل الشایع، وبهذا الحمل کان موضوعاً للحکم وثبوت آخر له من حدوثه مشکوک فیکون محکوماً بعدم الحدوث.

وبتعبیر آخر اعتبار البقاء استفید من فرض فعلیة الیقین والشک فی أخبار الاستصحاب، وبما أن الوصفین لا یمکن تعلقهما بشیء واحد من جمیع الجهات فیعلم أن متعلق الشک بقاء الحالة السابقة هذا أولاً.

وثانیاً _ أن المحتمل فی القسم الثالث بقاء الکلی فی ضمن فرد آخر والاستصحاب فی عدم حدوث فرد آخر ینفی الفرد والکلی الموجود فی ضمنه

ص : 248

.··· . ··· .

فلا یکون فی البین شک بالإضافة إلی عدم بقاء الکلی حتی لو فرض ذکر عنوان البقاء فی أخبار الاستصحاب.

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی ولو احتمل حدوث فرد آخر مع حدوث الفرد المقطوع زواله

ثمّ إنه قد تقدم أن الشیخ قدس سره التزم بجریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی فیما کان احتمال بقاء الکلی لاحتمال وجود فرد آخر کان حادثاً مع المتیقن ارتفاعه وکأن الوجه فی التفصیل احتمال استمرار ثبوته السابق لحصوله مع ذلک الفرد المحتمل، ولکن احتمال الاستمرار لیس فی الثبوت السابق المتیقن بل فی الثبوت السابق المحتمل المحکوم بعدم الحدوث.

وقد أورد علی الشیخ قدس سره أیضاً بأن لازم التفصیل فی القسم الثالث من الکلی الالتزام ببقاء حدث من نام وخرج منه فی نومه بلل مردد بین المنی وغیره وقد توضأ بعد القیام من نومه، ولکن النقض غیر صحیح لما ذکرنا من أن انتفاء طبیعی الحدث مترتب فی الآیة المبارکة بالإضافة إلی محدث لم یکن جنباً، ولا أقل فی المحدث بالأصغر إذا لم یکن جنباً علی وضوئه والمفروض کونه محدثاً بالأصغر ومقتضی الاستصحاب أنه لم یجنب فیکون وضوءه رافعاً لحدثه.

وقد اُجیب عن النقض بعدم جریان الاستصحاب فی الفرض فی ناحیة طبیعی الحدث لعدم أثر شرعی له فإن الموضوع لعدم جواز مسّ کتابة المصحف الشریف أو عدم جواز الدخول فی الصلاة فی الخطابات الشرعیة خصوص الجنب والحائض والنفساء والنائم ومن بال إلی غیر ذلک، وهذا لا یقتضی کون الموضوع هو الجامع

ص : 249

.··· . ··· .

وأنه یستفاد من الآیة المبارکة أن الوضوء وظیفة کل محدث بالأصغر ممن لا یکون جنباً، بل لو کنا والآیة فقط لالتزمنا بوجوب الوضوء والغسل معاً للجنب الذی بال أو نام إلی غیر ذلک. غایة الأمر قد دلت الروایات علی عدم الحاجة إلی الوضوء بل عدم مشروعیته مع غسل الجنابة. وعلی الجملة طبیعی الحدث غیر موضوع لعدم جواز مسّ کتابة القرآن أو عدم جواز الدخول فی الصلاة لیقال مقتضی جریان الاستصحاب فیه فی القسم الثالث من الکلی الجمع بین الوضوء والغسل لیحرز انتفاء طبیعی الحدث، ولکن لا یخفی ما فیه فإن عدم جواز المس فی الأدلة مترتب علی من لیس بمتطهر یعنی المحدث، وکذا عدم جواز الدخول فی الصلاة کما هو مفاد قوله سبحانه: «لا یمسه إلاّ المطهرون»(1) ولو بضمیمة ما ورد فی تفسیره، ومفاد قوله علیه السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور»(2) أی بطهارة، وأن کون الوظیفة فی رفع الحدث من کل محدث بالأصغر لم یکن جنباً هو الوضوء لا الغسل مستفاد من الآیة، ولو بملاحظة الروایات الواردة فی عدم مشروعیة الوضوء من الجنب وإلاّ فإن بقی حدثه الأصغر مع غسل جنابته کانت صلاة مع الحدث فلابد من الالتزام بأن المحدث بالأصغر إذا کان جنباً مع الاغتسال یکون متطهراً.

هل مقتضی الاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان بعد زهوق روحه کونه میتة أم لا؟

بقی الکلام فیما ذکره الفاضل التونی من إدراج الاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان فی القسم الثالث من الکلی حیث إن المشهور حکموا بنجاسة الجلد

ص : 250


1- (1) سورة الواقعة: الآیة 79.
2- (2) وسائل الشیعة 1 : 365، الباب الأول من أبواب الوضوء، الحدیث الأول.

.··· . ··· .

المطروح بالاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان المأخوذ منه وأورد علی ذلک بما حاصله أن عدم التذکیة لازم أعم لحیاة الحیوان وموته حتف أنفه، والموضوع للنجاسة لیس هو عدم التذکیة بل ملزومه الثانی وهو موت حتف الأنف، ومن الظاهر أن الاستصحاب فی عدم تذکیته لا یثبت ذلک الملزوم، وبتعبیر آخر المتیقن سابقاً هو عدم التذکیة اللازم لحیاة الحیوان، وعلی تقدیر ثبوته بعد موت الحیوان فهو عدم التذکیة اللازم لموته حتف أنفه، ولا یکون استصحاب عدم تذکیته إلاّ کاستصحاب الضاحک فی الدار المتحقق بوجود زید فیها لإثبات وجود عمرو فیها بعد خروج زید.

ورده الشیخ قدس سره بما حاصله أن عدم تذکیة الحیوان مع زهوق روحه بنفسه موضوع لجواز أکل لحمه ولبس جلده وحمل أجزائه وتوابعه فی الصلاة، وکذا موضوع لطهارته فیکون مقتضی الاستصحاب فی عدم تذکیته مع زهوق روحه انتفاء الحلیّة والطهارة من غیر حاجة إلی إثبات موته بحتف الأنف أو کون زهوق روحه کان بغیر التذکیة کما یدلّ علیه قوله سبحانه «إلاّ ما ذکیتم»(1) وفی موثقة ابن بکیر الواردة فی الصلاة وفی أجزاء الحیوان وتوابعه (لا یقبل اللّه تعالی تلک الصلاة حتی یصلی فیما یوءکل إذا کان ذکیاً)(2) وعلی ذلک فلا یکون الاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان المأخوذ منه الجلد المطروح من قبیل الاستصحاب الکلی فضلاً عن کونه من القسم الثالث.

ولکن یورد علی الجواب بأن الاستصحاب فی عدم التذکیة یترتب علیه عدم

ص : 251


1- (1) سورة المائدة: الآیة 3.
2- (2) وسائل الشیعة 4 : 345، الباب 2 من أبواب لباس المصلّی الحدیث الأول.

.··· . ··· .

جواز أکل لحمه وعدم جواز الصلاة فی جلده أو غیره من أجزائه، وأما الحکم بالنجاسة فلا لأن الموضوع للنجاسة هو المیتة أی الحیوان الذی زهق روحه بغیر التذکیة لا الحیوان الذی زهق روحه ولم یقع علیه التذکیة ودعوی الإجماع علی أن غیر المذکی محکوم بالنجاسة کما عن الماتن خلط بین عدم المذکی واقعاً حیث یتحقق معه کون الحیوان میتة لعدم اختصاص المیتة بحیوان مات حتف أنفه بل کل حیوان لم یکن موته مستنداً إلی التذکیة بأن کان مستنداً إلی غیرها فهو میتة فمع عدم التذکیة الواقعیة یستند موته إلی غیرها لا محالة بخلاف إحراز عدمها بالتذکیة فإنه لا یثبت زهوق روحه بغیرها، والثابت بالإجمال هو أن غیر المذکی واقعاً میتة حیث یستند موته إلی غیر التذکیة لا أن عنوان غیر المذکی موضوع للنجاسة، وعلیه فلا یثبت بالاستصحاب الموضوع للنجاسة. هذا، وقد ذکرنا فی بحث الفقه فی باب نجاسة المیتة أن ما ذکر فی معنی المذکی والمیتة، وأن المذکی ما کان زهوق روحه بالتذکیة، والمیتة ما یکون زهوق روحه بغیرها صحیح بالإضافة إلی الحیوان الذی تکون ذکاته بالصید، وأما بالإضافة إلی الحیوان الذی تکون ذکاته بفری الأوداج فلا؛ لأن المستفاد من صحیحة زرارة(1) الواردة فی الحیوان الذی یقع فی الماء أو النار بعد ذبحه هو أن زهوق روح الحیوان إلی الذبح غیر معتبر فی تحقق التذکیة بل الحیوان المذکی ما جری علیه فری الأوداج حال حیاته ویقابله المیتة، وهی ما مات ولم یقع علیه فری الأوداج بشرایطه فی حال حیاته وعلیه فالاستصحاب فی عدم جریان فری الأوداج علی الحیوان مع إحراز زهوق روحه یثبت کونه میتة فیکون نجساً.

ص : 252


1- (1) التهذیب 2 : 209.

.··· . ··· .

وذکر بعض الأجلة قدس سره أن الاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان غیر جار أصلاً فلا یثبت أنه غیر مذکی لئلا یجوز الصلاة فی أجزائه ولا یجوز أکل لحمه فضلاً عن ثبوت نجاسته وذلک فإن التذکیة عبارة عن زهوق روح الحیوان بالکیفیة الخاصة، ویقابلها زهوق روحه بغیر تلک الکیفیة أو بأی کیفیة لا تکون تلک الکیفیة فالتذکیة وعدمها أی غیرها وصف للحیوان فی زهوق روحه، وعدم زهوق روح الحیوان بالکیفیة الخاصة وإن کانت صادقة حال حیاة الحیوان بنحو القضیة السالبة بانتفاء الموضوع کما أنها صادقة قبل وجود الحیوان أیضاً لکن الموضوع لجواز الأکل وجواز الصلاة فیه فعلیة زهوق روحه بالکیفیة الخاصة والموضوع لعدم جواز فعلیة زهوق روحه بکیفیة لا تکون تلک الکیفیة أو بغیر تلک الکیفیة ولا یکون شیء من الزهوق بتلک الکیفیة أو بغیرها حالة سابقة إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع التی لا یثبت استصحابها السالبة بانتفاء المحمول.

وفیه: أولاً _ أن جریان الاستصحاب فی السالبة بانتفاء الموضوع وإثبات السالبة بانتفاء المحمول بعد إحراز وجود الموضوع لا یکون من الأصل المثبت کما تقدم ویأتی الکلام فیه فی الاستصحاب فی العدم الأزلی. وثانیاً _ أن الذکاة وصف للحیوان لا لزهوق الروح، وزهوق الروح غیر معتبر فی تذکیة الحیوان بمعنی أن توصیف الحیوان بکونه مذکی لا یکون بزهوق روحه بتلک الکیفیة بل بنفس تلک الکیفیة ولذا لا یحرم استعمال جلد الحیوان بعد تذکیته فی المشروط بالطهارة ولا یکون شیء من لحمه إذا أخذ منه بعد ذبحه حراماً ولو قبل زهوق روحه فیجوز أکله، نعم الموت مأخوذ فی معنی المیتة وهی کما تقدم الحیوان المیت إذا لم یجر علیه فری الأوداج بشرایطه قبل موته.

ص : 253

.··· . ··· .

جریان الاستصحاب فی القسم الرابع

ثمّ إنه قد یقال بالقسم الرابع من استصحاب الکلی وهو ما إذا علم بوجود فرد من الطبیعی وارتفاعه وعلم أیضاً بتحقق الطبیعی، ولکن یحتمل کون الطبیعی المعلوم تحققه انطباقه علی الفرد المقطوع ارتفاعه وانطباقه علی غیره الباقی فیما بعد کما إذا علم بوجود زید فی الدار وخروجه منها بعد ذلک، وعلم أیضاً بوجود متکلم فی الدار یحتمل کونه زیداً وقد خرج ویحتمل کونه غیره الباقی فی الدار فعلاً، والفرق بین هذا القسم والقسم الثانی من الاستصحاب فیه هو أن الکلی کان مردداً فی حصوله بین فردین لم یعلم بحصول أی منهما تفصیلاً بل کان المعلوم حصول أحدهما إجمالاً بخلاف هذا القسم فإنه یعلم بحصول فرد من الطبیعی تفصیلاً وارتفاعه کذلک ویعلم أیضاً بتحقق الطبیعی أما فی ضمن ذلک الذی کان موجوداً وارتفع أو فی ضمن فرد آخر باق فعلاً کما أن الفرق بین هذا القسم والقسم الثالث ظاهر فإن فی القسم الثالث کان المتیقن هو الکلی المتحقق بالفرد الموجود معیناً الذی زال ویحتمل وجود آخر منه بحصول فرد آخر مقارناً لحصوله أو ارتفاعه بخلاف هذا القسم فإن الکلی المتیقن حصوله لم یعلم انطباقه علی الفرد المعلوم الارتفاع بل یحتمل انطباقه علیه أو علی غیره الباقی، ولا بأس فی الفرض بالاستصحاب فی ناحیة الکلی لو کان لبقائه أثر شرعی، ومثاله فی الشرعیات ما إذا اغتسل الجنب من جنابته ثمّ رأی ولو بعد مدة المنی فی ثوبه فیعلم أنه کان جنباً عند خروج هذا المنی ویحتمل کونه من الجنابة السابقة التی اغتسل منها ویحتمل أنها جنابة جدیدة لم یغتسل منها فإن الاستصحاب فی ناحیة جنابته التی کانت عند خروجه جار لاحتمال بقائها بعد الیقین بها نعم لو کان هذا الاستصحاب بالمعارض

ص : 254

.··· . ··· .

کما فی المثال حیث إن الاستصحاب فی عدم جنابته بعد اغتسالها من الأول أیضاً جار فیتساقطان بالمعارضة ویرجع إلی أصل آخر کقاعدة الاشتغال فی المثال حیث یعلم المکلف باشتراط صلاته بالوضوء أو بالغسل، وقد یفصل فی المقام بین ما إذا علم بتحقق فردین من الکلی ویشک فی تعاقبهما وعدمه وبین ما لم یعلم بحصول فردین بل بحصول عنوانین أما بوجود واحد أو وجودین فإنه یجری الاستصحاب فی ناحیة الکلی فی الأول دون الثانی.

کما إذا علم المکلف أنه توضأ بوضوءین وأنه صدر عنه موجب للوضوء لکن یحتمل کون الوضوء الثانی کان تجدیدیاً بأن تعاقب الوضوآن قبل الحدث المعلوم حدوثه فیکون فعلاً محدثاً، ویحتمل کون الوضوء الثانی أیضاً کالأول رافعاً فیکون متطهراً فعلاً ففی الفرض یجری الاستصحاب فی بقاء الطهارة المتیقنة وجودها بعد الوضوء الثانی وکونها متیقنة عنده أما لحصول الطهارة عنده بالوضوء الأول أو الثانی، ویحتمل بقاء تلک الطهارة ولو لاحتمال کون الحدث المعلوم صدوره قبل ذلک الوضوء غایة الأمر أن هذا الاستصحاب معارض بالاستصحاب فی الحدث المعلوم إجمالاً صدوره بخلاف ما إذا لم یعلم بحصول فردین کما فی مسألة روءیة المنی فی ثوبه المحتمل کونه من الجنابة السابقة التی اغتسل منها فإنه یجری فی الفرض عدم حدوث جنابة اُخری بعد الاغتسال من الاُولی ویکون هذا حاکماً علی طبیعی الجنابة المعلومة إجمالاً عند خروج ذلک المنی ولکن لا یخفی إن ما لا یجری فی الفرض الاستصحاب فی ناحیة طبیعی الجنابة المعلومة إجمالاً عند خروج ذلک المنی إذا اُحرز أن المنی من الجنابة السابقة وهذا لا یثبت بالاستصحاب فی عدم حدوث جنابة اُخری، وعلی ذلک فالاستصحاب فی عدم جنابة اُخری یکون عارضاً

ص : 255

.··· . ··· .

بالاستصحاب فی بقاء الجنابة المعلومة إجمالاً حدوثها عند خروج ذلک المنی، وبتعبیر آخر الجنابة المعلومة إجمالاً عند خروج ذلک المنی لا یعین بالاستصحاب فی عدم جنابة اُخری أنها کانت هی الجنابة الاُولی التی اغتسل منها نظیر ما تقدم فی القسم الثانی من الاستصحاب فی الکلی أن الاستصحاب فی عدم حدوث الفرد الطویل لا یعین أن الطبیعی کان حاصلاً فی ضمن الفرد القصیر المعلوم زواله؛ ولذا یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء الجنابة المعلومة إجمالاً بخروج ذلک المنی مع الاستصحاب فی عدم حدوث جنابة اُخری بعد الاغتسال من الاُولی فیتعارضان، وبعد سقوطهما یرجع إلی أصالة الاشتغال فی إحراز اشتراط الصلاة بالطهارة من الحدث.

أقول: إن کان المراد أن التکلم قید للموضوع بأن کان الأثر مترتباً علی وجود من صدر عنه التکلم فی الدار فالعلم بوجود زید فی الدار لا یخرج الاستصحاب فی بقاء المتکلم فی الدار بعد خروج زید من الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی نظیر الاستصحاب فی بقاء الحیوان عند تردد فرده بین کونه البق أو الفیل، وإن کان المراد أن التکلم غیر دخیل فی الموضوع بل هو معروف لوجود الإنسان فی الدار الموضوع للحکم فالعلم بوجود زید فی الدار کون الاستصحاب فی کون إنسان فی الدار من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی، وإن قیل إن المستصحب لیس طبیعی الإنسان مطلقاً بل خصوص الطبیعی المنکشف بالتکلم السابق فهذا یدخل فی استصحاب الفرد المردد، وقد تقدم أنه لا فرق فی جریان الاستصحاب بین الکلی من القسم الثانی أو الفرد المردد، ودعوی عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة الجنابة فی المثال وکذا الاستصحاب فی الطهارة التی کانت عند تمام الوضوء الثانی وذلک

ص : 256

لا یقال: الأمر وإن کان کما ذکر، إلاّ أنه حیث کان التفاوت بین الإیجاب والإستحباب وهکذا بین الکراهة والحرمة، لیس إلاّ بشدّة الطلب بینهما وضعفه، کان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غیر موجب لتعدد وجود الطبیعی بینهما، لمساوقة الإتصال مع الوحدة، فالشک فی التبدل حقیقة شک فی بقاء الطلب وارتفاعه، لا فی حدوث وجود آخر.

لاحتمال انطباق الجنابة فی الأول علی التی اغتسل منها وانطباق الطهارة فی الثانی علی الوضوء الأول الذی انتقض بالحدث المعلوم حدوثه فیکون رفع الید عنهما من نقض الیقین بالیقین، وبتعبیر آخر استصحاب الجنابة فی الأول والطهارة فی الثانی من التمسک بالعام فی شبهته المصداقیة؛ لأن الموردین من الشبهة المصداقیة لأخبار لا تنقض الیقین بالشک لا یمکن المساعدة علیها فإنه لا یعتبر فی جریان الاستصحاب إلاّ احتمال بقاء الحالة السابقة التی تعلق بها الیقین لا الشک فیها علی کل تقدیر ولا یتصور فی احتمال البقاء الشبهة المصداقیة؛ لأن موطن الاحتمال النفس لا الخارج علی ما هو مقرر فی محله ویأتی فی الشک فی الحادثین فی المتقدم والمتأخر منها مزید توضیح.

ولکن ربّما یقال بکفایة الوضوء فی مسألة روءیة المنی فی الثوب فیما أحدث بالأصغر ولا یجب الاغتسال من احتمال جنابته بعد الجنابة التی اغتسل منها؛ لأن المستفاد من الخطابات الشرعیة أن من اغتسل من جنابته یصلی به ما لم یحصل منه موجب الوضوء والغسل وإن حصل موجب الوضوء یتوضأ لصلاته ما دام لم یجنب وإذا أجنب یغتسل فالمکلف فی الفرض قد اغتسل من جنابته السابقة ومقتضی الاستصحاب أنه لم یجنب بعده فیترتب علی ذلک لزوم الوضوء لطهارته لصلاته وغیرها إذا أحدث بالأصغر وفیه أن المستفاد أیضاً من الخطابات الشرعیة من أجنب

ص : 257

فإنه یقال: الأمر وإن کان کذلک، إلاّ أن العرف حیث یری الإیجاب والإستحباب المتبادلین فردین متباینین، لا واحد مختلف الوصف فی زمانین، لم یکن مجال للإستصحاب، لما مرّت الإشارة إلیه وتأتی، من أنّ قضیّة إطلاق أخبار

فعلیه لطهارته الغسل بعدها والمفروض أن المکلف عند خروج المنی الذی رآه فی ثوبه کان جنباً یقیناً ولم یحرز أنه أغتسل بعد تلک الجنابة لاحتمال کونها جنابة غیر التی اغتسل منها. نعم، لو کان الاستصحاب فی عدم جنابته بعد اغتساله من السابقة مثبتاً بأن الجنابة عند خروج هذا المنی کانت هی الجنابة السابقة لتم ما ذکر، ولکنه بالإضافة إلی ذلک أصل مثبت اللهم إلاّ أن یقال إثبات أن المنی من الجنابة الاُولی لا أثر له فإن المفروض أنه اغتسل منها فیکون الاستصحاب فی عدم حدوث جنابة اُخری مقتضاه عدم جنابته فعلاً فالمکلف إن کان محدثاً بالأصغر یتوضأ وإن لم یکن محدثاً به فهو متطهر یجوز له الدخول فی الصلاة وغیرها مما هو مشروط بالطهارة، والفرق فی المقام وما تقدم فی الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی من جریان الاستصحاب فی بقاء الحدث بعد الوضوء والاستصحاب فی عدم کون البلل الخارج منیاً یظهر بالتأمل وأن المستصحب فی المقام الجنابة المرددة مع أن مقتضی الاستصحاب هو عدم کونه جنباً بعد الاغتسال من الجنابة الاُولی وأن الاستصحاب فی الجنابة المرددة لا یثبت حدوث جنابة جدیدة فیجری الاستصحاب فی عدم حدوثها ومع جریانه فالمکلف عالم بطهارته فعلاً أو بعد التوضؤ إذا أحدث بالأصغر.

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی مع تخلل العدم بین الفردین

بقی فی المقام أمر وهو أن ما ذهب إلیه البعض من جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی ومنعنا جریانه فیه یختص بما إذا احتمل حدوث فرد آخر من الکلی فی زمان وجود الفرد المعین المتیقن أو مقارناً لارتفاعه بحیث لم یتخلل عدم

ص : 258

الباب، أن العبرة فیه بما یکون رفع الید عنه مع الشک بنظر العرف نقضاً، وإن لم یکن بنقض بحسب الدقة، ولذا لو انعکس الأمر ولم یکن نقض عرفاً، لم یکن الاستصحاب جاریاً وإن کان هناک نقض عقلاً.

الکلی بزمان بینهما، وأما إذا احتمل حدوث فرد آخر من الکلی بعد ارتفاع الفرد المعین بزمان فلا وجه لتوهم الاستصحاب فی ناحیة بقاء الکلی بل یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم وجوده کما إذا احتمل المتوضئ بعد الحدث الأصغر أنه أجنب بعد وضوئه حیث یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدثه وجنابته بعد وضوئه.

ویترتب علی ما ذکرنا أنه یجری أحکام العید وبقائه إلی آخر الیوم من بعد یوم الشک فی أنه آخر شهر رمضان أو أول شوال حیث یصح القول عند انقضاء یوم الشک بدخول اللیل بأنّا علی یقین من دخول أول شهر شوال أی العید فیحمل بقاؤه إلی آخر الغد فیترتب علی هذا الاستصحاب الآثار المترتبة علی تحقق لیلة العید ویومه، وربما یعارض هذا الاستصحاب باستصحاب آخر وهو دعوی العلم بأنه لم یکن زمان یوم العید ویحتمل بقاء عدم العید الکلی فیما بعد زمان یوم الشک، ولکن لا یخفی ما فیه فإن الاستصحاب فی بقاء العید إلی آخر الغد من الاستصحاب فی الفرد المردد فهو جار علی ما ذکرنا، وأما الاستصحاب فی عدم العید فهو من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی الذی تخلل زمان بین ارتفاع الفرد الأول وبین احتمال الفرد الثانی والوجه فی ذلک أن عدم العید المنطبق علی آخر رمضان معلوم الارتفاع بتحقق العید یوم الشک أو ما بعده یقیناً وعدم العید تحققه فیما بعد یوم الشک مشکوک، والأصل بقاء العید وعدم زواله، وعلی الجملة إذا تخلل الوجود للشیء بین عدمیه یحسب العدم الثانی غیر العدم الأول ولا یقاس بالاستصحاب فی عدم شیء

ص : 259

ومما ذکرنا فی المقام، یظهر _ أیضاً _ حال الاستصحاب فی متعلقات الأحکام فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة، فلا تغفل.

الرابع _ أنه لا فرق فی المتیقن بین أن یکون من الاُمور القارة أو التدریجیّة غیر القارة[1] فإن الاُمور غیر القارة وإن کان وجودها ینصرم ولا یتحقق منه جزء إلاّ

یحتمل عدم انقطاعه وبقائه علی ذلک العدم فإنه یحسب من استصحاب الفرد کالاستصحاب فی بقاء عدم تذکیة الحیوان إلی زمان زهوق روحه.

وقد تحصل من جمیع ما ذکرنا أن ما سمی الاستصحاب فیه بالقسم الرابع إن کان المعلوم تحققه من العنوان محتملاً أن ینطبق علی الفرد المقطوع زواله کالجنابة المعلومة بروءیة المنی فی ثوبه فلا مجال فیه للاستصحاب فی الکلی إذا کان الأثر المترتب علی الکلی بعینه الأثر المترتب علی الفرد الطویل وبالعکس وأن الاستصحاب فی عدم حدوث فرد آخر حاکم علی الاستصحاب فی ناحیة الکلی، وإن کان للمعلوم حدوثه وجود آخر یتردد أمره بین کونه رافعاً للفرد الأول السابق أو رافعاً للفرد الثانی فیدخل ذلک فی مسألة العلم بحدوث الحادثین والشک فی المتقدم والمتأخر منهما کما إذا توضأ المحدث بالأصغر وضوءین مع علمه بحدوث البول منه ولکن لا یدری أنه توضأ وضوءین وکان الثانی تجدیداً فالبول بعدهما أو أنه بال بعد وضوئه الأول ثمّ توضأ والاستصحاب فی کل من الطهارة والحدث جار ویقع التعارض بینهما ولکن هذا من الشک فی المتقدم والمتأخر من الحادثین.

جریان الاستصحاب فی التدریجیات

[1] لا ینبغی التأمل فی جریان الاستصحاب فی المرکّبات القارّة وهی التی تجتمع أجزاؤها فی زمان واحد فإن شمول أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک لها کشمولها لما إذا شک فی بقاء البسیط کعدالة زید واجتهاده ظاهر.

ص : 260

بعدما انصرم منه جزء وانعدم، إلاّ أنه ما لم یتخلل فی البین العدم بل وإن تخلل بما لا یخل بالاتصال عرفاً وإن انفصل حقیقةً، کانت باقیة مطلقاً أو عرفاً، ویکون رفع الید عنها _ مع الشک فی استمرارها وانقطاعها _ نقضا.

وأما المرکبات التدریجیة غیر القارة وهی التی لا تجتمع أجزاؤها فی زمان بل یوجد جزء منها بعد انعدام جزء قبله سواء کان ذلک المرکب زماناً کما فی الاستصحاب فی ناحیة بقاء اللیل والنهار، أو زمانیاً کالاستصحاب فی ناحیة بقاء القراءة ونحوها أو کان تصرمه لتقیده بما هو متصرم کالصوم فی النهار والصلاة فی الوقت ففی جریان الاستصحاب فیها تأمل أو منع عند بعض الأصحاب، ووجهه عدم إمکان البقاء فی المتیقن سابقاً لیشک فی بقائه ویستصحب.

وذکر الماتن قدس سره فی دفع الإشکال فی ناحیة الاستصحاب فی الزمان والزمانی المتصرم بنفسه ما حاصله أنه إذا لم یتخلل العدم بین أجزاء الشیء یکون الاتصال بین أجزائه موجباً للوحدة بینها کما إذا قیل بأن النهار اسم لمجموع أجزاء زمان یکون تحققها بتحقق أول جزء منها وانتهاؤها بانتهاء الجزء الأخیر منها وفی مثل ذلک ما لم یتحقق انتهاء الجزء الأخیر یکون النهار باقیاً وکذا فی بقاء اللیل والشهر والسنة لصدق احتمال البقاء فی ذلک مطلقاً حتی عقلاً بل لو تحقق العدم بین أجزاء بعض المرکبات بحیث لا یکون مخلاً للاتصال الموجب للوحدة عرفاً یحکم ببقائه ما لم تنته أجزاؤه کما فی القراءة والتکلم حیث لا یکون تخلل العدم بالتنفس ونحوه فی الأثناء موجباً لانتهائه وکون ما قبله مع ما بعده شیئین من قراءتین أو تکلمین ففی مثل ذلک یجری الاستصحاب فی ناحیة بقائه عند ما شک فی انقضائه أو بقائه فإنه کما تقدم لا یعتبر فی جریان الاستصحاب إلاّ احتمال البقاء عرفاً، وإن رفع الید عن الیقین بشیء نقض له بالشک ولا یضر عدم کونه من احتمال البقاء عقلاً ثمّ إن ما ذکر من التصرم والتدرج

ص : 261

.··· . ··· .

فی أجزاء الشیء إنما کان الشیء عنواناً للحرکة القطعیة وهی کون الشیء فی کل آن فی حد کما فی غیر الحرکة الأینیة أو کل آن فی مکان کما فی الحرکة الأینیة، وأما إذا فرض کونه عنواناً للحرکة التوسطیة کما إذا قیل: بأن النهار اسم لکون قرص الشمس بین الاُفقین من بلده، واللیل لعدم کونها بین الاُفقین منه، وکون الشهر عنواناً لما بین الهلالین یکون الاستصحاب عند الشک فی بقاء النهار أو الیوم أو الشهر من الاستصحاب فی بقاء الشیء القار لاحتمال بقاء کونه بین المبدأین حتی بنظر العقل.

هذا کله فیما إذا کان الشک فی بقاء الأمر التدریجی من جهة الشک فی الرافع والمانع أو حصول الغایة أو عدم حصولها لا من جهة کمیة الماء النابع من المادة أو الدم فی الرحم وإلاّ یکون الاستصحاب فی جریان الماء أو خروج الدم مورد إشکال والشک فی البقاء من غیر هذه الجهة کما إذا شک فی بقاء الجریان من جهة بُط ء الحرکة وسرعتها.

ثمّ ذکر قدس سره ولعل عدم فرق فی الجریان بین هذه الجهة وجهة الشک بعدم إحراز المقدار والکمیة؛ لأن المعتبر فی الاستصحاب صدق نقض الیقین بالشک الکافی فیه اتحاد متعلق الیقین والشک عرفاً وبنظره المسامحی ویظهر من آخر کلامه فی المقام أن الموجب لوحدة الفعل المتصرم بنفسه کالقراءة والتکلم لیس مجرد عدم الانقطاع وتخلل العدم عرفاً بل هو مع بقاء العنوان الخاص لتلک الأجزاء حیث قال: لو شک فی بقاء القراءة باعتبار الشک فی بقاء أجزاء السورة التی شرع فی قراءتها فمع معلومیة تلک السورة یکون الاستصحاب فی بقاء قراءتها من الشک فی بقاء الشخص أو القسم الأول من الکلی وإذا لم تعلم تلک السورة بعینها وترددت بین القصیرة والطویلة یکون الاستصحاب فی قراءتها من الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی

ص : 262

ولا یعتبر فی الاستصحاب _ بحسب تعریفه وأخبار الباب وغیرها من أدلته _ غیر صدق النقض والبقاء کذلک قطعاً، هذا مع أن الإنصرام والتدرج فی الوجود فی الحرکة _ فی الأین وغیره _ إنما هو فی الحرکة القطعیة، وهی کون الشیء فی کل آن فی حدّ أو مکان، لا التوسطیة وهی کونه بین المبدأ والمنتهی، فإنه بهذا المعنی یکون قارّاً مستمراً.

وإذا أحرز الفراغ من السورة التی بدأ بقراءتها وشک فی الشروع فی قراءة السورة الاُخری کان الاستصحاب فی بقاء القراءة من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی ومقتضی هذا الکلام عدم جریان الاستصحاب فی القراءة فی القسم الأخیر ولو مع عدم تخلل السکوت والعدم علی تقدیر الشروع فی الاُخری.

وذکر المحقق النائینی قدس سره أن الأفعال التدریجیة الاختیاریة کالمشی والقراءة تکون وحدتها وتعددها بوحدة الداعی للفاعل وتعدده. ویترتب علی ذلک أنه فیما أحرز ارتفاع الداعی المحرز واحتمل المشی والقراءة لحصول داع آخر له فلا یجری الاستصحاب؛ لأن الشک یتعلق بحدوث غیر ما کنا علی یقین منه.

وربّما یورد علی ذلک بأن الموجب للوحدة عرفاً فی مثل الحرکة لیس هو الداعی بل اتصال الأجزاء وعدم تخلل العدم بینها حتی مع تعدد الداعی فی قطعات الزمان، وعلیه فلو أحرزت الحرکة وشک فی بقائها أم انقطاعها فلا مانع من الاستصحاب، ویشهد لذلک أنه لو سجد للصلاة وبقی فی السجدة بداع آخر من الدواعی المباحة کالاستراحة فلا یحکم ببطلان صلاته للزیادة فیها. أقول: النقض غیر وارد فإن کلام المحقق النائینی فی الأفعال غیر القارة لا فی مطلق الأفعال حتی ما یعد فی العرف من الأفعال القارة، والسجدة من هذا القبیل. نعم، کون الموجب للوحدة فی الأفعال التدریجیة هو الداعی غیر تام؛ ولذا لو مشی إلی بلد بداع ثم حصل له داع

ص : 263

فانقدح بذلک أنه لا مجال للإشکال فی استصحاب مثل اللیل أو النهار وترتیب مالهما من الآثار، وکذا کلما إذا کان الشک فی الأمر التدریجی من جهة الشک فی انتهاء حرکته ووصوله إلی المنتهی، أو أنه بعد فی البین، وأما إذا کان من جهة الشک فی کمیّته ومقداره، کما فی نبع الماء وجریانه، وخروج الدم وسیلانه، فیما کان سبب الشک فی الجریان والسیلان الشک فی أنه بقی فی المنبع والرحم

آخر للمشی إلی بلد آخر یکون بینهما مسافة فلا یقال إنه سافر سفرین مع فرض عدم تخلل العدم فی البین، وکذا لو حصل له داع إلی قراءة نصف قصیدة ثمّ حصل الداعی إلی إتمامها مع عدم تخلل العدم فی قراءة أجزائها فلا یقال أنه قرأ قراءتین إلی غیر ذلک.

أقول: توضیح الحال فی المقام بحیث یظهر حال ما ذکره الماتن وغیره قدس سرهم أن المصحح للوحدة فی التدریجیات التی لا تعد من الأفعال الاختیاریة أحد أمرین:

الأول _ اتصال الأجزاء وعدم تخلل العدم بینها سواء کان تخلله قلیلاً أو کثیراً مثل وحدة حرکة الشیء فإن المصحح لعدّ حرکته حرکة واحدة عدم تخلل سکونه فی البین ولو توقفت السیارة من حرکتها لعارض ما ثمّ تحرکت یصح أن یقال عرفاً إنها تحرکت مرتین ففی الاُولی تحرکت ساعة وبعد توقفها فی ثوان تحرکت ثانیة ففی مثل هذه الموارد لا مجال للاستصحاب فی حرکتها إذا احتمل بقاء حرکتها بعد تلک الثوانی بل یجری فی بقائها علی توقفها، ومن هذا القبیل الاستصحاب فی جریان نبع الماء أو جریانه فی النهر فإنه مع إحراز توقفه عن النبع أو الجریان یجری الاستصحاب فی ناحیة توقفه لا نبعه أو جریانه، وما عن الماتن قدس سره من أن تخلل العدم غیر ضار لا یمکن المساعدة علیه. نعم، لو اُحرز النبع أو الجریان بعد التوقف المفروض وشک فی بقاء النبع أو الجریان وحصول التوقف ثانیة فلا بأس بالاستصحاب فی ناحیة النبع

ص : 264

.··· . ··· .

والجریان المحرزین بعد ذلک التوقف.

الأمر الثانی _ انطباق عنوان علی مجموع الأجزاء بحیث لا ینافی انطباقه علیها تخلل الفصل بین تلک الأجزاء سواء کان قصیراً أو غیر قصیر کما فی بقاء الحیض حیث إن المرأة إذا رأت الدم ثلاثة أیام متوالیة ثمّ حصل لها النقاء ثلاثة أیام أو أقل أو أکثر ثمّ رأت الدم یوماً قبل عشرة أیام فالمجموع حیض واحد، ولو شکت المرأة بعد حصول فترة النقاء وعود الدم ثانیاً فی انقطاع حیضها فالاستصحاب فی ناحیة حیضها لا إشکال فیه فی نفسه، وإذا شکت فی خروج الدم بعد نقائها یکون الاستصحاب فی عدم روءیتها الدم بعد نقائها ینفی حیضها.

وأما الأفعال الاختیاریة التی ذکر المحقق النائینی قدس سره أن حافظ وحدتها هو الداعی إلیها والقراءة التی تعرض لها الماتن قدس سره وفرض فیها أقسام الکلی فما کان منها مرکباً اعتباریاً فالوحدة فیه تابعة لاعتبار المعتبر فیمکن أن یعتبر الفعلین اللذین بینهما فصل طویل فعلاً واحداً، وفی غیره یکون المصحح لکون المجموع أمراً واحداً اتصال الأجزاء عرفاً وقد یکون الفصل القصیر مضراً بالوحدة کالتوقف فی المشی فإن التوقف قلیلاً یوجب أن یکون المشی بعده مشیاً ثانیة، وفی مثل ذلک لو أحرز التوقف عن المشی واحتمل تجدده فیستصحب عدمه إلاّ إذا انطبق علی المشی عنوان لا ینتفی بالتوقف فی الأثناء کعنوان السفر حیث لا یضر باستمرار السفر التوقف عن المشی فی الأثناء قصیراً أو طویلاً وقد لا یکون الفصل القصیر مضراً بوحدته وصیرورة المجموع عملاً واحداً مستمراً کما إذا لم یکن عادة حصوله بلا فصل بین الأجزاء کالقراءة والتکلم فإن الفصل المتعارف بین الکلمات والجمل لا یضر بوحدة التکلم والقراءة وفی مثل ذلک لو شک فی بقاء القراءة وانقطاعها

ص : 265

فعلاً شیء من الماء والدم غیر ما سال وجری منهما، فربما یشکل فی استصحابهما حینئذ، فإن الشک لیس فی بقاء جریان شخص ما کان جاریاً، بل فی حدوث جریان جزء آخر شک فی جریانه من جهة الشک فی حدوثه، ولکنه یتخیل بأنه لا یختل به ما هو الملاک فی الاستصحاب، بحسب تعریفه ودلیله حسبما عرفت.

یستصحب بقاؤها سواء کان منشأ الشک احتمال انقطاعها أو انتهائها ثم إن الموجود الخارجی فیما إذا عد بحسب اتصال الأجزاء فعلاً واحداً، وکان کل من قطعاته معنونة بعنوان خاص یعتبر ذلک الموجود بالإضافة إلی عناوین قطعاته أشیاء متعددة فإن کان الأثر المرغوب مترتباً علی عنوان تلک الأجزاء بعنوان وسیع یصدق علی البعض والکل فیجری الاستصحاب فی بقائها وعدم انقطاعها أو انتهائها، ویکون ذلک من قبیل الاستصحاب فی الشخص، وإن کان الأثر المرغوب مترتباً علی خصوص تلک العناوین الخاصة للأجزاء أو لمجموعها فلا یفید الاستصحاب فی بقاء الأجزاء حصول تلک العناوین فضلاً عن حصول مجموعها.

وعلی ذلک فلو کان لکون شخص حال قراءة القرآن أثر شرعی للغیر وشک ذلک غیر فی بقاء القارئ علی قراءته ولو بشروعه بقراءة سورة اُخری بعد الفراغ من السورة التی فرغ عنها فالاستصحاب فی بقاء قراءته جارٍ ولیس من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی؛ لأن القراءة علی تقدیر استمرارها قراءة واحدة بالإضافة إلی عنوان قراءة القرآن.

نعم، لو کان الأثر لخصوص قراءة سورة فلانیة وفلانیة وعلمنا بشروعه فی أحدهما واحتملنا شروعه بعد قراءته فی الاُخری فلا یثبت بالاستصحاب أنه قرأ السورة الاُخری أیضاً لما ذکرنا من أن القراءة الواحدة بالإضافة إلی عناوین قطعاته متعددة فما ذکر الماتن قدس سره من تصویر الاستصحاب فی أقسام الکلی خلط بین أثر

ص : 266

.··· . ··· .

العناوین الخاصة ومجموعها وبین الأثر لعنوان العام والمفروض فی کلامه هو الأثر المترتب علی القراءة لا علی القطعات ولذا جری الاستصحاب فی صورة تردد السورة المقروءة بین السورتین وسماه بالاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی.

ومما ذکرنا یظهر أنه لو کان لإتمام السورة الفلانیة أثر خاص وعلمنا أن القارئ شرع فی قراءتها واحتملنا أنه ارتدع ولم یتمها فالاستصحاب فی قراءتها لا یثبت أنه أتمها وإنما یترتب علیه أثر القارئ یقرأ تلک السورة کما یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم إتمامها ویظهر من کلام سیدنا الاستاد قدس سره أن الوحدة فی مثل التکلم والقراءة مما ذکرنا أن لقطعاته عنواناً خاصاً لیست لاتصال الأجزاء أصلاً وذلک لتخلل العدم بینهما بالتنفس وغیره بل الموجب للوحدة فیها العنوان الاعتباری فیقال لمجموع الأجزاء أنها قصیدة أو سورة فلانیة أو غیر ذلک، ویعتبر فی جریان الاستصحاب رعایة احتمال بقاء ذلک العنوان، وإذا شرع فی قصیدة وشک فی أنها القصیدة الطویلة أو القصیرة یکون الشک فی بقاء القراءة من قبل الشک فی المقتضی، وإذا علم أنه شرع فی قراءة سورة فلانیة واحتمل تحقق المانع من إتمامها یکون الشک فی البقاء قبل الشک فی الرافع وإذا أحرز الفراغ عنها وشک فی أنه شرع فی سورة اُخری فلا مجال للاستصحاب إلاّ فی ناحیة عدم الشروع فی قراءتها.

ولکن یرد علی ما ذکره بأنه إذا شرع فی قراءة سورة طویلة بقصد قراءتها ثمّ قطعها لطولها وشک أنه قرأ بعد ذلک باقیها ولو فی مجلس آخر أم لا فاللازم الالتزام بجریان الاستصحاب فی قراءتها؛ لأن اعتبار المشکوک بقاءً لقراءتها لیس باتصال عرفی فی قراءة أجزائها بل وحدة العنوان وهو حاصل مع الفصل الطویل أیضاً ولا أظن الالتزام بجریان الاستصحاب فی قراءتها بل یجری فی الفرض الاستصحاب

ص : 267

ثم إنه لا یخفی أن استصحاب بقاء الأمر التدریجی، إما یکون من قبیل استصحاب الشخص، أو من قبیل استصحاب الکلّی بأقسامه، فإذا شک فی أن السورة المعلومة التی شرع فیها تمت أو بقی شیء منها، صح فیه استصحاب الشخص والکلی، وإذا شک فیه من جهة ترددها بین القصیرة والطویلة، کان من القسم الثانی، وإذا شک فی أنه شرع فی أخری مع القطع بأنه قد تمت الأولی کان من القسم الثالث، کما لا یخفی. هذا فی الزمان ونحوه من سائر التدریجیّات. وأما

فی عدم قراءتها بعد قطعها بل إذا أحرز قراءة باقیها یصدق أنه قرأ السورة بمرتین من القراءة وبقراءتین ولا یقاس فی عود دم الحیض بعد فترة النقاء وانقطاعه قبل عشرة أیام حیث اعتبره الشارع ذلک الدم بتمامه حیضاً واحداً بحکمه علی النقاء أنه جزء الحیض ولم یحکم بالسکوت الطویل بأنه جزء القراءة وهذا ظاهر کما هو الحال أیضاً فی فترة التوقف أثناء سفر واحد بیوم أو أکثر حیث حکم الشارع بدخولها فی السفر وأنه لا یقطعها إلاّ إقامة عشرة أیام أو البقاء ثلاثین یوماً متردداً.

عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة بلا فرق بین عناوین الأزمنة وغیرها

ثمّ إن ما تقدم من جریان الاستصحاب فی بقاء الزمان سواء قیل بأن الزمان داخل فی الحرکة القطعیة أو التوسطیة فیما إذا کان الشک فیه بنحو الشبهة الموضوعیة، وأما إذا شک فی عناوین قطعات الزمان بنحو الشبهة المفهومیة کما إذا لم نحرز أن انتهاء الیوم ودخول اللیل یکون باستتار قرص الشمس عن الاُفق الغربی أو بذهاب الحمرة المشرقیة فلا مجال للاستصحاب فی ناحیة العناوین وجوداً وعدماً، ولا فی ناحیة الحکم المترتب علیها حدوثاً أو عدماً بل لابد من الرجوع إلی أصل آخر من البراءة أو الاشتغال ولیس ذلک مختصاً بالزمان بل لا مجال للاستصحاب فی شیء من موارد الشبهة المفهومیة لا فی ناحیة الموضوع ولا فی ناحیة الحکم حیث

ص : 268

الفعل المقید بالزمان، فتارةً یکون الشک فی حکمه من جهة الشک فی بقاء قیده، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخری، کما إذا احتمل أن یکون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لاأصله[1]، فإن کان من جهة الشک فی بقاء القید، فلا بأس باستصحاب قیده من الزمان، کالنهار الذی قید به الصوم مثلاً، فیترتّب

إن خطابات «لا تنقض الیقین بالشک» ظاهرها فرض متیقن ومشکوک خارجیین ولیس الأمر فی موارد الشبهة المفهومیة کذلک بل لا شک فی الخارج أصلاً مثلاً الأجزاء السابقة علی استتار القرص کانت من النهار یقیناً فلا شک فی أنها قد انتهت والأجزاء التی تکون من بعد الاستتار وقبل ذهاب الحمرة المشرقیة موجودة یقیناً والشک فی أنه یعمها اسم الیوم أو اللیل بخلاف ما إذا کانت الشبهة موضوعیة فإن الشک فی بقاء الآنات التی تکون قبل استتار القرص واحتمال انتهائها خارجاً أما عدم جریانه فی ناحیة الحکم لعدم اتحاد القضیة المتیقنة والقضیة المشکوکة وجریان الأصل فی عدم جعل الحکم بنحو الوسیع کما هو الحال فی جمیع الشبهات الحکمیة التی یشک فیها فی سعة التکلیف المجعول وضیقه.

جریان الاستصحاب فی الزمان فیما إذا شک فی الفعل المقید

[1] القسم الثالث من التدریجیات وهو الفعل المقید بالزمان حیث تکون تدریجیة الفعل بتبع تدریجیة قیده یعنی الزمان فقد ذکر الماتن قدس سره أن الشک فی بقاء الحکم فی هذا القسم أما من جهة الشک فی بقاء قید الفعل أی الزمان، واُخری یکون الشک فی بقاء حکمه من غیر ناحیة الزمان بأن أحرز انقضاء ذلک الزمان واحتمل بقاء الفعل علی حکمه بعده؛ لأن التقیید بالزمان فیه کان بلحاظ تمام المطلوب لا بلحاظ أصل مطلوبیته أما القسم الأول فلا بأس بالاستصحاب فی ناحیة القید یعنی الزمان کالنهار المقید به الصوم فیترتب علی بقائه وجوب الفعل کوجوب الإمساک وعدم

ص : 269

علیه وجوب الإمساک وعدم جواز الإفطار ما لم یقطع بزواله، کما لا بأس باستصحاب نفس المقید، فیقال: إن الإمساک کان قبل هذا الآن فی النهار، والآن کما کان فیجب، فتأمل.

جواز الإفطار. نعم، هذا فیما إذا کان الشک فی بقاء النهار بنحو الشبهة الخارجیة، وأما إذا کان بنحو الشبهة الحکمیة فلا مجری للاستصحاب فی ناحیة الزمان کما تقدم وإن لم یتعرض لذلک الماتن قدس سره .

ولکن قد یورد علی جریان الاستصحاب فی ناحیة الزمان فی هذا القسم بأن متعلق الوجوب الفعل المقید به أی الفعل الخاص، والاستصحاب فی ناحیة نفس الزمان لا یثبت أن الفعل هو الفعل فی ذلک الزمان لیجب الإتیان به، وبتعبیر آخر لیس الزمان مجرد شرط الوجوب والتکلیف بل هو قید للمأمور به فلا یحرز أن الفعل هو الفعل المقید به لیجب، نعم یمکن إحراز ذلک فی مثل الصوم حیث نفس الفعل کان فی السابق هو الفعل المقید بذلک الزمان، ومقتضی الاستصحاب بقاؤه علی ما کان، وأما إذا لم یکن لنفس الفعل حالة سابقة کما إذا شک المکلف لغیم ونحوه فی انقضاء النهار وغروب الشمس ولم یصلِّ الظهرین فالاستصحاب فی ناحیة النهار لا یثبت أن صلاته صلاة فی النهار وقبل غروب الشمس، وقد دفع هذا الإشکال بأنه یجری فی ناحیة الفعل فی هذا الفرض الاستصحاب التعلیقی بدعوی أنه لو صلی هذه الصلاة قبل ذلک کانت صلاة فی النهار وقبل غروب الشمس والآن هذه الصلاة کما کانت، وفیه ما لا یخفی فإنه لو بنی علی جریان الاستصحاب التعلیقی فی التکلیف المشروط بدعوی أن التکلیف المشروط قسم من الحکم الشرعی فیستصحب عند الشک فی بقائه فی موضوعه لم یتم ذلک فی التعلیق فی متعلقات التکالیف وموضوعاتها فإن التعلیق فیها مجرد أمر عقلی فإن العقل یستقل فی أنه مع حصول

ص : 270

.··· . ··· .

ذات المقید إن حصل قیده حصل المقید بما هو مقید، والمتحصل القضیة المذکورة لیست من التکلیف ولا موضوع له ولا یحرز أن الفعل فی هذا الزمان إیجاد لمتعلق التکلیف حتی یحرز وجوبه.

إحراز بقاء التکلیف المتعلق بالفعل المقید بالزمان بالاستصحاب فی ناحیة الزمان المشروط به التکلیف

وقد یقال یمکن إحراز کون الصلاة فی الآن المشکوک صلاة فی النهار أو صوماً فی النهار بالاستصحاب فی ناحیة الزمان بمفاد (کان) الناقصة بدعوی أن الزمان بنفسه هویة واقعیة مستمرة وکان متصفاً بالنهار أو قبل الغروب سابقاً ویشک فی بقائه علی ما کان فیحرز أنه نهار أو قبل الغروب فمع الصلاة فی ذلک الزمان لتم إحراز الصلاة فی النهار. حیث لا معنی للصلاة فی النهار أو قبل الغروب إلاّ الإتیان بالصلاة فی زمان یکون متصفاً بالنهار أو قبل الغروب، ولکن لا یخفی ما فیه فإن الزمان لو لم یکن فی نفسه أمراً موهوماً وسلمنا أن له هویة واقعیة ولکن استمراره باتصال الأجزاء وعدم انقطاع الحرکة ولکن تختلف قطعاته عرفاً بحسب العناوین والآن المفروض المشکوک کونه من النهار أو من اللیل لم یحرز سابقاً لیستصحب، وبتعبیر آخر المتصف بالنهار سابقاً لیس هذا الآن ولا یمکن إجراء الاستصحاب فی ناحیة الزمان بحسب العناوین إلاّ بمفاد (کان) التامة فإن کان استصحابه بهذا المفاد مفیداً فی إحراز أن المأتی به صلاة فی اللیل أو فی النهار فهو، وإلاّ فلا یفید استصحاب الزمان فی إثبات وجوب المتعلق بالفعل المقید به حیث لا یحرز أن المأتی به هو الفعل المقید به.

ص : 271

.··· . ··· .

کفایة الاستصحاب فی الزمان بمفاد کان التامة فی إحراز تحقق الفعل المقید بالزمان

اللّهم إلاّ أن یقال إحراز بقاء التکلیف لا یحتاج إلی إحراز أن المأتی به ینطبق علیه عنوان متعلق التکلیف بل یکفی فیه احتمال الانطباق؛ ولذا لو قام المکلف من نومه وقد بقی إلی الغروب مقدار صلاة أربع رکعات وکان ثوبه منحصراً فی مشتبهین أحدهما طاهر والآخر نجس فإنه لا ینبغی التأمل فی أنه لا یجوز له ترک صلاة العصر بعذر أنه لا یمکن له إحراز الإتیان بصلاة العصر فی ثوب طاهر بل إذا لم یمکن الموافقة القطعیة للتکلیف المحرز بالعلم أو بالأصل فعلیه الموافقة الاحتمالیة ومعها لا یجب علیه القضاء لعدم إحراز فوت الفریضة فی وقتها، وفیما نحن فیه أیضاً الزمان شرط للتکلیف أیضاً أو القدرة علی المتعلق موضوع له وبالاستصحاب فی الزمان أو القدرة علی المتعلق یثبت بقاء التکلیف ومقتضاه مع عدم إمکان إحراز انطباق متعلق التکلیف علی المأتی به یکفی احتماله، ولعل ما ذکر الماتن قدس سره فإن کان الشک فی بقاء القید فلا بأس باستصحاب قیده من الزمان کالنهار الذی قید به الصوم فیترتب علیه وجوب الإمساک وعدم جواز الإفطار ما لم یقطع بزواله، وما فی ذیل کلامه من قوله فتأمل یکون إشارة إلی أن عدم جریان الاستصحاب فی الفعل المقید بالزمان فی مثل الصلاة فی النهار وجعل الزمان قیداً للتکلیف مع کونه شرطاً لمتعلقه لا محذور فیه بل جعله قیداً للتکلیف بنحو الشرط المقارن یوجب أن لا یجب علی المکلف تحصیل مقدمات الواجب قبله وإلاّ لو کان قیداً لمتعلق التکلیف فقط لکان الواجب بنحو الواجب المعلق المشروط بالقدرة حال زمان الفعل فیجب تحصیل مقدماته ولو قبل ذلک الزمان.

ص : 272

.··· . ··· .

لا یقال: الاستصحاب فی عدم تحقق الصلاة فی النهار بالصلاة فی الآن المفروض لا أثر له؛ لأنه لا یثبت فوت الواجب علی تقدیر الإتیان بها فی ذلک الوقت کما أنه لا یثبت أن التکلیف بالصلاة فی النهار فی ذلک الوقت من تکلیف العاجز عن المتعلق لیکون هذا الاستصحاب حاکماً علی استصحاب الزمان المثبت للتکلیف بها، أضف إلی ذلک أنه لا مجری للاستصحاب فی عدم تحقق الصلاة فی النهار أصلاً بل یحرز بالاستصحاب فی بقاء النهار وفعل الصلاة تحقق الصلاة فی النهار فإنه کما یحرز بالاستصحاب فی غیر الزمان من قیود الواجب کالوضوء وبقاء الستر تحقق الصلاة بالوضوء أو الستر کذلک بالاستصحاب فی ناحیة النهار مع الإتیان بذات الواجب یحرز تحقق الصلاة فی الزمان. وبیان ذلک أن اتصاف الفعل بالزمان أی واقع اتصافه به لیس من قبیل اتصاف المعروض بعرضه حیث إن الشیء علی تقدیر کونه موضوعاً لحکم أو متعلقاً لتکلیف فلابد فی موارد إحرازه بالاستصحاب من ثبوت الحالة السابقة بمفاد (کان) الناقصة کما إذا حکم الشارع بالاعتصام علی الماء الکر وبالتجهیز بالمیت المسلم فإذا شک فی کریة ماء أو إسلام میت فلابد من الحالة السابقة للاتصاف فی الحکم باعتصام ذلک الماء وإلاّ جری الاستصحاب فی ناحیة عدم اعتصامه ولو بنحو الاستصحاب فی العدم الأزلی، وکذا فیما إذا کان الشک فی وصف الأفعال المعدود من العرض لها کالشدة والضعف، وأما إذا لم یکن قید الموضوع أو المتعلق من قبیل العرض لذات الموضوع أو المتعلق بل کان من الجوهر والعرض لمعروض آخر أو کان الموضوع أو المتعلق من عرضین فمعنی کونه قیداً لهما اجتماعهما مع ذات الموضوع أو المتعلق المعبر عنه بمفاد (واو) الجمع فإن ورد الأمر فی خطاب بإکرام زید یوم الجمعة فمعنی کون یوم الجمعة قیداً لإکرامه أن

ص : 273

وإن کان من الجهة الاُخری فلا مجال إلاّ لإستصحاب الحکم فی خصوص ما لم یوءخذ الزمان فیه إلاّ ظرفاً لثبوته] 1] لا قیداً مقوماً لموضوعه وإلاّ فلا مجال إلاّ

یحصل إکرامه مع حصول یوم الجمعة ولیس المراد عنوان الجمع والمعیة بل ما هو منشأ لانتزاعهما، وعلی ذلک فلو شک فی بقاء نهار الجمعة فالاستصحاب فی ناحیتها وإکرام زید فی ذلک الزمان موجب لإحراز إکرامه یومها. نعم، لو کان عنوان المعیة والحالیة وغیرها من العناوین الانتزاعیة بنفسه موضوعاً للحکم أو متعلقاً للتکلیف فلا یفید الاستصحاب فی ناحیة بقاء نفس القید فی إحراز حصول ذلک العنوان؛ ولذا ذکر جماعة من الأصحاب أنه لو کبر المأموم لصلاة مع کون الإمام راکعاً وشک فی أنه أدرک فی رکوعه رکوع الإمام یحکم ببطلان صلاته کما عن بعض، وبطلان جماعته عن بعض آخر؛ لأن المعتبر فی إدراک الجماعة بحسب الروایة حصول عنوان الحالیة کما هو ظاهر (الواو) الحالیة فی قوله علیه السلام : «إذا رکع والإمام راکع»(1) لا بمعنی مجرد الاجتماع فی الزمان رکوعهما کما هو مفاد (واو) الجمع فإن إثبات الأمر الانتزاعی بالاستصحاب فی منشأ انتزاعه أصل مثبت، والمتحصل ما ورد فی الخطابات الشرعیة بصوم نهار شهر رمضان والصلاة فی اللیل والنهار عدم دخالة العناوین الانتزاعیة کالظرفیة ونحوها بل المطلوب واقع الاجتماع بین الفعل والزمان وهذا یحرز بالفعل وإحراز الزمان بالاستصحاب.

الشک فی التکلیف بعد انقضاء الزمان الذی کان قیداً للواجب

[1] وتعرض الماتن قدس سره لحکم الفعل فیما بعد ذلک الزمان وذکر ما حاصله قد یلاحظ الزمان ظرفاً لثبوت الحکم المتعلق بالفعل من غیر أن یکون قیداً مقوماً

ص : 274


1- (1) التهذیب 3 : 43.

لإستصحاب عدمه فیما بعد ذاک الزمان، فإنه غیر ما علم ثبوته له، فیکون الشک فی ثبوته له _ أیضاً _ شکّاً فی أصل ثبوته بعد القطع بعدمه، لا فی بقائه.

لموضوعه ففی مثل ذلک لا بأس بالاستصحاب فی ناحیة الحکم بعد ذلک الزمان فیما لم یتم الدلیل علی ارتفاعه بأن شک احتمل بقائه، بخلاف ما إذا کان الزمان قیداً مقوماً لموضوعه بحیث علی تقدیر ثبوت الحکم لذلک الفعل بعد ذلک الزمان یعد حکماً آخر ففی مثل ذلک لا یکون مجال إلاّ لاستصحاب عدم ثبوت هذا الحکم.

ثمّ ناقش أولاً فی جریان الاستصحاب فی القسم الأول بأن الزمان مع أخذه فی خطاب الحکم یکون قیداً للموضوع ودخیلاً فی صلاح الفعل المقید به وأجاب بأن هذا بحسب نظر العقل لعدم إمکان فرض دخالة أمر ولو یوءخذ فی خطاب الحکم ظرفاً إلاّ أنه بحسب نظره یرجع إلی قید الموضوع والمراد من الموضوع کما یظهر من کلامه متعلق الحکم أی الفعل ولکن بنظر العرف یکون الموضوع هو الفعل وثبوت الحکم له فی الزمان الأول مقطوع وفی الثانی مشکوک.

وناقش ثانیاً بأنه إذا کان الزمان ظرفاً لثبوت الحکم فی الزمان فی الفرض الأوّل بنظر العرف وقیداً لموضوعه أی متعلقه بنظر العقل یکون المورد من موارد جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث تکلیف آخر بعد ذلک الزمان بلحاظ النظر الدقی ومن موارد الاستصحاب فی بقاء الحکم لذلک الفعل بالنظر العرفی فیتعارضان کما ذکره الفاضل النراقی قدس سره وأجاب عن ذلک بأن أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک لم ترد بلحاظ کلا النظرین لعدم إمکان الأخذ بکل منهما للمنافاة بینهما فلابد من أن یکون بلحاظ أحدهما وحیث إنها ناظرة إلی الشک فی البقاء بنظر العرف یکون الاستصحاب فی ناحیة التکلیف فی فرض ظرفیة الزمان للحکم بلا معارض کما أن الاستصحاب فی ناحیة عدم حکم آخر فیما إذا کان الزمان قیداً للفعل بعد ذلک

ص : 275

لا یقال: إن الزمان لا محالة یکون من قیود الموضوع وإن أخذ ظرفاً لثبوت الحکم فی دلیله، ضرورة دخل مثل الزمان فیما هو المناط لثبوته، فلا مجال إلاّ لإستصحاب عدمه.

فإنه یقال: نعم، لو کانت العبرة فی تعیین الموضوع بالدقة ونظر العقل، وأمّا إذا کانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة فی أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد فی

الزمان بلا معارض وذلک لعدم کون الحکم بعد ذلک الزمان من بقاء التکلیف الأول حتی بنظر العرف ثمّ قال: نعم، لا یبعد فیما إذا تعلق التکلیف بالفعل المقید بالزمان واحتمل تعدد الملاک الملزم؛ أحدهما قائم بذات الفعل، والآخر بوقوعه فی ذلک الزمان لیکون الفعل فیه تمام المطلوب وکامله أن یجری الاستصحاب بعده فی نفس الفعل فإنه یتحد المتعلق فی إحدی مرتبتی الطلب حتی بنظر العقل.

لا یخفی أن الزمان بنفسه ظرف فیکون بما هو ظرف قیداً للفعل أو الحکم والتکلیف أو لهما معاً وإذا فرض أنه قید للفعل یکون التکلیف المتعلق بالفعل المقید بذلک الزمان متعلقاً لتکلیف واحد سواء کان فیه ملاکان ملزمان أو کان فیه ملاک ملزم واحد، وإذا کان فیه ملاکان أحدهما قائم بذات الفعل، والآخر بالفعل فی خصوص ذلک الزمان فالتکلیف المتیقن هو التکلیف المتعلق به فی ذلک وقد ارتفع بعده یقیناً فیکون الشک فی تعلق تکلیف آخر بذاته عند ارتفاع التکلیف الأول، وبتعبیر آخر الفعل فی ذلک الزمان الخاص لیس من الفعلین بأن یتعلق لکل منهما تکلیف؛ ولذا لو أتی المکلف به فی ذلک الزمان یکون المأتی به مصداقاً لما تعلق به التکلیف ولو أمر الشارع بالإتیان فی أول ذلک الزمان لا یکون أمره إلاّ إرشاداً إلی أفضل الأفراد لا أمراً تکلیفیاً ندبیاً مستقلاً غیر ما تعلق به التکلیف الإلزامی.

ص : 276

الزمانین، قطع بثبوت الحکم له فی الزمان الأول، وشک فی بقاء هذا الحکم له وارتفاعه فی الزمان الثانی، فلا یکون مجال إلاّ لإستصحاب ثبوته.

لا یقال: فاستصحاب کل واحد من الثبوت والعدم یجری لثبوت کلا النظرین، ویقع التعارض بین الإستصحابین، کما قیل.

فی عدم جریان الاستصحاب فی وجوب الفعل المقید بزمان بعد انقضاء ذلک الزمان

وعلی الجملة الاستصحاب فی بقاء التکلیف بعد انقضاء الزمان المقید به الفعل یکون من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی الذی اعترف الماتن بعدم جریانه علی ما تقدم. نعم، لو کان التکلیف المجعول مشروطاً بمجیء زمان ویشک فی أن التکلیف دائر مدار بقاء ذلک الزمان أو أن مجیء ذلک الزمان دخیل فی فعلیة ذلک التکلیف فقط لا فی بقائه کما إذا علم بوجوب إخراج الفطرة بدخول أول شوال، ولکن لم یعلم أن بقاء وجوبه دائر مدار بقاء أول شوال أیضاً أو أن دخوله موجب لفعلیة وجوب إخراج الفطرة وبقائه نظیر ما إذا علم بانفعال الماء الکثیر بحدوث التغیر فیه بأوصاف النجس الذی أصابه ولکن لا یدری أن بقاء تنجسه أیضاً دائر مدار بقاء التغیر وعدمه ففی مثل ذلک لا بأس بالاستصحاب فی بقاء التکلیف المتعلق بالفعل بناءً علی جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ویکون الفرض فی الحقیقة من الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی؛ لأن المکلف لا یدری أن الوجوب الفعلی قصیر ینقضی بانقضاء ذلک کانقضاء الانفعال عن الماء الکثیر بانقضاء تغیّره أو أن الوجوب الفعلی فرد طویل من التکلیف لا ینقضی بانقضائه ولکن هذا خارج عن المفروض فی المقام حیث إن المفروض فی المقام تعین الإتیان بالفعل قبل خروج ذلک الزمان والشک فی تعینه أیضاً بعد ذلک الزمان لمن عصی وترکه فی الزمان الأول أو ترکه فیه لعذر عقلی أو شرعی والاستصحاب فی مفروض

ص : 277

.··· . ··· .

المقام لا یکون إلاّ من الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی کما تقدم بل لو کان الشک فی التکلیف من القسم الثانی من الکلی أیضاً لکان الاستصحاب فی عدم جعل التکلیف بنحو الوسیع حاکماً علی الاستصحاب فی بقاء التکلیف بعد انقضاء ذلک الزمان بل الاستصحاب فی عدم جعل التکلیف الوسیع عین نفی الوجوب الفعلی بعد انقضاء الزمان الأول ولا یعارض هذا الاستصحاب بالاستصحاب فی عدم جعل التکلیف المختص بالزمان الأول؛ لأنه لا أثر له لأن ثبوته فی الزمان الأول قطعی وعدم جعله لخصوصه لا یثبت جعل الوسیع.

حتی لو قیل بأن الاستصحاب فی بقاء التکلیف الفعلی بعد انقضاء زمان الأول من الاستصحاب فی القسم الأول من الکلی بل من الاستصحاب من الشخص أی شخص التکلیف الفعلی لکان الاستصحاب فی عدم جعله بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان نافیاً لثبوته بعده فإن ثبوت التکلیف بعد ذلک الزمان ثبوتاً یحتاج إلی الجعل؛ لأن الحکم والتکلیف أمر اعتباری یحتاج إلی الجعل والاعتبار والاستصحاب فی عدم جعله نفی لذلک الحکم المجعول فی مقام الجعل والاستصحاب فی بقاء المجعول الفعلی لا یثبت جعله بنحو الوسیع کما ذکرنا سابقاً فی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة.

عدم جریان الاستصحاب فی بقاء التکلیف مع عدم الدلیل علی إطلاقه

وقد ظهر مما ذکرنا أنه لو ثبت حکم وتکلیف متعلق بالفعل فی زمان وشک فی کون ذلک التکلیف ینتهی بانتهاء ذلک الزمان أو أن یبقی بعد ذلک الزمان أیضاً بحیث یکون ذلک الزمان دخیلاً فی حدوثه فقط دون بقائه فإن لم یکن فی البین فی خطاب ذلک الحکم إطلاق بحیث یقتضی بقاءه بعد ذلک الزمان أیضاً ووصلت النوبة إلی

ص : 278

فإنه یقال: إنما یکون ذلک لو کان فی الدلیل ما بمفهومه یعم النظرین، وإلاّ فلا یکاد یصح إلاّ إذا سبق بأحدهما، لعدم إمکان الجمع بینهما لکمال المنافاة بینهما، ولا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمهما، فلا یکون هناک إلاّ استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت فیما إذا أخذ الزمان ظرفاً، واستصحاب العدم فیما إذا أخذ قیداً، لما عرفت من أن العبرة فی هذا الباب بالنظر العرفی، ولا شبهة فی أنّ الفعل فیما بعد ذاک الوقت مع ما قبله متحد فی الأول ومتعدد فی الثانی

الأصل العملی لا یجری الاستصحاب فی بقاء ذلک الحکم المجعول الفعلی، وهذا فیما إذا کان الحکم انحلالیاً بانحلال المتعلق ظاهر کما إذا علمنا بحرمة وطی الحائض بحدوث حیضة ویشک فی أن حرمته ثابتة حتی بعد انقطاع الدم وقبل اغتسالها أو دایر مدار بقاء الحیض فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة حرمة وطیها إلی زمان اغتسالها؛ لأن المتیقن من جعل الحرمة هو الوطی زمان الحیض والأصل عدم جعل الحرمة لوطیها بعد الحیض وقبل الاغتسال.

وعلی الجملة ففی مثل هذا المورد بما أن الحصة من الوطی فعل آخر یشک فی ثبوت حرمة مستقلة لها فمقتضی الأصل عدم جعل الحرمة لتلک الحصة، وأما إذا لم یکن الحکم والتکلیف انحلالیاً بأن کان متعلق التکلیف صرف وجود الفعل أو الفعل المستمر بحسب عمود الزمان بحیث یحسب ذلک الفعل علی تقدیر بقاء التکلیف هو الفعل الأول کما إذا شک فی أن المبیت بمنی فی لیالی المبیت هل ینتهی وجوبه بانتصاف اللیل إلی طلوع الشمس أو بانتصاف بملاحظة طلوع الفجر أو شک فی أن وجوب إخراج الفطرة ینتهی أمده إلی انقضاء یوم الفطر أو أن وجوبه یستمر إلی ما بعده أیضاً ففی مثل ذلک الاستصحاب فی عدم جعل الوجوب بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان یجری لا أنه یتعارض مع الاستصحاب فی بقاء الحکم المجعول الفعلی

ص : 279

.··· . ··· .

ویتعارضان ویتساقطان بل الاستصحاب فی عدم جعل الحکم بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان علم بعدم سعة الحکم المجعول فلا یبقی موضوع للاستصحاب فی ناحیة بقاء المجعول.

لا یقال: ما الفرق بین الاُمور الواقعیة الخارجیة التی لها أثر شرعی فی حدوثها وبقائها أو فی بقائها فقط وبین الاُمور الاعتباریة التی یدخل فیها الحکم الشرعی والتکلیفی، ولا ینبغی التأمل بل لا خلاف فی جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء تلک الاُمور الواقعیة فیما إذا شک فی بقائها ولم یتوهم أحد الاستصحاب فی ناحیة عدمها السابق علی وجوداتها بعد انتقاض ذلک العدم بالوجود وکیف یقال بالاستصحاب فی ناحیة عدم التکلیف بعد انقضاء الزمان المتیقن من وجوده مع أن عدم التکلیف السابق أیضاً انتقض بالتکلیف الحادث یقیناً مثلاً إذا وجب الإمساک عن المفطرات قبل غیبوبة قرص الشمس عن الاُفق الغربی ویحتمل بقاؤه إلی ذهاب الحمرة الشرقیة فلا محذور فی الاستصحاب فی ناحیة بقاء وجوب الإمساک الفعلی المتیقن السابق إلی ذهابها. نعم، إذا علم بوجوب فعل مقید بزمان مخصوص وشک فی وجوب الفعل بعد ذلک الزمان بحیث یکون علی تقدیر وجوبه تکلیفاً آخر فیجری الاستصحاب فی عدم جعل وجوب آخر بعد ذلک الزمان فالقائل بالتعارض بین استصحاب بقاء الحکم الفعلی المجعول وبین الاستصحاب فی ناحیة عدم الجعل متهافت فی قوله فإنه یأخذ الزمان ونحوه قیداً للفعل فیدعی الاستصحاب فی عدم الجعل بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان ونحوه، وینظر إلی الظرفیة والحالیة للفعل فیدعی الاستصحاب فی بقاء المجعول مع أنه لا مورد فی الأول إلاّ لاستصحاب عدم تکلیف آخر کما أنه لا مورد فی الثانی إلاّ للاستصحاب فی ناحیة

ص : 280

بحسبه، ضرورة أن الفعل المقید بزمان خاص غیرالفعل فی زمان آخر، ولو بالنظر المسامحی العرفی.

نعم، لا یبعد أن یکون بحسبه _ أیضاً _ متحداً فیما إذا کان الشک فی بقاء حکمه، من جهة الشک فی أنه بنحو التعدد المطلوبی، وأن حکمه بتلک المرتبة التی کان مع ذاک الوقت وإن لم یکن باقیاً بعده قطعاً، إلاّ أنه یحتمل بقاؤه بما دون تلک المرتبة من مراتبه فیستصحب، فتأمل جیداً.

بقاء التکلیف المجعول.

فإنه یقال: لیس المعارض للاستصحاب فی المجعول الفعلی عدم فعلیة ذلک المجعول قبله لیقال بأن ذلک العدم قد انتقض بالوجود کما فی الاستصحاب فی ناحیة الاُمور الخارجیة، بل المعارض له عدم جعل التکلیف الوسیع بحیث یعم الزمان الثانی أو الحال الطاری فإن بقاء عدم هذا الجعل فی مقام جعل الأحکام محتمل کما ذکروا فی وجه المعارضة وثبوت التکلیف الوسیع لکونه أمراً اعتباریاً تکون سعته کأصله بالاعتبار ومقتضی الاستصحاب عدم اعتباره وجعله.

لا یقال: استصحاب عدم جعل التکلیف الوسیع بحیث یعم الزمان الثانی أو الحال الطاری لا یثبت عدم ثبوت التکلیف المجعول الفعلی فی ذلک الزمان أو الحال لعدم ترتب شرعی بین ثبوت الجعل وثبوت المجعول لینفی الثانی بنفی الأول.

فإنه یقال: نفی المجعول بنفی جعله لا یکون من الأصل المثبت، وإلاّ لم یمکن إثبات المجعول الفعلی باستصحاب بقاء جعله وعدم نسخه، والسر فی ذلک ما ذکرنا من أن الحکم فی مقام الفعلیة بعینه الحکم فی مقام الجعل، ولیس الاختلاف بینهما فی نفس المنشأ المجعول بل الاختلاف بینهما بفعلیة الموضوع وکونه بنحو التقدیر حیث إن الموضوع فی مقام الجعل التقدیری وفی مقام الفعلیة فعلی ومقتضی

ص : 281

.··· . ··· .

الاستصحاب عدم هذا المجعول فی مقام إنشاء الأحکام واعتباراتها بعدم اعتباره، وهذا فیما إذا کان الجعل بعنوان القضیة الحقیقیة، وأما إذا کان الجعل بنحو القضیة الخارجیة ففعلیة الحکم عین اعتباره واعتباره عین فعلیته أوضح؛ ولهذا ذکرنا أن مع جریان الاستصحاب فی عدم الجعل لا یبقی شک بالإضافة إلی ثبوت المجعول بل یعلم عدمه، وعلی الجملة اعتبار المجعول یعنی المنشأ مقوم للإنشاء وجعل الحکم وداخل فیه، والاستصحاب فی عدم الجعل فی مقام جعل الأحکام بنفیه والاستصحاب فی بقاء المجعول الفعلی السابق لا یثبت جعله الوسیع، ونظیر ذلک ما قلنا فی اختلاف الزوجین فی دوام العقد وانقطاعه من أنّ الأصل الجاری فی عدم إنشاء عقد النکاح الدائمی ینفی الزوجیة بالإضافة إلی مدة الانقطاع والاستصحاب فی بقاء الزوجیة الفعلیة السابقة لا یثبت العقد الدائم والاستصحاب فی عدم عقد الانقطاع لا أثر له لکون الزوجیة فی تلک المدة محرزة بالوجدان.

لا یقال: الاستصحاب فی عدم التکلیف الوسیع بحیث یعم حال انقضاء الزمان الأول أو الحالة الأولیة یعارض مع استصحاب عدم جعل الإباحة للفعل بعد ذلک الزمان أو تلک الحالة فیتعارضان ویتساقطان ویرجع إلی الاستصحاب فی بقاء التکلیف الفعلی السابق.

فإنه یقال: قد ذکرنا سابقاً أن کون الأصل المسببی فی طول الأصل السببی إنما هو فی فرض جریان الأصل السببی وأما مع عدم جریانه فإن کان الأصل المسببی مستفاداً من خطاب خاص فلا بأس بالأخذ به وأما إذا کان مستفاداً مما یستفاد منه الأصل السببی یکون الأصل المعارض للأصل المسببی معارضاً مع المسببی أیضاً، والمفروض أن الأصل الجاری فی المقام مستفاد من خطابات لا تنقض الیقین

ص : 282

إزاحة وهم: لا یخفی أن الطهارة الحدثیة والخبثیة[1] وما یقابلها یکون مما إذا وجدت بأسبابها، لا یکاد یشک فی بقائها إلاّ من قبل الشک فی الرافع لها، لا من قبل الشک فی مقدار تأثیر أسبابها، ضرورة أنها إذا وجدت بها کانت تبقی ما

بالشک، وعلی ذلک فالاستصحاب فی عدم جعل التکلیف یعارض الاستصحاب فی عدم جعل الإباحة الاستصحاب فی بقاء التکلیف ویرجع بعد تساقطها إلی أصالة البراءة عن التکلیف بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان أو الحال مع أنه یمکن أن یقال بأن الاستصحاب فی عدم جعل الإباحة لا ینافی عدم جعل التکلیف لإمکان خلو الواقعة عن الحکم المجعول واقعاً بل عدم جعل التکلیف الإلزامی لفعل عین الترخیص الشرعی فیه.

[1] ثمّ إنه قد ذکر النراقی قدس سره جریان المعارضة بین الاستصحابین فی الأحکام الوضعیة أیضاً فیما إذا کانت الشبهة حکمیة کما إذا شک فی کون المذی ناقضاً للوضوء أو کون الغسل مرة کافیاً فی الحکم بطهارة المغسول وظاهر کلامه أن الأصل فی عدم کون الوضوء سبباً للطهارة بعد خروج المذی مقتضاه عدم بقاء الطهارة فیکون معارضاً للأصل فی عدم رافعیة المذی المقتضی لبقائها، وکذا الحال فی الخبث فإن الأصل فی عدم کون الغسل مرة رافعاً للخبث یعارضه الأصل فی عدم کون الملاقاة سبباً للتنجس بعد الغسل مرة فیتساقطان وأورد الماتن قدس سره علی ما ذکره بأنه لا معنی فی موارد الشک فی الرافعیة والناقضیة للشک فی مقدار تأثیر السبب، بل یبقی المسبب إلی أن یوجد أحدهما، ولا فرق فی ذلک بین الاُمور الخارجیة والاعتباریة؛ ولذا لا مورد للاستصحاب فی مثل الفرضین إلاّ لعدم کون المذی رافعاً أو کون الغسل مرة مطهراً.

أقول: التأثیر فی الوضوء ونحوه لا مورد له فی الأحکام الشرعیة بالإضافة إلی

ص : 283

لم یحدث رافع لها، کانت من الأمور الخارجیة أو الأمور الإعتباریة التی کانت لها آثار شرعیة، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذی، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرة، کما حکی عن بعض الأفاضل، ولا یکون ها هنا أصل إلاّ أصالة الطهارة أو النجاسة.

الخامس _ أنه کما لا إشکال فیما إذا کان المتیقن حکماً فعلیاً مطلقاً لا ینبغی الإشکال فیما إذا کان مشروطاً] 1] معلقاً.

موضوعاتها، بل الشک یرجع إلی سعة الحکم الذی هو أمر اعتباری سواء کان الملاک فی متعلق التکلیف أو فی الموضوع للحکم الوضعی والشک فی المثالین فی أن اعتبار الوضوء السابق طهارة حتی بالإضافة إلی ما بعد خروج المذی أو أنه اعتبر طهارة إلی خروجه الذی ینتزع منه عنوان الناقض والرافع فالاستصحاب فی ناحیة بقاء الوضوء أو کونه طهارة بعد خروج المذی یعارضه الاستصحاب فی ناحیة عدم اعتباره طهارة إلی ما بعد خروجه، وکذا الکلام فی الاستصحاب فی ناحیة الخبث ونحوه بل ذکرنا أن الاستصحاب فی عدم اعتبار الوضوء طهارة کما ذکر حاکم علی الاستصحاب فی ناحیة الطهارة الفعلیة السابقة ما بعد خروج المذی.

الاستصحاب فی الحکم التعلیقی

[1] یقع الکلام فی المقام فی جهتین:

الاُولی _ جریان الاستصحاب فی ناحیة الحکم التعلیقی کجریانه فی الحکم التنجیزی أو أنه لا یجری فی ناحیة الحکم التعلیقی لعدم تمامیة أرکان الاستصحاب فی موارد الشک فی الحکم التعلیقی.

والثانیة _ فی معارضة الاستصحاب علی تقدیر جریانه فیه بالاستصحاب فی الحکم التنجیزی الثابت فی مورده أو عدمها، وقد ذکر الماتن أنه لا فرق فی اعتبار

ص : 284

فلو شک فی مورد لأجل طروء بعض الحالات علیه فی بقاء أحکامه، ففیما صح استصحاب أحکامه المطلقة صح استصحاب أحکامه المعلقة، لعدم الإختلال بذلک فیما اعتبر فی قوام الاستصحاب من الیقین ثبوتاً والشک بقاءً.

الاستصحاب بین کون المتیقن حکماً تنجیزیاً أو حکماً مشروطاً معلقاً فلو شک فی بقاء الحرمة التعلیقیة التی کانت للعنب بعد صیرورته زبیباً فکما یجری الاستصحاب فی بقاء حکمه التنجیزی السابق لو شک فیه بعد صیرورته زبیباً ککونه ملکاً کذلک یجری فی ناحیة بقاء حرمته التعلیقیة لعدم الاختلال فی رکنی الاستصحاب بتعلیق الحکم المتیقن السابق والشک فی بقائه. وعلی الجملة الحرمة التعلیقیة التی کانت للعنب سابقاً سنخ من الحرمة فی مقابل الحرمة التنجزیة وکان ذلک السنخ ثابتاً له حال کونه عنباً ویشک فی بقائه بعد صیرورته زبیباً ودعوی أن الحرمة التعلیقیة لیست بشیء فإن المعلق علی شیء لم یحصل غیر حاصل لا یمکن المساعدة علیها.

فإنه إذا لم تکن الحرمة المعلقة شیئاً أصلاً فکیف یتوجه الخطاب بها إلی المکلف فیقول: اجتنب عن العنب إذا غلی وعلی ما ذکره سابقاً من کون خطابات الاستصحاب متممة لدلالة الدلیل الدال علی الحالة السابقة فیما کان مهملاً أو مجملاً بالإضافة إلی حکم الحالة اللاحقة یکون الاستصحاب فی المقام متمماً لدلالة ما دلّ علی حرمة العنب إذا غلی حیث ببرکته یحرز ثبوت الحکم المذکور للعنب بعد صیرورته زبیباً أیضاً.

أقول: المثال المذکور فی المقام غیر صحیح فإن العنوان المحکوم علیه بحکم قد لا یکون دخیلاً فی بقاء الحکم وأن المعنون به إذا دخل تحت عنوان آخر أیضاً یبقی حکمه کما إذا حکم بحلیة الحنطة فإن تلک الحلیة تثبت للمعنون وإن دخل تحت عنوان العجین والخبز کما أنه قد یکون الحکم الثابت للشیء بعنوان یکون

ص : 285

.··· . ··· .

بقاؤه أیضاً دائراً مدار ذلک العنوان کحرمة الخمر ونجاستها فإن الحرمة کالنجاسة ترتفع بارتفاع عنوان الخمر بصیرورته خلاً فلا مجال للاستصحاب فی هذا القسم إلاّ بالإضافة إلی الشبهة الخارجیة کما إذا شک فی صیرورته خمراً أو صیرورة الخمر خلاً أما القسم الأول فلا مجال للاستصحاب فیه، وقد یکون المأخوذ عنواناً للموضوع أو قیداً له دخیلاً فی فعلیة الحکم حدوثاً ولکن یحتمل ثبوته للمعنون بعد زوال العنوان بأن یکون العنوان أو القید دخیلاً فی فعلیة الحکم حدوثاً لا بقاءً، والکلام فی اعتبار الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ناظر إلی اعتباره فی هذا القسم بأن یکون العنوان أو القید من قبیل الجهة التعلیلیة بالإضافة إلی الحکم عرفاً، وعلی ذلک لو کان الوارد فی الخطابات الشرعیة النهی عن العنب بطبخه لکان البحث فی الاستصحاب فی حرمة الزبیب عند طبخه من الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة ولکن الوارد فیها حرمة العصیر العنبی إذا غلی وبعد صیرورة العنب زبیباً لا یبقی ماء العنب فلا بقاء للمعنون خارجاً بعد صیرورته زبیباً، وأن الحرمة الثابتة للعنب بغلیانه لا تختلف ثبوتاً بین إن ورد فی الخطاب الشرعی العنب إذا غلی یحرم، وبین إن ورد حرمة العنب المغلی وذلک فإن کون شیء قیداً للحکم فی الخطاب مقتضاه فرض وجود ذلک القید وفعلیته فی فعلیة ذلک الحکم ومع عدم حصوله لا حکم لعدم جعل ذلک الحکم فی فرض عدمه کما أن مقتضی أخذ القید قیداً للموضوع فی الخطاب فرض فعلیة ذلک القید فی فعلیة الحکم فلا اختلاف بین قید الحکم وقید الموضوع فی مقام الثبوت، وإنما یختلف کون شیء قیداً للحکم وقیداً للموضوع فی مقام الإثبات والدلالة حیث لو کان قیداً للموضوع فی الخطاب لما کان له دلالة علی عدم ثبوت الحکم للموضوع مع حصول أمر آخر غیر ذلک القید کالنشیش فی العصیر فیرجع فی مورد ذلک الأمر الآخر إلی دلیل آخر أو أصل عملی کأصالة الحلیة والبراءة بخلاف ما

ص : 286

.··· . ··· .

إذا کان فی الخطاب قید لنفس الحکم کما إذا کان الخطاب بنحو القضیة الشرطیة فإنه بمفهوم الشرطیة یدلّ علی عدم الحرمة للعصیر والعنب مع عدم الغلیان، وهذا یرتبط بمقام الإثبات والدلالة والحاصل مجری الاستصحاب هو بقاء الحکم المتیقن السابق ثبوتاً، وأما انتفاء مدلول الخطاب فهو أمر قطعی، وما فی کلام الماتن من أن الاستصحاب متمم لدلالة الدلیل الدال علی الحالة السابقة کما تری.

والمتحصل الشک فی المجعول ثبوتاً وأنه وسیع یعمّ الزبیب بغلیانه أم لا وإذا فرض الغلیان فی زبیب فلیس للحرمة فی ذلک الزبیب حالة سابقة عند کونه عنباً لعدم غلیانه فی تلک الحال فلا مورد لاستصحاب الحرمة فیه حتی بناءً علی جریانه فی الشبهات الحکمیة، وبتعبیر آخر لیس _ بحسب مقام الثبوت _ للحرمة سنخان: حرمة تنجیزیة، وحرمة مشروطة تعلیقیة بحیث تکون للحرمة فعلیة قبل حصول الشرط وفعلیة القید لیقال: إن المستصحب فی موارد الاستصحاب التعلیقی ذلک السنخ من الحرمة. نعم، فیما کان الشک فی بقاء الجعل ثبوتاً أو اختصاصه بزمان کما فی النسخ الشرعی بحیث لا یکون للعنب بعد ذلک الزمان حرمة عند غلیانه فهذا یدخل فی الاستصحاب عند الشک فی النسخ، ویأتی الکلام فیه فی بحث الاستصحاب فی الأحکام الثابتة فی الشرایع السابقة، وهذا الاستصحاب أمر آخر لا یرتبط بالبحث فی المقام، والاستصحاب عند الشک فی النسخ راجع إلی بقاء الحکم المجعول فی مقام جعله بحسب عمود الزمان، وفی المقام الشک فی سعة الحکم الفعلی السابق بحیث یعم الموجود الفعلی أی الزبیب فی المثال أو ضیقه مع العلم ببقاء المجعول أولاً بحسب مقام الجعل یقیناً وعدم نسخه بحسب عمود الزمان.

لا یقال: الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة فی ناحیة بقاء الحکم والتکالیف

ص : 287

.··· . ··· .

لا یتوقف علی فعلیة ذلک الحکم والتکلیف وأشغالهما صفحة الوجود فی زمان وإلاّ لم یجر الاستصحاب فی شیء من الشبهات الحکمیة التی یصحح جریانه فیها فرض فعلیة التکلیف والحکم بفرض فعلیة الموضوعات والقیودات لها. فإنه یقال: نعم، یجری الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة بفرض فعلیة التکلیف والحکم بفرض فعلیة الموضوعات لهما والاستصحاب فی الحکم التعلیقی أیضاً یکون بفرض فعلیة الشرط فی المتیقن.

فإنه یقال: فرض فعلیة الموضوع فی الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة إنما یصحح الاستصحاب فیما إذا لم تکن الحالة المشکوکة فی بقاء الحکم منافیة لفرض الفعلیة السابقة بأن یمکن ثبوت الحکم وفعلیته فی الحالة السابقة وبقاء تلک الفعلیة فی الحالة اللاحقة وهذا لا یتحقق فی موارد الاستصحاب التعلیقی؛ لأن الزبیب حالته لا تجتمع مع غلیانه حالة العنب.

ما قیل فی تقریر جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة

ومما تقدم یظهر ما فی کلام بعض الأعلام (طاب ثراه) حیث ذکر ما حاصله أن التعلیق فی المقام یتصور علی أنحاء:

منها _ ما إذا کان ترتب حکم علی موضوع تعلیقیاً بمعنی أن ثبوت الحکم علی الموضوع علی تقدیر حصول أمر کما هو مفاد قوله علیه السلام : «الماء إذا بلغ قدر کر لا ینجسه شیء»(1) أو أنه: إذا غلی العصیر حرم(2) فإن الاعتصام المجعول للماء علی تقدیر

ص : 288


1- (1) الکافی 3 : 2، الباب 2، الماء الذی لا ینجسه شیء.
2- (2) انظر وسائل الشیعة 17 : 229، الباب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.

وتوهم أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق علیه فاختل أحد رکنیه فاسد، فإنّ المعلق قبله إنما لا یکون موجوداً فعلاً، لا أنه لا یکون موجوداً أصلاً، ولو بنحو التعلیق، کیف؟ والمفروض أنه مورد فعلاً للخطاب بالتحریم _ مثلاً _ أو الإیجاب، فکان علی یقین منه قبل طروء الحالة فیشک فیه بعده، ولا یعتبر فی الاستصحاب

حصول الکرّیة فیه وترتب الحرمة علی العصیر علی تقدیر تحقق غلیانه.

ومنها _ ما إذا جعل الحکم لموضوع مقید کما إذا ورد الماء الکر لا ینفعل، وأن العصیر المغلی حرام.

ومنها _ السببیة فی الحرمة بأن یجعل لغلیان العصیر السببیة فی حرمة العصیر، وللکریة السببیة فی اعتصام الماء.

ومنها _ جعل الملازمة بین کریة الماء واعتصامه أو بین غلیان العصیر وحرمته والسببیة والملازمة کل منهما حکم وضعی والحکم الوضعی کالحکم التکلیفی قابل للجعل والتشریع ولا یقاس بالسببیة التکوینیة أو الملازمة التکوینیة وإجراء ما للثانیة علی الاُولی خلط بین التکوین والتشریع.

ثمّ إن الجعل إذا کان بالنحو الأول من الأنحاء الأربعة یکون تعلیق حکم الموضوع علی حصول ذلک الأمر شرعیاً، وعلی تقدیر الجعل بالنحو الثانی یکون تعلیق حکم الموضوع علی حصول ذلک الأمر عقلیاً حیث جعل الحکم علی الموضوع المقید وحیث إن المعتبر فی جریان الاستصحاب فعلیة نفس الیقین والشک ومدلول أخبار الاستصحاب هو أن الیقین لإبرامه لا یرفع الید عنه بالشک ولا یعتبر فیه فعلیة المتیقن والمشکوک بل لابد من کون المستصحب مما له أثر عملی أو ینتهی إلی الأثر العملی فورود الخطاب بأنه إذا غلی العصیر یحرم مع کونها قضیة تعلیقیة ولا یتضمن حکماً فعلیاً عملیاً إلاّ أن مقتضی الاستصحاب بقاء القضیة

ص : 289

.··· . ··· .

التعلیقیة حال صیرورته زبیباً، وبقاؤها ینتهی إلی الأثر العملی حیث تترتب الحرمة علی الزبیب بغلیانه، ولا یکون هذا من الأصل المثبت؛ لأن ترتب الحرمة علی العنب والزبیب بالغلیان شرعی، ولا یعتبر فی الاستصحاب أزید من ذلک. ودعوی رجوع تحریم العصیر علی تقدیر غلیانه فی الحقیقة إلی جعله للعصیر المغلی خلاف الفهم العرفی؛ لأن الغلیان فی النحو الأول واسطة فی الثبوت فی التحریم، وفی الثانی واسطة فی العروض ولو فرض اتحادهما بنظر العقل فإنه لا یمنع من الاستصحاب؛ لأن العبرة فی جریانه بالنظر العرفی لا العقلی بل لو فرض رجوعهما إلی أمر واحد فیمکن أیضاً جریان الاستصحاب فی بقاء العنب بعد صیرورته زبیباً فی کونه جزءاً لموضوع الحرمة، ولا یعتبر فی جریان الاستصحاب کون شیء تمام الموضوع أو الحکم الشرعی الفعلی.

ثمّ ذکر أن السببیة والملازمة وإن یمکن جعلها شرعاً ویجری الاستصحاب فیهما بعد صیرورة العنب زبیباً إذ معنی الاستصحاب ومقتضاه التوسعة فی السببیة والملازمة وعدم اختصاصهما بحال العنب إلاّ أن ترتب الحرمة علی الزبیب بعد غلیانه لا تثبت بهذا الاستصحاب حیث إن حصول المسبب أو اللازم بوجود السبب والملازمة عقلی إلاّ أن یفسر الملازمة بترتب الحرمة علی العنب أو الزبیب بعد غلیانهما فیکون هذا رجوعاً عن المبنی یعنی کون المجعول نفس الملازمة والسببیة.

فی الجواب عما قیل فی جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة

أقول: قد تقدم عند التکلم فی الحکم الوضعی أن جعل السببیة لشیء بالإضافة إلی حکم تکلیفی بل وضعی غیر معقول حیث إن الحکم أمر جعلی اختیاری فیحتاج ثبوته لموضوعه إلی الجعل والإنشاء فإن اُرید من سببیة غلیان العصیر أو العنب

ص : 290

إلاّ الشک فی بقاء شیء کان علی یقین من ثبوته، واختلاف نحو ثبوته لا یکاد یوجب تفاوتاً فی ذلک.

وبالجملة: یکون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدلیل علی الحکم فیما أهمل أو أجمل، کان الحکم مطلقاً أو معلقاً، فببرکته یعم الحکم للحالة الطارئة اللاحقة کالحالة السابقة، فیحکم _ مثلاً _ بأن العصیر الزبیبی یکون علی ما کان علیه سابقاً فی حال عنبیّته، من أحکامه المطلقة والمعلّقة لو شک فیها، فکما یحکم ببقاء

لحرمتها أن بالغلیان یحدث فی تناول العصیر والعنب مفسدة تدعو إحرازه الحاکم إلی جعل الحرمة فهذا یکون بالتکوین لا بالجعل الشرعی بلا فرق بین أن یکون الموجد للمفسدة نفس الغلیان أو کان الغلیان یستلزم حصولها وإن اُرید بالسببیة أن حدوث الغلیان للعصیر بعد جعل السببیة توجب حدوث الحرمة بلا إنشاء الحرمة بأن تکون الحرمة من الاُمور القهریة فهذا أمر غیر معقول؛ لأن الأثر الإنشائی لا یوجد إلاّ بالإنشاء ولو کان إنشاؤه من قبل بنحو القضیة الحقیقیة، وإن اُرید من السببیة جعل الحرمة للعصیر عند غلیانه فهذا یرجع إلی جعل الحرمة للعصیر أو العنب بأحد النحوین الأولین، ومرجعهما إلی جعل الحرمة للعصیر باعتبار أن غلیانه قید لحرمته أو لموضوعها وذکرنا أن الخطاب إذا تضمن ثبوت الحرمة للعصیر أو العنب فقد یکون الغلیان فی ذلک الخطاب قیداً لنفس الحرمة کما هو مدلول قوله: العصیر إذا غلی یحرم، وقد یکون قیداً لنفس العصیر کما إذا قال: العصیر المغلی حرام، ولکن هذا الاختلاف إنما هو فی المدلول الاستعمالی ومقام الإثبات، وأما بالإضافة إلی مقام الثبوت لا اختلاف بین الفرضین وهو کون الحرمة مجعولة للعصیر عند غلیانه فلا یکون الحرمة المجعولة بالإضافة إلی عصیر أو عنب لا غلیان فیه، وإنما یکون اختلاف الخطابین فی المدلول الاستعمالی فقط حیث إنه إذا اُخذ الغلیان قیداً

ص : 291

ملکیّته یحکم بحرمته علی تقدیر غلیانه.

إن قلت: نعم، ولکنه لا مجال لإستصحاب المعلق لمعارضته باستصحاب ضده المطلق[1] فیعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصیر باستصحاب حلیّته المطلقة.

الموضوع فلا یکون له مفهوم بناءً علی الصحیح من عدم المفهوم للوصف، بخلاف ما أخذ فی الخطاب شرطاً لنفس الحرمة من غیر ذکر عدل له فإن مقتضاه ثبوت دلالة اُخری للخطاب المسمی بالمفهوم وإذا ظهر أن العصیر أو العنب الذی لم یحدث له غلیان لم یجعل له حرمة، ومجری الاستصحاب کما ذکرنا هو الحکم الثابت فی مقام الثبوت فی الحالة السابقة تکون نتیجة ذلک أن الزبیب الفعلی عند کونه عنباً لم یکن لا تمام الموضوع للحرمة ولا جزأه إذ لم یحدث فیه غلیان وإلاّ لم یمکن أن یصیر زبیباً فکیف یصح أن یقال یستصحب جزئیته لموضوع الحرمة بعد صیرورته زبیباً.

[1] هذه هی الجهة الثانیة وهی دعوی أن استصحاب الحرمة التعلیقیة للعنب مثلاً بعد صیرورته زبیباً یعارضه الاستصحاب فی ناحیة حلیة الزبیب التی کانت قبل غلیانه فإن مقتضاه بقاؤها بعد غلیانه أیضاً، وقد أجاب الشیخ والنائینی بأن الاستصحاب فی الحرمة التعلیقیة وثبوتها حال الزبیب أیضاً حاکم علی الاستصحاب فی حلیة الزبیب؛ لأن الشک فی حلیة الزبیب بعد غلیانه مسبب عن الشک فی بقاء الحرمة التعلیقیة التی کانت عند کونه عنباً، ولکن لا یخفی أن الاستصحاب فی ناحیة الحرمة التعلیقیة مقتضاه فعلیة الحرمة للزبیب عند غلیانه، وأما ارتفاع حلّیة الزبیب عند غلیانه فهو لازم عقلی لبقاء تلک الحرمة التعلیقیة؛ لأن الزبیب کسائر الأشیاء لا یمکن أن یکون بعد غلیانه حراماً وحلالاً، وإذا ثبتت حرمته ترتفع حلیته، وإذا ثبتت حلیته لا یمکن أن تثبت حرمته. وبتعبیر آخر مجرد کون الشک فی شیء موجباً

ص : 292

.··· . ··· .

للشک فی شیء آخر لا یوجب أن یکون بین الشیئین ترتب شرعی بأن یکون التعبد بأحدهما أو بالعلم بأحدهما موجباً لرفع الشک عن الآخر بل التسبیب الشرعی ینحصر فی موردین:

الأول _ ما إذا کان ثبوت شیء أو عدمه أثراً شرعیاً لثبوت الآخر أو عدمه کترتب طهارة المغسول المتنجس علی طهارة الماء المغسول به.

والثانی _ ما إذا کان مفاد أحد الأصلین الحکم عند الشک فی شیء ومفاد الأصل الآخر نفی الشک فی ذلک الشیء کما فی حکومة الاستصحاب فی حرمة شیء بالإضافة إلی أصالة الحلیة أو أصالة البراءة فی حرمة ذلک الشیء مثلاً إذا شک فی بقاء العصیر علی حرمته بعد غلیانه وصیرورته دبساً قبل ذهاب ثلثیه حیث إن مقتضی الاستصحاب العلم بحرمته فلا یبقی موضوع لأصالة الحلیة أو البراءة عن حرمته حیث إن مفاد القاعدة أو البراءة حلیة المشکوک ورفع الاحتیاط عن احتمال الحرمة لا العلم بالحلیة، ولذا یعتبر فی هذا القسم من الحکومة اختلاف الأصل الحاکم والأصل المحکوم فی السنخ، وفی غیر ذلک یقع التعارض بین الأصلین وان کان الشک فی أحدهما موجباً للشک فی الآخر إذا لم یکن بین المشکوکین ترتب شرعی کما فی ما نحن فیه حیث إن التعبد بالحلیة الفعلیة بعد غلیان الزبیب لا یجتمع مع التعبد بحرمته الفعلیة بعده.

وأجاب الماتن قدس سره عن المعارضة بأن الحلیة الثابتة للزبیب قبل غلیانه بعینها هی الحلیة الثابتة للعنب قبل غلیانه غایة الأمر أن الحلیة للعنب قبل غلیانه وحرمته بعد غلیانه کانتا بدلالة الدلیل ولکن الحلیة للزبیب ما لم یغل وحرمته بعد غلیانه کانتا

ص : 293

.··· . ··· .

بالاستصحاب فی الحلیة والحرمة المعلقة وثبوتها حال الزبیب، ومن الظاهر عدم المنافاة بین الاستصحاب فی کل منهما مع الاستصحاب فی الاُخری ولو فرض أنهما کانتا مدلولی الخطابین کنا نأخذ بکلا الخطابین بلا منافاة بینهما وعلی ذلک فمقتضی ثبوت الحلیة للزبیب ما لم یغل ارتفاعها بعد غلیانه حیث إن ارتفاعه عنده أثر شرعی لکون الحلیة مغیاة بعدم الغلیان کما أن مقتضی الاستصحاب فی ناحیة الحرمة المعلقة بالغلیان حصولها بحصول الغلیان، وبتعبیر آخر الحلیة للزبیب قبل غلیانه وإن کانت متیقنة إلاّ أنها مرددة بین أن تکون هی الحلیة التی کانت له عند کونه عنباً وبین کونها الحلیة المطلقة الاُخری والاستصحاب فی بقاء تلک الحلیة التی کانت له عند کونه عنباً وعدم حدوث حلیة اُخری فیه مقتضاه ارتفاع حلیته بالغلیان فیکون ارتفاع الحلیة عنه بحصول الغلیان من ارتفاع الحکم بارتفاع موضوعه نظیر إثبات ارتفاع الحدث لمن کان محدثاً بالأصغر ثمّ خرج منه بلل مردد بین البول والمنی بالوضوء حیث إن ارتفاعه بالوضوء مقتضی الاستصحاب فی بقاء حدثه السابق وعدم تبدله بالجنابة.

لا یقال: المستصحب بعد غلیان الزبیب هی الحلیة المتیقنة الثابتة له قبل الغلیان وتلک الحرمة مرددة بین کونها هی التی کانت له عند کونه عنباً أی الحلیة المغیاة وبین کونها هی الحلیة المطلقة الحادثة عند کونه زبیباً فالمستصحب هو الجامع بنحو الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی.

فإنه یقال: لا مجال فی المقام للاستصحاب بنحو الکلی من القسم الثانی بل الاستصحاب یجری فی نفس الحلیة التی کانت له عند کونه عنباً حیث یحتمل بقاؤها عند کونه زبیباً أو تبدلها بحلیة اُخری مطلقه ومقتضی الاستصحاب بقاؤها

ص : 294

.··· . ··· .

علی ما کانت وعدم تبدلها بغیرها نظیر ما ذکرنا فی مثل احتمال تبدل الحدث الأصغر بالأکبر.

لا یقال: إذا جری الاستصحاب فی ناحیة الحلیة التی کانت للزبیب حال کونه عنباً وأحرز أن تلک الحلیة ثابتة أیضاً فی الزبیب ما دام لم یغل بالاستصحاب فیحکم بعدم حلیته بعد غلیانه ولا حاجة إلی إتعاب النفس فی استصحاب الحرمة التعلیقیة التی کانت له حال العنب لیقال: إن الاستصحاب فی تلک الحرمة غیر جار لعدم فعلیة الحرمة حال کونه عنباً لیجری الاستصحاب فیها عند کونه زبیباً.

فإنه یقال: الاستصحاب فی ناحیة الحلیة المغیّاة بالغلیان غایته إحراز عدم الحلیة بعد غلیانه، ولکنه لا یثبت حرمته بالغلیان حیث إن الحلیة الثابتة للعنب قبل غلیانه کانت الحلیة بالمعنی الأخص لا الحلیة المقابلة للحرمة. نعم، یمکن أن یقال: لا مجال للاستصحاب فی الحلیة بعد صیرورة العنب زبیباً؛ لأن حلیته بعد صیرورته زبیباً ما لم یغل یقینیة ولکن الاستصحاب فی الحرمة التعلیقیة بعد صیرورته زبیباً جارٍ ومقتضی هذا الاستصحاب العلم بحرمة الزبیب بغلیانه فلا یبقی شک فی حرمته وحلیته بعد غلیانه لیجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء حلیته.

ثمّ إن الشیخ قدس سره ذکر فی الرسالة جریان الاستصحاب فی ناحیة حرمة العصیر بعد صیرورته عصیراً زبیبیاً مع کون المستصحب حرمة تعلیقیة والتزم بأن هذا الاستصحاب یقتضی حرمة العصیر الزبیبی بعد غلیانه، ولا یعارضه الاستصحاب فی الحلیّة الفعلیة الثابتة للعصیر الزبیبی قبل غلیانه بل یقدم الأول علی الثانی، وذکر فی بحث أصالة اللزوم فی العقود فی المکاسب أن الاستصحاب فی بقاء الأثر وإن کان یقتضی اللزوم إلاّ أنه لا یجری فی مثل عقد المسابقة مما لا یتضمن أثراً فعلیاً بأن

ص : 295

.··· . ··· .

یکون أثره أمراً تعلیقیاً لکون العوض ملکاً للسابق مع فعلیة سبقه أو ملکاً للموصی له علی تقدیر موت الموصی إلی غیر ذلک فإنه یجری بعد فسخ أحد المتعاقدین وتحقق ما علق علیه الأثر الاستصحاب فی ناحیة عدم الأثر، ولا یخفی أن ما ذکره فی المکاسب متهافت مع ما ذکره فی الرسالة مع أنه لابد فی مورد الشک فی انفساخ العقد بفسخ أحد المتعاقدین من جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء العقد.

هذا کله بالإضافة إلی جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة، وأما بالإضافة إلی التعلیق فی الموضوعات سواء کان مقتضی الاستصحاب الجاری فی الموضوع التعلیقی إحراز حکم کما إذا علم بأن الماء الخارجی بحیث لو أضیف إلیه دلو من الماء لکان کراً ویشک فی بقائه علی ما کان فیراد إثبات کریته بعد إضافة الدلو لیترتب علیه اعتصامه أو کان الاستصحاب لإحراز سقوط التکلیف بإحراز حصول متعلقه خارجاً کما إذا کان المصلی قبل لبسه اللباس المشکوک فیه بحیث لو صلی لما کانت صلاته فی غیر مأکول اللحم وبعد لبسه یشک فی کون صلاته کما کانت فلا مجری للاستصحاب فی شیء من الموردین حتی بناءً علی جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة وذلک فإن التعبد بالقضیة التعلیقیة فی موارد الأحکام التعلیقیة یقتضی فعلیة ذلک الحکم بفعلیة المعلق علیه بنحو العینیة ولیس الأمر کذلک فی الموضوعات التعلیقیة؛ لأن الحکم الشرعی لم یترتب علی الأمر التعلیقی بحسب جعل الشارع بل لموضوعه الفعلی الذی یکون تحققه أمراً قهریاً بتحقق المعلق علیه فیما إذا کانت لتلک القضیة التعلیقیة واقعیة والاستصحاب لا یصحح الواقعیة الفعلیة بقاءً إذا کان غیر محرز وجداناً.

ولا یخفی أن کون المثال الثانی من موارد الاستصحاب فی الموضوع التعلیقی

ص : 296

قلت: لا یکاد یضر استصحابه علی نحو کان قبل عروض الحالة التی شک فی بقاء حکم المعلّق بعده، ضرورة أنه کان مغیّیً بعدم ما علق علیه المعلّق، وما کان کذلک لا یکاد یضر ثبوته بعده بالقطع فضلاً عن الاستصحاب، لعدم المضادّة بینهما، فیکونان بعد عروضها بالاستصحاب کما کانا معاً بالقطع قبل بلا منافاة

مبنی علی کون المطلوب الصلاة مقیدة بعدم وقوعها فی أجزاء ما لا یوءکل(1) لحمه وتوابعه کما هو ظاهر النهی عن الصلاة فیما لا یوءکل وأما لو بنی بالصلاة لم تتقید بعدم وقوعها فیما لا یوءکل بل هی مقیدة بکون المصلی لو کان لابساً یعتبر فی ذلک اللباس والمحمول أن لا یکون مما لا یوءکل لحمه فلا مورد لتوهم الاستصحاب التعلیقی؛ لأن اللباس أو محموله المفروض کونه من أجزاء الحیوان وتوابعه من أول أمره مردد بین کونه من مأکول اللحم أومن غیره فالاشتراط فی نفس اللباس أو المحمول لا یحرز بذلک الاستصحاب. نعم، لو کان المعتبر والاشتراط فی ناحیة المصلی بأن لا یکون المصلی لابساً لما لا یوءکل فالاستصحاب الجاری تنجیزی ویحرز وصف المصلی فهذه الفروض الثلاثة وإن تکون نتیجتها فی مقام الثبوت أمراً واحداً إلاّ أنه یختلف الحال بحسب مقام الإثبات بحسب جریان الاستصحاب وعدمه.

وذکر النائینی قدس سره فی وجه عدم جریان الاستصحاب التعلیقی فی الموضوعات ومتعلقات التکالیف أنه یعتبر فی جریان الاستصحاب اتحاد القضیة المتیقنة والقضیة المشکوکة ببقاء الجزء المقوم للموضوع فیهما، والجزء المقوم له فی مثال اللباس المشکوک هو الصلاة الواقعیة خارجاً بالفعل وهذه الصلاة التی یشک فی کونها فی غیر المأکول لحمه لم تکن فی السابق لیقال: إنها لم تکن مع غیر مأکول اللحم قبل

ص : 297


1- (1) وسائل الشیعة 3 : 251، الباب 2 من أبواب لباس المصلی.

أصلاً، وقضیة ذلک انتفاء الحکم المطلق بمجرد ثبوت ما علّق علیه المعلّق، فالغلیان فی المثال کما کان شرطاً للحرمة کان غایة للحلّیة، فإذا شک فی حرمته المعلّقة بعد عروض حالة علیه، شک فی حلیّته المغیّاة لا محالة أیضاً، فیکون الشک فی حلیّته أو حرمته فعلاً بعد عروضها متحداً خارجاً مع الشک فی بقائه علی ما

لبس المشکوک واُجیب عن ذلک بأنه وإن یعتبر فی جریان الاستصحاب الموضوع فی القضیتین إلاّ أن المراد من البقاء لیس هو الوجود الخارجی للمستصحب مطلقاً وإلاّ لم یجر الاستصحاب فی ناحیة وجود الشیء وبقاء حیاة زید، بل المراد اتحاد الموضوع فی القضیتین المتیقنة والمشکوکة، ومن الظاهر أن الموضوع فی مثال الصلاة الطبیعی، وأنها لو وقعت قبل لبس المشکوک أو أخذه معه لم یکن الطبیعی فی غیر مأکول اللحم، ومقتضی الاستصحاب أنّ الطبیعی بعد لبسه أو أخذه معه کما کانت.

والحاصل أن متعلقات الأحکام لیست هی الأفراد والوجودات الخارجیة من الطبایع، والفرد الخارجی بما أنه حصول للطبیعی یکون مسقطاً للتکلیف فیقال فی المثال أن التکبیرة إلی التسلیمة لو کانت قبل لبس اللباس المشکوک لکان من إیجاد الطبیعی المتعلق به الوجوب والآن کما کانت وظرف الاستصحاب قبل أن یشرع المکلف بالإتیان بالطبیعی وهذا بناءً علی أن متعلق التکلیف هو المقارن لعدم طبیعی ما لا یوءکل، ولیس المراد عنوان التقارن بل واقعه المعبر عنه بواو الجمع. وأما إذا کانت المانعیة فی غیر مأکول اللحم انحلالیة فالاستصحاب المذکور لا یفید عدم مانعیة المشکوک، ولا یثبت أنه من غیر مأکول اللحم بل لا یفید جریان الاستصحاب فی بقاء الطبیعی کما کان فی إثبات الطبیعی بناءً علی عدم الانحلال أیضاً وذلک فإن الاستصحاب المذکور یعارضه الاستصحاب فی عدم وقوع صلاة فی غیر ما لا یوکل.

ص : 298

کان علیه من الحلیة والحرمة بنحو کانتا علیه، فقضیّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لإستصحاب حلیّته المغیّاة حرمته فعلاً بعد غلیانه وانتفاء حلیته، فإنه قضیة نحو ثبوتهما کان بدلیلهما أو بدلیل الاستصحاب، کما لا یخفی بأدنی التفات علی ذوی الألباب، فالتفت ولا تغفل.

السادس: لا فرق أیضاً بین أن یکون المتیقن من أحکام هذه الشریعة أو الشریعة السابقة، إذا شک فی بقائه وارتفاعه[1] بنسخه فی هذه الشریعة، لعموم

أقول: الصحیح عدم الجریان فی ناحیة عدم تحقق الصلاة ولا فی ناحیة غیره فإن ظاهر خطاب النهی عن الصلاة فیما لا یوءکل لحمه إرشاداً إلی المانعیة انحلالی فکل من أفراد ما لا یوءکل عدم لبسه وعدم مصاحبته قید للصلاة المأمور بها فیدور الأمر فی الصلاة بین أن یتقید بعدم هذا المشکوک أیضاً أو لا یتقید به فیدخل الفرض بین کون الواجب هو المطلق أو المقید، وقد تقدم فی بحث الأقل والأکثر الارتباطیین جریان البراءة فی ناحیة وجوب المشروط کما تجری فی ناحیة عدم وجوب الأکثر.

هذا فیما لم یجر فی ناحیة المشکوک أصل ینقّح خروج المشکوک من أفراد المانع من عدم کونه جزءاً من غیر مأکول اللحم ولو بنحو الاستصحاب بنحو العدم الأزلی وإلاّ فلا تصل النوبة إلی أصالة البراءة.

[1] قد یقال: کما أنه یجری الاستصحاب فی موارد الشک فی نسخ حکم هذه الشریعة علی ما اتفق علیه أصحابنا حتی الأخباریین منهم کذلک یجری فی مورد الشک فی بقاء حکم من الشریعة السابقة فإن أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک یعم کلا الحکمین علی حد سواء، وربما یناقش فی ذلک بعدم الیقین بثبوت الحکم بالإضافة إلی أهل الشریعة اللاحقة، والمتیقن من ثبوته أنه حکم لأهل الشریعة السابقة، وإذا لم یکن یقین بثبوته لأهل الشریعة اللاحقة فلا یکون الشک فی بقائه

ص : 299

أدلّة الاستصحاب، وفساد توهم اختلال أرکانه فیما کان المتیقن من أحکام الشریعة السابقة لا محالة، إما لعدم الیقین بثبوتها فی حقهم، وإن علم بثبوتها سابقاً فی حق آخرین، فلا شک فی بقائها أیضاً، بل فی ثبوت مثلها، کما لا یخفی، وإمّا للیقین بارتفاعها بنسخ الشریعة السابقة بهذه الشریعة، فلا شک فی بقائها حینئذ، ولو سلم الیقین بثبوتها فی حقّهم، وذلک لانّ الحکم الثابت فی الشریعة السابقة حیث کان

أیضاً؛ لأن ما کان متیقناً منه قد انتفی بانقضاء أهل الشریعة السابقة وثبوته لآحاد الشریعة اللاحقة مشکوک من الأول ویناقش أیضاً علی تقدیر العلم بالثبوت لا یکون الشک فی البقاء للعلم بکون الشریعة اللاحقة ناسخة للشریعة السابقة، ولا معنی لنسخها إلاّ نسخ الأحکام الثابتة فی السابقة. وذکر الماتن قدس سره أنه لا مجال لشیء من المناقشتین أما عدم العلم بالحالة السابقة بالإضافة إلینا فیرده بأن الحکم المجعول فی الشریعة السابقة کالمجعول فی شریعتنا کان بنحو القضیة الحقیقیة لا بنحو القضیة الخارجیة وإذا کان المجعول کذلک فلا یختلف الحکم المجعول باختلاف الأشخاص وتبدلهم فحرمة شرب الخمر علی البالغ العاقل لا تنقضی بانقضاء الموجودین فی زمان الجعل بل تبقی وتثبت فی حق کل مکلف فی ظرف بلوغه وعقله ولو فی آخر الزمان، وقد تقدم أن الاستصحاب فی بقاء الحکم المجعول وعدم إلغائه وانتهائه وإحرازه بفعلیة موضوعه لا یکون من الأصل المثبت، وعلی الجملة الاستصحاب فی الحکم الثابت فی الشریعة السابقة کالاستصحاب فی بقاء الحکم المجعول فی شریعتنا عند الشک فی بقائه واحتمال نسخه داخل فی عموم أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک.

أقول: کون الحکم المجعول فی الشریعة السابقة کالمجعول فی الشریعة اللاحقة بنحو القضیة الحقیقیة دون القضیة الخارجیة صحیح إلاّ أن إثبات أن

ص : 300

ثابتاً لأفراد المکلف، کانت محققة وجوداً أو مقدّرةً، کما هو قضیة القضایا المتعارفة المتداولة، وهی قضایا حقیقیّة، لا خصوص الأفراد الخارجیّة، کما هو قضیة القضایا الخارجیة، وإلاّ لما صح الاستصحاب فی الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة، ولا النسخ بالنسبة إلی غیر الموجود فی زمان ثبوتها، کان الحکم فی الشریعة السابقة ثابتاً لعامّة أفراد المکلّف ممن وجد أو یوجد، وکان الشک فیه

الموضوع فی ذلک الجعل بحیث یعم أهل الشریعة اللاحقة وعدم کونه بحیث ینتهی أمد الجعل بمجیء الشریعة اللاحقة غیر محرز لنا إذ من المحتمل کما أن الموضوع لوجوب الحج المجعول بنحو القضیة الحقیقیة البالغ المستطیع ولا یعم غیر المستطیع کذلک یحتمل کون الموضوع للحکم المجعول فی الشریعة السابقة البالغ العاقل قبل مجیء الشریعة اللاحقة فیکون الحکم من الأول مجعولاً بحیث لا یکون موضوعه مطلق البالغ العاقل بل من یکون کذلک قبل مجیء الشریعة اللاحقة، وبما أن المتیقن ثبوت الحکم المجعول کذلک فلا یکون ذلک الحکم مجعولاً بالإضافة إلی أهل الشریعة اللاحقة، وهذا القید بما أنه یحتمل کونه قیداً مقوماً للموضوع فالمتعین فی المقام الاستصحاب فی عدم جعله لعنوان عام ویجری مثل هذا الکلام فی الاستصحاب فی الحکم الثابت فی أول شریعتنا ولذا یتمسک فی إحراز عموم الأحکام الثابتة فی صدر الإسلام بإطلاقات خطابات الأحکام وبالضرورة فی الاشتراک فی التکلیف وأن حکمه صلی الله علیه و آله علی واحد حکم علی الاُمة.

وأما المناقشة بدعوی العلم بارتفاع الحکم السابق الثابت فی الشریعة السابقة لکون اللاحقة ناسخة لها ولا معنی لنسخ الشریعة إلاّ ارتفاع أحکامها فلا یمکن المساعدة علیها لأن نسخ الشریعة السابقة لیس بمعنی نسخ جمیع أحکامها کیف واللاحقة مکملة للسابقة ومتممة لها، وهذا لا یقتضی إلاّ نسخ بعض أحکامها والعلم

ص : 301

کالشک فی بقاء الحکم الثابت فی هذه الشریعة لغیر من وجد فی زمان ثبوته، والشریعة السابقة وإن کانت منسوخة بهذه الشریعة یقیناً، إلاّ أنه لا یوجب الیقین بإرتفاع أحکامها بتمامها، ضرورة أن قضیّة نسخ الشریعة لیس ارتفاعها کذلک، بل عدم بقائها بتمامها، والعلم إجمالاً بارتفاع بعضها إنما یمنع عن استصحاب ما شک فی بقائه منها، فیما إذا کان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً، لا فیما إذا لم یکن من أطرافه، کما إذا علم بمقداره تفصیلاً، أو فی موارد لیس المشکوک منها، وقد علم بارتفاع ما فی موارد الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة.

الإجمالی بوقوع النسخ فی السابقة لا یمنع عن جریان الاستصحاب فی الحکم الثابت فی السابقة لانحلال المعلوم بالإجمال إما بالعلم التفصیلی بمقدار من الأحکام المنسوخة واحتمال انحصار النسخ علیها أو العلم الإجمالی بالنسخ فیما لا یدخل المشکوک فی أطرافه کما إذا علم بوقوع النسخ فی العبادات من الشریعة السابقة ولم یکن المشکوک کان من غیر حکم العبادات أو للعلم بثبوت أحکام فی هذه الشریعة فلابد من العمل بها سواء کانت بعضها من قبل أو شرعت فی شریعتنا ویحتمل أن یکون النسخ المعلوم بالإجمال فیها فلا یکون فی الشریعة السابقة نسخ آخر فیجری الاستصحاب فی المشکوک، وما فی عبارة الماتن قدس سره من اعتبار العلم بالنسخ فی موارد الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة فی انحلال العلم الإجمالی لا یمکن المساعدة علیه حیث یکفی فی الانحلال احتمال انحصار المنسوخ المعلوم بالإجمال فی تلک الموارد ولا یلزم حصول العلم.

وقد أجاب الشیخ قدس سره عن المناقشة الاُولی أی دعوی عدم العلم بحدوث الحکم بالإضافة إلی أهل الشریعة اللاحقة بأمرین:

الأول _ أن الحکم کان ثابتاً فی الشریعة السابقة للجماعة علی نحو لم یکن

ص : 302

ثم لا یخفی أنه یمکن إرجاع ما أفاده شیخنا العلامة _ أعلی اللّه فی الجنان مقامه _ فی ذب اشکال تغایر الموضوع فی هذا الاستصحاب من الوجه الثانی إلی ما ذکرنا، لا ما یوهمه ظاهر کلامه، من أن الحکم ثابت للکلی، کما أن الملکیة له فی مثل باب الزکاة والوقف العام، حیث لا مدخل للأشخاص فیها، ضرورة أن التکلیف والبعث أو الزجر لا یکاد یتعلق به کذلک، بل لا بدّ من تعلقه بالأشخاص، وکذلک

لأشخاصهم دخل فی ذلک الحکم، وقد فهم بعض من کلامه هذا بأن مراده کما أن الملکیة فی الزکاة لطبیعی الفقیر، وملکیة العین فی الوقف العام للعنوان لا للأشخاص کذلک الحکم فی الشریعة السابقة کان للطبیعی لا الأشخاص فیستصحب ثبوت الثابت للطبیعی ولو بعد انقضاء أهل الشریعة السابقة؛ ولذا اُورد علیه بأن ثبوت الحکم الوضعی للطبیعی أمر معقول، وأما توجه التکلیف إلی مجرد العنوان دون الاشخاص فغیر معقول لعدم قبول الطبیعی بمجرده بعثاً أو زجراً ولکن الظاهر أن مراد الشیخ کما ذکر الماتن قدس سره من کون الحکم الثابت فی الشریعة السابقة کان بنحو القضیة الحقیقیة لا الخارجیة وقد ذکرنا أن مجرد الالتزام بکونه ثابتاً بنحو القضیة الحقیقیة غیر کاف أیضاً فی ثبوت الحالة السابقة، وأنه لا یمکن لنا إحراز عدم أخذ قید فی موضوعه ککونه للبالغ العاقل قبل مجیء الشریعة اللاحقة لیکون الشک فی بقائه بالإضافة إلینا لا فی أصل ثبوته فی حقنا.

نعم، یمکن فرض الحالة السابقة فی حق اللاحق بنحو التعلیق فی الموضوع وأن اللاحق لو کان فی السابق لکان داخلاً فی الموضوع یقیناً، ولکن تقدم عدم اعتبار الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة فی خطاب الشارع فضلاً عن الموضوعات التعلیقیة التی تدخل فی حکم العقل مع فرض المعلق علیه وبدون فرضه لا حکم له أصلاً.

ص : 303

الثواب أو العقاب المترتّب علی الطاعة أو المعصیة، وکان غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصّة، فافهم.

وأما ما أفاده من الوجه الأوّل، فهو وإن کان وجیها بالنسبة إلی جریان الاستصحاب فی حق خصوص المدرک للشریعتین، إلاّ أنه غیر مجد فی حق غیره من المعدومین، ولا یکاد یتم الحکم فیهم، بضرورة اشتراک أهل الشریعة الواحدة أیضاً، ضرورة أن قضیة الإشتراک لیس إلاّ أن الاستصحاب حکم کلّ من کان علی یقین فشک، لا أنه حکم الکل ولو من لم یکن کذلک بلا شک، وهذا واضح.

والثانی _ الذی أجاب به عنها بأنه یستصحب الحکم فی حق المدرک للشریعتین وبعد إحراز ثبوته فی حقه وبقائه یثبت فی حق الآخرین من أهل الشریعة اللاحقة لضرورة الاشتراک فی التکلیف، وأنه إذا ثبت فی حق أحد من أهل الشریعة اللاحقة یثبت فی حق الآخرین أیضاً وفیه أن الاشتراک فی حق أهل الشریعة إنما فیما کان الثابت لبعض أهل الشریعة بعنوان یشترک الباقین معه فی ذلک العنوان، ولا یعم ما إذا اختصّ العنوان بذلک البعض ففی المثال الثابت لمدرک الشریعتین بعنوان کونه متیقناً بثبوت الحکم فی حقه ویشک فی بقائه، وهذا العنوان لا یجری فی حق الآخرین، ولا یختلف الحال بین کون المتمسک بالاستصحاب هو نفس مدرک الشریعتین أو کنا أردنا الإجزاء فإن ثبوت الحکم فی حقه بما أن للحکم بالإضافة إلیه حالة سابقة ولسنا نحن علی هذه الخصوصیة.

وقد ذکر النائینی قدس سره أنه یلزم فی اتباع الحکم الثابت فی الشریعة السابقة أنه مما أبلغه الصادع بالشریعة اللاحقة ولا یثبت ذلک بالاستصحاب وأن الحکم المفروض مما أمضاه الشارع للشریعة اللاحقة وفیه:

__ أنه إن اُرید بالإمضاء الإبلاغ کما هو مقتضی استدلاله علی الإمضاء

ص : 304

السابع: لا شبهة فی أن قضیة أخبار الباب[1] هو إنشاء حکم مماثل للمستصحب فی استصحاب الأحکام، ولأحکامه فی استصحاب الموضوعات،

بقوله صلی الله علیه و آله : «ما من شیء یقربکم من الجنة ویباعدکم من النار إلاّ وقد أمرتکم به، وما من شیء یقربکم من النار ویباعدکم من الجنة إلاّ وقد نهیتکم عنه»(1) فمع عموم خطابات الاستصحاب وشمولها للحکم الثابت فی الشریعة السابقة یحصل إبلاغه وإمضاؤه.

__ وإن اُرید الإبلاغ بخطاب یخص ذلک الحکم بعینه فلا دلیل علی اعتباره فی لزوم العمل بالحکم.

[1] ذکر الماتن قدس سره فی هذا الأمر عدم اعتبار الأصل المثبت ومنه عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلی مثبتاته بخلاف الطرق والأمارات حیث إنها معتبرة حتی بالإضافة إلی مثبتاته، وذکر فی تقریر ذلک أن المستفاد من أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک فیما إذا کان المستصحب نفس الحکم الشرعی سواء کان تکلیفیاً أو وضعیاً جعل نفس ذلک الحکم فی ظرف الشک وحیث إن المجعول فی ظرف الشک حکم ظاهری یکون مماثلاً للحکم الذی یکون المکلف علی یقین منه حدوثاً فیترتب علی الحکم الظاهری أثره الشرعی والعقلی فالأول کما إذا کان نفس ذلک الحکم موضوعاً لحکم شرعی آخر، والثانی کوجوب الإطاعة الذی یترتب علی إحراز التکلیف سواء کان واقعیاً أو ظاهریاً بمعنی أنه یترتب علی مخالفته استحقاق العقاب کما أن مقتضی أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک فی الاستصحاب الجاری فی الموضوعات جعل حکم مماثل لحکم المستصحب، ولکن لا یخفی بما أن

ص : 305


1- (1) وسائل الشیعة 12 : 27، الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة، الحدیث 2.

کما لا شبهة فی ترتیب ما للحکم المنشأ بالإستصحاب من الآثار الشرعیة والعقلیة، وإنما الإشکال فی ترتیب الآثار الشرعیة المترتبة علی المستصحب بواسطة غیر شرعیة عادیة کانت أو عقلیةً، ومنشأه أن مفاد الأخبار: هل هو تنزیل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة، أو تنزیله بلوازمه

الحکم الظاهری المجعول والمنکشف من أخبار الاستصحاب طریقی یوجب تنجز الواقع فیما أصاب التکلیف الواقعی وتکون موافقته عذراً فیما أوجب موافقته مخالفة التکلیف الواقعی ولکن الماتن قدس سره ذکر فی بحث الإجزاء ما یقتضی کون المجعول بالاستصحاب حکماً نفسیاً یوجب التوسعة فی الواقع کما فی استصحاب الحلیة والطهارة ونحوهما، وقد تعرضنا لما ذکره فی ذلک البحث وقلنا: إنه لا یمکن الالتزام به فالحکومة الواقعیة لا تجری بالإضافة إلی الأحکام الظاهریة بأن یکون جعلها وثبوتها موجباً للتوسعة الواقعیة فی الأحکام الواقعیة ولو بالإضافة إلی شرایط متعلق التکلیف فی العبادات وغیرها.

وکیف کان فلا ینبغی التأمل فیما کان المستصحب بنفسه حکماً شرعیاً یترتب علیه الأثر الشرعی المترتب علیه وأثره العقلی من لزوم رعایته وموافقته وإذا کان من الموضوع لحکم شرعی یترتب علیه ذلک الحکم الشرعی وإنما الکلام فیما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً لا علی نفس ذلک المستصحب من الحکم والموضوع بل کان مترتباً علی لازمه العقلی أو العادی أو ملازمه کذلک ولم یکن ذلک اللازم أو الملازم مما له حالة سابقة فهل یفید الاستصحاب فی ذلک المستصحب فی ترتب الأثر الشرعی المترتب علی لازمه العقلی أو العادی أو علی ملازمه کذلک أم لا؟ ومنشأ الإشکال دلالة أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک علی سعة التنزیل فی تنزیل المشکوک منزلة المتیقن بأن یکون المشکوک منزلته فی مطلق ما للمتیقن من الأثر

ص : 306

العقلیة أو العادیة؟ کما هو الحال فی تنزیل مؤدیات الطرق والأمارات، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناءً علی صحة التنزیل بلحاظ أثر الواسطة أیضاً لأجل أنّ أثر الأثر أثر.

الشرعی ولو بلحاظ لازمه أو ملازمه العقلیین أو العادیین أو أنه ینزله منزلته مع لازمه وملازمه أو أنه لا دلالة لها إلاّ علی تنزیل نفس المشکوک منزلة المتیقن بلحاظ نفسه أو بلحاظ أثره الشرعی فقط فعلی الأولین یکون الاستصحاب معتبراً حتی بالإضافة إلی مثبتاته کالأمارات بخلافة علی الأخیر فإنه لا یعتبر إلاّ بالإضافة إلی إثبات نفسه فیما إذا کان المستصحب حکماً شرعیاً أو إثبات حکمه الشرعی فیما إذا کان من الموضوع للحکم الشرعی، وتظهر الثمرة بین القولین فیما إذا کان للمستصحب لازماً أو ملازماً عقلیاً أو عادیاً علی تقدیره بقائه زمان الشک فقط وإلاّ فلو کان للازمه أو ملازمه حصول فی السابق کنفس المستصحب یکون الاستصحاب جاریاً فی ناحیة نفس اللازم أو الملازم.

أقول: لو کان مفاد أخبار الاستصحاب تنزیل المشکوک منزلة المتیقن السابق فمن الظاهر أنه قد لا یکون الشیء زمان الیقین به ذا أثر شرعی، ویکون علی تقدیر بقائه زمان الشک ذا أثر شرعی ولو کان مفاد أخبار الاستصحاب تنزیل المشکوک منزلة ذات المتیقن السابق فلا تفید شیئاً لعدم ثبوت وجه التنزیل فإن وجه التنزیل هو الأثر الشرعی المترتب علی نفس المتیقن السابق مع أن الماتن قدس سره کغیره یلتزم بجریان الاستصحاب فی مثل هذه الموارد ودعوی أن المنزل علیه هو المتیقن بقاءً بمعنی أن المشکوک الفعلی قد نزل منزلة المتیقن الفعلی مرجعها إلی تنزیل الشک فی البقاء منزلة العلم به، وحیث إن التنزیل بملاحظة الأثر المترتب علی المنزل علیه غیر محتاج إلیه فیما کان المنزل علیه بنفسه قابلاً للجعل والاعتبار ففی الحقیقة یعتبر

ص : 307

.··· . ··· .

العلم بالحالة السابقة علماً ببقائها عند الشک ما لم یعلم الخلاف ویساعد علی ذلک نفس ظواهر أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک؛ لأن مدلولها أن رفع الید عن الیقین بالحالة السابقة عند الشک فی بقائها نقض لذلک الیقین فیترتب علی هذا الاعتبار ما یترتب علی العلم بالبقاء عقلاً وشرعاً من تنجیز الواقع علی تقدیر کون الواقع تکلیفاً أو موضوعاً له وحتی ما إذا کان إحراز الواقع موضوعاً لحکم شرعی آخر حیث إن خلاف العمل علی مقتضی العلم بالواقع وإحرازه نقض للیقین السابق ما لم یعلم خلافه هذا بالإضافة إلی أثر شرعی مترتب علی الواقع وإحرازه ولو بتوسیط أثر شرعی آخر، وکذا بالإضافة إلی الأثر العقلی أی التنجیز والتعذیر المترتب علی إحراز الواقع وجداناً أو تعبداً وأما اللازم العقلی المترتب علی الوجود الواقعی للشیء فقط فلا یثبت بالاستصحاب الجاری فی ناحیة الملزوم وکذا اللازم العادی فإنه لا یترتب أثرهما الشرعی بالاستصحاب فی ناحیة الملزوم حیث إن العلم الاعتباری والتعبدی بالملزوم لا یستلزم العلم بوجود اللازم العقلی أو العادی حتی یترتب بالاستصحاب المفروض أثرهما الشرعی، وترتب أثرهما فیما کان العلم بالملزوم وجدانیاً؛ لأن العلم الوجدانی بالملزوم یوجب العلم بتحقق اللازم العقلی والعادی فیحرز ثانیاً الموضوع للأثر الشرعی المترتب علیهما بخلاف العلم التعبدی بالملزوم فإنه یحرز به العلم بالملزوم فقط وبضمیمة الکبری الدالة علی ثبوت الحکم الشرعی لذلک الملزوم یحرز حکمه وکذا الحکم الشرعی المترتب علی إحراز الحکم الثابت للملزوم فیما کان حکمه أو إحراز حکمه موضوعاً لحکم شرعی آخر وما ذکرنا هو الوجه فی عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلی مثبتاته فلو اغتسل المکلف أو توضأ مع احتمال وجود الحاجب فی بعض أعضاء غسله أو وضوئه فالاستصحاب فی

ص : 308

وذلک لأن مفادها لو کان هو تنزیل الشیء وحده بلحاظ أثر نفسه، لم یترتب علیه ما کان مترتّباً علیها، لعدم إحرازها حقیقةً ولا تعبداً، ولا یکون تنزیله بلحاظه، بخلاف ما لو کان تنزیله بلوازمه، أو بلحاظ ما یعم آثارها، فإنه یترتب باستصحابه ما کان بوساطتها.

والتحقیق أن الأخبار إنما تدل علی التعبد بما کان علی یقین منه فشک، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحکامه، ولا دلالة لها بوجه علی تنزیله بلوازمه التی لا یکون

عدم وجود الحاجب لا یثبت غسل تمام أعضاء غسله أو وضوئه والاستصحاب فی بقاء حیاة زید إلی زمان قطع رأسه لا یثبت أنه مقتول إلی غیر ذلک، ومن یلتزم باعتبار الاستصحاب حتی بالإضافة إلی مثبتاته فلابد من أن یلتزم بأن تحقق الشیء فی زمان أمارة علی بقائه زمان الشک، وهذه الأمارة معتبرة کسائر الأمارات التی تثبت لوازمها العقلیة والعادیة أو یلتزم بأن اعتبار الاستصحاب مستفاد من أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک ولکن الأثر الشرعی المترتب علی اللازم العقلی أو العادی یعد أثراً شرعیاً للملزوم کسائر الآثار الشرعیة المترتبة علیه أو یلتزم بأن تلک الأخبار ظاهرة فی بقاء المتیقن حتی بلوازمها العقلیة أو العادیة زمان الشک، ولکن ضعف هذه الالتزامات ظاهر مما ذکرنا فلا نعید ثمّ علی تقدیر القول باعتبار الأصل المثبت تظهر ثمرة الخلاف فیما إذا کان اللازم العقلی أو العادی لازماً لبقاء المستصحب زمان الشک وإلاّ فلو کان اللازم لازماً من حین تحقق الملزوم فیجری الاستصحاب فی ناحیتهما کما یجری فی ناحیة الملزوم فلا تظهر ثمرة عملیة.

فی عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلی اللازم العقلی والعادی والمعارضة بین الاستصحابین علی تقدیر القول به

ثمّ إنه قد یقال: إن اللازم العقلی إذا کان لازماً لبقاء المستصحب فقط وکذا اللازم

ص : 309

کذلک، کما هی محل ثمرة الخلاف، ولا علی تنزیله بلحاظ ماله مطلقاً ولو بالواسطة، فإن المتیقن إنما هو لحاظ آثار نفسه، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناک علی لحاظها أصلاً، وما لم یثبت لحاظها بوجه أیضاً لما کان وجه لترتیبها علیه باستصحابه، کما لا یخفی.

العادی فالاستصحاب فی ناحیة عدم تحققهما زمان الشک یعارض الاستصحاب فی ناحیة بقاء الملزوم فیسقط اعتبار المستصحب بالإضافة إلی ما یترتب علی لازمه العقلی أو العادی لمعارضته بالاستصحاب فی ناحیة عدم اللازم العقلی أو العادی.

وأجاب الشیخ قدس سره عن المعارضة بأن الاستصحاب فی ناحیة الملزوم حاکم علی الاستصحاب فی ناحیة عدم اللازم العقلی أو العادی، ولکن لا یخفی أن دعوی الحکومة صحیحة علی تقدیر الالتزام بأماریة الاستصحاب؛ لأن العلم بحدوث الملزوم سابقاً إذا کان مفیداً للظن بالبقاء نوعاً أو شخصاً کان مفیداً للظن بحدوث لازمه العقلی والعادی أیضاً، وکما أن العلم ببقائه یوجب العلم بحدوثهما کذلک الظن به إذا کان الشخص ملتزماً بأن الأثر الشرعی المترتب علی اللازم العقلی أو العادی یعد من أثر الشرعی للملزوم أیضاً بدعوی أن أثر الأثر أثر، وهذه الدعوی وإن کانت سخیفة فإن ما ذکر إنما هو فی ترتب الآثار الشرعیة بعضها علی بعض لا بالإضافة إلی المترتب علی الأثر التکوینی المترتب علی الملزوم تکویناً إلاّ أنه علی فرض صحتها الجواب بالحکومة غیر صحیح؛ لأن جریان الاستصحاب فی الملزوم لا یکون علماً بحصول اللازم العقلی أو العادی بل یعد علماً بما یترتب علی هذا اللازم العقلی أو العادی إذا لم یکن فی البین تعارض، ولکن یکون الاستصحاب فی عدم حدوث اللازم العقلی أو العادی نافیاً لذلک الأثر المترتب علیها وهذا معنی المعارضة بین الاستصحابین بالإضافة إلی ذلک الأثر الشرعی الذی یکون أثر اللازم العقلی أو

ص : 310

نعم لا یبعد ترتیب خصوص ما کان محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته] 1]، بدعوی أن مفاد الأخبار عرفاً ما یعمه أیضاً حقیقة، فافهم.

العادی ویعد من أثر ملزومهما أیضاً. نعم، لو بنی أن مفاد أخبار لا تنقض تنزیل المشکوک منزلة المتیقن الفعلی بمعنی کونه علماً بالإضافة إلی نفس الملزوم ولازمه العقلی والعادی فلا یبقی للاستصحاب فی ناحیة عدم اللازم العقلی أو العادی موضوع فدعوی الحکومة حینئذٍ لا بأس بها لإحراز نفس اللازم العقلی أو العادی بالاستصحاب فی ناحیة المتیقن السابق یعنی الملزوم.

[1] قد ذکر الشیخ قدس سره فی الرسائل اعتبار الأصل المثبت فی مورد خفاء الواسطة وفسره بما إذا کان الأثر الشرعی، وإن کان مترتباً علی الواسطة إلاّ أن العرف یرون ذلک الأثر أثراً لما له حالة سابقة، ومثل لذلک بما إذا شک فی الرطوبة المسریة لأحد المتلاقیین فإن الاستصحاب فی بقاء تلک الرطوبة یفید تنجس الطاهر منهما حیث إن العرف یری أن ملاقاة الطاهر مع النجس بالرطوبة المسریة موضوعاً لتنجس الطاهر مع أن الموضوع لتنجس الطاهر تأثره برطوبة المتنجس، وکذا فیما إذا شک فی وجود الحاجب فی بعض أعضاء الوضوء أو الغسل فإن صب الماء علی أعضائهما مع عدم الحاجب المحکوم بعدمه وإیصاله إلی تلک الأعضاء شرط لصحة الصلاة بحسب نظر العرف مع أن الموضوع لشرط الصلاة غسل البشرة والاستصحاب فی عدم الحاجب لا یثبت وصول الماء إلیها.

وأضاف الماتن قدس سره إلی خفاء الواسطة جلاها بحیث لا یمکن عرفاً التعبد بالشیء وعدم التعبد بلازمه العقلی أو العادی أو کان وضوح اللزوم بینهما بنحو یعد الأثر الشرعی المترتب علی اللازم العقلی أو العادی من أثر الملزوم أیضاً.

أقول: أما مسألة خفاء الواسطة فالظاهر أنه لا یمکن الالتزام باعتبار الأصل

ص : 311

کما لا یبعد ترتیب ما کان بوساطة ما لا یمکن التفکیک عرفاً بینه وبین المستصحب تنزیلاً، کما لا تفکیک بینهما واقعاً، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له، أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثراً لهما، فإن عدم ترتیب مثل هذا الأثر علیه یکون نقضاً لیقینه بالشک أیضاً، بحسب ما یفهم من النهی عن نقضه عرفاً، فافهم.

المثبت فیه، وذلک فإنه لو کان المستفاد من الأدلة أن الموضوع لتنجس الطاهر تأثر الطاهر من الرطوبة النجسة فلا یفید الاستصحاب فی بقاء الرطوبة المسریة فی الحکم بتنجس الطاهر فإنه لا یثبت تأثر الطاهر بتلک الرطوبة النجسة والتأثر بها لیس له حالة سابقة وإن کان الموضوع بحسب المستفاد من خطابات تنجس الطاهر نفس ملاقاته مع النجس مع الرطوبة فیجری الاستصحاب فی بقاء الرطوبة المسریة ویحرز ببقائها تمام الموضوع لتنجس الطاهر ولا یکون الأصل مثبتاً کما یستفاد کون الموضوع للتنجس ذلک الأمر بغسل الأشیاء من مسها للنجس کالکلب والمیتة والعذرة وغیرها المقید إطلاقها بالرطوبة فی أحد المتلاقیین لما دل علی أن کل یابس ذکی. نعم، إذا کانت الرطوبة النجسة فی أعضاء الحیوان ولاقی طاهر بعضو الحیوان کالذباب الواقع علی الثوب من العذرة ونحوها واحتمل عدم بقاء الرطوبة النجسة فی عضوه عند وقوعه علی الثوب فلا یحکم بنجاسة الثوب الملاقی حیث إن بدن الحیوان لا یتنجس والرطوبة إثبات بقائها بالاستصحاب لا یثبت ملاقاتها الثوب أو غیره من الطاهر. ومما ذکرنا یظهر أن الاستصحاب فی ناحیة عدم الحاجب فی أعضاء الوضوء أو الغسل لا یفید شیئاً فإنه لا یثبت وصول الماء إلی تمام البشرة من أعضائهما.

وأما مسألة جلاء الواسطة فلو ثبت فی مورد امتناع التفکیک عرفاً بین التعبد بشیء وبین التعبد بلازمه العقلی بأن یترتب الأثر الشرعی لذلک الشیء ولا یترتب الأثر الشرعی المترتب علی لازمه العقلی فلا بأس بالالتزام بالتعبد الثانی المکشوف

ص : 312

.··· . ··· .

من التعبد بالأول حیث إنه المدلول الالتزامی لخطاب لا تنقض الیقین الشامل للملزوم ولکن فی وجود الصغری لذلک تأملاً والتمثیل لذلک بالاستصحاب الجاری فی بقاء الشهر یوم الشک وإثبات کون الغد أوّل الشهر الآتی لا یخلو عن الإشکال وذلک فإن الاستصحاب یجری فی بقاء الشهر ولا یلازم التعبد بکون الغد أوّل الشهر الآتی بل الحکم بکون الغد أوّل الشهر الآتی لجریان الاستصحاب فی بقاء أوّل الشهر الآتی المعلوم تحققه عند الغروب من یوم الشک مع احتمال بقائه إلی غروب الغد علی ما ذکرنا سابقاً من غیر أن یکون أول الشهر عبارة عن کون یوم من شهر وعدم سبقه بمثله قبله ومن غیر حاجة إلی دعوی جریان السیرة المستمرة علی جعل یوم الشک آخر السابق والیوم اللاحق أول الشهر الآتی فإن هذه السیرة غیر محرزة فی غیر یوم عرفة وما بعده فیما إذا ثبت یومها بحکم القاضی من العامة حیث جرت السیرة علی متابعة العامة فی ثبوت یوم عرفة مع عدم العلم بالخلاف وجعل ما بعده یوم العید وهکذا وهذا لأن قضاءهم طریق شرعی لثبوت هلال ذی الحجة ولو کان هذا الاعتبار لرعایة التقیة یعنی أن حکمة الاعتبار هی رعایتها.

وقد یقال: الاستصحاب فی ناحیة بقاء أول شوال إلی غروب الشمس من بعد یوم الشک مبتلی بالمعارض وذلک فإنه قبل الغروب من یوم الشک لنا علم بأنه لم یکن أول شوال ونحتمل عدمه أیضاً بعد یوم الشک لاحتمال کونه یوم الشک، ولکن لا یخفی ما فیه فإن عدم أول شوال الملازم لأیام شهر رمضان قد انقطع وتبدل إلی العید إما بیوم الشک أو ما بعده، والمتیقن من عدمه الثانی هو الیوم الثانی ما بعد یوم الشک فالاستصحاب المذکور قریب إلی القسم الثالث من الکلی الذی لا موضوع فیه للاستصحاب.

ص : 313

ثم لا یخفی وضوح الفرق بین الاستصحاب وسائر الأصول التعبدیّة وبین الطرق والأمارات[1]، فإن الطریق والأمارة حیث إنّه کما یحکی عن المؤدّی ویشیر إلیه، کذا یحکی عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ویشیر إلیها، کان مقتضی إطلاق دلیل اعتبارها لزوم تصدیقها فی حکایتها، وقضیته حجیة المثبت منها

وأما مسألة وضوح اللزوم بین الملزوم ولازمه العقلی أو العادی بحیث یعد الأثر الشرعی المترتب علی اللازم یعد أثراً للملزوم أیضاً فقد تقدم فی بیان وجوه اعتبار الأصل المثبت وقوع المعارضة فی مثل ما فرضه بین الاستصحاب الجاری فی ناحیة الملزوم وبین عدم حدوث لازمه العقلی والعادی.

الفرق بین الأمارة والأصل

[1] وتفترق الاُصول العملیة عن الطرق والأمارات بأن الأمارة کما تحکی عن موءداها کذلک تحکی عن أطراف موءداها من لازمه أو ملازمه أو ملزومه ومقتضی إطلاق اعتبارها تصدیقها فی کل من حکایاتها ویترتب الأثر الشرعی المترتب علی کل واحد منها لاعتبارها فی جمیع تلک الحکایات هذا ما ذکر الماتن وغیره قدس سرهم ولکن قد یورد علیه بأن ملاک الاعتبار لو کان ما ذکر لانحصر اعتبارها فی مثبتاتها بما إذا کان المخبر عن الموءدی قاصداً لها وملتفتاً إلی الملازمة ولا یجری ما إذا کان منکراً للملازمة کما إذا قُدَّ زید الملتف باللحاف نصفین ولا نعلم بحیاته أو موته حین قده نصفین ولکن نعلم أن من قدّه هو عمرو وشهدت البینة أنه کان حیاً، ولکن لا نعرف من قدّه أو قالا: أن من قده لیس بعمرو ولو کان ملاک اعتبارها الحکایة عن أطرافها لا یثبت أن قاتله عمرو؛ ولذا لا یحکم بکفر من ینکر أمراً یلازم إنکاره إنکار النبوة ولکن المنکر لذلک الشیء لا یری الملازمة ولو کان الإخبار بشیء إخباراً عن لوازمه أیضاً مطلقاً لزم الحکم بکفره.

ص : 314

کما لا یخفی، بخلاف مثل دلیل الاستصحاب، فإنه لا بد من الاقتصار مما فیه من الدلالة علی التعبد بثبوته، ولا دلالة له إلاّ علی التعبد بثبوت المشکوک بلحاظ أثره، حسبما عرفت فلا دلالة له علی اعتبار المثبت منه، کسائر الأصول التعبدیة، إلاّ فیما عدّ أثر الواسطة أثراً له لخفائها، أو لشدة وضوحها وجلائها، حسبما حقّقناه.

وقد یقال: إن الأمارات کلّها عقلائیة قد أمضاها الشارع وبناء العقلاء فی الأمارات إثبات الواقع وإحرازه بها بنظر من قامت عنده الأمارة، وإذا ثبت الواقع بها ثبتت لوازمه وملازماته بعین ملاک ثبوت الواقع بها فالعلم بشیء علم بلوازمه وملازماته وملزومه فکذلک الوثوق به فإنه یوجب الوثوق بأطرافه، وبتعبیر آخر کما یحتج بقیام الأمارة بشیء بالإضافة إلی ذلک الشیء کذلک یحتجون بها بالإضافة إلی أطرافه.

أقول: احتجاج العقلاء بالإضافة إلی الأمارات التی من قبیل الإخبار بالشیء والخطاب لبیان ثبوته واقع حتی بالإضافة إلی أطرافه ولکن لا یختص اعتبار الخبر والشهادة بما إذا حصل الوثوق لمن یقوم عنده الخبر بل تکفی وثاقة المخبر وإن لم یحصل لمن یقوم عنده الخبر الوثوق بالواقع کما بینا ذلک فی بحث اعتبار الظواهر والخبر الواحد إلاّ أن ما ذکر لا یجری فی اعتبار مطلق الأمارة. أضف إلی ذلک أن بعض الأمارات معتبرة تأسیساً من الشارع کالظن بالقبلة لمن لا یمکن له العلم بها ولو ظن أن القبلة فی جهة یوجب الظن بکونها قبلة دخول الوقت فلا سبیل لنا إلی إحراز اعتبار الظن بدخوله، وسوق المسلمین أمارة بتذکیة الحیوان، ولکن لا یکون أمارة بکون المشتری منه من مأکول اللحم لیجوز الصلاة فیه وإن ظن بکونه من مأکول اللحم.

والحاصل أن ما هو المعروف فی ألسنتهم من اعتبار الأمارة بالإضافة إلی

ص : 315

.··· . ··· .

أطرافها أیضاً لا أساس له بل لابد من ملاحظة الدلیل الدال علی اعتبار الأمارة من أن مقتضاه الإطلاق أو الاختصاص وأما ما ذکر فی مسألة عدم الحکم بکفر منکر بعض ضروریات الدین أو المذهب فیما إذا لم یر المنکر ثبوته من الشریعة فهو من جهة أن الموجب للکفر أن یظهر الشخص أنه لا یعتقد بالنبوة، ومن الظاهر أن منکر بعض الضروری مع عدم اعتقاده أنه مما أخبر به النبی صلی الله علیه و آله لا یوجب إنکاره النبوة لیحکم بکفره، وذکر المحقق النائینی قدس سره فی المقام کلاماً حاصله: أن افتراق الاُصول العملیة عن الأمارات یکون فی ناحیة الموضوع وفی ناحیة الحکم أما اختلافهما وامتیاز الأمارة عن الأصل فی ناحیة الموضوع ففی جهات:

الاُولی _ أن الجهل بالواقع فی الأمارات مورد لاعتبارها ولکنه موضوع فی الاُصول بمعنی أن ما دل علی اعتبار الأمارة کما فی قوله علیه السلام : «العمری ثقة فما یوءدی یوءدی عنی»(1) یقتضی الأخذ بقوله وحیث إن التعبد بطریق فی حق العالم بالواقع بلا معنی فیختص اعتبار قوله بغیر العالم بالواقع، وهذا بخلاف الاُصول فإن المأخوذ فی خطاب اعتبارها موضوعاً لها الجهل بالواقع کقوله علیه السلام «لا تنقض الیقین بالشک» و«رفع عن اُمتی ما لا یعلمون».

الجهة الثانیة _ أن الکشف عن الواقع فی الأمارات کشف ذاتی ناقص لا تکاد تناله ید الجعل بخلاف الاُصول فإن الموضوع الجهل بالواقع من غیر ملاحظة الکشف فیها أصلاً.

والجهة الثالثة _ أن الکشف الناقص فی الأمارات ملحوظ فی اعتبارها وخطاب

ص : 316


1- (1) الغیبة (للشیخ الطوسی): 360. طبعة مؤسسة المعارف الاسلامیة.

.··· . ··· .

الاعتبار ناظر إلی تتمیمه بإلغاء احتمال الخلاف بخلاف الاُصول العملیة فإنه لو کان للجهل الموضوع جهة کشف لم تلاحظ تلک الجهة فی اعتبار الحکم المعبر عنه بمفاد الأصل، وأما اختلافهما من ناحیة الحکم فقد ذکر قدس سره أنه فی العلم الوجدانی جهات أربع حیث إن العلم وهو الصورة المرتسمة للنفس وصف وکشف وفیه جری عملی وتنجیز وتعذیر فإن کونه وصفاً وجدانیاً لا ینبغی التأمل فیه کما أن تلک الصورة المنکشفة بالذات تکشف عن ذی الصورة بالعرض لا کلام فیه وانکشاف ذی الصورة بها یعبر عنه بجهة الکشف، مثلاً: إذا علم العطشان بوجود الماء فی المحل الفلانی تکون تلک الصورة المرتسمة محرکة له نحو ذلک الماء لیشربه وکل من کونه وصفاً وکشفاً ومحرکاً مترتب علی ما قبله وکونه محرکاً وجریاً عملیاً من کونه تنجیزاً وتعذیراً فی مرتبة واحدة فالمجعول فی الأمارات یختلف عن المجعول فی الاُصول العملیة فإن المجعول فی الأمارات هی الجهة الثانیة من العلم یعنی الکشف عن ذی الصورة بتتمیم کشفها الذاتی بإلغاء احتمال الخلاف وبعد هذا الجعل یترتب علیه الجری العملی والتنجیز والتعذیر حیث کانا للعلم بالذات بخلاف الاُصول العملیة فإن المجعول فیها الجری العملی الذی کان للعلم بالبناء علی إحراز الواقع کما فی الاُصول المحرزة أو بالبناء علی أحد طرفی الشک من غیر بناء علی أنه الواقع کما فی الاُصول غیر المحرزة.

أقول: ما ذکره قدس سره من کون الجهل بالواقع فی الأمارة مورداً وفی الاُصول موضوعاً إن کان المراد اعتبار الأمارة ثبوتاً حتی فی حق العالم بالواقع فهذا أمر غیر معقول ولا فرق فی اعتبار الأمارة والأصل، وأن کلاً منهما یعتبر فی حق الجاهل بالواقع غایة الأمر یکون اعتبار الأصل فی طول اعتبار الأمارة. وإن کان المراد أنه

ص : 317

.··· . ··· .

لم یذکر فی دلیل اعتبار الأمارة موضوعاً لاعتبارها کما فی الروایة التی ذکرها وأما فی خطابات اعتبار الاُصول یذکر الجهل بالواقع موضوعاً لاعتبارها فهذا صحیح فی الجملة ولکن لا یطرد کما فی قوله علیه السلام : إذا لم تعرف المیقات یجزیک أن تسأل أهله أو من یعرفه(1). وما ورد فی اعتبار سوق المسلمین بعد ما سألوا الإمام علیه السلام عن شراء اللحوم ولا یدری ما صنع القصابون قال: «کل إذا کان ذلک فی سوق المسلمین ولا تسأل عنه»(2) وقد اشتهر التمسک فی اعتبار الفتوی بقوله سبحانه «فاسئلوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون»(3).

نعم یمکن أن یقال: إن مع أخذ الجهل بالواقع فی اعتبار أمر عدم أخذه موضوعاً فی خطاب أمر آخر یوجب أن یکون الثانی حاکماً علی اعتبار الأول فی مقام اجتماعهما وتعارضهما، أضف إلی ذلک أنه لو کان للأمارة المعتبرة جهة کشف نوعی فهذا الکشف لا یکون إلاّ حکمة لاعتبارها، وهذه الجهة تجری فی بعض الاُصول کقاعدة الفراغ کما یفصح عن ذلک قوله علیه السلام «حین یتوضأ أذکر»(4) ومع ذلک لا تعتبر مثبتات قاعدة الفراغ، وعلی الجملة مجرد کون شیء أمارة لا یقتضی اعتبارها فی لوازمها العقلیة والعادیة بل الالتزام باعتبار أمارة حتی بالإضافة إلی ما یترتب علی لازمها العقلی والعادی یحتاج إلی ثبوت الدلیل علیه نظیر ما قلنا بالإضافة إلی لوازم المخبر به أو قیام البینة لموضوع.

ص : 318


1- (1) انظر من لا یحضره الفقیه 2 : 198.
2- (2) وسائل الشیعة 16 : 294، الباب 29 من أبواب الذبایح، وفیه حدیث واحد.
3- (3) سورة النحل: الآیة 43.
4- (4) وسائل الشیعة 1 : 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 7.

.··· . ··· .

الموارد التی وقع الخلاف فیها فی الاُصول الجاریة فیها

ثمّ بعد ما ذکرنا فی عدم اعتبار الاُصول فی مثبتاتها وقع الخلاف فی بعض الاُصول فی بعض الموارد أنها مثبتة فیها أم لا وینبغی التعرض لها:

منها _ ما إذا تلف مال غیر بید شخص وقال مالکه: إن الید کانت عادیة فعلی ذی الید: ضمانه وقال ذو الید کان المال أمانة فلا ضمان علیه، ومثله ما إذا قال المالک: کان المال بیدک بالشراء وإنک اشتریته بکذا فیطالبه بالثمن، وقال ذو الید: إنه کان هبة فلا ضمان علیه بالثمن حیث قیل فی الفرضین بالضمان لأصالة عدم کون المال أمانة بمعنی عدم إذن المالک فی الإمساک به وأصالة عدم هبته ماله، وقد اُورد علی ذلک بأن أصالة عدم إذن المالک فی الإمساک بماله لا یثبت کون الید عادیة فی الفرض الأول کما أن أصالة عدم الهبة لا تثبت وقوع البیع واشتغال ذمته بالثمن مع أن الأصل عدم وقوع البیع وعدم اشتغال ذمته بالبدل وقد یقال فی الفرضین بالضمان لقاعدة المقتضی وعدم المانع فإن وضع الید علی مال غیر مقتض للضمان إذا لم یثبت المانع المدفوع بالأصل.

أقول: الحکم بالضمان فی الفرض الأول صحیح یعنی یقدم قول مثبت الضمان؛ لأن الموضوع للضمان کما ذکرنا فی بحث قاعدة ما یضمن وما لا یضمن هو إتلاف مال غیر أو تلفه بیده من غیر استیمان وهبة أو الإذن فی الإتلاف مجاناً والمراد بالعدوان هو ذلک کما هو المستفاد من الخطابات الشرعیة والسیرة العقلائیة والتلف فی الید فی الفرض محرز، والأصل عدم الأذن، وعدم الاستیمان فیتم الموضوع للضمان، والعدوان بمعنی الظلم لا أثر له فی الضمان.

وأما فی الفرض الثانی فمع تلف المال کما هو الفرض یقدم قول مدعی الهبة

ص : 319

.··· . ··· .

لأصالة عدم وقوع البیع ولا یعارض بأصالة عدم الهبة؛ لأنها بالإضافة إلی وقوع البیع من الأصل المثبت ولا أثر لوقوعها ونفیها بعد تلف المال حیث إن استحقاق المطالبة بالبدل المسمی أثر للبیع المنفی بالأصل وقاعدة المقتضی وعدم المانع لا أساس لها رأساً غیر ما ذکرنا من السیرة العقلائیة والمستفاد من الخطابات الشرعیة، وأما إذا کان الاختلاف فی البیع والهبة قبل تلف العین فإن کان من یدعی الهبة له ممن لا یجوز استرجاع الهبة منه فالمرجع التحالف لأصالة عدم وقوع البیع ولا عدم وقوع الهبة؛ لأن لکل منهما أثراً خاصّاً، وإن کان ممن یجوز استرجاع الهبة یقدم قول مدعی الهبة أخذاً بإقراره بأن المالک یجوز له استرجاع ماله فلا یکون لأصالة عدم الهبة أثر خاص مع فرض نفوذ إقراره.

ومنها _ ما إذا اختلف الجانی وولی المیت فادعی ولی المیت أن موت المجنی علیه کان بجنایته سواء کانت الدعوی سرایة الجنایة أو أن جنایته کانت قتلاً بأن ادعی أن الملفوف باللحاف کان حیاً عندما قدّه نصفین وأنکر الجانی.

فالمنسوب إلی الشیخ قدس سره التردد فی المثالین نظراً إلی معارضة أصالة عدم سبب آخر فی الفرض الأول، وأصالة بقاء الحیاة عند القدّ فی المثال الثانی بأصالة عدم الضمان فی کلیهما، وعن العلامة اختیار الضمان، وعن المحقق عدمه، ولکن المعارضة بین الأصلین غیر واردة فی کلام الشیخ لیقال: ظاهر کلامه یعطی التردد فی اعتبار الأصل المثبت.

وکیف کان فموضوع الضمان بتعلق القود علی الجانی أو الدیة علیه استناد الموت إلیه بحیث یقال: إنه قتله، ومن الظاهر أن أصالة عدم سبب آخر فی البین فی الفرض الأول لا تثبت السرایة واستناد الموت إلی الجانی وکذا لا یثبت استصحاب

ص : 320

الثامن _ أنه لا تفاوت فی الأثر المترتب علی المستصحب بین أن یکون مترتباً علیه بلا وساطة شیء [1] أو بوساطة عنوان کلّی ینطبق ویحمل علیه بالحمل الشایع ویتحد معه وجوداً کان منتزعاً عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه

الحیاة فی الملفوف أن القد کان قتلاً، وعلیه فالأصل عدم کونه قاتلاً ومع هذا الأصل یحلف الجانی ویثبت علیه دیة الجرح فی صورة الخطأ والقصاص منه بالجرح فی الفرض العمد وفی الصورة الثانیة دیة الجنایة علی المیت أخذاً بإقرار الجانی فیهما.

[1] قد تعرض قدس سره فی هذا التنبیه لاُمور وبیان أن الاستصحاب الجاری فی تلک الموارد لا یکون من الأصل المثبت وقال قدس سره کما لا یکون الاستصحاب مثبتاً فیما کان الأثر الشرعی مترتباً علی نفس المستصحب ابتداءً أی بلا واسطة أصلاً کما إذا نذر التصدق فی کل یوم بدرهم ما دام حیاة والده حیث یترتب علیه وجوب التصدق ما دام یجری الاستصحاب فی حیاته کذلک لا یکون مثبتاً فیما کان الأثر الشرعی مترتباً علی عنوان ینطبق ذلک العنوان علی المستصحب، ویحمل علیه بالحمل الشایع کالاستصحاب فی کون مایع خمراً لترتب النجاسة وحرمة شربه وهذا فیما کان العنوان منتزعاً عن نفس ذلک الشیء أو منتزعاً عنه بلحاظ أمر خارج عن نفسه ولکن کان ذلک الخروج بنحو خارج المحمول لا من قبیل المحمول بالضمیمة فإن الاستصحاب فی حیاة زید لترتیب آثار کونه مالکاً لأمواله وعدم انتقالها إلی ورثته أو أن المعاملة علی أمواله موقوفة علی أذنه أو إجازته أو لترتیب کونه زوجاً فلا یجوز التزویج بزوجته حتی بعد انقضاء المدة إلی غیر ذلک لا یکون مثبتاً فإن الأثر فی الصورتین فی الحقیقة للفرد حقیقة فلا یکون الاستصحاب فی بقاء الفرد لترتیبها من الأصل المثبت غایة الأمر لا دخل فی ثبوتها لخصوصیة ذلک الفرد بأن لا یثبت ذلک الأثر لفرد آخر من ذلک العنوان والوجه فی کون الأثر فی الحقیقة للفرد؛ لأن الأثر أثر

ص : 321

مما هو خارج المحمول لا بالضمیمة، فإن الأثر فی الصورتین إنما یکون له حقیقة، حیث لا یکون بحذاء ذلک الکلی فی الخارج سواه، لا لغیره مما کان مبایناً معه، أو من أعراضه مما کان محمولاً علیه بالضمیمة کسواده مثلاً أو بیاضه، وذلک لأن الطبیعی إنما یوجد بعین وجود فرده، کما أن العرضی کالملکیّة والغصبیّة ونحوهما

لوجود العنوان ولا وجود فی الخارج غیر الفرد بخلاف ما إذا کان العنوان الذی رتب علیه الأثر مبایناً له أو من أعراضه التی یکون من المحمول بالضمیمة بأن یکون ما بإزاء الخارج عن نفس الشیء تحقق خارجی کسواد الجسم وبیاضه فإن مع الاستصحاب فی بقاء الجسم لا یترتب علیه أثر سواده أو بیاضه مثلاً إذا شک فی بقاء حیاة زید أو موته لا یفید فی ترتیب أثر اجتهاده من جواز تقلیده.

أقول: ظاهر کلامه قدس سره أن ما یحمل علیه عنوان المالک أو الزوج یجری الاستصحاب فی ناحیته ویترتب علیه ما یترتب علی عنوان الزوج والمالک ونحوهما ولکن ما یحمل علیه عنوان العادل والعالم فلا یترتب بالاستصحاب أثر عدله واجتهاده فیقال علیه ما الفرق بین الاستصحاب فی حیاة زید لترتیب أثر المالکیة والزوجیة علیه وبین الاستصحاب فی حیاته بالإضافة إلی أثر اجتهاده وعدله فإنه لو لم یکن لمالکیته للمال أو زوجیة المرأة له حالة سابقة فلا ینبغی التأمل فی أن الاستصحاب فی حیاته لإثبات کونه مالکاً أو زوجاً من أظهر أنحاء الأصل المثبت؛ لأن مقتضی الأصل عدم کونه مالکاً أو زوجاً وإن کان لمالکیته المال أو کونه زوجاً للمرأة حالة سابقة فیجری الاستصحاب فی بقائهما ویترتب علیه أثر کونه مالکاً للمال أو کون المرأة زوجة له وهذا یجری بالإضافة إلی سواد الجسم وبیاضه واجتهاد شخص وعدالته.

والحاصل أن التفکیک بین المحمول من خارج المحمول والمحمول بالضمیمة

ص : 322

لا وجود له إلاّ بمعنی وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الإنتزاع فی الخارج هو

بدعوی أن الاستصحاب فی ناحیة بقاء ما یحمل علیه فی الأول غیر مثبت بالإضافة إلی أثار المحمول لکن فی الثانی مثبت لا یمکن المساعدة علیه هذا مع کلاً من عنوان العالم والعادل والمالک والزوج وغیرها أُمور انتزاعیة وإنما المبدأ الذی یحمل علی الذات العنوان بملاحظة قیامه به حقیقی فی الأولین واعتباری عرفی فی الأخیرین، وهذا یوجب الاختلاف فی جریان الاستصحاب علی ما تقدم کما أنه فی مثل الفوق والتحت أمر اعتباری عقلی یعبر عنه بالانتزاعیات فإن أراد الماتن قدس سره أن الاستصحاب فی بقاء ما یحمل علیه الفوق والتحت یکفی فی ترتیب أثر الفوقیة والتحتیة فما کان لهما أثر شرعی فهذا لا بأس به؛ لأن الفوق مع بقائه وکذا التحت مع بقائه واجدان للفوقیة والتحتیة لا محالة.

وأما الاستصحاب الجاری فی کون مایع خمراً لترتیب آثار الخمر من النجاسة وحرمة شربه فصحیح إلاّ أن الأثر الشرعی فی خطاب تحریم الخمر ونجاسته لم یجعل للعنوان لیسری إلی المعنون الخارجی بل الأثر مجعول ابتداءً لما یحمل علیه الخمر بالحمل الشایع فالعنوان فی الخطاب یوءخذ مرآة للمعنونات حیث إن الملاک والمفسدة فیها لا فی العنوان والعنوان للحاظ المعنون؛ ولذا لا فرق فی مقام بین أن یقول هذا المایع مشیراً إلی الخمر الخارجی وما کان من قبیله نجس وشربه حرام أو یقول الخمر حرام ونجس. نعم، لا یکون فی الحکم لکل من وجودات الخمر بنحو الانحلال دخالة لمیز بعض الوجودات عن بعض آخر فی الخصوصیات ویشهد لثبوت الحرمة والنجاسة لما کان خمراً بالحمل الشایع اعتبار ثبوت الحالة السابقة بمفاد (کان) الناقصة ولا یترتب علی وجود الخمر بمفاد (کان) التامة أی أثر ولا یخفی أیضاً أنه إذا کان نفس المبدأ الاعتباری الموضوع للحکم الشرعی بنفسه أثراً شرعیاً

ص : 323

عین ما رتب علیه الأثر، لا شیء آخر، فاستصحابه لترتیبه لا یکون بمثبت کما توهم، وکذا لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتب علیه، بین أن یکون مجعولاً شرعاً بنفسه کالتکلیف[1] وبعض أنحاء الوضع، او بمنشأ انتزاعه کبعض

لأمر آخر کملکیة المال لشخص وزوجیة المرأة له بمعنی أن موضوع بقاء الملکیة أمواله أو زوجیة امرأته أثر شرعی لحیاة ذلک الشخص حیث إن الشارع حکم ببقاء مالکیته لأمواله ما لم یمت أو یخرجها عن ملکه وببقاء زوجیة امرأته ما دام لم یمت أو لم یطلقها وفی مثل ذلک یترتب علی الاستصحاب فی ناحیة حیاة ذلک الشخص بقاء أمواله علی ملکه وبقاء زوجیة امرأته بضمیمة أنه لم یخرجها عن ملکه أو عدم طلاقه زوجته فلا یجوز التصرف فی أمواله ولا التزویج بامرأته ولو بعد انقضاء مدة عدة الوفاة ومع الاستصحاب المفروض لکونه من الاستصحاب فی الموضوع لا تصل النوبة إلی الاستصحاب الحکمی أی استصحاب کونه مالکاً أو زوجاً له بل قد یکون الاستصحاب فی حیاة شخص محرزاً لحدوث ملکیة المال له کما إذا علم بموت المورث وشک فی حیاة ولده الغائب عند موته فإنه إذا جری الاستصحاب فی حیاته یحکم بعدم انتقال أمواله إلی الورثة، ومثل ذلک ما إذا شک الأب فی حیاة ابنته الغائبة فإنه إذا جری الاستصحاب فی ناحیة حیاتها وزوّجها من رجل یحکم بأن البنت زوجة له فتصیر ذات بعل، والحاصل أنه وإن یترتب أثر المالک والزوجة علی استصحاب الحیاة إلاّ أن الترتب لکون الموضوع لذلک الأثر من الأثر الشرعی حیاة الشخص ولعلّ ملاحظة مثل هذه الموارد أوقع الماتن قدس سره أن یفصل بین المبادی التی یکون من خارج المحمول والتی یکون من المحمول بالضمیمة.

[1] قد ذکر قدس سره أنه إذا کان المستصحب نفس الأثر الشرعی أو کان المستصحب ما یترتب علیه الأثر الشرعی فلا فرق بین أن یکون نفس ذلک الأثر مجعولاً شرعیاً

ص : 324

أنحائه کالجزئیة والشرطیّه و المانعیّة، فانه أیضاً ممّا تناله ید الجعل شرعاً ویکون أمره بیده الشارع وضعاً ورفعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.

ولا وجه لإعتبار أن یکون المترتب أو المستصحب مجعولاً مستقلاًّ کما لا یخفی، فلیس استصحاب الشرط أو المانع لترتیب الشرطیّة أو المانعیّة بمثبت، کما ربما توهم بتخیّل أن الشرطیّة أو المانعیّة لیست من الآثار الشرعیّة، بل من الأمور الإنتزاعیة، فافهم.

بنفسه کالتکلیف، وبعض الأحکام الوضعیة التی تعتبر کالتکلیف مجعولاً بنفسه کالطهارة والنجاسة والولایة وغیرها أو کان الأثر الشرعی المترتب مجعولاً بالتبع کالجزئیة والشرطیة والمانعیة حیث إنها تجعل بتبع جعل التکلیف وتعلقه بالکل والمشروط والمقید بعدم المانع، والوجه فی عدم الفرق أن المجعول بالتبع أیضاً قابل للوضع والرفع شرعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه أو برفعه، ولا وجه للالتزام بأن المستصحب أو المترتب علیه یلزم أن یکون أثراً شرعیاً مجعولاً مستقلاً، ولا یکفی کونه مجعولاً بالتبع وفرع علی ذلک بأن جریان الاستصحاب فی نفس الشرط أو المانع وجوداً وعدماً لترتیب أثر الشرطیة أو المانعیة وجوداً وعدماً لا محذور فیه بتخیل أن الشرطیة والمانعیة لیستا من الآثار الشرعیة بل هما من الاُمور الانتزاعیة.

أقول: ما ذکر قدس سره من أن الشرطیة والمانعیة مجعولتان بالتبع وأمرهما بید الشارع رفعاً ووضعاً ولو برفع منشأ الانتزاع ووضعه إنما یصح بالإضافة إلی الوضع الواقعی أو رفعه الواقعی وأما الرفع الظاهری أو الوضع الظاهری فهو إنما هو بالترخیص الظاهری فی ترک الشرط المحتمل أو ترک رعایة المانع المحتمل حیث یکون هذا الترخیص ووضعه إنما یکون بإیجاب الاحتیاط فی رعایتهما من غیر أن یحصل التغییر والتبدیل

ص : 325

.··· . ··· .

بالإضافة إلی التکلیف الواقعی سواء کان متعلقه ثبوتاً مطلقاً أو مقیداً بالشرط وعدم المانع، وقد أوضحنا ذلک فی التمسک بحدیث الرفع فی مورد الشک فی جزئیة شیء أو شرطیته فی دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

وأما ما ذکر من جریان الاستصحاب فی ناحیة الشرط والمانع لإثبات الشرطیة والمانعیة فهو خلط بین الاستصحاب الجاری لإحراز الحکم والتکلیف وبین جریانه فی مرحلة الامتثال لإحراز سقوط التکلیف بالإتیان بمتعلقه وما تقدم من اعتبار کون المستصحب حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی إنما هو عند جریانه فی مقام إحراز الحکم والتکلیف، وأما إذا اُرید به إحراز الامتثال وسقوط التکلیف کما هو مفاد قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز والاستصحاب المحرز للإتیان بمتعلق التکلیف أو عدم الإتیان به فنفس هذا قابل للتعبد لارتفاع موضوع حکم العقل بالاشتغال وعدمه بذلک.

والفرق بین قاعدة الفراغ والاستصحاب الجاری فی مقام الامتثال أن بقاعدة الفراغ یحرز صحة العمل المفروغ عنه وبالاستصحاب یحرز نفس القید المعتبر فی العمل کما إذا فرغ من صلاته وشک فی أنه توضأ لتلک الصلاة فإنه یحکم بصحة صلاته، ولکن لابد من التوضؤ للصلوات الآتیة بخلاف ما إذا شک فی انتقاض وضوئه السابق فإنه مع جریان الاستصحاب یجوز له الإتیان بالصلوات الآتیة ما لم یحرز الانتقاض، والوجه فی الفرق أن المتعبد به بقاعدة الفراغ تمامیة الصلاة التی فرغ عنها وهو تقید تلک الصلاة بالوضوء لا بنفس الوضوء بل یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم التوضؤ بالإضافة إلی الصلوات الآتیة بعد سقوطه عن الاعتبار بالإضافة إلی الصلاة المفروغ عنها بخلاف الاستصحاب فی ناحیة نفس الوضوء فإنه عالم ببقائه ما

ص : 326

وکذا لا تفاوت فی المستصحب أو المترتب بین أن یکون ثبوت الأثر ووجوده أو نفیه وعدمه] 1] ضرورة أن أمر نفیه بید الشارع کثبوته، وعدم إطلاق الحکم علی عدمه غیر ضائر.

إذ لیس هناک ما دل علی اعتباره بعد صدق نقض الیقین بالشک برفع الید عنه کصدقه برفعها من طرف ثبوته کما هو واضح، فلا وجه للإشکال فی الإستدلال علی

لم یتیقن أو یحرز انتقاضه ولا وجه لتوهم أن الاستصحاب فی نفس الوضوء لا یثبت تقید الصلاة المأتی بها بالوضوء لما تقدم من أن الاستصحاب لا یثبت اللازم العقلی أو العادی للمستصحب وذلک لأن واقع التقید المعتبر فی الصلاة هو مفاد واو الجمع؛ لأن الصلاة فعل والوضوء فعل آخر لا یکون الاعتبار بینهما إلاّ بمعنی (واو) الجمع وهو معنی حرفی یکون واقعه متقوماً بالدخول، وإنما ینتزع کونه شرطاً تارة وجزءاً اُخری من خروج نفس المدخول عن متعلق الأمر النفسی بالأمر النفسی بالحصة فی مورد الشرط، وبالأمر النفسی بعدة اُمور یدخل فیها ما یطلق علیه الجزء.

ومما ذکرنا ظهر ضعف ما عن الماتن قدس سره من أن مفاد أخبار الاستصحاب جعل الحکم المماثل للمستصحب أو جعل المماثل لحکمه وذلک فإن الاستصحاب یجری فی مقام الامتثال کما یجری فی إحراز الأحکام وموضوعاتها بمدلول واحد ومفاد واحد وهو کون الیقین بالحالة السابقة علم ببقائها أیضاً فإن هذا التعبد یفید إحراز الحکم وموضوعه تارة وإحراز الامتثال وسقوط التکلیف اُخری.

[1] ما ذکره قدس سره إشارة إلی ما یقال من عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم الموضوع أو عدم الحکم فإن العدم فیهما لا یکون موضوعاً لحکم شرعی ولا بنفسه حکم شرعی، والمجعول الشرعی جهة ثبوت الحکم یحصل بالتعبد به أو بالموضوع له ما لم یحصل العلم بالخلاف وأجاب قدس سره بأنه إذا کان الحکم فی جهة ثبوته قابلاً

ص : 327

البرائه باستصحاب البراءة من التکلیف، وعدم المنع عن الفعل بما فی الرسالة(1) من انّ عدم استحقاق العقاب فی الاخرة لیس من اللوازم المجعوله الشرعیّة، فان عدم إستحقاق العقوبة وان کان غیر مجعول، إلاّانه لا حاجة إلی ترتیب أثر مجعول فی استصحاب عدم المنع، وترتب عدم الإستحقاق مع کونه عقلیاً علی استصحابه، إنما هو لکونه لازم مطلق عدم المنع ولو فی الظاهر، فتأمل.

للتعبد یکون التعبد فی ناحیة عدمه أیضاً ممکناً لتساوی القدرة بالإضافة إلی طرفی

الشیء وبقاء عدم الحکم علی عدمه مقدور للشارع، ویقبل التعبد به أو بالتعبد علی عدم الموضوع له، وعدم تسمیة عدم الحکم والتکلیف حکماً لا یضر بعد کونه قابلاً للتعبد وعدم أخذ عنوان الحکم وثبوته فی أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک موضوعاً للاعتبار وقد فرع قدس سره علی ما ذکره أنه لا یصح ما استشکل به الشیخ قدس سره علی الاستدلال بالبراءة بالاستصحاب فی ناحیة عدم التکلیف بأنه إن کان المراد من الاستصحاب نفی استحقاق العقاب فهو من اللوازم العقلیة لنفی التکلیف.

والوجه فی عدم الصحة أنه لا یعتبر فی جریان الاستصحاب فی عدم التکلیف ترتب أثر شرعی علیه فإن عدم التکلیف بنفسه قابل للتعبد ویترتب علیه عدم استحقاق العقاب علی عدم موافقة هذا التکلیف وإن کان أثراً عقلیاً لکونه من الأثر العقلی الأعم کما یأتی.

أقول: یظهر من عبارة الماتن قدس سره أن الشیخ قدس سره لا یری جریان الاستصحاب فی العدمیات ولذا ذکر أن عدم التکلیف کالتکلیف قابل للتعبد وأنه یترتب علی نفی استحقاق العقاب وإن کان الاستحقاق وعدمه أثراً عقلیاً.

ص : 328


1- (1) هذا مفاد کلام الشیخ فی التمسک باستصحاب البرائة فی اول أصل البرائة فرائد الأصول / 204.

التاسع _ أنه لا یذهب علیک أن عدم ترتب الأثر غیر الشرعی ولا الشرعی بوساطة غیره من العادی أو العقلی بالاستصحاب إنما هو بالنسبة إلی ما للمستصحب واقعاً فلا یکاد یثبت به من آثاره إلاّ أثره الشرعی الذی کان له بلا واسطة، أو بوساطة أثر شرعی آخر، حسبما عرفت فیما مرّ، لا بالنسبة إلی ما کان للأثر الشرعی مطلقاً، کان بخطاب الاستصحاب أو بغیره من أنحاء الخطاب، فإنّ

ولکن الظاهر أن مراد الشیخ قدس سره أن الاستصحاب فی البراءة عن التکلیف حال الصغر وعدمه لا یترتب علیه نفی استحقاق العقاب فإنه بعد العلم إجمالاً بتعلق حکم بالفعل بعد ذلک أما لمنع عن الفعل أو الترخیص والإذن الشرعی فی ارتکابه یترتب نفی استحقاق العقاب علی ثبوت الترخیص الشرعی فی الارتکاب والاستصحاب فی ناحیة البراءة السابقة لا یثبت هذا الترخیص الشرعی؛ لأنه من إثبات أحد الضدین بنفی الآخر وإذا لم یثبت هذا الترخیص یبقی احتمال العقاب علی ارتکاب الفعل بحاله فلابد فی نفیه من التمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان ومع انضمامها لم یکن حاجة لاستصحاب عدم التکلیف وبراءة الذمة؛ لأن قاعدة قبح العقاب بلا بیان تنفی الاستحقاق _ سواء کان فی الواقع تکلیف أو لم یکن _ والصحیح فی الجواب أن یقال: إن الاستصحاب فی ناحیة عدم حرمة الفعل فی نفسه بیان لعدم التکلیف ویترتب علی نفسه قبح العقاب علی الارتکاب ولا یبقی معه موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان ومن غیر حاجة إلی إثبات الترخیص الشرعی فی ارتکاب نفس الفعل؛ لأن مع ثبوت البیان لعدم التکلیف لا یبقی احتمال العقاب.

ولا یخفی أن المستصحب هو عدم جعل الحرمة للفعل فی الشریعة علی البالغین بنحو القضیة الحقیقیة فی مقام الجعل لا نفس البراءة الحاصلة حال الصغر أو الجنون لیقال: إن البراءة فی تلک أما بمعنی حکم العقل بعدم استحقاق الصغیر

ص : 329

آثاره شرعیّة کانت أو غیرها یترتّب علیه إذا ثبت ولو بأن یستصحب، أو کان من آثار المستصحب، وذلک لتحقق موضوعها حینئذ حقیقة، فما للوجوب عقلاً یترتّب علی الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلی غیر ذلک، کما یترتب علی الثابت بغیر الاستصحاب، بلا شبهة ولا ارتیاب، فلا تغفل [1].

والمجنون العقاب الاُخروی علی الارتکاب فالحکم من العقل غیر قابل للاستصحاب، وأما بمعنی عدم ثبوت الحرمة الشرعیة فیناقش فیه بما تقدم وبالشک فی بقاء الموضوع کما ذکر الشیخ مناقشة بقائه أیضاً فی آخر کلامه.

[1] تعرض قدس سره فی هذا التنبیه لما لم یتعرض له فی التنبیه السابق حیث ذکر فیه أنه لا یترتب علی الاستصحاب فی الحکم الشرعی أو فی الموضوع له الأثر العقلی أو العادی للمستصحب، وکذا لا یثبت الأثر الشرعی المترتب علی ذلک اللازم العقلی أو العادی بل یترتب علی المستصحب فی موارد استصحاب الحکم الشرعی نفس ذلک الحکم الشرعی، وفی موارد استصحاب الموضوع نفس الحکم المترتب علی ذلک الموضوع. نعم، إذا کان الحکم الشرعی بالاستصحاب موضوعاً لحکم شرعی آخر یثبت ذلک الحکم الآخر أیضاً بثبوت موضوعه هذا ما تعرض له سابقاً، وأما ما بقی فهو أنه إذا کان الأثر العقلی لازماً لوجود المستصحب مطلقاً ولو کان ثبوت وجوده بالأصل بأن یکون اللازم العقلی أعم من وجود الشیء واقعاً أو التعبد به ظاهراً ولو بالأصل فیترتب هذا اللازم علی الاستصحاب، وکذا یترتب الأثر المترتب علی هذا اللازم العقلی ولو کان أثراً شرعیاً کاستحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف الثابت بالاستصحاب مطلقاً أو فیما صادف الواقع علی ما تقدم عند الکلام فی استحقاق المتجری العقاب، وکوجوب الموافقة وعدم جواز المخالفة عقلاً.

ص : 330

العاشر _ إنه قد ظهر مما مرّ لزوم أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً أو ذا حکم کذلک [1] لکنه لا یخفی أنه لابد أن یکون کذلک بقاءً ولو لم یکن کذلک ثبوتاً فلو لم یکن المستصحب فی زمان ثبوته حکماً ولا له أثر شرعاً وکان فی زمان استصحابه کذلک _ أی حکماً أو ذا حکم _ یصح استصحابه کما فی استصحاب عدم التکلیف، فإنه وإن لم یکن بحکم مجعول فی الأزل ولا ذا حکم، إلاّ أنه حکم مجعول فیما لا یزال، لما عرفت من أن نفیه کثبوته فی الحال مجعول شرعاً، وکذا استصحاب موضوع لم یکن له حکم ثبوتاً، أو کان ولم یکن حکمه فعلیاً وله حکم کذلک بقاءً، وذلک لصدق نقض الیقین بالشک علی رفع الید عنه والعمل، کما إذا

أقول: ما ذکره قدس سره من الکبری المذکورة صحیح ولکن ما ذکره من المثال فیه منع فإن وجوب المتابعة أو استحقاق العقاب علی المخالفة لیس من الأثر العقلی لنفس التکلیف بل أثر لإحرازه والاستصحاب کالإمارة القائمة بالتکلیف إحراز له علی ما تقدم بل لو کان مفاد أخبار الاستصحاب جعل المماثل للمستصحب أو المماثل لحکمه بتحقق إحراز التکلیف فیترتب الأثر العقلی لإحرازه.

[1] تعرض قدس سره فی هذا التنبیه لما ذکر فی تعریف الاستصحاب من أنه الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شک فی بقائه، وأنه لا یلزم أن یکون ذلک الحکم أو الموضوع أثراً أو ذا أثر حدوثاً بل یکفی أن یکون المستصحب کذلک بقاءً حیث إنه لو لم یکن فی حدوثه کذلک وکان عند الشک فی بقائه أثراً شرعیاً أو ذا أثر أمکن التعبد ببقائه، وقد تقدم أن عدم التکلیف ولو لم یکن فی الأزل بحکم ولا ذا أثر إلاّ أنه قابل للتعبد حیث إن نفیه کثبوته بید الشارع وکذا الاستصحاب فی استصحاب أمر لا یکون فی حدوثه ذا حکم وله حکم علی تقدیر بقائه کل ذلک لشمول أخبار لا تنقض للشک فی البقاء فی مثل ذلک أیضاً أقوی، هذا فیما إذا اُرید الاستصحاب فی ثبوت الحکم

ص : 331

قطع بارتفاعه یقیناً، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتاً فیه وفی تنزیلها بقاءً، فتوهم اعتبار الأثر سابقاً _ کما ربما یتوهمه الغافل من اعتبار کون المستصحب حکماً أو ذا حکم _ فاسد قطعاً، فتدبر جیداً.

الحادی عشر _ لا إشکال فی الاستصحاب فیما کان الشک فی أصل تحقق حکم أو موضوع، وأما إذا کان الشک فی تقدّمه وتأخّره بعد القطع بتحققه وحدوثه فی زمان فإن لوحظا بالإضافة إلی أجزاء الزمان فکذا لا إشکال فی استصحاب عدم تحققه فی الزمان الأول وترتیب آثاره لا آثار تأخره عنه، لکونه بالنسبة إلیها مثبتاً إلاّ بدعوی خفاء الواسطة ، أو ع_دم التفکیک فی التنزیل بین عدم تحققه إلی زمان وتأخره عنه عرفاً، کما لا تفکیک بینهما واقعاً، ولا آثار حدوثه فی الزمان الثانی، فإنه نحو وجود خاص، نعم لا بأس بترتیبها بذاک الاستصحاب، بناءً علی أنه عبارة عن أمر مرکب من الوجود فی الزمان اللاحق وعدم الوجود فی السابق [1].

وأما الاستصحاب الجاری فی إحراز الامتثال وعدمه فقد تحقق أن هذا المقام فی نفسه قابل للتعبد من غیر أن یکون المراد فیه التنزیل لثبوت حکم شرعی أو موضوع له وأن حکم العقل بلزوم إحراز الامتثال لملاک دفع الضرر المحتمل فی عدم إحرازه وإذا حکم الشارع بحصول الامتثال کما فی موارد الاستصحاب فی شرط الواجب أو عدم مانعه لا یبقی لحکم العقل موضوع فیکون الاستصحاب وارداً علی حکم العقل بالاشتغال.

[1] قد تقدم جریان الاستصحاب فی بقاء الحالة السابقة عند احتمال انتقاضها بلا فرق بین کون الحالة السابقة أمراً وجودیاً أو عدمیاً وإذا کانت الحالة السابقة أمراً عدمیاً فقد یحتمل عدم انتقاض ذلک العدم أصلاً، وقد تقدم جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوثه وقد یعلم بانتقاض الحالة السابقة وشک فی تقدم الانتقاض

ص : 332

وإن لوحظا بالإضافة إلی حادث آخر علم بحدوثه أیضاً، وشک فی تقدم ذاک علیه وتأخره عنه، کما إذا علم بعروض حکمین أو موت متوارثین، وشک فی المتقدم والمتأخر منهما، فإن کانا مجهولی التاریخ:

فتارةً کان الأثر الشرعی لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو

وتأخره والشک فی التقدم والتأخر یلاحظ تارة بحسب أجزاء الزمان کما إذا علم بحدوث الکریة للماء وشک فی حصولها یوم الخمیس أو یوم الجمعة واُخری یلاحظ بلحاظ زمان الحادث الآخر کما إذا علم بموت الوالد والولد وشک فی بقاء حیاة الولد زمان موت الوالد أو موته قبل موت الوالد فإن کان الشک فی التقدم والتأخر بلحاظ أجزاء الزمان کما إذا غسل ثوبه المتنجس فی الماء فی المثال المتقدم یوم الخمیس وشک فی بقاء ذلک الماء علی عدم کریته یوم الخمیس، ویترتب علی ذلک یعنی الاستصحاب فی ناحیة بقائه علی عدم کریته یوم الخمیس تنجس الماء وعدم طهارة الثوب المغسول فیه؛ لأن وقوع المتنجس فی ذلک الماء محرز بالوجدان وبالاستصحاب یحرز عدم کریته فیتم موضوع تنجسه وعدم غسل الثوب بالماء الطاهر نعم لا یثبت بهذا الاستصحاب حدوث الکریة للماء یوم الجمعة؛ لأن حدوث شیء نحو وجود لا أنه مرکب من وجود الشیء فی زمان وعدم وجوده فی زمان سابق علیه، ولو کان حدوث الشیء مرکباً من الأمرین أمکن إحرازه بضم الوجدان إلی الأصل فی إحرازه ولکن الحدوث عنوان بسیط ینتزع عن وجود شیء موصوف بعدمه سابقاً.

وأما إذا شک فی بقاء الحالة السابقة بالإضافة إلی زمان الحادث الآخر فقد ذکر الماتن قدس سره ما حاصله أنه قد یکون الأثر الشرعی مترتباً علی وجود أحد الحادثین بنحو خاص کتقدمه أو تأخره أو تقارنه بأن یکون الموضوع للحکم فی خطاب الشارع أحد

ص : 333

التقارن، لا للآخر ولا له بنحو آخر، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض، بخلاف ما إذا کان الأثر لوجود کل منهما کذلک، أو لکل من أنحاء وجوده، فإنه حینئذ یعارض، فلا مجال لإستصحاب العدم فی واحد، للمعارضة باستصحاب العدم فی آخر، لتحقق أرکانه فی کل منهما. هذا إذا کان الأثر المهم مترتّباً علی وجوده الخاص الذی کان مفاد کان التامة.

هذه العناوین فی ناحیة أحد الحادثین بحیث لا یکون شیء منها موضوعاً للحکم فی ناحیة الحادث الآخر ولا العنوان الآخر فی ناحیة هذا الحادث موضوعاً لحکم آخر وفی مثل ذلک یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم حدوث ذلک النحو من الوجود بلا معارض کما یقال: إن تقدم المصلی فی صلاته علی قبر الإمام قدس سره مانع عن صلاته فإنه بالاستصحاب فی عدم تقدمه فیما إذا شک فی قبره علیه السلام یحکم بصحة صلاته، وهذا بخلاف ما إذا کان ذلک العنوان فی ناحیة الحادث الآخر موضوع الحکم بالخلاف أو کان العنوان الآخر فی ناحیة ذلک الحادث موضوعاً له فإنه یقع التعارض بین الاستصحاب فی ناحیة کل من نحوی الوجود مع الاستصحاب فی ناحیة النحو الآخر هذا کله بالإضافة إلی کون الموضوع أحد العناوین فی ناحیة أحد الحادثین بمفاد (کان) التامة.

أقول: إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی الوجود الخاص فی ناحیة کل من الحادثین فلا یوجب مجرد ذلک وقوع المعارضة بین الاستصحاب کما إذا کان الموضوع لإرث الولد تقدم موت والده علی موته والموضوع لإرث الوالد تقدم موت ولده علی موته فإن الاستصحاب یجری فی ناحیة عدم تقدم موت الوالد علی موت الولد، وعدم تقدم موت الولد علی موت والده فإنه إذا احتمل تقارن موتهما لا یرث کل منهما عن الآخر. نعم، لو علم عدم التقارن وسبق موت أحدهما علی موت الآخر

ص : 334

وأما إن کان مترتباً علی ما إذا کان متصفاً بالتقدم، أو بأحد ضدیه الذی کان مفاد کان الناقصة، فلا مورد ها هنا للإستصحاب، لعدم الیقین السابق فیه، بلا إرتیاب.

وأخری کان الأثر لعدم أحدهما فی زمان الآخر، فالتحقیق أنه أیضاً لیس بمورد للإستصحاب، فیما کان الأثر المهم مترتباً علی ثبوته للحادث، بأن یکون

وقع التعارض بینهما؛ لأن جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم تقدم موت أحدهما معیناً علی الآخر بلا مرجح، وفی کل منهما یوجب الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل.

ثمّ أردف الماتن قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی الأقسام الثلاثة الباقیة المتصورة فی المقام:

الأول _ ما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی اتصاف أحد الحادثین بأحد العناوین المتقدمة یعنی التقدم والتأخر بالإضافة إلی الحادث الآخر بمفاد (کان) الناقصة وذکر قدس سره فی وجه عدم الجریان فی اتصاف أحد الحادثین بأحدها بمفاد (کان) الناقصة عدم الحالة السابقة فی مفاد (کان) الناقصة ولکن هذا بالإضافة إلی اتصاف أحد الحادثین بأحد العناوین وأما سلب الاتصاف بأحدها زمان الآخر کالاستصحاب فی عدم کون موت أحدهما متصفاً بالتقدم أو بالتأخر أو بالتقارن من قبیل الاستصحاب فی العدم الأزلی وکون الحالة السابقة بنحو السالبة بانتقاء الموضوع لا ینافی الاستصحاب فی نفی الاتصاف وإحراز السالبة بانتفاء المحمول.

وظاهر کلام الماتن یعنی قوله: «فلا مورد ها هنا للاستصحاب لعدم الیقین السابق فیه بلا ارتباب» عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة نفی الاتصاف أیضاً، وقد ذکرنا أنه لا یکون نفی الاتصاف کثبوت الاتصاف فإن إحراز نفی الاتصاف لا یحتاج

ص : 335

الأثر للحادث المتصف بالعدم فی زمان حدوث الآخر لعدم الیقین بحدوثه کذلک فی زمان، بل قضیة الاستصحاب عدم حدوثه کذلک، کما لا یخفی. وکذا فیما کان مترتباً علی نفس عدمه فی زمان الآخر واقعاً، وإن کان علی یقین منه فی آن قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما، لعدم إحراز اتصال زمان شکه وهو زمان حدوث الآخر بزمان یقینه، لإحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.

إلی کون الحالة السابقة السالبة بانتفاء المحمول بل یمکن إحراز السالبة بانتفاء المحمول بالاستصحاب فی بقاء نفی الاتصاف الصادق عند انتفاء الموضوع. وقد بنی الماتن قدس سره علی صحة جریان هذا الاستصحاب وإحراز السالبة بانتفاء المحمول التی مفادها خارجاً هو الموضوع للحکم الشرعی ثبوتاً أو نفیاً حیث ذکر أن نفی انتساب المرأة إلی قریش قبل أن توجد یستصحب بعد أن توجد ویحکم بأنها تحیض إلی خمسین سنة. وعلی الجملة فإن کان لاتصاف أحد الحادثین بأحد تلک العناوین بالإضافة إلی الآخر بمفاد کان الناقصة أثر شرعی دون اتصاف الحادث الآخر فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم اتصافه به فینفی الأثر الشرعی المترتب علی اتصافه به ومع ترتب الأثر علی اتصاف کل منهما بأحدها بحیث یکون العلم الإجمالی موجباً لوقوع التعارض بینهما سقط الاستصحاب فی ناحیة کل منهما بملاک المعارضة بین الاُصول، وهذا بخلاف إحراز الاتصاف بأحدها فإن إحرازها بالاستصحاب موقوف علی ثبوت الحالة السابقة لنفس الاتصاف حیث إن اتصاف شیء بشیء فرع وجود ذات الموصوف بلا فرق بین کون الوصف من قبیل العرض أو کان من قبیل غیره ولو بمفاد القضیة المعدولة.

والثانی _ ما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی أحد الحادثین المتصف بالعدم فی زمان الحادث الآخر بأن یکون الموضوع للأثر الشرعی من قبیل القضیة المعدولة

ص : 336

وبالجملة کان بعد ذاک الآن الذی قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما زمانان: أحدهما زمان حدوثه، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذی یکون طرفاً للشک فی أنه فیه أو قبله، وحیث شک فی أن أیّهما مقدم وأیّهما مؤخّر لم یحرز اتصال زمان الشک بزمان الیقین، ومعه لا مجال للإستصحاب حیث لم یحرز معه کون رفع

المعبر عن ذلک بالعدم النعتی، ومن الظاهر عدم الحالة السابقة لذلک لعدم الیقین بحدوث أحد الحادثین کذلک.

أقول: الاستصحاب فی ناحیة عدم حادث فی زمان حدوث الآخر وإن لا یثبت اتصاف بعد وجوده بالعدم فی زمان الحادث الآخر لما تقدم من عدم الحالة السابقة لمفاد القضیة المعدولة إلاّ أن بعد وجوده یجری الاستصحاب فی عدم اتصافه بالعدم زمان حدوث الآخر فإن سلب الاتصاف بالعدم زمان حدوث الآخر کسلب الاتصاف بالوجود زمان وجود الآخر لا یحتاج إلی وجوده وینفی بالاستصحاب الأثر المترتب علی تحقق مفاد القضیة المعدولة.

والثالث _ ما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی عدم أحد الحادثین زمان حدوث الآخر وذکر أنه لا یجری الاستصحاب فی هذا القسم أیضاً؛ لأنه یعتبر فی جریان الاستصحاب فی شیء اتصال زمان شکه بزمان یقینه ومع تردد زمان الحادث الآخر بین زمانیین لا یحرز هذا الاتصال فإنه لو کان زمان الحادث الآخر أول الزمانین یکون عدم الحادث المستصحب به متصلاً بعدمه السابق بخلاف ما إذا کان حدوث الآخر ثانی الزمانین فإنه لو فرض عدم الحادث المستصحب فیه لما کان عدمه فیه متصلاً بعدمه السابق لتخلل وجوده بین العدمین.

وبیان ذلک بعد آخر زمان یعلم فیه عدم شیء من الحادثین زمانان: أحدهما _ زمان حدوث ما یراد الاستصحاب فی عدمه، والثانی _ زمان حدوث الآخر فإن اُرید

ص : 337

الید عن الیقین بعدم حدوثه بهذا الشک من نقض الیقین بالشک.

لا یقال: لا شبهة فی اتصال مجموع الزمانین بذاک الآن وهو بتمامه زمان الشک فی حدوثه لاحتمال تأخره علی الآخر، مثلاً إذا کان علی یقین من عدم حدوث

الاستصحاب فی عدم أحدهما المعین زمان حدوث الآخر فإن کان حدوث الآخر الزمان الأول کان أحدهما المعین باقیاً علی عدمه فی زمان حدوث الآخر فیتصل زمان شکه بزمان یقینه، وأما إذا کان حدوث الآخر فی الزمان الثانی فأحدهما المعین قد حدث فی الزمان الأول یقیناً فإن فرض عدمه فی الزمان الثانی لا یکون هذا العدم متصلاً بالعدم السابق المتیقن یعنی زمان الیقین السابق بالعدم وبما أن إحراز اتصال زمان الشک بزمان الیقین معتبر فی جریان الاستصحاب فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم شیء منهما زمان حدوث الآخر لا أنه یجری ویسقط بالمعارضة بالاستصحاب فی عدم الآخر زمان حدوثه کما عن الشیخ قدس سره لتختص المعارضة بما إذا کان لعدم کل منهما زمان حدوث الآخر أثر شرعی ولیجری الاستصحاب فی ناحیة أحدهما بخصوصه فیما کان الأثر الشرعی مختصاً به کما فی موت أخوین لأحدهما ولد دون الآخر؛ لأن الاستصحاب فی حیاة من له الولد زمان موت الأخ الآخر یترتب علیه أن یرث من أخیه بخلاف الاستصحاب فی حیاة من لیس له ولد زمان موت ذی الولد فإنه لا یترتب علیه الإرث من ذی ولد سواء مات بعده أو قبله.

ویمکن أن یکون مراده قدس سره اعتبار اتصال نفس زمان شک الحادث بزمان یقینه وحیث إن زمان شک کل من الحادثین زمان حدوث الآخر فلو کان الحادث الآخر ثانی الزمانین بعد زمان الیقین بعدمهما فیه لا یکون زمان الشک متصلاً بزمان الیقین بعدمه بل یتخلل الزمان الأول لکونه زمان حدوث نفسه بین زمان شکه وزمان الیقین بعدمه.

ص : 338

واحد منهما فی ساعة، وصار علی یقین من حدوث أحدهما بلا تعیین فی ساعة أخری بعدها، وحدوث الآخر فی ساعة ثالثة، کان زمان الشک فی حدوث کل منهما تمام الساعتین لا خصوص أحدهما، کما لا یخفی [1].

[1] قد یقال فی وجه جریان الاستصحاب فی عدم الحادث فی زمان حدوث الآخر: بأن مجموع الزمانین بعد آخر زمان کان یعلم بعدم کل منهما فیه زمان الشک فی حدوث کل منهما ومجموعهما متصلان بذلک الزمان المفروض علمه بعدم حدوث شیء منهما فیه وأجاب قدس سره عن ذلک. نعم، ولکن هذا بالإضافة إلی لحاظ الحادث بالإضافة إلی أجزاء الزمان حیث یحتمل فی کل منهما بقاؤه علی عدمه إلی الزمان الثانی، ولکن المفروض عدم کون الحادث بهذا اللحاظ موضوع الحکم بل الموضوع للأثر الشرعی عدم کل منهما أو عدم أحدهما بخصوصه فی زمان حدوث الآخر، وقد تقدم أن زمان الشک بهذا اللحاظ لا یحرز اتصاله بزمان الیقین وتعرضه قدس سره لذلک بصورة الإشکال والجواب لا تکون قرینة علی کون مراده بزمان الشک زمان الوصف.

أقول: إن أراد قدس سره من اتصال زمان الشک بزمان الیقین ما ذکرنا فی التوضیح فیرد علیه أن المعتبر فی جریان الاستصحاب العلم بالحالة السابقة واحتمال بقائها فی ظرف التعبد بالبقاء، وهذا الاحتمال حاصل فی ناحیة کل منهما بخصوصه حیث أی منهما لوحظ یحتمل بقاؤه علی عدمه فی زمان حدوث الحادث الآخر ولو لاحتمال تأخر حدوثه عن الحادث الآخر، ولم یظهر من خطابات النهی عن نقض الیقین بالشک أزید من اعتبار هذا الاحتمال.

وإن أراد أنه یعتبر أن لا یتخلل بین زمان وصف الیقین وزمان الشک زمان یعلم فیه انتقاض الحالة السابقة بأن یکون المکلف فی ظرف التعبد بالبقاء متیقناً بالإضافة

ص : 339

فإنه یقال: نعم، ولکنه إذا کان بلحاظ إضافته إلی أجزاء الزمان، والمفروض إنه لحاظ إضافته إلی الآخر، وأنه حدث فی زمان حدوثه وثبوته أو قبله، ولا شبهة أن زمان شکه بهذا اللحاظ إنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتین.

إلی زمان وشاکاً بالإضافة إلی ما بعده وفی صورة العلم بالحادثین والشک فی المتقدم والمتأخر لا یکون الأمر کذلک أی لا یحرز اتصال زمان الشک بزمان وصف الیقین؛ لأن ظرف التعبد ببقاء الحادث علی عدمه زمان حدوث الآخر کما هو الفرض، وبما أن زمان حدوث الآخر مردد بین الزمانین فلو کان زمان حدوث الآخر هو الزمان الثانی یکون زمان الشک منقطعاً عن زمان الیقین بعدم الحادث بالزمان الثانی من الأزمنة الثلاثة التی أولها زمان الیقین بعدم کل منهما فیه.

فالجواب عن ذلک: أنه لا یعتبر فی الاستصحاب تقدم الیقین بالشیء علی الشک فیه فضلاً عن اتصال زمان نفس الشک أی الزمان الثانی بالأول بل المعتبر فی جریان الاستصحاب أن یکون المکلف فی ظرف التعبد علی یقین من الشیء ویحتمل بقاؤه فی ظرف التعبد بحیث لا یکون بالإضافة إلی ذلک الظرف علم بالانتقاض ولو کان عدم العلم بالانتقاض لتردد زمان الحادث الآخر الذی ظرف التعبد بین زمانی الأول والزمان الثالث کما لو کان منشأ احتمال البقاء لتردد مکان المتیقن کما إذا علمنا بوجود زید فی البلد الفلانی وقد خرب طرفه الشرقی بحیث لو کان زید فیه لمات بخلاف ما لو کان فی طرفه الغربی فإنه فی مثل ذلک یجری الاستصحاب فی ناحیة حیاة زید، وکذلک الحال فی المقام.

وعلی الجملة لا موجب لرفع الید عن الحالة السابقة وهو عدم الحادث إلی زمان الیقین بعدم بقائه علی عدمه وهو الزمان الثالث من الأزمنة، وإذا کان الأثر لبقاء کل منهما علی عدمه أثر یخالف الأثر للآخر فیقع التعارض بینهما، وأما مثل ما لو

ص : 340

.··· . ··· .

مات أخوان لأحدهما وارث من الطبقة الاُولی دون الآخر فیجری الاستصحاب فی ناحیة حیاة من له وارث إلی زمان موت الآخر ویترتب علیه إرثه من أخیه المیت، ولا یجری الاستصحاب فی ناحیة حیاة من لیس له وارث من الطبقة الاُولی لما تقدم من عدم الأثر لحیاته حال موت أخیه، وکذا الحال فیما إذا مات الوالد المسلم وأسلم ولده الکافر ویشک فی أن إسلام الولد کان قبل موت الوالد لیرث منه أو أنه أسلم بعد موته لیکون ما ترکه لسائر ورثته فإن الاستصحاب فی عدم إسلام الولد إلی زمان موت والده ینفی موضوع الإرث للولد، وهو ما إذا مات الوالد المسلم عن ولد مسلم بخلاف الاستصحاب فی ناحیة حیاة الوالد إلی إسلام الولد فإنه لا یکون الموضوع لإرثه الولد فإنه لا یثبت موت الولد عن ولد مسلم وان الولد أسلم فی حیاة والده، وهل فیما إذا علم ملاقاة الماء للنجس وبلوغه کر أو شک فی المتقدم من الملاقاة والکریة من هذا القبیل ولو فرض الجهل بتاریخهما بمعنی أن عدم حدوث أحدهما فی زمان حدوث الآخر ذو أثر فقط لیجری الاستصحاب فی بقائه علی عدمه إلی زمان وجود الآخر بلا معارض أو أن عدم کل منهما فی زمان الآخر ذو أثر فیسقط الاستصحابان فی ناحیة عدم حدوث کل منهما فی زمان الآخر فیرجع فی الماء إلی أصالة الطهارة والظاهر أنه مع الجهل بتاریخهما یحکم بنجاسة الماء المفروض؛ لأن ملاقاته للنجاسة محرزة بالوجدان ومقتضی الاستصحاب عدم صیرورته کراً حال حدوث الملاقاة فیحرز الموضوع لانفعاله کما هو مقتضی ما دل علی تنجس الماء الذی لیس کراً بالملاقاة کما هو المفهوم من قولهم علیهم السلام : «إذا بلغ الماء قدر کر لا ینجسه شیء»(1) والاستصحاب فی عدم ملاقاته النجاسة

ص : 341


1- (1) وسائل الشیعة 1 : 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق.

فانقدح أنه لا مورد ها هنا للإستصحاب لاختلال أرکانه لا أنه مورده، وعدم جریانه إنما هو بالمعارضة، کی یختص بما کان الأثر لعدم کل فی زمان الآخر، وإلاّ کان الاستصحاب فیما له الأثر جاریاً.

المفروضة إلی صیرورته کراً لا یثبت حدوث الملاقاة حین حدوثها أو بعد حدوثها.

ومما ذکرنا یظهر أنه لا مجال للاستصحاب فی ناحیة عدم کل منهما إلی زمان حدوث الآخر لیقال بتساقطهما والرجوع إلی أصالة الطهارة، وکذا لا مجال لما ذکر النائینی قدس سره من أن الملاقاة بعد حدوث الکریة لا یوجب انفعال الماء لا الملاقاة آن حصول الکریة والوجه فی عدم المجال أن تقدم الموضوع علی الحکم رتبی لا زمانی حیث إن الحکم لا ینفک عن تمام الموضوع وإلاّ لا یکون تمام الموضوع له وتمام الموضوع للاعتصام کریة الماء یعنی الماء الکر.

وربّما یقال: إنه لا مجال للاستصحاب فی ناحیة عدم الکریة إلی زمان الملاقاة؛ لأن الملاقاة إذا حصلت فی الزمان الثالث من الأزمنة المتقدمة یکون نقض الیقین بعدم الکریة بالیقین بالکریة حیث إنه لو کانت الملاقاة فی الزمان الثالث لحصلت الکریة فی الزمان الثانی لا محالة فیکون الاستصحاب فی ناحیة الکریة إلی زمان الملاقاة من التمسک بالعام فی شبهته المصداقیة حیث یحتمل کون الاستصحاب من نقض الیقین بالیقین لا بالشک وهکذا الحال فی الاستصحاب فی ناحیة عدم الملاقاة إلی زمان الکریة.

والجواب ما تقدم فقد ذکرنا فی ردّ کلام الماتن فی ترتیب الأزمنة الثلاثة من کفایة احتمال البقاء فی جریان الاستصحاب ولا یعتبر الشک فی البقاء علی کل تقدیر واحتمال البقاء فی ناحیة الماء زمان الملاقاة موجود بالوجدان لاحتمال حدوث الکریة فی الزمان الثالث والشبهة المصداقیة لا یعقل فی صفات النفس؛ لأن علم

ص : 342

وأما لو علم بتاریخ أحدهما فلا یخلو أیضاً[1] إما یکون الأثر المهم مترتباً علی الوجود الخاص من المقدم أو الموءخر أو المقارن فلا إشکال فی استصحاب عدمه لولا المعارضة باستصحاب العدم فی طرف الآخر أو طرفه کما تقدم.

النفس بها حضوری وإنما یتصور الشبهة المصداقیة فیما کان علم النفس بها بصورها کالموجودات فی موطن آخر، وعلی الجملة العلم بحصول الکریة فی الزمان الثانی علی تقدیر کون الملاقاة فی الزمان الثالث مع عدم العلم بحصولها فی الزمان الثالث لا یکون علماً بانتقاض عدم کریة السابقة قبل الملاقاة کما تقدم فی فرض العلم بموت زید علی تقدیر کونه فی الطرف الشرقی من البلد حیث لا یخرج العلم بموته علی تقدیر من نقض الیقین بالشک ومما ذکر یظهر الحال فیما لو علم بطهارة إناء زید وتنجس إناء عمرو تفصیلاً ثمّ اشتبه الإناءان من أن کلاً من الإناءین بعد الاشتباه مجری لاستصحاب الطهارة ولکنهما یسقطان بالمعارضة ولیس هذا من قبیل الشبهة المصداقیة لخطاب «لا تنقض الیقین بالشک» لأن المکلف فی ظرف التعبد علی یقین من طهارة کل منهما ویحتمل بقاءها فی أی منهما بخصوصه لا فی مجموعهما.

[1] إذا علم بتحقق الحادثین وشک فی المتقدم والمتأخر منهما مع العلم بتاریخ حدوث أحدهما فقد ذکر الماتن فی ذلک صوراً:

الاُولی _ ما إذا کان الأثر الشرعی المرغوب مترتباً علی عنوان تقدم أحدهما علی الآخر أو تقارنه مع الآخر أو تأخره عنه، وأنه یجری الاستصحاب فی عدم تحقق هذا العنوان، وعدم وجود المقدم أو المقارن أو الموءخر بمفاد (لیس) التامة لو لم یکن فی البین معارضة بأن لم یکن هذا العنوان فی طرف الحادث الآخر موضوعاً للحکم بالخلاف أو کان غیر هذا العنوان فی طرف ذلک الحادث کذلک أی موضوعاً للحکم بالخلاف علی قرار ما تقدم، وعلی الجملة العلم بتاریخ حدوث أحدهما لا یفترق

ص : 343

وإما یکون مترتباً علی ما إذا کان متصفاً بکذا، فلا مورد للاستصحاب أصلاً، لا فی مجهول التاریخ ولا فی معلومه کما لا یخفی، لعدم الیقین بالاتصاف به سابقاً فیهما.

عن صورة الجهل بتاریخهما فی هذه الصورة.

الثانیة _ ما إذا کان الأثر مترتباً علی مفاد (کان) الناقصة أی اتصاف أحد الحادثین بالتقدم أو التأخر أو التقارن بالآخر وقد ذکر عدم جریان الاستصحاب فی هذه الصورة أصلاً؛ لأن اتصاف شیء من الحادثین بتلک العناوین غیر مسبوق بالحالة السابقة وهذه الصورة لا تفترق من صورة الجهل بتاریخهما فی الحکم بعدم جریان الاستصحاب حتی فیما لو کان الموضوع للحکم الاتصاف فی ناحیة أحدهما فقط بمفاد (کان) الناقصة، وقد ذکرنا فیما سبق أن هذا بالإضافة إلی إحراز الموضوع، وأما بالإضافة إلی نفیه یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم اتصاف ونفیه کما هو مفاد السالبة بانتفاء المحمول فیحرز ولو کانت الحالة السابقة السالبة بانتفاء الموضوع.

الثالثة _ فلم یتعرض لها فی المقام وهی ما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی الحادث إذا کان متصفاً بالعدم زمان الحادث الآخر کما هو مفاد القضیة المعدولة، وقد تقدم أن الحال فیها کالحال فی الصورة الثانیة ولعله قدس سره ترکها لذلک.

الرابعة _ ما إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی عدم أحدهما بمفاد (لیس) التامة زمان وجود الآخر بأن کان الموضوع هو عدم أحدهما ولکن زمان حدوث الآخر فقد ذکر قدس سره جریان الاستصحاب فی ناحیة مجهول التاریخ وعدم جریانه فی ناحیة معلومه وأما جریانه فی ناحیة مجهول التاریخ لإحراز اتصال زمان شکه بزمان یقینه فإن تمام الزمان بعدم زمان العلم بعدمهما إلی زمان العلم بتاریخ حدوث الآخر زمان الشک بالإضافة إلی مجهول التاریخ کما إذا مات أخوان لیس لهما وارث من الطبقة

ص : 344

.··· . ··· .

الاُولی وعلم أن الأخ الأکبر قد مات یوم الجمعة، ولکن لم یعلم أن الأخ الأصغر مات یوم الخمیس أو یوم السبت فإن الاستصحاب فی بقاء الأخ الأصغر حیاً إلی یوم الجمعة بل إلی یوم السبت یحرز به أنه یرث الأخ الأکبر فإنه قد مات یوم الجمعة وکان أخوه حیاً فی ذلک الزمان فیتم الموضوع لکونه وارثاً، وأما الأخ الأکبر فلا مجال للاستصحاب فی حیاته؛ لأنه قبل یوم الجمعة کان حیاً قطعاً ویومها کان میتاً قطعاً وبقاء حیاته زمان موت أخیه الأصغر وإن کان محتملاً إلاّ أنه لم یحرز اتصاله بزمان یقینه حیث إنه لو کان زمان موت الأصغر یوم السبت لکان منفصلاً عن زمان الیقین بعدم موت الأکبر بزمان الیقین بموته وفیه ما تقدم من أن إحراز هذا الاتصال غیر معتبر بل المعتبر احتمال البقاء فی حیاة الأخ الأکبر زمان موت الأصغر وهذا الاحتمال موجود لاحتمال موت الأصغر یوم الخمیس.

وذکر النائینی قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة المعلوم تاریخه لا لما ذکر الماتن قدس سره أو غیره بل لأن خطابات الاستصحاب من أخبار «النهی عن نقض الیقین بالشک» ناظرة إلی التعبد ببقاء الحالة السابقة فی عمود الزمان عند الشک فی بقائها فی الزمان ولا یکون فی ناحیة المعلوم تاریخه احتمال البقاء فی عمود الزمان؛ لأن عدمه قبل التاریخ المحرز حدوثه فیه معلوم وعدم بقائه فیما بعده أیضاً معلوم.

لا یقال: الحادث المعلوم تاریخه وإن کان بالإضافة إلی أجزاء الزمان کذلک لکن بالإضافة إلی زمان الحادث المجهول تاریخه مشکوک.

فإنه یقال: إذا علم مثلاً إسلام الوارث عند غروب الشمس وتردد موت المورث بین أن یکون قبل الغروب أو بعده فإن قید إسلام الوارث بزمان موت المورث، وقیل: إن إسلامه کذلک مشکوک فهو صحیح ولکن إسلامه المقید بزمان موت المورث

ص : 345

.··· . ··· .

لیس لعدمه حالة سابقة، وإن اُرید عدم إسلامه فی زمان من أجزاء الزمان وجد فیه موت المورث فهذا تعبیر عن ملاحظة الحادث المعلوم تاریخه بحسب أجزاء الزمان ولیس فی ناحیته شک بالإضافة إلی زمان من تلک الأزمنة.

أقول: ملاحظة المعلوم تاریخه بالإضافة إلی زمان یضاف إلی موت المورث وبقاء إسلام الوارث علی عدمه فی ذلک محتمل ولو باحتمال موت المورث قبل الغروب، وبتعبیر آخر أجزاء الزمان بالإضافة إلی إسلام الوارث متعین ولکن بالإضافة إلی موت المورث غیر متعین، وإذا کان الأثر مترتباً علی عدم إسلام الوارث زمان موت المورث فیحتمل بقاء عدم إسلام الوارث علی عدمه فی ذلک الزمان ولو بکون ذلک الزمان متقدماً علی الغروب، وعلی الجملة لا فرق فی جریان الاستصحاب فی عدم الحادث بمفاد (لیس) التامة بین المعلوم تاریخه والمجهول تاریخه فإن کان لعدم کل منهما زمان الآخر أثر فالاستصحاب فی ناحیة عدم کل منهما معارض بالمثل فیتساقطان وإلاّ جری فی ناحیة خصوص ما له أثر شرعی.

إذا ظهر ذلک فلنرجع إلی الفرع السابق ما إذا علم بحدوث الکریة للماء بإلقاء الماء القلیل علیه شیئاً فشیئاً وعلم أیضاً بملاقاته للنجاسة وشک فی المتقدم من الملاقاة وحدوث الکریة فهل یحکم بطهارة الماء فی جمیع الصور من الجهل بتاریخهما والعلم بتاریخ الکریة أوالعلم بتاریخ الملاقاة للرجوع بأصالة الطهارة بعد تساقط الاستصحاب فی ناحیة کل من عدم الملاقاة إلی زمان الکریة مع الاستصحاب فی ناحیة عدم الکریة إلی زمان الملاقاة حتی فی صورة العلم بالکریة من حیث التاریخ أو الحکم بالطهارة فی صورتین فقط:

إحداهما _ الجهل بتاریخ کل من الکریة والملاقاة حیث إنه بعد تعارض

ص : 346

.··· . ··· .

الاستصحابین یرجع إلی أصالة الطهارة.

وثانیتهما _ الجهل بتاریخ الملاقاة حیث یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم الملاقاة إلی زمان الکریة، وأما الصورة الثالثة _ وهی العلم بتاریخ الملاقاة فقط فإنه یحکم بنجاسته للاستصحاب فی ناحیة عدم الکریة إلی زمان الملاقاة وهذا القول مبنی علی عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة المعلوم تاریخه وتعارض الاستصحابین فی صورة الجهل بتاریخهما أو الحکم بنجاسة الماء فی جمیع الصور الثلاث، والتزم بذلک النائینی قدس سره وبنی الحکم بها علی مقدمة ذکرها وهی أنه إذا ورد فی الخطاب حکم إلزامی بنحو العموم الاستغراقی سواء کان ذلک مفاد العام الوضعی أو الإطلاق واستثنی من هذا العام عنوان وجودی بثبوت حکم ترخیصی له فالمتفاهم العرفی أنه یعتبر فی رفع الید عن ذلک فی فرد إحراز انطباق عنوان المستثنی علی ذلک الفرد کما إذا قال المولی لعبده: لا تأذن أحداً فی الدخول علیَّ، ثم قال: لا بأس بدخول العالم، فیکون اللازم فی إذن العبد للدخول إحراز أن المأذون عالم، وعلیه فی مسألة الشک فی تقدم الکریة أو الملاقاة یحکم بنجاسة الماء مع الجهل بتاریخهما؛ لأن المعتبر فی الحکم بعدم انفعال الماء حدوث الملاقاة بعد صیرورة الماء کراً والاستصحاب فی عدم ملاقاة الماء إلی زمان الکریة لا یثبت حدوث الملاقاة بعد صیرورته کراً وأما فی صورة الجهل بتاریخ الکریة فقط فیجری الاستصحاب فی ناحیة عدم کریة الماء وبقاء قلته إلی زمان الملاقاة، ولا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم الملاقاة إلی زمان الکریة لوجهین:

أولهما _ أنه لا یثبت الملاقاة بعد حدوث الکریة.

والثانی _ أن الملاقاة معلومة التاریخ وأما فی الصورة الثالثة یعین العلم بتاریخ

ص : 347

.··· . ··· .

الکریة فلا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم الکریة للعلم بتاریخها ولا فی ناحیة عدم الملاقاة لکونه مثبتاً حدوثها بعد الکریة ولا یحکم بأصالة الطهارة لما أسسه من القاعدة حیث إن حکم الشارع بالاجتناب عن الملاقی للنجس إلاّ الکر من الماء مقتضاه لزوم إحراز سبق الکریة علی الماء.

وفیه: أنه لا یستفاد من قولهم علیهم السلام : «إذا بلغ الماء قدر کر لا ینجسه شیء» أنه یعتبر فی عدم انفعال الماء بالملاقاة سبق الکریة علی الملاقاة زماناً بل مفاده اعتبار کریة الماء عند ملاقاته مع النجاسة وأیضاً ما ذکر قدس سره من أنه إذا ورد عام إلزامی واستثنی منه عنوان وجودی والحکم علیه بالترخیص مقتضاه لزوم إحراز العنوان الوجودی فی ثبوت الحکم الترخیصی وعلی ذلک أیضاً بنی عدم جواز النظر إلی المرأة المشکوکة کونها من محارمه أو من الأجنبیة حیث إن الشارع حکم بحرمة النظر إلی النساء إلاّ محارمه، وکذا فیما إذا شک فی أن الدم أقل من الدرهم لیکون معفواً فی الصلاة حیث یحکم بمانعیة الدم فی الثوب والبدن للصلاة إلاّ مع إحراز کونه أقل منه لا یمکن المساعدة علیه فإنه إن أراد أن الخارج عن الحکم الإلزامی واقعاً ما اُحرز فیه العنوان الوجودی فهو خلاف ظاهر الخطاب حیث إن المتفاهم العرفی من عناوین الموضوعات واقعها بلا فرق بین تلک الموارد وغیرها وإن اُرید فهم حکم ظاهری بالإضافة إلی الفرد المحتمل دخولها فی العام أو الخارج منه ففیه أن الخطاب المفروض لا یتکفل إلاّ بیان الحکم الواقعی لا الظاهری والحکم الطریقی سواء کان وجوب الاحتیاط فی الفرد المشکوک أو غیره. نعم، یلزم الاحتیاط فی مثل المرأة المشکوکة فی کونها من المحارم ولکنه للاستصحاب فی عدم کونها منها أما بالاستصحاب فی العدم الأزلی أو بنحو الاستصحاب العدم المحمولی ومع

ص : 348

.··· . ··· .

الإغماض عما ذکرنا فلا یفید ما أسسه فی الحکم بنجاسة الماء عند الشک فی تقدم الملاقاة وتأخرها مع العلم بتاریخ الکریة فإن هذه المسألة لیست من صغریات القاعدة لما ورد فی جواز الاستعمال فی الماء إذا لم یغلب النجاسة علیه واستثنی من هذا الترخیص الراکد إذا لم یبلغ قدر کر حیث ثبت فیه لزوم الاجتناب.

وقد ذکرنا الحکم بنجاسة الماء فی جمیع الفروض الثلاثة لما ذکرنا من جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم الکریة عند حدوث الملاقاة المحرزة، وبتعبیر آخر بقاء الماء علی قلته زمان الملاقاة تمام الموضوع لتنجس الماء المحرز قلته فی ذلک الزمان بالاستصحاب وملاقاته مع النجاسة بالوجدان من غیر فرق بین الجهل بتاریخهما أو حتی العلم بتاریخ الکریة فإن زمان حدوث الکریة بالإضافة إلی حدوثها محرز، وأما بالإضافة إلی زمان الملاقاة غیر محرز ولا یعارض هذا الأصل بأصالة عدم الملاقاة إلی زمان الکریة لعدم الشک فی نجاسة الماء المفروض مع جریان الاستصحاب فی عدم الکریة وبقاء الماء علی قلته زمان الملاقاة فإن اُرید بالاستصحاب فی عدم الملاقاة إلی زمان الکریة نفی الجزأین اللذین هما تمام الموضوع لنجاسة الماء فلا شک فیهما، وإن اُرید نفی المعیة فی حدوثهما فعنوان المعیة غیر مأخوذ فی موضوع تنجسه بل الموضوع له ذات الجزأین بمفاد (واو) الجمع مع أن الاستصحاب فی عدم الملاقاة إلی زمان الکریة لا یثبت وقوع النجس الموجود فی الماء عند کریته، ولو کان الاستصحاب فی عدم ملاقاة الماء زمان عدم کریته النجاسة جاریاً فی الفرض لزم الحکم بطهارة الماء الملاقی للنجس حتی مع عدم العلم بکریته أصلاً بأن احتمل الکریة فیه عند ملاقاته؛ لأن الاستصحاب فی عدم الملاقاة زمان قلة الماء فی الفرض أیضاً یجری ویعارض بالاستصحاب

ص : 349

.··· . ··· .

فی عدم الکریة زمان الملاقاة فیرجع إلی أصالة الطهارة بعد تعارض الاستصحابین وتساقطهما، وهذه المسألة سیالة تجری فیما إذا حدث أمران وکان الأثر مترتباً لعدمه زمان الآخر المعلوم حدوثه کما إذا انقضت العدة فی المرأة المطلقة بطلاق رجعی وحصل الرجوع فیشک فی أن الرجوع کان قبل انقضاء العدة أو بعد انقضائها فإنه علی ما ذکرنا الرجوع محرز بالوجدان فیستصحب عدم انقضاء العدة فی ذلک الزمان فیحکم بصحة الرجوع ولا یعارض باستصحاب عدم حصول الرجوع زمان العدة فإنه لو صحت هذه المعارضة لجرت فیما إذا حصل الرجوع مع الشک فی انقضاء العدة فعلاً من غیر علم بانقضائها؛ لأن الرجوع لم یکن فی زمان فیحتمل بقاؤه علی عدمه زمان العدة لاحتمال انقضائها عند حصول الرجوع، وکما یقال بأن الاستصحاب فی هذه الموارد فی ناحیة عدم الرجوع زمان العدة یرجع إلی نفی المعیة کذلک الکلام فی مسألة العلم بالحادثین، وقد ورد فی صحیحة زرارة الاستصحاب فی ناحیة الوضوء والحکم بصحة الصلاة مع ذلک الوضوء المستصحب مع أنه بناءً علی المعارضة لا یمکن أن یقال نفس الصلاة محرزة بالوجدان والوضوء بالاستصحاب لجریان الاستصحاب فی عدم الصلاة زمان الوضوء. ودعوی أن الشک فی الصلاة زمان الوضوء مسبب عن الشک فی بقاء الوضوء زمان الصلاة فیکون الاستصحاب فی ناحیة الوضوء أصلاً سببیاً حاکماً علی الاستصحاب فی ناحیة تحقق الصلاة زمان الوضوء کما تری لما تقدم من أن مجرد المنشئیة لا تصحح الحکومة بل لابد فی الحکومة من کون الترتب شرعیاً فحصول الصلاة بالوضوء مع بقاء الوضوء عقلی. والجواب الصحیح أن متعلق التکلیف حصول ذات الأمرین فی زمان واحد فی موارد الجزء وحصول الصلاة زمان الوضوء کما فی مراد الشرط وإذا أتی بالصلاة وتعبد

ص : 350

وإما یکون مترتّباً علی عدمه الذی هو مفاد لیس التامة فی زمان الآخر، فاستصحاب العدم فی مجهول التاریخ منهما کان جاریاً، لإتصال زمان شکه بزمان یقینه، دون معلومه لانتفاء الشک فیه فی زمان، وإنما الشک فیه بإضافة زمانه إلی الآخر، وقد عرفت جریانه فیهما تارة وعدم جریانه کذلک أخری.

الشارع بکونه زمان الوضوء تحقق متعلق التکلیف.

لا یقال: فکیف یکون مورد التعارض فی مسألة العلم بحدوث الحادثین والشک فی المتقدم والمتأخر منهما.

فإنه یقال: مورده أن یکون العنوان الواحد منطبقاً علی کل من الحادثین، ویکون عدم کل منهما زمان حدوث الآخر موضوعاً لحکم یخالف حکم الآخر کما إذا مات أخوان لیس لهما وارث من الطبقة الاُولی وشک فی المتقدم فی الموت منهما. فکما أن بقاء الأخ الأکبر زمان موت الأخ الأصغر موضوع لکونه وارثاً للمیت أی الأخ الأصغر کذلک بقاء الأخ الأصغر علی حیاته زمان موت الأکبر موضوع لکونه وارثاً للأخ الأکبر وفی الفرض یقع التعارض فی ناحیة الاستصحاب فی حیاة کل منهما زمان موت الآخر، وفی مثل ذلک إذا لم یحرز الموت فی ناحیة أحدهما بخصوصه أصلاً بل احتمل ذلک یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم موته زمان موت الآخر بلا معارضة، وکذلک إذا کان الأثر الشرعی مترتباً علی عدم موت أحدهما بخصوصه زمان موت الآخر کما فی موت أخوین لأحدهما بخصوصه وارث من الطبقة الاُولی دون الآخر فإنه یجری الاستصحاب فی ناحیة حیاة الأخ الذی له وارث من الطبقة الاُولی زمان موت الآخر ولا یجری الاستصحاب فی ناحیة من لیس له وارث فإنه لا أثر لحیاته عند موت أخیه حتی تحرز بالاستصحاب هذا بالإضافة إلی العنوان الواحد المنطبق علی کل من الحادثین، وأما إذا کان ظاهر الخطاب الشرعی کون

ص : 351

فانقدح أنه لا فرق بینهما، کان الحادثان مجهولی التاریخ أو کانا مختلفین، ولا بین مجهوله ومعلومه فی المختلفین، فیما اعتبر فی الموضوع خصوصیة ناشئة من إضافة أحدهما إلی الآخر بحسب الزمان من التقدم، أو أحد ضدیه وشک فیها، کما لا یخفی.

کما انقدح أنّه لا مورد للإستصحاب أیضاً فیما تعاقب حالتان متضادتان[1]

الشیء محکوماً بحکم عند حدوث الآخر ومحکوماً بحکم خلاف عدم حدوثه فإن اُحرز ذلک الشیء واُحرز عدم الآخر یثبت الحکم المترتب علی ذلک الشیء عند عدم حدوث الآخر نظیر کون ملاقاة النجس الماء منجساً له إذا لم یکن کراً علی ما تقدم فی مسألة الکریة والملاقاة ومسألة الرجوع فی الطلاق زمان العدة أو بعد انقضائها.

لا یقال: الاستصحاب فی عدم ملاقاة ما صار کراً إلی زمان بلوغه إلی حدّه لیس لنفی تنجس الماء لیقال: أنه قد اُحرز الموضوع لتنجسه بل الاستصحاب لإثبات کون الماء المفروض داخل فی موضوع الماء المعتصم حیث إن الراکد المعتصم ما إذا وصل حد الکر ولم یلاق إلی بلوغه إلی ذلک الحد النجاسة فإنه یقال: قد اُحرزت ملاقاته النجاسة بالوجدان ومقتضی الاستصحاب قلته ذلک الزمان مع أن بلوغ الماء کراً موضوع للاعتصام بالإضافة إلی وقوع النجاسة فیه زمان کریته والاستصحاب فی عدم وقوع النجاسة المفروضة فیه زمان قلته لا یثبت وقوعها فیه فی زمان کریته.

فی تعاقب الحالتین والشک فی المتقدم منهما

[1] بقی الکلام فیما إذا تعاقبت حالتان مختلفتان وشک فی المقدم والموءخر منهما کما إذا علم المکلف بالوضوء والحدث وشک فی المقدم منهما والموءخر منهما فقد ذکر الماتن قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة شیء منهما مع الجهل

ص : 352

کالطهارة والنجاسة وشک فی ثبوتهما وانتفائهما للشک فی المقدّم والموءخّر منهما وذلک لعدم إحراز الحالة السابقة المتیقّنة المتّصلة بزمان الشک فی ثبوتهما، وترددها بین الحالتین، وأنّه لیس من تعارض الإستصحابین، فافهم وتأمل فی المقام فإنّه دقیق.

بتاریخهما من حیث الحدوث لعدم الحالة السابقة المحرزة اتصال زمان شکها بها وأن عدم جریانه لیس للتعارض بین الاستصحابین ومع العلم بتاریخ حدوث أحدهما فمقتضی ما ذکره جریان الاستصحاب فی ناحیته لتعین الحالة السابقة فیه بخلاف المجهول تاریخه فإنه لا یحرز فیه اتصال زمان شکه بزمان یقینه والمحکی عن جامع المقاصد أنه مع اختلاف الحالتین یوءخذ بضد الحالة السابقة علی الحالتین.

وذکر بعض الأعلام قدس سره فی تقریبه ما حاصله أنه یعتبر فی جریان الاستصحاب العلم بالحالة السابقة تفصیلاً أو إجمالاً وهذا العلم حاصل بالإضافة إلی ضد الحالة السابقة علی الحالتین؛ ولذا یجری الاستصحاب فی ناحیتها للشک فی بقائها وغیر حاصل بالإضافة إلی الحالة الموافقة ولذا لا یجری الاستصحاب فی ناحیتها مثلاً إذا کان المکلف علی حدث أصغر فی أول النهار ثم علم بالوضوء والنوم بعد أول النهار وشک فی أنه توضأ ثمّ نام فالآن محدث أو أنه نام ثمّ توضأ فالآن علی طهر فیکون المکلف علی علم بحصول الطهارة له بوضوئه ویحتمل بقاء تلک الطهارة فعلاً فیستصحب وأما بالإضافة إلی الحدث فلا مجری للاستصحاب؛ لأنه إن اُرید الحدث أول النهار بأن یکون المستصحب نفس ذلک الحدث فقد علم بانتقاضه، وإن اُرید حدث آخر غیره فلا علم بحصوله؛ لأن العلم بالنوم مع احتمال کونه قبل الوضوء لا یوجب العلم بحدوث حدث آخر نعم یحتمل کونه بعد الوضوء فإنه علی هذا التقدیر حدث آخر ولکن ذلک مجرد احتمال لا یقین به.

ص : 353

.··· . ··· .

لا یقال: العلم بالحدث عند نومه محرز فیستصحب ذلک الحدث سواء کان حدوثه من أول النهار أو عند النوم.

فإنه یقال: لا یمکن أن یکون هذا الاستصحاب شخصاً؛ لأن الحاصل بالنوم غیر محرز والحاصل من الأول غیر باق فیتعین أن یکون المستصحب من قسم الکلی أی طبیعی الحدث الأصغر من غیر ملاحظة کونه من الأول أو بالثانی والاستصحاب فی ناحیة الطبیعی غیر جار؛ لأنه یعتبر فی جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی أن یکون الفرد المحتمل حدوثه متصلاً لارتفاع الفرد الأول أو مقارناً لحدوث الفرد الأول لئلا یتصل العدم فی الطبیعی بین ارتفاع الفرد الأول وحدوث الفرد الثانی المحتمل حدوثه ولکن فی المقام لو کان حدث آخر بالنوم غیر الحدث الذی کان فی أول النهار لکان الحدث الأصغر منفصلاً عن الأول بالوضوء فی الوسط.

ثمّ إنه قدس سره ذکر إذا کان تاریخ حدوث إحدی الحالتین معلوماً فإن کان المعلوم تاریخها ضداً للحالة السابقة فیجری الاستصحاب فی ناحیتها بلا معارض لعدم جریان الاستصحاب فی ناحیة المجهول تاریخها بعین ما تقدم وأما إذا کان المعلوم تاریخها موافقاً للحالة السابقة للحالتین فیجری الاستصحاب فی ناحیتها وناحیة المجهول تاریخه ویسقطان بالمعارضة فلابد فی إحراز شرط الصلاة من الوضوء لها بمقتضی قاعدة الاشتغال.

أقول: لم یظهر الفرق بین ما کان الموافق للحالة السابقة معلوم التاریخ أو مجهوله فإنه إن اُرید مع العلم بتاریخ النوم یستصحب الشخص أی الحدث الحاصل بالنوم فلا علم بالحدث الحاصل بالنوم، وإن اُرید الحدث الحاصل بالسبب السابق فقد ارتفع ذلک الحدث قطعاً بالوضوء وإن اُرید استصحاب الحدث عند النوم فإنه قطعی

ص : 354

.··· . ··· .

بأی سبب حصل بالسابق أو النوم لیکون الاستصحاب فیه من قبیل الاستصحاب فی القسم الثانی فیجری هذا فی فرض کونهما مجهولی التاریخ أیضاً فإنه کما یستصحب ضد الحالة السابقة لتمام رکنی الاستصحاب فیه کذلک یجری فی الموافق للحالة السابقة بأن یقال زمان النوم الحدث کان محرزاً ویحتمل بقاؤه ولو بکون ذلک الحدث حدوثه بذلک النوم.

والحاصل: أن القسم الثالث من الکلی الذی منعنا فی السابق جریان الاستصحاب فیه، والتزم القائل قدس سره بما ذکر جریانه فیه، ویعتبر فی الجریان کون حدوث الفرد مقارناً لارتفاع الفرد المتیقن أو مقارناً لوجوده هو ما إذا کان الیقین بالطبیعی للیقین بالفرد المحرز انتفاؤه والشک فی بقائه لاحتمال حدوث فرد آخر، وأما إذا کان الیقین بالطبیعی مع قطع النظر عن الیقین بالفرد السابق کما فی المقام للعلم بکون المکلف محدثاً عند نومه فهذا داخل فی القسم الثانی من الکلی، ولا یعتبر فی جریان الاستصحاب فیه شیء، ولذا جعل ما ذکر من الفرض من القسم الرابع من الاستصحاب فی ناحیة الکلی وإن کان الصحیح القسم الثانی هذا مع قطع النظر عن أن اختلاف موجبات الحدث الأصغر لا دخل له فی الحدث بل المستصحب شخص الحدث الأصغر الذی کان عند النوم سواء کان تاریخ النوم معلوماً أو مجهولاً، ولا یعتبر فی جریان الاستصحاب فیه إلاّ احتمال بقاء ذلک الشخص ولو لاحتمال کون النوم بعد الوضوء.

لا یقال: قد تقدم انحلال هذا العلم الإجمالی وأن المکلف یعلم بارتفاع الحدث السابق علی الحالتین، ویحتمل حدوث حدث آخر، ولا یقین به لیجری الاستصحاب فی ناحیة بقائه.

ص : 355

.··· . ··· .

فإنه یقال: العلم بارتفاع الحدث الناشئ من الموجب السابق لا یمنع عن تحقق أرکان الاستصحاب؛ لأن حدوث الحدث بموجب معین لا أثر له وإنما الأثر مترتب علی الحالة التی کان علیها المکلف عند بوله سواء کان الحدث به أو بالموجب السابق، وإن تلک الحالة مما یحتمل بقاؤها فعلاً ولو لاحتمال کون الوضوء قبلها کما أن الأثر مترتب علی الحالة التی یعبر عنها بالطهارة أو حالة الوضوء، ویحتمل بقاؤها لاحتمال کون الوضوء بعد البول.

ومما ذکرنا یظهر الحال أنه لو علم بحدوث ما یوجب النجاسة وما یوجب الطهارة لشیء وشک فی المتقدم والمتأخر منهما مع العلم بأن الشیء المفروض کان قبلهما نجساً أنه لا عبرة بالعلم بالنجاسة السابقة لارتفاعه قطعاً ولکن یجری الاستصحاب فی بقاء نجاسته التی کانت عند حدوث ما یوجبها ولو لاحتمال کونها بعد حدوث ما یوجب طهارته، ویتعارض مع طهارته التی کانت عند عروض ما یوجب طهارته فیرجع بعد ذلک إلی أصالة الطهارة بلا فرق بین العلم بتاریخ أحدهما أو الجهل بتاریخهما، وکل ذلک؛ لأن الیقین بوجود الشیء لا یرفع الید عنه إلاّ بالیقین بارتفاعه وعدم بقائه کما هو مقتضی أخبار النهی عن نقض الیقین إلاّ بالیقین علی خلافه والیقین بالخلاف بالإضافة إلی السابق علی الحالتین، وأما بالإضافة إلی الحالة التی کانت عند حدوث الموجب ثانیاً لتلک الحالة فلا یقین بارتفاعها، وإن لم یعلم بحدوثها بذلک الموجب غایة الأمر یکون الاستصحاب فی الفرض من قبیل الاستصحاب فی الفرد المردد الذی تقدم جریانه لتمام أرکان الاستصحاب فیه.

فی ما ورد فی إهراق الإناءین مع انحصار الماء فیهما

بقی فی المقام أمر وهو أنه قد ورد فی إناءین یعلم المکلف بنجاسة أحدهما

ص : 356

.··· . ··· .

ولیس له ماء آخر أنه یهریقهما ویتیمم(1)، وذکر جماعة منهم الماتن قدس سره أن الحکم الوارد أی التیمم للصلاة علی القاعدة بحیث لولا النص لقلنا به أیضاً فإن المکلف بعد التوضؤ من کل منهما وأن یعلم أنه توضأ بوضوء صحیح کما إذا طهر أعضاء الوضوء قبل التوضؤ بالماء الثانی إلاّ أنه یبتلی بالخبث الاستصحابی فی أعضائه حیث یعلم عند التوضؤ بالماء الثانی قبل جریان الماء علی عضوه بنجاسة ذلک العضو أما بالماء الأول أو الثانی، وتلک النجاسة تستصحب بعد الوضوء بالثانی وتمنع عن الصلاة، ولکن لا یخفی أن مقتضی ما تقدم أنه کما یجری الاستصحاب فی ناحیة هذه النجاسة العارضة کذلک یجری فی ناحیة الطهارة المعلومة حصولها عند استعمال الطاهر من الماءین وبعد تساقطهما یرجع إلی أصالة الطهارة فی الأعضاء، وأما الحدث فالمکلف علی یقین من ارتفاعه عند التوضؤ بالأول أو بالثانی.

نعم، یمکن أن یقال لا مجری لأصالة الطهارة فی الأعضاء؛ لأن المکلف عند غسل أول عضو بالماء الثانی یعلم إجمالاً نجاسة هذا العضو أو العضو الثانی الذی لم یغسل، وبعد تساقط أصالة الطهارة فی کل منهما أیضاً لا یمکن الرجوع إلی أصالة الطهارة فی الأعضاء بعد غسلها بالماء الثانی علی ما هو المقرر فی محله من أن زوال العلم الإجمالی بزوال بعض الأطراف لا یوجب جریان الأصل النافی الساقط من قبل فی الطرف الباقی، وعلی ذلک یبقی احتمال تنجس الأعضاء مانعاً عن الصلاة، ولکن هذا المحذور یمکن علاجه بتکرار الصلاة بعد کل من الوضوء الأول والوضوء بالماء الثانی وبذلک یحرز الإتیان بالصلاة مع الطهارة من الحدث والخبث ولعل حکمة ما

ص : 357


1- (1) انظر الکافی 3 : 10.

.··· . ··· .

ورد من الحکم التعبدی بإهراق الماءین والتیمم للصلاة صعوبة هذا النوع من الاحتیاط لنوع الناس أو عدم الابتلاء بتنجس الأعضاء بالإضافة إلی الصلاة التی لم یدخل وقتها.

لا یقال: کیف لا یجوز الاکتفاء بصلاة واحدة بعد الوضوءین علی ما تقدم فإن احتمال النجاسة فی الأعضاء لا أثر له فإن المانع عن الصلاة هی نجاسة الثوب والبدن إذا کانت محرزة.

فإنه یقال: النجاسة المحتملة علی تقدیرها مانعة فی أطراف العلم الإجمالی کما یشهد بذلک ما ورد فی صحیحة زرارة(1) من أمره علیه السلام بغسل تمام الناحیة من الثوب إذا علم إجمالاً تنجس موضع منها، وقد تقدمت هذه الصحیحة عند التعرض للأخبار الواردة فی بیان اعتبار الاستصحاب، وربما یقال: أنه إذا أمکن تطهیر أعضاء الوضوء بعد الوضوء بالماء الثانی ببقیة الماء الأول یحرز طهارة الأعضاء من النجاسة المعلومة بالإجمال من قبل وإن احتمل تنجس الأعضاء ثانیاً، ومعه لا حاجة إلی تکرار الصلاة بعد کل وضوء لعلمه بصحة أحد الوضوءین وجریان أصالة الطهارة فی أعضائه لکون تنجسها ثانیاً خارجاً عن طرفی العلم الإجمالی الأول.

ودعوی حصول العلم الإجمالی ثانیاً أما بنجاسة العضو الذی غسله بالماء الأول أو العضو الذی لم یغسله ثانیاً لا یمکن المساعدة علیها؛ لأن هذا العلم الإجمالی غیر منجز لسقوط الأصل النافی فی العضو الذی لم یغسله بالماء الأول ثانیاً قبل ذلک بالمعارضة فهذا نظیر العلم الإجمالی بعد ملاقاة طاهر لأحد طرفی

ص : 358


1- (1) تهذیب الأحکام 1 : 432، الباب 22، الحدیث 8.

.··· . ··· .

العلم الإجمالی بالنجاسة حیث إن العلم الإجمالی الحاصل بنجاسة الملاقی (بالکسر) أو الطرف الآخر للملاقی (بالفتح) لا أثر له لسقوط الأصل النافی فی الطرف للملاقی (بالفتح) بالمعارضة مع الأصل النافی فی ناحیة نفس الملاقی (بالفتح) قبل حصول الملاقاة.

ثمّ إن مورد النص وإن کان إناءین من الماء الطاهر وقع قذر فی أحدهما ولم یعلم أیهما ولم یجد المکلف ماءً آخر لکن الحکم یجری فیما إذا کان کلّ من الإناءین نجساً ووقع المطهر لأحدهما ولم یعلم الطاهر من المتنجس فإنه لا یحتمل تعین التیمم أو جوازه فی مورد النص وتعین الوضوء فی الفرض بما تقدم. نعم، یفترق هذا المورد عن مورد النص فی الملاقی لأحد الماءین فإنه فی الفرض یحکم بنجاسته وفی مورد النص بالطهارة کما تقدم الکلام فی ذلک فی بحث الملاقی لبعض أطراف العلم، ولا فرق فی فرض الحکم بنجاسة الملاقی لأحدهما بین أن لا یعلم من الأول وقوع المطهر فی أیهما وبین ما علم أولاً ما وقع فیه المطهر ثمّ اشتبه ذلک بغیره بأن علم وقوعه علی إناء زید ولکن اشتبه إناؤه بغیره کما لا فرق بین ما إذا علم وقوع المطهر علی أحدهما خاصة أو احتمل وقوعه علی کل منهما فإنه فی جمیع الفروض الثلاثة یحکم بنجاسة الملاقی لأحدهما، وقد منع المحقق النائینی قدس سره جریان الاستصحاب فی بقاء الإناءین علی نجاستهما بدعوی أن التمسک بأخبار لا تنقض فی صورة العلم بطهارة أحدهما بالتعیین الخارجی أو بالعنوان من التمسک بالعام فی شبهته المصداقیة؛ لأن الملحوظ منهما یحتمل أن یکون نقض الیقین بنجاسته من نقضه بالیقین بالطهارة لاحتمال کونه الإناء الذی علم طهارته عیناً أو بالعنوان المعین، ومنع أیضاً جریانه فی فرض ما إذا علم إجمالاً بوقوعه علی أحدهما لا بعینه بدعوی

ص : 359

.··· . ··· .

أن الاستصحاب أصل محرز یکون مفاده اعتبار العلم بالشیء ومع العلم بطهارة أحد الإناءین وجداناً لا یمکن اعتبار المکلف عالماً بنجاسة کل منهما ولکن لا یخفی ما فی الدعویین أما الدعوی الاُولی فقد تقدم أن المعتبر فی جریان الاستصحاب فعلیة الیقین بالحالة السابقة والشک فی بقائها وهذا حاصل فی کل واحد من الإناءین مع لحاظه فی نفسه والشبهة المصداقیة فی العلم والشک غیر متصور، وأما الدعوی الثانیة فلأن الاستصحاب ولو کان أصلاً محرزاً إلاّ أنه لیس من العلم الوجدانی حتی یوجب العلم بالنجاسة فی أحدهما العلم بطهارة الآخر کما لا یعتبر فی مثبتاته کبعض الأمارات فلا منافاة بین أن یعتبر الشارع المکلف عالماً بنجاسة هذا الإناء ما دام یحتملها ویعتبره عالماً بها أیضاً ما دام یحتملها فی الآخر منهما.

الاستصحاب فی صحة العمل عند الشک فی مانعیة شیء فیه

تنبیه: قد ذکر الماتن قدس سره فی بحث دوران أمر الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین أنه قد یتمسک عند الشک فی مانعیة شیء للواجب الارتباطی باستصحاب الصحة وهو لا یخلو عن نقض وإبرام ویأتی تحقیقه فی الاستصحاب ولکنه قدس سره لم یتعرض لذلک ونتعرض له تبعاً للشیخ قدس سره فنقول: الشک فی المانع یکون بالشبهة الموضوعیة تارة کما إذا شک فی صلاته أنه زاد رکوعاً أم لا ففی هذا القسم یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم صدور ذلک المانع ویحرز بذلک الامتثال فإنه کما یحرز حصول الشرط بالاستصحاب کما تقدم کذلک یحرز به عدم المانع حیث لا فرق بین شرط متعلق التکلیف ومانعه فی کون کل منهما مأخوذاً فی متعلق الأمر، غایة الأمر فی مورد الشرط القید وجودی، وفی مورد المانع عدمه قید وهذا الاستصحاب یجری حتی فیما کان الشک فی مانعیة الموجود بالشبهة الموضوعیة

ص : 360

.··· . ··· .

کما إذا علم أنه کبر بعد رکوعه ولکن شک فی أنها کانت بقصد الذکر بعد الرکوع أو بقصد تکبیرة الإحرام فإن مقتضی الاستصحاب أنه لم یأت بها بقصد تکبیرة الإحرام، وکذا الحال فیما إذا شک فی القاطع بالشبهة الموضوعیة فإن الاستصحاب مقتضاه إحراز الامتثال بضم الوجدان إلی الأصل: لأن مقام الامتثال کمقام ثبوت التکلیف قابل للتعبد.

وأما إذا کانت الشبهة حکمیة فقد فصل الشیخ قدس سره بین الشک فی مانعیة شیء وقاطعیته والتزم بجریان الاستصحاب فی الثانی وعدم جریانه فی الأول، وإذا لم یعلم أن تکرار القراءة من أولها إلی آخرها مانع فی الصلاة وذلک فإنه وإن قیل فی الفرض باستصحاب الصحة بعد تکرارها حیث إنها کانت صحیحة قبل التکرار فیستصحب بقاؤها علیها إلاّ أن الاستصحاب غیر صحیح فإنه إن اُرید استصحاب الصحة التأهلیة فبقاؤها محرز حتی فی موارد العلم بحصول المانع حیث إن الصحة التأهلیة کون المأتی به من الأجزاء السابقة بحیث لو لحقت بها سائر الأجزاء بشرایطها وفقد موانعها تحقق متعلق التکلیف والکلام والشک فی لحوق سائر الأجزاء بشرایطها وعدم موانعها، وان اُرید الاستصحاب فی الصحة الفعلیة فلا علم بها لیجری الاستصحاب فی ناحیة بقائها؛ لأنها تحصل بتحقق تمام الأجزاء بشرایطها وفقد موانعها.

لا یقال: لا بأس بجریان الاستصحاب فی ناحیة عدم جعل المانعیة للمشکوک.

فإنه یقال: هذا الاستصحاب معارض بعدم تعلق التکلیف بالأجزاء مطلقاً علی ما تقدم فی بحث دوران الواجب بین الأقل والأکثر الارتباطیین. نعم، إذا شک فی قاطعیة شیء فلا بأس بالاستصحاب فی ناحیة الهیئة الاتصالیة التی کانت متحققة

ص : 361

.··· . ··· .

للأجزاء کما إذا شک فی أن الضحک فی غیر صوت ظاهر قاطع للصلاة أم لا.

أقول: لا یکون شیء مانعاً أو قاطعاً إلاّ باعتبار عدمه فی متعلق التکلیف غایة الأمر یعتبر تارة عدمه عند الاشتغال بالأجزاء کالاستقرار المعتبر فی أجزاء الصلاة وإما مطلقاً کترک القهقهة والتکلم والحدث حتی فی الآنات المتخللة بین الأجزاء. ودعوی أن مع اعتبار الهیئة الاتصالیة فی الأجزاء لم یعتبر عدم ما یسمی قاطعاً فی نفس متعلق التکلیف بل المأخوذ فیه تلک الهیئة الاتصالیة التی یعد شیئاً واحداً لا یمکن المساعدة علیها فإنه لا معنی لانقطاع الهیئة الاتصالیة بدون أخذ عدم شیء فی متعلق التکلیف بوجه ولو اُغمض عن ذلک فیجری فی الاستصحاب فی ناحیة تلک الهیئة الاتصالیة ما تقدم فی استصحاب الصحة فإن کان المستصحب فی ناحیة الهیئة الاتصالیة الفعلیة بین تمام العمل فذلک غیر متیقن وبالإضافة إلی الأجزاء المأتی بها محرز ولکن لا یثبت تحققها فی الأجزاء السابقة مع اللاحقة، وإن أراد ما تکون بین السابقة وما یأتی بعد ذلک حیث کانت هذه الهیئة محرزة قبل الإتیان بالقاطع المشکوک فالمتعین فی الجواب أنه لا معنی لهذه القاطعیة إلاّ أخذ عدم ذلک المشکوک فی متعلق الأمر بالصلاة.

ولا یخفی أنّ ما ذکرنا عند الشک فی مانعیة الموجود بالشبهة الموضوعیة یرجع إلی الاستصحاب فی عدم تحقق المانع إنما یتم فیما أمکن إحراز أن الموجود لیس داخلاً فی المانع کما مثلنا بزیادة تکبیرة الإحرام حیث إن تکبیرة الإحرام التکبیرة التی قصد بها الدخول فی الصلاة وإذا جری الاستصحاب فی ناحیة عدم قصده الدخول بها فی الصلاة ینفی کونها تکبیرة الإحرام، وأما إذا لم یمکن ذلک الإحراز بأن کان إحراز عدم المانع بمفاد السالبة بانتفاء المحمول، ولم تکن لهذه

ص : 362

الثانی عشر _ أنه قد عرفت أن مورد الاستصحاب لابد أن یکون حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم کذلک، فلا إشکال فیما کان المستصحب من الأحکام الفرعیة، أو الموضوعات الصرفة الخارجیّة، أو اللغویة إذا کانت ذات احکام شرعیة[1].

القضیة حالة سابقة وقلنا بأن الاستصحاب فی العدم الأزلی غیر جار حیث لا یحرز به مفاد القضیة السالبة بانتفاء المحمول کما فی اشتراط الصلاة بعدم کون الملبوس أو المحمول مما لا یوءکل لحمه فالاستصحاب فی عدم لبس أو حمل ما لا یؤکل لا یثبت أن الملبوس أو المحمول لیس مما لا یوءکل. نعم، لو قلنا باعتبار الاستصحاب فی العدم الأزلی وإحراز مفاد السالبة بانتفاء المحمول به صح الاستصحاب کما أوضحنا کل ذلک فی بحث الصلاة فی اللباس المشکوک.

وعلی الجملة تارة یکون صرف وجود الطبیعی مانعاً عن تحقق المأمور به بحیث لو اضطر إلی فرد من ذلک الطبیعی لم یتحقق المأمور به أو سقط الطبیعی عن المانعیة، وفی هذا الفرض یمکن عند احتمال وجود منه مع المأتی به یمکن إحراز عدم الطبیعی بالاستصحاب، ویترتب علی ذلک أنه مع الاضطرار إلی ارتکابه وعدم سقوط التکلیف بالمأمور به بذلک لا یفترق ارتکاب القلیل أو الکثیر، وأما إذا کان مانعیة الطبیعی انحلالیة فلا یجدی الاستصحاب فی عدم تحقق المانع فی إثبات عدم مانعیة الموجود المشکوک بل لابد من جریان الأصل فی ناحیة نفس الموجود المشکوک.

[1] ذکر قدس سره أنه کما یجری الاستصحاب فیما کان المستصحب حکماً شرعیاً فرعیاً أو کان موضوعاً له سواء کان ذلک الموضوع من الاُمور الخارجیة کالاستصحاب فی ناحیة کون المایع خمراً أو من الاُمور اللغویة کالاستصحاب فی ناحیة بقاء اللفظ علی ظهوره الأولی الموضوع للحجیة کما فی موارد أصالة عدم النقل کذلک یجری

ص : 363

وأما الأمور الإعتقادیّة التی کان المهم فیها شرعاً هو الإنقیاد والتسلیم والإعتقاد بمعنی عقد القلب علیها من الاعمال القلبیة الإختیاریّة، فکذا لا إشکال فی الاستصحاب فیها حکماً وکذا موضوعاً، فیما کان هناک یقین سابق وشک لاحق، لصحة التنزیل وعموم الدلیل، وکونه أصلاً عملیاً إنما هو بمعنی أنه وظیفة الشاک تعبّداً، قبالاً للأمارات الحاکیة عن الواقعیّات، فیعم العمل بالجوانح کالجوارح، وأما التی کان المهم فیها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً ویجری حکماً، فلو کان متیقّناً بوجوب تحصیل القطع بشیء _ کتفاصیل القیامة _ فی زمان وشک فی بقاء وجوبه، یستصحب.

فیما کان المستصحب من الاُمور الاعتقادیة فإن الاُمور الاعتقادیة علی نحوین:

__ قسم یکون المطلوب فیها التسلیم قلباً وعقد القلب والبناء القلبی علیه وهذا النحو من فعل النفس فی مقابل العمل بالجوارح کالاعتقاد بالحشر بخصوصیاته حیث یمکن تسلیم النفس لها ولو من غیر العلم بتلک الخصوصیات.

__ وقسم یکون المطلوب فیها معرفتها وتحصیل الیقین بها کوجوب معرفة الإمام علیه من غیر فرق بین کون هذا الوجوب عقلاً أو شرعاً.

وعلی ذلک فلو شک فی وجوب الاعتقاد بشیء أو وجوب المعرفة وتحصیل الیقین به فیستصحب وجوبهما مع کون الحالة السابقة وجوبهما ولو شک بنحو الشبهة فی الموضوع فإن کان المطلوب فی ذلک الأمر الاعتقاد والتسلیم به قلباً فلا بأس بالاستصحاب فی ناحیته بخلاف ما إذا کان المطلوب معرفته والیقین به فلا یجری مثلاً إذا شک فی حیاة الإمام علیه السلام وجب تحصیل العلم بحیاته ولا یجری الاستصحاب فی حیاته من هذه الجهة ولو فرض عدم إمکان تحصیل العلم به ولو فی زمان فمع جواز التنزل إلی الظن تعین تحصیله وإلاّ سقط وجوب المعرفة ما دام غیر

ص : 364

وأما لو شک فی حیاة إمام زمان مثلاً فلا یستصحب، لأجل ترتیب لزوم معرفة إمام زمانه، بل یجب تحصیل الیقین بموته أو حیاته مع امکانه، ولا یکاد یجدی فی مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً، إلاّ إذا کان حجةً من باب إفادته الظن وکان المورد مما یکتفی به أیضاً، فالإعتقادیّات کسائر الموضوعات لابد فی جریانه فیها من أن یکون فی المورد أثر شرعی، یتمکن من موافقته مع بقاء الشک فیه، کان ذاک متعلّقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.

وقد انقدح بذلک أنه لا مجال له فی نفس النبوّة إذا کانت ناشئة من کمال النفس بمثابة یوحی إلیها، وکانت لازمة لبعض مراتب کمالها، إما لعدم الشک فیها بعد اتصاف النفس بها، أو لعدم کونها مجعولة بل من الصفات الخارجیة التکوینیة،

متمکن وعلی ذلک فالاستصحاب یفید فی هذا القسم أیضاً فیما کان موجباً للظن بالبقاء مع جواز التنزل إلی الظن مع عدم إمکان تحصیل الیقین وجریان الاستصحاب فیما ذکر لا ینافی کونه أصلاً عملیاً فإن معنی کونه أصلاً عملیاً أنه لیس من الدلیل الاجتهادی لا أنه یختص جریانه بموارد العمل بالجوارح ولا یجری فی مورد الاعتقادیات.

أقول: الظاهر عدم جریان الاستصحاب فی الموضوعات اللغویة فإن الاستصحاب فی ناحیة بقاء الوضع الأول لا یثبت ظهور اللفظ فی معناه الاستعمالی وکذلک لا یعیّنه الاستصحاب فی ناحیة بقاء ظهوره التصوری حیث إنه لا یثبت أن المتکلم قصده فی استعماله اللفظ والحجیة مترتبة علی الظهور الاستعمالی فی کلام المتکلم اللازم لظهوره التصوری عادة مع کونه فی مقام التفهیم، وأصالة عدم النقل المحرز به المدلول الاستعمالی فی مقام التفهیم فی نفسها أصل عقلائی لم یردع عنها الشارع ولذا یوءخذ بها حتی مع الالتزام بعدم اعتبار الاستصحاب.

ص : 365

ولو فرض الشک فی بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلک المرتبة وعدم بقائها بتلک المثابة، کما هو الشأن فی سائر الصفات والملکات الحسنة الحاصلة بالریاضات والمجاهدات، وعدم أثر شرعی مهم لها یترتّب علیها باستصحابها[1].

نعم لو کانت النبوّة من المناصب المجعولة وکانت کالولایة، وإن کان لابد فی إعطائها من أهلیة وخصوصیة یستحق بها لها، لکانت مورداً للإستصحاب بنفسها، فیترتب علیها آثارها ولو کانت عقلیة بعد استصحابها، لکنه یحتاج إلی دلیل کان هناک غیر منوط بها، وإلاّ لدار، کما لا یخفی.

وأما ما ذکر من جریان الاستصحاب فی ناحیة التکلیف الاعتقادی عند الشک فی بقائه بنحو الشبهة الحکمیة سواء کان المطلوب مجرد الاعتقاد والتسلیم قلباً أو کان المطلوب تحصیل المعرفة والیقین به فمبنی علی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة وإذا کان بنحو الشبهة فی الموضوع فالاعتقاد والتسلیم به قلباً علی ما هو الواقع ممکن ولا یفید الاستصحاب فی ناحیته ولا یصحح الاعتقاد التفصیلی بل دلیل علی لزومه، وکذلک ما إذا کان المطلوب معرفة ذلک الشیء والیقین به؛ لأن کون الاستصحاب علماً بالبقاء بالإضافة إلی کونه طریقاً یثبت به البقاء فی موارد کون العلم طریقاً محضاً أو مأخوذاً فی الموضوع طریقاً لا فیما وجب تحصیل الیقین والعلم به وصفاً کما هو الحال فی المقام.

[1] ذکر قدس سره أنه لا مجری للاستصحاب فی نفس النبوة الثابتة للنبی بناءً علی أن النبوة مرتبة من کمال النفس بحیث لو کانت بتلک المرتبة یوحی إلیها ما دام صاحبها فی دار الدنیا سواء لم یمکن نزول النفس عن تلک المرتبة أو أمکن نزولها عنها کسائر الصفات والملکات الحاصلة للنفس بالریاضات والمجاهدات النفسانیة فإن عدم الجریان فی الأول لعدم الشک فی البقاء وعلی الثانی لعدم أثر شرعی للنبوة یراد

ص : 366

وأما استصحابها بمعنی استصحاب بعض أحکام شریعة من اتصف بها، فلا إشکال فیها کما مر.

ثم لا یخفی أنّ الاستصحاب لا یکاد یلزم به الخصم، إلاّ إذا اعترف بأنه علی یقین فشک، فیما صح هناک التعبد والتنزیل ودلّ علیه الدلیل، کما لا یصح أن یقنع به إلاّ مع الیقین والشک والدلیل علی التنزیل.

بالاستصحاب ترتیبه علیها لا کونها بنفسها مجعولة شرعاً. نعم، لو قیل بأن النبوة من المناصب المجعولة نظیر الولایة المعطاة للمتولی وأن کمال نفس الشخص خصوصیة یستحق بها هذا الجعل والإعطاء فیجری الاستصحاب فی ناحیتها فیما لو کان لبقائها أثر ولو کان عقلیاً یمکن ترتیبه علیها بأن یکون ذلک الأثر العقلی ثابتاً للأعم من النبوة ولو کانت ظاهریة کوجوب إطاعته فی أوامره ونواهیه.

ولکن جریان الاستصحاب فیها موقوف علی ثبوت اعتبار الاستصحاب بدلیل غیر منوط ذلک الدلیل بثبوت النبوة له وإلاّ یکون التمسک بالاستصحاب فیها دوریاً.

أقول: الصحیح عدم جریان الاستصحاب فی نبوة شخص حتی بناءً علی أنها منصب مجعول؛ لأن المطلوب فی مورد نبوة شخص کإمامة الإمام هو معرفته وتحصیل العرفان به والتصدیق بما جاء به أو أبلغه من التکالیف والأحکام ومع التمکن من معرفتها فی شخص من جهة البقاء والارتفاع یجب تحصیل المعرفة ومع عدم التمکن فرضاً یسقط التکلیف ما دام غیر متمکن، وإن وجب الاعتقاد بما هو الواقع فی هذا الحال أیضاً علی نحو الإجمال علی ما تقدم.

وأما الاستصحاب فی الأحکام الثابتة فی تلک الشریعة فإن اُرید الاستصحاب فی بعض أحکامها بعد الفحص عن بقائها وارتفاعها والشک فی بقائها فمبنی علی اعتبار الاستصحاب فی ناحیة الأحکام والتکالیف فی الشبهة الحکمیة، وقد تقدم

ص : 367

ومنه انقدح أنه لا موقع لتشبّث الکتابی باستصحاب نبوّة موسی أصلاً، لا إلزاماً للمسلم، لعدم الشک فی بقائها قائمة بنفسه المقدسة، والیقین بنسخ شریعته، وإلاّ لم یکن بمسلم، مع أنه لا یکاد یلزم به ما لم یعترف بأنه علی یقین وشک، ولا إقناعاً مع الشک، للزوم معرفة النبی بالنظر إلی حالاته ومعجزاته عقلاً، وعدم الدلیل علی التعبد بشریعته لا عقلاً ولا شرعاً، والإتکال علی قیامه فی شریعتنا لا یکاد یجدیه إلاّ علی نحو محال، ووجوب العمل بالإحتیاط عقلاً فی حال عدم المعرفة بمراعاة الشریعتین ما لم یلزم منه الإختلال، للعلم بثبوت إحداهما علی الإجمال، إلاّ إذا علم بلزوم البناء علی الشریعة السابقة ما لم یعلم الحال.

الکلام فی ذلک فی بحث الاستصحاب فی أحکام الشریعة السابقة، وإن اُرید الاستصحاب فی جمیعها فالاستصحاب غیر جار إلاّ بعد الفحص عن زوالها ولو بالنظر إلی أدلة نبوة النبی اللاحق ومعجزاته، ولو فرض الشک بعد ذلک یکون الاستصحاب موقوفاً علی ثبوت اعتباره فی کلتا الشریعتین وغیر منوط بإحداهما خاصة فإن اعتباره إن کان منوطاً بالشریعة السابقة یکون التمسک به دوریاً، وإن کان بالثانی یلزم من الأخذ به الخلف فیتعین علی الشاک الاحتیاط فی تکالیف الشریعتین هذا فیما کان تمسک الکتابی بالاستصحاب إقناعیاً، وأما إذا أراد إلزام المسلم فلا یلزم بالاستصحاب المسلم لا بالإضافة إلی الاستصحاب فی نفس النبوة، ولا بالإضافة إلی بقاء أحکام الشریعة السابقة فإن المسلم لم یعرف النبی السابق فی صدق نبوته والأحکام التی أتی بها إلاّ بإخبار النبی اللاحق وتصدیقه فی أخباره وکتابه الذی أتی به من اللّه ومع هذا الیقین لا شک له فی البقاء، ومع الغض عن هذا الیقین وفرض الشک فی ذلک لا علم له بنبوة النبی السابق وصدق شریعته حتی تستصحب، ولعل ما حکی من قوله علیه السلام من أنا معترفون بنبوة کل موسی وعیسی إذا أقر بنبوة نبینا صلی الله علیه و آله

ص : 368

الثالث عشر _ أنه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب فی مقام مع دلالة مثل العام [1] لکنه ربما یقع الإشکال والکلام فیما إذا خصّص فی زمان فی أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسک بالعام.

وننکر نبوة کل من لم یقر بنبوة نبینا یرجع إلی ما ذکر فلا یرد من أن موسی أو عیسی لم یکن کلیاً بل شخصاً خارجیاً اعترف المسلمون وغیرهم بنبوته.

فی التمسک بالعام بعد ورود التخصیص فیه فی زمان

[1] قد تقدم أنه مع الدلیل الاجتهادی فی مورد ولو کان عاماً أو مطلقاً یقتضی عموم الحکم لا تصل النوبة إلی الاستصحاب حیث إنه أصل عملی ولکن ربما یقع الکلام فی أن للعام أو المطلق دلالة فی المورد لئلا یبقی للاستصحاب موضوع أو أنه لا دلالة لهما علی حکم المقام لیکون فیه مجال للاستصحاب علی تقدیر تحقق أرکانه، وقد ذکر الماتن قدس سره أنه ربما لا یکون مدلول العام بالإضافة إلی الأزمان انحلالیاً بأن یستفاد منه بالإضافة إلی کل واحد من أفراده حکم واحد استمراری کما یقال فی مفاد قوله سبحانه: «أوفوا بالعقود» من أن کل ما یوجد من العقد فی الخارج یحکم علیه بلزوم الوفاء به فی عمود الزمان بحیث ینتزع منه لزوم ذلک العقد وقد یکون مدلوله انحلالیاً حتی بالإضافة إلی الأزمان لأفراده بحیث یستفاد منه الحکم لکل من أفراده فی کل من الأزمنة کما إذا ورد فی الخطاب أکرم کل عالم فی کل زمان أو أشبع کل جائع.

والخاص الوارد علی خلاف حکم العام أیضاً علی قسمین:

_ فتارة یکون الزمان ظرفاً لحکمه کما ورد فی الخطاب إذا اشتریت متاعاً فیه عیب لا تعلمه فلک الخیار فی رده.

_ واُخری یکون الزمان فیه مفرداً بأن یوءخذ الزمان فیه قیداً للمتعلق أو الموضوع کما ورد لا تکرم زید العالم یوم الجمعة، وعلی ذلک فلو کان الحکم فی ناحیة العام

ص : 369

.··· . ··· .

حکماً استمراریاً لکل فرد والزمان فی ناحیة الخاص ظرفاً للحکم بالخلاف ففی صورة الشک فی بقاء حکم الخاص بعد زمان فی کونه علی حکم العام أو أنه علی حکمه السابق لا یمکن التمسک بالعام فی ثبوت حکمه له: لأن العام لا یتکفل لعود الحکم بعد انقطاعه بل مدلوله ثبوت حکم واحد مستمر بحسب عمود الزمان ومدلول خطاب الخاص أو دلیله خروج الفرد الفلانی عن العام بعدم ثبوت ذلک الحکم الواحد المستمر له، وعلی الجملة خطاب العام لا یتکفل لبیان حکمین لکل فرد من أفراد العام بل مدلوله ثبوت حکم واحد مستمر، وبعد خروج فرد من ذلک العام یتمسک بعد زمان الیقین بالاستصحاب فی بقاء الحکم الخاص هذا فیما إذا کان مدلول الخطاب فی ناحیة الخاص انقطاع حکم العام فی ذلک الفرد، وأما إذا کان مدلوله فی ناحیته خروج فرد عن العام من الأول وکان من حیث استمرار خروجه وعدمه مجملاً فیمکن التمسک بالعام بالإضافة إلی غیر زمان الیقین فیه فیکون زمان ثبوت حکم العام واستمراره فی ذلک الفرد بعد انقضاء مقدار مدلول خطاب الخاص مثلاً یصح التمسک بعموم أوفوا بالعقود لو خصص بخیار المجلس ونحوه فیما إذا شک فی مقدار ثبوت هذا الخیار من حیث الزمان ولا یصح التمسک به فیما إذا شک فی مقدار الخیار فیما إذا ثبت لا فی زمان حدوث العقد فإنه إذا انقطع حکم العام فی الوسط یستصحب فی ناحیة الخیار الثابت فی الأثناء لما ذکرنا من عدم تکفل العام لحکمین لفرد من أفراده. ومما ذکر یظهر أنه لو کان مفاد کل من العام والخاص علی النحو الثانی بأن یکون الزمان مفرداً فی ناحیة کل من العام والخاص یتمسک فی غیر مدلول الخاص بعموم العام بلا إشکال حیث إن العام یتکفل لثبوت الحکم لذلک الفرد فی ذلک الزمان وغیره من الأزمنة ولم یدلّ الخاص علی خلافه.

ص : 370

والتحقیق أن یقال: إن مفاد العام، تارة یکون _ بملاحظة الزمان _ ثبوت حکمه لموضوعه علی نحو الإستمرار والدوام، وأخری علی نحو جعل کل یوم من الأیام فرداً لموضوع ذاک العام. وکذلک مفاد مخصّصه، تارة یکون علی نحو أخذ الزمان ظرف إستمرار حکمه ودوامه، وأخری علی نحو یکون مفرداً ومأخوذاً فی موضوعه.

وأما إذا کان مفاد العام بالنحو الأول أی ثبوت حکم واحد مستمر لکل من أفراد العام ومفاد خطاب الخاص بنحو أخذ الزمان قیداً فلا یمکن التمسک بالعام فی غیر زمان دلالة الخاص کما أنه لا یجری الاستصحاب فی ناحیة حکم الخاص المفروض فیه أخذ الزمان قیداً لحکمه لکون ذلک من إسراء حکم من موضوع إلی غیره.

نعم، إذا کان الأمر بالعکس بأن کانت دلالة العام بالإضافة إلی الأزمنة أفرادیاً والزمان فی ناحیة حکم الخاص ظرفاً یکون المرجع بعد انقضاء الزمان المفروض ظرفاً للخاص عموم العام لدلالته علی حکمه فیه من غیر أن یکون فی البین ما یدلّ علی خلافه اللّهم إلاّ أن یسقط العام عن الاعتبار بوجه فإنه یکون المرجع الاستصحاب فی ناحیة حکم الخاص؛ لأن المفروض أن الزمان فی ناحیة حکم الخاص مأخوذ بنحو یصح الاستصحاب فی ناحیته.

وقد ظهر أن ما عن الشیخ قدس سره من جعل المعیار فی التمسک بالعام بما إذا کان مفاده بالإضافة إلی الأزمنة فی أفراده أفرادیاً وفی جریان الاستصحاب فی ناحیة حکم الخاص بما إذا لم تکن دلالة العام بالإضافة إلی الأزمان أفرادیاً بل حکماً واحداً استمراریاً غیر صحیح علی إطلاقه.

أقول: قد یورد علی ما ذکره قدس سره فی القسم الأول یعنی ما إذا کان الزمان فی کل واحد من حکم أفراد العام وحکم الخاص ظرفاً بأن یثبت فی ناحیة کل فرد من أفراد

ص : 371

.··· . ··· .

العام حکماً مستمراً من حیث الزمان والحکم فی ناحیة الخاص أیضاً ثابتاً للفرد فی زمان فإنه قدس سره حکم فی هذا القسم فی زمان الشک إلی الاستصحاب فی ناحیة حکم الخاص فی ذلک الزمان إلاّ فیما کان التخصیص فی ذلک الفرد فی أول زمان حدوثه وأنه یوءخذ بحکم العام فیه بعد انقضاء الزمان الأول بما حاصله أن استمرار الحکم فی ناحیة أفراد العام یستفاد تارة من نفس خطاب العام الدال علی ثبوت الحکم لکل من أفراده کما فی قوله سبحانه «أوفوا بالعقود» فإن مفاده ثبوت وجوب الوفاء بکل واحد من أفراد العقد مستمراً، وفی مثل ذلک خروج فرد من أفراد العقد فی زمان ولو کان أول زمان حدوثه فلا یمکن التمسک بالعام المفروض بالإضافة إلی ذلک الفرد بعد انقضاء أول الزمان فإن مدلول العام ثبوت حکم واحد لکل فرد من أفراد العقد من حین حدوثه مستمراً ولم یثبت هذا الحکم للفرد المفروض. نعم، لو کانت دلالة العام علی ثبوت أصل الحکم لکل فرد من أفراده بخطاب واستفید استمرار ذلک الحکم لأفراده من خطاب آخر کما فی قوله سبحانه «کلوا واشربوا حتی یتبین لکم الخیط الأبیض من الخیط الأسود من الفجر»(1).

حیث إن ظاهره وجوب الإمساک لکل مکلف عند طلوع الفجر وقوله سبحانه «ثمّ أتموا الصیام إلی اللیل»(2) ففی مثل ذلک لو خرج فرد عن تحت العام فی زمان فیمکن التفصیل بأنه لو کان الخروج فی الوسط فلا یمکن الأخذ بالإضافة إلی الإمساک بعد ذلک الزمان الوسط بخلاف خروج فرد فی الأول کما إذا کان المکلف عطشاناً عند طلوع الفجر بعطش یضر بحاله فإنه یمکن أن یتمسک بالعام الثانی فی

ص : 372


1- (1) سورة البقرة: الآیة 187.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 187.

فإن کان مفاد کل من العام والخاص علی النحو الأول، فلا محیص عن استصحاب حکم الخاص فی غیر مورد دلالته، لعدم دلالة للعام علی حکمه، لعدم دخوله علی حدة فی موضوعه، وانقطاع الإستمرار بالخاص الدالّ علی ثبوت الحکم له فی الزمان السابق، من دون دلالته علی ثبوته فی الزمان اللاحق، فلا مجال إلاّ لاستصحابه.

إثبات وجوب الإمساک علیه مما بعد الفجر إلی دخول اللیل. أقول: الظاهر عدم الفرق بین الخروج من الأول والوسط فإن مع خروج فرد عن تحت العام الأول فی الزمان الأول لا یبقی للعام الثانی موضوع فی ذلک الفرد فإنه إذا لم یکن علی المکلف الإمساک عند طلوع الفجر فکیف یعمه ما دل علی الأمر بإتمام الإمساک إلی اللیل، وعلی الجملة غایة ما یمکن أن یقال بناءً علی أن العام إذا تضمن حکماً واحداً مستمراً لا یمکن التمسک به بعد زمان یکون خروج فرد فیه عن حکمه مفاد خطاب الخاص هو الالتزام بأن مدلول خطاب الخاص إن کان بالإضافة إلی زمان حدوث الفرد ولم یکن له دلالة علی استمراریة الحکم المخالف للعام وعدمه فلا یمکن التمسک فی ذلک الفرد بخطاب العام أصلاً، وأما إذا کان مدلول خطاب الخاص أو المتیقن من مدلوله خروجه فی الأثناء یوءخذ بحکم العام فیه إلی زمان ثبوت حکم الخاص کما إذا علم بثبوت خیار العیب عند ظهور العیب وشک فی لزوم العقد وکونه خیاریاً قبل ظهوره فإن لم یکن لدلیل الخیار إطلاق یثبت کونه خیاریاً من الأول یحکم بلزومه إلی زمان ظهور العیب، ولکن الصحیح جواز التمسک بالعام بعد انقضاء زمان قام الدلیل علی ثبوت حکم مخالف لحکم العام فیه من غیر فرق بین أن یکون مدلول العام حکماً انحلالیاً بالإضافة إلی الأزمان أیضاً فی ناحیة الأفراد أو کان مدلوله بالإضافة إلی کل فرد حکماً واحداً مستمراً، وذلک فإن قیام الدلیل علی التخصیص

ص : 373

.··· . ··· .

لا ینقض المدلول الاستعمالی العام بل یکشف عن عدم کون المدلول الاستعمالی مطابقاً للمراد الجدی فی مقدار دلالة الدلیل المختص، وعلی ذلک لو ورد الدلیل علی جواز بیع فی أول الأزمنة أو أثنائها فلا یکشف عن عدم کون المدلول الاستعمالی فی ناحیة العام مطابقاً لمقام الثبوت بالإضافة إلی زمان حکم الخاص فیترک أصالة التطابق بالإضافة إلی ذلک المقدار ویوءخذ به فی باقی الأزمنة.

لا یقال: المفروض ثبوت حکم واحد مستمر لکل فرد من العقد وإذا ورد التخصیص علی وجوب الوفاء به فی عقد فی الأثناء فلا یکون لذلک العقد علی تقدیر وجوب الوفاء به بعد ذلک الزمان حکم واحد مستمر أی لزوم واحد بل یکون فیه لزومان. فإنه یقال: قد تقدم أن المدلول الاستعمالی للعام لا یخرج عن الوحدة بورود التخصیص علیه فی الوسط والوحدة فیه ثبوتاً لازم لعدم انقطاع ذلک الحکم ثبوتاً بحسب الأزمان فمع قیام الدلیل علی الانقطاع ثبوتاً فلا بأس بالالتزام بالتعدد.

وبتعبیر آخر الفرد من العام فی عموم الزمان بالإضافة إلی وجوب الوفاء به کالأفراد العرضیة للعام المجموعی فی أنه کما لا یوجب إخراج بعض الأفراد سقوط العام المجموعی عن الاعتبار بالإضافة إلی البقیة کذلک خروج بعض الأزمنة فی الفرد من عمود الزمان ولا فرق فیما ذکرنا بین أن یستفاد العموم المجموعی من أداة العموم أو من الإطلاق کما لا فرق بین أن یستفاد العموم الانحلالی من أداة العموم أو من الإطلاق.

وقد ذکر المحقق النائینی قدس سره أن کون مدلول خطاب العام حکماً استمراریاً یتصور علی نحوین:

الأول _ أن یکون الزمان ظرفاً لمتعلق الحکم والتکلیف بأن یلاحظ الفعل فی

ص : 374

نعم لو کان الخاص غیر قاطع لحکمه، کما إذا کان مخصصاً له من الأوّل، لما ضرّ به فی غیر مورد دلالته، فیکون أول زمان استمرار حکمه بعد زمان دلالته، فیصح التمسک ب_ (أوفوا بالعقود) ولو خصّص بخیار المجلس ونحوه، ولا یصح التمسک به فیما إذا خصص بخیار لا فی أوله، فافهم.

وإن کان مفادهما علی النحو الثانی، فلا بد من التمسک بالعام بلا کلام، لکون

عمود الزمان فعلاً واحداً تعلق به الحکم والتکلیف.

والثانی _ یکون الزمان ظرفاً لنفس الحکم والتکلیف بأن اعتبر نفس الحکم والتکلیف حکماً وتکلیفاً واحداً مثلاً إذا لوحظ الإمساک من طلوع الفجر إلی دخول اللیل فعلاً واحداً وتعلق به التکلیف یکون بالنحو الأول، وأما إذا تعلق الوجوب بالامساکات واعتبر نفس الوجوب المتعلق بها تکلیفاً واحداً یکون بالنحو الثانی ونتیجة هذین النحوین بحسب الواقع وإن کانت واحدة إلاّ أنه یختلف الحال بحسب اختلاف مدلول الخطاب فیما إذا قام الدلیل علی التخصیص فی فرد العام فی زمان فإنه مع ورود التخصیص فیما کان مدلول العام علی النحو الأول یمکن التمسک بخطاب العام فی کون حکم العام فی ذلک الفرد بحاله غایة الأمر قد استثنی عن نفس الإمساک المتعلق به الوجوب الإمساک فی زمان بخلاف ما إذا کان الاستمرار طارئاً علی الحکم علی النحو الثانی فإنه بعد ورود التخصیص فی زمان فی فرد لا یمکن التمسک بخطاب العام وإثبات حکمه بالإضافة إلی ما بعد ذلک الزمان؛ لأن الحکم المجعول کان واحداً علی الفرض وقد انقطع بالتخصیص ولا دلالة لخطاب العام إلاّ علی الحکم المقطوع ووجه کلام الشیخ قدس سره فی بحث الخیارات من المکاسب فی الرجوع إلی عموم «أُوفو بالعقود» لا إلی استصحاب حکم الخاص بأن الآیة مدلولها من قبیل النحو الأول: لأن الوفاء بالعقد عبارة عن إتمام العمل بالعقد والاستمرار

ص : 375

.··· . ··· .

علیه فیکون الاستمرار راجعاً إلی المتعلق لا إلی نفس الحکم.

أقول: قد تقدم أن ورود الدلیل الخاص لا یوجب قلب الظهور الاستعمالی للعام سواء کان الاستمرار ملحوظاً فی ناحیة الفعل أو نفس الحکم ولیس هذا الظهور أمراً مراعی بل کونه مورداً لأصالة التطابق أی کشفه عن عموم المراد الجدی مراعی بعدم قیام الدلیل علی التخصیص ویرفع الید مع قیام الدلیل علی التخصیص عن أصالة التطابق بمقدار دلالة الدلیل الخاص، والمفروض أن مقدار دلالته هو ما یدخل فی مدلول الدلیل الخاص فیکون المقام نظیر ما قام المکلف بصیام شهر رمضان أثناء النهار فإنه فی زمان نومه ینقطع تکلیفه بالصوم مع أنه یعود بعد الانتباه لا أنه بعد الانتباه یثبت فی حقه وجوب آخر علی ما تقدم.

وقد ظهر مما تقدم جواز التمسک بالعام سواء کان انحلالیاً من حیث الأزمان أو کان الحکم الثابت لکل من أفراده حکماً استمراریاً واحداً من غیر فرق بین ملاحظة الاستمرار والوحدة فی ناحیة الحکم أو فی ناحیة متعلقه وأنه إذا ورد التخصیص للعام فی زمان فلا یکون ذلک موجباً لانقلاب الظهور الاستعمالی بل یکشف عدم التطابق بینه وبین المراد الجدی بالإضافة إلی ذلک الزمان ویوءخذ بها فی غیره بل لا یختص ذلک بالعام الوضعی ویجری فیما إذا استفید العموم من الإطلاق انحلالیاً کان بالإضافة إلی الأزمنة أو مستفاداً منه الاستمرار.

وبقی فی المقام أمر آخر وهو ما إذا شک فی استمرار جعل الحکم بمعنی إلغائه بالإضافة إلی عمود الزمان حیث یذکر أنه لا یمکن التمسک فی ناحیة استمرار الجعل وعدم إلغائه بالخطاب الدال علی ثبوت ذلک الحکم وبقائه علی الجعل سواء کان ذلک الخطاب بالإضافة إلی عمود الزمان انحلالیاً أو استمراریاً؛ لأن الخطاب

ص : 376

موضوع الحکم بلحاظ هذا الزمان من أفراده، فله الدلالة علی حکمه، والمفروض عدم دلالة الخاص علی خلافه.

وإن کان مفاد العام علی النحو الأول والخاص علی النحو الثانی، فلا مورد للإستصحاب، فإنه وإن لم یکن هناک دلالة أصلاً، إلاّ أن انسحاب الحکم الخاص إلی غیر مورد دلالته من إسراء حکم موضوع إلی آخر، لا استصحاب حکم الموضوع، ولا مجال أیضاً للتمسک بالعام لما مر آنفاً، فلا بد من الرجوع إلی سائر الأصول.

وإن کان مفادهما علی العکس کان المرجع هو العام، للإقتصار فی تخصیصه

المتکفل لحکم لموضوع لا یمکن أن یتکفل لعدم إلغائه فیما بعد بل لابد فی إثبات استمرار الجعل التشبث بالاستصحاب أو قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحلال والحرام فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلی یوم القیمة، وحرامه حرام أبداً إلی یوم القیمة لا یکون غیره ولا یجیء غیره، وقال قال علی علیه السلام : ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترک بها سنة»(1).

ولکن الظاهر جواز التمسک بالظهور الاستعمالی أی أصالة التطابق مع مقام الثبوت حتی فی موارد الشک فی بقاء الجعل من غیر حاجة إلی استصحاب عدم النسخ أو خطاب الاستمرار فی أحکام الشریعة وذلک فإن النسخ فی أحکام الشریعة مرجعه إلی التخصیص فی الحکم بالإضافة إلی الأزمان، ومع عدم ثبوت القرینة علی أن مقام الثبوت علی خلاف أصالة التطابق یوءخذ بها. نعم، یمکن الدعوی المذکورة بالإضافة إلی خطاب الحکم المجعول من حاکم یتصور فیه النسخ بمعناه الحقیقی

ص : 377


1- (1) الکافی 1 : 109، الباب 19 من کتاب فضل العلم، الحدیث 19.

بمقدار دلالة الخاص، ولکنه لولا دلالته لکان الاستصحاب مرجعاً، لما عرفت من أن الحکم فی طرف الخاص قد أخذ علی نحو صح استصحابه، فتأمّل تعرف أن اطلاق کلام شیخنا العلامة (أعلی اللّه مقامه) فی المقام نفیاً وإثباتاً فی غیر محلّه.

الرابع عشر _ الظاهر أن الشک فی أخبار الباب وکلمات الأصحاب هو خلاف الیقین فمع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق یجری الاستصحاب ویدلّ علیه _ مضافاً إلی أنه کذلک لغة کما فی الصحاح، وتعارف استعماله فیه فی الأخبار فی غیر باب _ قوله علیه السلام فی أخبار الباب: (ولکن تنقصه بیقین آخر) حیث إن ظاهره أنه فی بیان تحدید ما ینقض به الیقین وأنه لیس إلاّ الیقین، وقوله أیضاً: (لا حتی یستیقن أنه قد نام) بعد السؤال عنه علیه السلام عمّا (إذا حرک فی جنبه شیء وهو لا یعلم) حیث دلّ بإطلاقه مع ترک الإستفصال بین ما إذا أفادت هذه الأمارة الظن، وما إذا لم تفد، بداهة أنها لو لم تکن مفیدة له دائماً لکانت مفیدة له أحیاناً، علی عموم النفی لصورة الإفادة، وقوله علیه السلام بعده: (ولا تنقض الیقین بالشک) أن الحکم فی المغیی مطلقاً هو عدم نقض الیقین بالشک، کما لا یخفی [1].

وأما بالإضافة إلی الشارع فیرجع إلی التخصیص بحسب الأزمان فی الحکم المدلول علیه خطابه أو إلی التقیید بحسبها وکل منهما یدفع بأصالة التطابق فی العموم والإطلاق بحسب الأزمان بل لا یبعد أن یقال ما جرت علیه سیرة العقلاء من عدم رفع الید عن خطاب الحکم المجعول واستمراره بحسب الأزمان ما لم یصل من المولی ما یدلّ علی رفع المولی یده عن الحکم المجعول.

[1] قد ذکر الماتن قدس سره أنّ ظاهر الشک الوارد فی أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک هو خلاف العلم والیقین کما هو ظاهر کلمات الأصحاب أیضاً فیجری الاستصحاب مع الظن بالخلاف فضلاً عن صورة الظن بالوفاق، ویشهد لکون المراد

ص : 378

وقد استدلّ علیه أیضاً بوجهین آخرین:

الأول: الإجماع القطعی علی اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف علی تقدیر اعتباره من باب الأخبار.

وفیه: إنه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الأصحاب علی الإعتبار، لاحتمال أن یکون ذلک من جهة ظهور دلالة الأخبار علیه.

بالشک ما ذکر مضافاً إلی کون معناه خلاف العلم لغة وتعارف استعماله فی الأخبار فی أبواب مختلفة کالأخبار الواردة فی یوم الشک وقاعدتی الفراغ والتجاوز وحتی فی الأخبار الواردة فی الشک فی رکعات الصلاة حیث إن البناء علی الظن فیها عند الشک فی الرکعات إنما هو بدلیل خاص قد أوجب قیامه التخصیص فی الأخبار الواردة فی مطلق الشک فی الرکعات ما ورد فی نفس أخبار الاستصحاب من قوله علیه السلام : «ولکن تنقضه بیقین آخر» حیث یفهم منه بحسب مقام بیان تحدید الناقض أنّ ناقض الیقین السابق منحصر فی الیقین بالخلاف، وکذا قوله علیه السلام : «لا» بعد السوءال عمن حرک فی جنبه شیء وهو لا یعلم فإنه لو لم یکن ذلک موجباً للظن بالنوم دائماً فلا ینبغی التأمل فی أنه یوجبه فی بعض الأحیان فترک الاستفصال فی الجواب عن حصول الظن بالنوم وعدمه قرینة جلیة بعدم العبرة بالظن بالخلاف، وأن النهی عن نقض الیقین بالوضوء بالشک فیه یعم کلا الفرضین کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «حتی یستیقن أنه قد نام».

أقول: ما ذکر قدس سره من أن قوله علیه السلام فی أخبار الباب «ولکن تنقضه بیقین آخر» یدلّ علی جریان الاستصحاب مع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق وبتعبیر آخر ما ذکر فی تلک الأخبار یدلّ علی أن المراد من الشک مقابل العلم لا یمکن المساعدة علیه والوجه فی ذلک أنه لو بنی علی أن ظاهر الشک فی نفسه خلاف العلم

ص : 379

الثانی: إن الظن غیر المعتبر، إن علم بعدم اعتباره بالدلیل، فمعناه أنّ وجوده کعدمه عند الشارع، وأن کلما یترتب شرعاً علی تقدیر عدمه فهو المترتب علی تقدیر وجوده، وإن کان مما شک فی اعتباره، فمرجع رفع الید عن الیقین بالحکم الفعلی السابق بسببه إلی نقض الیقین بالشک، فتأمّل جیداً.

فقوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشک» مع قطع النظر عما ورد فی تلک الأخبار بنفسه یدلّ علی اعتبار الاستصحاب مع عدم العلم بانتقاض الحالة السابقة سواء کانت الباء بمعنی مع أو کانت للسببیة فیکون قوله علیه السلام فیما بعد «ولکن تنقضه بیقین آخر» إرشاداً إلی انتفاء الموضوع للاستصحاب مع الیقین بالخلاف وأما إذا لم یکن الشک فی قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشک» ظاهراً فی نفسه فی عدم العلم بل احتمل کونه مقابل العلم والظن أو کان ظاهراً فی حصول الاحتمال المساوی لاحتمال الطرف الآخر فلا یکون قوله علیه السلام بعد ذلک: «ولکن تنقضه بیقین آخر» دلیلاً علی أن المراد من الشک فی الأخبار الناهیة عن نقض الیقین بالشک هو عدم العلم فإن ذکر الناقض الواحد وسکوته عن غیره لا یکون من الإطلاق اللفظی الذی مقتضی الأصل فی کلام کل متکلم صدر عنه الکلام بل هو من الإطلاق المقامی الذی یحتاج ثبوته إلی قیام القرینة.

وما ذکره من أن قوله علیه السلام «ولکن تنقضه بیقین آخر» ظاهره کونه فی مقام تحدید وحصر ما ینقض به الیقین السابق مجرد دعوی فإن ظاهره أن الشک ینقض بالیقین بالخلاف، وأما أنه هو الناقض الوحید فلا قرینة علی ذلک. نعم، یدلّ علی جریان الاستصحاب مع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق فقرتان من صحیحة زرارة الواردة فی الوضوء إذا شک بعده فی النوم، إحداهما: قوله علیه السلام _ بعد السوءال عن نقض وضوء من حرک فی جنبه شیء وهو لا یعلم _ : «لا» فإن جواب الإمام علیه

ص : 380

وفیه: إن قضیة عدم اعتباره لإلغائه أو لعدم الدلیل علی اعتباره لا یکاد یکون إلاّ عدم إثبات مظنونه به تعبّداً، لیترتّب علیه آثاره شرعاً، لا ترتیب آثار الشک مع عدمه، بل لابد حینئذ فی تعیین أن الوظیفة أیّ أصل من الأصول العملیة من الدلیل، فلو فرض عدم دلالة الاخبار معه علی اعتبار الاستصحاب فلا بد من الانتهاء إلی سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتیاب، ولعلّه أشیر إلیه بالأمر بالتأمل، فتأمل جیداً.

بعدم الانتقاض من غیر تقیید بصورة عدم الظن بالنوم مع أن الظن به أمر عادی فی مثل الفرض مقتضاه جریان الاستصحاب مع عدم العلم بالانتقاض، وثانیتهما: أنه جعل الغایة فی الحکم ببقاء الوضوء بقوله علیه السلام : «حتی یستیقن أنه قد نام» وهذا وإن کان وارداً فی الوضوء إلاّ أن تطبیق الإمام قدس سره بعد ذلک وتعلیل حکمه بالکبری الکلیة بقوله: «وإن لم یجئ أمرٌ بیّن فإنه علی یقین من وضوئه ولا تنقض الیقین بالشک» مقتضاه کون المراد من الشک فی أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک هو خلاف العلم.

جریان الاستصحاب فی موارد الظن غیر المعتبر

وقد ذکر الشیخ قدس سره فی وجه جریان الاستصحاب مع الظن غیر المعتبر أمرین آخرین:

الأول _ الإجماع من القائلین باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار، وقد أورد علیه الماتن قدس سره بأن الإجماع منهم علی تقدیره مدرکی، وأنهم التزموا بذلک لکون ظاهر الشک الوارد فی أخبار الاستصحاب خلاف العلم والیقین.

والثانی _ هو أن الظن غیر المعتبر إن کان کالظن القیاسی فی قیام الدلیل علی عدم اعتباره فمقتضی ذلک الدلیل أن ذلک الظن کعدمه وأن کلّما یترتب علی عدمه یترتب مع وجوده أیضاً وإن کان عدم اعتباره لعدم الدلیل علی اعتباره یکون رفع الید عن العلم بالحالة السابقة بالشک لا مع الیقین، وأورد الماتن علی ذلک بأن عدم اعتبار

ص : 381

تتمة: لا یذهب علیک أنه لابد فی الاستصحاب من بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هناک ولو علی وفاقه فهاهنا مقامان:

المقام الأول _ أنه لا إشکال فی اعتبار بقاء الموضوع بمعنی اتحاد القضیة المشکوکة مع المتیقنة موضوعاً کاتحادهما حکماً، ضرورة أنه بدونه لا یکون الشک فی البقاء بل فی الحدوث، ولا رفع الید عن الیقین فی محل الشک نقض

الظن لقیام الدلیل علی عدم اعتباره أو لعدم الدلیل علی اعتباره مقتضاه عدم ثبوت المتعلق بذلک الظن لا أنه یترتب علی ذلک الظن ما یترتب علی الشک فی ذلک المتعلق بأن ینزل الظن منزلة الشک مع فرض أن ما دل علی اعتبار الاستصحاب لیس فیه إطلاق بحیث لا یعم إلاّ صورة الاحتمال المساوی للاحتمال الآخر فیکون المتعین فی تعیین الحکم الظاهری فی صورة الظن غیر المعتبر سائر القواعد التی لم یوءخذ فی موضوعاتها عنوان الشک بل عنوان الجهل وعدم العلم کما هو مفاد قوله صلی الله علیه و آله : «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون»(1).

أقول: أضف إلی ذلک أن المعنی الظاهر من النهی عن نقض الیقین بالشک أن یکون رفع الید عن الیقین بشیء مع الشک فی ذلک الشیء نفسه لا مع الشک فی شیء آخر ومع الشک فی اعتبار ظن لا یکون نقض الیقین الشیء بالشک فی نفس ذلک الشیء ولا یخفی أن الکلام فی المقام فی عموم مدلول أخبار الاستصحاب بحیث یعم الموارد التی یکون الظن بالارتفاع أو البقاء مع عدم اعتبار ذلک الظن، وأما موارد الظن فلا مورد للاستصحاب فیها بناءً علی أن اعتبار الأمارة أو الظن معناه اعتبارهما علماً وأما بناءً علی مسلک جعل الحجیة أو جعل مدلول الأمارة حکماً

ص : 382


1- (1) وسائل الشیعة 11 : 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحدیث الأول.

الیقین بالشک، فاعتبار البقاء بهذا المعنی لا یحتاج إلی زیادة بیان وإقامة برهان، والاستدلال علیه باستحالة انتقال العرض إلی موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخصه به غریب، بداهة أن استحالته حقیقة غیر مستلزم لإستحالته تعبّداً، والإلتزام بآثاره شرعاً [1].

طریقیاً فسیأتی البحث فی ذلک فی بحث تعارض الأمارات مع الاستصحاب.

اعتبار بقاء الموضوع فی جریان الاستصحاب وبیان المراد من بقائه

[1] قالوا یعتبر فی جریان الاستصحاب بقاء الموضوع وعدم قیام أمارة معتبرة فی مورده ولو علی وفق الحالة السابقة، ویقع الکلام فی مقامین الأول اعتبار بقاء الموضوع وقد فسر الماتن قدس سره بقاءه باتحاد القضیتین المشکوکة والمتیقنة بحسب الموضوع والمحمول بأن یکون الموضوع فی القضیة المشکوکة هو الموضوع فی القضیة المتیقنة، والمحمول فیها نفس المحمول فیها والوجه فی اعتبار ذلک أنه مع اختلاف القضیتین لا یتعلق الشک ببقاء الحالة السابقة ولا یکون عدم ترتیب الأثر علی القضیة المشکوکة علی طبق القضیة المتیقنة من نقض الیقین بالشک کما إذا علم بحیاة زید وشک فی حیاة عمرو أو فی عدالة زید ولکن لا یخفی أن التعبیر عن اعتبار اتحاد القضیتین ببقاء الموضوع غیر صحیح فإن المعتبر فی الاستصحاب تعلق الشک ببقاء الحالة السابقة ولا یکون الشک فی بقائها إلاّ مع اتحاد القضیتین لا ببقاء الموضوع خاصة ولا بالاتحاد فی ناحیته خاصة، ولعل التعبیر المذکور وقع تبعاً للشیخ قدس سره حیث ذکر أن المعتبر فی جریان الاستصحاب فی ناحیة المحمول بقاء الموضوع علی النحو الذی فرض سابقاً فإن کان المستصحب محمولاً أولیاً فیعتبر تقرر الموضوع ذهناً کما فی استصحاب وجود الشیء الذی هو مفاد (کان) التامة، وإن کان من المحمولات الثانویة فیعتبر وجوده خارجاً کما فی الاستصحاب فی ناحیة

ص : 383

وأما بمعنی إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا یعتبر قطعاً فی جریانه لتحقق أرکانه بدونه، نعم ربما یکون مما لابد منه فی ترتیب بعض الآثار، ففی استصحاب عدالة زید لا یحتاج إلی إحراز حیاته لجواز تقلیده، وإن کان محتاجاً إلیه فی جواز الإقتداء به أو وجوب إکرامه أو الإنفاق علیه.

قیام زید أو عدالته حیث إن المعروض للقیام أو العدالة زید بوجوده الخارجی واستدل علی اعتبار بقاء الموضوع کذلک بأنه مع عدم بقائه إن اُرید إثبات المحمول بلا موضوع فهو ممتنع؛ لأن العرض لا یقوم إلاّ بالمعروض وإن اُرید إثبات قیامه لموضوع آخر فلازمه انتقال عرض من معروض إلی آخر وهو مستحیل.

_ ولکن لا یخفی ما فیه فإنه ربما لا یکون المستصحب من العرض بالإضافة إلی المعروض کما فی الاستصحاب فی ناحیة وجود الشیء الذی من قبیل الجوهر أو ملکیة شیء أو نجاسته ونحوهما من الاُمور الاعتباریة التی لا تدخل فی عنوان العرض من الوضع والتکلیف کما أن المستصحب قد یکون من الاُمور العدمیة فإن شیئاً من ذلک لا یکون من العرض هذا أولاً.

_ وثانیاً: ما ذکره الماتن قدس سره أن الممتنع هو قیام العرض بلا موضوع قیاماً خارجیاً أو انتقاله إلی غیر معروضه کذلک لا قیامه تعبداً أو انتقاله کذلک فإن مرجع التعبد إلی الاعتبار القائم بنفس المولی کما إذا ورد الحکم بعدالة عمرو عند الشک فی بقاء عدالة زید ثمّ إنه یقال بظهور الثمرة بین بقاء الموضوع علی ما ذکره الشیخ وبین القول بأن المعتبر فی جریان الاستصحاب اتحاد القضیة المشکوکه مع القضیة المتیقنة من حیث الموضوع والمحمول فیما إذا شک فی عدالة زید مثلاً مع الشک فی حیاته فإنه یجری الاستصحاب فی ناحیته علی عدالته لاتحاد القضیتین فی الموضوع والمحمول والمفروض احتمال بقاء تلک القضیة المتیقنة ولکن لا یجری

ص : 384

وإنما الإشکال کله فی أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دلیل الحکم؟ أو بنظر العقل؟ فلو کان مناط الإتحاد هو نظر العقل فلا مجال للإستصحاب فی الأحکام، لقیام احتمال تغیّر الموضوع فی کل مقام شک فی الحکم بزوال بعض خصوصیات موضوعه، لإحتمال دخله فیه، ویختص بالموضوعات، بداهة أنه إذا شک فی حیاة زید شک فی نفس ما کان علی یقین

الاستصحاب فی بقائه علی عدالته علی مسلک بقاء الموضوع لعدم إحراز حیاة زید ویترتب علی استصحاب القضیة المتیقنة جواز تقلیده مثلاً. نعم، لو کان ترتب الأثر موقوفاً علی إحراز ذلک الموضوع فی القضیة المتیقنة عیناً کما فی استحباب إکرامه والإنفاق علیه فیحتاج إلی ذلک الإحراز.

وقد یقال: بعدم الفرق بین المسلکین فی اعتبار بقاء الموضوع وذلک فإن الشک فی عدالة زید أو غیرها من أوصافه علی أنحاء:

الأول _ أن یکون الشک فی عدالته أو غیرها من أوصافه ناشئاً من الشک فی بقائه بحیث لو أحرز حیاته یعلم عدالته أو غیرها من أوصافه.

الثانی _ أن یکون الشک فی عدالته أو غیرها متحققاً حتی مع إحراز بقاء حیاته بأن یکون بقاؤه علی حیاته کعدالته مشکوکاً غایة الأمر الشک فی عدالته أو غیرها من وصفه فی طول الشک فی حیاته.

الثالث _ أن تکون حیاته محرزة وإنما الشک فی بقاء عدالته أو سائر وصفه وعرضه ولا ینبغی التأمل فی جریان الاستصحاب فی ناحیة عدالته أو سائر وصفه وعرضه فی الصورة الثالثة سواء قلنا بأن المعتبر فی جریان الاستصحاب بقاء الموضوع خارجاً أو اتحاد القضیتین، وأما فی الصورة الثانیة فلا بأس بالاستصحاب فی ناحیة حیاته وعدالته بناءً علی اعتبار اتحاد القضیتین بأن یقال کان زید حیاً

ص : 385

منه حقیقة بخلاف ما لو کان بنظر العرف أو بحسب لسان الدلیل، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصیّات وإن کان موجباً للشک فی بقاء الحکم لإحتمال دخله فی موضوعه، إلاّ أنه ربما لا یکون بنظر العرف ولا فی لسان الدلیل من مقوّماته[1].

وعادلاً والآن کما کان، وأما بناء علی مسلک الشیخ قدس سره یجری الاستصحاب فی ناحیة حیاته أولاً وبعد إحراز وجود زید ولو بالاستصحاب یجری فی ناحیة عدالته أو سائر وصفه ثانیاً، ولکن لا یخفی أن الاستصحاب فی بقاء حیاة زید موقوف علی ترتب أثر شرعی علیه لا فیما إذا فرض ترتب الأثر علی عدالته فقط، ومن هنا لا یجری الاستصحاب بناءً علی مسلک بقاء الموضوع فی الصورة الاُولی أیضاً؛ لأن الاستصحاب فی بقاء زید لا یترتب علیه تحقق عدالته؛ لأن الترتب اتفاقی لا شرعی ولا فی عدالته أو سائر وصفه لعدم إحراز الموضوع له إلاّ أن یقال یجری الاستصحاب فی ناحیة وجود زید المتصف بالعدالة حیث إنه کان له الوجود کذلک سابقاً ویحتمل بقاؤه کذلک فی الصورة الاُولی والثانیة، والموضوع للوجود المتصف هو زید بوجوده التقرری لا الخارجی.

ومما ذکرنا یظهر أنه لو شک فی بقاء زید ولکن علم أنه لو کان حیاً لصار بمرتبة الاجتهاد أو صار أعلم الأحیاء من دون أن یکون لاجتهاده أو أعلمیته حالة سابقة فلا یفید الاستصحاب فی بقاء حیاته لإثباتهما لیترتب علیه جواز تقلیده أو وجوبه؛ لأن إثبات حیاته لعدم صیرورته مجتهداً أو أعلم أثر شرعی لبقاء حیاته ولیس لهما حالة سابقة بل الحالة السابقة عدمهما سواء قیل بأن المعتبر فی الاستصحاب اتحاد القضیتین أو بقاء الموضوع بالمعنی المتقدم فی کلام الشیخ قدس سره .

[1] بعدما ظهر اعتبار الاتحاد بین القضیة المشکوکة والمتیقنة فی جریان الاستصحاب فی جهتی الموضوع والمحمول یقع الکلام فی النظر الذی یلاحظ

ص : 386

کما أنه ربما لا یکون موضوع الدلیل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً، مثلاً إذا ورد (العنب إذا غلی یحرم) کان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب، ولکن العرف بحسب ما یرتکز فی أذهانهم ویتخیّلونه من المناسبات بین الحکم وموضوعه، یجعلون الموضوع للحرمة ما یعم الزبیب

الاتحاد بینهما بذلک النظر ویقال لا عبرة فی الاتحاد بنظر العقل بأن یعتبر الاتحاد بحسب نظره هو المعیار فی جریان الاستصحاب؛ لأن ذلک یستلزم اختصاص جریانه بالشبهات الموضوعیة ولا یجری فی الشبهات الحکمیة وذلک فإن الشک فی الشبهات الحکمیة ینشأ من تخلف بعض ما کان ثبوت الحکم معه متیقناً حیث إنه لو لم یتخلف شیء مما یحتمل دخله فی ثبوت الحکم کان بقاؤه محرزاً وجداناً لعدم تخلف الحکم عن موضوعه إلاّ بفرض النسخ کما إذا ثبت الحکم بالنجاسة للماء الکر بالتغیر فی أحد أوصافه بوقوع النجاسة فیه یکون زوال التغیر منه من قبل نفسه موجباً للشک فی بقاء نجاسته لاحتمال أن الحکم بالنجاسة موضوعه ما حصل فیه التغیر وإن زال من قبل نفسه ویحتمل کون الموضوع للحکم بها الماء المتغیر ما دام متغیراً فمع عدم إحراز الموضوع لا یمکن إحراز اتحاد القضیتین عقلاً، ولا یخفی أنه لا یصح أن یقال إن اعتبر الاتحاد بینهما عقلاً لجری الاستصحاب فی جمیع الشبهات الموضوعیة، ولا یجری فی شیء من الشبهات الحکمیة أصلاً حیث مع لحاظ الاتحاد بنظره کان بعض الشبهات الموضوعیة کالحکمیة فی عدم الجریان کالشک فی بقاء الکریة للماء حیث لا یمکن دعوی أن المتیقن کان کریة هذا الماء الموجود فعلاً وأیضاً جری الاستصحاب فی بعض الشبهات الحکمیة فیما إذا کان الموجب للشک فی البقاء هو مضی نفس الزمان کما إذا شک فی أن الخیار مع ظهور الغبن فوری أم بالتراخی وإن مبدأ خیار الحیوان من حین العقد أو من حین الافتراق فإنه یجری فی

ص : 387

ویرون العنبیّة والزبیبیّة من حالاته المتبادلة، بحیث لو لم یکن الزبیب محکوماً بما حکم به العنب، کان عندهم من ارتفاع الحکم عن موضوعه، ولو کان محکوماً به کان من بقائه، ولا ضیر فی أن یکون الدلیل بحسب فهمهم علی خلاف ما ارتکز فی أذهانهم بسبب ما تخیّلوه من الجهات والمناسبات فیما إذا لم تکن بمثابة تصلح قرینة علی صرفه عما هو ظاهر فیه.

الأول الاستصحاب فی بقاء خیار الغبن، وفی الثانی عدم حدوث خیار الحیوان إلی زمان انقضاء خیار المجلس حیث إن الاتحاد بین القضیتین حتی بنظر العقل یلاحظ مع قطع النظر عن مضی الزمان.

ثمّ إن الشیخ قدس سره قد التزم بأنه لو اقتصر بالنظر العقلی فی بقاء الموضوع لاختص جریان الاستصحاب بموارد الشک فی الرافع، ویورد علیه:

أولاً _ بأن مقتضی الاقتصار عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة مطلقاً ولو کان الشک فی الرافع؛ لأن الموضوع للحکم فی موارد الشک فی الرافع أیضاً غیر محرز حیث یحتمل أنّ لعدم ما یطلق علیه الرافع دخلاً فی ثبوت الحکم سابقاً.

ثانیاً _ بأن اختصاص جریانه بموارد الشک فی الرافع لا یوجب محذوراً وقد التزم قدس سره بعدم جریانه فی موارد الشک فی المقتضی حتی وإن لم یلتزم بأن المعیار فی بقاء الموضوع لحاظ نظر العقل.

وقد وجه المحقق النائینی قدس سره کلام الشیخ ما حاصله أن الرافع یطلق علی أمرین:

أولهما _ یراد به مقابل المانع حیث إن المانع یمنع عن تأثیر المقتضی؛ لأن یحدث مقتضاه والرافع ما یقلع الشیء عن صفحة الوجود بعد وجوده وحدوثه.

والثانی _ هو أن یراد بالرافع مقابل المقتضی والمراد من الشک فی المقتضی أنه لو حصل مقتضاه فی زمان ولم یتغیر شیء مما کان عند وجود المقتضی بالفتح من

ص : 388

ولا یخفی أن النقض وعدمه حقیقة یختلف بحسب الملحوظ من الموضوع، فیکون نقضاً بلحاظ موضوع، ولا یکون بلحاظ موضوع آخر، فلا بد فی تعیین أن المناط فی الإتحاد هو الموضوع العرفی أو غیره، من بیان أن خطاب (لا تنقض) قد سیق بأیّ لحاظ؟.

فالتحقیق أن یقال: إن قضیة إطلاق خطاب (لا تنقض) هو أن یکون بلحاظ الموضوع العرفی، لأنه المنساق من الإطلاق فی المحاورات العرفیة ومنها الخطابات الشرعیة، فما لم یکن هناک دلالة علی أن النهی فیه بنظر آخر غیر ما هو

انعدام شیء موجود فی ذلک الزمان أو وجود شیء کان معدوماً فی ذلک الزمان شک فی بقاء ذلک المقتضی بمرور نفس الزمان کما إذا شک فی أن خیار الغبن عند ظهور الغبن فوری أو أنه علی التراخی بخلاف موارد الشک فی الرافع فإنه إذا حصل المقتضی بالفتح فی زمان ولم یتغیر شیء مما کان عند وجوده من انقلاب شیء موجود إلی العدم أو انقلاب المعدوم إلی الوجود یبقی ذلک المقتضی إلی الأبد وما التزم الشیخ قدس سره فی الرسائل من التفصیل من اعتبار الاستصحاب فی موارد الشک فی الرافع وعدم اعتباره فی موارد الشک فی المقتضی مراده من الرافع هذا المعنی الثانی فإنه إذا شک فی نجاسة الماء الکر بعد زوال تغیره یکون المورد من موارد الشک فی الرافع؛ لأنه لو لم یتبدل التغیر إلی العدم کان بقاء نجاسة الماء محرزاً بالوجدان، وما ذکره من أن کون المعیار فی بقاء الموضوع هو نظر العقل یستلزم اختصاص الاستصحاب بموارد الشک فی الرافع مراده بالرافع المعنی الأول: لأن الرافع أی قالع شیء عن صفحة الوجود لا یکون عدماً بل لابد من أن یکون أمراً وجودیاً بخلاف الرافع بالمعنی الثانی حیث یمکن کونه عدماً کانعدام التغیر عن الماء الکر فإنکار الشیخ قدس سره بکون الاعتبار بنظر العقل فی بقاء الموضوع لاستلزام ذلک اختصاصه

ص : 389

الملحوظ فی محاوراتهم، لا محیص عن الحمل علی أنه بذاک اللحاظ، فیکون المناط فی بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف، وإن لم یحرز بحسب العقل أو لم یساعده النقل، فیستصحب مثلاً ما یثبت بالدلیل للعنب إذا صار زبیباً، لبقاء الموضوع واتحاد القضیتین عرفاً، ولا یستصحب فیما لا اتحاد کذلک وإن کان هناک اتحاد عقلاً، کما مرّت الإشارة إلیه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی، فراجع [1].

بموارد الشک فی الرافع مراده من الرافع بالمعنی الأول وما التزم به قدس سره هو اختصاص جریانه بموارد الشک فی الرافع هو بالمعنی الثانی فلا منافاة ولکن لا یخفی أنه لو اعتبر فی جریان الاستصحاب بقاء الموضوع بالدقة العقلیة لما جری الاستصحاب فی الأحکام الشرعیة من غیر فرق بین موارد الشک فی المقتضی وموارد الشک فی الرافع الذی التزم الشیخ قدس سره بجریانه فیها فإن الحکم علی کل حال من الاُمور الاعتباریة، والموضوع للأمر الاعتباری إذا کان باقیاً یبقی الحکم ببقائه والشک فی بقاء الحکم فی الشبهات الحکمیة لابد من أن یستند إلی احتمال ما تخلف فی موضوع الحکم ثبوتاً سواء کان التخلف لانتفاء أمر وجودی کزوال التغیر عن الماء الکر وکذهاب ثلثی العصیر المغلی بالهواء حیث یحتمل انعدام الثلثین بالهواء حیث یحتمل أن عدم ذهابه سابقاً کان دخیلاً فی حرمته أو لتبدل أمر عدمی إلی الوجودی کالذی سافر إلی أربعة فراسخ بقصد الرجوع بعد أیام إلی غیر ذلک فقالع الحکم عن الوجود لا یجری فی الاستصحاب فی الأحکام الشرعیة حتی فی موارد الشک فی النسخ حیث إن النسخ فیها عبارة عن انتهاء أمد الحکم فالمتحصل أنه لا قالع للوجود عند الشک فی بقاء الحکم الشرعی لیقال بأنه لو کان المعتبر فی بقاء الموضوع الدقة العقلیة لاختص جریانه بموارد الشک فی الرافع بمعنی قالع الوجود.

[1] بعد ما تبین عدم العبرة فی جریان الاستصحاب باتحاد القضیتین بنظر

ص : 390

.··· . ··· .

العقل حتی فی الشبهة الموضوعیة یقع الکلام فی اعتبار کون اتحادهما بنظر العرف أو بحسب لسان الدلیل یعنی خطاب الحکم حیث إنه قد یکون ما ورد فی خطاب الحکم فی ناحیة الموضوع عنوان لا یکون ذلک العنوان بنفسه موضوعاً له بنظر العرف بل یکون الموضوع ما یعم غیره أیضاً کما إذا ورد فی الخطاب: العنب إذا غلی یحرم، وعنوان العنب وإن لا یعم الزبیب بحسب الفهم العرفی ولذا یصح أن یقال جزماً بأنه لا دلالة لذلک الخطاب علی حکم الزبیب إذا غلی ولکن مع ذلک یری أهل العرف العنب الذی صار زبیباً موجوداً واحداً والاختلاف بینهما بالحالات بحیث لو کان الزبیب أیضاً محکوماً بالحرمة ثبوتاً عند غلیانه کان ذلک بنظر العرف بقاءً للحرمة الثابتة له ثبوتاً حال العنب وعدم ثبوتها زوالاً عند صیرورته زبیباً.

والحاصل أن فی موارد الاستصحاب یکون المستصحب هی القضیة المتیقنة ثبوتاً وإذا یری أهل العرف العنوان الوارد فی خطاب الحکم فی ناحیة الموضوع من الأحوال لموضوع الحکم ثبوتاً بحیث یحتمل أن یکون الحکم المجعول لذات الموضوع ضیقاً لا یعم غیر ذلک الحال ویحتمل کونه وسیعاً بحیث یعم الحالة الاُخری أیضاً بحیث علی تقدیر کونه ثبوتاً کذلک یعد الحکم فی الحالة الاُخری ثبوتاً من بقاء الحکم الأول لا حکماً آخر بجعل آخر یکون المورد مجری للاستصحاب فلا فرق بین أن یرد فی الخطاب: الماء المتغیر فی أحد أوصافه نجس، أو یرد: الماء إذا تغیر تنجس، أو: أن العنب المغلی حرام، أو یرد: العنب إذا غلی یحرم، فإن معروض النجاسة والحرمة ثبوتاً بحسب الفهم العرفی بمناسبة الحکم والموضوع نفس الماء وذات العنب ولکن لا ینافی ذلک عدم دلالة الخطاب فی شیء من التقدیرین من نجاسة الماء بعد زوال تغیره وحرمة الزبیب بعد غلیانه ولو کان

ص : 391

المقام الثانی _ أنه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة

للخطاب دلالة علی ثبوت الحکم فی الحالة الاُخری لما کان مجال للأصل العملی فانتفاء مدلول الخطاب بالإضافة إلی الحالة الاُخری لا ینافی احتمال بقاء القضیة المتیقنة ثبوتاً فی تلک الحالة، وربّما یکون العنوان الوارد فی الخطاب بحسب الفهم العرفی عنواناً مقوماً للحکم ثبوتاً أیضاً ولا یرونه من الحالات بحیث لو کان الحکم ثبوتاً عاماً لا یعد الثانی بقاءً للأول بل حکماً مجعولاً آخر مثل الحکم المجعول الأول کنجاسة المنی فإنه لا یعم ما إذا کان المنی دماً والدم مضغة فإن نجاسة الدم نجاسة اُخری ولیس من بقاء نجاسة المنی ولا نجاسة المضغة علی تقدیرها نجاسة الدم، ومما ذکر یظهر أن الحکم بنجاسة أولاد الکفّار أخذ بالاستصحاب بنجاسة المنی فاسد، وأنه لا یجری الاستصحاب فی موارد الاستحالة فی الأعیان النجسة والمتنجسة؛ لعدم اتحاد القضیة المتیقنة والمشکوکة ثبوتاً.

لا یقال: عدم جریان الاستصحاب فی موارد الاستحالة فی الأعیان النجسة صحیح؛ لأن العنوان فی العین النجسة عنوان مقوم لموضوع النجاسة ومع الاستحالة ینتفی ما هو الموضوع ثبوتاً وأما الاستحالة فی الأعیان المتنجسة فلا موجب لعدم جریان الاستصحاب کما إذا شک فی بقاء الخشب المتنجس فحماً أو رماداً؛ لأن الموضوع للتنجس فیها هو کون شیء جسماً فإنه مقتضی قولهم کل جسم لاقی نجساً یتنجس ولذا لو قام دلیل اجتهادی علی نجاسة الفحم أو الرماد المذکور لا تعد نجاستهما نجاسة اُخری لعدم الموجب له غیر نجاسة الخشب.

فإنه یقال: لا فرق فی موارد الاستحالة بین الأعیان النجسة والمتنجسة فإن المحکوم بالنجاسة نفس الخشب الملاقی للنجاسة وبعد صیرورته رماداً لا خشباً ولو کان فی البین دلیل علی نجاسته لکان هذا تعبداً آخر لا تعبداً ببقاء الحالة السابقة،

ص : 392

.··· . ··· .

وقولهم: کل جسم لاقی نجساً یتنجس، لیس لبیان أن الموضوع للتنجس هی الجهة الجامعة بین الأشیاء بل لبیان أن خصوصیة جسم غیر دخیل فی تنجسه بالملاقاة مع النجس بحیث لا یحصل التنجس لجسم طاهر دون جسم آخر وبتعبیر آخر انطباق عنوان الجسم الطاهر علی شیء من قبیل الواسطة فی الثبوت لا من قبیل الواسطة فی العروض.

لا یقال: لو کانت الاستحالة موجباً لانتفاء الموضوع بحیث لم یکن معه مجال للاستصحاب فما الفارق بینه وبین الانقلاب مع أنه لا یبقی الموضوع مع الانقلاب أیضاً مع أنهم ذکروا أن مطهریة الانقلاب تعبدی یقتصر فی الحکم بها علی قیام دلیل خاص.

فإنه یقال: _ مع الفرق بین موارد الاستحالة والانقلاب فی بعض الموارد کالمتنجسات کما فی انقلاب العصیرِ دبساً حیث إن کونه عصیراً وصار دُبساً من الأوصاف والحالات _ إن فی مورد الانقلاب تنجس ما فیه المایع موجب لتنجس المایع الذی انقلب إلیه؛ ولذا تکون طهارة الخل عند انقلاب الخمر إلیه تخصیصاً فی قاعدة تنجس الملاقی للظرف النجس أو من طهارة الظرف تعبداً.

هذا کلّه فی الشبهات الحکمیة بناءً علی جریان الاستصحاب فیها وعدم معارضة الاستصحاب فی ناحیة الحکم الفعلی مع الاستصحاب فی عدم جعل الحکم الوسیع أو عدم حکومة الاستصحاب فی ناحیة عدم جعله علی الاستصحاب فی ناحیة الحکم الفعلی وأما الشبهات الموضوعیة فقد تقدم أن الاستصحاب فی ناحیة بقاء الموضوع من الأصل السببی بالإضافة إلی الحکم الجزئی المترتب علیه فمع جریانه فی ناحیة الموضوع لا یبقی شک بالإضافة إلی ما یترتب علیه من الحکم

ص : 393

فی مورد، وإنما الکلام فی أنه للورود[1] أو الحکومة أو التوفیق بین دلیل اعتبارها وخطابه والتحقیق أنه للورود، فإن رفع الید عن الیقین السابق بسبب أمارة معتبرة علی خلافه لیس من نقض الیقین بالشک بل بالیقین، وعدم رفع الید عنه مع الأمارة

لیقال: إن الاستصحاب فی ناحیة الجزئی أیضاً حاله حال الاستصحاب فی ناحیة الحکم الکلی من الابتلاء بالمعارض أو حکومة الاستصحاب فی عدم جعله علی الاستحباب.

عدم جریان الاستصحاب فی موارد الأمارات المعتبرة

[1] لا ینبغی التأمل فی عدم جریان الاستصحاب فی موارد قیام الأمارة المعتبرة بلا فرق بین ما کانت الأمارة موافقة للحالة السابقة أو مخالفة لها، وإنما الکلام فی وجه عدم جریان الاستصحاب فیها، وأنه لورود دلیل اعتبار الأمارة علی خطابات الاستصحاب بأن لا یکون لخطاباته موضوع مع الأمارة المعتبرة أو لحکومة دلیل اعتبارها علی خطاباته أو أن تقدیم الأمارة علی الاستصحاب مقتضی الجمع العرفی بین دلیل اعتبارها وخطابات الاستصحاب ذکر الماتن قدس سره أن الصحیح هو الأول یعنی الورود فإن خطاب النهی عن نقض الیقین بالشک ظاهره أن الشک لا یصلح کونه ناقضاً للیقین ولو کان مدلول الأمارة المعتبرة علی خلاف الحالة السابقة یکون الناقض للیقین السابق الیقین باعتبار تلک الأمارة لا الشک فی الحالة السابقة، وإن کانت موافقة للحالة السابقة یکون ترتیب أثر الحالة السابقة من جهة لزوم العمل بالأمارة والعلم باعتبارها لا لثبوت تلک الحالة سابقاً.

لا یقال: هذا فیما اُخذ عند الشک فی البقاء بإطلاق دلیل اعتبار الأمارة فإن مع اعتبارها لا یکون نقض الیقین بالحالة السابقة بالشک بل بتلک الأمارة المعتبرة أو لدلالتها علی بقاء الحالة السابقة، ولکن لم لا یوءخذ أوّلاً بإطلاق خطاب النهی عن

ص : 394

علی وفقه لیس لأجل أن لا یلزم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.

لا یقال: نعم، هذا لو أخذ بدلیل الأمارة فی مورده، ولکنه لِمَ لا یؤخذ بدلیله ویلزم الأخذ بدلیلها؟

نقض الیقین بالشک، ویقید به إطلاق دلیل اعتبار الأمارة أو یخصص به؟

فإنه یقال: لیس فی الأخذ بإطلاق دلیل اعتبار الأمارة محذور عند احتمال البقاء والارتفاع حیث لا یوجب الأخذ بالإطلاق مستلزماً للتخصیص أو التقیید فی خطاب اعتبار الاستصحاب بل یرتفع المنهی عنه فی خطاباته وهو کون الشک ناقضاً للیقین السابق بخلاف تقدیم خطاب اعتبار الاستصحاب فإن شموله لمورد الأمارة موقوف علی التخصیص والتقیید فی دلیل اعتبار الأمارة نظیر ما تقدم فی وجه تقدیم الأصل السببی علی المسببی، وعلی الجملة شمول خطابات الاستصحاب لموارد الأمارة المعتبرة موقوف علی التقیید فی دلیل اعتبار الأمارة ولو کان المقید له هو دلیل الاستصحاب یکون التقیید به دوریاً لتوقف جریان الاستصحاب علی تقیید دلیل الأمارة وتقییده موقوف علی جریان الاستصحاب.

وقد یورد علیه بأن (الباء) الداخلة علی الشک فی قولهم: «لا تنقض الیقین بالشک» لیست بمعنی السببیة بل بمعنی المصاحبة فیکون المعنی النهی عن نقض الیقین بالشیء عند الشک فیه أو مع الشک فیه وإلاّ فلا یکون لاعتبار الاستصحاب وجه فیما إذا کان رفع الید عن الحالة السابقة بمثل القرعة والاستخارة ونحوهما مما لا یکون ناقض الیقین فیه هو الشک فی البقاء بل لو قیل بأن مدلولها أن الشک لا یکون ناقضاً فالمراد أن الیقین السابق لابد من أن یکون ناقضه الیقین بالخلاف أی بارتفاع الحالة السابقة والیقین باعتبار الأمارة القائمة لا یکون یقیناً بارتفاع الحالة السابقة عند مخالفة الأمارة الحالة السابقة کما لا یکون یقیناً بالبقاء عند موافقتها وبتعبیر آخر قد

ص : 395

فإنه یقال: ذلک إنما هو لأجل أنه لا محذور فی الأخذ بدلیلها بخلاف الأخذ بدلیله، فإنه یستلزم تخصیص دلیلها بلا مخصص إلاّ علی وجه دائر، إذ التخصیص به یتوقف علی اعتباره معها، واعتباره کذلک یتوقف علی التخصیص به، إذ لولاه لا مورد له معها، کما عرفت آنفاً.

تقدم عن الماتن قدس سره أن الناقض للحالة السابقة ینحصر علی الیقین بالخلاف.

ویمکن الجواب عن ذلک بأن قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة: «لا حتی یجیء من ذلک أمر بین» ینفی کون ناقض الیقین الشک أو مثل القرعة والاستخارة وغیرهما من الاُءمور التی لا اعتبار بها فإن تلک الاُمور لا تدخل فی الأمر البین بخلاف الأمارة المعتبرة فإنه علی فرض شمول إطلاق دلیلها لمورد الاستصحاب کما هو المفروض یکون رفع الید عن الحالة السابقة والیقین بها بالأمر البین وتقیید دلیل اعتباره بخطاب الاستصحاب لئلا تکون تلک الأمارة أمراً بیناً دوری کما تقدم، وحیث إن الاستصحاب أی الکبری الکلیة طبقت فی صحیحة زرارة علی مورد عدم الأمر البین فیعلم أن المراد من الیقین الناقض أعم من الیقین بالارتفاع أو الیقین باعتبار أمر یدلّ علی الارتفاع وأن المراد بالشک عدم البین علی الارتفاع.

وأما ما یقال: من أن مناسبة الحکم والموضوع تقتضی أن یکون المراد بالیقین الحجة ومن الشک عدم الحجة أو اللاحجة ومع اعتبار الأمارة القائمة بالحالة السابقة کما یحصل الرکن فی الاستصحاب أی الیقین بالشیء کذلک بقیام الحجة علی ارتفاعها أو بقائها یکون الحکم بالارتفاع أو البقاء بالحجة لا بلا حجة، وفیه أن مقتضی ذلک أن تکون أصالة البراءة عن التکلیف بقاء حاکمة علی خطابات الاستصحاب وذلک فإنه فرض أن الحکم ببقاء الحالة السابقة معلق علی عدم الحجة علی الارتفاع فبشمول حدیث: «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون» بقاء التکلیف عند الجهل به یکون

ص : 396

.··· . ··· .

رفع الید عن الحجة بالحالة السابقة بالحجة علی عدم التکلیف فی البقاء.

فی حکومة دلیل اعتبار الأمارة علی خطابات الاستصحاب

وقد یقال: إن الوجه فی تقدیم الأمارة علی الاستصحاب فی مورد اجتماعهما هی حکومة الأمارة بدلیل اعتبارها علی الاستصحاب سواء کانت موافقة للاستصحاب أو مخالفة له، وقد أورد الماتن علی الحکومة بأن المیزان فی الحکومة أن یکون أحد الخطابین بمدلوله الاستعمالی ناظراً إلی بیان المدلول للخطاب الآخر، ومن الظاهر أن دلیل اعتبار الأمارة لا نظر له إلی خطابات الاستصحاب بوجه ومجرد تنافی ثبوت مدلول أحدهما واقعاً مع ثبوت المدلول للآخر کذلک لا یوجب حکومة أحدهما علی الآخر وإلاّ لأمکن العکس أیضاً بأن یقال: خطابات الاستصحاب حاکمة علی خطاب اعتبار الأمارة.

أقول: لا تنحصر الحکومة بما إذا کان أحد الدلیلین بمدلوله الاستعمالی ناظراً إلی بیان المراد الاستعمالی أو الجدی للآخر لیرد علیه ما عن الماتن أن مدلول دلیل اعتبار الأمارة لا نظر له إلی بیان المراد للاستعمال من خطابات لا تنقض، ولو کان اعتبار الأمارة دالاًّ علی إلغاء الاستصحاب؛ لعدم إمکان اجتماعهما ثبوتاً لکان خطابات الاستصحاب أیضاً حاکمة علی خطاب اعتبار الأمارة مع أن ما ذکر لا یوجب عدم جریان الاستصحاب مع الأمارة الموافقة للحالة السابقة بل للحکومة نحو آخر وهو ما إذا کان أحد الخطابین متکفلاً للحکم لموارد تحقق عنوان بمفاد القضیة الحقیقیة کما فی خطاب حرمة شرب الخمر ونجاسته ویکون مدلول الخطاب الآخر التعرض لثبوت ذلک العنوان وعدم ثبوته فی مورد علی نحو التعبد والاعتبار

ص : 397

وأما حدیث الحکومة فلا أصل له أصلاً، فإنه لا نظر لدلیلها إلی مدلول دلیله إثباتاً وبما هو مدلول الدلیل، وإن کان دالاً علی إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو کان علی خلافها، کما أن قضیة دلیله إلغائها کذلک،

کما إذا ورد فی خطاب آخر: «الفقاع خمر»(1) وکما إذا ورد فی خطاب: «إذا شککت فابن علی الأکثر»(2) وورد فی خطاب آخر: «لا شک لکثیر الشک»(3) أو «لا شک للإمام إذا حفظ من خلفه»(4) إلی غیر ذلک فإن الخطاب الثانی فی مثل ذلک لا یکون تخصیصاً بالإضافة إلی الخطاب الأوّل حیث إن مدلول الخاص ثبوت حکم آخر لبعض ما یدخل فی العنوان العام کما فی قوله علیه السلام : «البیعان بالخیار ما لم یفترقا»(5) بالإضافة إلی خطاب: «أوفوا بالعقود».

ثمّ إن الخطاب الدال علی عدم تحقق العنوان المحکوم بالحکم فی مورد لا یکون وارداً بالإضافة إلی الخطاب الدال علی الحکم لذلک العنوان حیث إن الورود عبارة عن کون شمول حکم لمورد موجباً لانتفاء الموضوع لحکم آخر عن ذلک المورد حقیقة فلابد من الالتزام بالحکومة إذا لم یکن فی البین ملاک الخاص والتخصیص ولا ملاک الورود، ولذا لا تنافی بین مدلول خطاب الحاکم ومدلول خطاب المحکوم حیث إن مدلول خطاب المحکوم ثبوت الحکم علی تقدیر حصول

ص : 398


1- (1) الوسائل 17 : 292، الباب 28 من أبواب الأشربة.
2- (2) الوسائل 5 : 318، الباب 8 من أبواب الخلل فی الصلاة، الحدیث 3، وفیه «إذا سهوت فابن علی الأکثر».
3- (3) الوسائل 5 : 329، الباب 16 من أبواب الخلل فی الصلاة.
4- (4) الوسائل 5 : 340، الباب 24 من أبواب الخلل فی الصلاة، الحدیث 8، وفیه: «ولیس علی الامام سهو إذا حفظ علیه من خلفه».
5- (5) التهذیب 7 : 20.

فإن کلاً من الدلیلین بصدد بیان ما هو الوظیفة للجاهل، فیطرد کل منهما الآخر مع المخالفة، هذا مع لزوم اعتباره معها فی صورة الموافقة، ولا أظن أن یلتزم به القائل بالحکومة، فافهم فإن المقام لا یخلو من دقّة.

عنوان الموضوع کما هو مفاد القضیة الحقیقیة، وأما تعیین حصوله أو عدم حصوله فخارج عن مدلوله وخطاب الحاکم متصدٍ لبیان تحققه وعدم تحققه التعبد والاعتبار وهذا القسم من الحکومة مشترک مع التخصیص فی موارد نفی الموضوع فی النتیجة إلاّ أن لسان الحاکم غیر لسان الخاص؛ ولذا لا تلاحظ النسبة بین خطابی الحاکم والمحکوم.

وعلی ذلک فقد یقال: إنه بشمول دلیل اعتبار الأمارة لأمارة ولو کان اعتبارها بالسیرة العقلائیة سواء أکانت علی وفق الحالة السابقة أو علی خلافها لا یکون فی البین جهل بالإضافة إلی الحالة السابقة نفیاً أو إثباتاً لیتم الموضوع للنهی عن نقض الیقین بالشک الذی هو مدلول خطابات الاستصحاب بنحو القضیة الحقیقیة.

وقد یورد علی هذا الاستدلال بأن الأمارة أیضاً اعتبر فی موضوع اعتبارها الجهل بالواقع حیث لا یمکن اعتبارها فی حق العالم بالواقع، وإذا کان لسان خطابات الاستصحاب اعتبار العلم بالحالة السابقة علماً بالبقاء عند الجهل بالواقع فلا یکون فی البین موجب لتقدیم اعتبار الأمارة مع کون النسبة بین دلیل اعتبار الاستصحاب ودلیل اعتبار الأمارة العموم من وجه حیث إن مدلولهما متساویان فی کون کل منهما الکبری الکلیة وقد وجه المحقق النائینی علی ما تقدم سابقاً من أن دلیل اعتبار الأمارة مقتضاه کونها علماً فی جهة إراءة الواقع وتتمیم کشفها بخلاف دلیل الاستصحاب فإن مقتضاه کون الیقین السابق علماً بالواقع من حیث العمل خاصة، وذکرنا أیضاً بعض المناقشة فی ذلک وقلنا: إن الصحیح فی الجواب أن الجهل غیر

ص : 399

وأما التوفیق، فإن کان بما ذکرنا فنعم الإتفاق، وإن کان بتخصیص دلیله بدلیلها فلا وجه له، لما عرفت من أنه لا یکون مع الأخذ به نقض یقین بشک، لا أنه غیر منهی عنه مع کونه من نقض الیقین بالشک.

مأخوذ فی موضوع دلیل اعتبار الأمارة إلاّ بتقیید عقلی لأجل امتناع التعبد للعالم بالواقع بخلاف الجهل بالواقع فی اعتبار الاستصحاب فإنه موضوع فی خطابات النهی عن نقض الیقین ومع إمکان التعبد بالأمارة فی مورد قیامها لا یکون فی دلیل اعتبارها تقیید بالإضافة إلی ذلک المورد بشموله لها ینتفی الموضوع فی خطابات النهی عن نقض الیقین مع الشک، وهذه هی الحکومة التی ذکرناها سابقاً. نعم، هذا النحو من الحکومة إنما یتم فی الأمارة التی یکون الجهل بالواقع غیر مأخوذ فی دلیل اعتبارها إلاّ من ناحیة التقیید عقلاً، وأما الأمارة التی اُخذ الجهل بالواقع فی خطاب اعتبارها فالتقدیم یحتاج إلی قیام قرینة اُخری، ومما ذکرنا یظهر أن ما ذکر من أن الجمع بین دلیل اعتبار الأمارة وخطابات الاستصحاب بتقدیم الأمارة للتوفیق العرفی بین دلیل اعتبارها وخطابات الاستصحاب لا وجه له؛ لأن التوفیق العرفی إنما یتم فی الموارد التی یکون الحکم فی أحد الخطابین بالعنوان الأولی، والحکم المخالف فی الخطاب الآخر بالعنوان الثانوی، ومرجع ذلک إلی تقیید الخطاب الدال علی الحکم، والحکومة التی ذکرناها لا ترتبط بهذا التوفیق ولا بالتقیید والتخصیص کما أوضحناها.

ص : 400

خاتمة

لا بأس ببیان النسبة بین الاستصحاب وسائر الأصول العملیة، وبیان التعارض بین الاستصحابین.

أما الأول _ فالنسبة بینه وبینها هی بعینها النسبة بین الأمارة وبینه فیقدم علیها ولا مورد معه لها] 1] للزوم محذور التخصیص إلاّ بوجه دائر فی العکس وعدم محذور فیه أصلاً هذا فی النقلیة منها . . .

تقدم الاستصحاب علی البراءة الشرعیة

[1] ذکر قدس سره فی وجه تقدیم الاستصحاب علی الاُصول الشرعیة کالبراءة الشرعیة أنه لا یلزم من تقدیم الاستصحاب علی البراءة الشرعیة لانتفاء الموضوع للبراءة الشرعیة فی مورد یجری الاستصحاب فیه فی ناحیة بقاء التکلیف أو بقاء الموضوع له بخلاف ما إذا قدم فیه خطاب البراءة الشرعیة فإنه یوجب التخصیص فی خطابات «لا تنقض» من غیر وجه لذلک التخصیص إلاّ بوجه دائر کما تقدم نظیره فی وجه تقدیم الأمارة المعتبرة فی مورد علی الاستصحاب فیه حیث لا یبقی مع شمول دلیل اعتبار الأمارة لتلک الأمارة لا یبقی فیه موضوع للاستصحاب بخلاف العکس علی ما مر.

وذکر قدس سره فی تعلیقته علی الرسالة فی توجیه ورود الاستصحاب علی البراءة الشرعیة بأن المرفوع فی «ما لا یعلمون» التکلیف المجهول من جمیع الجهات وإذا کان للتکلیف المفروض حالة سابقة فبشمول خطابات «لا تنقض» لذلک المورد یکون بقاء التکلیف معلوماً من جهة تنجزه فیرتفع الموضوع للبراءة الشرعیة بمعلومیة تنجز التکلیف المجهول فلا یکون فی البین محذور بخلاف ما إذا قدم حدیث «رفع ما لا یعلمون» فی الفرض فإنه یتوقف علی تخصیص خطابات

ص : 401

وأما العقلیة فلا یکاد یشتبه وجه تقدیمه علیها، بداهة عدم الموضوع معه لها، ضرورة أنه إتمام حجة وبیان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان، ولا شبهة فی أن الترجیح به عقلاً صحیح.

«لا تنقض» فی ذلک المورد مع أن المفروض عدم المخصص لها غیر شمول «ما لا یعلمون» المتوقف شموله علی تخصیصها.

ولکن لا یخفی أن جعل الموضوع للبراءة هو التکلیف المجهول ظاهره کون الوصف بلحاظ نفس التکلیف وإرجاع الجهل إلی تنجزه من جعل الوصف بحال المتعلق وهو خلاف الظاهر وإن اُرید أن الموضوع للبراءة هو التکلیف المجهول من جمیع جهات نفسه وأن لا یعلم حتی ثبوته سابقاً فلازمه خروج موارد الاستصحاب عن موضوع البراءة تخصصاً لا بالورود وأما توجیه الورود بدعوی أن المراد من العلم فی أخبار الاستصحاب والبراءة مثل «کل شیء حلال حتی تعلم أنه حرام»(1) والمراد من الشک اللا حجة فیرد علیه أن معنی العلم الانکشاف، والجهل خلافه وظاهر الشک التردید والاحتمال سواء اُرید بالحجة المنجز للتکلیف خاصة أو الأعم من المنجز والمعذِّر، أضف إلی ذلک أنه یستلزم أن تکون أدلة البراءة الشرعیة إرشادات إلی البراءة العقلیة فإن العقاب علی تکلیف لم تقم علیه حجة عقاب بلا بیان وعلی ذلک فلا تکون خطابات للبراءة الشرعیة لیقال: إنها تعارض الأخبار الواردة فی الأمر بالاحتیاط فی الشبهات.

فالصحیح أنه لا مجال للبراءة الشرعیة فی الشبهات الموضوعیة مع جریان الاستصحاب فیها، وکذا فی الشبهات الحکمیة إذا قیل بجریان الاستصحاب فیها

ص : 402


1- (1) الوسائل 2 : 60، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.

.··· . ··· .

حیث تکون خطابات «لا تنقض» فی موارد جریان الاستصحاب حاکمة علی خطابات البراءة الشرعیة مثل: «رفع عن اُمتی ما لا یعلمون» و«کل شیء حلال حتی تعرف الحرام» فإن مدلول النهی عن نقض الیقین بالشک اعتبار العلم بالحالة السابقة علماً ببقائها ما لم یعلم خلافها، وإذا کان علم للمکلف ببقائها فی موارد الاستصحاب ببقاء الموضوع للتکلیف کما فی الشبهات الموضوعیة أو بنفس بقاء التکلیف کما فی موارد الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف لا یکون فی جهل وشک فی التکلیف لتجری البراءة فی التکلیف المشکوک علی ما تقدم فی تقریر الحکومة هذا مع تقدیم الاستصحاب فی بعض أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک علی البراءة الشرعیة کالأخبار الواردة فی بقاء الشهر.

وقد ذکرنا أن ما ذکر الماتن قدس سره من أن الوجه فی تقدیم الاستصحاب علی البراءة الشرعیة بعینه الوجه الذی ذکر فی تقدیم دلیل اعتبار الأمارة علی خطابات النهی عن نقض الیقین بالشک من أن تقدیم خطابات النهی عن نقض الیقین بالشک علی خطابات البراءة الشرعیة لا یستلزم محذوراً ولکن تقدیم خطابات البراءة علی خطاب النهی عن نقض الیقین بالشک یستلزم المحذور وهو الالتزام بالتخصیص فی خطاب النهی بوجه دائر لا یمکن المساعدة علیه فانه بناء علی أن المنهی عنه جعل الشک ناقضاً للیقین السابق یکون رفع الید عن الیقین بالعلم برفع التکلیف المحتمل بقاءً لا بنفس الشک هذا کلّه بالإضافة إلی البراءة الشرعیة.

فی تقدم الاستصحاب علی البراءة العقلیة وأصالة التخییر

وأما بالإضافة إلی البراءة العقلیة فلا ینبغی التأمل فی أنّه مع جریان الاستصحاب فی ناحیة بقاء التکلیف لا یبقی موضوع للبراءة العقلیة حقیقة حیث

ص : 403

وأما الثانی _ فالتعارض بین الاستصحابین إن کان لعدم إمکان العمل بهما[1] بدون علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما کاستصحاب وجوب أمرین حدث بینهما التضاد فی زمان الاستصحاب، فهو من باب تزاحم الواجبین.

لا یکون مع جریانه العقاب علی مخالفة التکلیف المحتمل بقاؤه عقاباً بلا بیان سواء قیل بأن مقتضی أخبار النهی عن نقض الیقین بالشک هو اعتبار الیقین السابق یقیناً بالبقاء أو إیجاب العمل علی طبقه بأن یجعل علی مقتضاه حکماً ظاهریاً طریقیاً علی ما تقدم سابقاً أو جعل الیقین السابق مع الجهل بالبقاء منجزاً بالإضافة إلی بقاء التکلیف حیث إن الاستصحاب الجاری فیه علی کل تقدیر یکون بیاناً ومصححاً للعقاب علی مخالفة التکلیف علی تقدیر بقائه واقعاً.

وأما أصالة التخییر فقد ذکرنا أن مرجعها إلی أصالة البراءة فی ناحیة کل من احتمال الحرمة والوجوب ومع جریان الاستصحاب فی ناحیة أحدهما بعینه لا یبقی فی ذلک المعین شک ثبوتاً أو نفیاً ولا یکون العقاب فیه عقاباً بلا بیان.

فی تعارض الاستصحابین

[1] تعرض قدس سره لحکم تعارض الاستصحابین وذکر له صوراً:

الصورة الاُولی _ أنه قد لا یکون بین الاستصحاب فی مورد والاستصحاب فی مورد آخر علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما بأن احتمل بقاء الحالة السابقة فی کلا الموردین، ولکن لا یتمکن المکلف من الجمع بین الاستصحابین فی العمل نظیر عدم تمکنه من الجمع من امتثال التکلیفین فی سائر موارد التزام کما إذا علم المکلف بنجاسة کل من المسجدین واحتمل بقاءهما علی نجاسته مع عدم تمکنه إلاّ من تطهیر أحدهما وکما إذا علم بنجاسة المسجد واحتمل بقاءه علی النجاسة وعلم أیضاً بوجوب الصلاة علیه واحتمل قبل خروج الوقت بقاء الاشتغال بها مع عدم

ص : 404

وإن کان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما، فتارة یکون المستصحب فی أحدهما من الآثار الشرعیة لمستصحب الآخر، فیکون الشک فیه مسبباً عن الشک فیه، کالشک فی نجاسة الثوب المغسول بماء مشکوک الطهارة وقد کان طاهراً، وأخری لا یکون کذلک.

تمکنه من الجمع بین الصلاة وتطهیره قبل خروج الوقت وفی هذه الصورة یجری أحکام التزاحم حیث إنه لا تختلف أحکامه بین ثبوت کل من التکلیفین وجداناً أو بالتعبد ولو کان أحد التکلیفین أهم أو محتمل الأهمیة فیقدم فی الامتثال، وما یظهر من بعض المعلقین علی الکفایة بأنه لا عبرة بالأهمیة أو احتمالها بعد کون المجعول فی کل من الواقعتین النهی عن نقض الیقین بالشک کما تری فإن النهی عن نقض الیقین لیس تکلیفاً نفسیاً لیقال لا ترجیح لأحدهما علی الآخر بل هو طریقی أو إرشادی إلی اعتبار الیقین السابق فی ظرف الشک فی البقاء؛ ولذا یتنجز الواقع علی تقدیر البقاء فالعبرة بالواقع المحتمل الذی تنجز علی تقدیره نظیر ما إذا ورد الأمر بالاحتیاط فی کل من واقعتین مشتبهتین ووقع فی رعایة الاحتیاط فی کل منهما التزاحم وعلی الجملة العبرة بالتکلیف المتنجز علی تقدیره.

الصورة الثانیة _ ما إذا علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما ولکن یکون الشک فی أحد الموردین سببیاً، وفی الآخر منهما مسبباً والمراد بالشک السببی والمسببی أن یکون المشکوک فی أحد الموردین حکماً ونفس ذلک المشکوک، وفی الآخر منهما موضوعاً لحکم آخر فإنه مع جریان الاستصحاب فی ناحیة المشکوک الآخر وإحرازه نفیاً أو إثباتاً یحرز الموضوع للحکم الآخر نفیاً أو إثباتاً ولا یبقی شک فی الحکم الآخر لیجری فیه الاستصحاب کما إذا توضأ المحدث بالأصغر بالماء الذی یشک فی طریان النجاسة علی ذلک الماء فإنه بجریان الاستصحاب فی ناحیة

ص : 405

فإن کان أحدهما أثراً للآخر، فلا مورد إلاّ للإستصحاب فی طرف السبب، فإن الاستصحاب فی طرف المسبب موجب لتخصیص الخطاب، وجواز نقض الیقین بالشک فی طرف السبب بعدم ترتیب أثره الشرعی، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض للیقین بطهارته، بخلاف استصحاب طهارته، إذ لا یلزم منه نقض یقین بنجاسة الثوب

طهارة الماء یحرز الوضوء بماء طاهر فلا یبقی شک فی ارتفاع حدثه لکون الوضوء بماء طاهر رافعاً له هذا بناءً علی أن مقتضی خطابات النهی عن نقض الیقین بالشک هو اعتبار الیقین بالحالة السابقة یقیناً ببقائها ظاهر واضح، وکذا بناءً علی أن مفادها اعتبار الیقین السابق حجة لبقاء الحالة السابقة؛ لأن جریان الاستصحاب فی ناحیة الأصل السببی بلا محذور بخلاف جریانه فی ناحیة الأصل المسببی حیث إن جریانه فیه موقوف علی تخصیص خطابات الاستصحاب فی ناحیة الأصل السببی وعدم جریانه فیه موقوف علی جریان الأصل المسببی وبعبارة اُخری التعبد بالموضوع مقتضاه التعبد بحکمه ومع التعبد بالحکم یثبت ذلک الحکم فلا یبقی مجال للأصل فی ناحیة نفس الحکم.

ویجری هذا الکلام فی کل أصل عملی کان مفاده التعبد بموضوع الحکم الآخر نفیاً وإثباتاً فإنه معه لا یجری الاستصحاب ولا غیره من الأصل فی ناحیة نفس ذلک الحکم الآخر فیحکم بطهارة الثوب المتنجس المغسول بماء جری فیه استصحاب عدم ملاقاته للنجاسة أو أصالة الطهارة ولا مجال فی ناحیته لاستصحاب النجاسة.

وقد یقال: من هذا القبیل ما إذا شک فی حیوان مذبوح أنه غنم أو ذئب مثلاً وأنه مع جریان أصالة الحلیة فی ذلک المذبوح یترتب علیه جواز الصلاة فی أجزائه وتوابعه؛ لأن جواز الصلاة فی أجزاء الحیوان وتوابعه مترتب علی حلیة أکل لحم

ص : 406

بالشک، بل بالیقین بما هو رافع لنجاسته، وهو غسله بالماء المحکوم شرعاً بطهارته.

وبالجملة فکل من السبب والمسبب وإن کان مورداً للاستصحاب، إلاّ أنّ الاستصحاب فی الأوّل بلا محذور، بخلافه فی الثانی ففیه محذور التخصیص بلا وجه إلاّ بنحو محال، فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببی، نعم لو لم یجر هذا الاستصحاب بوجه لکان الاستصحاب المسببی جاریاً، فإنه لا محذور فیه حینئذ

الحیوان وأنها فی المفروض محرزة بأصالة الحلیة، ولکن یمکن المناقشة فیه بما ذکرنا فی بحث لباس المشکوک أن جواز الصلاة مترتب علی حلیة أکل لحم الحیوان بعنوانه لا بالعنوان الطاری علیه کالاضطرار إلی أکله أو کونه مشکوکاً ولا یثبت الموضوع للجواز بأصالة الحلیة. نعم، لو جری فی المذبوح المفروض الاستصحاب فی عدم جعل الحرمة لأکل لحمه لا یبعد الحکم بجواز الصلاة فی توابعه؛ لأن الموضوع للمانعیة عن الصلاة أجزاء وتوابع ما نهی عن أکله والاستصحاب المفروض یمنع الموضوع للمانعیة، وأیضاً لا تجری الأصالة فی مشکوک یحتمل وجوده لا یکون مفاد خطاب اعتبار ذلک الأصل العلم بذلک المشکوک وکان مفاد الأصل الآخر العلم به کما تقدم ذلک فی وجه تقدیم الاستصحاب علی أصالتی البراءة والحلیة حیث إنه إذا جری الاستصحاب فی ناحیة حرمة الشیء أو حلیته لا یبقی مجال لهما. نعم، لولم یجری الأصل الحاکم فی مورد للمانع کالابتلاء بالمعارض جری الأصل المسببی کما إذا توضأ المحدث بأحد ماءین یعلم بتنجس أحدهما أو غسل ثوبه المتنجس بأحدهما فإنه إذا لم یجر الاستصحاب فی ناحیة طهارة الماء المغسول ولا أصالة الطهارة یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء حدثه أو نجاسة ثوبه ومن هذا القبیل ما لو علم إجمالاً بنجاسة ثوبه أو مائه فلا یحکم بطهارة شیء منهما فلا یجوز الوضوء وغسل ثوبه المتنجس بذلک الماء کما لا یجوز لبس ذلک الثوب فی

ص : 407

مع وجود أرکانه وعموم خطابه.

وإن لم یکن المستصحب فی أحدهما من الآثار للآخر، فالأظهر جریانهما فیما لم یلزم منه محذور المخالفة القطعیة للتکلیف الفعلی المعلوم إجمالاً، لوجود المقتضی إثباتاً وفقد المانع عقلاً.

أما وجود المقتضی، فلإطلاق الخطاب وشموله للإستصحاب فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإن قوله علیه السلام فی ذیل بعض أخبار الباب: (ولکن تنقض الیقین بالیقین) لو سلم أنه یمنع عن شمول قوله علیه السلام فی صدره: (لا تنقض الیقین بالشک)

صلاته، ولکن یجوز شرب ذلک الماء لأصالة الحلیة فإن أصالة الحلیة أصل مسببی یختص جریانه بالماء ولا مورد لها فی ناحیة الثوب لأن ظاهر «کل شیء حلال» الحلیة التکلیفیة التی لا مجال لها فی ناحیة الثوب؛ لأنه لا یحرم لبس اللباس النجس وإنما یکون مانعاً عن الصلاة وبعد تعارض کل من استصحاب الطهارة وأصالتها فی ناحیة الماء واللباس وکذا أصالة البراءة عن حرمة شرب الماء وعدم مانعیة الثوب عن الصلاة تجری أصالة الحلیة فی شرب الماء بلا معارض علی ما تقدم فی بحث قاعدة الاشتغال.

الصورة الثالثة _ ما إذا علم انتقاض الحالة السابقة فی أحد الموردین ولکن لم یکن الاستصحاب فی أحدهما أصلاً سببیاً وفی الآخر مسببیاً بأن لم یترتب أحد المشکوکین علی الآخر ثبوتاً أو نفیاً بترتب شرعی کما إذا کان کل من الإناءین نجساً وعلم بوقوع المطهر لأحدهما فإنه یجری الاستصحاب فی ناحیة بقاء کل منهما علی تنجسه حیث إن الموجب للتعارض بین الأصلین التنافی فی مدلولهما أو لزوم الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف المحرز فی أحدهما وهذا المحذور غیر لازم فی جریان الاستصحاب فی ناحیة نجاسة کل منهما ویترتب علی إحراز النجاسة فی

ص : 408

للیقین والشک فی أطرافه، للزوم المناقضة فی مدلوله، ضرورة المناقضة بین السلب الکلی والإیجاب الجزئی، إلاّ أنه لا یمنع عن عموم النهی فی سائر الأخبار مما لیس فیه الذیل، وشموله لما فی أطرافه، فإنّ إجمال ذاک الخطاب لذلک لا یکاد یسری إلی غیره مما لیس فیه ذلک.

کل منهما الحکم بنجاسة الملاقی لکل منهما بخلاف ما إذا لزم من جریان الاستصحاب أو غیره من الأصل النافی الترخیص القطعی فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال کما إذا علم بنجاسة أحد إناءین کان کل منهما طاهراً فإنه یسقط فی جمیع الأطراف الاُصول النافیة ولزوم المخالفة الالتزامیة فی الفرض السابق لا محذور فیه وإنما المحذور فی الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواقعی الواصل بالعلم الإجمالی، ولکن ذکر الشیخ قدس سره عدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی سواء کان الأصل الجاری فیها مثبتاً للتکلیف أو نافیاً بدعوی أن شمول أخبار لا تنقض لکل من أطراف العلم یوجب التناقض بین صدرها وذیلها فإن النهی عن نقض الیقین بالشک فی کل واحد من الأطراف یناقضه ما فی ذیلها من لزوم نقض الیقین السابق فی البعض الذی انتقض فیه الیقین السابق ومعلوم ذلک للمکلف یقیناً لزوم مناقضة الموجبة الجزئیة مع السالبة الکلیة.

والجواب عن ذلک بوجهین:

الأوّل _ أن ما ورد فی ذیل بعض الأخبار من الأمر بنقض الیقین بالیقین لیس حکماً تعبدیاً بل لانتهاء الموضوع للاستصحاب حیث إن الاستصحاب حکم ظاهری فلا یکون له موضوع مع العلم بالواقع والمفروض أن الموضوع للاستصحاب فی کل من الأطراف فی نفسه موجود ولا علم بالخلاف فی کل منها فی نفسه.

والثانی _ لو فرض حصول الإجمال للأخبار التی ورد فیها هذا الذیل ولم یعلم

ص : 409

وأما فقد المانع، فلأجل أن جریان الاستصحاب فی الأطراف لا یوجب إلاّ المخالفة الإلتزامیة، وهو لیس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً.

ومنه قد انقدح عدم جریانه فی أطراف العلم بالتکلیف فعلاً أصلاً ولو فی بعضها، لوجوب الموافقة القطعیة له عقلاً، ففی جریانه لا محالة یکون محذور المخالفة القطعیة أو الإحتمالیة، کما لا یخفی.

أن موارد العلم الإجمالی فیها داخل فی الصدر وخارج عن الذیل أو بالعکس فتسقط تلک الأخبار عن الاعتبار فی أطراف العلم الإجمالی لإجمالها بالإضافة إلی أطرافه، وأما الأخبار التی لم یرد فیها ذلک الذیل فیوءخذ بها فی أطراف العلم الإجمالی.

وقد تحصل أن المانع عن جریان الاُصول النافیة فی أطراف العلم الإجمالی هو لزوم الترخیص القطعی فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل بالعلم الإجمالی وأما الترخیص فی البعض فأمر ممکن ولکن یحتاج البعض إلی التعیین ومع کون مفاد الأصل بالإضافة إلی کون الأطراف علی السواء لا یجری فی شیء منهما، وظهر أیضاً أن ملاک التعارض فی الأمارات مثل الخبر غیر ملاک التعارض فی الاُصول العملیة حیث إن قیام خبر الثقة علی حکم لموضوع ینفی مدلول الخبر الآخر مع العلم الإجمالی بعدم ثبوت مدلولهما معاً فی الواقع فلا یمکن اعتباره علماً بالواقع مع نفی الآخر مدلوله بخلاف الأصل فإنه لا یثبت إلاّ مدلوله ومفاده ولا ینفی مفاد الآخر، وعلی ذلک فلا بأس بالأخذ بهما معاً إذا لم یستلزم المخالفة العملیة.

ص : 410

الفهرست

دوران الأمر بین المشروط بشیء ومطلقه··· 5

فی دوران الواجب بین کونه تعیینیاً أو تخییریاً··· 8

فی دوران امر الفعل بین کونه مسقطاً للواجب أو عدلاً له··· 9

حکم الایتمام ممن لا یتمکن من القراءة الصحیحة··· 13

الأصل فیما إذا شک فی جزئیة شیء أو شرطیته··· 16

فی أن مقتضی أصالة البراءة عدم إطلاق جزئیة الشیء أو شرطیته··· 23

فی الشک فی مانعیة الزیادة فی الجزء والشرط··· 24

فی مبطلیة الزیادة فی الصلاة ونحوها··· 27

التمسک باستصحاب الصحة عند الشک فی مانعیة الزیادة··· 30

التمسک باستصحاب الصحة فی موارد الشک فی القاطعیة··· 32

لو علم بجزئیة شیء أو شرطیته فی الجملة··· 33

فی قاعدة المیسور··· 39

الاستدلال لقاعدة المیسور بحدیث المیسور لا یسقط بالمعسور··· 41

فی دوران الأمر بین جزئیة الشیء أو شرطیته وبین مانعیته أو قاطعیته··· 46

خاتمة فی شرائط الاُصول العملیة··· 48

الاستدلال علی اعتبار الفحص فی الشبهات الحکمیة بالعلم الإجمالی بالتکالیف فیها··· 53

اعتبار الفحص فی الرجوع إلی الاُصول فی الشبهات الحکمیة··· 55

فی عدم اعتبار الفحص فی الشبهات الموضوعیة··· 73

شرطان آخران للبراءة··· 74

ص : 411

فی قاعدة نفی الضرر··· 79

کون المنفی هو الفعل الضرری أو الحکم والتکلیف الضرریین··· 85

فیما قیل بأن المراد من نفی الضرر والضرار تحریمهما··· 91

فی کون المستفاد من نفی الضرر والضرار حکم شرعی··· 94

فی توجیه الحکم الوارد فی قضیة سمرة··· 96

کثرة التخصیص فی قاعدة لا ضرر··· 103

موارد حکومة قاعدة نفی الضرر، وإن المراد بالضرر الضرر الواقعی··· 106

الاستصحاب··· 121

فی الفرق بین المسألة الاُصولیة والمسألة الفقهیة··· 126

فی جریان الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة وعدمه··· 129

فی اختصاص اعتبار الاستصحاب بمورد الشک فی الرافع وعدمه··· 143

المراد من النهی عن نقض الیقین بالشک فی أخبار لا تنقض··· 144

المراد من النهی عن نقض الیقین بالشک فی الصحیحة وغیرها··· 147

التفصیل بین موارد الشک فی الرافع والمقتضی وبیان المراد منهما··· 148

الاستدلال علی الاستصحاب بصحیحة زرارة الثانیة··· 152

تعلیل عدم لزوم الإعادة بالاستصحاب فی طهارة الثوب حال الصلاة··· 156

عدم الفرق فی المقام بین الالتزام بشرطیة طهارة الثوب والبدن أو مانعیة نجاستهما··· 159

عدم دلالة الصحیحة الثالثة علی اعتبار الاستصحاب··· 162

الاستدلال علی اعتبار الاستصحاب بحدیث الأربعمئة··· 168

ص : 412

فی إمکان شمول الروایات لقاعدة الطهارة والحلیة وبیان الحکم الواقعی للأشیاء··· 175

فی السببیة والشرطیة والمانعیة لنفس التکلیف··· 193

فی القسم الثالث من الأحکام الوضعیة··· 196

القسم الثالث من الحکم الوضعی··· 199

جریان الاستصحاب فی الأحکام الوضعیة وعدمه··· 201

فی عدم جریان الاستصحاب فی القسم الأول من الأحکام الوضعیة··· 202

ثم إن ها هنا تنبیهات:··· 208

تنبیهات الاستصحاب··· 208

جریان الاستصحاب فی مورد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة··· 217

جریان الاستصحاب فی مورد ثبوت الحالة السابقة بالأصل العملی··· 219

فی جریان الاستصحاب فی أقسام الکلی··· 223

جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی··· 225

الإشکال فی جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی··· 227

کلام العراقی 1 فی الفرق بین الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وبین··· 236

الاستصحاب فی الفرد المردد··· 236

عدم الفرق بین جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من الکلی وبین ما سمّاه بالفرد··· 238

المردد··· 238

موارد جریان الاستصحاب فی الفرد الذی سمّوه بالفرد المردد··· 240

تذنیب:··· 243

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی··· 244

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی ولو احتمل حدوث فرد آخر مع··· 249

حدوث الفرد المقطوع زواله··· 249

هل مقتضی الاستصحاب فی عدم تذکیة الحیوان بعد زهوق روحه کونه میتة أم لا؟··· 250

جریان الاستصحاب فی القسم الرابع··· 254

عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من الکلی مع تخلل العدم بین الفردین··· 258

جریان الاستصحاب فی التدریجیات··· 260

ص : 413

عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات المفهومیة بلا فرق بین عناوین الأزمنة وغیرها··· 268

جریان الاستصحاب فی الزمان فیما إذا شک فی الفعل المقید··· 269

إحراز بقاء التکلیف المتعلق بالفعل المقید بالزمان بالاستصحاب فی ناحیة الزمان··· 271

المشروط به التکلیف··· 271

کفایة الاستصحاب فی الزمان بمفاد کان التامة فی إحراز تحقق الفعل المقید بالزمان··· 272

الشک فی التکلیف بعد انقضاء الزمان الذی کان قیداً للواجب··· 274

فی عدم جریان الاستصحاب فی وجوب الفعل المقید بزمان بعد انقضاء ذلک الزمان··· 277

عدم جریان الاستصحاب فی بقاء التکلیف مع عدم الدلیل علی إطلاقه··· 278

الاستصحاب فی الحکم التعلیقی··· 284

ما قیل فی تقریر جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة··· 288

فی الجواب عما قیل فی جریان الاستصحاب فی الأحکام التعلیقیة··· 290

فی عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلی اللازم العقلی والعادی والمعارضة بین··· 309

الاستصحابین علی تقدیر القول به··· 309

الفرق بین الأمارة والأصل··· 314

الموارد التی وقع الخلاف فیها فی الاُصول الجاریة فیها··· 319

فی تعاقب الحالتین والشک فی المتقدم منهما··· 352

فی ما ورد فی إهراق الإناءین مع انحصار الماء فیهما··· 356

الاستصحاب فی صحة العمل عند الشک فی مانعیة شیء فیه··· 360

فی التمسک بالعام بعد ورود التخصیص فیه فی زمان··· 369

جریان الاستصحاب فی موارد الظن غیر المعتبر··· 381

اعتبار بقاء الموضوع فی جریان الاستصحاب وبیان المراد من بقائه··· 383

عدم جریان الاستصحاب فی موارد الأمارات المعتبرة··· 394

فی حکومة دلیل اعتبار الأمارة علی خطابات الاستصحاب··· 397

تقدم الاستصحاب علی البراءة الشرعیة··· 401

فی تقدم الاستصحاب علی البراءة العقلیة وأصالة التخییر··· 403

فی تعارض الاستصحابین··· 404

ص : 414

المجلد 6

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : کفایه الاصول .شرح

عنوان و نام پدیدآور : کفایه الاصول: دروس فی مسائل علم الاصول [ آخوند خراسانی]/ تالیف جواد تبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده، 1429ق.= 1387.

مشخصات ظاهری : 6 ج.

فروست : الموسوعه الاصولیه للمیرزا التبریزی قدس سره.

شابک : دوره 978-964-94850-1-0 : ؛ ج. 1 978-964-94850-2-7 : ؛ ج.2: 978-964-8438-61-1 ؛ ج.3: 978-964-94850-9-1 ؛ ج. 4 978-964-94850-6-5 : ؛ ج.5: 978-964-8438-09-3 ؛ ج.6: 978-964-8438-62-8

وضعیت فهرست نویسی : فاپا (چاپ دوم).

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر " کفایه الاصول" اثر آخوند خراسانی.

یادداشت : چاپ اول : 1429ق. = 1387(فیپا).

یادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. مباحث الالفاظ.- ج.2. مباحث الالفاظ.- ج.3. مباحث الالفاظ - الامارات.- ج.4.الامارات- الاصول العلمیه.- ج.5. الاصول العلمیه- الاستصحاب.- ج.6. الاستصحاب - التعادل والتراجیح- الاجتهاد والتقلید.

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/8 /آ3 ک70212 1387

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 1324719

ص : 1

اشارة

ص : 2

ص : 3

ص : 4

اشارة

تذنیب: لا یخفی أن مثل قاعدة التجاوز حال الإشتغال بالعمل، وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه، وأصالة صحة عمل الغیر إلی غیر ذلک من القواعد المقررة فی الشبهات الموضوعیة إلاّ القرعة تکون مقدمة علی استصحاباتها[1 [المقتضیة لفساد ما شک فیه من الموضوعات لتخصیص دلیلها بأدلتها، وکون النسبة بینه وبین بعضها عموماً من وجه لا یمنع عن تخصیصه بها بعد الإجماع علی عدم التفصیل بین مواردها مع لزوم قلة المورد لها جداً لو قیل بتخصیصها بدلیلها إذ قلّ مورد منها لم یکن هناک استصحاب علی خلافها کما لا یخفی.

تتمة المقصد السابع

تقدیم قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة وقاعدة الید علی الاستصحاب فی مواردها

[1] قد ذکر قدس سره أن فی البین قواعد فقهیة یختص جریانها بالشبهات الموضوعیة ولا مورد لها فی الشبهات الحکمیة کقاعدة التجاوز حیث تجری أثناء العمل عند الشک فی الإخلال بجزء العمل الذی تجاوز محله وکقاعدة الفراغ عند الشک فی صحة العمل بعد الفراغ عنه بأن احتمل الإخلال فی العمل المأتی به بترک جزئه أو شرطه أو اقترانه بالمانع بحیث یکون ذلک الإخلال موجباً لبطلانه ولو کان من غیر تعمد وکأصالة الصحة الجاریة فی عمل غیر بحیث لو کان عمله فاسداً وجب علیه ذلک العمل کما فی مورد الواجب الکفائی أو لم یجز له ترتیب الأثر علی ذلک العمل کعدم جواز شراء متاع تملکه بایعه بالمعاملة الفاسدة وکقاعدة الید فیما إذا شک فی سلطنة ذی الید بالمال الذی بیده فیبنی علی کونه سلطاناً أو مالکاً ولا ینبغی التأمل أن فی موارد جریان هذه القواعد یلغی الاستصحاب الجاری فیها المخالف لمفاد

ص : 5

تلک القواعد بمعنی أنه یخصص خطابات النهی عن نقض الیقین بالشک بأدلة اعتبار تلک القواعد، وقال: کون النسبة بین خطابات الاستصحاب ودلیل اعتبار بعض تلک القواعد عموماً من وجه لا یوجب التأمل فی التخصیص وذلک لوجهین:

الأول _ للإجماع بعدم الفرق بین موارد تلک القواعد وأنها معتبرة فیها سواء کان الاستصحاب مخالفاً لها فی تلک الموارد أم لا.

والثانی _ أن النسبة بین خطاب الاستصحاب وقاعدة الفراغ وإن کانت العموم من وجه إلاّ أن الغالب یکون الاستصحاب مخالفاً لمفاد القاعدة ولو قدم الاستصحاب فی تلک الموارد علیها یکون اعتبارها کاللغو حیث إن الشک فی صحة عمل ناش عن إتیان الجزء أو شرطه والاستصحاب یقتضی عدم الإتیان بهما حال العمل فتختص القاعدة علی تقدیر تقدیم الاستصحاب بما إذا کان الاستصحاب موافقاً لها کما إذا شک فی صحة العمل للشک فی بقاء وضوئه حال صلاته أو شک المکلف فی وضوئه حال الصلاة مع علمه بحدوث حالتین من الحدث والطهارة وشک فی المتقدم والمتأخر منهما فإن مع حصول هذا العلم بعد صلاته لا یمکن تصحیح صلاته بالاستصحاب فتجری قاعدة الفراغ إلاّ أن اختصاص القاعدة بمثل هذه الموارد النادرة یجعل اعتبارها کاللغو بخلاف تقدیمها علی الاستصحاب فإنه لا یوجب محذوراً.

أقول: لا ینبغی التأمل فی تقدیم القواعد المذکورة علی الاستصحابات فی مواردها ودعوی الإجماع علی ذلک لا یکون من الإجماع التعبدی لاحتمال أن یکون مدرک البعض لا الجل علی التقدیم ما تقدم من لزوم لغویة تلک القواعد أو کونها کاللغو مضافاً إلی مسألة اعتبار الاستصحاب، وکذا بعض تلک القواعد عند البعض

ص : 6

تختلف، وربّما یری البعض تلک القواعد أمارة والاستصحاب أصلاً عملیاً ولذلک یکون تقدیم تلک القواعد باعتبار أماریتها بل قد یذکر أنها علی تقدیر الأماریة تکون معتبرة فی مثبتاتها کما إذا شک بعد الصلاة أنه توضأ لها قبلها أم لا یحکم بصحة الصلاة. وثبت کونه علی وضوء یجوز مع عدم الحدث بعدها الدخول فی صلاة اُخری وأیضاً یمکن أن یقال: إن وجه تقدیم قاعدتی التجاوز والفراغ بل وقاعدة الید ما ورد فی إجراء تلک القواعد فی الروایات فی موارد کون الاستصحاب علی خلافها کما فی صحیحة زرارة الواردة فی قاعدة التجاوز حیث حکم الإمام علیه بحصول الجزء السابق من الصلاة إذا شک بعد الدخول فی الجزء اللاحق، وکما حکم بتمام الوضوء بعد الفراغ فی مورد الشک فی وقوع الخلل فیه، ومع هذا کیف یمکن دعوی الإجماع التعبدی؟

وذکر النائینی قدس سره أنه لا یجری الاستصحاب فی موارد قاعدتی التجاوز والفراغ سواء قیل بأنهما من الأمارة أم لا فإنهما لو کانتا من الأمارة من جهة أن إرادة المکلف الإتیان بالمرکب أو المشروط کافیة فی الإتیان بهما بتمام الأجزاء والشرایط علی حسب الترتیب المقرر لهما ولا یحتاج إلی إرادة کل جزء مستقلاً بل ما دامت الإرادة الأولیة موجودة یعمل علی طبقها والتخلف عن ذلک یکون بالغفلة فی الأثناء اتفاقاً، والشارع اعتبر هذه الغلبة کما یشیر إلی ذلک ما فی بعض أخبار القاعدتین «حین یتوضأ أذکر منه حین ما یشک»(1) فعلی ذلک لا مجال مع اعتبار الغلبة بالأصل العملی وإن قیل بأن القاعدتین أیضاً من الاُصول العملیة فی الموضوعات فیمکن الالتزام بحکومة دلیل اعتبارهما علی الاستصحاب فإن الشک فی بقاء الحالة السابقة

ص : 7


1- 1) الوسائل 1 : 332، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 7.

ناشٍ عن احتمال عدم حصول الرافع لتلک الحالة السابقة، ومفاد القاعدتین حدوث الرافع لها فینتفی الشک والاحتمال فی ناحیة البقاء والرافع لا عدم السابق هو الوجود. وفیه: أنه لا دلالة لقوله علیه السلام «حین یتوضأ أذکر منه» إلاّ علی التعبد بالذکر حال العمل کنایة عن التعبد بحصول العمل بتمامه؛ لأن ترک البعض عمداً خلاف المفروض فی القاعدتین فیکون الترک فی أثنائه للغفلة فالتعبد بعدم الغفلة کنایة عن حصول تمام العمل لا یقتضی جعل الغلبة معتبرة مع أن القاعدتین تجریان فیما إذا شک المکلف بعد التجاوز والفراغ وإن کانت الغفلة له أثناء العمل أمراً عادیاً. نعم، مع علمه بالغفلة فی مورد أثناء العمل یشکل جریان قاعدة الفراغ فی ذلک العمل.

وأما ما ذکر قدس سره من حکومة القاعدتین علی الاستصحاب فی موارد جریانهما؛ لأن احتمال بقاء العدم وهی الحالة السابقة ناش عن احتمال عدم حدوث رافعه فإن الوجود هو قالع العدم فإذا ورد التعبد بالحصول ینتفی احتمال بقاء العدم فلا یخفی ما فیه؛ لأن احتمال بقاء الشیء علی عدمه واحتمال وجوده فی عرض واحد وکما أن التعبد بالوجود یرفع احتمال بقاء العدم کذلک التعبد ببقاء العدم یرفع احتمال الوجود والعمدة فی نفی الحکومة ما ذکرنا لا ما یقال.

وأما الإشکال علی الحکومة بأن الحکومة علی ما إذا کان الخطاب الحاکم ناظراً إلی خطاب المحکوم بحیث لو لم یکن خطاب المحکوم کان خطاب الحاکم لغواً کقوله علیه السلام : لا شک لمن کثر شکه، فإنه لو لم یکن خطاب: «إذا شککت فابن علی الأکثر»(1) کان الخطاب المذکور لغواً ولیس المقام کذلک فإنه لو لم یکن خطاب

ص : 8


1- 1) الوسائل 5 : 318، الباب 8 من أبواب الخلل فی الصلاة، الحدیث 3.

لاعتبار الاستصحاب کان اعتبار قاعدتی الفراغ والتجاوز صحیحاً وخطابهما لم یکن لغواً فلا یمکن المساعدة علیه؛ فإن ما ذکر غیر معتبر فی الحکومة ولذا یکون خطاب اعتبار البیّنة وخبر الثقة حاکماً علی خطاب اعتبار الاستصحاب ولو لم یکن دلیل علی اعتبار الاستصحاب لم یکن اعتبارهما لغواً بل الحال کذلک بالإضافة إلی خطاب «لا شک لکثیر الشک»(1) فإنه لو لم یکن خطاب «إذا شککت فابن علی الأکثر» لم یکن خطاب نفی الشک عن کثیر الشک لغواً، بل کان وارداً علی أصالة الاشتغال التی یستقل بها العقل، وما ذکرنا فی وجه تقدیم الأمارة علی الاستصحاب من تقریب الحکومة لا یجری فی المقام لأخذ الشک فی کلا الخطابین.

ثمّ إن الماتن قدس سره التزم بتقدیم الاستصحاب فی موارد جریانه علی القرعة وأن ما ورد من: أن القرعة فی کل مجهول(2)، یکون مخصصاً بخطابات النهی عن نقض الیقین بالشک فیکون الموضوع فی الاستصحاب المجهول الخاص أی المعلوم حالته السابقة بخلاف الموضوع للقرعة فإنه مطلق المجهول، ودفع ما یقال فی المقام من أن النسبة بین دلیل اعتبار القرعة والاستصحاب العموم من وجه لعدم جریان القرعة فی الشبهات الحکمیة باتفاق الکلمة بخلاف اعتبار الاستصحاب فإنه یعم الشبهة الحکمیة أیضاً فتکون الشبهة الموضوعیة التی لا حالة سابقة لها مورد القرعة دون الاستصحاب، وموارد الحالة السابقة فی الشبهات الحکمیة مورد للاستصحاب لا القرعة فالشبهة الموضوعیة التی لها حالة سابقاً مورد اجتماع الخطابین فلا وجه

ص : 9


1- 1) الوسائل 5 : 329، الباب 16 من أبواب الخلل فی الصلاة.
2- 2) التهذیب 6 : 207، الباب 90، الحدیث 24. وفیه: «کل مجهول ففیه القرعة».

لجعل خطابات الاستصحاب أخص مطلقاً ووجه الدفع أنه یأتی فی بحث انقلاب النسبة أن النسبة بین الخطابین تلاحظ قبل ملاحظة تخصیص أحدهما بمخصص آخر.

وبتعبیر آخر: یعتبر فی ملاحظة النسبة الظهور الاستعمالی بین الخطابین وتخصیص قاعدة القرعة بالشبهات الحکمیة لا یوجب خروج خطابی الاستصحاب والقرعة عن نسبة العموم والخصوص إلی العموم من وجه.

وأضاف إلی ذلک بأن العموم فی قاعدة القرعة موهون لعدم جریانها فی جلّ من الشبهات الموضوعیة حتی التی لا تکون فیها حالة سابقة محرزة؛ ولذا یقال: إنه لا یعمل بها إلاّ فی مورد قام دلیل خاص فیه أو عمل المشهور فیه بقاعدة القرعة حیث إن عملهم بها فیه کاشف عن أن القرینة الخاصة التی کانت فی خطابات القرعة لم تکن مخرجة ذلک المورد عن أدلتها وهذا بخلاف أدلة الاستصحاب فإن قوة دلیله لقلة التخصیص الوارد علیه توجب تقدیمها علی أدلتها حتی مع کون النسبة بینهما العموم من وجه.

قاعدة الفراغ

ثمّ إنه لا بأس بالتعرض لکل من تلک القواعد وإن کانت خارجة عن مباحث علم الاُصول فإنها قواعد فقهیة یکون نتیجة تطبیقها علی صغریاتها إحراز حکم طریقی جزئی کما هو شأن القواعد الفقهیة فی جلها حیث یستفاد منها بعد ضمها إلی صغریاتها حکم جزئی سواء کان ذلک الحکم نفسیاً أو طریقیاً تکلیفیاً أو وضعیاً فنقول أصالة الصحة فیما إذا شک بعد الفراغ من العمل فی صحته المعبر عنها بقاعدة الفراغ یستفاد اعتبارها من بعض الروایات حیث إن الروایات بعضها وإن کانت واردة فی

ص : 10

خصوص الشک فی الطهارة والصلاة ولا یستفاد منها إلاّ حکم الشک فی الصحة بعد الفراغ منهما إلاّ أن بعضها الآخر یستظهر منه القاعدة الکلیة:

_ کموثقة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کلّما شککت فیه مما قد مضی فامضه کما هو»(1) فإن ظاهرها مضی نفس الشیء والشک فیه بعد مضیه لا مضی محله ینطبق علی قاعدة الفراغ.

_ وحسنة بکیر بن أعین أو صحیحته قال: قلت له: الرجل شک بعدما یتوضأ قال: «هو حین یتوضأ أذکر منه حین یشک»(2) حیث یستفاد منها أن الحکم بعدم الاعتناء لکون المتوضئ حین توضئه أذکر وهذا یجری فی حق کل مکلف یشک فی عمله بعد الفراغ منه.

_ وصحیحة محمد بن مسلم المرویة فی آخر السرائر عن أبی عبداللّه علیه السلام أنه قال: «إن شک الرجل بعدما صلی فلم یدر أثلاثاً صلی أم أربعاً وکان یقینه حین انصرف أنه کان قد أتم لم یعد الصلاة وکان حین انصرف أقرب إلی الحق منه بعد ذلک»(3) والتقریب کما فی السابقة علیها والمناقشة فی الأخیرة بأنه عند الانصراف الظاهر فی الإتیان بالتسلیمة کان علی یقین من تمام صلاته ثمّ شک فی تمامها فتدل الصحیحة علی اعتبار قاعدة الیقین فی الفرض حیث إن ظاهرها أنه کان قریباً إلی الحق حال الانصراف المفروض فیه الیقین بتمام صلاته، وهذا غیر کونه أقرب إلی الحق حین صلاته ففرق بین السابقة وبین الأخیرة أضف إلی ذلک أنه یحتمل أن

ص : 11


1- 1) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل، الحدیث 3.
2- 2) الوسائل 1 : 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 7.
3- 3) الوسائل 5 : 343، الباب 27 من أبواب الخلل، الحدیث 3.

یکون مفاد الجواب هو الحکم علیه بإتیان الرکعة الرابعة حیث إنها متعلق شکه بعد تجاوز محلها لا یمکن المساعدة علیها؛ لأن قوله علیه السلام «وکان حین انصرف أقرب إلی الحق بعد ذلک» ظاهره عند الانصراف والفراغ وأنه عندهما کان أقرب إلی الحق یعنی الإتیان بالعمل التام وهذا المفاد هو الحکم بتحقق العمل التام الصحیح لا التعبد بتحقق الرکعة الأخیرة عندما شک وإن کان الحکم بالثانی یلازم الحکم بتحقق التام الصحیح.

وأما حسنة بکیر بن أعین فهی مضمرة واعتبارها مبنی علی الوثوق بأن المسوءول کان الإمام علیه السلام کما لا یبعد فإنه لم یوجد مورد أن یسأل هو عن شیء غیر الإمام علیه السلام ویروی جوابه لیقال أن مرویه فی المقام من ذلک القبیل. وربما یستدل علی قاعدة الفراغ بصحیحة عبداللّه بن أبی یعفور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره فلیس شکک بشیء، إنما الشک إذا کنت فی شیء لم تجزه»(1) ولکن لا یستفاد منها إلاّ اعتبار قاعدة الفراغ فی الوضوء، وأما فی غیره فلا وذلک فإن المراد من الضمیر فی قوله علیه السلام : «دخلت فی غیره» الوضوء، وکذا فی قوله «لم تجزه» بقرینة عدم اعتبار قاعدة التجاوز فی الوضوء قبل الفراغ منه.

وعلی الجملة: کل عمل یتصف بالصحة تارة، واُخری بالفساد ففیما فرغ المکلف منه وکان مریداً الإتیان به علی الوجه التام والصحیح وشک فی أنه وقع فیه خلل حاله للغفلة أم لا یحکم بوقوعه صحیحاً ما لم یحرز الخلاف بلا فرق بین

ص : 12


1- 1) الوسائل 1 : 330، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

العبادات وغیرها من المعاملات بالمعنی الأخص من العقود والإیقاعات بل المعاملات بالمعنی الأعم من الأعمال التی توصف بالصحة والتمام تارة وبالفساد اُخری، وأما قاعدة التجاوز فهل هی مختصة بباب الصلاة أو أنها تعم جمیع الأعمال المرکبة التی لها أجزاء مترتبة فتجری فیما إذا تجاوز المکلف محل جزء من أجزائه ودخل فی الجزء المترتب علیه وشک فی أنه أتی بالجزء السابق فی محله أم لا یبنی علی الإتیان، وکذا فی کل عملین تکون صحة اللاحق منوطة بسبق السابق وإذا اشتغل باللاحق مع فوت محل السابق کما فی عمرة التمتع بالإضافة إلی حجه فإنه إذا دخل فی أفعال حج التمتع وشک فی أنه أتی بالعمرة قبله فیحکم بالإتیان بها قبله، وکما فی أذان الصلاة وإقامتها علی ما یأتی، ویقال قبل التکلم فی عموم قاعدة التجاوز وعدم عمومها لابد من التکلم فی أمر وهو أن القاعدتین مرجعهما إلی أمر واحد أو أن کلاً منهما قاعدة مستقلة ولا ترجعان إلی قاعدة واحدة فإنه لو قیل برجوعهما إلی أمر واحد یکفی العموم فی أدلة قاعدة الفراغ وأما بناءً علی عدم رجوع إحداهما إلی الاُخری فلابد فی عموم قاعدة التجاوز کقاعدة الفراغ من ملاحظة أدلتها، وقد ذکر الشیخ قدس سره فی الرسالة بأن مرجع قاعدة الفراغ إلی قاعدة التجاوز، قال فی الأمر السادس: إن الشک فی صحة المأتی به حکمه حکم الشک فی الإتیان بما هو هو لأنها بعینه الشک فی وجود التام والمتعبد به فی الروایات أنه إذا تجاوز المکلف الموضع المقرر للإتیان بالشیء وشک بعد ذلک فی الإتیان به فی ذلک الموضع لا یعتنی بشکه سواء کان المشکوک أصل وجوده أو وجوده التام فلا یکون فی البین قاعدتان لیقع البحث فی اختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة أو أنها تعم کل الأبواب.

ص : 13

وناقش المحقق النائینی قدس سره فی إرجاعهما إلی قاعدة واحدة بأن المتعبد به فی قاعدة التجاوز وجود الشیء أو العلم بوجوده عند الشک فیه بعد تجاوز محله علی ما هو التعبد بمفاد کان التامة، وفی قاعدة الفراغ صحة الموجود أو العلم بصحته بعد الفراغ عن إحراز أصل وجوده علی ما هو مفاد کان الناقصة والجمع بین التعبدین غیر ممکن لعدم إمکان الجمع فی لحاظ واحد الشیء مفروض الوجود وفی نفس ذلک لحاظه غیر مفروض الوجود، وما ذکر الشیخ قدس سره من أن الشک فی الصحة یرجع إلی الشک فی وجود الصحیح بمفاد کان التامة لا یمکن المساعدة علیه فإنه لیس المطلوب فی موارد قاعدة الفراغ إثبات وجود الصحیح الذی مفاد کان التامة وإنما المطلوب إحراز صحة الموجود الذی مفاد کان الناقصة، وإثبات صحة الموجود خارجاً بإثبات وجود الصحیح من الأصل المثبت نظیر ما تقدم فی الاستصحاب من أن الاستصحاب فی وجود الماء الکر فی مکان لا یثبت أن الماء الموجود فیه فعلاً کرّ.

لا یقال: لا حاجة إلی إثبات صحة الموجود بمفاد کان الناقصة فی موارد قاعدة الفراغ بل یکفی إحراز حصول الفعل التام بمفاد کان التامة فإن التکلیف فی باب الصلاة مثلاً قد تعلق بما أوله التکبیر وآخره التسلیم الواجد للقیود والمطلوب صرف وجود هذا التام، وبالتعبد بصرف وجوده یتم إحراز الامتثال حیث یرتفع الموضوع لقاعدة الاشتغال.

فإنه یقال: نعم یکفی ذلک فی العبادات ومتعلقات التکالیف حیث إن المطلوب فیها حصول الشیء بنحو صرف الوجود، ولکن لا یتم فی المعاملات؛ لأن الأثر المطلوب فیها وهو الحکم الوضعی یترتب علی وجوداتها الانحلالیة مثلاً النقل والانتقال یترتب علی ما یوجد من شخص البیع ولو شک فی صحته وفساده فلا تثبت

ص : 14

صحته بأصالة الوجود الصحیح من طبیعی البیع بمفاد کان التامة بل لابد من إثبات صحة ما وقع فی الخارج.

وقد یجاب عما ذکره کما عن بعض الفحول (طاب ثراه) بأنه یکفی فی المعاملات أیضاً التعبد بحصول المعاملة التامة بین المالین فإن التعبد بحصول طبیعی البیع التام بین المالین الخارجیین المفروضین کافٍ فی الحکم بالانتقال فیهما کما فی فرض أن الکتاب الموجود خارجاً ملک لزید والدرهم الموجود کذلک خارجاً لعمرو، ویکفی فی حصول النقل والانتقال شرعاً الحکم بحصول البیع التام المتعلق بهما، ولا حاجة إلی إثبات مفاد (کان) الناقصة، وکذا الحال فیما کان المبیع علی ذمة زید أو کان الثمن علی عهدة عمرو.

وأیضاً فما ذکر من أن الجمع بین مفاد (کان) التامة و(کان) الناقصة فی التعبد بتشریع قاعدة واحدة غیر ممکن ضعیف فإن معنی الإطلاق هو رفض القیود لا الجمع بینهما وإذا کان معنی الإطلاق رفضها فیمکن أن یجعل الشک فیما مضی بلا فرق بین کون المضی موضعاً أو وجوداً لاغیاً من غیر خصوصیة لتعلق الشک بالوجود أو صحته.

وذکر فی آخر کلامه أنه یمکن إرجاع القاعدتین إلی قاعدة واحدة بلا محذور فإن الشک فی الصحة إنما یکون مسبباً عن الشک فی وجود الجزء أو الشرط ومع التعبد بحصول الجزء أو الشرط حال العمل تثبت الصحة فیکون مفاد الروایات التعبد بوجود الشیء بعد مضی محله.

نعم، یبقی فی البین ظهور بعض الروایات فی التعبد بالصحة کقوله علیه السلام کل ما

ص : 15

مضی من صلاتک وطهورک فامضه کما هو(1) فإنه ظاهر فی تحقق نفس الصلاة والطهارة فی الحکم بعدم الاعتناء بالشک فیهما فیکون مفاده قاعدة الفراغ وظهور بعضها الآخر فی التعبد بأصل الوجود عند الشک فیه بعد تجاوز موضعه کما یأتی، أقول: قد تقدم ثبوت العموم بالإضافة إلی قاعدة الفراغ ولابد من التکلم فی أن عموم قاعدة الفراغ یغنی فی جمیع موارد قاعدة التجاوز أو أن عمومها لا یغنی، ومع عدم الإغناء لابد من التصدی لإثبات قاعدة التجاوز ومجرد إمکان الجمع بینهما فی خطاب واحد یکون ظاهره اعتبار قاعدة الفراغ فنظر لما فی صحیحة محمد بن مسلم حیث إن ظاهرها مضی نفس العمل لا محله مع إغناء قاعدة الفراغ عن قاعدة التجاوز فی کثیر من الموارد غیر کاف. نعم، لو ثبت العموم فی قاعدة التجاوز أمکن أن یقال باغنائها عن قاعدة الفراغ لما تقدم من الوجه الأخیر، ولکن هذا النحو من الإغناء یبتنی علی القول بأن مضی نفس العمل من قبیل مضی محل شرط ذلک العمل وأما النحو الذی ذکره الشیخ قدس سره من أنّ المتعبد به هو الوجود الصحیح فلا یغنی فإن موضوع الوجود الصحیح ومحله لا یمضی إلاّ بخروج الوقت المضروب للعمل، وأما ما لا وقت له فلا یمضی محله أصلاً کما إذا شک قبل الزفاف فی عقد النکاح الذی أوقعه وأنه أوقعه باللغة العربیة مثلاً أو بغیرها حیث إن العقد الصحیح لم یتجاوز محله فإن النکاح الصحیح لا محل له شرعاً بأن یقع قبل الزفاف بل الوط ء یعتبر فی جواز وقوعه بعد العقد.

ولا یخفی أنه یکفی فی تشریع القاعدتین عدم لغویة اعتبارهما معاً وإن کان

ص : 16


1- 1) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 3.

اعتبار أحدهما یغنی عن الاُخری فی کثیر من الموارد أو غالبها فدعوی أن اعتبار کل من القاعدتین مع عموم کل منهما لغو لا یمکن المساعدة علیها.

فإنه قد یکون لإحدی القاعدتین معارض دون الاُخری کما إذا قام المصلی إلی الرکعة وعلم إجمالاً بأنه ترک سجدتین أما من الرکعة التی قام عنها أو فی رکعة من صلاته السابقة فإن قاعدة التجاوز فی کل من الصلاتین معارضة بقاعدة التجاوز فی الاُخری، وأما قاعدة الفراغ فتجری فی الصلاة السابقة بلا معارض؛ لأنها لا تجری فی الصلاة التی بیده لعدم إحراز الفراغ من الرکعة السابقة لاحتمال بقاء السجدتین منها.

وذکر النائینی قدس سره محذوراً آخر فی إرجاع القاعدتین إلی قاعدة واحدة وهو أنه إذا تکفل خطاب واحد لاعتبارهما یلزم التنافی فی مدلول ذلک الخطاب؛ لأن مقتضی قاعدة التجاوز عدم الاعتناء باحتمال ترک الرکوع فیما إذا شک فیه بعد الدخول فی السجود؛ لأن الشک فی الرکوع بعد تجاوز محله حیث إن محله قبل السجود، ومقتضی قاعدة الفراغ الاعتناء بالشک فیه؛ لأن الشک فی صحة الرکعة أو الصلاة قبل الفراغ منهما فیعمه قوله علیه السلام «إنما الشک فی شیء لم تجزه»(1) ولو کان خطاب واحد کان مفاده الاعتناء بالشک فی الرکوع فی الفرض وعدم الاعتناء به فهذا هو التنافی فی مدلوله بخلاف ما إذا قلنا بأن کلاً منهما قاعدة مستقلة استفیدت من خطاب مستقل فإنه فی الفرض تقدم قاعدة التجاوز علی مفهوم قاعدة الفراغ؛ لأنه لو لم یقدم خطاب قاعدة التجاوز علی مفهوم قاعدة الفراغ لم یبق لقاعدة التجاوز مورد؛ لأنها مضروبة للشک فی أثناء عمل یشک فی أثنائه فی الإتیان بجزئه. أقول: لو کان فی

ص : 17


1- 1) الوسائل 1 : 330، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

البین الخطاب الواحد لم یقع بینهما تناف فی مثل الفرض حیث یکون المفروض کوجود الموضوع للاستصحاب فی کل من الشک السببی والمسببی وکما لا تحصل منافاة فی خطاب الاستصحاب؛ لأنه بشموله ناحیة السبب یرتفع الشک فی ناحیة المسبب ففی الفرض أیضاً بالتعبد بحصول الرکوع قبل السجود لا یکون شک فی الصلاة قبل الفراغ منها بل یحرز صحتها وحصول الرکوع فیها قبل السجود قبل الفراغ منها، ولعله قدس سره أشار إلی ما ذکرنا فی آخر بیان هذا الوجه بالأمر بالتأمل.

وذکر قدس سره وجهاً آخر أیضاً فی امتناع تکفل خطاب واحد لکل من قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ وقال إن مورد قاعدة التجاوز یکون التعبد بالجزء بعد الدخول فی جزء آخر کما إذا شک فی حصول جزء من أجزاء العمل بعد دخوله فی الجزء الآخر فلابد فی قاعدة التجاوز النظر إلی کل جزء نظراً استقلالیاً بخلاف قاعدة الفراغ ففیها یکون النظر الاستقلالی إلی الکل بحیث یلاحظ الکل شیئاً واحداً وإذا شک فی صحته بعد الفراغ منه یبنی علی صحته ولو شمل خطاب واحد لکل من القاعدتین یلزم أن یکون اللحاظ فی الجزء نظراً تبعیاً واستقلالیاً بلحاظ واحد وفیه أنه کما تجری قاعدة الفراغ فی الکل تجری فی الجزء أیضاً مثلاً إذا شک بعد الفراغ من الصلاة فی الطهارة حالها یحکم بقاعدة الفراغ بصحتها، وکذا إذا شک بعد الرکوع فی أنه کان حال الاستقرار أو بلا استقرار یحکم بصحتها وبتعبیر آخر الشک فی شرط یعتبر فی نفس الصلاة بعد الفراغ منها مورد لقاعدة الفراغ دون الشک فی ذلک الشرط فی أثنائها مثلاً إذا شک فی أثناء الصلاة فی طهارته فلا تصحح الصلاة بقاعدة الفراغ؛ لأن الطهارة معتبرة حتی فی الأجزاء الباقیة التی لم یفرغ منها بخلاف الشک أثناء الصلاة فی أنه کان عندما رکع استقرار أم لا فإنه یحکم بقاعدة الفراغ صحة رکوعه فقاعدة الفراغ تعم الشک فی

ص : 18

صحة الجزء وصحة الکل فکیف اجتمع فی التعبد الواحد بین الجزء والکل؟ وإذا کان الجواب أنه إنما لا یمکن الجمع بین النظر الاستقلالی والتبعی فی شیء واحد فی لحاظ واحد تفصیلاً، وأما لحاظها بعنوان عام إجمالی یندرج فیه الکل والجزء فلا بأس به کقولهم: إن الممکن لا یوجد بلا علة هذه القاعدة کما تعم الجزء تعم الکل أیضاً حیث إن الحکم بلحاظ عنوان عام واحد وهو عنوان ممکن الوجود المنحل إلی الجزء والکل وغیرهما ممکن فالأمر فی قاعدتی الفراغ والتجاوز أیضاً کذلک حیث یلاحظ المشکوک بعنوان الشیء الذی مضی بنفسه أو بمحله وأن الشیء بعد مضیه لا یعتنی به فیعم الشک فی الرکوع بعد الدخول فی السجود ویعم الشک فی الاستقرار حال الرکوع بعد الفراغ منه ویعم الشک فی الطهارة فی الصلاة بعد الفراغ منها.

ودعوی أن المضی فی قاعدة الفراغ یلاحظ بالإضافة إلی نفس العمل فیکون الإسناد حقیقیاً وفی قاعدة التجاوز إسناده إلی نفس الشیء بالعنایة أو الإضمار حیث إن الماضی محل الشیء وموضعه فتکون إرادة القاعدتین من مثل قوله علیه السلام : «إنما الشک فی شیء لم تمضه» من استعمال اللفظ فی معناه الحقیقی والعنائی أو من قبیل الإسناد الحقیقی والمجازی.

وفیه: أن الشک فی موارد قاعدة الفراغ فی الحقیقة فی شیء تجاوز محله فإن اقتران الصلاة بالطهارة بعد الفراغ من أصل الصلاة تجاوز محله لا یمکن المساعدة علیه فإن فی موارد قاعدة الفراغ یکون منشأ الشک فی الصحة الشک فی الجزء أو الشرط ومحل الجزء أو الشرط المشکوک ولو کان شرطاً فی المرکب ینقضی بانقضاء العمل فإذا جرت القاعدة فی الجزء أو الشرط المشکوکین تحرز صحة العمل علی ما تقدم. نعم، بین الشک فی الجزء والشرط فرق فإنه إذا شک فی الرکوع بعد السجود،

ص : 19

وجرت قاعدة التجاوز فی الرکوع یحرز بها تحقق الرکوع قبل السجود وتصح الأجزاء الآتیة أیضاً؛ لأن الرکوع قبل السجود فی الرکعة الاُولی کما هو شرط فی صحة السجود شرط فی الأجزاء الآتیة أیضاً وقد أحرز ذات الرکوع بالقاعدة فتصح الأجزاء الآتیة أیضاً بخلاف ما إذا شک فی أثناء الصلاة فی وضوئه فإنه کما أن الوضوء شرط فی الأجزاء السابقة کذلک شرط فی الأجزاء اللاحقة، وبالقاعدة لا تحرز نفس الوضوء بل مفاد (واو) الجمع ومحل (واو) الجمع لم تمض بالإضافة إلی الأجزاء اللاحقة.

وبتعبیر آخر: لا یمکن إحراز نفس الوضوء بمفاد قاعدة التجاوز بجریانها فی الصلاة حتی فیما إذا شک فیه بعد الفراغ من الصلاة فضلاً عن أثنائها؛ ولذا لابد من الوضوء للصلاة الآتیة وإنما یحرز بها مفاد (واو) الجمع بخلاف ما إذا شک فی جزء العمل فی أثناء العمل بعد تجاوز محله أو بعد العمل فإنه یحرز بها نفس ما یسمی جزءاً ولذا یحکم بصحة الأجزاء الآتیة وتمام العمل.

ثمّ إنه قد تقدم العموم فی قاعدة الفراغ وإن کان بعض روایاتها قاصرة عن العموم ویکفی فی العموم قوله علیه السلام فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کلّما شککت فیه مما قد مضی فأمضه کما هو»(1) وربّما یستظهر العموم من قوله علیه السلام فی موثقة بکیر بن أعین قال: «قلت له: الرجل یشک بعد ما یتوضأ قال: هو حین ما یتوضأ أذکر»(2) ووجه الاستظهار أن الحکم بعدم الاعتناء بالشک فی صحة الوضوء بعد تمامه والفراغ منه لکونه أذکر حین التوضؤ، ومن الظاهر أن الأذکریة حال

ص : 20


1- 1) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 3.
2- 2) الوسائل 1 : 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 7.

العمل لا یختص بالوضوء بل کل فاعل عند العمل الذی یریده لا یترک منه شیئاً إلاّ مع الغفلة ومثلها کما تقدم صحیحة محمد بن مسلم المرویة فی آخر السرائر حیث ورد فیها «وکان حین انصرف أقرب إلی الحق منه بعد ذلک»(1) وأما صحیحة عبداللّه بن یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره فلیس شکک بشیء وإنما الشک فی شیء لم تجزه»(2) فلا ظهور لها فی العموم لاحتمال کون المراد بالشیء فی القضیة الحصریة ما یعتبر فی الوضوء والضمیر فی «لم تجزه» راجع إلی نفس الوضوء ولو بقرینة ما ورد فی عدم اعتبار قاعدتی التجاوز والفراغ أفعال الوضوء قبل الفراغ من الوضوء والقیام عنه، وبعض روایات قاعدة الفراغ فی نفسها قاصرة عن العموم کقوله علیه السلام «کلّما مضی من صلاتک وطهورک فذکرته تذکراً فأمضه»(3) کما ذکرنا ولکن یکفی فی الالتزام بعمومها ما ذکرنا.

وأما بالإضافة إلی عموم قاعدة التجاوز وعدم عمومها فالعمدة فی قاعدته صحیحة زرارة حیث ورد فی ذیلها «إذا خرجت من شیء ثمّ دخلت فی غیره فشکک لیس بشیء»(4) وموردها شاهد قطعی بأن المراد الخروج من محل الشیء، ولکن قد یقال کما أن موردها قرینة علی أن المراد تجاوز محل الشیء کذلک قرینة علی کون المراد من الشیء المذکور بنحو النکرة ما هو معتبر فی الصلاة من أجزائها أو یعتبر

ص : 21


1- 1) السرائر 3 : 614.
2- 2) الوسائل 1 : 330، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- 3) الوسائل 1 : 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 6.
4- 4) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث الأول.

قبلها فی کمالها مما أمر به قبلها کالأذان والإقامة، ومع الإغماض عن ذلک وجود القدر المتیقن فی مقام التخاطب یمنع عن تمامیة مقدمات الحکمة.

وفیه أن تطبیق الکبری علی موارد الشک فی الوجود بعد مضی محلها یعد قرینة علی أن المراد من الخروج من الشیء الخروج من موضعها ولا تکون قرینة علی أنها مختصة بالشک فی الوجود بعد مضی محلها فی خصوص تلک الموارد الواردة فی السوءال وأن وجود القدر المتیقن بهذا النحو لا یمنع عن انعقاد الظهور الإطلاقی فی الکبری وإلاّ بطل التمسک فی الإطلاقات الواردة فی الجواب عند السوءال عن بعض الموارد والصغریات کما قرر فی الاُصول ومع الإغماض عن ذلک فقد ورد فی صحیحة إسماعیل بن جابر العموم الوضعی قال: قال أبو جعفر علیه السلام : «إن شک فی الرکوع بعدما سجد فلیمض، وإن شک فی السجود بعد ما قام فلیمض کل شیء شک فیه مما قد جاوزه ودخل فی غیره فلیمض علیه»(1) وقد ذکر فی بحث العام والخاص أن أداة العموم بوضعها متکفلة لبیان شمول الحکم الوارد فی الخطاب لجمیع مصادیق المدخول لا ما احتمله فی الکفایة فی ذلک البحث أنه لابد فی إثبات المراد من المدخول أولاً بمقدمات الحکمة أنه مطلق أو مقید ثبوتاً لتکون الأداة دالة علی شمول الحکم فی أفراد ذلک المراد حیث إن لازم ذلک کون الإرادة تأکیداً، وعلی الجملة فقاعدة التجاوز کقاعدة الفراغ عامة ما لم یقم فی مورد دلیل علی إلغائها فی ذلک یوءخذ بعمومها ویوءید عمومها ما ورد فی الشک فی الطواف بعد الفراغ منه.

ص : 22


1- 1) الوسائل 4 : 937، الباب 13 من أبواب الرکوع، الحدیث 4.

فی اعتبار الدخول فی الغیر فی جریان قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ أیضاً أم لا

ثمّ إنه یبقی الکلام فی اُمور:

منها _ أنه یعتبر فی جریان قاعدة التجاوز الدخول فی غیر فإنه لا ینبغی التأمل فی اعتبار الدخول فیه فیما کان مضی محل الشک بالدخول فیه کمضی محل القراءة فی الدخول بالرکوع، وأما إذا لم یتوقف مضیه علی الدخول فی غیر کما إذا شک فی الجزء الأخیر من العمل بعد فعل المنافی کأن شک فی التشهد والتسلیمة بعد الحدث أو استدبار القبلة ونحوها فهل تجری قاعدة التجاوز لعدم اعتبار الدخول فی غیر أو لا تجری؟ أو فیما إذا شک فی العمل بعد مضی الوقت المضروب له کما إذا شک فی الإتیان بالصلاة بعد خروج وقتها أو شک فی طواف الحج وسعیه بعد مضی ذی الحجة، وکذا فیما إذا شک فی سعیه خاصة بعد مضیه.

فقد یقال باعتبار الدخول فی غیر المترتب علیه؛ لأن العمدة فی دلیل قاعدة التجاوز صحیحة زرارة وصحیحة إسماعیل بن جابر والوارد فیهما «إذا خرجت من شیء ودخلت فی غیره»(1) و«کل شیء مما جاوزه ودخل فیه غیره»(2) وفی موارد عدم الدخول فی غیر مع فرض تجاوز المحل لابد من الأخذ بذیل قاعدة الفراغ بدعوی أن الفراغ یحصل بالإتیان بالفعل المنافی کما یأتی.

ولکن یمکن الجواب بأن ذکر الدخول فی غیره فی الصحیحتین؛ لأن الدخول فی الجزء المترتب علی المشکوک محقق للتجاوز عن محل المشکوک فلا یکون

ص : 23


1- 1) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع من الصلاة، الحدیث الأول.
2- 2) مرّ تخریجه قبل قلیل.

القید أمراً تعبدیاً بعد ذکر الخروج عن محل الشیء ومضی ذلک المحل فلو فرض تحقق مضی المحل فی مورد من غیر الدخول فی الأمر المترتب علیه یکون ذلک أیضاً مجری قاعدة التجاوز کما إذا شک فی الإتیان بالتشهد والتسلیمة بعد فعل المنافی أو شک فی الواجب بعد انقضاء الوقت المضروب له.

وعلی الجملة: لا یکون الدخول فی غیر فی مورد الصحیحتین قیداً تعبدیاً زایداً علی مضی المحل فلا یکون له ظهور فی القید التعبدی الآخر وراء مضی المحل لیمکن التمسک بإطلاقه هذا کله بالإضافة إلی قاعدة التجاوز، وأما اعتبار الدخول فی غیر بالإضافة إلی اعتبار قاعدة الفراغ فلا مجال لدعواه؛ لأن قوله علیه السلام فی صحیحة محمد بن مسلم المتقدمة: «کلما شککت فیه مما قد مضی فأمضه کما هو» وقوله علیه السلام «حین یتوضأ أذکر» إلی غیر ذلک اعتبار مضی نفس العمل والفراغ منه فی الحکم بالصحة وتمامیة ذلک العمل سواء دخل فی غیره من العمل المترتب علیه أم لا.

ودعوی أن الغالب من مضی الشیء والفراغ منه الدخول فی غیره مما هو مترتب علیه فیکون الوارد فی الروایات من مضی الشیء منصرفاً إلیه لکون التشکیک فی صدق المعنی یوجب الانصراف لا یمکن المساعدة علیها؛ لأن مجرد الغلبة علی تقدیرها فی أفراد الطبیعی لا یوجب انصراف اللفظ الموضوع للطبیعی إلی تلک الأفراد بل الموجب له غلبة الاستعمال وأرادتها من الطبیعی من غیر الإتیان إلاّ بنفس اللفظ الموضوع لذلک الطبیعی کانصراف الحیوان إلی غیر الإنسان ومجرد التشکیک أیضاً لا یفید شیئاً فإن صدق المضی فی فرض الدخول فی غیر وإن کان أوضح إلاّ أن ذکر مجرد المضی ما لم یکن فی البین ما ذکر مطلق یوءخذ بإطلاقه.

نعم، ربّما یقال: إن فی البین ما یوجب رفع الید عن الإطلاق واعتبار الدخول

ص : 24

فی غیر نظیر ما تقدم من القول باعتباره فی جریان قاعدة التجاوز وهی صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره فلیس شکک بشیء إنّما الشک إذا کنت فی شیء لم تجزه»(1) ووجه القول المذکور أن قاعدة التجاوز لا تجری فی أجزاء الوضوء فالمراد من الشک فی شیء من الوضوء مفروض بعد الفراغ عن الوضوء فقوله علیه السلام «إذا شککت فی شیء من الوضوء» أی بعد مضی الوضوء ودخلت فی غیر الوضوء فلیس شکک بشیء وحیث إن مضی الوضوء لا یتوقف علی الدخول فی غیره فذکر الدخول فی غیره ظاهر فی اعتباره فی التعبد بقاعدة الفراغ، ولکن لا یخفی أن صدر الروایة وإن سلم ظهوره فی اعتبار الدخول فی غیر ولکن ذیلها وهو قوله علیه السلام «إنما الشک فی شیء لم تجزه» ظاهره کفایة مضی الشیء فی جریان القاعدة.

وبتعبیر آخر ظاهر الصحیحة اعتبار قاعدة التجاوز فی الوضوء نظیر اعتبارها فی أجزاء الصلاة وجعل التسالم وغیره علی عدم جریانها فی أثناء الوضوء قرینة علی أن المراد منها قاعدة الفراغ یستلزم أن یکون القید الوارد فی الصدر بقرینة الحصر الوارد فی الذیل قیداً غالبیاً أو تحمل الصحیحة علی قاعدة التجاوز، ولکن جریانها فی الوضوء مشروط بتجاوز المحل والفراغ من الوضوء بأن کان فی قوله علیه السلام «إذا شککت فی شیء من الوضوء ودخلت فی غیره» الضمیر فی (غیره) یرجع إلی نفس الوضوء لا إلی الشیء المشکوک ومع الإغماض عن ذلک کلّه والإغماض عن إجمال الروایة غایتها اعتبار الدخول فی غیر فی جریان قاعدة الفراغ فی الوضوء.

ص : 25


1- 1) الوسائل 1 : 330، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ومما ذکر یظهر الحال فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام الواردة فی الشک فی أجزاء الوضوء قال: «إذا کنت قاعداً علی وضوئک فلم تدر أغسلت ذراعیک أم لا فأعد علیهما وعلی جمیع ما شککت فیه أنک لم تغسله أو تمسحه مما سمی اللّه ما دمت فی حال الوضوء فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت فی حالة اُخری فی الصلاة أو غیرها فشککت فی بعض ما سمی اللّه مما أوجب اللّه علیک فیه وضوءه لا شیء علیک فیه فإن شککت فی مسح رأسک فأصبت فی لحیتک بللاً فامسح بها علیه وعلی ظهر قدمیک فإن لم تصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشک وامض فی صلاتک» الحدیث(1) فإن ذیلها وان کان دالاً علی عدم اعتبار قاعدة الفراغ فی الوضوء قبل صیرورة المکلف فی حالة اُخری من صلاة أو غیرها إلاّ أن ذکر «حالة اُخری» من القید الغالبی لکون الشیء فی الوضوء یحصل غالباً بعد مدة بحیث یکون المکلف داخلاً فی حالة اُخری.

وبتعبیر آخر قوله علیه السلام «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت فی حالة اُخری» تفریع علی القضیة الشرعیة الواردة فی صدر الصحیحة من قوله علیه السلام «إذا کنت قاعداً علی وضوئک فلم تدر . . .» الخ فإن مفاد هذه الشرطیة الاعتناء بالشک فی الوضوء ما دام قاعداً فیه فالعبرة فی لزوم الاعتناء بالشک عدم الفراغ من الوضوء وما دام قاعداً فیه والمذکور فی الشرطیة المتفرعة علی هذا الشرطیة من المفهوم والقید الزاید فیه غیر دخیل فی الحکم وإنما أتی به باعتبار الغلبة ونحوها وعلی تقدیر الإغماض عن ذلک وتسلیم ظهورها فی اعتبار الدخول فی حالة اُخری فلا یعتبر ذلک

ص : 26


1- 1) التهذیب 1 : ص 100.

فی غیر الوضوء ثمّ إنه بناءً علی اعتبار الدخول فی غیر فی جریان قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ أنه لو شک فی الجزء الأخیر من العمل الارتباطی کما إذا شک فی الإتیان بالتشهد والتسلیمة من الرکعة الأخیرة لا مجری لقاعدة التجاوز سواء کان الشک بعد الدخول فی مثل التعقیب مما یستحب فعله بعد تمام الصلاة أم لا وسواء کان الشک قبل فعل المنافی أم بعده فإنه إذا کان الشک قبل الدخول فی التعقیب وقبل فعل المنافی فالأمر ظاهر لعدم مضی محلّ التشهد والتسلیم وعدم الدخول فی غیر وکذا إذا کان الشک بعد الدخول فی التعقیب وقبل فعل المنافی فإنه مع الشروع فی التعقیب لا یتحقق مضی محل التشهد والتسلیم؛ لأنه لم یعتبر فی التشهد والتسلیم وقوعهما قبل التعقیب بل المعتبر فی التعقیب أن یکون بعد الفراغ من الصلاة نظیر ما تقدم من أنه لم یعتبر فی الوضوء وقوعه قبل الصلاة بل المعتبر فی الصلاة أن تکون بعد الوضوء بل ولا تجری قاعدة التجاوز مع فعل المنافی أیضاً فإنه اعتبر التشهد والتسلیم فی الصلاة بعد السجدتین من غیر صدور المنافی إلی إتمامها فیوجب وقوعه بطلانها عمداً کان أو سهواً ولذلک یمضی محل التشهد والتسلیمة مع صدوره إلاّ أن المکلف لم یدخل فی الغیر والمفروض اعتبار الدخول فی غیر فی جریانها نعم یجری فی الفرض بعد فعل المنافی قاعدة الفراغ حیث إن المعتبر فی جریانها مضی الشیء بحیث لو أحرز الخلل فیه وجب تدارکه بالإعادة أو القضاء والمضی کذلک حاصل فی الفرض، ومع الشک فی الخلل یحکم بصحة العمل وتمامیته.

وقد یقال کما عن المحقق النائینی قدس سره أن المراد بالفراغ فی قاعدته مضی معظم العمل ومع الدخول فی التعقیب أیضاً ولو قبل فعل المنافی یصدق الفراغ بهذا المعنی، ولکن قد تقدم أن ظاهر ما ورد فی قاعدة الفراغ مضی نفس العمل والشک

ص : 27

فی صحته وفساده فما دام محل الجزء الأخیر باقیاً لا یحرز مضی نفس العمل بل یحتمل، کما أنه قد یقال لا یعتبر فی جریان قاعدة الفراغ الفراغ الحقیقی بل یکفی الفراغ الاعتقادی، وما دام المکلف لم یعتقد تمام العمل لا یشرع فی التعقیب فیکون مجرد الاشتغال بالتعقیب کافیاً فی جریان قاعدة الفراغ.

وفیه أیضاً ظاهر مضی العمل والشک بعد مضیه وأن یکون الشک بعد العمل بحیث لو علم الخلل لزم تدارک ذلک العمل إما بالإعادة أو قضاء النقص، ومجرد الاعتقاد بالفراغ من العمل مع بقاء محل المشکوک لا یوجب صدق المضی والاعتقاد بالفراغ والمضی مع عدمهما لیس فراغاً ولا مضیاً. نعم، لا ینحصر صدق المضی علی موارد یوجب الخلل بطلان العمل رأساً کما هو ظاهر کلام بعض الفحول قدس سره .

وعن المحقق النائینی قدس سره جریان قاعدة التجاوز أیضاً ولو قبل فعل المنافی إذا شک فی الجزء الأخیر مع الاشتغال بالتعقیب؛ لأن قوله قدس سره فی الحکم بتحقق الأذان بعد الدخول فی الإقامة شاهد بأنه لا یلزم أن یکون غیر _ الذی اعتبر الدخول فیه فی جریان قاعدة التجاوز _ من أجزاء العمل وفیه ما لا یخفی فإنه قدس سره اعتبر فی جریان قاعدة التجاوز مضی المحل والدخول فی غیر، ومع عدم مضی محل الشیء کیف تجری قاعدة التجاوز واستشهاده بما ورد فی صحیحة زرارة بالشک فی الأذان والإقامة غیر صحیح؛ لأن المعتبر فی کمال الصلاة أن یکون الأذان قبل الإقامة والإقامة بعد الأذان فمع الاشتغال بالإقامة ینقضی محل الأذان بخلاف التشهد والتسلیم بالإضافة إلی التعقیب فإنه لا یعتبر فی کمال الصلاة وقوعها قبل التعقیب بل یعتبر فی التعقیب أن یکون بعد الصلاة.

وقد تحصل مما ذکرنا أن محل الجزء الأخیر من المرکب الارتباطی هو بعد

ص : 28

الإتیان بسائر الأجزاء وأن لا یقع إلی تمام ذلک الجزء ما یعد مانعاً من ذلک العمل کما تقدم ذلک فی رکعات الصلاة أیضاً من أن محل الرکعة الأخیرة من صلاة بعد الإتیان بغیرها من الرکعات وأن لا تقع إلی تمامها ما ینافی الصلاة من فوات الموالاة أو وقوع الحدث أو الاستدبار إلی القبلة أو غیر ذلک بل وحتی ما إذا تکلم باعتقاد الفراغ ثمّ شک فی أنه تشهد وسلم قبله أم لا فلا یجب علیه قضاء التشهد، ولا سجدتا السهو، ولا العود إلی التشهد والتسلیم؛ لأن مضی محل الشیء المشکوک غیر محله عند إحراز نسیانه.

وعلی الجملة: لو بنی علی الاکتفاء فی جریان قاعدة التجاوز علی مضی المحل من غیر اعتبار الدخول فی غیر جرت القاعدة فیما إذا شک فی الجزء الأخیر من العمل بعد فعل المنافی الموجب للتدارک بالإعادة أو تدارک النقص بعنوان القضاء ونحوه وإلاّ یحکم بتمام العمل بقاعدة الفراغ حیث یکفی فی جریانها صدق مضی العمل بحیث یکفی فی مضیّه أنه علی تقدیر الخلل فیه یحتاج إلی الإعادة أو التدارک بقضاء الجزء ونحوه علی ما تقدم.

عدم جواز الإکتفاء فی جریان قاعدة التجاوز بالدخول فی الجزء المستحب وجواز الاکتفاء بالدخول فی جزء الجزء

ثمّ إنه هل یعتبر فی غیر الذی یعتبر الدخول فیه عند الشک فی غیر الجزء الأخیر من العمل أن یکون من الأجزاء المستقلة لذلک العمل أو یشمل جزء الجزء أیضاً، وعلی تقدیر الشمول یختص الشمول بأجزاء الحمد والسورة أو یشمل الدخول فی مقدمات الأجزاء أیضاً کما إذا شک فی القراءة عند الهوی إلی الرکوع ولما وصل إلی حده أو شک فی الرکوع عند الهوی إلی السجود ولم تصل مساجده إلی الأرض أو شک فی السجود حال النهوض إلی القیام، وهل یشمل غیر الأجزاءَ

ص : 29

المستحبة کما إذا شک فی قراءة السورة حال القنوت؟ لا ینبغی التأمل فی أنه لا یشمل الدخول فی الأجزاء المستحبة نظیر الشک فی قراءة السورة حال القنوت أو الشک فی الإتیان بالذکر الواجب للرکوع والسجود حال الاشتغال بالصلاة علی النبی وآله بناءً علی استحبابها بعد الذکر الواجب فیهما والوجه فی ذلک أن القنوت والصلاة علی النبی وآله مقیدتان بکونهما بعد قراءة السورة والإتیان بالذکر الواجب فی الرکوع والسجود لا أن قراءة السورة مقیدة بکونها قبل القنوت أو الذکر الواجب فی الرکوع، والسجود مقید بکونه قبل الصلاة علی النبی وآله؛ لأن أجزاء الصلاة من الأرکان وغیرها یتعلق بها تکلیف واحد، ومقتضی ذلک کونها ارتباطیة، وکون کل جزء منها مشروطاً بوقوعه قبل الجزء التالی، والتالی مشروطاً بوقوعه بعد السابق ولو کان شیء مشروطاً بوقوعه بعد جزء ولم یکن ذلک الجزء مشروطاً بوقوعه قبل ذلک الشیء فلا یتحقق وجوب واحد بل یکون فی البین تکلیفان أو وجوب واستحباب کما هو الحال بالإضافة إلی اشتراط صلاة العصر بکونها بعد صلاة الظهر، ولا یعتبر فی صلاة الظهر أن تکون قبل صلاة العصر، والجزء المستحب فی الحقیقة غیر جزء من الواجب وکونه جزءاً منه فی الحقیقة غیر معقول فإن لازم کونه جزءاً من الواجب أخذه فیه، ولازم کونه مستحباً عدم أخذه فی متعلق ذلک الواجب، وکل ما یطلق علیه الجزء المستحب فی الحقیقة مستحب نفسی یکون ظرف الإتیان به فی ضمن الواجب غایة الأمر ربّما لیس له ملاک مستقل بل ملاکه الزیادة فی ملاک الواجب.

وبهذا الاعتبار یطلق علیه الجزء المستحب وإلاّ یکون کالأدعیة المستحبة للصائم فی شهر رمضان من ترتب ملاک مستقل علیه إذا صدرت عن الصائم کما یحتمل ذلک بالإضافة إلی القنوت فی الصلاة، وقد تقدم أن قوله علیه السلام فی صحیحة

ص : 30

زرارة بعدم اعتبار الشک فی الأذان بعد الشروع فی الإقامة لا یدلّ علی کفایة الدخول فی المستحب المترتب علی المشکوک کترتب القنوت علی قراءة السورة؛ لأن الأذان للصلاة أیضاً مقید بوقوعه قبل الإقامة لها وإلاّ فلا دلیل علی مشروعیة الأذان للصلاة بلا إقامة.

وعلی الجملة: الدخول فیما یسمی بالجزء المستحب للعمل لا یوجب تجاوز المحل المشکوک لعدم تقیید الجزء المشکوک بوقوعه قبل ذلک المستحب بل ما یسمی بالجزء المستحب مقید بوقوعه بعد ذلک الجزء المشکوک.

عدم الاکتفاء فی جریان قاعدة التجاوز بالدخول فی مقدمة الجزء اللاحق

ومما ذکرنا یظهر الحال فی الدخول فی مقدمة الجزء اللاحق للعمل کما إذا شک عند الأخذ بالهوی إلی الرکعة اللاحقة فی سجود الرکعة السابقة أو شک فی الرکوع عند الأخذ بالهوی إلی السجود فإن الأخذ بالقیام أو الهوی إلی السجود غیر داخل فی الصلاة بل هما أمران قهریان لامتناع الطفرة، وأخذهما فی متعلق الأمر بالصلاة لغو وعلیه فلا یوجب الدخول فی الهوی تجاوز محل الجزء السابق المشکوک لتجری فیه قاعدة التجاوز، وأما ما ذکر الشیخ قدس سره فی وجه عدم کفایة الدخول فی مقدمة الجزء اللاحق فی جریان القاعدة من أن الشارع قد حدد (غیر) فی أجزاء العمل دون مقدمات الأجزاء کما فی صحیحة زرارة فلا یمکن المساعدة علیه فإن قوله علیه السلام بأن الشک فی الرکوع بعد السجود بیان الصغری للکبری الواردة فی تلک الصحیحة أو غیرها والعبرة بعموم الکبری إذا خرجت من شیء ودخلت فی غیره ولو کان الدخول فی غیر الجزء موجباً لانقضاء محل المشکوک أخذ بالعموم فی الکبری لا لما ذکر من الصغریات قبل الکبری.

وربّما یفصل فی المقام بین الشک فی الرکوع بعد الأخذ بالهوی للسجود فیقال:

ص : 31

لا یعتنی بالشک فی الرکوع، وبین الأخذ بالقیام إلی الرکعة عند الشک فی السجود فیقال: بلزوم الاعتناء وأورد علی التفصیل بأنه لا وجه له؛ لأنه إن جرت قاعدة التجاوز جرت فی کلا الفرضین، وإن لم تجر فلم تجر فی کلا الفرضین فالتفکیک غیر صحیح، ولکن عدم صحة التفصیل إنما هو بملاحظة قاعدة التجاوز فی کلا الموردین وأما إذا قام فی أحد الفرضین نص علی خلاف القاعدة یلتزم بمدلوله؛ لأن القاعدة لا تزید علی سائر العمومات والمطلقات التی یرفع الید عن عمومها أو إطلاقها بورود الخاص أو المقید علی الخلاف والتفصیل بینهما مدرکه صحیحة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه قال قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : «رجل أهوی إلی السجود فلم یدر أرکع أم لا قال: قد رکع»(1) فاستظهر من هذه الصحیحة عدم الاعتناء بالشک فی الرکوع بالأخذ بالهوی إلی السجود، ولکن لا یخفی أن ظاهر أهوی إلی السجود تحقق الهوی وانقضاؤه بوصوله إلی السجود فإنه فرق بین التعبیر ب_(یهوی) والتعبیر ب_(أهوی) فلا دلالة فی الصحیحة علی خلاف القاعدة بل ربّما یقال: إنه إذا شک فی السجود بعد الدخول فی التشهد لابد من الاعتناء ویستظهر ذلک من صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث قال: «إن شک فی الرکوع بعدما سجد فلیمض، وإن شک فی السجود بعدما قام فلیمض کل شیء شک فیه مما قد جاوزه ودخل فی غیره فلیمض علیه»(2) ووجه الاستظهار لم یفصل علیه السلام بین بعد ما قام من الرکعة الاُولی أو الثانیة ومقتضی إطلاقها عدم الفرق، ولکن لا یخفی أن الشک فی السجود

ص : 32


1- 1) الوسائل 4 : 937، الباب 13 من أبواب الرکوع، الحدیث 6.
2- 2) المصدر السابق: الحدیث 4.

بعد تحقق القیام مورد لقاعدة التجاوز وأما الشک فی السجود بعد الدخول فی التشهد لم یفرض لا فی منطوق القضیة الشرطیة ولا فی ناحیة مفهومها فإن مفهومها إن لم یشک بعدما قام لا أنه شک قبل ما قام فی التشهد فالشرطیة سیقت لتحقق الشک بعدما قام فمفهومها إن لم یشک بعدما قام مع أنا قد ذکرنا أن المعیار فی جریان القاعدة الکبری الواردة فی الصحیحة لا بیان الصغریات وإذا شک الرجل فی السجود بعد الدخول فی التشهد فقد جاوز محل السجود ودخل فی غیر المشکوک.

والمتحصل مما ذکرنا أنه لم یثبت تعبد فی الشک فی الرکوع والسجود علی خلاف قاعدة التجاوز کما ظهر منه أنه لو رفع رأسه من الرکوع وانتصب قائماً ثمّ شک فی أنه وصل إلی حدّ الرکوع ثمّ انتصب قائماً أو أنه انتصب قبل أن یصل إلی حدّ الرکوع یبنی علی أنه رکع؛ لأن محل الرکوع قبل الانتصاب قائماً بخلاف ما إذا کان قائماً فشک أنه قیام ما قبل أن یرکع أو أنه قیام ما بعد الرکوع فإنه یرجع ویرکع لعدم إحراز مضی محل الرکوع وکون قیامه بعده.

عدم جریان قاعدة التجاوز فی الوضوء قبل الفراغ منه

بقی فی المقام اُمور:

منها _ أنه قد ذکروا عدم جریان قاعدة التجاوز فی أجزاء الوضوء ما دام لم یفرغ منه، وهذا الحکم متسالم علیه بین الأصحاب وألحق جماعة الغسل والتیمم به بل الإلحاق منسوب إلی المشهور، ولکن لم یتعرض لذلک کثیر من الأصحاب فدعوی الشهرة لا تخلو عن التأمل بل المنع، ویستدل علی ذلک تارة باختصاص قاعدة التجاوز فی أجزاء العمل بالصلاة فلا تجری فی أجزاء غیرها ومنه الطهارات الثلاث،

ص : 33

وقد تقدم عموم قاعدة التجاوز وعدم اختصاصها بالصلاة، واُخری ما عن الشیخ قدس سره بأن الشرط فی الصلاة وغیرها مما هو مشروط بالطهارة من الحدث فی الحقیقة الطهارة المسببة من الوضوء أو الغسل أو التیمم وإذا شک فی شیء من الوضوء والغسل والتیمم أثناء العمل یکون الشک فی الطهارة قبل تجاوز محلها، وهذا نظیر ما یقال من عدم جریان أصالة البراءة عند الشک فی اعتبار شیء فی الوضوء أو الغسل أو التیمم حیث إن التعبد بالصلاة المقیدة بالطهارة من الحدث محرز ویجب إحراز الإتیان بها ولیس متعلق التکلیف مردداً بین الأقل والأکثر بل متعلقه علی کل تقدیر صلاة مقیدة بالطهارة فلابد من إحراز حصولها.

وبتعبیر آخر یکون الوضوء باعتبار مسببه أمراً واحداً لا یتجاوز من شیء منه قبل الإتیان بجزئه الأخیر.

أقول: قد ذکرنا فی بحث الفقه من مبحث الوضوء أن ظاهر الخطابات الشرعیة أن الطهارة عنوان لنفس الوضوء بعد الحدث الأصغر لا أنها أمر واقعی مسببة وإلاّ فلو قیل بأن الشرط للصلاة ونحوها هی الطهارة المسببة فلابد فی إحرازها من إحراز الوضوء أو الغسل والتیمم بالوجدان فلا مجری لقاعدة التجاوز ولا لقاعدة الفراغ حتی بعد الفراغ منها لعدم مضی محل الطهارة بمجرد الإتیان بالجزء الأخیر من الوضوء أو الغسل أو التیمم ولا یحرز أصل الطهارة لتجری قاعدة الفراغ فی صحتها؛ لأن المفروض أن الطهارة أمر واقعی بسیط أمرها مردد بین الوجود والعدم ولا یجدی فی الخروج عن الإشکال دعوی کون الوضوء من أوله إلی آخره عملاً واحداً وإذا شک بعد الفراغ منه جرت قاعدة التجاوز حیث إن بالقاعدة لا تحرز تحقق المسبب.

نعم، إذا کانت الطهارة أمراً اعتباریاً مترتبة علی الوضوء والغسل والتیمم أمکن

ص : 34

القول بأن تعبد الشارع بحصول أجزاء الوضوء أو تمام الغسل والتیمم تعبد بحصول ذلک الأمر الاعتباری حیث إن ترتبه علیها نظیر التعبد بالحکم الوضعی بالتعبد لموضوعه وأما إذا لم یحصل الفراغ من الوضوء أو الغسل أو التیمم لم یقع فیها تعبد وعلی القائل بذلک لابد من أن یقیم دلیلاً علی أن الإطلاق فی دلیل قاعدة التجاوز وکذا قاعدة الفراغ بل عمومها مقید أو مخصص فی الطهارات الثلاث أی الوضوء والغسل والتیمم، کما أن من یقول بأن الطهارة عنوان لنفس الوضوء والغسل والتیمم فلابُدّ له من إقامة الدلیل علی التقیید والتخصیص وإلاّ فالإطلاق والعموم فی دلیل القاعدتین متحقق والعمدة فی المنع عن جریان قاعدة التجاوز بل الفراغ فی أجزاء الوضوء روایتان:

إحداهما _ صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره فلیس شکک بشیء إنما الشک إذا کنت فی شیء لم تجزه»(1) ولکن یمکن أن یقال هذه الصحیحة لا تنافی اعتبار قاعدة التجاوز والفراغ فی أجزاء الوضوء حیث إن الضمیر فی غیره یرجع إلی غیر المشکوک من أجزاء الوضوء کما أن الضمیر فی الحصر الوارد فی الذیل یرجع إلی نفس الشیء المشکوک غایة الأمر هذه الصحیحة بهذا الظهور تنافیها صحیحة زرارة التی هی الروایة الثانیة.

والاُخری _ ومدلولها أن المکلف ما دام قاعداً فی الوضوء ولم یفرغ منه فعلیه أن یعتنی بشکه ویتدارک المشکوک وإذا فرغ منه وقام فلا یعتنی بشکه(2).

ص : 35


1- 1) التهذیب 1 : 101.
2- 2) الکافی 3 : 33.

وعلی الجملة: فلو أمکن توجیه صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور بحیث لا تنافی الصحیحة بإرجاع الضمیرین فیها إلی الوضوء وغیر الوضوء تکون عمدة الدلیل علی عدم جریان قاعدة التجاوز فی الوضوء قبل الفراغ ومضیّه هی صحیحة زرارة ولا دلالة فیها ولا فی صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور علی التعرض لحال الشک فی الغسل أو التیمم قبل الفراغ منهما أصلاً فیوءخذ فیهما بالإطلاق أو العموم المشار إلیهما فی خطابات القاعدتین. نعم، لا یتحقق تجاوز المحل بالإضافة إلی الجزء الأخیر من الغسل لعدم اعتبار الموالاة بل بالإضافة إلی غسل الیمین والیسار أیضاً بناءً علی عدم اعتبار الترتیب بینهما، نعم بالأخذ بقاعدة الفراغ بعد تمام المشروط بالغسل کالصلاة یحکم بصحة ذلک المشروط.

وقد یقال: عدم جریان قاعدة التجاوز فی الوضوء عند الشک فی أجزائها قبل الفراغ وکذا عدم جریان قاعدة الفراغ فی الشرط فی ناحیة أجزائها یختص بالشک فی أجزائه التی سماها فی الکتاب المجید وکذلک الشرط الوارد فیه من کونه بالماء، وأما إذا شک فی غیرها وشرط غیر الماء فلا مانع عن التمسک بقاعدة التجاوز والفراغ؛ لأن الخارج عن القاعدتین ما ورد فی صحیحة زرارة والوارد فیها ما ذکر من الأجزاء والشرط الوارد فی الکتاب المجید.

أقول: هذا مبنی علی عدم دلالة صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور علی عدم اعتبار قاعدة التجاوز عند الشک أثناء الوضوء، وکذا عدم اعتبار قاعدة الفراغ فی صحة أجزاء الوضوء قبل الفراغ منه وإلاّ یوءخذ بإطلاقها وما ورد فی صحیحة زرارة من تقیید المشکوک بما سمی اللّه من أجزائه لا یحسب تقییداً لیرفع الید به عن الإطلاق فی صحیحة ابن أبی یعفور لکون الغالب علی الشک فی الوضوء الشک فی

ص : 36

غسل بعض مواضع الوضوء الواردة فی الکتاب المجید.

أضف إلی ذلک أن التفرقة بین الشرط الوارد فی الکتاب المجید لکونه بالماء، والوارد فی غیره کالشک فی طهارة الماء أو رعایة الترتیب فی الغسل وغیر ذلک مما استفید من السنة بعید کما یفصح عن ذلک عدم معهودیة هذا التفصیل بین الأصحاب وکون ما ورد فی الکتاب فریضة والمستفاد من غیره سنة لا یوجب الاختلاف لجریان قاعدة التجاوز فی أجزاء الصلاة والحج وغیرهما من العبادات وکذا قاعدة الفراغ بلا فرق بین استفادة الجزئیة والشرطیة من الکتاب أو السنة هذا، بالإضافة إلی الوضوء.

فی جریان قاعدة التجاوز والفراغ فی الغسل

وأما بالإضافة إلی الغسل فالمستفاد من ذیل صحیحة زرارة أن المکلف إذا دخل فی صلاته وشک فی غسل موضع من جسده فإن کان بالموضع بلّة یمکن غسل ذلک الموضع بالمسح علیه بتلک البلة مسحة واستأنف الصلاة، وإن لم تکن بلة بالموضع بأن یبست أعضاء بدنه فلیمض فی صلاته ومقتضاها جریان قاعدة الفراغ أو التجاوز فی غسل الموضع المشکوک فإنه روی عن أبی جعفر علیه السلام قلت له: رجل ترک بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة، فقال: «إن شک وکانت به بلّة وهو فی صلاته مسح بها علیه، وإن کان استیقن رجع فأعاد علیهما ما لم یصب بلّة فإن دخله الشک وقد دخل فی صلاته فلیمض فی صلاته ولا شیء علیه وان استیقن رجع فأعاد علیه الماء وإن رآه وبه بلة مسح علیه وأعاد الصلاة باستیقان وإن کان شاکاً فلیس علیه فی شکه شیء فلیمض فی صلاته»(1) ومقتضاه عدم جریان شیء من

ص : 37


1- 1) الوسائل 1 : 524، الباب 41 من أبواب الجنابة، الحدیث 2.

قاعدة الفراغ والتجاوز عند الشک قبل الدخول فی الصلاة أو غیرها مما یعتبر فیه الطهارة وجریانهما بعد الدخول فی الصلاة ونحوها إذا لم یکن فی البین بلة یمکن غسله واستیناف الصلاة بعده، وعدم الجریان قبل الدخول فی المشروط بالطهارة علی القاعدة عند الشک فی أیّ موضع من الجسد بناءً علی عدم الترتیب بین غسل الیمین والشمال لعدم مضی محل الغسل لعدم اعتبار الموالاة لا بین غسل الرأس والرقبة وبین الجسد ولا فی غسل نفس العضو فمحل الغسل الشرعی عند الشک لم یتجاوز منه، ولا تجری قاعدة الفراغ؛ لأن الشک فی نفس الجزء الأخیر من الغسل والجزء الأخیر لا ترتیب فی غسله ولکن جریانهما بعد الدخول فی الصلاة أیضاً کذلک فإن الصلاة مشروطة بوقوعها بعد الغسل، ولا یعتبر فی الغسل وقوع الصلاة بعده وجریان قاعدة الفراغ فی نفس الصلاة مع وقوع الشک فی أثنائها غیر ممکن؛ لأنه لا تثبت صحة الأجزاء اللاحقة من الصلاة وأنها واجدة للطهارة المعتبرة والالتزام بأنه یکفی فی جریان قاعدة التجاوز مجرد الدخول فیما هو مترتب علیه کترتب التعقیب علی التشهد والتسلیم أو ترتب الصلاة علی الوضوء والغسل قد تقدم ما فیه من عدم صحة الالتزام؛ لأن الظاهر من قوله علیه السلام : «إذا خرجت من شیء ودخلت فی غیره» الخروج من موضعه المقرر شرعاً ولکن لا یبعد الالتزام بهذا الحکم المخالف لقاعدتی التجاوز والفراغ، وظاهر الصحیحة کما تری الحکم بتمام الغسل إذا دخل فی الصلاة وحصل الشک بعد الدخول وعدم بقاء البلة فی البین فلا یحتاج إلی استیناف الصلاة کما لا نحتاج إلی تدارک غسل ما بقی الشک فی غسله مع أن مقتضی القاعدة تدارک غسل الموضع المشکوک، واستیناف الصلاة نعم، لو حصل هذا الشک بعد الإتیان بالصلاة أو غیرهما مما هو مشروط بالطهارة یحکم بصحة تلک

ص : 38

الصلاة ولکن یجب تدارک غسل الموضع لجریان قاعدة الفراغ فی ناحیة نفس الصلاة ومقتضی الاستصحاب الجاری فی ناحیة عدم غسل ذلک الموضع تدارک غسله، وهذا الاستصحاب وإن سقط اعتباره بالإضافة إلی الصلاة التی فرغ عنها؛ لحکومة قاعدة الفراغ، ولکنه یجری بالإضافة إلی الصلاة الآتیة بل إذا أحدث بالأصغر قبلها یجب الجمع بین إعادة الغسل والوضوء لحدوث العلم الإجمالی باعتبار الغسل أو الوضوء للصلاة الآتیة کما أوضحناه فی بحث الفقه فی مسائل الجنابة.

ومنها _ ما أشرنا إلیه فی المباحث السابقة من أن المراد من التجاوز فی قاعدة التجاوز مضی المحل الشرعی للمشکوک، ولا یکفی مضی المحل العادی سواء کانت العادة شخصیة أو نوعیة وذلک فإنه إذا قرر الشارع للشیء محلاً بحیث یمکن الإتیان به فیه لم یصدق التجاوز والخروج من محله والدخول فی غیره مثلاً إذا شک المکلف فی غسل جانبه الأیسر بعد خروجه من الحمام فلا یمکن له البناء علی تمام الغسل مع بقاء محله الشرعی ولو لم یکن هذا ظاهر التجاوز عن موضع الشیء والخروج منه فلا أقل من عدم إحراز الإطلاق فیهما الواردین فی صحیحتی زرارة وإسماعیل بن جابر وهذا بخلاف الشک فی مسح رأسه ورجلیه فی الوضوء فإنه مع فقد المولاة بیبس أعضاء الوضوء والشک عنده یحکم بصحة الوضوء بلا فرق بین أن یکون الشک فی مسح الوضوء فی أثناء الصلاة أو بعد انقضائها ولعله إلی ذلک یشیر قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة: «فإن شککت فی مسح رأسک فأصبت فی لحیتک بللاً فامسح بها علیه وعلی ظهر قدمیک وإن لم تصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشک فامض فی صلاتک»(1) فإنه مع

ص : 39


1- 1) التهذیب 1 : 100.

عدم بقاء البلل حتی فی لحیته یصدق عنوان مضی الوضوء فیحکم بتمامه بقاعدة الفراغ بل بقاعدة التجاوز أیضاً فإن محل المسح قبل انقضاء البلل والدخول فی غیر غیر معتبر إلاّ من حیث انقضاء المحل.

لا یقال: یمکن أن یقال: بجریان قاعدة الفراغ فیما إذا شک فی الإتیان بالجزء الأخیر من الشیء مع بقاء محله الشرعی وانقضاء محله العادی کما إذا شک بعد الخروج من الحمام فی غسل شیء من جانبه الأیسر أو من جانبه الأیمن بناءً علی عدم الترتیب بین غسل الجانبین. والوجه فی ذلک أن المستفاد من حسنة بکیر بن أعین أن عدم الاعتناء بالشک بعد العمل لعدم اعتبار احتمال الغفلة حال العمل حیث ورد فیها قلت له: الرجل یشک بعدما یتوضأ قال: «هو حین یتوضأ أذکر منه حین یشک»(1) وإذا کان المکلف بحیث لا یترک الشیء من العمل فی محله العادی إلاّ لغفلة یکون مقتضی التعلیل فی الحسنة یعمه فإن المغتسل فی الحمام لا یترک غسل شیء من جانبه الأیسر أو الأیمن إلاّ بالغفلة، والغفلة حال العمل ملغاة.

فإنه یقال: التعبد بالغلبة المشار إلیها وقع فیما إذا کان الشک بعد مضی العمل والفراغ منه أو مضی محله الشرعی لا مطلقاً ولا یحرز مضی العمل والفراغ منه إلاّ بعد الإتیان بجزئه الأخیر أو حدوث ما لا یمکن معه إتمام العمل بأن یمضی محله الشرعی بحیث لزم تدارک الخلل بعد العمل بالقضاء أو إعادة نفس العمل وکذا لا تجری قاعدة التجاوز أیضاً مع انقضاء المحل العادی شخصیاً کان أو نوعیاً مع بقاء المحل الشرعی.

ص : 40


1- 1) الوسائل 1 : 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحدیث 7.

وقد تقدم أن الدخول فی غیر لاعتبار مضی المحل لا أنه تعبد آخر بقید آخر فی جریان قاعدة التجاوز وقلنا إذا کان مضی محل الشیء بالدخول فی غیر کما إذا شک فی غیر الجزء الأخیر من العمل فلابد من الدخول فی نفس الجزء الآخر المترتب علیه أو فی جزء جزئه، ولا یکفی الدخول فی مقدمة الجزء الآخر وقد یتوهم أن المستفاد من صحیحة إسماعیل بن جابر أن الشک فی السجود بعد ما قام من الدخول فی مقدمة الجزء مع أن الشک فیه محکوم بعدم الاعتناء حیث إن القیام من السجدة الثانیة معتبر فی القراءة أو التسبیحات الأربع فی غیر الرکعتین الأولیتین، ولکن الوهم فاسد فإن الدخول فی الرکعة الاُخری یحصل بالقیام من بعد السجدة الثانیة فالسجدة الثانیة محلها الشرعی قبل الدخول فی الرکعة الاُخری فالرکعة الاُخری جزء من الصلاة من حین تحققها إلی انقضائها غایة الأمر یجب فیها القراءة أو التسبیحات فالدخول فی القیام جزء من الصلاة وشرط للقراءة أو الذکر الواجب فی الرکعة فعدم الاعتناء بالشک فی السجود بعده غیر الشک فی السجدة عند الأخذ بالقیام فإن الأول شک بعد مضی المحل والثانی شک قبل مضیه.

ومنها _ أنه هل تجری قاعدة الفراغ فی العمل بمجرد الشک فی صحته وفساده بعد مضیه والفراغ عنه مطلقاً أو ینحصر جریانها فیه عند الشک بعد العمل علی صورة احتمال الخلل فیه ناشئاً عن احتمال الغفلة عند العمل. ولذلک صورتان:

الاُولی _ ما إذا علم الغفلة حال العمل ولکن مع ذلک یحتمل صحة العمل لمجرد احتمال اتفاق الصحة کما إذا اغتسل المکلف أو توضأ مع الخاتم بیده وعلم أیضاً أنه لغفلته لم یعالج لوصول الماء تحت الخاتم عند الاغتسال أو التوضؤ ومع ذلک یحتمل اتفاق وصول الماء تحته فإنه قد یقال بجریان قاعدة الفراغ بالإضافة إلی

ص : 41

وضوئه أخذاً بالعموم فی قوله علیه السلام : «کلما شککت فیه مما قد مضی فلیس علیک شیء» وقد یقال بعدم جریانها فی شیء من موارد إحراز الغفلة حال العمل واحتمال صحته اتفاقاً فإن ترک بعض ما یعتبر فی العمل عمداً غیر داخل فی اعتبار القاعدتین بل الداخل فیهما احتمال الخلل لاحتمال الغفلة کما هو مقتضی قوله علیه السلام فی حسنة بکیر بن أعین: «حین یتوضأ أذکر منه حین یشک» وقوله علیه السلام : «وکان حین انصرف أقرب إلی الحق بعد ذلک»(1) فإن مدلول الأول إذا کان أذکر فلا یترک ولا ینقض من العمل فیختص التعبد بما إذا احتمل الذکر حال العمل، ومدلول الثانی إذا احتمل کونه حین الفراغ أقرب إلی الحق فلا یجری التعبد فی ما إذا علم عدم الفرق بین زمان حصول الشک وزمان الفراغ کما هو الحال فی موارد إحراز الغفلة.

وعن المحقق النائینی قدس سره بأنه لا یختص جریان قاعدة الفراغ بصورة احتمال الخلل لاحتمال الغفلة بل إذا احتمل الصحة فی العمل الماضی ولو اتفاقاً جرت قاعدة الفراغ؛ لأن الوارد فی الروایتین من بیان الحکمة للتعبد بالصحة فلا یکون الحکم بها دائراً مدار حصولها، ولا یخفی أن التعبد فی الحسنة بالذکر حال الوضوء وإذا علم الغفلة حاله لا یمکن التعبد به.

ودعوی أن التعبد بالذکر فیها حال العمل أو کونه عند الفراغ أقرب إلی الحق فی الصحیحة لا تنافی التعبد بالتمام والصحة فی سائر الروایات یمکن دفعها بأن ظاهر الروایات الواردة فی قاعدة الفراغ أن المتعبد به فیها أمر واحد، وأن قوله علیه السلام «وکان حین انصرف أقرب إلی الحق» من قبیل التعلیل لعدم الاعتناء بالشک بعد العمل،

ص : 42


1- 1) الوسائل 5 : 343، الباب 27 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 3.

وحمله علی بیان الحکمة خلاف الظاهر؛ لأن قاعدة الفراغ مفادها أمر ارتکازی وهو بما أن الفاعل لفعل لا یترک خللاً فیه مع معرفته العمل إلاّ مع الغفلة عن حال العمل یکون الشارع فی تلک الروایات بصدد بیان اعتبار هذا الأمر الارتکازی.

وقد یقال: بأن المستفاد من بعض الروایات أن الشارع قد حکم بصحة العمل المفروغ حتی فی صورة العلم بالغفلة واحتمال الصحة الواقعیة، ویدلّ علی ذلک صحیحة الحسین بن أبی العلاء قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت قال: حوله من مکانه وقال فی الوضوء: تدره فإن نسیت حتی تقوم فی الصلاة فلا آمرک أن تعید الصلاة»(1) والوجه فی دلالتها أنه لو لم تجر قاعدة الفراغ فی نفس الوضوء فالصلاة تکون محکومة بالبطلان، وکذا الحال فی الغسل فإنه لولا اعتبار قاعدة الفراغ فی الغسل بعد الدخول فی الصلاة کما استفدنا ذلک من صحیحة زرارة المتقدمة أیضاً لما أمکن الحکم بصحة الصلاة التی دخل فیها، ولکن لا یخفی ما فی الاستدلال فإنه لم یظهر من الروایة أن نظر السائل استعلام حال الوضوء والغسل عند احتمال عدم وصول الماء تحت الخاتم فی الوضوء أو الغسل بل من المحتمل لولا الظهور احتماله کون الخاتم فی الید عند الوضوء أو الغسل مانعاً عنهما أو نزعه واجباً أو مستحباً ولذا فصل الإمام علیه السلام فی الجواب بین الوضوء والغسل، وذکر فی الوضوء بالإدارة، وفی الغسل بالتحویل، ولولا کونها فی بیان الحکم الأدبی فی الغسل والوضوء لم یکن وجه للتفصیل بین الوضوء والغسل بما ذکر.

أقول: روایة بکیر بن أعین مضمرة لم یعلم المسؤول هو الإمام علیه السلام ومع الغمض

ص : 43


1- 1) الوسائل 1 : 329، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

عن ذلک فلا یستفاد منها إلاّ حکم الوضوء وإن الحکم بصحته فی فرض احتمال الذکر وإحرازه عند التوضؤ تمامه فإن للوضوء خصوصیة کعدم جریان قاعدة التجاوز فیه مادام لم یحصل الفراغ منه فلا تنافی الأخذ بالعموم فی مثل قوله علیه السلام : «کلّما شککت فیه مما قد مضی فلیس علیک شیء»(1).

ودعوی أن الإمام علیه السلام فی روایات قاعدة الفراغ بصدد بیان الأمر الارتکازی لا یمکن المساعدة علیها فإن العمدة فی ذلک مضمرة بکیر بن أعین، وأما ما فی صحیحة محمد بن مسلم من قوله علیه السلام : «وکان حین انصرف أقرب إلی الحق منه بعد ذلک» فظاهرها اعتبار قاعدة الیقین فی الصلاة أی إذا حصل الشک فی عدد الرکعات بعد الصلاة مع أن الیقین حال الانصراف غیر دخیل فی الحکم بصحة الصلاة بل إذا کان ظاناً حین التسلیمة أو غافلاً عن حاله فشک بعد التسلیمة بین الثلاث والأربع یحکم بصحة صلاته فالیقین فی مورد الروایة لا اعتبار به فضلاً عن التعدی إلی غیر مورده.

وعلی الجملة مقتضی الإطلاق فی اعتبار قاعدة الفراغ غیر بعید، ولکن الاقتصار علی موارد احتمال الغفلة أحوط. نعم، لو کان الشک بعد الإتیان بعمل بعد خروج وقته مما یجب قضاؤه علی تقدیر فوته یجری فی ناحیة ذلک العمل أصالة البراءة عن وجوب قضائه کما إذا صلی بعد الغسل أو الوضوء المفروض وبعد خروج وقت الصلاة شک فی وصول الماء إلی تحت خاتمه مع العلم بغفلته حال الوضوء أو الغسل عنه فلا بأس بالرجوع إلی أصالة البراءة عن وجوب قضاء الصلاة لأن وجوب

ص : 44


1- 1) الوسائل 5 : 336، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 3.

القضاء بتکلیف جدید عند الاشتغال بالصلاة أیضاً.

الصورة الثانیة _ ما إذا أحتمل صحة عمله السابق من جهة مصادفته للواقع مع علمه فعلاً بجهله بالصحیح عند العمل من جهة ترکه الاجتهاد والتقلید فی الشبهة الحکمیة وفی هذه الصورة لو کانت صورة ما عمله سابقاً محفوظة عنده فیمکن إحراز صحته وفساده بالطریق الفعلی المعتبر فی حقه شرعاً وأما إذا لم تکن صورة ما عمله سابقاً محفوظة عنده فلا یمکن إحراز صحته بقاعدة الفراغ وذلک فإن ما دل علی قاعدة الفراغ ناظر إلی صورة احتمال الغفلة عند العمل مع العلم بالحکم والتکلیف لا صورة احتمال الخلل عند العمل للجهل بأحدهما أو حتی للغفلة الناشئة من الجهل بالحکم والتکلیف.

وبتعبیر آخر: إنما تجری قاعدة الفراغ إذا کان احتمال الخلل فیما بعد العمل ناشئاً من احتمال طرو الغفلة حال العمل. نعم، لو احتمل أن العمل کان علی تقلید صحیح واحتمل أنه لم یأت بالعمل علی طبق ذلک التقلید للغفلة حال العمل فلا بأس بالرجوع إلی قاعدة الفراغ؛ لأن المعتبر فی أجزاء العمل الاستناد إلی الحجة والإتیان به علی طبق ذلک وهذان الأمران یحرزان بقاعدة الفراغ الجاریة فی أعماله السابقة التی لا یحفظ صورتها فعلاً.

فتحصل مما ذکرنا أن شرایط العمل إذا کانت من قبیل فعل المکلف ففی الشک فی الإخلال بها عند العمل للغفلة لا یعتنی بالشک، وأما إذا کان الشرط من الأمر غیر المقدور للمکلف کدخول الوقت بالإضافة إلی الصلاة، وکذا إذا صلی إلی جهة ثمّ شک فی أنها کانت هی القبلة أو أن القبلة کانت فی جهة اُخری فلا مجال لقاعدة الفراغ فی الأول؛ لأن القاعدة تختص بموارد الشک فی أن الامتثال للتکلیف المحرز کان بنحو الصحیح والمجزی أو کان فیه خلل وفی المقام شک فی حدوث التکلیف بما

ص : 45

أتی به لا فی الشک بعد الفراغ فی امتثال التکلیف المحرز حال العمل، ونظیر ذلک ما إذا اغتسل غسل الجنابة، وبعد تمامه شک فی أنه کان جنباً قبل الاغتسال أم لا فإنه لا یجوز له الصلاة بلا وضوء، وکما إذا صلی تماماً ثمّ شک فی أنه کان قاصداً للإقامة قبلها أو وقع التمام اشتباهاً ففی هذه الموارد ونظائرها مما یکون الشک فی صحة العمل ناشئاً من ثبوت التکلیف به قبل العمل لا یجری قاعدة الاشتغال؛ لأن ظاهر ما ورد فی اعتبار قاعدة الفراغ هو أن الشک کان فی عمله بعد إحراز التکلیف به فلا تکون موارد حفظ صورة العمل عند الشک وکون شکه فی صحة عمله ناشئاً عن ثبوت التکلیف به مجری لقاعدة الفراغ. نعم، لو احتمل أنه کان عند الدخول فی العمل محرزاً التکلیف به وأن إحرازه کان صحیحاً فلا بأس بجریان القاعدة، وکذا لا تجری القاعدة فی مثل مثال القبلة لحفظ صورة العمل عند الشک حیث إن حال المکلف حال العمل لا یختلف عن حاله عند الشک وعدم الجریان مبنی علی اعتبار احتمال الذکر حال العمل واحتمال الخلل فیه لاحتمال غفلته عند العمل کما أنه کان عالماً بالقبلة فی جهة وشک بعد الصلاة أنه صلاها بتلک الجهة أو الجهة الاُخری اشتباهاً.

ومثله ما إذا توضأ أو اغتسل بمایع ثمّ شک فی أن ذلک المایع ماء أو مضاف بخلاف ما إذا أحرز أن المائع ماء والآخر مضاف وشک فی أنه توضأ أو اغتسل بالماء أو اشتبه فتوضأ أو اغتسل من المضاف فإنه یحمل وضوءه أو غسله علی الصحة بقاعدة الفراغ.

وعلی الجملة: کلّما احتمل أنه عند العمل أحرز الشرط والتکلیف بوجه معتبر وأتی بالعمل علی وجه الصحة یجری قاعدة الفراغ فی ذلک وإن لم یثبت وجود ما یسمی بالشرط أو التکلیف فی ذلک الزمان. هذا کلّه فی ما إذا شک فی شرط صحة العمل بعد الفراغ منه، وأما إذا شک فی صحته أثناء العمل فللشرط أنحاء:

ص : 46

فتارة _ یکون الشرط معتبراً فی تمام العمل حتی فی الآنات المتخللة بین أجزائه بحیث إذا لم یکن الشرط حاصلاً من الابتداء بالعمل لم یکن حصوله بالإضافة بعد ذلک کالطهارة من الحدث فإنها معتبرة فی الصلاة من حین الشروع فیها إلی إتمامها حتی فی الآنات المتخللة بحیث لو لم یتوضأ المحدث بالأصغر قبل الصلاة فلا یمکن تدارکها أصلاً، وفی مثل ذلک إذا شک المکلف فی الأثناء فی أنه توضأ قبل الصلاة أم لا؟ یجب علیه استئناف الصلاة بعد التوضؤ؛ لعدم جریان قاعدة الفراغ فیما أتی به من بعض الصلاة؛ لأنها لا تثبت الطهارة بالإضافة إلی الباقی کما لا تجری فی ناحیة التوضؤ قبل الصلاة قاعدة التجاوز؛ لأن الوضوء غیر مشروط بوقوعه قبل الصلاة بل الصلاة مشروطة بوقوعها مع الوضوء من المحدث بالأصغر نعم لو أحرز الوضوء حال الصلاة بالاستصحاب کما إذا کانت الحالة السابقة الطهارة وشک فی بقائها تحرز الطهارة حال الصلاة بالاستصحاب وهذا خارج عن مورد الکلام.

واُخری _ یکون الشرط معتبراً فی تمام العمل ولکن یمکن إحرازه بالإضافة إلی الباقی بالوجدان، کما إذا أحرز المکلف ستره فی أثناء الصلاة وبعد الإحراز شک فی ستره المعتبر بالإضافة إلی الأجزاء السابقة والآنات المتخللة بینها، وفی الفرض لا بأس بجریان قاعدة الفراغ بالإضافة إلی السابقة، والمفروض أنه کان محرزاً للباقی وأن شکه الستر بالوجدان، نعم إذا کان شاکاً فی ستره حتی زمان شکه لم تجر قاعدة الفراغ، ولا قاعدة التجاوز لعین ما تقدم.

وثالثة _ یکون الشرط شرطاً فی أجزاء العمل خاصة لا فی الآنات المتخللة ففی هذا الفرض إذا أحرز الشرط بالإضافة إلی الجزء التالی وشک فی حصول الشرط فی الجزء السابق کما إذا انتصب من الرکوع أو فرغ من ذکره الواجب وشک فی أنه کان

ص : 47

رکوعه مع الاستقرار أو بدونه یحکم بصحة صلاته.

عدم جریان قاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز فی الشک فی العناوین القصدیة فی قصد عناوینها

وینبغی أن نختم المقام بذکر أمرین:

الأول _ ما تقدم من جریان قاعدة الفراغ فیما إذا أحرز الفراغ ومضی العمل وشک بعده فی صحته وفساده، وحیث إن تحقق العمل فی الأفعال التی عناوینها قصدیة موقوف علی قصد تلک العناوین فلا تجری قاعدة الفراغ فیما إذا شک بعد العمل فی قصد عنوانه کما إذا صلی الظهر أو المغرب ثمّ دخل فی صلاة اُخری ثم شک فی أنه أتی بالصلاة الاُخری أو دخل فیها بقصد صلاة العصر أو العشاء أو دخل فیها بقصد صلاة الظهر أو المغرب بزعم أنه لم یصل الظهر أو المغرب ففی هذه الصورة لا یحکم بوقوعها عصراً أو دخل فیها عشاءً لا بقاعدة الفراغ ولا بقاعدة التجاوز؛ أما عدم جریان قاعدة الفراغ؛ لأنه لم یحرز أصل الإتیان بصلاة العصر أو الإتیان والشروع فی صلاة العشاء، وکذا الأمر فی قاعدة التجاوز فإنه لم یحرز أن الجزء المأتی به من العصر أو العشاء ویشک فی الجزء المتقدم علیه. نعم، ربما یقال فی الصلاة إنه إذا رأی نفسه یأتی بنیة العصر أو العشاء وشک فی أنه کان ینوی من الأول کذلک أو کان قصده فی الأول الظهر والمغرب بزعم أنه لم یصلِّها أنه یجری قاعدة التجاوز فی قصد العصر والعشاء، وأنه من الشک بعد تجاوز المحل وهذا مبنی علی أن قصد العنوان فی مثل الصلوات معتبرة شرعاً ومحلها شرعاً عند الدخول فی العمل خصوصاً بملاحظة ما ورد فی روایات معتبرة فی أنها علی ما افتتحت(1)، وقد التزم بذلک السید الیزدی قدس سره فی مسائل العدول فی النیة.

ص : 48


1- 1) الوسائل 4 : 712، الباب 2 من أبواب النیة، الحدیث 2. وفیه: «هی علی ما افتتح الصلاة علیه».

الأمر الثانی _ أنه إذا فرغ من صلاته وشک فی أنه صلاها عصراً بزعم أنه صلی الظهر قبل ذلک أو صلاها ظهراً وقد فرغ منها فالصلاة التی أتی بها محکومة بالصحة سواء نواها ظهراً أو عصراً والصحة علی الأول ظاهرة، وعلی الثانی فإن ترتب العصر علی الظهر اشتراطه ذکری فمع الغفلة تصح عصراً، والصلاة التالیة مرددة بین کونها عصراً أو ظهراً فیأتی بأربع رکعات بقصد ما فی الذمة، وأما إذا صلی أربع رکعات بعنوان صلاة العصر زاعماً أنه صلی الظهر قبلاً ثمّ بعد الفراغ شک فی أنه صلی الظهر قبلها أم لا فلا ینبغی التأمل فی وجوب صلاة الظهر بعد ذلک؛ لأن صحة صلاة العصر مقطوعة؛ لأن اعتبار وقوعها بعد الظهر ذکری یسقط مع الغفلة والعذر، ولا تجری قاعدة الفراغ فی ناحیة صلاة الظهر لعدم إحراز الإتیان بها أصلاً کما لا تجری فی ناحیتها قاعدة التجاوز لعدم الاشتراط فی ناحیتها بوقوعها قبل العصر بل الاشتراط فی ناحیة العصر فقط بأن تقع بعد صلاة الظهر حال الذکر. نعم، ربّما یقال: لزوم الإتیان بصلاة الظهر إنما هو فی صورة الشک فی الوقت المشترک، وأما إذا وقع الشک فی الوقت المختص بالعصر کما إذا شک فی ذلک وقد بقی إلی الغروب مقدار أربع رکعات فتجری قاعدة التجاوز فی ناحیة صلاة الظهر لمضی وقتها ببقاء مقدار أربع رکعات إلی غروب الشمس، ولکن لا یخفی بأنه لم یقم علی هذا الوقت الاختصاصی دلیل والثابت عدم مزاحمة وجوب صلاة الظهر لوجوب صلاة العصر فی مقدار أربع رکعات مع الإتیان بالعصر قبل ذلک المقدار ولم تکن فی البین مزاحمة.

فصل: تمتاز أصالة الصحة الجاریة فی عمل غیر عن قاعدة الفراغ فی جهتین:

الاُولی _ أن قاعدة الفراغ تجری فی عمل نفس المکلف بعد الفراغ عنه والشک

ص : 49

فی صحته وفساده بعده بخلاف أصالة الصحة فإنها تجری فی عمل غیر مع الشک فی صحته وفساده.

الثانیة _ أن قاعدة الاشتغال مجراها عند حصول الشک فی العمل بعد الفراغ عنه بخلاف أصالة الصحة فإنها تجری فی عمل غیر حتی حین الاشتغال بذلک العمل.

فی أصالة الصحة الجاریة علی عمل غیر

اشارة

ثمّ إن أصالة الصحة الجاریة فی عمل غیر تطلق علی معنیین:

الأول _ حمل عمله علی الصحیح فی مقابل القبیح والحرام بأن لا ینسب صدور الحرام إلی غیر ولو بصورة الاحتمال فیما إذا احتمل کونه حلالاً ویختص ذلک بما إذا کان غیر أخاً فی الدین بل فی الإیمان ویدلّ علی ذلک قوله سبحانه: «واجتنبوا کثیراً من الظن إنّ بعض الظن إثم»(1) وقوله سبحانه: «قولوا للناس حسناً»(2) بقرینة ما ورد فی تفسیره «لا تقولوا إلاّ خیراً»(3) وفی صحیحة إبراهیم بن عمر الیمانی عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إذا اتهم الموءمن أخاه انماث الإیمان فی قلبه کما ینماث الملح فی الماء»(4) وعلی الجملة الروایات: «المستفادة منها حمل فعل الأخ فی الإیمان علی الصحیح وسلب جهة السوء ونفی الحرام منه کثیرة لا حمل فعله علی الصحیح بمعنی ترتیب الأثر المترتب علی عنوان الخاص من الصحیح علیه کما إذا تردد

ص : 50


1- 1) سورة الحجرات، الآیة 12.
2- 2) سورة البقرة: الآیة 83.
3- 3) تفسیر البرهان 1 : 263، طبعة الأعلمی، الطبعة الاُولی، 1419 ه _ 1999 م.
4- 4) الوسائل 8 : 613، الباب 161، من أبواب أحکام العشرة، الحدیث الأول.

الصادر عن غیر بکونه سباً له أو سلاماً فإن الوظیفة سلب کونه سباً لا ترتیب أثر کونه سلاماً بأن یجب علیه ردّ التحیة، وکذا إذا سلّم علیه ودار أمر سلامه بین کونه تحیة له أو استهزاءً فیحمل علی الصحیح بأن لا ینسب إلیه أنه یستهزئ والرد إنما یجب إذا أحرز أنه تحیة کما هو ظاهر السلام مع عدم القرینة علی الخلاف لا ما إذا اقترن ببعض الاُمور التی توجب سلب هذا الظهور.

الثانی _ حمل الفعل الصادر عن غیر علی التمام والمراد الحمل العملی یعنی ترتیب الأثر العملی التام علی الصادر عن غیر کما إذا طلق غیر زوجته فیجوز للشاک فی أن الطلاق الصادر عن الزوج صحیح أم لا التزوج بمطلقته بعد انقضاء عدتها حملاً لطلاق زوجها علی الصحیح، وإذا شک المأموم فی صحة صلاة الإمام أو فسادها یجوز له الاقتداء بصلاته لحملها علی الصحة إلی غیر ذلک ویستدل علی اعتبار أصالة الصحة بهذا المعنی بالکتاب والسنة والإجماع:

أما الکتاب فقوله سبحانه: «أوفوا بالعقود»(1) بدعوی أن الخطاب متوجه إلی عامة المکلفین فالوفاء من غیر المتعاقدین ترتیب الأثر علی العقد الصادر من المتعاقدین، وفیه ما ذکرنا فی بحث الفقه من أن الأمر بالوفاء بالعقود انحلالی وفی مثل البیع الصادر من المتعاملین إرشاد إلی لزوم العقد وعدم انحلاله ولیس متضمناً للتکلیف أصلاً مثلاً بالبیع فینتقل المبیع إلی المشتری والثمن إلی بایعه وإذا أمسک البایع بالمبیع ولم یقبضه مع تسلمه الثمن من المشتری یکون إمساکه عدواناً علی المشتری ولو کان القبض بعنوان الوفاء واجباً تکلیفیاً للزم أن یلتزم باستحقاق البایع

ص : 51


1- 1) سورة المائدة: الآیة 1.

عقابین وأنه ارتکب أمرین: أحدهما حرام، والآخر ترک واجب، وهذا ینافی ما ورد فی بایع أمسک بالمبیع من استحقاق المشتری تسلیمه وقبضه ومع الإغماض عن ذلک ودعوی ظهوره فی أنه خطاب لملاک العقد وأرباب العقود فلا ینبغی التأمل فی أن وجوب الوفاء فی العقود ورد علیه التخصیص أو اعتبر فی کل عقد قیداً أو قیوداً کاعتبار الکیل فی بیع المکیل وتعین الثمن ومدته وإذا فرض فی مورد بالشبهة الخارجیة فی کون العقد الصادر عن غیر باقیاً تحت العموم أو خارجاً عنه یکون التمسک بالعموم فی الآیة من التمسک بالعام فی شبهته المصداقیة أضف إلی ذلک أن الآیة لا تدل علی الحکم فی الإیقاعات.

والصحیح أنه لا یمکن إثبات اعتبار أصالة الصحة بمعناها الثانی من الکتاب المجید کما لا یمکن التمسک فی اعتبارها بذیل الإجماع فإن الاتفاق علی حمل عمل غیر علی الصحیح وإن کان أمراً محققاً علی ما نذکر کما یظهر من کلماتهم فی الفروع المتعددة فی الأبواب المختلفة خصوصاً فی مسائل الخصومات فی المعاملات ونحوها إلاّ أن کونه من الإجماع التعبدی بحیث وصل إلیهم ما لم یصل إلینا من المدرک غیر معلوم بل من المحتمل جداً لولا دعوی الیقین أن المستند عندهم ما نذکر من الروایات، والسیرة المستمرة الجاریة من المتشرعة وغیرهم من غیر ردع من ناحیة الشرع من حمل الفعل الصادر عن غیر علی التمام.

فی الاستدلال علی اعتبار أصالة الصحة

وقد یستدل علی اعتبار أصالة الصحة فی المقام بما ورد من التعلیل فی روایة حفص بن غیاث الواردة فی اعتبار قاعدة الید من قوله علیه السلام : «لو لم یجز هذا لما قام

ص : 52

للمسلمین سوق»(1) بدعوی أن هذا التعلیل یجری فی أصالة الصحة أیضاً فإنه لو لم تعتبر أصالة الصحة لما قام أیضاً سوق وناقش فی ذلک المحقق النائینی قدس سره بأن الحاجة إلی أصالة الصحة لیست بمثابة یلزم من عدم اعتبارها العسر والحرج وقاعدة الید تغنی فی الأکثر عن اعتبار أصالة الصحة، ولکن فیه ما لا یخفی، وأن القاعدة لا تغنی عن أصالة الصحة فإن الید لا اعتبار بها فیما إذا علم وجه جریان الید علی المال فلابد فی ترتیب الأثر تصحیح الوجه الذی جری معه الید علی المال کما إذا علم أن المال الذی کان بید زید أمانة عنده اشتراه من مالکه وإذا لم یجری أصالة الصحة فی ذلک الشراء خصوصاً مع دعوی المالک فساده کیف یجوز الشراء من زید؟ وإذا کان الحال کذلک فی بعض موارد الید فکیف الحال فی غیر مواردها؟ مما أشرنا إلیها من أفعال غیر والصحیح فی الجواب مع الغمض عن السند أن غایة ما یقتضی التعلیل المذکور اعتبار أصالة الصحة فی المعاملات الجاریة علی الأموال، والمدعی فی المقام اعتبار الصحة فی أفعال غیر من الواجبات وغیرها مما یطلق علیه المعاملة بالمعنی الأعم، ویمکن اتصافها بالصحة والفساد.

وقد یستدل أیضاً علی اعتبار أصالة الصحة بما ورد فی مشروعیة التوکیل حیث إنه لا یحرز عادة صحة عمل الوکیل إلاّ بالحمل علی الصحة، ولکن لا یخفی ما فی هذا الاستدلال أیضاً فإن ما دل علی مشروعیة الوکالة فی المعاملة ونحوها مدلولها عدم لزوم الإتیان بها مباشرة ولکن لا دلالة له علی اعتبار قول الوکیل فی إحراز صحته فضلاً عن إحرازها بأصالة الصحة حیث لا منافاة بین مشروعیة الوکالة فی معامله

ص : 53


1- 1) الوسائل 18 : 215، الباب 25، من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 2.

ولزوم إحراز صحتها بوجه معتبر ککون الوکیل ثقة أو عدلاً عارفاً بالصحیح والفاسد وعلی الجملة کما یعتبر إحراز أصل عمل الوکیل فی ترتیب الأثر کذلک یعتبر إحراز صحته ولا منافاة بین مشروعیة الوکالة ولزوم هذا الإحراز.

وهذا نظیر ما دل علی صحة الاقتداء بمن یثق بدینه(1) فإن غایة مدلوله إحراز العدالة فی إمام الجماعة فی جواز الاقتداء به، وأما إحراز صحة صلاته فیمکن أن لا یعتبر فی إحرازها أصالة الصحة فلا منافاة بین جواز الاقتداء بالعادل وعدم اعتبار أصالة الصحة فیقتدی به فیما إذا أحرز ولو بالاطمینان أنه لا یصلی بنحو لا یری صحتها.

والعمدة کما أشرنا فی اعتبار أصالة الصحة جریان السیرة الجاریة من العقلاء والمتشرعة من حمل الفعل الصادر عن غیر علی الصحة أی التام وترتیب الأثر علیه ما لم یحرز الخلاف من غیر أن یرد من الشرع ما یدل علی إلغاء السیرة.

موارد الرجوع إلی أصالة الصحة فی عمل غیر

وینبغی التنبیه فی المقام علی اُمور:

الأول _ المراد بالصحة فی المقام المحمول علیها فعل غیر الصحة الواقعیة لا الصحة علی اعتقاد الفاعل کما یظهر الحمل علی ذلک من بعض کلمات المحقق القمی وغیره ممن استند فی اعتبارها لظهور حال المسلم فإن مقتضی الظاهر أی الغلبة فی الفاعل المرید لفعل أنه لا یأتی به علی الوجه الباطل عنده إلاّ مع الغفلة عن بعض خصوصیاته التی یعلم باعتبارها فیه والغفلة أمر نادر بالإضافة إلی تذکر الفاعل

ص : 54


1- 1) الوسائل 5 : 388، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 2.

والتفاته والوجه فی الحمل علی الصحة الواقعیة لا علی الاعتقادیة مقتضی السیرة الجاریة فإنها لا تتبع ظهور الحال خاصة بل یحمل علی الصحة الواقعیة حتی فیما لم یحرز موافقة العامل مع الحامل فی الخصوصیات المعتبرة فی ذلک العمل بل مورد ظهور الحال الموجب للوثوق بصحة عمل غیر یکون خارجاً عن محل الکلام فی أصالة الصحة؛ لأن الوثوق بالشیء فی نفسه حجة عقلائیة فی غیر مقام الدعاوی وأصالة الصحة معتبرة مطلقاً.

الثانی _ قد یعلم عدم علم العامل بالفعل الصحیح والفاسد من جهة جهله بالحکم أو الموضوع فتکون صحة عمله واقعاً بمجرد المصادفة والاتفاق وقد لا یعلم حاله من أنه یعلم الحکم أو الموضوع ولذلک یحتمل صحة عمله لاحتمال علمه بالحکم والموضوع مع احتمال فساده لعدم علمه، وقد یعلم أن العامل یعلم العمل الصحیح والفاسد ومع ذلک یحتمل فساد عمله لاحتمال غفلته حال العمل أو کون الصحیح عنده یغایر الصحیح عند الحامل، وهل یعتبر أصالة الصحة فی جمیع هذه الصور أو تخص جریانها لبعضها؟

الظاهر أنه لا یمکن لنا اعتبار أصالة الصحة فی الصورة الاُولی؛ لأن الدلیل علی اعتبارها السیرة المشار إلیها، وثبوتها فیها غیر محرز، ومع عدم الإحراز لا یمکن رفع الید عن الاستصحاب الجاری فی ناحیة عدم حدوث ذلک الفعل الصحیح المفروض کونه هو الموضوع للحکم بالإضافة إلی غیر، وما قیل فی وجه عدم الجریان من أن الدلیل علی اعتبارها ظهور حال المسلم، وأنه لا یقدم علی العمل الفاسد، وهذا الظهور لا یتحقق مع العلم بحال المسلم، وأنه لا یعرف الصحیح من الفاسد لا یمکن المساعدة علیه لما تقدم من أن اعتبار ظهور الحال غیر اعتبار أصالة

ص : 55

الصحة؛ ولذا تجری أصالة الصحة فیما جهل حال المسلم العامل إذ مع فرض الجهل بحاله لا ظهور فی حاله، وعلی ذلک تجری أصالة الصحة فی الصورة الثانیة فإن جریانها فیها غیر قابل للمناقشة، وأما الصورة الثالثة فیحمل عمل غیر فیها علی الصحیح فیما إذا علم موافقة الحامل مع العامل فی الاعتقاد، وکان احتمال الفساد لاحتمال غفلته حال العمل أو علم اختلافهما، ولکن کان الاختلاف بینهما لا بنحو التباین کما إذا اعتقد العامل صحة الغسل ولو مع عدم الترتیب فی غسل الیمین والیسار، ولکن یری الحامل اعتباره مع احتماله أن العامل أیضاً اغتسل ترتیباً بین یمینه ویساره فیجوز للغیر الائتمام بإمام یری عدم الترتیب بین الیمین والیسار مع احتماله رعایته فی اغتساله، ودعوی عدم إحراز السیرة فی فرض هذا الاختلاف کماتری.

وأما إذا کان الاختلاف بینهما بنحو التباین فلا مورد للحمل علی الصحة فإن احتمال الصحة فی فعل الفاعل فی الفرض لاحتمال غفلته وعدم التفاته، ولیس من دیدن العقلاء والمتشرعة حمل فعل الفاعل علی الغفلة فی مقام ترتیب الأثر. نعم، ربّما یعتبر الشارع اعتقاد الفاعل بصحة عمله موضوعاً للحکم علی السائرین بترتیب الأثر کما هو مفاد قاعدة الالتزام کترتیب الأثر علی نکاح غیر وطلاقه وهذا غیر مورد الکلام فی المقام.

ما یقال من عدم جریان أصالة الصحة عند الشک فی الأرکان

الثالث _ المحکی عن العلامة والمحقق الثانی أن أصالة الصحة تجری فی العقود والإیقاعات فیما إذا کان الشک فی غیر الأرکان منهما، وأما إذا کان المشکوک الرکن فلا تعتبر أصالة الصحة قال: إذا اختلف الضامن والمضمون له فقال الضامن: ضمنت وأنا صبی فلا ضمان علیّ، وقال المضمون له: ضمنت وأنت بالغ حلف

ص : 56

الضامن علی عدم بلوغه حال الضمان، ثمّ قال: ولا تجری أصالة الصحة فی عقد الضمان لیکون منکرها مدعیاً؛ لأن أصالة الصحة تجری فی العقود بعد إحراز أهلیة التصرف کما إذا اختلفا فی تحقق أمر مبطل ففی مثله یقدم قول مدعی الصحة، ونظیر مسألة الضمان ما إذا قال البایع: بعتک المتاع بعبد، وقال المشتری: اشتریته بحرّ فإن فی هذا المورد أیضاً لا تجری أصالة الصحة لیقدم قول البایع بل تجری أصالة عدم بیع المتاع أو قال البایع: بعتک الحر، وقال المشتری: اشتریت العبد فإنه لا یحمل البیع علی الصحة بل الأصل عدم وقوع السبب الناقل بالعبد.

وقال الشیخ قدس سره : لم یعلم الفرق بین مسألة الضمان بدعوی الضامن صغره عند الضمان وبین دعوی البایع صغره عند البیع حیث صرح المحقق الثانی والعلامة بجریان أصالة الصحة ثمّ قال: مقتضی النظر إلی الأدلة من السیرة المشار إلیها ولزوم الإخلال هو التعمیم ولذا لو شک المکلف فی أن اشتراءه المتاع فی السابق کان صحیحاً لبلوغه أم کان صغیراً بنی علی الصحة، ولو قیل: إن الحکم بالصحة فی الفرض لجریان أصالة الصحة فی فعل البایع وهو تملیکه المتاع المفروض جری ذلک فی مسألة الدعوی والإنکار حیث إن أصالة الصحة الجاریة فی فعل البایع توجب تقدیم قوله علی قول المشتری، وکذا یجری فی جمیع العقود حیث إن الحکم بصحة فعل أحد الطرفین یوجب الحکم بوقوع الفعل الصحیح من الآخر لعدم تبعض العقد فی الحکم بالصحة. نعم، إذا لم یکن فی البین طرف آخر کما فی الإیقاعات فلا مورد لهذا الکلام فیها وذکر قدس سره أن الخلاف فی تحقق شرط مفسد للعقد أو الإیقاع وتقدیم مدعی الصحة فیه لا یحتاج إلی أصالة الصحة؛ لأن الأصل فی الاختلاف فی الشرط الفاسد أو المفسد عدم اشتراطه، وإنما الکلام فی أصالة الصحة الموارد التی یکون

ص : 57

الأصل فیها عدم تحقق العقد أو الإیقاع التام لیوءخذ فیها الأصل المذکور ویوءخذ بالتمام لأصالة الصحة الجاریة فیها.

عدم جریان أصالة الصحة فی موارد الشک فی قابلیة الفاعل للفعل أو قابلیة المورد له

ثمّ إنه قد ینسب إلی المحقق الثانی أن مراده مما سبق عدم جریان أصالة الصحة فی موردین:

أحدهما _ ما إذا شک فی قابلیة الفاعل لإیجاد الفعل بمعنی ولایته علی إیجاد الشیء سواء کان الشک فی القابلیة العرفیة والشرعیة کما إذا شک فی کون البایع ممیزاً بالغاً أم لا أو فی القابلیة الشرعیة فقط کما إذا علم کونه ممیزاً والشک کان فی بلوغه خاصة أو شک فی کون المطلق مجنوناً فإنه لا یجری فی شیء من قبیل ذلک أصالة الصحة.

والآخر _ ما إذا کان الشک فی قابلیة المورد سواء کانت القابلیة العرفیة التی أمضاها الشرع أو القابلیة الشرعیة فقط کما إذا شک فی أن العوض فی البیع ماله مالیة عند العقلاء کبعض الحشرات أو فی القابلیة الشرعیة فقط ککون المبیع خلاً أو خمراً فإن هذه الموارد کالصورة الاُولی خارجة عن سیرة العقلاء فتکون موارد الحمل علی الصحة فی العقود أو الإیقاعات فیما إذا کان الشک فیها من غیر ناحیة قابلیة الفاعل والمورد، وأما إحرازها فلابد من أن یکون من وجه معتبر غیر ناحیة أصالة الصحة وبتعبیر آخر یمکن إحراز تمامیتهما بأصالة الصحة من جهة سائر الاُمور المعتبرة فیهما.

وقد یقال: لا ینبغی التأمل فی عدم جریان أصالة الصحة فیما إذا کان الشرط

ص : 58

المشکوک فی العقد أو الإیقاع بحیث لولاه لم یصدق علیه عنوان ذلک العقد أو الإیقاع کالقابلیة العرفیة فی الفاعل أو المورد، وأما إذا کان بحیث لم یمنع فقده عن صدق عنوانهما فیجری أصالة الصحة کالقابلیة الشرعیة؛ لأن السیرة العقلائیة فی الحمل علی الصحة سابق علی الاشتراط الشرعی ولا یمکن دعوی حصول السیرة علی الحمل بعد تشریع العقود والإیقاعات وعلی ذلک ففی الشک فی بلوغ البایع ونحوه أو الشک فی أن العوض فی البیع الواقع کان خمراً أو خلاً فلا بأس بالأخذ بأصالة الصحة.

ولکن لا یخفی ما فی هذا القول فإن أصالة الصحة فی المعاملات وأن تکون بسیرة العقلاء وسیرتهم سابقة علی القیود الشرعیة إلاّ أن المدعی أنه إذا اعتبر فی ناحیة قابلیة الفاعل أمراً بأن یری أن الفاعل الفاقد له غیر قابل للعمل، وکذا فی مورد المعاملة بأن یری أن الفاقد غیر قابل لتلک المعاملة یعاملون المتشرعة من العقلاء مع القابلیة الشرعیة معاملة القابلیة العرفیة ولا یعتمدون علی أصالة الصحة إلاّ بعد إحرازها والسیرة العقلائیة إنما یعتمد علیها مع عدم ثبوت السیرة المتشرعة علی خلافها حیث یعتبر سیرتهم ردعاً کما أن اعتبار البلوغ من الشارع فی العقد والإیقاع ردع عن قابلیة الممیز عند العقلاء ونفی المالیة عن الخمر والخنزیر ردع عما عندهم من اعتبارهما مالاً.

نعم ذکر الشیخ قدس سره أن السیرة الجاریة حتی من المتشرعة هی الحمل علی الصحة حتی فی موارد الشک فی القیود الشرعیة کما یظهر ذلک لمن تتبع سیرتهم فی الأموال المباعة فی السوق فی أیدی الناس فإنهم یتعاملون معها معاملة الملک حتی فیما إذا کان الشک فی انتقالها إلی بعض البایعین من غیر البالغین أو فی مقابل ما

ص : 59

لا یکون مالاً شرعاً، ولکن لا یخفی ما فیه فإن معاملة الملک مع تلک الأموال لیس للحمل علی الصحة بل لقاعدة الید الجاریة فی حق ذی الید.

ومما ذکر یظهر أنه لو علم أن ما بیده من المال قد اشتراه من غیر، ولکن لم یعلم أنه اشتراه قبل بلوغه أم بعده یحکم بکونه ملکاً له لقاعدة الید نظیر ما إذا رأی فی یده مالاً لم یعلم أنه للغیر أو ماله یحکم بکونه له، وعلی الجملة البناء علی ملکیة المال فی مثل الفروض لقاعدة الید لا لقاعدة حمل عمل غیر علی الصحة ویکشف عن ذلک أنه لو رأی أن فلاناً طلق زوجة زید ولکن لم یعلم أنه کان وکیلاً من قبل زید أو أن طلاقه فضولی فلا یحمل فعله علی الصحة بأن یتزوج بها بعد انقضاء عدتها مع احتمال أنه لم یکن وکیلاً من قبل الزوج، ونظیر ذلک ما إذا رأی شخصاً أنه یبیع دار زید، ولکن لا یدری أن البایع وکیل عن زید أو أنه یبیع الدار فضولاً فلا یحمل بیعه علی الصحة بأن یشتریها منه ویعطی الثمن بیده إلی غیر ذلک وإن لم یکن ما ذکرنا محرزاً فلا أقل من عدم إحراز الحمل علی الصحة فی موارد الشک فی قابلیة الفاعل أو المورد.

وقد ذکر الشیخ قدس سره أنه لو تنزلنا عما ذکرنا من جریان أصالة الصحة مع الشک فی القابلیة فلا تجری أصالة الصحة فیما إذا لم یکن فی البین طرف آخر بحیث یلزم لصحة عمله لإحراز القابلیة فیه صحة عمل من یشک فی قابلیته کما إذا شک فی أنه عندما طلق زوجته کان صغیراً فیبطل أم بالغاً وأما إذا شک فی أنه عندما اشتری المال کان صغیراً أم بالغاً فإنه فی هذا الفرض یمکن إحراز صحة شرائه بأصالة الصحة الجاریة فی بیع البایع فإن صحة البیع لا تتبعض فالحکم بصحته من قبل البایع یلزم الحکم بالصحة من جهة الشراء أیضاً بخلاف الشک فی بلوغ الزوج عند طلاق زوجته

ص : 60

أو إبرائه المدیون عن الدین، ولکن لا یخفی ما فیه فإن الصحة المترتبة علی فعل البایع وهو الإیجاب هی الصحة التأهلیة لا الصحة الفعلیة بمعنی أنه لو وقع قبول الإیجاب ممن هو سلطان علی قبوله تم البیع، وأما إنه وقع القبول کذلک أم لا فلا یثبت لصحة الإیجاب فالتفصیل علی فرض عدم الجریان عند الشک فی القابلیة لا أثر له لا یقال: إذا جرت أصالة الصحة فی فعل البایع یمکن تصحیح الشراء أیضاً بقاعدة الفراغ فإن الشراء فعل نفس الشاک ولا یعتبر فی جریان قاعدة الفراغ إلاّ مضی نفس العمل والشک فی صحته بعد ذلک، وإذا أحرز صحة فعل نفسه والمفروض إحراز فعل البایع یحقق الموضوع للصحة الفعلیة فإنه یقال: لا یثبت بلوغ المشتری لا بأصالة الصحة فی فعل البایع ولا بقاعدة الفراغ لعدم اعتبار الأصل المثبت والشک فی الصحة ناش من الشک فی البلوغ علی ما تقدم فی بیان الفرق بین قاعدة التجاوز والفراغ وقاعدة الفراغ، تتکفل لإحراز العمل الصحیح فی مقام الامتثال لا لإثبات الحکم وإحرازه بإحراز الموضوع.

وعلی الجملة: قاعدة الید الجاریة علی المال الذی بیده مقتضاها کونه ملکاً له فلا تصل النوبة إلی أصالة عدم وقوع الشراء علی ذلک المال: لأنه لا یترتب علیه إلاّ عدم کونه مالکاً لذلک المال فتکون قاعدة الید حاکمة علیها والعجب من الشیخ قدس سره حیث یلتزم فی بعض الاُمور الآتیة أن أصالة الصحة فی الإیجاب لا تثبت وقوع القبول.

جریان أصالة الصحة فی الأفعال التی عناوینها قصدیة

الرابع _ هو أن جریان أصالة الصحة فی عمل غیر ینحصر فی ما إذا أحرز أصل صدور العمل عن غیر وکان الشک فی صحته وفساده، وأما إذا لم یحرز أصل العمل فلا موضوع لأصالة الصحة، وعلی ذلک لو وقع الشک فی زوال عین النجاسة عن

ص : 61

الثوب الذی غسله غیر لا تجری أصالة الصحة فی غسله فإن مع احتمال بقاء العین لا یحرز غسل موضعها بخلاف ما إذا أحرز زوال العین، ولکن شک فی طهارة الثوب ونجاسته للشک فی ورود الماء علی الثوب المتنجس أو وروده علی الماء القلیل المغسول به فإنه لا بأس بأصالة الصحة، ونظیر ما ذکر ما إذا شک فی کون الصادر عن غیر بقصد النیابة عن غیر أم لا فإن قصد النیابة یوجب استناد الفعل إلی المنوب عنه وأصالة الصحة لا تثبت حصول ما کان علی المنوب عنه ولذا یتعین إحراز صدور الفعل عن الأجیر بقصد النیابة فی القضاء عن المنوب عنه ولو کان الإحراز بإخبار الأجیر إذا کان ثقة وکذا بإخبار غاسل الثوب بإزالة العین.

نعم، بعد إحراز أن فعل الأجیر وصدور العمل عنه بقصد النیابة یحمل عمله علی الصحیح إذا کان ممن یحتمل فی حقه علمه بالصحیح والفاسد بخلاف ما إذا لم یعلم صدور الفعل عنه بقصد النیابة فإنه لا مجری لأصالة الصحة مع عدم العلم بصدور العمل بقصدها.

وعن الشیخ قدس سره أن ما یأتی به الشخص من العمل الذی علی عهدة غیر کالصلاة عن المیت لها جهتان: إحداهما _ أن ما یأتی به هو العمل علی غیر، والاُخری _ أنه عمل المباشر، وللفعل المأتی به آثار الجهتین مثلاً یراعی فی صلاته عن المیت ما علی المیت من القصر والتمام، ومن حیث إنها فعله یراعی وظیفة الجهر والإخفات والستر وترک لبس الحریر وعلی ذلک فإن شک فی قصده النیابة لا یترتب علیه سقوط ما کان علی المیت وإن یستحق الاُجرة بمقتضی أصالة الصحة، ولکن لا یخفی ما فی تفکیکه قدس سره بین استحقاق الاُجرة وسقوط ما علی المنوب عنه فإنه مع إحرازه قصد النیابة لا یحرز تسلیم العمل المستأجر علیه حتی یستحق المطالبة بالاُجرة.

ص : 62

وبتعبیر آخر أصالة الصحة فی عمل النائب لا تثبت وقوعه بقصد النیابة عن غیر واستحقاق الاُجرة مترتب علی وقوعه صحیحاً بقصد النیابة، وما دام لم یثبت ذلک فلا یستحق الاُجرة ثمّ إن وقوع العمل منه بقصد النیابة أم لا، لا یعلم إلاّ من قبل العامل نوعاً ولا سبیل للغیر إلی العلم بقصده فهل یکتفی فی إحراز ذلک مجرد أخباره بوقوع العمل بقصدها علی ما هو المعروف فی الألسنة أن کل ما لا یعلم إلاّ من قبل الشخص یقبل قوله فیه، أو لابد من إحراز ثقته أو عدالته حتی یقبل قوله فیه، وقد أشرنا إلی کفایة إخباره إذا کان ثقة ولا تعتبر العدالة حیث إن مقتضی السیرة العقلائیة الاکتفاء بخبر الثقة فی مثل هذه الموارد وأما ما هو معروف فی الألسنة فلا دلیل علیه علی عمومه.

نعم: قام الدلیل فی بعض الموارد علی قبول قول الشخص فیه من غیر اعتبار کونه ثقة کقبول قول المرأة فی حیضها وطهرها وکونها معتدة أو انقضت عدتها، وأما بالإضافة إلی الأفعال التی لا تکون عناوینها قصدیة ومع ذلک یتصف الفعل بالصحة تارة وبالفساد اُخری فالحمل علی الصحة فیها فیما إذا اُحرز أو احتمل أن الفاعل یعلم الصحیح منه والفاسد أو احتمل ذلک فی حقه علی ما تقدم فإنه مع هذا الفرض فی مورد یحمل فعله علی الصحیح، وعلی ذلک فإن علم أن غاسل الثوب لا یعلم نجاسته أو لا یعلم کیفیة تطهیره من نجاسة البول مثلاً فلا مورد لأصالة الصحة، وهل یعتبر فی الحمل علی الصحة مضافاً إلی ما ذکر إحراز أن الفاعل یرید الفعل الصحیح؟ کما إذا کان للفعل عنوانان کغسل الثوب المتنجس فإنه ینطبق علیه عنوان الغسل وعنوان التطهیر إذا روعی فی الغسل شرایط التطهیر فهل یکتفی فی الحمل علی الصحة ما إذا اُحرز أن الفاعل قصد غسله أو یعتبر إحراز قصده عنوان التطهیر فإن لم یحرز ذلک فلا تجری أصالة الصحة؛ لأن الدلیل علی اعتبارها هی السیرة

ص : 63

المشار إلیها ولم یحرز ثبوتها مع عدم إحراز العنوان الثانی کما إذا احتمل أن الفاعل ممن لا یبالی بوقوع الفعل صحیحاً أو فاسداً ولا یبعد أن یکون إحراز السیرة فی خصوص إحراز قصد الصحیح فی الموارد المذکورة.

الخامس _ ذکر الشیخ قدس سره أن مقتضی أصالة الصحة فی عمل تحققه واجداً لما یعتبر فی ترتب الأثر المقصود منه مثلاً صحة الإیجاب کونه بحیث إن تحقق معه قبول مع سائر ما یعتبر فی ترتب الأثر المرغوب منه ترتب ذلک الأثر من انتقال المالین فی البیع والإجارة ونحوهما والزوجیة فی النکاح إلی غیر ذلک ولو شک فی کون الصادر عن الموجب فاسد بمعنی عدم کون إیجابه واجداً لما یعتبر فی الإیجاب ککونه بالعربی یحکم بکونه صحیحاً، ولکن إذا شک فی حصول القبول أو فی تحقق القبض المعتبر فی الهبة وبیع السلم والصرف إلی غیر ذلک فلا یقتضی حمل الإیجاب علی الصحة تحققها؛ لأن الثابت بأصالة الصحة الجاریة فی الإیجاب الصحة التأهلیة وهی کونه بحیث یترتب علیه الأثر المرغوب علی تقدیر حصول غیره مما یعتبر من القبول والقبض إلی غیر ذلک.

ثمّ قال: وعلی ذلک فلو رجع المرتهن عن إذنه للراهن فی بیع الرهن وشک فی أن بیع الراهن کان قبل رجوعه عن إذنه أم بعده فلا یمکن الأخذ بأصالة الصحة فی إذنه فی الحکم بصحة البیع، ولا بأصالة الصحة فی رجوعه فی الحکم بفساده؛ لأن أصالة الصحة فی الإذن معناه أنه لو وقع البیع بعده وقبل الرجوع حصل انتقال الرهن إلی المشتری والثمن إلی الراهن وهذه الصحة التأهلیة قطعیة حتی علی فرض إحراز وقوع البیع بعد الرجوع کما أن صحة الرجوع معناها أنه علی تقدیر وقوع البیع بعده لما ترتب علیه النقل والانتقال کما لا تجری أصالة الصحة فی نفس البیع فإنه لا تثبت وقوع البیع بعد الإذن وقبل الرجوع إلاّ أن یتمسک فی إثبات صحة البیع بالصحة الفعلیة بالاستصحاب فی

ص : 64

ناحیة بقاء الإذن عند البیع وعدم الرجوع فیه إلی تمام العقد ولکن هذا التمسک مع أنه لا یرتبط بأصالة الصحة یعارضه الاستصحاب فی ناحیة عدم البیع إلی زمان الرجوع، ولا یخفی أن ما ذکره فی المقام ینافی ما تقدم منه قدس سره من أنه لو شک فی أن شراءه السابق کان حال بلوغه أو صغره تکون أصالة الصحة الجاریة فی بیع البایع موجباً للحکم بصحة الشراء.

أقول: لا یخفی أنه لو کان إذن المرتهن فی بیع الرهن إسقاطاً لحق الرهانة فلا یفید رجوعه عن إذنه ویصح بیع الراهن وإن لم یکن إسقاطاً له فأصالة الصحة وإن لا تجری فی بیعه إلاّ أنه یحکم بصحة بیعه للاستصحاب فی بقاء إذنه وعدم رجوعه إلی تمام البیع، ولا یعارض هذا الاستصحاب بالاستصحاب فی عدم وقوع البیع إلی زمان الرجوع فإن هذا الاستصحاب لا یثبت وقوعه بعد رجوعه وبتعبیر آخر وقوع البیع محرز وکأن المرتهن قد أذن فی البیع قبل ذلک، وإذا أحرز عدم رجوعه وبقاء إذنه إلی زمان البیع یتم موضوع النقل والانتقال.

وقد تحصل مما تقدم أنه لو أحرز حصول الفعل ممن له سلطنة علی ذلک الفعل فی مورد قابل له فمع احتمال أن الفاعل یعلم بکیفیة الفعل الصحیح یحمل فعله علی الصحة، وإن توقفت الصحة الفعلیة علی حصول فعل شخص آخر لا یعلم بحصوله فلا یحرز حصوله بأصالة الصحة فی فعل ذلک الفاعل کما إذا شککنا فی حصول القبول للطرف الآخر فی العقد فلا یثبت حصوله بأصالة الصحة فی إیجاب الموجب، وکذلک إذا شککنا فی حصول القبض من المتهب فإن أصالة الصحة فی الإیجاب والقبول لا تثبت تحقق القبض بلا فرق بین القول بأن القبض وصول المال إلی ید المتهب أو التخلیة بینه وبین المال بحیث یمکن له أخذه.

ص : 65

عدم اعتبار أصالة الصحة فی موارد جریانها بالإضافة إلی مثبتاتها

السادس _ لا یخفی أن أصالة الصحة فی عمل غیر إنما تقتضی ترتیب الأثر المترتب علی ذلک الفعل وأما اللازم لصحته أو ملازمها فلا یثبت شیء منهما مع الشک فی وجودهما بأصالة الصحة فی ذلک العمل بأن یترتب الأثر الشرعی علی ذلک اللازم أو الملازم أیضاً، وهذا لعین ما ذکرناه فی عدم اعتبار الاستصحاب أو قاعدة الفراغ بالإضافة إلی مثبتاتها سواء قلنا بأن أصالة الصحة فی عمل غیر کقاعدة الفراغ والاستصحاب من الاُصول العملیة أو أنها من الأمارات فإن عمدة الدلیل علی اعتبارها السیرة الجاریة من العقلاء حتی عند المتشرعة منهم، والسیرة فی إثبات ما ذکر غیر محرزة إن لم یحرز عدم ثبوتها، وقد فرع الشیخ قدس سره علی ذلک ما إذا شک فی أن شراء المشتری من البایع کان بعین مملوکة له أو کان الثمن فی الشراء الخمر أو الخنزیر فیحکم بأصالة الصحة بصحة الشراء ولکن لا یحکم بخروج تلک العین عن ملک المشتری ومن ترکته إن مات ودخولها فی ملک البایع لأصالة عدم انتقالها عن ملکه، وهذا نظیر ما تقدم من أنه لو شک فی صلاة العصر أنه صلی الظهر قبل ذلک أم لا أنه یحکم بفعل الظهر من حیث کونه شرطاً لصلاة العصر لا فعل الظهر من حیث هو واجب نفسی حتی لا یجب إتیانه ثانیاً إلاّ إذا کان الشک فی الشیء بعد خروج وقته.

ولا یخفی ما فی کلامه فی مسألة الشک فی أن الشراء کان بما یملکه من العین أو بما لا یملکه من الخمر والخنزیر حیث تقدم أنه لا مجری لأصالة الصحة إلاّ مع إحراز قابلیة المورد ومع الشک المفروض لا یحرز قابلیة العوض للشراء به فیوءخذ بالاستصحاب فی بقاء تلک العین فی ملک المشتری إلی زمان موته فإن کان المبیع موجوداً یحکم ببقائه علی ملک بایعه أخذاً بالاستصحاب بلا فرق بین أن یکون ذلک

ص : 66

المبیع بید بایعه أو بید المشتری فإنه إن کان بید بایعه فالأمر ظاهر لقاعدة یده علیه، وإن کان بید المشتری لوقوع المعارضة بین یده علی المبیع ویده علی تلک العین، وبعد تساقطهما یرجع إلی بقاء المالین علی حالتهما الأولیة.

وأما ذکره قدس سره من التنظیر فلا یمکن المساعدة علیه سواء کان الشک فی الإتیان بالظهر أثناء صلاة العصر أو بعد الفراغ عنها فإنه إن وقع الشک لم تجر قاعدة الفراغ ولا التجاوز فی صلاة الظهر حیث إن صلاة العصر من أولها إلی آخرها مشروطة بوقوعها بعد الظهر. ومع الشک فی أثناء شک فی صحة العصر قبل الفراغ منها وصلاة الظهر غیر مشروطة بوقوعها قبل العصر لیجری فیها قاعدة التجاوز فالوظیفة حینئذٍ العدول من العصر إلی الظهر، وأما إذا شک فی إتیان الظهر بعد الفراغ من العصر فصلاة العصر صحیحة قطعاً؛ لأن اشتراط الترتیب ذکری وعلیه الإتیان بالظهر للاستصحاب فی عدم الإتیان بها ولکون الشک فیه قبل خروج الوقت.

ثمّ إن الشیخ قدس سره تعرض لما ذکره العلامة فی القواعد من آخر کتاب الإجارة قال العلامة فی مسألة اختلاف المؤجر والمستأجر: کما إذا قال الموءجر آجرتک الدار کل شهر بدرهم وقال المستأجر استأجرتها منک سنة بدینار ففی تقدیم قول المستأجر نظر حیث إن أصالة الصحة فی الإجارة لا تعین السنة، وإن قلنا بتقدیم قول المالک فالأقوی صحة العقد فی الشهر الأول(1).

أقول: لا یمکن القول فی فرض المسألة بصحة الإجارة فی الشهر الأول: لأن الموءجر یدعی إجارة کل شهر بدرهم فیطالب المستأجر فی الشهر الأول بدرهم

ص : 67


1- 1) قواعد الاحکام 2 : 310.

والمستأجر یدعی الإجارة فی سنة بدینار، وبناءً علی انحلال الإجارة یدعی المشتری تملک منفعة الدار فی الشهور الباقیة أیضاً فی مقابل دینار وإذا کان الدینار بعشرة دراهم تکون الاُجرة الواقعة فی شهر أقل من درهم فلا اتفاق بینهما فی الإجارة بشیء حتی فی الشهر الأول فیکون المرجع التحالف لأصالة عدم جریان الإجارة لا علی سنة ولا علی شهر علی ما یذکره مالک الدار.

نعم، إذا کانت الاُجرة التی یدعیها المالک لکل شهر مساویة للاُجرة الانحلالیة أو أکثر فأمکن أن یقال بصحة الإجارة فی الشهر الأوّل: لأن إجارته متفق علیها بینهما من غیر دعوی للموءجر علی المستأجر بخلاف المستأجر فإنه یدعی تملک المنفعة فی الشهور الآتیة من الثمن فالمالک ینکرها ثمّ ذکر الشیخ قدس سره ما ذکره العلامة فی آخر کلامه قال العلامة: وکذا الإشکال فی تقدیم قول المستأجر فیما إذا اختلف الموءجر والمستأجر فی تعیین المدة أو الاُجرة فادعی الموءجر عدم التعیین وأن الإجارة فاسدة وقال المستأجر التعیین فیهما وأن الإجارة صحیحة ثمّ استقرب العلامة قدس سره تقدیم قول المستأجر لأصالة الصحة فیما إذا لم یتضمن کلام الموءجر دعوی علی المستأجر.

وما ذکر قدس سره عن العلامة ثانیاً فی ذیل کلامه المتقدم فی القواعد ما إذا اختلف الموءجر والمستأجر فی تعین المدة أو الاُجرة فادعی الموءجر عدم التعیین فتکون الإجارة باطلة وقال المستأجر بالتعیین فیهما فتکون صحیحة فإن العلامة قد استشکل فی تقدیم قول المستأجر لما تقدم من أن أصالة الصحة لا تثبت ما عینه المستأجر من المدة أو الاُجرة ثمّ ذکر أن الأقوی التقدیم فیما إذا تضمن قول المستأجر دعوی علی المالک(1) وقال فی

ص : 68


1- 1) قواعد الاحکام 2 : 310.

جامع المقاصد فی شرح هذا الکلام أن المستأجر إن ادعی الاُجرة المسماة بمقدار اُجرة المثل أو الأزید فلا یکون قوله متضمناً للدعوی علی الموءجر وإن کان أقل یکون قوله متضمناً لدعوی الضرر علی الموءجر فلا وجه لتقدیم قوله حیث إن نقص الاُجرة ضرر علی المالک وأصالة الصحة لا تثبته.

أقول: یفرض تارة، اختلافهما بعد انقضاء المدة التی یدعیها المستأجر واُخری قبل انقضائها فإن کان الاختلاف بعد الانقضاء وکون الاُجرة المسماة بمقدار اُجرة المثل أو الأزید فلا مورد لأصالة الصحة؛ لاستحقاق الموءجر الاُجرة المساویة لاُجرة المثل سواء کانت الإجارة صحیحة أم فاسدة؛ لأن استیفاء منفعة الدار أو تلفها بید المستأجر موجب للضمان إذا لم یکن التسلیط تبرعیاً وأما إذا کان قول المستأجر الاُجرة الأقل من اُجرة المثل یکون متضمناً للدعوی علی المالک بعدم استحقاق مقدار الناقص وأصالة الصحة فی الإجارة لا تعین الاُجرة الأقل فیحلف المالک علی ما یدعیه ویأخذ منه اُجرة المثل؛ لقاعدة الضمان المشار إلیها، وکذا یتضمن قول المستأجر لدعوی علی الموءجر إذا کان الاختلاف بینهما قبل انقضاء مدة الإجارة التی یدعیها المستأجر حیث قوله یتضمن دعوی تملکه لمنفعة الدار فی تلک المدة فلا یجوز للموءجر أخذ العین منه فیحلف المالک ویأخذ العین.

بقی فی المقام أمر وهو أنه لا ینبغی التأمل فی تقدیم أصالة الصحة علی الاستصحاب الحکمی نظیر بقاء المال علی ملک مالکه الأولی، وعدم حدوث الزوجیة، وغیر ذلک فإن مع جریان أصالة الصحة فی عمل عقداً کان أو إیقاعاً أو غیرهما لا یبقی شک فی الصحة وما یترتب علیها من سائر الآثار، وکذلک لا ینبغی التأمل فیما کان مع قطع النظر عن أصالة الصحة أصل موضوع یقتضی بطلان عمل

ص : 69

غیر عند الشک فیه یسقط عن الاعتبار مع جریان أصالة الصحة، وإن کان منشأ الشک فی الصحة الشک فی تحقق ذلک الشیء بأن یحسب ذلک الشیء تحققه موضوعاً أو قیداً لموضوع الصحة حیث مع إحراز جریان أصالة الصحة بالسیرة الجاریة فیها فی المورد یلغی الأصل النافی فی المورد کالاستصحاب فی عدم ذلک الشیء، ولا یمکن أن تکون أدلة اعتبار الاستصحاب رادعة من السیرة؛ لما تقدم فی بحث حجیة الأخبار أن الردع عن السیرة لابد من أن یکون وارداً فی خصوص مورد السیرة کما إذا علمنا بوقوع الطلاق من الزوج لزوجته فی حضور شخصین نشک فی عدالتهما فمقتضی أصالة الصحة وقوع الطلاق صحیحاً فیجوز للغیر تزوجها بعد انقضاء عدتها، ولکن لو کان لعدالتهما أثر آخر غیر مربوط بصحة الطلاق لا یترتب علی أصالة الصحة ذلک الأثر کما إذا أردنا الاقتداء بأحدهما فی الصلاة أو حضرا عند القاضی بالشهادة لأمر فلا یجوز للقاضی الاعتماد علی أصالة الصحة فی ذلک الطلاق فی قبول شهادتهما فی المرافعات؛ لأن الثابت بمقتضی السیرة هو الحکم بصحة طلاق الزوج عندهما إذا احتمل أن الزوج یعرف اشتراط حضور العدلین فی طلاق زوجته وأما إذا لم یثبت جریان السیرة علی الحمل علی الصحة کما فی موارد الشک فی قابلیة الفاعل أو قابلیة المورد فیرجع فیها إلی مقتضی الأصل النافی علی ما تقدم لعدم اعتبار أصالة الحمل علی الصحة فیها ومما ذکرنا یظهر أن ما ذکره الشیخ قدس سره فی تقریب تقدیم أصالة الصحة علی الأصل الموضوعی فی موارد جریانها.

عدم جریان الاستصحاب فی ناحیة عدم الشرط مع جریان أصالة الصحة

وقد ظهر مما ذکرنا أن الوجه فی تقدیم أصالة الصحة علی الاستصحاب فی ناحیة عدم حصول الشرط فی العقد أو الإیقاع أو غیرهما فی موارد إحراز قابلیة

ص : 70

الفاعل، والمورد هو أن إحراز جریان السیرة علی الحمل بالصحة فیه یوجب إلغاء الاستصحاب فی ناحیة عدم حصول الشرط؛ لأن مع عدم الإلغاء یوجب لغویة اعتبار أصالة الصحة؛ لأن فی جل موارد الحمل علی الصحة یکون مقتضی الاستصحاب فساد العمل نظیر ما تقدم فی قاعدة الفراغ من أن تقدیم الاستصحاب فی عدم الوضوء عندما شک فیه بعد الفراغ من الصلاة یوجب إلغاء قاعدة الفراغ.

ولکن ذکر الشیخ لعدم جریان الاستصحاب مع أصالة الصحة وجهاً آخر وهو أن الاستصحاب فی عدم بلوغ البایع مثلاً فی العقد الواقع خارجاً لا یقتضی بنفسه عدم حصول النقل والانتقال بل بما أن مع صدوره من غیر بالغ لا یتحقق العقد الصادر من البالغ وصدوره من البالغ سبب لحصول النقل والانتقال وعدم حصول المسبب مستند إلی عدم حصول السبب لا لصدور العقد من غیر بالغ وإذا کان مقتضی أصالة الصحة صدور العقد المفروض من البالغ ثبت السبب ولم یبق مجال لعدم تحقق السبب وبتعبیر آخر صدور العقد من غیر البالغ ضد للسبب الناقل لا أنه بنفسه یقتضی عدم المسبب، والذی یقتضی عدم المسبب عدم السبب ولا مجال لعدم السبب مع ثبوت السبب بأصالة الصحة، ولکن لا یخفی ما فیه فإنه لولا لزوم اللغویة وعدم المعنی لاعتبار الاستصحاب مع جریان السیرة علی الحمل علی الصحة کما إذا فرض عدم اللغویة وکون الدلیل علی اعتبار الحمل علی الصحة دلیلاً لفظیاً قابلاً للمعارضة والتخصیص لکان الاستصحاب فی عدم بلوغ البایع فی العقد الصادر خارجاً مثبتاً لعدم تحقق السبب.

وبتعبیر آخر إذا کان مقتضی أصالة الصحة فی البیع تحقق السبب وهو وقوع البیع المفروض من البالغ کان مقتضی استصحاب عدم البلوغ فی الصادر عنه البیع

ص : 71

عدم تحقق السبب الناقل والحاصل الوجه فی تقدیم أصالة الصحة علی الاستصحاب ما ذکرنا من ثبوت حصول الشرط بالإضافة إلی العمل الواقع عن غیر لا الحکم بحصوله فی نفسه حتی بالإضافة إلی سائر الآثار المترتبة علی حصوله.

قاعدة الید

فی تقدم قاعدة الید علی الاستصحاب

لا ینبغی التأمل فی عدم جریان الاستصحاب فی موارد جریان قاعدة الید سواء قیل بأن قاعدة الید من الأمارات أو أنها من الاُصول لما تقدم فی وجه تقدیم أصالة الصحة فی عمل غیر من أنه لولا تقدمها علی الاستصحاب لاختص جریانها بموارد نادرة حیث إن الوجه المذکور یجری فی تقدیم قاعدة الید أیضاً وأنه لولاها لما کان للمسلمین سوق فإن الأیدی إلاّ فی النادر مسبوقة بعدم الملکیة وقد اشتهر عدم جریان قاعدة الید فی موردین، وأنه یوءخذ فیهما بمقتضی الاستصحاب لا لتقدیم الاستصحاب علی قاعدة الید بل؛ لأن قاعدة الید لا دلیل علیها فیهما وإن یظهر من کلام المحقق النائینی والیزدی حکومة خطابات الاستصحاب علی قاعدة الید فیهما.

المورد الأوّل _ ما إذا اعترف ذو الید بانتقال المال إلیه من المدعی أو مورثه فإنهم ذکروا أن قول ذی الید بأن المال ملکه إذا انضم إلیه اعترافه بأن المال انتقل إلیه من المدعی بالبیع أو بالهبة أو بغیر ذلک ینقلب إلی الدعوی علی من اعترف له بأن المال کان ملکاً له أو لمورثه فیصیر المدعی علی ذی الید منکراً وذو الید مدعیاً حیث إن صاحب الید یدعی بحسب اعترافه انتقال المال إلیه عمن اعترف له بأنه

ص : 72

کان مالکاً والمعترف له ینکر النقل والانتقال وعدم اعتبار قاعدة الید فی الفرض لما ذکرناه من أن عمدة الدلیل علی اعتبارها السیرة العقلائیة حتی من المتشرعة ولا یأخذون بالید فی موارد اعتراف ذو الید فی مقابل دعوی المعترف له أو وارثه وأما الروایة أیضاً فلا یزید مدلولها غیر إمضاء السیرة العقلائیة کما یظهر بالتأمل فی مدلولها والتعلیل الوارد فیها.

وذکروا أن ذلک مقتضی اعتراف ذی الید لا مقتضی کون المال سابقاً ملکاً للمدعی لئلا یکون فرق فی انقلاب الدعوی بین اعتراف ذی الید أو قیام البینة بأن المال کان فی السابق ملکاً للمدعی أو مورثه أو علم القاضی بذلک فإن مقتضی نفوذ الإقرار وترتیب الأثر علیه غیر إحراز الواقع وترتیب الأثر علیه کما إذا اعترف ذو الید بأن المال الذی بیده لزید ثمّ اعترف ثانیاً بأنه لعمرو فإنه ینفذ کلا الإقرارین توءخذ منه العین فتعطی لزید وتوءخذ منه القیمة وتعطی لعمرو مع أن المال فی الواقع لأحدهما لا لکل واحد منهما. وقد نوقش فی الالتزام بالانقلاب بأنه لا یصح علیه المنقول فی الاحتجاج وغیره عن أمیر الموءمنین قدس سره فی مخاصمة فاطمة علیهاالسلام مع الأوّل فی أمر فدک حیث اعترفت (سلام اللّه علیها) بأن فدکاً کانت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد أخذتها من أبیها نحلة(1).

وحیث إن أبا بکر بزعمهم کان ولیاً تکون دعواه بأنه صدقة وفیء للمسلمین مع انضمام اعترافها علیهاالسلام بأنها کانت لرسول اللّه موجباً لانقلاب الدعوی مع أن علیاً علیه السلام قد أنکر علی أبی بکر مطالبته البینة من فاطمة علیهاالسلام علی أنه نحلة أبیها وأنه یلزم

ص : 73


1- 1) الاحتجاج (للطبرسی) 1 : 234. الاُسوة للطباعة والنشر.

مطالبته البینة ممن یدعی علی فاطمة علیهاالسلام .

وقد أجاب المحقق النائینی قدس سره عن المناقشة بأن اعتراف ذی الید بکون المال فی السابق للمدعی أو مورثه وأن یوجب الإنقلاب فی الدعوی فیکون ذو الید مدعیاً والمدعی منکراً إلاّ أن قضیة أمر فدک لا تدخل فی هذه الکبری، والوجه فی ذلک أن التبدل فی الملکیة التی هی إضافة خاصة بین المال والمالک یکون: بتبدل المالک تارة بأن یقوم غیر مقام المالک کما فی مورد الإرث فإن الورثة بموت المورث یقومون مقامه فیکون المال المضاف إلی المورث مضافاً إلیهم، ویکون بتبدل المملوک اُخری کما فی مورد البیع وغیره من المعاوضات المالیة فإنه إذا باع المالک داره بثمن کان المضاف إلی مالکها قبل البیع هو الدار وبعد البیع یکون الثمن کما أن الأمر فی ناحیة المشتری بالعکس، ویکون ثالثةً بتبدل نفس الإضافة کما فی مورد الهبة والوصیة فإن الواهب عند هبته یوجد إضافة المال الموهوب إلی المتهب ویقطعها عن نفسه کما أن الموصی یقطعها عن نفسه فی ظرف موته ویوجدها للموصی له، ففی قضیة فدک المسلمون أو فقراؤهم لم یکونوا وارثین للنبی صلی الله علیه و آله علی طبق الحدیث المجعول حتی یکون إقرار فاطمة علیهاالسلام بأن فدکاً کانت لأبی وقد جعلها نحلتی حال حیاته اعترافاً لکونها للمسلمین أو فقرائهم فیوجب الانقلاب فی دعواها بل هذا نظیر ما کان ذو الید مدعیاً أن المال الذی بیده قد انتقل إلیه من زید المتوفی حال حیاته وقال شخص أو أشخاص من غیر ید علی ذلک المال أن زیداً أوصی لنا ذلک المال فإنه یحسب ذو الید منکراً وعلی المدعین للوصیة لهم إقامة البینة علیها بل الأمر فی الحدیث المجعول لیس من قبیل الوصیة أیضاً حیث إن فقراء المسلمین مصرف لذلک المال علی طبق ذلک الحدیث فلم یبق فی مقابل ید فاطمة علیهاالسلام إلاّ استصحاب

ص : 74

وأما القرعة فالاستصحاب فی موردها یقدم علیها؛ لأخصیّة دلیله من دلیلها لإعتبار سبق الحالة السابقة فیه دونها، واختصاصها بغیر الأحکام إجماعاً لا یوجب الخصوصیة فی دلیلها بعد عموم لفظها لها، هذا مضافاً إلی وهن دلیلها

بقاء فدک فی ملک رسول اللّه إلی وفاته وهذا الاستصحاب محکوم بقاعدة الید، وملخص الکلام إنما تنقلب الدعوی باعتراف ذی الید إذا کان المدعی فی الواقعة نفس المعترف له أی المقر له ویلحق بذلک إذا کان المدعی وارث بحیث یقوم مقام نفس المقر له ففی هذه الصورة لا اعتبار بید ذی الید بل یحسب مدعیاً وأما إذا کان المدعی أجنبیاً عن المقر له المتوفی بأن ادعی شخص أنه أوصی له المتوفی بذلک المال فعلیه إقامة البینة علی دعوی الوصیة له وإلاّ یحلف ذو الید ویسقط بحلفه دعوی المدعی.

المورد الثانی _ ما إذا علم کون الید فی السابق من ذی الید ید غیر ملک بأن کان المال فی یده أمانة أو عاریة أو إجارة أو غصباً وشک فی تبدلها إلی ید ملک فیقال هذه الید غیر معتبرة ولا تکون مثبتة للملک، وقیل وجهه کما عن السید الیزدی فی ملحقات العروة والمحقق النائینی أن الاستصحاب الجاری فی ناحیة حال الید یخرجها عن موضوع اعتبار قاعدة الید فإن الموضوع لها الید المشکوکة ومع الاستصحاب فی کونها علی ما کان لم یبق شک فیها، وهذا نظیر الاستصحاب فی عدم البلوغ فی المفتی حیث یخرج فتواه عن الاعتبار، وفیه ما لا یخفی فإن ظاهر القائلین بعدم اعتبار قاعدة الید فی الفرض أن عدم اعتبارها لا للاستصحاب بل لو لم یجر الاستصحاب أیضاً کما لو قیل بعدم اعتبار الاستصحاب لکان المرجع غیر قاعدة الید حیث إن العمدة فی دلیل اعتبار قاعدة الید السیرة المشار إلیها ولم تحرز السیرة فی مفروض المقام، وما تقدم فی روایة حفص بن غیاث: «لو لم یجز ذلک لم یقم

ص : 75

بکثرة تخصیصه، حتی صار العمل به فی مورد محتاجاً إلی الجبر بعمل المعظم، کما قیل، وقوة دلیله بقلة تخصیصه بخصوص دلیل.

لا یقال: کیف یجور تخصیص دلیلها بدلیله؟ وقد کان دلیلها رافعاً لموضوع دلیله لا لحکمه، وموجباً لکون نقض الیقین بالیقین بالحجة علی خلافه، کما

للمسلمین سوق»(1) ظاهرها الید المشکوکة علی المال من حین الحدوث مع أن سندها لا یخلو عن المناقشة، وقد یقال: إنه یعم المفروض قوله علیه السلام فی موثقة یونس بن یعقوب من استولی علی شیء منه فهو له(2) رواها فی الوسائل فی باب حکم اختلاف الزوجین أو ورثتهما فی متاع البیت وظاهرها اعتبار الید والاستیلاء الفعلی وفیه أن ظاهرها أیضاً احتمال ملکیة المستولی من أوّل استیلائه.

ولکن یمکن الاستدلال علی عموم السیرة بما إذا کانت الید کذلک وادعی کل من ذی الید وشخص آخر فی عرض دعوی ملکیة ذی الید أن المال له فإنه لو کان المدعی هو المالک الأوّل ومع اعتراف ذی الید أنه کان له فقد تقدم انقلاب الدعوی فی الفرض ولو کان غیر ذلک المال فاللازم الحکم فی المال بالتنصیف کما هو الحال فی دعوی شخصین ملکیة مال مع عدم الید لواحد منهما مع أنهم ذکروا أن ذا الید یحلف علی نفی دعوی الآخر مع عدم البینة له فیأخذ المال.

فی اعتبار قاعدة الید فی موارد إثبات ملکیة المنفعة ونحوها

بقی فی المقام أمران:

الأوّل _ هل الید علی منفعة العین تعتبر فی کون ذی الید مالکاً لها کما إذا علم

ص : 76


1- 1) الکافی 7 : 387.
2- 2) وسائل الشیعة 17 : 525، الباب 8 من أبواب میراث الأزواج، الحدیث 3.

هو الحال بینه وبین أدلة سائر الأمارات، فیکون _ هاهنا أیضاً _ من دوران الأمر بین التخصیص بلا وجه غیر دائر والتخصّص.

فإنه یقال: لیس الأمر کذلک، فإن المشکوک مما کانت له حالة سابقة وإن کان من المشکل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعی، إلاّ أنه لیس منها بعنوان ما طرأ

بأن العین وقف وقد تصدی ذو الید لإجارتها فیحکم بکونه مالکاً للمنفعة أو متولیاً للوقف فیجوز الاستیجار منه لا یبعد ذلک؛ لأن الید علی العین کما أنها أمارة ملک العین عند احتماله کذلک أمارة لملک منفعتها والمتبع فی السیرة المشار إلیها کون یده علی منفعة العین ولا یبتنی بناؤهم علی ذلک علی صورة بنائهم علی ملک العین خاصة لیلزم عدم البناء فی موارد العلم بعدم کون العین ملکاً له بل مع احتمال کون ذی الید ذا حق فی العین تکون یده معتبرة فی إحراز ذلک الحق کحق الاختصاص والانتفاع.

ولو کانت عین بید شخص یصرف منافعها وریعها علی علماء البلد أو فقرائه بعنوان کونها وقفاً علیهم أو وصیة وأدعی شخص ملکیة تلک العین یکون مدعیاً ومثل ذلک الأنهار المملوکة فی القری فإن أهلها ینتفعون بالماء الجاری فیها للشرب وغسل الثیاب ونحو ذلک فلا یجوز لمشتری النهر من مالکه أن یمنع أهل القریة عن الانتفاع من مائه فی مثل ما ذکر بل لا أثر لمنعه؛ لأن ید أهل القریة علی النهر أمارة کونهم ذوی حق علیه من أول الأمر ولعله یشیر إلی ذلک مکاتبة محمد بن الحسین إلی أبی محمد علیه السلام : رجل کان له رحی علی نهر قریة والقریة لرجلٍ فأراد صاحب القریة أن یسوق الماء إلی قریته فی غیر هذا النهر ویعطل هذه الرحی أله ذلک أم لا؟ فوقع علیه السلام : «یتقی اللّه ویعمل فی ذلک بالمعروف ولا یضر أخاه الموءمن»(1).

ص : 77


1- 1) وسائل الشیعة 17 : 343، الباب 15 من أبواب إحیاء الموات وفیه حدیث واحد.

علیه من نقض الیقین بالشک، والظاهر من دلیل القرعة أن یکون منها بقول مطلق لا فی الجملة، فدلیل الإستصحاب الدالّ علی حرمة النقض الصادق علیه حقیقة، رافع لموضوعه أیضاً، فافهم.

الثانی _ أماریة الید لملک العین تحتاج إلی انضمام دعوی ذی الید ملکیتها أو أن الید بانفرادها أمارة لملکها ما لم یحرز أنه غیر مالک أو لم یعترف بعدم کونه مالکاً حیث إن اعتبار الید من الطریقیة فلا یکون لها اعتبار مع إحراز الخلاف أو اعترافه بعدم ملکها، وکذا لا یعتبر فی أماریة الید تصرف ذی الید فیما بیده فی أماریة الید فإذا مات یحکم بکون ما بیده ملکه، وداخل فی ترکته مع عدم إحراز الخلاف، وهل یقدح فی أماریة الید قوله عدم علمه بکون ما بیده ملکاً له أم لا؟ فقد یقال بعدم اعتبارها مع اعتراف ذیها بعدم علمه بکونه له، ویستظهر ذلک من صحیحة جمیل بن صالح المرویة فی باب اللقطة قال: قلت لأبی عبداللّه 7 : «رجل وجد فی منزله دیناراً قال: یدخل منزله غیره قلت: نعم کثیر، قال: هذا لقطة، قلت: فرجل وجد فی صندوقه دیناراً قال: یدخل أحد یده فی صندوقه غیره أو یضع فیه شیئاً؟ قلت: لا، قال: فهو له»(1) ولکنها بذیلها علی خلاف الاستظهار أدل، ولعل الحکم فی الصدر باعتبار أن المنزل إذا کان فی تناول الأشخاص الکثیرین یکون للواردین أیضاً ید علیه بخلاف الصندوق الذی فرض عدم دخوله بید غیره. نعم، لا یبعد أن یکون اختصاص اعتبار الید مع عدم علم ذی الید بأنه ملکه بما إذا کان من أول وضع یده علیه یحتمل کونه له أو لغیره وأما إذا کان یعلم فی أول وضع یده علی المال لم یکن مالکاً له واحتمل أنه صار ملکاً له بالاشتراء أو بغیره فالحکم بکونه مالکاً محل إشکال.

ص : 78


1- 1) وسائل الشیعة 17 : 353، الباب 3 من أبواب اللقطة. وفیه حدیث واحد.

فلا بأس برفع الید عن دلیلها عند دوران الأمر بینه وبین رفع الید عن دلیله، لوهن عمومها وقوة عمومه، کما أشرنا إلیه آنفاً، والحمد للّه أولاً وآخراً، وصلی اللّه علی محمد وآله باطناً وظاهراً.[1]

القرعة

فی تقدیم الاستصحاب علی خطابات القرعة

[1] ذکر الماتن قدس سره تقدیم الاستصحاب علی خطابات القرعة فی موارد جریان الاستصحاب وذلک فإن خطابات الاستصحاب أخص بالإضافة إلی خطابات القرعة فإن ما ورد فی القرعة من أنها لکل أمر مجهول أو مشکل(1) یعم ما إذا کان المجهول والمشکل معلوماً من جهة الحال السابقة أم لا بخلاف خطابات الاستصحاب فإنها تختص بما إذا کانت الحالة السابقة للمجهول محرزة. ثمّ ذکر لا یقال: النسبة بین خطابات الاستصحاب وخطابات القرعة العموم من وجه لاختصاص خطاباتها بالشبهات الموضوعیة فإن القرعة لا تجری فی الشبهات الحکمیة واختصاص خطابات الاستصحاب بما إذا کانت الحالة السابقة محرزة بلا فرق بین الشبهة الموضوعیة والشبهة الحکمیة، وأجاب عن ذلک بأن المیزان فی ملاحظة النسبة بین الخطابین الظهور الاستعمالی لکل منهما لا الظهور الاستعمالی الذی یکون مورداً لأصالة التطابق بینه وبین المراد الجدی علی ما یأتی فی بحث انقلاب النسبة مع أنه لو کان الملاک ملاحظة النسبة بین الظهور الاستعمالی الذی هو مورد لأصالة التطابق لکان الاستصحاب مقدماً أیضاً؛ لقوة خطاباته؛ لقلة ورود التخصیص علیها بخلاف خطابات القرعة حیث صارت لکثرة ورود التخصیص علیها موهونة؛ ولذا قیل أن

ص : 79


1- 1) وسائل الشیعة 18 : 189 و 191، الباب 13 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 11 و 18.

العمل بما ورد فی القرعة فی مورد یحتاج إلی الجبر بعمل المعظم.

وأردف علی ذلک قوله: لا یقال: کیف یکون خطاب الاستصحاب مقدماً علی خطابات القرعة مع أن شمولها لمورد یکون موجباً لارتفاع الموضوع للاستصحاب فیه کما هو الحال فی ورود بالإضافة إلی الحکم فی الخطاب الآخر وذلک فإن المنهی عنه فی خطابات الاستصحاب النهی عن نقض الیقین بالشک ومع شمول خطابات القرعة للمورد یکون نقض الیقین فیه بالحجة لا بالشک بخلاف تقدیم خطاب الاستصحاب علی خطابات القرعة من غیر وجه إلاّ بوجه دائر.

فإنه یقال: لیس الأمر کما ذکر بل الأمر بالعکس یعنی یکون شمول خطاب النهی عن نقض الیقین بالشک لمورد موجباً لارتفاع الموضوع لاعتبار القرعة فیه؛ لأن الموضوع لاعتبارها المجهول والمشتبه والمشکل مطلقاً أی من جهة الحکم الواقعی والظاهری وشمول خطاب الاستصحاب لمورد یعین الحکم الظاهری فیه، وبتعبیر آخر الموضوع لاعتبار الاستصحاب الشک فی الواقع بخلاف الموضوع لاعتبار القرعة فإن الموضوع له هو المجهول والمشتبه مطلقاً فیکون شمول النهی عن نقض الیقین بالشک موجباً لتعین الحکم الظاهری.

أقول: ما ذکر الماتن قدس سره أولاً من کون أدلة الاستصحاب أخص من خطابات القرعة ینافی ما ذکره أخیراً من کون دلیل الاستصحاب بشموله لمورد یکون وارداً علی خطابات القرعة حیث ینتفی مع الاستصحاب الموضوع لها بدعوی أن الموضوع لها المجهول بحسب الواقع والظاهر، ولازم ذلک أن لا یکون موضوع لها أیضاً مع أصالة البراءة وأصالة الحلیة ویبقی علی ذلک إثبات أن الموضوع لاعتبار القرعة هو الجهل بالشیء مطلقاً من حیث حکمه الواقعی والظاهری واستفادة ذلک

ص : 80

مما ورد فی القرعة مشکل فإن بعض الأخبار الواردة فیها لسانها یساوق لسان أصالة الحلیة والطهارة من ثبوت الواقع وتعینه والشک فیه کروایة محمد بن حکیم قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن شیء فقال لی: کل مجهول فیه القرعة قلت له: إن القرعة تخطئ وتصیب، قال: کلّما حکم اللّه به لیس بالمخطئ»(1) وظاهرها جریان القرعة فی کل مجهول له تعین واقعی ولکن یظهر من بعض الأخبار عدم اعتبار التعین الواقعی وفی صحیحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام : عن رجل یکون له المملوکون فیوصی بعتق ثلثهم قال: کان علی علیه السلام یسهم بینهم»(2) ومن الظاهر أن الحکم فی الواقعة لیس مجهولاً ومشکلاً؛ لأن مقتضی الوصیة ولایة الوصی والورثة علی اختیار الثلث نظیر الوصیة بثلث المال فی غیر هذا المورد وکذا فی مورد قسمة المال المشترک، وظاهر بعض الأخبار استعمال القرعة فی موارد قطع المشاجرة کما فی صحیحة جمیل حیث قال: زرارة إنما جاء الحدیث بأنه: «لیس من قوم فوضوا أمرهم إلی اللّه ثمّ اقترعوا إلاّ خرج سهم المحق»(3) والأظهر فی موارد الرجوع إلی القرعة أن یقال: إن الموارد التی یعلم فیها الحکم الظاهری من حیث التنجیز والتعذیر فیها مع قطع النظر عن ورود الأمر بالقرعة فیها یقتصر علی العمل بالقرعة فیها مع ورود الأمر بالقرعة فیها کما فی مثال الغنم حیث إن مقتضی العلم الإجمالی بکون بعض الغنم فی الواقع موطوءاً الاجتناب عن جمیع ما یحتمل کونه طرفاً للعلم الإجمالی، وکذا یعمل بها فی الموارد التی ورد الأمر فیها بالقرعة مع عدم الواقع

ص : 81


1- 1) وسائل الشیعة 18 : 189، الباب 13 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 11.
2- 2) وسائل الشیعة 18 : 191، الباب 13 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 16.
3- 3) التهذیب 6 : 238. عنه فی الوسائل 18 : 188، الباب 13 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 6.

المعین فیها وکان الحکم الواقعی فیها معلوماً مع قطع النظر عن ورود الأمر بالقرعة فیها کما فی مورد الوصیة بعتق ثلث العبید فإن الأمر بعتق ثلثهم کالوصیة بثلث ماله فی وجوه الخیر یکون بالتقسیم بتراضی الوصی والورثة فی تعیین الثلث ولکن حیث ورد الأمر فی تعیینه بالقرعة یوءخذ فی الأول بالقرعة لورود الأمر فیه بتعیین ثلث العبید بها.

وأما المجهول الواقعی الذی لا یعلم واقعه بوجه ولم یکن المطلوب فیه إحراز التعذیر والتنجیز فیرجع فیه إلی القرعة أخذاً بقوله علیه السلام : «لیس من قوم تقارعوا ثمّ فوضوا أمرهم إلی اللّه إلاّ خرج سهم المحق» بناءً علی عدم ظهوره فی خصوص القرعة فی مقام تعیین السهم فی القسمة فی الشرکة فی القیمیات کما یفصح عن ذلک مورده.

وأما المجهول الواقعی الذی یکون فیه الموضوع للتعذیر والتنجیز فالمرجع فیه إلی الاُصول العملیة کالاستصحاب والبراءة ونحوهما وأما مثل روایة محمد بن حکیم أن «کل مجهول فیه القرعة»(1) فمقتضاها علی ما یقال اعتبار القرعة فی کل مشتبه حتی ما لو کان حکمه الظاهری معلوماً من غیر ناحیة القرعة فتعارض الروایات الواردة فی سائر الاُصول العملیة ومنها الاستصحاب ولکن لا یمکن المساعدة علیها لضعف الخبر سنداً ودلالة فإن ظاهره المجهول مطلقاً أو من الجهة التی لابد من العلم به من تلک الجهة وما ثبت فیه الحکم الظاهری یعلم حاله ولا یقاس بخطاب «کل شیء حلال حتی تعرف الحرام»(2) و«کل شیء نظیف حتی

ص : 82


1- 1) وسائل الشیعة 18 : 189، الباب 13 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث 11.
2- 2) وسائل الشیعة 12 : 60، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.

تعلم أنه قذر»(1) حیث إن ظاهرهما الجهل بالحرمة الواقعیة والقذارة الواقعیة بقرینة الغایة الواردة فیهما فإنها تکشف عن أن المفروض فیهما الشک فی الحرمة الواقعیة والقذارة الواقعیة بخلاف «کل مجهول فیه القرعة» فإنه لیس فیه قرینة علی إرادة خصوص المجهول الواقعی بل یعم المجهول الظاهری أیضاً نظیر الولد المردد بین کون أبیه زیداً أو عمراً کما هو مورد بعض الروایات الواردة فی القرعة. نعم، لا یصدق المجهول إلاّ إذا کان له تعین واقعاً هذا کله فیما إذا لم تکن القرعة مورد التراضی فی معاملة کما فی قسمة المال المشترک وإلاّ تکون مشروعة بمشروعیة التراضی.

ص : 83


1- 1) وسائل الشیعة 2 : 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص : 84

المقصد الثامن: (فی تعارض الأدلة والأمارات)

اشارة

ص : 85

ص : 86

المقصد الثامن

فی تعارض الأدلة والأمارات[1]

فی التعادل والتراجیح

[1] الظاهر اتحاد المراد من الدلیل والأمارة أو کون الأمارة أخصّ من الدلیل وهو طریق الحکم والمجعول الشرعی الکلی، وما عن الشیخ قدس سره من أنّ الطریق المعتبر فی الأحکام یسمّی بالدلیل، وفی الموضوعات یسمّی بالأمارة، غیر مراد للماتن قدس سره لأنّ البحث فی الطرق المعتبرة إلی الموضوعات غیر مقصود فی المقام، والمقصود فی المقام البحث فی تعارض ما یکون طریقاً إلی الأحکام والمجعولات الشرعیّة من الأحکام الفرعیّة الکلّیة وما یلحق بها.

ثمّ إنّ الشیخ قدس سره قد تبع سلفه فی بحث التعادل والتراجیح فی جعله خاتمة الکتاب المشعر بخروج البحث من مسائل علم الاُصول کخروج مباحث الاجتهاد والتقلید منها، والوجه فی ذلک أنّهم التزموا بکون مباحث الاُصول هی المسائل التی یکون المحمول فیها من عوارض الکتاب والسنة حیث جعلوا الموضوع لعلم الاُصول الأدلّة الأربعة وبما أنّ البحث فی التعادل والتراجیح راجع إلی عوارض الحاکی عن السنة ولا یقع التعارض ولا الترجیح فی نفس السنة فلا تکون هذه المباحث داخلة فی مسائل علم الاُصول.

وقد تقدّم فی أوّل(1) الکتاب الرّد والنقض فیما التزموا به، ولکنّ الماتن التزم بأنّ مسائل علم الاُصول هی التی تکون نتائجها واقعة فی طریق الاستنباط وتحصیل

ص : 87


1- 1) دروس فی مسائل علم الاُصول 1:15.

نفس الحکم الشرعی الفعلی أو حاله من حیث التنجّز والعذر عنه، بلا فرق بین أن یکون المحمول فی تلک المسائل من عوارض الأدلّة الأربعة أو غیرها ولذا أدخل مباحث التعادل والتراجیح فی مسائل علم الاُصول، وجعل من مقاصد الکتاب، وهذا هو الصحیح، فإنّه کیف یصحّ الالتزام بخروج مباحث التعارض والتراجیح من مسائل علم الاُصول مع أنّ عمدة الدلیل فی المسائل الفقهیّة هی الأخبار المأثورة عن أهل البیت والعصمة سلام اللّه علیهم أجمعین، وتلک الأخبار فی غیر واحد من الموارد مختلفة فی مضامینها ومنافیة بعضها مع بعضها الآخر فی مدالیلها فیحتاج استنباط الحکم الشرعی الفرعی الکلّی منها إلی علاج المخالفة وملاحظة موجب التعارض.

ثمّ إنّ المراد بالتعادل تکافؤ المتعارضین، وعدم ثبوت المزیّة لأحدهما الموجبة لتقدیمه، بخلاف الترجیح فإنّه یکون بثبوتها لأحدهما الموضوع لاعتبار ذیها مع المعارضة ککون أحد الخبرین موافقاً للکتاب العزیز أو مخالفاً للعامّة ونحو ذلک، ولا یراد الترجیح فی مقامات حصول الجمع العرفی التی یکون فیها أحد الخطابین قرینة علی التصرف فی الآخر أو کان فی البین قرینة علی ذلک فإنّه فی هذه الفروض لا یکون فی البین تعارض کما یأتی.

ص : 88

فصل

التعارض هو تنافی الدلیلین أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات[1] علی وجه التناقض أو التضاد حقیقة أو عرضاً.

فی تعریف التعارض بتنافی مدلولی الدلیلین أو الأدلّة

اشارة

[1] قد ذکر الشیخ قدس سره فی التعادل والتراجیح أنّ موردهما تعارض الدلیلین فیجب معرفة التعارض أوّلاً، وفسّره بتنافی الدلیلین فی مدلولهما سواء کان التنافی بینهما بنحو التناقض أو التضاد، والمراد بالتناقض أن یکون مدلول أحدهما ثبوت أمر ومدلول الآخر عدم ثبوته کما أنّ المراد بالتّضاد أن یکون مدلول أحدهما ثبوت أمر، ومدلول الآخر ثبوت أمر آخر ولا یمکن ثبوت کلا الأمرین أو یعلم بعدم ثبوتهما معاً ویعبّر فی مورد العلم بعدم ثبوتهما معاً بالتعارض بالعرض، بخلاف الأوّلین فإنّ التعارض یکون بالذات.

وربّما أنّ التعریف المذکور فی کلام الشیخ یعمّ ما إذا کان بین الدلیلین جمع عرفی، کما إذا کان أحد الخطابین متضمناً لحکم الشیء بعنوانه الأوّلی والخطاب الآخر متضمناً للحکم الآخر بالعنوان الثانوی، بل یعمّ التنافی فی مدلولین لموارد الحکومة وإن أتعب قدس سره نفسه فی إخراج اجتماع الاُصول الشرعیّة والأمارة وسایر موارد الحکومة عن التعریف؛ لئلا یورد علیه بأنّه لا یکون فی الموارد بین الأدلّة القائمة علی الأحکام الواقعیّة والاُصول العملیّة فیها تعارض، مع أنّ تنافی مدلولی الدلیلین یعمّها، وذکر فی وجه الخروج بأنّه یختلف الموضوع للحکم الواقعی الذی هو مدلول الدلیل مع الموضوع فی الأصل العملی، فإنّ الموضوع للحکم الواقعی الشیء بما هو هو، وفی الأصل العملی الشیء بوصف کونه مشکوک الحکم، وإذا قام الدلیل علی حرمة العصیر العنبی بعد غلیانه، فإن کان ذلک الدلیل موجباً للعلم

ص : 89

بأن علم بکذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً، وعلیه فلا تعارض بینهما بمجرّد تنافی مدلولهما إذا کان بینهما حکومة رافعة

بالواقع فلا یکون فی العصیر مورد للأصل العملی، وکذا فیما إذا لم یکن موجباً للعلم ولکن ثبت اعتباره بدلیل علمی، فإنّ الأصل العملی کالبراءة العقلیّة والاشتغال وأصالة التخییر تنتفی موضوعاتها مع قیامه، والأصل العملی الشرعی کالاستصحاب وإن لا ینتفی الموضوع له حقیقة إلاّ أنّه ینتفی حکمه بمعنی أنّه یحکم بقیام تلک الأمارة بخروج موردها عن مورد الأصل وموضوعه.

ثمّ تکلّم فی تقریر الحکومة وبیان الفرق بینها وبین التخصیص بأنّ المخصّص بیان لمدلول العامّ بحکم العقل لا بمدلوله اللفظی، بخلاف الخطاب الحاکم فإنّه مبیّن للمراد من الخطاب المحکوم بمدلوله اللفظی؛ ولذا یقدّم الدلیل الحاکم علی الخطاب المحکوم ولو کان الخطاب الحاکم أضعف الظنون المعتبرة بالإضافة إلی الخطاب المحکوم، بخلاف الخاصّ والعامّ، فإنّ الخطاب الخاصّ فیما کان نصّاً وقطعیّاً من جهة السند والدلالة یکون وارداً علی أصالة الظهور فی ناحیة العامّ، وإذا کان ظنیّاً فی بعض الجهات یکون حاکماً علی أصالة العموم، وظاهر هذا الکلام علی ما فهم الماتن وغیره هو أنّ ما فسّر به تعارض الدلیلین بالتنافی فی مدلولیهما یتحقّق بین خطابی العامّ والخاصّ فیما کان الخاصّ ظنیّاً من حیث الصدور أو الدلالة أیضاً، غایة الأمر یکون الخاصّ فیما کان قطعیّاً ونصّاً وارداً علی أصالة العموم، وإن کان ظنیّاً من بعض الجهات یکون حاکماً علی أصالة العموم، وبما أنّ الوجدان شاهد بعدم التعارض فی موارد الجمع العرفی سواء کان اجتماعهما قرینة علی المراد، کما إذا کان أحد الخطابین دالاًّ علی حکم لموضوع بعنوانه الأوّلی والخطاب الآخر دالاًّ علی ثبوت حکم مخالف له بعنوانه الثانوی أو کان أحد الخطابین دالاًّ علی وجوب أمر فی

ص : 90

للتعارض والخصومة[1] بأن یکون أحدهما قد سیق ناظراً إلی بیان کمیّة ما اُرید من الآخر.

زمان، والخطاب الآخر دالاًّ علی وجوب عمل آخر فیه مع علمنا بعدم وجوبهما معاً فیحمل الأمر فی کلّ منهما علی التخییر إذا احتمل التخییر واقعاً أو کان أحد الخطابین معیّناً قرینة علی التصرف فی الآخر، کما فی خطاب المقیّد والخاصّ بالإضافة إلی خطاب المطلق والعامّ؛ ولذا أضاف فی «الکفایة» علی تعریف التعارض بتنافی الدلیلین أو الأدلّة بحسب مقام الإثبات والدلالة.

وحذف ما فی الرسالة قید (مدلولهما) الظاهر فی المدلول الاستعمالی کما ظهر من تقریر کلامه قدس سره ، وعلی ما ذکر الماتن قدس سره تخرج الموارد المشار إلیها یعنی موارد الجمع العرفی عن تعریف التعارض بین الدلیلین أو الأدلّة، ووجه الخروج أنّه فی تلک الموارد لا یکون تناف فی کشف الدلیلین عن مقام الثبوت المعبّر عن هذا الکشف بمقام الإثبات والدلالة علی مقام الثبوت، فإنّه یکون المراد فی مورد الحکم بالعنوان الأوّلی والحکم الآخر بالعنوان الثانوی هو أنّ الشیء محکوم بالحکم الأوّلی ما لم یطرأ علیه العنوان الثانوی، وفی الخطاب الآخر ثبوت الحکم الآخر له بعد طروّه فلا منافاة، کما أنّ خطاب المطلق لا یکشف مع خطاب المقیّد عن ثبوت الحکم لذات المطلق ثبوتاً لینافی کشف خطاب المقیّد عن ثبوته للمقیّد، وهکذا فی سایر موارد الجمع العرفی.

عدم التعارض فی موارد الحکومة والجمع الدلالی بین الأدلّة

[1] قد فرّع قدس سره علی ما ذکره من التعریف وأنّ التعارض تنافی الدلیلین بحسب الدلالة والکشف عن مقام الثبوت، عدم المعارضة بین الخطابین فی موارد الحکومة وموارد الجمع العرفی، وفسّر الحکومة بأن یکون أحد الدلیلین ناظراً ومتعرضاً لبیان

ص : 91

المراد من الخطاب الآخر بأن یکون المدلول الاستعمالی لأحدهما بیان ما اُرید من الخطاب الآخر جدّاً حیث إنّ مع أصالة التطابق فی الخطاب الناظر لا یکون بین الخطابین تناف بحسب تلک الدلالة سواء کان خطاب الحاکم متقدّماً علیه صدوراً أو متأخراً.

أقول: مجرّد التنافی بین المدلول الاستعمالی لخطاب مع المدلول الاستعمالی لخطاب آخر لا یوجب التعارض بینهما، بل ملاکه أن لا یکون لشیء من الخطابین مع لحاظه مع الآخر مدلول تصدیقی، بأن لا یکون لهما دلالة علی مقام الثبوت لتمانعهما بالذات أو بالعرض فی تمام مدلولهما أو بالإضافة إلی مورد اجتماعهما، وإنّما یفرض الدلالة لکلّ منهما علی مقام الثبوت عند الإغماض عن الآخر ولحاظه، فیقال بأنّ المدلول التصدیقی لهذا مناف للمدلول التصدیقی للآخر، وهذا بخلاف موارد الحکومة والجمع العرفی بین الخطابین، فإنّه یثبت لهما المدلول التصدیقی ولو عند لحاظه مع الخطاب الآخر، وعلی ذلک فلا تکون موارد حکومة أحد الخطابین فیها علی الآخر أو ثبوت الجمع العرفی بینهما داخلة فی المتعارضین، فإن کان مراد الشیخ قدس سره من مدلولی الدلیلین مدلولهما التصدیقی المذکور فلا یختلف تعریفه بتنافی مدلولی الدلیلین عما ذکره الماتن قدس سره وإن کان تعریف الماتن أوضح فی المراد.

فی حکومة أدلّة اعتبار الأمارة علی خطابات الاُصول الشرعیّة

ثمّ إنّ الماتن قدس سره بعد التزامه بما تقدّم فی معنی الحکومة من کون مدلول أحد الخطابین هو التعرض لبیان کمیّة المراد من الخطاب الآخر أورد علی ما ذکره الشیخ قدس سره من حکومة الأدلّة والأمارات فی موارد قیامها علی خطابات الاُصول الشرعیة.

ص : 92

وقال فی وجه الإیراد علیه بأنّ مفاد خطابات الاُصول بیان الحکم عند الشکّ فی الحکم الواقعی للشیء، ومفاد دلیل اعتبار الأمارة عند الشیخ قدس سره وجوب العمل بمدلولها عند قیامها، ولیس مفاد دلیل اعتبارها نفی الجهل بالواقع عند قیامها، لیکون حاکماً علی دلیل اعتبار الأصل کحکومة خطاب نفی الشک عن کثیر الشک(1) بالإضافة إلی خطاب: «إذا شککت فی الرکعتین الأوّلتین فأعد الصلاة»(2).

والحاصل مجرّد تشریع وجوب العمل بالأمارة فی مورد قیامها کما علیه الشیخ قدس سره لا یحقّق الحکومة ونفی الجهل بالواقع الموضوع للأصل العملی.

ولو کان وجوب العمل بمدلول الأمارة المنافی عقلاً لاعتبار الأصل فی موردها موجباً للحکومة، لکان دلیل اعتبار الأصل أیضاً المقتضی للعمل بمفاده مقتضیاً لترک العمل بالأمارة التزاماً، فإنّ مدلوله الحکم فی الواقعة عند الجهل وهو مفاده.

أقول: دلیل اعتبار الأمارة کما ذکرنا فی بحث اعتبار الأمارات لحاظ الأمارة القائمة فی موارد قیامها علماً بالواقع، کما یظهر ذلک لمن تتبع السیرة الجاریة فی موارد العمل بخبر الثقات وغیره من الأمارات التی اعتبارها فی الشرع إمضائیة، ومع اعتبارها کذلک لا یبقی فی مواردها موضوع للأصل العملی حتّی فی موارد الاستصحاب، ولو قلنا إنّ مفاد خطابات الاستصحاب اعتبار الیقین بالحالة السابقة علماً ببقائها.

وذلک لأنّ الأمارة تتضمن فی نفسها ومع قطع النظر عن دلیل اعتبارها نحو کشف عن

ص : 93


1- 1) وسائل الشیعة 8:227، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة.
2- 2) وسائل الشیعة 8:190، الباب الأول من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 14.

الواقع ولو ناقصاً، فیعتبر الشارع تلک الجهة المفروضة کشفاً تامّاً، وهذا بخلاف الاستصحاب فإن مقتضی خطاباته اعتبار الیقین بالحالة السابقة علماً ببقائها أیضاً من حیث العمل من غیر أن یلاحظ جهة کشف فی مورده أصلاً.

وعلی الجملة: العلم بالحالة السابقة علم ببقائها من جهة العمل خاصّة.

ومع الإغماض عن ذلک ففی موارد الأمارة کالخبر الواحد یکون اختصاص اعتباره بموارد الجهل بالواقع بالتقیید العقلی، لاستقلال العقل بأنّ العالم بالواقع وجداناً لا یقبل التعبد بالوفاق أو بخلاف علمه، ولا یمکن اعتبار الأمارة أو غیرها فی حقّه، بخلاف الأصل الشرعی ولو کان هو الاستصحاب، فإنّ الجهل بالواقع موضوع فی خطاب اعتباره شرعاً فشمول دلیل اعتبار الأمارة للأمارة القائمة علی وفاق الحالة السابقة أو علی خلافها بلا مانع؛ لعدم العلم الوجدانی بالخلاف أو الوفاق، وبشموله لها یرتفع فی المورد الموضوع للأصل العملی یعنی الجهل بالواقع، من غیر لزوم تخصیص فی دلیل اعتبار الأصل. وأمّا تقدیم الأصل علی الأمارة یحتاج إلی التخصیص بلا وجه.

هذا بالاضافة إلی ما اخترناه فی اعتبار الأمارات، وأما بناءً علی مسلک الشیخ قدس سره من أنّ اعتبار الأمارة هو تنزیل مؤدّاها منزلة الحکم الواقعی لتکون النتیجة إیجاب العمل بمدلولها بجعل مدلولها حکماً طریقیّاً، فتکون الأمارة حاکمة علی الأصل الشرعیّ فی مورد قیامها أیضاً، فإنّه إذا نزّل مدلولها منزلة الحکم الواقعی یکون العلم بمدلولها علماً بالحکم الواقعی قهراً، لا لتنزیل آخر فی نفس العلم بمدلولها بل بمجرّد التنزیل فی مدلول الأمارة، وعلی ذلک فشمول دلیل اعتبار الأمارة لتلک الأمارة فی مورد الأصل العملی بلا محذور؛ لما تقدّم من أنّ تقیید الاعتبار والتنزیل فی مورد الأمارة بمن لیس له علم، من

ص : 94

ناحیة حکم العقل بأنّ العالم بالعلم الوجدانی لا یتعبّد بالوفاق أو الخلاف، بخلاف اعتبار الأصل العملی، فإنّ شمول دلیل اعتباره لمورد الأمارة یحتاج إلی المقیّد والمخصّص لدلیل اعتبار الأمارة فلا تغفل.

ثمّ إنّه لا تنحصر الحکومة علی ما إذا کان أحد الخطابین ناظراً إلی کمیّة المراد من مدلول الخطاب الآخر، بل إذا تکفّل أحد الخطابین لبیان أصل المراد أو نفیه من الخطاب الآخر یکون الأوّل حاکماً علی الخطاب الثانی، کما إذا ورد فی خطاب: «أن الثوب لا یجنب»(1) کنایة عن طهارة المنی وعدم لزوم غسله عن الثوب، وورد فی خطاب آخر «أنّی قلته اتّقاء الشر» یکون هذا الخطاب الثانی حاکماً علی الأوّل، ونظیر ما ورد من قوله علیه السلام فی نجاسة الخمر: «خذ بقول أبی عبداللّه علیه السلام »(2) بعد السؤال من الإمام علیه السلام أنّه روی زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه لا یصلی فی ثوب أصابه الخمر قبل أن یغسل، وروی زرارة عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام أنّه لا بأس بالصلاة فی ثوب أصابه الخمر.

فی أقسام الحکومة

وقد یقال(3): إن الحکومة علی قسمین:

الأول: أن یکون أحد الدلیلین بمدلوله الاستعمالی شارحاً للمراد من الآخر سواء کان الدلیل الشارح مصدّراً بکلمة التفسیر من نحو (أی) أو (یعنی) أم لم یکن،

ص : 95


1- 1) وسائل الشیعة 2:182، الباب 5 من أبواب الجنابة، الحدیث الأول.
2- 2) وسائل الشیعة 3:468 _ 469، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- 3) مصباح الاُصول 3:348.

ولکن کان الشارح بحیث لولم یکن فی البین الخطاب المحکوم کان الدلیل الحاکم لغواً کقوله علیه السلام «لا رباً بین الوالد والولد»(1) حیث لولم یکن فی البین خطاب حرمة الربا حتی فی فرض صدوره متأخّراً لکان خطاب نفی الربا بین الوالد والولد لغواً، والدلیل الشارح بالمعنی المذکور یکون ناظراً إلی عقد الوضع من الدلیل المحکوم تارة کما فی المثال، وإلی عقد الحمل منه اُخری کما فی قوله سبحانه: «ما جعل علیکم فی الدین من حرج»(2) أو «لا ضرر ولا ضرار»(3) بناءً علی کون کلّ من الحرج والضرر عنواناً لنفس التکلیف والحکم، فإنّ ظاهر خطابات التکالیف والأحکام ثبوت مدالیلها فی الشریعة حال الحرج والضرر أیضاً، وقوله سبحانه: «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» ناظر إلی عدم ثبوت تلک المدالیل ثبوتاً حال الحرج، وکذا فی قوله صلی الله علیه و آله : «لا ضرر ولا ضرار».

الثانی: أن یکون أحد الدلیلین نافیاً لموضوع الحکم المستفاد من الدلیل الآخر فی مورد أو موارد وإن لم یکن شارحاً کالقسم الأول المتقدّم، بأن لا یکون لغواً لولم یکن الخطاب المحکوم، وهذا کحکومة أدلّة اعتبار الأمارات علی الاُصول الشرعیّة من الاستصحاب وأصالة البراءة وقاعدة الفراغ وغیرها من الاُصول الجاریة فی الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة، فإنّ أدلّة اعتبار الأمارات لا تکون ناظرة إلی خطابات الاُصول وشارحة لها بحیث لولم تکن الاُصول الشرعیّة مجعولة لکان اعتبار الأمارة لغواً، فإنّ خبر الثقة أو العدل حجة سواء جعلت الاُصول الشرعیّة أم لا، ولکن

ص : 96


1- 1) انظر وسائل الشیعة 18:135، الباب 7 من أبواب الربا، الحدیث الأوّل.
2- 2) سورة الحج: الآیة 78.
3- 3) الکافی 5:293.

مقدماً کان أو مؤخراً، أو کانا علی نحو إذا عرضا علی العرف وفق بینهما بالتصرف فی خصوص أحدهما، کما هو مطرد فی مثل الأدلة المتکفلة لبیان أحکام الموضوعات بعناوینها الأولیة، مع مثل الأدلة النافیة للعسر والحرج والضرر

مع ذلک الأمارات بدلیل اعتبارها رافعة لموضوع الاُصول الشرعیّة تعبّداً، ولا تنافی بین اعتبار الأصل واعتبار الأمارة فی موارد قیامها أصلاً، والوجه فی عدم التنافی بین أدلّة اعتبار الأمارات ودلیل الأصل الشرعی أنّ کلّ دلیل مضمونه مفاد القضیة الحقیقیّة یتکفّل للحکم علی تقدیر الموضوع له، ولا یدلّ علی تحقّق ذلک الموضوع وإحرازه خارجاً.

وبتعبیر آخر تحقّق الموضوع له وعدمه خارج عن مدلوله، ولذا یقال: إنّ المجعول بنحو القضیة الحقیقیّة وهی وإن کانت فی الصورة بنحو القضیة الحملیّة إلاّ أنّها ترجع فی الحقیقة إلی القضیة الشرطیّة، وشرطها فعلیّة الموضوع وتحقّقه خارجاً، والجزاء ثبوت الحکم له، ومن الظاهر أن الموضوع فی خطابات الاُصول الشرعیّة الجهل بالواقع وعدم العلم به ومفادها قضایا حقیقیّة، ودلیل اعتبار الأمارة ومقتضاها العلم بالواقع وعدم الجهل به فی مورد قیامها، مثلاً: أنّ خبر الثقة القائم بحرمة العصیر بعد غلیانه علم بحرمته الواقعیّة فلا یبقی مع قیامه فی واقعة العصیر شک بالحرمة الواقعیّة.

أقول: قد تقدّم أنّ اعتبار الأمارة القائمة بالتکلیف والحکم مقتضاه اعتبارها علماً بهما، فیترتّب علیها ما للعلم بالواقع عقلاً من التنجیز والتعذیر، وتنتفی فی موردها الأحکام الظاهریّة التی هی مفاد خطابات الاُصول الشرعیّة؛ لانتفاء الموضوع لتلک الأحکام الظاهریّة یعنی الجهل بالواقع وعدم العلم به، ولا تنحصر حکومتها بدلیل اعتبارها علی تلک الاُصول علی مسلک تنزیل الأمارة منزلة العلم بالواقع، بل

ص : 97

والإکراه والإضطرار، مما یتکفل لأحکامها بعناوینها الثانویة، حیث یقدم فی مثلهما الأدلة النافیة، ولا تلاحظ النسبة بینهما أصلاً ویتفق فی غیرهما، کما لا یخفی.

لو قیل بأنّ اعتبار الأمارة اعتبار مؤدّاها حکماً واقعیّاً أیضاً یرتفع بقیام الأمارة فی مورد الموضوع للأصل؛ لأنّه إذا کان بمقتضی دلیل اعتبار الأمارة مدلولها حکماً وتکلیفاً واقعیّاً ولو بالتنزیل، فالعلم بذلک المدلول یکون علماً بالواقع لا محالة فتحصل الغایة فی اعتبار الاُصول الشرعیّة، ولو قیل بأنّ معنی اعتبارها تنزیل مؤدّاها منزلة الواقع المعلوم فالأمر أوضح، وقد تحصّل أنّه فی موارد الحکومة بنفی الموضوع لما یتضمّنه خطاب المحکوم لا یلزم أن یکون نفیه مدلولاً مطابقیّاً لخطاب الحاکم، بل یکفی فیه أنّ نفیه بالالتزام.

وأمّا إذا کانت الحکومة بنفی الحکم الوارد فی الخطاب الآخر سواء کان المنفی أصل إرادة الحکم وجعله من الخطاب الآخر أو نفیه فی بعض الموارد، فلابدّ من أن یکون هذا النفی مدلولاً مطابقیّاً وظهوراً لفظیاً استعمالیّاً فی ناحیة خطاب الحاکم سواء کان هذا الظهور بقرینة مقالیّة، کما فی قوله علیه السلام : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»(1) الناظر إلی خطابات الأجزاء والشرائط للصلاة، ونظیر قوله سبحانه: «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» الناظر إلی خطابات التکالیف، أو کان بقرینة حالیّة کما فی قوله علیه السلام : «إذا مسحت بشیء من رأسک فقد أجزأک»(2) الناظر إلی قوله سبحانه من الأمر بمسح الرأس(3) عند الوضوء، وهذا القسم من الحکومة یفترق الحاکم فیه عن خطاب الخاصّ فی موارد التخصیص بأنّ خطاب الخاصّ بمدلوله

ص : 98


1- 1) من لا یحضره الفقیه 1:225.
2- 2) وسائل الشیعة 1:414، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- 3) فی قوله تعالی: «وامسحوا برؤوسکم» سورة المائدة: الآیة 6.

أو بالتصرف فیهما[1] فیکون مجموعهما قرینة علی التصرف فیهما، أو فی أحدهما المعین ولو کان الآخر أظهر، ولذلک تقدم الأمارات المعتبرة علی الأصول الشرعیة، فإنه لا یکاد یتحیر أهل العرف فی تقدیمها علیها بعد ملاحظتهما، حیث لا یلزم منه محذور تخصیص أصلاً، بخلاف العکس فإنه یلزم منه محذور التخصیص بلا وجه أو بوجه دائر، کما أشرنا إلیه فی أواخر الإستصحاب.

ولیس وجه تقدیمها حکومتها علی أدلتها لعدم کونها ناظرة إلی أدلتها بوجه، وتعرضها لبیان حکم موردها لا یوجب کونها ناظرة إلی أدلتها وشارحة لها، وإلاّ کانت أدلتها أیضاً دالّة _ ولو بالإلتزام _ علی أن حکم مورد الإجتماع فعلاً هو

اللفظی الاستعمالی غیر ناظر إلی بیان المراد من خطاب العامّ، بل بمدلوله الجدّی الحاصل بأصالة التطابق فی ناحیته المعبّر عنها بأصالة الظهور یحسب قرینة علی المراد الجدّی من خطاب العامّ بخلاف خطاب الحاکم علی ما تقدّم.

[1] (التصرف فیهما) أی فی کلا الدلیلین عِدل لما تقدّم من فرض التصرف فی أحدهما، وقوله قدس سره : «فیکون مجموعهما قرینة» ألخ من قبیل ذکر النتیجة لما سبق، فربّما یکون ملاحظة الخطابین معاً قرینة علی التصرف فی کلا الخطابین، کما إذا قام خبر بوجوب صلاة الجمعة یومها، وخبر آخر بوجوب صلاة الظهر فیها فیلتزم بوجوب الصلاتین تخییراً برفع الید عن ظهور کلّ منهما فی التعیّن بقرینة صراحة الآخر فی الإجزاء، وقد یکون ملاحظتهما معاً قرینة علی التصرّف فی خصوص أحدهما، کما تقدّم فی الجمع بین الخطاب الدالّ علی حکم شیء بعنوانه الأوّلی والخطاب الآخر الدالّ علی خلاف ذلک الحکم بعنوانه الثانوی، حیث یحمل الحکم الوارد فیه علی الاقتضائی وأنّه یثبت له ذلک الحکم ما لم یطرأ علیه العنوان الثانوی حیث یثبت حینئذ الحکم الثانی، وفی بعض النسخ: «ولو کان الآخر أظهر» ولا یخفی

ص : 99

مقتضی الأصل لا الأمارة، وهو مستلزم عقلاً نفی ما هو قضیة الأمارة، بل لیس مقتضی حجیتها إلاّ نفی ما قضیته عقلاً من دون دلالة علیه لفظاً، ضرورة أن نفس الأمارة لا دلالة له إلاّ علی الحکم الواقعی، وقضیة حجیتها لیست إلاّ لزوم العمل علی وفقها شرعاً المنافی عقلاً للزوم العمل علی خلافه وهو قضیة الأصل، هذا مع احتمال أن یقال: إنه لیس قضیة الحجیة شرعاً إلاّ لزوم العمل علی وفق الحجة عقلاً وتنجز الواقع مع المصادفة، وعدم تنجزه فی صورة المخالفة.

وکیف کان لیس مفاد دلیل الإعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبداً، کی یختلف الحال ویکون مفاده فی الأمارة نفی حکم الأصل، حیث إنه حکم الإحتمال بخلاف مفاده فیه، لأجل أن الحکم الواقعی لیس حکم احتمال خلافه، کیف؟ وهو حکم الشک فیه واحتماله، فافهم وتأمل جیداً.

فانقدح بذلک أنه لا تکاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بین الأصل والأمارة، إلاّ بما أشرنا سابقاً وآنفاً، فلا تغفل، هذا ولا تعارض أیضاً إذا کان أحدهما قرینة[1 [علی التصرف فی الآخر، کما فی الظاهر مع النص أو الأظهر، مثل العام

أنّه علی ذلک لا تخلو العبارة من التعقید، فلابد من کون (الواو) زائدة، وهذا کما یتصرّف فی خطاب العامّ والمطلق، لکون الآخر أی خطاب الخاصّ والدالّ علی القید أظهر.

موارد الجمع العرفیّ بین الدلیلین

[1] لا یقال: ما الفرق بین القسم الثانی من موارد الجمع العرفی حیث یکون مجموع الخطابین قرینة علی التصرف فی أحدهما المعین والقسم الثالث الذی یکون فیه أحدهما المعین قرینة علی الآخر، ککون خطاب الخاصّ قرینة علی المراد الجدّی من العامّ، وخطاب المقیّد قرینة علی المراد من المطلق.

ص : 100

والخاص والمطلق والمقید، أو مثلهما مما کان أحدهما نصاً أو أظهر، حیث إن بناء العرف علی کون النص أو الأظهر قرینة علی التصرف فی الآخر.

وبالجملة: الأدلة فی هذه الصور وإن کانت متنافیة بحسب مدلولاتها، إلاّ أنها غیر متعارضة، لعدم تنافیها فی الدلالة وفی مقام الإثبات، بحیث تبقی أبناء المحاورة متحیرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها یتصرف فی الجمیع

فإنّه یقال: بما أن خطاب الخاصّ أو المقیّد یعدّ قرینة علی العامّ أو المطلق، لکونهما أظهر بالإضافة إلی خطابهما فلا تکون قرینیّة خطاب الخاصّ أو المقیّد مختصّة بمورد دون مورد، بخلاف ما إذا کانت ملاحظة الخطابین قرینة علی التصرف فی الآخر، فإنّه لیس کلّ مورد یکون أحد الخطابین الحکم فیه بالعنوان الأولی والآخر بالعنوان الثانوی یقدّم ما کان الحکم فیه بالعنوان الثانوی علی ما کان فیه الحکم بالعنوان الأوّلی، بل ربما یکون الأمر بالعکس، فیقدّم ما کان الحکم فیه بالعنوان الأوّلی، کما إذا ورد فی أحد الخطابین: «اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه»(1) وورد فی خطاب آخر: «لا بأس بخرء الطائر وبوله»(2) فمقتضی الخطاب الأوّل نجاسة بول الطائر غیر المأکول لحمه وهذا بالعنوان الثانوی، ومقتضی الخطاب الثانی طهارته، ومع ذلک یقدّم ما دلّ علی طهارة بول الطائر ولو کان بالعنوان الأوّلی، للزوم اللغویة علی تقدیر تقدیم خطاب نجاسة بول ما لا یؤکل لحمه، فملاحظة قرینیّة مجموع الخطاب علی التصرف فی أحدهما المعیّن غیر کون أحدهما المعیّن قرینة علی الآخر فی کلّ مورد.

والمتحصّل أنّه یخرج عن التعارض ما إذا کان العامّ والخاصّ کلاهما ظنیّاً من

ص : 101


1- 1) وسائل الشیعة 3:405، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- 2) مستدرک الوسائل 2:560، الباب 6، الحدیث 2722.

أو فی البعض عرفاً، بما ترتفع به المنافاة التی تکون فی البین، ولا فرق فیها[1] بین أن یکون السند فیها قطعیاً أو ظنیّاً أو مختلفاً.

فیقدم النص أو الأظهر _ وإن کان بحسب السند ظنیاً _ علی الظاهر ولو کان بحسبه قطعیاً. وإنما یکون التعارض فی غیر هذه الصور مما کان التنافی فیه بین الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات، وإنما یکون التعارض بحسب السند فیما إذا کان کل واحد منها قطعیاً دلالةً وجهةً، أو ظنیاً فیما إذا لم یکن التوفیق بینها بالتصرف فی البعض أو الکل، فإنه حینئذ لا معنی للتعبد بالسند فی الکل، إما للعمل بکذب أحدهما، أو لأجل أنه لا معنی للتعبد بصدورها مع إجمالها، فیقع التعارض بین أدلة السند حینئذ، کما لا یخفی.

حیث الصدور أو کان الخاصّ أو العامّ قطعیّاً بحسبه، فعلی التقادیر یتقدّم الخاصّ علی العامّ، وکذا الحال فی المطلق والمقیّد وموارد ملاحظة المجموع قرینة علی التصرف فی أحدهما لأظهریّته، فإنّ هذا أیضاً خارج عن موضوع التعارض بین الخطابین.

[1] یعنی لا فرق فی موارد الجمع العرفی، وما ذکر من عدم التعارض فیها بین الدلیلین، بین کون السند فی کلا الدلیلین قطعیّاً أو کان السند فیهما ظنیّاً أو کانا مختلفین، فإنه علی جمیع التقادیر یعمل بکلا الدلیلین بالتصرف فیهما أو فی أحدهما المعیّن، ویجعل النص أو الأظهر قرینة علی الظاهر ولو کان الظاهر قطعیّاً سنداً، والنص أو الأظهر ظنیّاً بحسبه.

فیکون التعارض فی غیر تلک الموارد ممّا کان التنافی بین الدلیلین فی مقام الإثبات وکشف کلّ منهما عن مقام الثبوت، وإنّما یختصّ التعارض بحسب السند فیما إذا کان کلّ من الدلیلین قطعیّاً من حیث الدلالة وجهة الصدور علی تقدیر

ص : 102

صدوره أو ظنیّاً من غیر أن یکون بینهما جمع عرفی بحیث یکون لحاظهما معاً قرینة علی التصرف فیهما أو فی أحدهما المعیّن أو کان أحدهما المعیّن قرینة علی التصرف فی الآخر علی ما تقدّم، ووجه معارضتهما فی السند عدم شمول دلیل اعتبار السند لکلّ منهما، حیث إنّ التعبّد بصدور کلّ منهما لغو محض أو العلم بعدم صدور أحدهما وکونه کذباً، وعلی ذلک فیقع التعارض بینهما فی شمول دلیل اعتبار السند لکلّ منهما.

ص : 103

ص : 104

فصل

التعارض وإن کان لا یوجب إلاّ سقوط أحد المتعارضین عن الحجیة رأساً حیث لا یوجب إلاّ العلم بکذب أحدهما فلا یکون هناک مانع[1] عن حجیّة الآخر.

فی سقوط المتعارضین کلیهما أو بقاء أحدهما لا بعینه علی الاعتبار

اشارة

[1] حاصل ما ذکره قدس سره أن الموجب للتعارض بین الدلیلین العلم بکذب أحدهما أی عدم ثبوت مدلول أحدهما فی الواقع، ولکن لیس لهذا المعلوم بالإجمال عنوان واقعی عندنا بحیث یشار إلیه بذلک العنوان مع احتمال کذبهما أیضاً بأن لا یکون شیء منهما موافقاً للواقع، وعلی ذلک فأحد المتعارضین لیس فیه ملاک الطریقیّة، وهو المعلوم بالإجمال کذبه ولکن أحدهما الآخر مع عدم تعیّنه واقعاً کما ذکر فیه ملاکها فلا مانع عن اعتباره فیکون التعارض موجباً لسقوط أحدهما لا بعینه عن الاعتبار، وأحدهما الآخر لا بعینه لاحتمال صدقه وإصابته الواقع مع عدم تعیّنه معتبر، وعلی ذلک فیمکن للفقیه مع عدم إمکان أخذه بشیء منهما من مدلولهما المطابقیین لعدم المعیّن للمعتبر منهما الأخذ بأحدهما لا بعینه فی نفی احتمال الحکم الثالث، کما إذا قام خبر العدل بحرمة فعل، وخبر عدل آخر بوجوبه فلا یمکن الإفتاء بوجوبه أو الإفتاء بحرمته، لکن یمکن له الإفتاء بعدم استحبابه، هذا بناءً علی مسلک الطریقیّة فی الأمارات والالتزام بأنّ قیام الأمارة بحکم فعل لا یوجب حدوث ملاک فی ذلک الفعل بل الفعل باق علی ما هو علیه من الصلاح والفساد وعدمهما.

وأما بناءً علی مسلک السببیّة، وأنّ قیام أمارة بحکم فعل یکون سبباً لحدوث ملاک ذلک الحکم فیه فالأمر کذلک لولم یکن لدلیل الاعتبار إطلاق بحیث یعمّ المتعارضین، کما هو الحال فی اعتبار الظهورات حیث إنّ الدلیل علی اعتبارها بناء العقلاء، ولا بناء

ص : 105

منهم إلاّ علی اعتبار ظهور ما لم یعلم کذبه، وهو أحد المتعارضین لا بعینه، وکذا الحال فی اعتبار السند بناءً علی أن دلیل اعتباره أیضاً بناء العقلاء، بل لو قیل بأن اعتباره للآیة والروایات فالأمر أیضاً کذلک لانصرافهما إلی اعتبار ما لم یعلم کذبه لولم نقل بانصرافهما إلی خصوص خبر یحصل الظنّ أو الاطمینان به علی الواقع.

نعم، لولم نقل بالانصراف بأن کان مدلول دلیل الاعتبار اعتبار کلّ منهما لکان المتعارضان من المتزاحمین فیما کان مدلول کلّ منهما الحکم الإلزامی کوجوب الضدّین، لا فیما إذا کان مدلول أحدهما الحکم الإلزامی والمدلول الآخر غیر الإلزامی، فإنّه یثبت فی الفرض الحکم الإلزامی؛ لأنّ الحکم غیر الإلزامی لفقد الملاک فیه لا یزاحم ملاک الحکم الإلزامی، اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ مقتضی اعتبار الأمارة بنحو السببیّة أن یکون الحکم غیر الإلزامی عن اقتضاء، فیزاحم الحکم الإلزامی فی ملاکه فیحکم فعلاً بغیر الإلزامی؛ لأنّه یکفی فی ثبوت الحکم غیر الإلزامی عدم تمام ملاک الحکم الإلزامی، کما إذا قام خبر بحرمة فعل والآخر بإباحته، فیحکم بإباحته لعدم تمام ملاک الإلزام، لا لثبوت الإباحة الاقتضائیّة.

أقول: عمدة الدلیل علی اعتبار الأمارات فی الأحکام فی اتّباع الظهورات والاعتناء بأخبار الثقات السیرة العقلائیّة حتی من المتشرعة ومقتضاها اعتبار الأمارة الخارجیّة، وأمّا الجامع بین الأمارتین أو أحد الفردین من أمارة لا بعینه وبلا تعیین خارجی فهو خارج عن موضوع الاعتبار، مثلاً المعتبر من خبر الثقة أو العدل الخبر الخارجی المعیّن لا غیر المعیّن حتی من حیث الواقع، وعلیه فلا یمکن نفی الثالث بالأخذ بالمدلول الالتزامیّ الذی یتفق فیه المتعارضان، نعم نفی الثالث فی موارد العلم بصدق أحدهما هو بالعلم، لا باعتبار أحدهما لا بعینه منهما حتی بحسب الواقع.

ص : 106

مقتضی الأصل فی تعارض الأمارتین

ومما ذکر یظهر أنّه لا یصحّ فی المقام القول بأنّ مقتضی الأصل فی المتعارضین هو التخییر بینهما فی الأخذ فیکون المأخوذ حجة، ویمکن نفی الثالث به بدعوی أنّ مقتضی اعتبار کلّ أمارة خارجیّة اعتبارها مطلقاً مع احتمال صدقها سواء اُخذ بها أم لم یؤخذ بها، وسواء اُخذ بصاحبها أم لم یؤخذ، وبما أنّه لا یمکن التحفظ علی هذا الإطلاق فی المتعارضین؛ لأنّه تعبّد بکلتا الأمارتین مع العلم بعدم الملاک فیهما معاً، یقیّد إطلاق دلیل الاعتبار فی ناحیة کلّ منهما بصورة الأخذ بها أو بصورة ترک الأخذ بالأمارة الاُخری، فإنّ هذا المقدار هو المتیقّن فی رفع الید عن إطلاق دلیل اعتبارها.

ووجه الظهور أنّه لیس فی البین خطاب لفظی فی ناحیة کلّ من الأمارتین لیؤخذ فی کلّ منهما بأصل الاعتبار، ویرفع الید عن إطلاقه، بل عمدة الدلیل السیرة العقلائیة التی أشرنا إلیها، وهی مفقودة فی مورد تعارض الأمارتین اللتین یکون اعتبار کلّ منهما فی عرض الاُخری، بل لو کان فی البین خطاب لفظی یدلّ علی اعتبار الأمارة مع الغمض عن السیرة المتقدمة کما فی البیّنة فی الموضوعات فالجمع المذکور غیر صحیح أیضاً، لأنّ التخییر إنّما یکون مقتضی الأصل فیما إذا کان الملاک والتکلیف فی کلّ من الفردین أو الفعلین ووقوع التزاحم بینهما فی الامتثال، کما یأتی عند التعرض للفرق بین التزاحم والتعارض.

وأمّا الأمارات التی ملاکها الطریقیّة یعنی: احتمال الإصابة للواقع والحکم فیها طریقی فلا یمکن ذلک؛ لأنّه لا یحتمل أن یکون کلّ منهما مصیباً للواقع ولا یحتمل أن یکون الحکم الواقعی مدلول هذه الأمارة مشروطاً بترک العمل بالاُخری أو مشروطاً بالعمل بها، بل الواقع إمّا علی طبق هذه الأمارة اُخذ بها أم لم یؤخذ، ترک العمل

ص : 107

بالاُخری أو لم یترک، أو أنّه علی طبق الاُخری، ویحتمل فی غیر موارد العلم بصدق أحدهما عدم کونه مطابقاً لشیء منهما فلا یکون الالتزام بالتخییر المذکور جمعاً عرفیّاً بینهما، وإنّما یکون التخییر جمعاً عرفیّاً إذا احتمل أنّ الحکم الواقعی النفسی تخییری ثبوتاً، کما فی مسألة قیام الأمارة علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة وقیامها علی وجوب الجمعة، والوجه أنّ ذکر العدل لمتعلق الوجوب فی خطاب الأمر بالشیء أو فی خطاب آخر یکشف عن تعلّق الوجوب ثبوتاً بالجامع بینهما، وقد فرغنا أنّ مدلول دلیل الاعتبار هو اعتبار أمارة خارجیّة بعینها لا بالجامع بینها وبین غیرها، وذکرنا أنّه لو کانت الأمارة مصیبة بالواقع کانت طریقاً إلی الواقع، فالعمل بالاُخری أو ترکها لا دخل فی طریقیّتها، وإن لم تصب الواقع فلا تکون طریقاً اُخذ بها أو لم یؤخذ.

وقد أورد(1) للجمع المذکور والالتزام بأنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة التخییر بین المتعارضین بوجه آخر، وهو أنّ لازم تقیید اعتبار کلّ من الأمارتین بالأخذ بها عدم اعتبار شیء منهما عند ترک العمل بهما فیکون المرجع للتارک هو الرجوع إلی العامّ الفوق أو الإطلاق، ومع عدمهما الأصل العملی فی المسألة الفرعیّة.

وبتعبیر آخر لا معنی لکون شیء حجة علی تقدیر العمل به، فإنّ الحجة ما یؤخذ به المکلف علی تقدیر إصابتها الواقع عمل بها المکلف أم لا.

ولا یرد النقض بالتخییر بین الخبرین المتعارضین لو قیل باستفادة ذلک مما ورد فی الأخبار الواردة فی المتعارضین من الأخبار _ المعروفة بالأخبار العلاجیّة _ فإنّ مفادها هو تعیّن الأخذ بأحدهما، بخلاف تقیید إطلاق دلیل الاعتبار بصورة الأخذ به، فإنّ تعیّن

ص : 108


1- 1) مصباح الاُصول 3:366.

الأخذ بأحدهما لا یستفاد من تقیید إطلاق الاعتبار.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ الأصل العملی فی الشبهات الحکمیّة لا یعتبر مع التمکّن من الوصول إلی الدلیل والحجّة علی التکلیف الواقعی، وکذلک لا یکون عموم العامّ أو إطلاق المطلق حجة مع التمکّن من الوصول إلی المخصّص للعامّ والمقیّد للإطلاق، والأخذ بأحد الخبرین وصول إلی الدلیل والحجّة.

نعم، المحذور المذکور یجری فی الأمارات القائمة فی الموضوعات الخارجیّة مع تعارض الأمارتین ولکنّ الأمارات المتعارضة فیها خارجة عن البحث فی المقام، والالتزام فیها بالرجوع إلی الأصل العملی مع التعارض لا محذور فیه.

والمتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّه بناءً علی مسلک الطریقیّة فی المتعارضین من الأمارة حتی فیما فرض لاعتبارها خطاب لفظی أنّ ذلک الخطاب لا یعمّهما معاً، وشموله لأحدهما فقط لا معیّن له، فلا یدخل شیء منهما تحت دلیل اعتبار تلک الأمارة، ولا یجری فی الأمارات ما تقدّم فی الاُصول العملیّة من شمول دلیل اعتبار الأصل لأطراف العلم الإجمالی فیما لا یلزم من شموله لها الترخیص القطعی فی المخالفة للتکلیف الواصل بالعلم الإجمالی، وذلک لأنّ الأمارات الواقع فیها الکلام فی المقام کالظواهر وأخبار الثقات لها مدالیل مطابقیّة ومدالیل التزامیّة، مثلاً إذا ورد فی الخطاب: «العصیر العنبی إذا غلی یحرم» فمدلوله المطابقی تعلّق الحرمة بالعصیر بحدوث غلیانه، ومدلوله الالتزامی عدم تعلّق الحلیة بالعصیر من العنب عند غلیانه، وإذا ورد خبر عدل بأنّه: إذا ذهب أربع فراسخ ورجع أربعاً فعلیه القصر فی الصلاة(1) فالمدلول الالتزامی له

ص : 109


1- 1) وسائل الشیعة 8:456، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر.

عدم وجوب التمام، وأنّ المسافة الملفقة من الذهاب والإیاب سفر. وإذا ورد فی خبر أنّه: إذا ذهب أربعاً ورجع أربعاً فعلیه التمام، فمدلوله الالتزامی لذلک نفی المدلول المطابقی للأوّل.

وعلی ذلک فدلیل اعتبار خبر العدل أو الثقة شموله لکلا المتعارضین غیر ممکن لمناقضة المدلول المطابقی لأحدهما مع المدلول الالتزامی الآخر، والتعبّد بالمتناقضین أمر غیر ممکن؛ لأنّه لغو محض؛ ولذا ذکرنا فی بحث الاُصول العملیّة أنّ المناقضة فی المفاد حتی بین أصلین توجب المعارضة بینهما وإن لم تستلزم المخالفة العملیّة، کتعارض استصحاب عدم جعل الحکم بحیث یعمّ الحالة اللاحقة مع الاستصحاب فی الحکم الفعلی السابق.

وإذا لم یمکن الاعتبار لکلا المتعارضین معاً فإن اُرجع الاعتبار إلی عنوان أحدهما لا بعینه، کما تقدّم فی کلام الماتن فقد تقدّم عدم تعلّق الاعتبار بالجامع، وإن اُرجع إلی اعتبار کلّ منهما علی تقدیر الأخذ به أو ترک الآخر فقد تقدّم أنّ أیّ أمارة إن کانت مصیبة للواقع لا یکون للأخذ بها أو ترک الآخر دخلاً فی طریقیّتها، وکذا إذا کانت مخطئة غیر مصیبة فالتقیید المزبور لا یعدّ جمعاً عرفیّاً بین دلیل اعتبار هذه وبین اعتبار تلک إذا کانتا من سنخین مختلفین، والأمر فیما کانتا من سنخ واحد أوضح؛ لأنّ الخطاب فی الحکم الطریقی والاعتبار لا یزید علی خطاب الحکم النفسی.

وکما لا یمکن الأخذ بخطاب الحکم النفسی فیما إذا لم یمکن ثبوته لکلا الفردین معاً _ کما إذا تزوّج باُمّ وبنتها بعقد واحد لا یمکن تقیید إمضاء نکاح کلّ منهما بالأخذ به والالتزام بأنّ نکاح أیّ منهما ممضی علی تقدیر الأخذ بنکاحها أو علی تقدیر ترک الاُخری، بل ینحصر التخییر بموارد التزاحم بین التکلیفین _ کذلک الحال فی الحکم

ص : 110

الطریقی المستفاد من خطابات الاعتبار فی موارد تعارض الدلیلین.

نعم قد یقال فی مسألة نکاح الاُمّ والبنت إنّ شمول دلیل إمضاء النکاح بالإضافة إلی نکاح البنت بلا محذور؛ لأنّ البنت لا تحرم بمجرّد نکاح الاُم بخلاف نکاح الاُمّ فإنّها تحرم بمجرّد نکاح البنت، وهذا إن تمّ، بیان معیّن لأحد الفردین، فإنّه لو کان فی البین معیّن ولو من الخارج، کما إذا ادّعی ذلک فی الأخبار العلاجیّة فلا بأس بالالتزام به.

المدلول الالتزامی کما أنه تابع للدلالة المطابقیّة فی التحقّق کذلک یتبعه فی الاعتبار

وقد ذکر المحقّق النائینی قدس سره (1) لنفی الحکم الثالث بالمتعارضین وجهاً آخر، وهو أنّ لکلّ من المتعارضین مدلولاً التزامیاً یتفقاق فیه، والدلالة الالتزامیّة وإن کانت تابعة للدلالة المطابقیّة فی الوجود إلاّ أنّها غیر تابعة للدلالة المطابقیّة فی الاعتبار والحجیّة، وبتعبیر آخر کما أن کلاًّ من المتعارضین خبر عدل بالإضافة إلی المدلول المطابقی، کذلک هما خبر عدل بالإضافة إلی المدلول الالتزامی، والتعارض بتنافی مدلولی الدلیلین غیر متحقّق بالإضافة إلی المدلول الالتزامی لهما فیؤخذ بهما فی ذلک المدلول، وهذا عبارة اُخری عن نفی الثالث بالمتعارضین، وإن شئت قلت: لا تتبع الدلالة الالتزامیة الدلالة المطابقیة فی الاعتبار؛ ولذا لو کان الخطاب بحسب مدلوله المطابقی مجملاً ولکن کان له مدلول التزامی مبیّن یؤخذ بذلک المدلول الالتزامی، کما هو الحال بالإضافة إلی المدلول التضمّنی للخطاب، فإنّه إذا سقط عن الاعتبار بالإضافة إلی تمام مدلوله المطابقی فلا یسقط بالإضافة إلی مدلوله

ص : 111


1- 1) فوائد الاُصول 4:755 فما بعد.

التضمّنی، کما هو الحال فی التبعیض فی الخبر بحسب مدلوله فی الاعتبار وعدمه.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ الإخبار عن المدلول الالتزامی إنّما هو بفرض ثبوت المدلول المطابقی لا مطلقاً؛ ولذا لو سئل من المخبر لو اتفق فی الواقع عدم ثبوت للمدلول المطابقی فی خبرک فهل تخبر مع ذلک بثبوت المدلول الالتزامی؟ یکون جوابه النفی، فالمعارضة المفروضة بین الخبرین المتعارضین فی مدلولهما المطابقی تجری فی مدلولیهما الالتزامیین أیضاً؛ ولذا لو أخبر شخص بإصابة البول لمایع فهو إخبار بنجاسته المترتّبة علی إصابته، فإن أخبر شخص آخر أنه أصابه الخمر دون البول فهو أیضاً إخبار بنجاسته المترتّبة علی إصابة الخمر فلا تثبت نجاسته؛ لأنّ النجاسة المترتّبة علی ذلک المایع نجاسة خاصّة ینفیها من یخبر بإصابة الخمر إیّاه لا البول، وأیضاً لا یؤخذ المال من ذی الید إذا أخبر عدل بأنّ ذلک المال لعمرو، وأخبر عدل آخر أنّه لیس لعمرو بل هو لبکر، فلا یقال إنّ خبرهما فی مورد یعتبر بیّنة علی أنّ المال لیس لذی الید إلی غیر ذلک.

ومما ذکر ظهر أنّه لا مجال لقیاس المتعارضین بما إذا کان المدلول المطابقی لخطاب مجملاً وکان له مدلول التزامی مبیّن، فإنّه یؤخذ به فی ذلک المدلول الالتزامی، کما إذا ورد النهی عن صوم یوم العید وتردّد النهی بین أن یکون النهی من التحریم الذاتی أو الوضعی، فإنّه یحکم بذلک الخطاب ببطلان صوم یوم العید سواء کان النهی تحریماً أو إرشاداً إلی عدم المشروعیّة، فإنّ البطلان لازم أعمّ لحرمة العبادة أو عدم مشروعیّتها، وکذلک الحال فی موارد التبعیض فی الروایة، وکون بعض مدلوله ثبوتاً غیر مرتبط لثبوت بعضه الآخر، وقد تقدّم أنّه لا فرق فی ذلک کلّه بین الالتزام باعتبار الأمارة من باب الطریقیّة أو السببیّة فلا تفید.

ص : 112

ثمّ إنّ الموضوع للاعتبار ظاهر الخطاب سواء کان الظهور وضعیّاً أو بالقرینة العامّة کالظهور الإطلاقی أو بالقرینة الخاصّة، ورفع الید عن الظهور وحمل الخطاب علی إرادة غیره من غیر قرینة عرفیّة، بأن کان الحمل علی غیر ظاهره لمجرّد انتفاء المعارضة والتنافی بین الخطابین لا دلیل علیه، وعلی ذلک فإن کان صدور الخطابین وجدانیّاً فمع تعارض ظهور کلّ منهما مع الآخر وعدم القرینة علی الجمع بینهما لا یکون ظهور شیء منهما معتبراً، أو إن کان صدور کلّ منهما غیر محرز وجداناً فلا یمکن أن یعمّهما دلیل اعتبار الصدور؛ لأنّ التعبّد بصدورهما مع تعارض ظهورهما وتنافی مدلولهما لغو محض، والتعبّد بصدور أحدهما دون الآخر بلا معیّن غیر ممکن بالنظر إلی دلیل الاعتبار کما تقدّم، والتعبّد بالجامع بینهما أیضاً کذلک لما ذکرنا من انحلال دلیل الاعتبار بالإضافة إلی أفراد الأمارة لا الجامع لا بعینه، ولو کان صدور أحدهما وجدانیّاً دون الآخر فمع فرض المعارضة وعدم الجمع العرفی بینهما لا یعتبر غیر الوجدانی، فإنّ دلیل اعتبار غیر الوجدانی قاصر عن شموله لفرض معارضته مع الوجدانیّ کما هو الحال فی معارضة الخبر مع ظهور الکتاب.

فتحصّل أنّ ما ذکر من أنّ الجمع بین الدلیلین مهما أمکن أولی من الطرح غیر تامّ إلاّ أن یراد موارد الجمع العرفیّ فتکون الأولویّة تعیینیّة نظیر الأولویّة فی میراث اُولی الأرحام.

فی التزاحم بین التکلیفین

وحیث قد یذکر فی المقام التزاحم فینبغی التعرّض للفرق بین التعارض والتزاحم لئلا یشتبه أحدهما بالآخر، فنقول: قد یکون التزاحم فی ملاکات الأحکام والتکالیف، کما إذا کان فی فعل جهة صلاح ملزم وجهة فساد کذلک، فیلاحظ الملاک

ص : 113

الغالب منهما ویجعل الحکم علی طبق ذلک الملاک، وهذا من وظیفة الحاکم ولیس للمکلّف دخالة فی تعیین ذلک الحکم وملاکه، بل وظیفته موافقة الحکم المجعول حتی ما لو فرض عدم اعتقاده بتشخیص الحاکم بل اعتقاده خطأ المولی فی تشخیصه، ولولم یکن أحد الملاکین راجحاً علی الآخر رجحاناً لزومیّاً یجعل المولی الحکم الترخیصی لذلک الفعل، وقد یکون التزاحم فی مقام الامتثال دون جعل التکلیفین، بأن یکون کلّ من التکلیفین مجعولاً بنحو القضیة الحقیقیّة وفعلیّاً عند تحقّق موضوعهما وتمکّن المکلّف علی موافقة کلّ منهما، ولکن قد یتفق للمکلّف عدم تمکّنه من الجمع بین امتثالهما، بأن یکون صرف قدرته علی امتثال أحدهما موجباً لارتفاع قدرته علی الآخر سواء کان التکلیفان مستفادین من خطاب واحد لانحلالیّة مدلوله، کما فی خطاب إنقاذ الغریق وتطهیر المسجد أو مستفاداً من خطابین، کما فی إنقاذ الغریق مع النهی عن التصرف فی ملک الغیر بلا رضاه، فیکون ملاک التزاحم بین التکلیفین فی الامتثال عدم تمکّنه من الجمع بینهما فی الامتثال بعد الفراغ من جعل کلّ منهما بنحو القضیة الحقیقیّة علی المتمکّن علی المتعلّق، بخلاف التعارض فإنّ الملاک فیه العلم بعدم جعل کلا الحکمین المدلول علی کلّ منهما بخطاب أو أمارة ولو مع قدرة المکلّف من الجمع بین متعلّقهما، وعلی ذلک فافتراق التعارض بین الدلیلین والخطابین وبین التزاحم بین التکلیفین ظاهر لا یشتبه أحدهما بالآخر.

نعم ذکر المحقّق(1) النائینی للتزاحم بین التکلیفین مورداً آخر وهو أن یکون

ص : 114


1- 1) أجود التقریرات 2:504.

التزاحم بینهما من غیر ناحیة عدم تمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی الامتثال، ومثّل للمورد ما إذا قام دلیل علی وجوب شاة فی کلّ خمس من الإبل إلی أن تبلغ ستّاً وعشرین إبلاً، وقام الدلیل علی وجوب بنت مخاض فی ستّ وعشرین من الإبل وإذا ملک المکلّف خمساً وعشرین من الإبل إلی نصف الحول ثمّ ملک إبلاً اُخری أثناء الحول فیجب علیه خمس شیاه کما هو مقتضی الدلیل الأوّل بعد حولان الحول، ومقتضی ما دلّ علی وجوب بنت مخاض فی ستّ وعشرین وجوبه عند حولان الحول علیها، فیلزم أن یکون المال الواحد مزکّی فی الحول أزید من المرّة مع قیام الدلیل علی أن المال الواحد لا یزکی فی حول واحد أزید من مرّة، فیقع التزاحم بین ما دلّ علی وجوب خمس شیاه وما دلّ علی وجوب بنت مخاض بحولان الحول علی ستّ وعشرین من الإبل.

وقد یقال(1): فی الجواب عن ما ذکر بأنّ مثل المورد المذکور لیس من باب التزاحم بل من باب التعارض بعینه، فإنّ مقتضی الخطابین وجوب خمس شیاه بعد حلول الشهر السادس بعد تملک الإبل السادس والعشرین ووجوب بنت مخاض بعد کمال الحول بعد تملّکه مع قیام الدلیل علی عدم وجوب إحدی الزکاتین، فیکون نظیر ما دلّ علی وجوب صلاة الجمعة مع ما دلّ علی وجوب صلاة الظهر مع العلم بعدم وجوبهما معاً، ویکون مقتضی الجمع العرفی بینهما التخییر بین الزکاتین نظیر التخییر بین صلاتی الظهر والجمعة.

ولکن لا یخفی أنّه لا منافاة بین ما دلّ علی وجوب خمس شیاه بعد حولان

ص : 115


1- 1) مصباح الاُصول 3:359.

الحول علیها وبین ما دلّ علی عدم تعلّق الزکاة بالمال فی حول واحد مرّتین، بل التنافی بین ما دلّ علی وجوب بنت مخاض بعد حولان الحول علی تملک ستّ وعشرین، وبین ما دلّ علی أنّ المال الواحد لا یزکّی فی الحول مرّتین، وبما أنّ خطاب هذا الحکم ناظر إلی موارد تداخل الحولین یکون مقیّداً لإطلاق ما دلّ علی الوجوب فی ستّ وعشرین بعد انقضاء الحول علی تملّکها، وأنّ الحول لها یکون بعد انقضاء الحول علی خمس وعشرین.

اختصاص التزاحم بالتکالیف النفسیّة وعدم جریانه فی التکالیف الضمنیّة

ثمّ إنّ التزاحم بین التکلیفین لا یتحقّق فی نفس التکالیف الضمنیّة بل مورده نفس التکالیف النفسیّة، کما إذا لم یتمکّن المکلّف من الرکوع والسجود الاختیاریین فی کلّ من صلاة الظهر والعصر وتمکّن من رعایتهما فی إحدی الصلاتین، أو لا یتمکّن من صیام تمام شهر رمضان وتمکّن من صیام بعضه کالنصف الأوّل من الشهر أو النصف الأخیر منه، فإنّ هذا یدخل فی باب التزاحم بناءً علی وجوب صوم شهر رمضان بنحو الانحلال بالإضافة إلی أیامه بدخول الشهر، کما هو الحال فی وجوب صلاتی الظهر والعصر بتحقّق الزوال، ویأتی أنّه لابدّ من صرف قدرته علی امتثال التکلیف الذی ظرف امتثاله أسبق، حیث إنّ تقدّم ظرف الامتثال فی المتزاحمین مرجّح، فإنّ ترک الصوم مثلاً فی النصف الأوّل ترک لموافقة التکالیف المتعلّقة بصیام أیّامه مع التمکّن من الصوم، بخلاف ترک الصیام فی النصف الأخیر فإنه ترک للصوم مع عدم التمکّن منه فلا یکون تکلیف بالإضافة إلی النصف الأخیر لارتفاع الموضوع بالإضافة إلیه، وکذا ترک الظهر بالرکوع والسجود الاختیاریین ترک لها مع التمکّن منها فلا یجوز، بخلاف الإتیان بصلاة العصر مع الرکوع والسجود

ص : 116

الاضطراریین بعد الإتیان بالظهر فإنّه ترک لصلاة العصر الاختیاریّ مع عدم التمکّن منها.

وهذا التزاحم لا یجری فیما إذا لم یتمکّن المکلّف فی صلاة واحدة من الرکوع والسجود الاختیاریین إلاّ فی رکعتین منها إمّا الأوّلتین أو الأخیرتین، وذلک فإنّ التکلیف الاختیاری تعلّق بالصلاة مع الرکوع والسجود الاختیاریین فی تمام رکعاتها، وهذا التکلیف تکلیف واحد ثبوتاً یسقط عن المکلّف فی الفرض لعدم تمکّنه منها، غایة الأمر قد علم من الأدلّة عدم سقوط التکلیف بالصلاة رأساً مع عدم تمکّنه من بعض أجزائها وشرائطها، وهذا العلم قد یحصل من الخارج، وقد یحصل من جعل البدل للمأمور به الاختیاریّ، وعلی ذلک فتعیین أنّ اللازم فی الفرض هو الصلاة مع الرکوع والسجود الاختیاریین فی الرکعة الاُولی والثانیة أو مخیّر بین الأوّلتین والأخیرتین یحتاج إلی دلیل، ومع عدمه مقتضی أصالة البراءة عن التعیین هو التخییر، وإذا قام الدلیل علی رعایة الاختیاریّ أوّل الصلاة یؤخذ به أو علی التخییر فکذلک، ولا تصل النوبة إلی جریان أصالة البراءة عن التعیین، کما فی القیام المعتبر فی الصلاة وأنّه إذا دار أمر المکلّف بین القیام فی الرکعتین الأولتین أو الأخیرتین تعیّن رعایته فی الأولتین أخذاً بظاهر قوله علیه السلام (1) : «إذا قوی فلیقم».

هذا بالإضافة إلی أمرین یعتبر کلّ منهما فی عمل مع کونهما عن سنخ واحد.

وأمّا إذا کان الأمران المعتبران فیه سنخین ولم یتمکّن المکلف من الجمع بینهما فی ذلک العمل، فمع العلم بعدم سقوط العمل عن المکلّف، فإن کان لدلیل

ص : 117


1- 1) وسائل الشیعة 5:495، الباب 6 من أبواب القیام، الحدیث 3.

اعتبار أحدهما فی ذلک العمل إطلاق یقتضی اعتباره فیه مطلقاً، ولم یکن لدلیل اعتبار الآخر إطلاق کذلک کما إذا دار أمر المکلف بین الصلاة قائماً بلا استقرار وبین الصلاة جالساً مع الاستقرار، فیقدّم ما کان لدلیل اعتباره إطلاق فیصلّی قائماً بلا استقرار، حیث إنّ الدلیل فی اعتبار القیام فی الصلاة لفظی یقتضی عدم تحقّق الصلاة بدونه، بخلاف دلیل اعتبار الاستقرار، فإنّ الدلیل علی اعتباره فی القیام الإجماع، ولا یعمّ الفرض لعدم الاتفاق علی اعتباره فی الفرض، فیؤخذ بما دلّ علی اعتباره دلیل لفظی من غیر معارض، وکذا ما إذا کان الدلیل علی اعتبار أحدهما فی العمل فی جمیع الأحوال دالاًّ وضعیّاً ودلالة الدلیل علی اعتبار الآخر بالإطلاق فیؤخذ بما قام علی اعتباره حتی فی الحال دالّ وضعیّ کالعموم الوضعیّ بناءً علی عدم تمامیّة الإطلاق فی مقابل الدلالة الوضعیّة کما یأتی، وإذا کان الدالّ علی اعتبار کلّ منهما الدالّ الوضعی أو الإطلاق فیتساقطان ویرجع إلی الأصل العملی، ومقتضاه البراءة عن خصوصیّة کلّ منهما فیما إذا احتمل التخییر واقعاً أو من باب لزوم الموافقة الاحتمالیّة إذا علم عدم التخییر وتعیین أحدهما واقعاً.

والمتحصّل ممّا ذکرنا أنّ عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین جزأین أو شرطین أو جزء وشرط من عمل واحد یوجب سقوط التکلیف بذلک العمل الکلّ أو المشروط، ومع العلم بعدم سقوط العمل عن عهدة المکلّف رأساً یثبت التکلیف الآخر بالناقص، وإذا أمکن تعیین ذلک الناقص بالدلیل علی ما تقدّم فهو، ومع عدمه ولو للمعارضة فی أدلّة اعتبار الجزئیّة والشرطیّة تصل النوبة إلی الأصل العملی، ولا یکون دلیل اعتبار الجزء مع الجزء الآخر أو مع دلیل اعتبار الشرط أو الشرط مع الشرط الآخر من المتزاحمین.

ص : 118

وممّا ذکرنا یظهر الحال فی مسألة دوران أمر المکلّف بین الوضوء لصلاته التی یصلّیها بصرف الماء فیه أو فی تطهیر ثوبه أو بدنه، فإنّ هذا لا یدخل فی باب التزاحم بین التکلیفین لیجری فیه حکم المتزاحمین، بل یدور أمر الصلاة المأمور بها بین أن تجب الصلاة مع الوضوء ولو مع نجاسة الثوب أو البدن وبین تطهیر المتنجس منهما والصلاة مع التیمّم حیث إنّ کلاًّ من الصلاتین بدل اضطراری للصلاة الاختیاریّة، ومع احتمال التخییر واقعاً أو احتمال التعین فی ناحیة کلّ منهما یتخیّر بین الأمرین کما تقدّم.

مرجّحات باب التزاحم

ویقع الکلام فی ذیل باب التزاحم بین التکلیفین فی المرجّحات التی ذکروها فی هذا الباب:

فمن المرجحات إحراز الأهمیة واحتمالها فی ناحیة أحد التکلیفین فیقدّم فی الامتثال، بخلاف ما إذا اُحرز تساویهما أو احتمل الأهمیة فی ناحیة کلّ منهما حیث إنه یتخیّر فی الامتثال بینهما، ولو حصل الکسوف فی آخر وقت الظهرین ولم یتمکّن المکلّف من الجمع بین فریضة الوقت وصلاة الآیات یقدّم صلاة الوقت لأهمیّتها ولا أقلّ من احتمالها من غیر عکس، ولا یکون الفرض من تعارض الخطابین والدلیلین علی ما مرّ.

لا یقال: کیف لا تقع المعارضة بینهما مع أن مقتضی إطلاق خطاب فریضة الوقت الإتیان بها فی فرض التمکّن منها، سواء تمکّن فی ذلک الوقت من صلاة الآیات أم لا، کما أن مقتضی خطاب الأمر بصلاة الآیات بالکسوف لزوم الإتیان بها عنده، سواء تمکّن معها من فریضة الوقت أم لا، فیقع التکاذب بین الإطلاقین.

ص : 119

فإنّه یقال: لا یقع التکاذب والتنافی فی دلالة الخطابین أصلاً حتّی تقع المعارضة بین الإطلاقین، وذلک فإنّ المقیّد لموضوع التکلیفین بالتمکّن هو العقل الحاکم بقبح التکلیف بما لا یطاق، فلابدّ من أن یکون تقییده موضوع التکلیف بالقدرة علی متعلّقه بحیث لا یلزم منه المحذور المذکور بأن لا یکون فی ناحیة الأمر بالمهم إطلاق کما ذکر، فإنّ الفعل فی ناحیة الأمر بالمهمّ یستقلّ باعتبار التمکن من متعلّقه فی ظرف عدم صرفه علی امتثال التکلیف بالأهمّ أو مثله، وفی فرض العجز الحاصل عن هذا الصرف لا تکلیف بالإضافة إلی المهم، ولو کان التکلیفان فی الأهمیّة سواء أو کان کلّ منهما محتمل الأهمیّة فهذا النحو من التقیید حاصل فی ناحیة کلّ من التکلیفین، بخلاف ما إذا کان أحد التکلیفین أهمّ أو محتمل الأهمیّة بالإضافة إلی الآخر فلا یکون تقیید فی ناحیة التکلیف الأهمّ أو لم یحرز التقیید فی ناحیته ویؤخذ بإطلاق خطاب وجوبه بخلاف الخطاب الآخر فإن الإطلاق فی ناحیة خطاب وجوبه غیر باق قطعاً.

ومن المرجّحات فی باب التزاحم ما إذا کان ظرف امتثال أحد التکلیفین مع فرض فعلیّتهما معاً أسبق من الآخر، حیث یتعیّن صرف القدرة علی ما یکون ظرف امتثاله أسبق؛ لأنّ ترکه فی ظرف امتثاله ترک للواجب مع التمکّن من امتثاله، وهذا الامتثال وإن یوجب عدم بقاء القدرة علی امتثال التکلیف الآخر إلاّ أنّ التکلیف الآخر یرتفع بانتفاء الموضوع له والعقل لا یمنع عنه، فإنّه من ارتفاع التکلیف بانتفاء القدرة علیه لا بسوء الاختیار. نعم، لو اُحرز أهمیّة التکلیف الآخر بحیث یتعیّن علی المکلّف تحصیل القدرة علیه وحفظها لزم رعایة التکلیف اللاحق حتّی فی بعض موارد احتماله، کما إذا کان للمکلف ماء ودار أمره بین صرفه علی اغتساله من الجنابة قبل

ص : 120

إلاّ أنه حیث کان بلا تعیین ولا عنوان واقعاً _ فإنه لم یعلم کذبه إلاّ کذلک، واحتمال کون کل منهما کاذباً _ لم یکن واحد منهما بحجة فی خصوص مؤداه، لعدم التعیین فی الحجة أصلاً، کما لا یخفی.

نعم یکون نفی الثالث بأحدهما لبقائه علی الحجیة، وصلاحیته علی ما هو

الفجر لصوم غده وبین أن یحفظه لدفع عطشه الحادث مستقبلاً أو عطش متعلّقه من أهله وعیاله، بل لا یبعد أن یحکم بفساد غسله فی الفرض؛ لأنّ صرفه فیه إیقاع نفسه ونفس آخر محترمة فی الهلاکة فیکون محرّماً، ولا یبعد أن یکون احتمال حدوث العطش کافیاً فی وجوب الحفظ وعدم جواز إتلاف الماء حیث یجب فی مثل هذه الموارد الاحتیاط وعدم جواز الرجوع إلی الأصل.

ومن المرجّحات فی باب التزاحم علی ما یقال ما إذا کان أحد التکلیفین من قبیل الواجب الذی له بدل بخلاف الواجب الآخر حیث لا یکون له بدل، فإنّه یقدّم فی الامتثال ما لیس له بدل سواء کان البدل للواجب الآخر من البدل العرضی أو الطولی.

فالأوّل: کما إذا کان أحد الواجبین تخییریّاً والواجب الآخر تعیینیّاً، ولم یتمکّن المکلّف من الجمع بین أحد عدلی التخییری والواجب الآخر، ومثله ما إذا کان أحد الواجبین مضیّقاً أو فوریّاً والواجب الآخر موسّعاً أو غیر فوریّ، فإنّه یذکر تقدیم الواجب التعیینی والإتیان بعدل آخر من التخییری، ویقدّم الواجب المضیّق ویؤخّر الموسّع إلی فرده غیر المزاحم.

ولکنّ الصحیح أن الواجبین لا یدخلان فی المتزاحمین فیه أصلاً، فإنّ التکلیف فی ناحیة الموسّع لم یتعلّق إلاّ بصرف وجود الطبیعی حیث یقتضی تحقّقه، وأمّا خصوص أفراده لم یتعلّق الطلب بشیء منها، وکذلک الأمر فی ناحیة الواجب

ص : 121

علیه من عدم التعین لذلک لا بهما، هذا بناءً علی حجیة الأمارات من باب الطریقیة، کما هو کذلک حیث لا یکاد یکون حجة طریقاً إلاّ ما احتمل إصابته، فلا محالة کان العلم بکذب أحدهما مانعاً عن حجیته، وأما بناءً علی حجیتها من باب السببیة فکذلک لو کان الحجة هو خصوص ما لم یعلم کذبه، بأن لا یکون المقتضی للسببیة فیها إلاّ فیه، کما هو المتیقن من دلیل اعتبار غیر السند منها، وهو بناء العقلاء علی

التخییری، فإنّ الوجوب تعلّق بالجامع بین العدلین ولو کان انتزاعیّاً، ومن الظاهر تمکّن المکلف فی الفرض من الجمع بین امتثال الواجب الموسّع والمضیّق، وکذا بین الواجب التخییری والواجب التعیینی الآخر، وعدم محذور فی فعلیّة کلّ من التکلیفین بلا حاجة إلی تصویر الترتّب وتقدیره بین التکلیفین المتعلّق کلّ واحد منهما بأحدهما، نعم الترخیص فی التطبیق علی الفرد من الموسّع أو العدل المزاحم للواجب الآخر یمکن أن یکون ترتّبیاً علی ما تقدم فی البحث فی الأمر بضدّین لهما ثالث.

الثانی: ما إذا کان البدل فی أحد الواجبین المتزاحمین طولیّاً والواجب الآخر ممّا لیس له بدل ولم یتمکن المکلّف من الجمع بین المبدل والواجب الآخر فی الامتثال، کما إذا صاد المحرم فی إحرامه صیداً وقیل بعدم جواز تأخیر کفارته، وإنّه یتعیّن علیه النحر أو الذبح فی مکة أو منی، وکان له مال فدار أمره بین شراء الکفارة به وبین صرفه علی الهدی الواجب علیه فی حجّه تمتّعاً، فیقال بلزوم صرفه فی شراء الکفارة، فإنّه واجب لا بدل له، ویصوم بدل الهدی حیث إنّ الصیام بدل الهدی لمن لا یتمکّن منه.

أقول: فی المثال مناقشة، فإنّ کفارة الصید لها بدل اضطراری بل لا دلیل علی وجوب الکفارة فوراً بل الثابت فی کفارة الصید أنه یذبح أو ینحر بمکة إن کان الصید

ص : 122

أصالتی الظهور والصدور، لا للتقیة ونحوها، وکذا السند لو کان دلیل اعتباره هو بناؤهم أیضاً، وظهوره فیه لو کان هو الآیات والأخبار، ضرورة ظهورها فیه، لو لم نقل بظهورها فی خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الإطمئنان.

وأما لو کان المقتضی للحجیة فی کل واحد من المتعارضین لکان التعارض بینهما من تزاحم الواجبین، فیما إذا کانا مؤدیین إلی وجوب الضدین أو لزوم

فی إحرام العمرة، وفی منی إذا کان فی إحرام الحج، فالمثال من موارد دوران الأمر بین الواجب الموسّع وبین الواجب المضیّق حیث إنّ الهدی واجب علیه یتعیّن علیه الذبح بمنی یوم النحر.

وقد یقال: یعبّر عن البدل الطولی ما لیس له بدل فی أجزاء الزمان کالواجب المضیّق، بخلاف الموسّع حیث إنّ فرده فی الزمان اللاحق بدل عن فرده فی الزمان الأوّل.

وفیه ما تقدّم من عدم التزاحم بین الواجب المضیّق والموسّع حتّی یلاحظ المرجّح عند التزاحم، وإن اُرید من البدل الطولی ما ذکرنا فیأتی التکلّم فیه فی ذیل المرجّح الآتی.

وهو ما إذا کان أحد التکلیفین مشروطاً بالقدرة علی متعلّقه عقلاً والتکلیف الآخر مشروطاً بالقدرة علیه شرعاً، حیث ذکروا أنّه یتعیّن علی المکلّف صرف قدرته فی الفرض فیما یعتبر فیه القدرة عقلاً، وذلک فإنّه مع امتثال هذا التکلیف یستوفی ملاک الوجود فی متعلّق ذلک التکلیف قطعاً، ولا یحرز فوت ملاک التکلیف الآخر، بخلاف العکس فإنّه مع العکس یعلم بفوت ملاک التکلیف الآخر جزماً حیث إنّ القدرة علی المتعلّق فی موارد اشتراط التکلیف بالقدرة عقلاً شرط استیفاء الملاک، بخلاف موارد اشتراطه بالقدرة شرعاً فإنّها تکون شرطاً فی حدوث الملاک فی

ص : 123

المتناقضین، لا فیما إذا کان مؤدی أحدهما حکماً غیر إلزامی، فإنه حینئذ لا یزاحم الآخر، ضرورة عدم صلاحیة ما لا اقتضاءً فیه أن یزاحم به ما فیه الاقتضاء، إلاّ أن یقال بأن قضیة اعتبار دلیل الغیر الإلزامی أن یکون عن اقتضاء، فیزاحم به حینئذ ما یقتضی الإلزامی، ویحکم فعلاً بغیر الإلزامی، ولا یزاحم بمقتضاه ما یقتضی الغیر الإلزامی، لکفایة عدم تمامیة علة الإلزامی فی الحکم بغیره.

متعلّقه؛ ولذا قالوا: إن القدرة فی موارد اشتراط القدرة عقلاً شرط لتنجّز ذلک التکلیف، بخلاف موارد اشتراطه بالقدرة شرعاً، ویعلم کون اشتراطه بالقدرة عقلاً ترک أخذ القدرة فی خطاب ذلک التکلیف، بخلاف اشتراطه بالقدرة شرعاً فإنّ قدرة المکلّف علی المتعلّق یؤخذ فی خطاب ذلک التکلیف.

وفیه إن اُرید ممّا ذکر أنّ عدم أخذ القدرة علی المتعلّق فی خطاب تکلیف کاشف عن إطلاق ذلک التکلیف ثبوتاً بحیث یجعل ذلک التکلیف فی حقّ العاجز أیضاً، وأنّ دخل القدرة علی المتعلّق فیه کدخالة العلم یعتبر فی تنجّزه عقلاً، وکذا یکون الملاک فی المتعلّق موجوداً فی صورة عجز المکلف أیضاً، ویفوت عنه ذلک الملاک غایة الأمر یکون معذوراً فی فوته إن لم یکن من ناحیته تفویت، بخلاف التکلیف المعتبر فیه القدرة شرعاً فإنّ الملاک فیه دائر مدار القدرة علیه، فلا یلزم من تقدیم التکلیف المشروط بالقدرة العقلیّة محذور ولا تفویت ملاک، بخلاف العکس، فیرد علیه أنّ اعتبار التکلیف علی المکلّف یکون لغرض کونه بوصوله إلی المکلف داعیاً له إلی الإتیان بالمتعلّق أو الاجتناب عنه، وهذا الغرض لا یحصل إلاّ بالإضافة إلی القادر؛ ولذا یکون توجیه خطابه إلی العاجز عن المتعلّق قبیحاً، بخلاف غیر العالم بالتکلیف فإنّ التکلیف یمکن أن یکون داعیاً له علی الإتیان بالمتعلّق فی موارد احتماله ولو بترغیبه أو أمره بالاحتیاط أو لتوجیه خطابه إلیه لأن یصل إلیه ویکون

ص : 124

نعم یکون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً لو کان قضیة الإعتبار هو لزوم البناء والإلتزام بما یؤدی إلیه من الأحکام، لا مجرد العمل علی وفقه بلا لزوم الإلتزام به، وکونهما من تزاحم الواجبین حینئذ وإن کان واضحاً، ضرورة عدم إمکان الإلتزام بحکمین فی موضوع واحد من الأحکام، إلاّ أنه لا دلیل نقلاً ولا عقلاً علی الموافقة الإلتزامیة للأحکام الواقعیة فضلاً عن الظاهریة، کما مر تحقیقه.

داعیاً له إلی رعایته.

وعلی الجملة جعل التکلیف ثبوتاً فی حق العاجز کالغافل لغو، ولکن لامتناع تقیید التکلیف بصورة الالتفات إلیه یکون له إطلاق ذاتی من غیر أن یکون فیه غرض البعث فی صورة الغفلة، بخلاف جعله فی حقّ الجاهل الملتفت فإنّه ثبوتاً مجعول فی حقّه، والغرض منه دعوته إلی الامتثال ولو بنحو الاحتیاط، وعلی ذلک فلا یکون لخطاب التکلیف کشف فی موارد اعتبار القدرة العقلیّة أیضاً لکون الملاک فی متعلّقه حاصلاً مطلقاً، وأنّ القدرة علیه شرط فی استیفاء ملاکه لا فی أصل الملاک.

ومع الإغماض عما ذکرنا فلا موجب لتقدیم التکلیف الذی هو مشروط بالقدرة علی متعلّقه عقلاً، فإنّ المفروض أنّ المکلّف قادر علی الإتیان بمتعلّق التکلیف الآخر أیضاً، فیکون الملاک الملزم فیه أیضاً موجوداً بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه، فیکون الإتیان بالتکلیف المشروط بالقدرة عقلاً موجباً لفوت هذا الملاک فی ظرف کان الاستیفاء ممکناً.

وعلی الجملة الکاشف عن الملاک فی المتعلّق هو طلب المولی وأمره، والمفروض فی المقام _ بناءً علی أن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه _ تحقّق القدرة بالإضافة إلی کلّ من العملین، فالملاک فی المشروط بالقدرة شرعاً أی ما ورد التقیید بالقدرة فی خطابه کالملاک فی التکلیف الآخر المشروط بالقدرة عقلاً

ص : 125

وحکم التعارض بناءً علی السببیة فیما کان من باب التزاحم هو التخییر لو لم یکن أحدهما معلوم الأهمیة أو محتملها فی الجملة، حسبما فصلناه فی مسألة الضد، وإلاّ فالتعیین، وفیما لم یکن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دل علی الحکم الإلزامی، لو لم یکن فی الآخر مقتضیاً لغیر الإلزامی، وإلاّ فلا بأس بأخذه والعمل علیه، لما أشرنا إلیه من وجهه آنفاً، فافهم.

موجود، فاللازم فی تقدیم الثانی علی الأوّل من ثبوت مرجّح.

نعم لو کان المراد من القدرة الشرعیة المأخوذة فی موضوع أحد التکلیفین غیر ما تقدّم، بأن کان المراد ما یدخل فیها عدم اشتغال عهدة المکلف بتکلیف آخر مشروط بالقدرة العقلیّة بحیث لا یجتمع امتثاله مع المشروط بالقدرة الشرعیّة یقدّم المشروط بالقدرة العقلیّة لا من باب ترجیح أحد المتزاحمین، بل لأنّ حصول التکلیف الآخر یوجب ارتفاع الموضوع للتکلیف المشروط بالقدرة الشرعیة.

والمتحصّل أنّ کلّ مورد تکون فعلیّة أحد التکلیفین موجبة لعدم حصول الموضوع للتکلیف الآخر أو ارتفاعه لا یکون المفروض من التزاحم بین التکلیفین، وإنّما التزاحم بینهما فیما کان کلا التکلیفین فعلیّین لتمام الموضوع لکلّ منهما، ولکن کان صرف القدرة علی أحدهما موجباً لارتفاع التکلیف الآخر بارتفاع القدرة علی امتثاله.

نعم إذا کان للمشروط بالقدرة الشّرعیة یعنی: ما اُخذ فی خطاب الأمر به القدرة علیه، أو ما فهم هذا الأخذ من خطاب آخر بأن جعل له بدل عند الاضطرار وعدم التمکّن منه، حیث یفهم من جعل البدل أنّ الأمر بالمبدل عند القدرة علیه، فإن دار أمر المکلّف بأن یصرف قدرته فیما لیس له بدل، أو أن یصرفه فیما له بدل اضطراری لا یبعد أن یتعیّن صرفها علی ما لیس له بدل اضطراری مع الإتیان بالبدل الاضطراری بعده، فإنّ المکلّف إذا صرف قدرته علی ذلک الواجب وأتی بعده بالبدل الاضطراری

ص : 126

هذا هو قضیة القاعدة فی تعارض الأمارات، لا الجمع بینها بالتصرف فی أحد المتعارضین أو فی کلیهما، کما هو قضیة ما یتراءی مما قیل من أن الجمع مهما أمکن أولی من الطرح، إذ لا دلیل علیه فیما لا یساعد علیه العرف مما کان المجموع أو أحدهما قرینة عرفیة علی التصرف فی أحدهما بعینه أو فیهما، کما عرفته فی

یحتمل أن یفوت منه الملاک الملزم أصلاً، لاحتمال أن یکون الملاک الاضطراری بعد ارتفاع القدرة علی مبدله وتعلّق الأمر ببدله کافیاً بتمام ملاک مبدله، وظهور الخطاب الاضطراری فی حفظ القدرة علی مبدله إنما هو فیما إذا لم یکن صرفها فی واجب آخر فعلی.

عدم وقوع التعارض بین دلیل جزئیّة شیء وجزئیّة الآخر أو شرطیّته إلاّ عند عدم التمکّن من الجمع بینهما ولکن بین خطابیهما جمع عرفی

وقد یقال: من صغریات ذلک ما إذا کان المکلّف واجداً لمقدار من الماء ولا یکفی إلاّ لوضوئه أو تطهیر بدنه أو ثوبه، حیث إنّ الوضوء یعتبر فی الصلاة عند التمکّن منه کما هو المستفاد من قوله سبحانه: «فلم تجدوا ماءً فتیمّموا صعیداً طیّباً»(1) بخلاف تطهیر الثوب والبدن، فإنّ المعتبر فیه القدرة علیه عقلاً فیقدّم تطهیر الثوب والبدن ویتیمّم للصلاة بعده.

وفیه ما تقدّم من أنّ الأمر بالوضوء وکذا الأمر بتطهیر الثوب إرشاد إلی دخالة کلّ منهما فی الصلاة، وبما أنّ اعتبار کلّ منهما فی الفرض یوجب سقوط الصلاة رأساً فنعلم إجمالاً عدم اعتبارهما فیها معاً فیکون ما دلّ علی وجوب الصلاة فی الفرض مجملاً مردّداً أمرها بین الصلاة مع طهارة الثوب أو البدن مع التیمّم لها، أو الصلاة مع

ص : 127


1- 1) سورة النساء: الآیة 43.

الصور السابقة، مع أن فی الجمع کذلک أیضاً طرحاً للأمارة أو الأمارتین، ضرورة سقوط أصالة الظهور فی أحدهما أو کلیهما معه، وقد عرفت أن التعارض بین الظهورین فیما کان سندیهما قطعیین، وفی السندین إذا کانا ظنیین، وقد عرفت أن قضیة التعارض إنما هو سقوط المتعارضین فی خصوص کل ما یؤدیان إلیه من

الوضوء مع نجاسة الثوب والبدن، وبما أنّه لا معیّن فی البین فیرجع إلی أصالة عدم التعیین فی کلّ منهما، ونتیجة ذلک التخییر.

نعم الأحوط صرف الماء أوّلاً فی تطهیر الثوب أو البدن ثمّ التیمم للصلاة.

وقد یقال فی المقام یقع التعارض فی الفرض بین ما دلّ علی اعتبار الوضوء فی الصلاة وبین ما دلّ علی اعتبار طهارة الثوب والبدن، وبما أنّ ما دلّ علی اعتبار الوضوء موافق للکتاب المجید فیقدّم.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه فإنّ الأمر بالوضوء أو تطهیر الثوب _ کما ذکرنا _ إرشادی ومعنی الأمر الإرشادی أنّه لا تتحقّق الصلاة بدون الوضوء سواء تمکّن منه أم لا، کما أنّ مقتضی الأمر بتطهیر الثوب أنّه لا تکون الصلاة بدون الطهارة من الخبث بلا فرق بین التمکّن منه وعدمه، ولازم الإطلاقین سقوط الأمر بالمشروط، ولیس خطاب الإرشاد إلی الشرطیّة والجزئیّة کإطلاق الواجب النفسی من أنّه یجب علی المتمکّن منه سواء وجب علی المتمکّن عمل آخر أم لا؛ لیقع التعارض بینهما مع العلم بعدم وجوب أحدهما من غیر تعیین.

وعلی الجملة مفاد خطاب الإرشاد إلی شرطیّة شیء دخالته فی الواجب من غیر نظر إلی نفی دخالة الآخر فیه أو إثبات دخالته، فالتعارض بالمعنی المصطلح لا یکون فی الأوامر الإرشادیّة إلی الجزئیّة والشرطیة والمانعیّة بالإضافة إلی المأمور به عند التمکّن من الإتیان بها جمیعاً.

ص : 128

الحکمین، لا بقاؤهما علی الحجیة بما یتصرف فیهما أو فی أحدهما، أو بقاء سندیهما علیها کذلک بلا دلیل یساعد علیه من عقل أو نقل، فلا یبعد أن یکون المراد من إمکان الجمع هو إمکانه عرفاً، ولا ینافیه الحکم بأنه أولی مع لزومه حینئذ وتعینه، فإن أولویته من قبیل الأولویة فی أولی الأرحام، وعلیه لا إشکال فیه ولا کلام.

نعم تکون خطاباتها متعارضة فیما إذا علم بعدم سقوط أصل الواجب النفسی عن المکلّف عند عدم التمکّن من الجمع بین اثنین منها أو أکثر من اثنین، فیقتضی خطاب الشرطیّة أو الجزئیّة فی ناحیة کلّ منهما اعتباره فی الواجب النفسی بعینه، وإذا اقتضی کلّ منهما اعتباره بعینه فیؤخذ بأصل الاعتبار حیث یحتمل أصل الاعتبار فی ناحیة کلّ منهما، ویرفع الید عن کون اعتباره بعینه، بعین الجمع الذی ذکرنا فی الواجبین کالظهر والجمعة.

وبتعبیر آخر یکون هذا من موارد الجمع العرفی، ولا تصل النوبة إلی ملاحظة الترجیح لیقال إنّ ما دلّ علی اعتبار الوضوء موافق للکتاب المجید، بل الکتاب المجید أیضاً من الخطابات الناظرة إلی الإرشاد إلی الشرطیّة بالإضافة إلی الوضوء والغسل، وبینه وبین الخطاب الوارد فی شرطیّة طهارة الثوب والبدن فی الصلاة عند عدم التمکّن من الجمع بینهما وتمکّنه من کلّ منهما جمع عرفی علی ما بیّناه.

نعم إذا لم یکن لدلیل الاشتراط والجزئیّة إطلاق فی ناحیة أحدهما بعینه یعتبر ما فیه إطلاق، ومع عدم الإطلاق فی ناحیة شیء منهما والعلم باعتبار أحدهما فی هذا الحال یرجع إلی الأصل العملی، ومقتضاه التخییر کما تقدّم.

عدم التزاحم فی موارد تعذّر أحد الشرطین أو الجزأین أو الشرط أو الجزء

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما فی العروة من أنّه إذا لم یتمکّن فی صلاة من الجمع بین

ص : 129

القیام مع الرکوع والسجود الاختیاریین بأن یصلّی قائماً مع الإیماء لهما وبین الصلاة جالساً مع الرکوع والسجود الاختیاریین، أنّه إذا أمکن تکرار الصلاة تارة بالقیام مع الإیماء واُخری جالساً مع الرکوع والسجود، وأنّه یتخیّر مع عدم التمکّن من التکرار لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ الجمع بینهما فیما إذا اُحرز اعتبار أحدهما بعینه بأن دار أمر الواجب بین المتباینین، وأمّا مع احتمال اعتبار أحدهما یکون مقتضی الجمع التخییر بینهما، وما عن النائینی قدس سره فی تعلیقته فی أحد الموضعین من تقدیم القیام؛ لکون ظرف امتثاله أسبق، وفی موضع آخر تقدیم الرکوع والسجود الاختیاریین؛ لکونهما أهمّ لا یمکن المساعدة علیه؛ لخروج المقام عن المتزاحمین.

ص : 130

فصل

لا یخفی أن ما ذکر من قضیة التعارض بین الأمارات إنما هو بملاحظة القاعدة فی تعارضها[1]. وإلاّ فربما یدعی الإجم_اع علی عدم سقوط کلا المتع_ارضین فی الأخبار، کما اتفقت علیه کلمة غیر واحد من الأخبار، ولا یخفی أن اللازم فیما إذا

حکم المتعارضین

اشارة

[1] المراد بمقتضی القاعدة النظر إلی أصل دلیل الاعتبار فی کلّ من المتعارضین سواء کان المتعارضان فردین من نوع واحد من الأمارة أو کان کلّ منهما من نوع غیر النوع الآخر، وقام الدلیل علی اعتبار کلّ من النوعین مع قطع النظر عن صورة التعارض، وقد تقدّم أنّ القاعدة الأوّلیة عدم اعتبار شیء من المتعارضین، لا بالإضافة إلی مدلولهما المطابقی ولا إلی مدلولهما الالتزامی، خلافاً للماتن قدس سره حیث اقتصر فی سقوطهما عن الاعتبار بالإضافة إلی مدلولهما المطابقی لا بالإضافة إلی المدلول الالتزامی، إذ یتفقان فیه، فإنّ أحدهما لا بعینه مما لم یحرز کذبه باق تحت دلیل الاعتبار، ویمکن به نفی الثالث، وقد ذکروا أنّ المتعارضین فیما کانا من قبیل خبر العدل أو الثقة فی الأحکام الشرعیّة العملیّة یعتبران علی وجه التخییر مطلقاً، کما هو مختار الماتن 1 حیث التزم بأنّ ملاحظة المرجّحات علی نحو الاستحباب والأفضلیّة أو التخییر بعد فقد المرجّحات المنصوصة، أو بعد فقد مطلق المرجّح کما ذهب إلی کلّ منهما جمع.

ولا یخفی أنّه لو تمّ شیء مما ذکر بقیام دلیل معتبر علیه فیؤخذ بمقتضاه، وإلاّ فإن دار أمر الحجّة فیهما بین التعیین والتخییر یؤخذ بالتعیین، للعلم بصحة الاستناد إلیه تنجیزاً وتقدیراً، وأمّا الآخر فلم تحرز صحة الاستناد إلیه بل مقتضی الاستصحاب عدم تعلّق الاعتبار به لا بنحو التعیین ولا بنحو التخییر، وإن لم یکن

ص : 131

لم تنهض حجة علی التعیین أو التخییر بینهما هو الإقتصار علی الراجح منهما، للقطع بحجیته تخییراً أو تعییناً، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجیته، والأصل عدم حجیة ما لم یقطع بحجیته، بل ربما ادعی الإجماع أیضاً علی حجیة خصوص الراجح، واستُدلّ علیه[1] بوجوه اُخر، أحسنها الأخبار وهی علی طوائف:

الأمر دائراً بینهما بل احتمل الاعتبار فی المتعارضین بنحو التخییر أو بنحو التعیین فالأصل عدم اعتبارهما تخییریّاً ولا اعتبار أحدهما تعیینیّاً.

وعلی الجملة ففی دوران الحجّة بین کونها تخییریّة أو تعیینیّة یتعیّن الأخذ باحتمال التعیین، وأمّا إذا احتمل عدم حجیّة شیء منهما لا تعییناً ولا تخییراً فلا یجوز الاعتماد علی شیء منهما.

لا یقال: إذا اُحرز اعتبار المتعارضین فی الجملة ودار أمره بنحو التخییر والتعیین فلم لا یؤخذ بالتخییر نظیر دوران أمر الواجب بین کونه تخییریاً أو تعیینیاً، حیث إنّ مقتضی أصالة البراءة الجاریة فی ناحیة التعیین جواز الاکتفاء بالجامع بینهما المعبّر عن ذلک بالتخییر.

فإنّه یقال: الفرق هو أنّ المطلوب من الأثر فی باب الحجج التنجیز والتعذیر عند الاستناد إلیه فی العمل، ومعنی التخییر فی الحجّة أنّه یصیر معتبراً عند الأخذ، لا تعلّق الاعتبار بالجامع نظیر تعلّق التکلیف بالجامع بین العملین، فإنّ التخییر فی الطریق بهذا المعنی غیر معقول، فالاستصحاب فی عدم جواز الاستناد إلی ما یحتمل فیه أصل الاعتبار وعدم اعتباره فی مقام العمل جار بلا معارض، ولا یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم اعتبار ما یعلم اعتباره تخییراً أو تعییناً؛ لأنّه إن اُرید إثبات تعلّق الاعتبار بالآخر أیضاً وجواز الاستناد إلیه فهو مثبت، وإن اُرید نفی کونه منجّزاً أو معذّراً وعدم جواز الاستناد إلیه فجوازه والتعذیر فیه قطعیّ.

[1] یعنی یستدلّ علی الترجیح بین الخبرین المتعارضین بوجوه أحسنها

ص : 132

الأخبار، والأخبار الواردة فی المتعارضین علی طوائف:

منها: ما ظاهره التخییر بین الخبرین المتعارضین مطلقاً، أی من غیر دلالة لها علی رعایة الترجیح کخبر الحسن بن الجهم عن الرضا علیه السلام ورواه فی الوسائل عن کتاب الاحتجاج لأحمد بن علی بن أبی طالب الطبری مرفوعاً إلی الحسن بن الجهم: «قال قلت له: تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة، فقال: ما جاءک عنّا فقس علی کتاب اللّه عزّ وجلّ وأحادیثنا فإن کان یشبههما فهو منّا، وإن لم یکن یشبههما فلیس منّا، قلت: یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا نعلم أیهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیهما أخذت»(1) وهذا الخبر لا بأس بدلالة ذیله علی التخییر بین المتعارضین ولکن لضعف سنده لا یمکن الاعتماد علیه. وخبر الحارث بن المغیرة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إذا سمعت من أصحابک الحدیث وکلّهم ثقة فموسّع علیک حتّی تری القائم علیه السلام فتردّ إلیه»(2) والسند فیه کما فی قبله، فإنّه رواه الطبرسی أیضاً مرفوعاً عن الحارث بن المغیرة ودلالته علی التخییر والتوسعة غیر بعیدة.

ومنها: صحیحة علی بن مهزیار التی رواها الشیخ «باسناده عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عن علی بن مهزیار قال: قرأت فی کتاب لعبداللّه بن محمد إلی أبی الحسن علیه السلام : اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رکعتی الفجر فی السفر فروی بعضهم: صلّها فی المحمل وروی بعضهم لا تصلّها إلاّ علی

ص : 133


1- 1) وسائل الشیعة 27:121، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 40.
2- 2) المصدر السابق: 122، الحدیث 41.

منها: ما دلّ علی التخییر علی الإطلاق، کخبر الحسن بن الجهم، عن الرضا علیه السلام : (قلت: یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا یعلم أی_ّهما الحق، قال: فإذا لم یعلم فموسع علیک بأیهما أخذت). وخبر الحارث بن المغیرة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : (إذا سمعت من أصحابک الحدیث وکلهم ثقة، فموسع علیک

الأرض فوقّع علیه السلام : موسّع علیک بأیّة عملت»(1).

ومکاتبة محمد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری إلی صاحب الزمان علیه السلام وفیها «قال علیه السلام فی الجواب عن ذلک حدیثان، أمّا أحدهما، فإذا انتقل من حالة إلی اُخری فعلیه التکبیر، وأمّا الآخر، فإنّه روی أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانیة وکبّر ثمّ جلس ثمّ قام فلیس علیه فی القیام بعد القعود تکبیر، وکذلک التشهد الأوّل یجری هذا المجری، وبأیّهما أخذت من جهة التسلیم کان صواباً»(2).

ولکن لا یخفی عدم دلالة شیء منهما علی التخییر بین المتعارضین. أمّا صحیحة علی بن مهزیار فالتخییر واقعی للجمع العرفی بین الحدیثین؛ لأنّ أحدهما ظاهر فی اعتبار الصلاة علی الأرض فی نافلة الفجر بمعنی عدم جوازها علی المحمل، والاُخری نصّ فی جوازها فیه فیحمل النهی عن العبادة علی الکراهة بمعنی قلّة الثواب، وکذلک فی المکاتبة وأنّ التکبیرة فی القیام بعد الجلوس من السجدة الثانیة أو عند القیام من التشهد لیست کالتکبیرة فی سایر الحالات، وأنّ الأولی منها هو الذکر الخاصّ.

وقول الماتن قدس سره : «إلی غیر ذلک» لعلّه یشیر إلی موثّقة سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام «قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر، کلاهما یرویه، أحدهما یأمر

ص : 134


1- 1) المصدر السابق: الحدیث 44.
2- 2) وسائل الشیعة 6:362، الباب 13 من أبواب السجود، الحدیث 8.

حتی تری القائم فترد علیه). ومکاتبة عبد اللّه بن محمد إلی أبی الحسن علیه السلام (اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی رکعتی الفجر، فروی بعضهم: صل فی المحمل، وروی بعضهم: لا تصلها إلاّ فی الأرض، فوقع علیه السلام : موسع علیک بأیة عملت) و مکاتبة الحمیری إلی الحجة علیه السلام إلی أن قال فی

بأخذه، والآخر ینهاه عنه، کیف یصنع؟ قال: یرجئه حتی یلقی من یخبره، فهو فی سعة حتی یلقاه»(1).

ولکن لا یخفی أنّ المفروض فیها دوران الأمر بین المحذورین فیما إذا لم یکن الأمر والنهی قابلین للجمع العرفی المتقدّم فی صحیحة علی بن مهزیار والمکاتبة، ومع عدم إمکان الاحتیاط یکون _ فی مورد دوران المحذورین _ التخییر عملاً.

وعلی الجملة ما هو تامّ سنداً لا دلالة له علی التخییر بین المتعارضین، وما هو غیر معتبر سنداً دلالته علی التخییر لا تفید شیئاً.

ودعوی انجبار ضعف السند بالشهرة کما یظهر بملاحظة کلام الکلینی قدس سره وغیره لا تمکن المساعدة علیها، فإنّ الکلینی قدس سره قد أخذ التخییر بین المتعارضین من بعض ما ورد من التخییر فی موارد الجمع العرفیّ کصحیحة علی بن مهزیار، وقد ذکرنا خروج مثلها عن مورد الکلام، وقد ذکر فی دیباجة الکافی: «فاعلم یا أخی أرشدک اللّه، أنّه لا یسع أحداً تمییز شیء مما اختلف الروایة فیه عن العلماء برأیه إلاّ علی ما أطلقه العالم بقوله علیه السلام : واعرضوهما علی کتاب اللّه فما وافق کتاب اللّه عز وجلّ فخذوه، وما خالف کتاب اللّه فردّوه، وقوله علیه السلام : دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد فی خلافهم، وقوله علیه السلام : خذوا بالمجمع علیه، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه،

ص : 135


1- 1) وسائل الشیعة 27:108، من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.

الجواب عن ذلک حدیثان . . . إلی أن قال علیه السلام (وبأیهما أخذت من باب التسلیم کان صواباً) إلی غیر ذلک من الإطلاقات.

ومنها: ما دلّ علی التوقف مطلقاً[1].

ومنها: ما دلّ علی ما هو الحائط منها.

ومنها: ما دلّ علی الترجیح بمزایا مخصوصة ومرجحات منصوصة.

ونحن لا نعرف من جمیع ذلک إلاّ أقلّه ولا نجد شیئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلک کلّه إلی العالم علیه السلام وقبول ما وسع من الأمر فیه بقوله علیه السلام : وبأیّهما أخذتم من باب التسلیم وسعکم»(1).

[1] إن کان المراد مما دلّ علی التوقّف مطلقاً ما ورد فی التوقّف فی مطلق الشبهة والأمر بالاحتیاط فیها، فتلک الأخبار خارجة عن محل الکلام فی المقام، وقد تعرّضنا لها فی بحث أصالة البراءة(2) وبیّنا وجه الجمع بینها وبین ما دلّ علی عدم وجوب الاحتیاط والتوقف فی الشبهات، والکلام فی المقام فی الخبرین المتعارضین، وإن أراد أنّه قد ورد فی الخبرین المتعارضین الأمر بالتوقّف والاحتیاط بالخصوص من غیر تفصیل فلا نعرفه إلاّ ما یمکن أن یقال بظهور موثقة سماعة المتقدّمة(3) فی ذلک، ولکن قد تقدّم أنّ المفروض فیها دوران الأمر بین المحذورین وإمکان الوصول إلی إحراز الواقع بالرجوع إلی الإمام علیه السلام وعدم شیء فی الارتکاب إلی زمان الوصول، ولا دلالة لها علی وجوب التوقّف والاحتیاط فی الخبرین المتعارضین.

ص : 136


1- 1) المصدر السابق: 112، الحدیث 19.
2- 2) دروس فی مسائل علم الاُصول 3:284 فما بعد.
3- 3) مرّ تخریجه آنفاً.

من مخالفة القوم وموافقة الکتاب والسنة، والأعدلیة، والأصدقیة، والأفقهیة والأورعیة، والأوثقیة، والشهرة علی اختلافها فی الإقتصار علی بعضها وفی الترتیب بینها.

ولأجل اختلاف الأخبار اختلفت الأنظار.

نعم، یمکن أن یقال: إنّ مکاتبة محمد بن علی بن عیسی التی رواها ابن إدریس فی آخر السرائر نقلاً عن کتاب مسائل الرجال لعلی بن محمد، أنّ محمد بن علی بن عیسی کتب إلیه: «عن العلم المنقول إلینا عن آبائک وأجدادک صلوات اللّه علیهم قد اختلف علینا فیه، کیف العمل به علی اختلافه أو الردّ إلیک فیما اختلف فیه؟ فکتب: ما علمتم أنّه قولنا فألزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلینا»(1) تدلّ علی وجوب التوقّف عند تعارض الأحادیث.

نعم قد ورد الأمر بالتوقف بعد ما فرض السائل تساوی الروایتین فی المرجحات الواردة فیها، کما أنّه قد ورد فیما رواه ابن أبی جمهور الأحسائی فی «عوالی اللآلی» عن العلاّمة مرفوعاً إلی زرارة الأخذ بما یوافق الاحتیاط منهما بعد فقد المرجّحات الواردة فیها فی أحد المتعارضین قال: سألت أبا جعفر علیه السلام فقلت: «جعلت فداک یأتی عنکم الخبران أو الحدیثان المتعارضان فبأیّهما آخذ؟ فقال علیه السلام : یا زرارة خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر، فقلت: یا سیّدی إنّهما معاً مشهوران مروّیان مأثوران عنکم، فقال علیه السلام : خذ بقول أعدلهما عندک وأوثقهما فی نفسک، فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضیّان موثّقان، فقال: انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاترکه وخذ بما خالفهم، قلت: ربّما کانا معاً موافقین لهم أو مخالفین، فکیف

ص : 137


1- 1) السرائر 3:548.

فمنهم من أوجب الترجیح بها، مقیدین بأخباره إطلاقات التخییر، وهم بین من اقتصر علی الترجیح بها، ومن تعدی منها إلی سائر المزایا الموجبة لأقوائیة ذی المزیة وأقربیته، کما صار إلیه شیخنا العلامة (أعلی اللّه مقامه)، أو المفیدة للظن، کما ربما یظهر من غیره.

فالتحقیق أن یقال: إنّ أجمع خبر للمزایا المنصوصة فی الأخبار هو المقبولة والمرفوعة[1] مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدّاً، والاحتجاج بهما علی وجوب الترجیح فی مقام الفتوی لا یخلو عن إشکال.

أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینک واترک ما خالف الاحتیاط فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتیاط أو مخالفان له، فکیف أصنع؟ فقال علیه السلام إذن فتخیّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(1).

ولا یخفی أنّ ظاهر هذه المرفوعة کون أحد الخبرین موافقاً للاحتیاط مرجحاً له فی مقام المعارضة لا أنّه یجب الاحتیاط فی الواقعة بعد فقد المرجحات.

المرجحات لأحد المتعارضین

[1] قد ذکر الماتن قدس سره أنّ المقبولة والمرفوعة من بین أخبار الترجیح أجمع خبرین للمزایا المنصوصة لأحد المتعارضین علی الآخر، ولکن ضعف سند المرفوعة وضعف دلالتهما علی لزوم الترجیح فی مقام الإفتاء، لاختصاصهما بالترجیح فی مقام القضاء والخصومة یمنعان من الالتزام بلزوم الترجیح بین المتعارضین فی مقام الإفتاء، ویشکل رفع الید بهما عن إطلاقات التخییر فی الطائفة الاُولی من الأخبار، والمتعیّن لزوم الاقتصار فی الترجیح علی مقام القضاء وفصل

ص : 138


1- 1) مستدرک الوسائل 17:303، الباب 9. عن غوالی اللآلی.

الخصومة؛ لأنّ فصل الخصوصة لا یمکن بالتخییر؛ لأنّ کلاًّ من المترافعین یختار ما هو أصلح له؛ ولذا أمر علیه السلام مع عدم المرجّحات الواردة فیها بتأخیر الواقعة إلی لقائه، وهذا بخلاف مقام الإفتاء، ولو قیل بظهورهما فی الترجیح فی مقام الإفتاء أیضاً فشمولهما لمثل زماننا ممّا لا یتمکّن من لقاء الإمام علیه السلام غیر ظاهر، لضعف المرفوعة سنداً، واختصاص المقبولة بصورة التمکّن من لقائه علیه السلام ؛ ولذا ما اُرجع إلی التخییر بعد فقد المرجحات.

مع أنّه لو التزمنا بلزوم الترجیح بلا فرق بین الزمانین لزم حمل إطلاقات التخییر وما لم یستفصل فیها من وجود المرجح وعدمه علی الفرض النادر، حیث إنّ کون المتعارضین متساویین من جمیع الجهات صورة نادرة، فالمتعیّن علی تقدیر ظهور المقبولة فی لزوم الترجیح حتی فی مقام الإفتاء حملها علی صورة التمکّن من لقائه علیه السلام ، أو حمل الترجیح بالمرجحات مطلقاً علی الاستحباب، ویشهد لکون الترجیح بها استحبابی اختلاف الروایات الواردة فی المرجحات من حیث تعدادها وتقدیم بعضها علی بعض وبهذا _ أی بالاختلاف الکثیر بین أخبار الترجیح حیث یعدّ قرینة علی الاستحباب _ یظهر الحال فی سایر أخبار الترجیح، وأنّ الحکم بالترجیح فیها أیضاً استحبابی.

ثمّ أشار قدس سره إلی أخبار الترجیح بموافقة الکتاب أو مخالفة القوم، فذکر فی کون تلک الأخبار فی بیان المرجّح لأحد المتعارضین تأمّل وإشکال، ووجهه أنّ الخبر المخالف للکتاب العزیز فی نفسه لا یکون حجّة بشهادة ما ورد فی أنّه: «زخرف»(1)

ص : 139


1- 1) وسائل الشیعة 27:110 و 111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 12 و 14.

و«باطل»(1) و«لیس بشیء»(2) أو «لم نقله»(3) أو «اضربوه علی الجدار»(4)، وکذا الخبر «الموافق للقوم»(5) فإنّ أصالة عدم صدوره تقیّة مع ملاحظة الخبر الآخر المخالف لهم غیر جاریة للوثوق بصدوره تقیّة، فیکون مثل هذه الأخبار فی مقام تمییز الحجّة عن اللاحجّة، لا فی مقام ترجیح أحد المتعارضین علی الآخر، ولو تمّ ظهورها فی الترجیح أیضاً فلابد من حملها علی تمییز الحجّة عن اللاحجّة، أو علی استحباب الترجیح ولو بأن یحمل بعض تلک الأخبار علی تمییز الحجّة عن اللاحجّة وبعضها الآخر علی استحباب الترجیح، وأیضاً لو کان الترجیح بین المتعارضین أمراً لازماً لزم تقیید التقیید فی أخبار الترجیح وهی آبیة عن التقیید، وکیف یمکن التقیید فی مثل: «ما خالف الکتاب زخرف باطل لم نقله» بأن یحمل علی صورة فقد المرجح للخبر الآخر؟

أقول: ما ذکر قدس سره من کون مورد المرفوعة کالمقبولة الحکومة وفصل الخصومة من سهو القلم، فلیس فی المرفوعة ما یدلّ علی ذلک، وأمّا ما ذکره من التخییر لا یناسب فصل الخصومة، فیقال(6): إنّه مبنیّ علی أن یکون التخییر فی المتعارضین فی المسألة الفرعیّة، وأمّا إذا کان فی المسألة الاُصولیّة فیتعیّن علی الحاکم الأخذ بأحد

ص : 140


1- 1) المصدر السابق: 123، الحدیث 48.
2- 2) وسائل الشیعة 22:39، الباب 15 من أبواب مقدمات الطلاق، الحدیث 7.
3- 3) انظر وسائل الشیعة 27:111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 15.
4- 4) لم نعثر علیه.
5- 5) وسائل الشیعة 27:112، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 19.
6- 6) فوائد الاُصول 4:772.

المتعارضین والقضاء علی مقتضی مفاده، فترفع المخاصمة بین المترافعین، ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ المفروض فی المقبولة تعدّد الحاکم والمخاصمة عندهما بتراضی المترافعین بحکمهما باختیار أحدهما من قبل أحدهما واختیار الآخر من قبل الآخر وأنّهما اختلفا فی الحکم ولا مزیّة لأحد الحاکمین علی الآخر فی الصفات من العدالة والوثوق والفقاهة، فأرجع الإمام علیه السلام المترافعین إلی النظر فی مستند الحکمین والأخذ بالروایة التی لها مزیّة علی الآخر بحسب ما ذکر فیها من المرجّحات، وبعد تساوی الروایتین فی المرجّحات فلا یفید الحکم بالتخییر بین الروایتین حتّی بناءً علی التخییر فی المسألة الاُصولیّة. وعلی الجملة إنّما ترتفع المنازعة فی غیر صورة تعدّد الحاکم فیما کان التخییر فی المسألة الاُصولیّة، وأمّا مع تعدّده کما فی مفروض الروایة فلا؛ لأنّ کلاًّ من الحاکمین أو من المترافعین یختار لما هو أصلح بالإضافة إلیه، أو من ترافع إلیه ورضی بقضائه.

وقد ظهر ممّا ذکرناه أنّ المذکور فی المقبولة أوّلاً من مرجّحات أحد الحکمین علی الحکم الآخر بصفات القاضی، وبعد تساویهما فی الصفات المذکور فیها من مرجّحات إحدی الروایتین علی الاُخری فی مقام المعارضة، وحیث إنّ ظاهر المقبولة أنّ المنشأ بین المتخاصمین جهلهما بحکم الواقعة بالشبهة الحکمیّة فلا یحتاج رفعها إلی القضاء بل یکفی المراجعة إلی من یعتبر فتواه أو یعتبر مستند فتواه إن أمکن للمراجع استفادة الحکم من ذلک المستند، وعلی ذلک فلا یحتمل الفرق فی الترجیح فی الفتوی بین أن یکون فی تلک الواقعة مرافعة أم لا، وکذا فی ترجیح المستند، سواء قیل بعد فقد الترجیح فی الخبرین بتساقطهما أو بالاحتیاط أو بالتخییر، فما عن الماتن قدس سره من احتمال اختصاص الترجیح فی خصوص باب القضاء

ص : 141

لقوة احتمال اختصاص الترجیح بها بمورد الحکومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة کما هو موردهما، ولا وجه معه للتعدی منه إلی غیره، کما لا یخفی.

ولا وجه لدعوی تنقیح المناط، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحکومة فی صورة تعارض الحکمین، وتعارض ما استندا إلیه من الروایتین لا یکاد یکون

والمرافعة لا یمکن المساعدة علیه، هذا بالإضافة إلی المقبولة، وقد ذکرنا فی بحث القضاء عدم التوثیق لعمر بن حنظلة، وأنّ دعوی انجبار ضعفها بعمل المشهور المنکشف عن فتواهم بحرمة ما یأخذه الشخص بالمحاکمة إلی قضاة الجور وإن کان حقّه ثابتاً لا یمکن المساعدة علیها، حیث لم یذکر هذا الحکم إلاّ فی کلام بعضهم وإن لم یرد هذا فی غیرها من الروایات وسمّی بذلک الروایة مقبولة، ولکن ذکرنا أخیراً أنّ عمر بن حنظلة من المعاریف الذین لم یرد فیهم قدح، وهذا یوجب اعتبار خبره لکون ذلک یکشف عن حسن ظاهره فی عصره.

ثمّ إنّ بعض(1) من التزم باعتبار المقبولة سنداً اختار التعدّی من المرجّحات الواردة فیها لأحد الخبرین المتعارضین إلی غیرها، حیث إنّ تعلیل الأخذ بالخبر المشهور فیها بأنّ المجمع علیه لا ریب فیه یراد منه نفی الریب بالإضافة إلی الخبر الشاذ لا نفی الریب حقیقة، وإلاّ لم یکن وجه للأخذ بالشّاذ فیما کان راویه أو الحاکم به أفقه وأصدق من الآخر؛ لأنّ اعتبار الحکم من الحاکم والفتوی من الفقیه طریقیّ، لا یعتنی بحکمه وفتواه إذا علم بطلان مستنده، وأیضاً علّل الحکم بالروایة المخالفة للعامّة؛ بأنّ الرشد فی خلافهم، ومن الظاهر أنّ الرشد والاهتداء بالحق فیه لیس إلاّ إضافیّاً، فیلزم اعتبار الأقربیّة فی کلّ خبرین متعارضین ولو بلحاظ الإضافة إلی الآخر وبلحاظ أمر آخر.

ص : 142


1- 1) فرائد الاُصول 4:77.

إلاّ بالترجیح ولذا أمر علیه السلام بإرجاء الواقعة إلی لقائه علیه السلام فی صورة تساویهما فیما ذکر من المزایا، بخلاف مقام الفتوی ومجرد مناسبة الترجیح لمقامها أیضاً لا یوجب ظهور الروایة فی وجوبه مطلقاً ولو فی غیر مورد الحکومة، کما لا یخفی.

ولکن لا یخفی ما فی التعدّی، فإنّ الشهرة فی إحدی الروایتین بین رواة الحدیث بحسب النقل وطبقات النقل توجب الاطمینان بصدورها عن المعصوم فلا یمکن التعدّی إلی مزیّة لا توجب الاطمینان بالصدور، بل قد یقال کون إحدی الروایتین المجمع علیها بین الرواة ومن حیث النقل یوجب دخولها فی السنة، فلا یکون الخبر الشاذ المخالف له حجّة فی نفسه، کما یفصح عن ذلک صحیحة أیوب بن الحرّ عن أبی عبداللّه علیه السلام : «کلّ شیء مردود إلی الکتاب والسنة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب اللّه فهو زخرف»(1).

ولا ینافی ذلک فرض الشهرة فی کلتا الروایتین، فإنّ الشهرة لغة الظهور، ویمکن صدور کلا الخبرین ظاهراً مع تنافیهما فی مدلولهما مع کون الخلل فی أحدهما من جهة اُخری کصدوره تقیة ونحوها.

وذکر بعض(2) الأجلّة طاب ثراه أنّ المراد بالشهرة فی المقبولة الشهرة من حیث الفتوی، فإنّ الشهرة فی الروایة مع عدم العمل بها إلاّ من شاذ توجب کونها مما فیها ریب، لا مما لا ریب فیه، فإنّ إعراض المشهور عن روایة وعدم العمل بها یکشف عن الخلل فیها، وإنّ صدورها لجهات اُخری غیر بیان الواقع.

ولا یخفی ما فیه، فإنّ الشهرة الواردة فی المقبولة ظاهرها الشهرة فی الروایة؛

ص : 143


1- 1) وسائل الشیعة 27:111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 14.
2- 2) وسائل الشیعة 2:70.

وإن أبیت إلاّ عن ظهورهما فی الترجیح فی کلا المقامین، فلا مجال لتقیید إطلاقات التخییر فی مثل زماننا مما لا یتمکن من لقاء الإمام علیه السلام بهما، لقصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالةً، لإختصاصها بزمان التمکن من لقائه علیه السلام ، ولذا ما أرجع إلی التخییر بعد فقد الترجیح، مع أن تقیید الإطلاقات الواردة فی مقام

ولذا فرض الراوی تساوی الخبرین فی الشهرة ب_«رواهما الثقات عنکم» ولو کان المراد من الشهرة الشهرة الفتوائیة فی مقابل عمل الشاذ لا تتحقق الشهرة فی کلّ من الخبرین.

والمتحصّل ممّا ذکرنا أنّ المستفاد من المقبولة أنّ الشهرة فی الروایة مرجّح فی تعارض الروایتین، هذا بالإضافة إلی المقبولة.

وأمّا المرفوعة فمع الغض عن سندها فمدلولها مقطوع البطلان، فهی إمّا لم تصدر عن الإمام علیه السلام أو وقع الغلط فی نقلها، فإنّ الوارد فیها الترجیح بصفات الراوی من الأعدلیّة والأوثقیّة بعد فرض الشهرة فی کلتا الروایتین، ومن الظاهر أنّه مع فرض الشهرة فی الروایتین بحسب الروایة لا قیمة لکون راوی إحداهما أعدل بالإضافة إلی راوی الاُخری، فإنّه لا یمکن فرض وحدة الراوی فی ناحیة کلّ منهما لیری أنّ أحدهما أعدل من راوی الاُخری أو أوثق، وفرض فیها تساوی الروایتین فی کونهما موافقین للاحتیاط أو مخالفین له، وعدّ فیها کون الاحتیاط من المرجّحات.

وقد تلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ المقبولة علی تقدیر تمامیة سندها لا تدلّ علی الترجیح بصفات الراوی، حیث إنّ الوارد فیها ترجیح أحد الحکمین أو الفتویین علی الآخر فی صورة الاختلاف فی الحکم والفتوی بالأوثقیّة والأعدلیّة والأفقهیّة، وما ورد فیها من المرجّحات لأحد الخبرین علی الآخر إنّما هو ملاحظة الشهرة فی الروایة ثمّ ملاحظة موافقة الکتاب والسنة ومخالفة العامّة، ولیس فی الالتزام فی

ص : 144

الجواب عن سؤال حکم المتعارضین _ بلا استفصال عن کونهما متعادلین أو متفاضلین، مع ندرة کونهما متساویین جداً _ بعید قطعاً، بحیث لو لم یکن ظهور المقبولة فی ذاک الإختصاص لوجب حملها علیه أو علی ما لا ینافیها من الحمل علی الاستحباب، کما فعله بعض الأصحاب، ویشهد به الإختلاف الکثیر بین ما دل

الترجیح بها حمل إطلاقات التخییر علی الفرد النادر، مضافاً إلی ما تقدّم من عدم الدلیل علی التخییر، ولیس فیها أیّ دلالة علی الترجیح بکلّ مزیة، فإنّ المراد من قوله علیه السلام : «فإن المجمع علیه لا ریب فیه» نفی الریب بالإضافة إلی الخبر الآخر من حیث الصدور لا من جهة اُخری، وعلی تقدیر التعدّی یتعدّی إلی ما یوجب نفی الریب من جهة الصدور.

ثمّ إنّه قد ورد فی صحیحة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه قال: قال الصادق علیه السلام : «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فأعرضوهما علی کتاب اللّه، فما وافق کتاب اللّه فخذوه، وما خالف کتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما فی کتاب اللّه فاعرضوهما علی أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»(1) ومقتضی الترتیب بین المرجّحین لزوم رعایته، وبها یرفع الید عن إطلاق ما ورد فیه الأخذ بما خالف العامّة مطلقاً، فیقیّد ملاحظة الترجیح به بعد رعایة موافقة الکتاب وعدمه.

نعم هذا إذا لم یظهر من القرینة الخارجیّة أنّ الموافق لهم صدر تقیّة ولو بملاحظة المورد، وإلاّ فلا یعتبر ملاحظة الترجیح بموافقة إطلاق الکتاب أو عمومه حتّی لو کان بین الخبر الموافق لهم والمخالف جمع عرفیّ، کما ذکرنا ذلک فیما ذکر بعض من استحباب الوضوء عقیب خروج المذی حیث حملنا ما ورد فی ناقضیّته

ص : 145


1- 1) وسائل الشیعة 27:118، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 29.

علی الترجیح من الأخبار.

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره، مع أنّ فی کون أخبار موافقة الکتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً[1].

وفی الأمر بالوضوء عقیب خروجه علی التقیّة، کما یرفع الید عن إطلاق الصحیحة بما ورد فی المقبولة من تقدیم ملاحظة الشهرة علی رعایة موافقة الکتاب.

وقیل: ورد فی بعض الأخبار الترجیح بتأخّر صدور أحد الخبرین بالإضافة إلی الآخر، کما إذا روی أحد الخبرین عن إمام سابق علیه السلام والآخر عن الإمام من بعده، أو رواه شخص عن الإمام علیه السلام سابقاً وسمع الحدیث الآخر عنه لاحقاً، وفی صحیحة هشام بن سالم عن أبی عمرو الکنانی قال: «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : «یا أبا عمرو أرأیت لو حدثتک بحدیث أو أفتیتک بفتیا ثمّ جئتنی بعد ذلک فسألتنی عنه فأخبرتک بخلاف ما کنت أخبرتک أو أفتیتک بأیّهما کنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت یا عمرو، أبی اللّه إلاّ أن یعبد سرّاً، أما واللّه لئن فعلتم ذلک إنّه لخیر لی ولکم، أبی اللّه عز وجلّ لنا فی دینه إلاّ التقیّة»(1) وقریب منها غیرها.

ولکن لا یخفی أنّ مدلولها غیر مربوط بالترجیح بین المتعارضین، فإنّ تعیّن العمل بالثانی لکون وظیفته الفعلیة إمّا لکونه هو الحکم الواقعیّ، أو الوظیفة عند التقیّة التی لاحظها الإمام علیه السلام فی حقّه، ومنه یعلم الحال فی غیرها مما یقرب مضمونه منها.

[1] قد ذکر قدس سره أنّ ما ورد فی ترک الخبر المخالف للکتاب والموافق للعامّة، والأخذ بما وافق الکتاب وخالف العامة لیس فی مقام ترجیح المتعارضین، بل فی

ص : 146


1- 1) وسائل الشیعة 27:112، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 17.

وجهه قوة احتمال أن یکون الخبر المخالف للکتاب فی نفسه غیر حجة، بشهادة ما ورد فی أنه زخرف، وباطل، ولیس بشیء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه علی الجدار، وکذا الخبر الموافق للقوم، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقیة _ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به _ غیر جاریة، للوثوق حینئذ بصدوره کذلک، وکذا الصدور أو الظهور فی الخبر المخالف للکتاب

مقام تمییز الحجّة عن اللاحجّة؛ وذلک فإنّ ما ورد فی أنّ مخالف الکتاب «زخرف» أو «باطل» أو «لم نقله» أو «إنّا لا نخالف قول ربّنا» أو الأمر بطرح الخبر المخالف علی الجدار، ظاهره عدم حجیّة الخبر المخالف للکتاب فی نفسه، وکذا الخبر الموافق للعامّة، فإنّ أصالة عدم صدوره تقیّة مع وجود الخبر المخالف لهم والوثوق بصدوره عنهم علیهم السلام غیر جاریة، فإنّه حیئذ یحصل الوثوق بصدور الموافق علی تقدیره لرعایة التقیة.

وعلی الجملة ما ورد فی الخبر المخالف للکتاب أصالة الظهور بل الصدور غیر جاریة فی ناحیته، وإلاّ لزم التقیید والتخصیص فی الأخبار المشار إلیها بما إذا لم یکن فی ناحیة الخبر الآخر مرجّح آخر، مع أنها آبیة عن التقیید والتخصیص، وأصالة الصدور لبیان الحکم الواقعی فی ناحیة الخبر الموافق للعامّة غیر جاریة للوثوق بصدورها کذلک.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ ظاهر المقبولة بل صریحها وکذا صحیحة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه أنّه لولا المعارضة کان الخبر المخالف للکتاب حجّة، وإنّما تسقط عن الاعتبار بالمعارضة وترجیح الموافق علیه، والمراد بالمخالف فی الأخبار المشار إلیها فی المتن المباین للکتاب فإنّه لا یصدر عنهم علیهم السلام ، لا المخالف لإطلاق الکتاب أو عمومه، فصدور المخالف عنهم بهذا المعنی قطعیّ، کیف وقد تسالموا علی تقیید إطلاق الکتاب أو تخصیص عمومه بالخبر الواحد المعتبر،

ص : 147

یکون موهوناً بحیث لا یعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور، کما لا یخفی، فتکون هذه الأخبار فی مقام تمیز الحجة عن اللا حجة لا ترجیح الحجة علی الحجة، فافهم.

وإن أبیت عن ذلک، فلا محیص عن حملها توفیقاً بینها وبین الإطلاقات، إما علی ذلک أو علی الإستحباب کما أشرنا إلیه آنفاً، هذا ثم إنه لولا التوفیق بذلک

والترجیح بین المتعارضین بموافقة الکتاب یلاحظ بهذا المعنی، وکذلک الترجیح بمخالفة العامّة یلاحظ فیما لم یکن علم واطمینان بصدور الموافق تقیّة، وإلاّ یترک حتی فی موارد الجمع العرفی بین المتعارضین کما تقدّم، والمفروض فی المقبولة والصحیحة وغیرهما أیضاً هذا المعنی، وإلاّ لم یکن وجه لتقدیم موافقة الکتاب علی لحاظ مخالفة العامّة، ولا لترجیح أحد الحکمین علی الآخر قبل ملاحظة موافقة الکتاب، ولا لتقدیم ملاحظة الشهرة فی أحد الخبرین قبل ملاحظة موافقة الکتاب ومخالفته.

وعلی الجملة ففی مثل المقبولة والصحیحة یکون المراد بموافقة الکتاب ومخالفته موافقة عمومه أو إطلاقه، بأن یکون أحد المتعارضین موافقاً لعمومه أو إطلاقه والآخر مخالفاً لهما.

لا یقال: إذا کان أحد الخبرین المتعارضین موافقاً لعموم الکتاب أو إطلاقه ففی الحقیقة یعمل بعموم الکتاب وإطلاقه لا بالخبر الموافق له، وبتعبیر آخر یکون الکتاب مرجعاً، لا مرجّحاً لأحد الخبرین علی الآخر.

فإنّه یقال: ظاهر المقبولة والصحیحة ومثلهما کون موافقة الکتاب مرجّحة لأحد المتعارضین علی الآخر، لا أنّ الکتاب مرجع.

وتظهر الثمرة ما إذا تضمّن الخبر الموافق لخصوصیّة لا تستفاد تلک الخصوصیّة

ص : 148

للزم التقیید أیضاً فی أخبار المرجحات، وهی آبیة عنه، کیف یمکن تقیید مثل: (ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل)؟ کما لا یخفی.

فتلخص _ مما ذکرنا _ أن اطلاقات التخییر محکمة، ولیس فی الأخبار ما یصلح لتقییدها.

نعم قد استدلّ علی تقییدها، ووجوب الترجیح فی المتفاضلین بوجوه أخر:

منها: دعوی الإجماع علی الأخذ بأقوی الدلیلین.

وفیه أن دعوی الإجماع _ مع مصیر مثل الکلینی إلی التخییر، وهو فی عهد الغیبة الصغری ویخالط النواب والسفراء، قال فی دیباجة الکافی: ولا نجد شیئاً أوسع ولا أحوط من التخییر _ مجازفة.

ومنها: أنه لو لم یجب ترجیح ذی المزیة، لزم ترجیح المرجوح علی الراجح وهو قبیح عقلاً، بل ممتنع قطعاً. وفیه أنه إنما یجب الترجیح لو کانت المزیة موجبة لتأکد ملاک الحجیة فی نظر الشارع، ضرورة إمکان أن تکون تلک المزیة بالإضافة

من الکتاب، فبناءً علی المرجّحیة یؤخذ بها، کصحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قلت ما بال أقوام یروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یتهمون بالکذب فیجیء منکم خلافه؟ قال: الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن»(1) والنسخ فی هذه الروایة بمعنی التخصیص والتقیید، فإنّ النسخ بمعنی إبطال الحکم السابق رأساً لا یصحّ بالخبر الواحد کما هو الحال فی نسخ عموم القرآن وتقیید إطلاقه، وإلاّ فالحکم الوارد فی القرآن لا ینسخ باتفاق من المسلمین بالخبر الواحد، فقوله علیه السلام : «کما ینسخ القرآن» قرینة علی هذا المعنی، وفی هذه الصحیحة التعبیر عن التخصیص والتقیید بالنسخ، لعلّه للإشارة إلی إجزاء العمل السابق علی طبق

ص : 149


1- 1) وسائل الشیعة 27:108، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 4.

إلی ملاکها من قبیل الحجر فی جنب الإنسان، وکان الترجیح بها بلا مرجح، وهو قبیح کما هو واضح، هذا مضافاً إلی ما هو فی الإضراب من الحکم بالقبح إلی الإمتناع، من أن الترجیح بلا مرجح فی الأفعال الإختیاریة ومنها الأحکام الشرعیة، لا یکون إلاّ قبیحاً، ولا یستحیل وقوعه إلاّ علی الحکیم تعالی، وإلاّ فهو بمکان من الإمکان، لکفایة إرادة المختار علة لفعله، وإنما الممتنع هو وجود الممکن بلا علة، فلا استحالة فی ترجیحه تعالی للمرجوح، إلاّ من باب امتناع صدوره منه تعالی، وأما غیره فلا استحالة فی ترجیحه لما هو المرجوح مما باختیاره.

الحدیث کما هو الحال فی موارد النسخ فتدبّر.

وتظهر الثمرة أیضاً فیما إذا کان فی البین خبر یکون بالإضافة إلی المتعارضین عامّاً أو مطلقاً، ولکن کان بالإضافة إلی عموم الکتاب أو إطلاقه خاصّاً، بأن کان ما فی الکتاب من العامّ أو المطلق من قبیل العامّ الفوق بالإضافة إلی المتعارضین، فبناءً علی مرجعیّة الکتاب یسقط المتعارضان فیؤخذ بالإطلاق أو العموم من الخبر الذی من قبیل العامّ والمطلق من المتعارضین، وبناءً علی مرجّحیة الکتاب یؤخذ بالخبر الموافق له فیخصّص أو یقیّد الخبر الذی یکون عامّاً أو مطلقاً بالإضافة إلی المتعارضین، وقد مثّلنا فی الدورة السابقة بالآیة المبارکة الآمرة بالوضوء عند القیام إلی الصلاة، وبالروایات الحاصرة لنواقض الوضوء مثل قوله علیه السلام : «لا ینقض الوضوء إلاّ البول والریح والنوم والغائط والجنابة»(1) فإنّ مدلوله عدم انتقاض الوضوء بشیء من غیرها، وإذا ورد فی شیء من غیرها کالمذی کونه ناقضاً، ولکن کان له معارض یدلّ علی عدم ناقضیّة المذی، فبناءً علی مرجعیّة الکتاب یرجع إلی عموم عدم ناقضیّته فی الروایات الحاصرة، وبناءً علی المرجّحیة یثبت کونه ناقضاً أیضاً، فترفع الید عن إطلاق نفی الناقضیّة فی غیر

ص : 150


1- 1) وسائل الشیعة 1:397، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحدیث 18.

وبالجملة: الترجیح بلا مرجح بمعنی بلا علة محال، وبمعنی بلا داعٍ عقلائی قبیح لیس بمحال، فلا تشتبه.

ومنها: غیر ذلک مما لا یکاد یفید الظن، فالصفح عنه أولی وأحسن.

ثمّ إنّه لا إشکال فی الإفتاء بما اختاره من الخبرین فی عمل نفسه وعمل مقلّدیه ولا وجه للإفتاء بالتخییر فی المسألة الفرعیّة لعدم الدلیل علیه فیها[1].

ما ورد فیها.

هل التخییر بین المتعارضین علی تقدیره استمراریّ أو بدویّ

[1] یقع الکلام فی المقام أنّ ما دلّ علی التخییر بین الخبرین المتعارضین علی تقدیر تمامیّته ناظر إلی التخییر فی تعیین الحجّة والطریق إلی الواقع، بحیث یکون ما اختاره بمدلوله علماً وحجّة وطریقاً إلی الواقع، وبما أنّ مدلول أحد المتعارضین الذی یختاره المجتهد حکم کلّی فرعیّ، فله الإفتاء بذلک الحکم الکلّی، ومع الإفتاء به لا یمکن له الإفتاء بمدلول الآخر من الخبرین؛ لعدم کونه حجّة وعلماً وطریقاً فی حقّه، کما إذا قام خبر علی وجوب القصر علی من ذهب أربعة فراسخ ورجع قبل إقامة عشرة أیام، وخبر آخر علی وجوب التمام علیه، فلا یمکن له الإفتاء بوجوب الصلاتین علی المسافر المفروض علی نحو التخییر.

نعم له الإفتاء بالتخییر فی المسألة الاُصولیّة یعنی بالأخذ بأحد الخبرین المتعارضین، وإذا تمکّن المکلف المقلّد له فی المسألة الاُصولیّة من إحراز الخبرین ومدلولهما فیمکن له أن یختار لنفسه غیر ما اختاره مجتهده، وهذا غیر الإفتاء للمجتهد علی المستفتی بوجوب الصلاتین علی نحو التخییر.

وعلی الجملة التخییر فی المسألة الفرعیّة حکم ظاهریّ ولیس من الحکم الواقعیّ فی واقعة السفر المفروض، بخلاف التخییر فی المسألة الاُصولیة فإنّه علی تقدیره حکم

ص : 151

نعم له الإفتاء به فی المسألة الأصولیة، فلا بأس حینئذ باختیار المقلد غیر ما اختاره المفتی، فیعمل بما یفهم منه بصریحه أو بظهوره الذی لا شبهة فیه.

وهل التخییر بدویّ أم استمراریّ؟ قضیة الإستصحاب لو لم نقل بأنه قضیة الإطلاقات أیضاً کونه استمراریاً. وتوهم أن المتحیر کان محکوماً بالتخییر، ولا تحیر له بعد الإختیار، فلا یکون الإطلاق ولا الإستصحاب مقتضیاً للإستمرار، لإختلاف الموضوع فیهما، فاسد، فإن التحیر بمعنی تعارض الخبرین باقٍ علی حاله، وبمعنی آخر لم یقع فی خطاب موضوعاً للتخییر أصلاً، کما لا یخفی.

واقعیّ للخبرین مطلقاً أو مع عدم ثبوت الترجیح لأحدهما.

ویقع الکلام فی المقام أنّ هذا التخییر فی المسألة الاُصولیّة بدویّ أو أنّه استمراریّ بحیث یمکن للمجتهد _ بعد الأخذ بأحد الخبرین فی زمان _ ترکه والأخذ بالخبر الآخر، فظاهر کلام الماتن قدس سره جواز ذلک، فإنّه مقتضی الاستصحاب الجاری فی ناحیة التخییر الثابت قبل الأخذ بأحدهما، ودعوی عدم جریان هذا الاستصحاب؛ لأنّ الموضوع للتخییر المتحیّر بقیام الخبرین فی الواقعة، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحیّر له فی الواقعة لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنّ التحیّر بقیام خبرین متعارضین فی الواقعة باق علی حاله، وبمعنی آخر غیر مأخوذ فی ناحیة الموضوع فی شیء من الأدلّة مع أنّه لا حاجة إلی الاستصحاب، ولا تصل النوبة إلیه لکفایة الإطلاق فی بعض روایات التخییر کقوله علیه السلام علی ما فی خبر الحسن بن الجهم فی الجواب عن قول السائل: «یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا نعلم أیّهما الحق، قال: إذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت»(1).

ص : 152


1- 1) وسائل الشیعة 27:121 _ 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 40.

فصل

هل علی القول بالترجیح، یقتصر فیه علی المرجحات المخصوصة المنصوصة، أو یتعدی إلی غیرها؟ قیل بالتعدی، لما فی الترجیح بمثل الأصدقیة والأوثقیة ونحوهما، ممّا فیه[1] من الدلالة علی أن المناط فی الترجیح بها هو کونها موجبة للأقربیة إلی الواقع، ولما فی التعلیل بأن المشهور ممّا لا ریب فیه، من استظهار أن العلّة هو عدم الریب فیه بالإضافة إلی الخبر الآخر ولو کان فیه ألف ریب،

أقول: الظاهر عدم صحة الأخذ بالاستصحاب وعدم تمام الإطلاق.

أمّا الأوّل فلأنّ التخییر الثابت سابقاً هو جعل أحد الخبرین حجّة فی حقّه بالأخذ به، وبعد الأخذ بأحدهما وصیرورته حجّة یکون التخییر بمعنی إخراج ذلک المأخوذ سابقاً عن الاعتبار وجعل الآخر حجّة، وهذا لم یکن ثابتاً فی السابق لیستصحب، هذا مع الغض عما ذکرنا سابقاً من عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة.

وأمّا التمسّک بالإطلاق فلأنّ الخطاب بالتخییر متوجه إلی من لم یأخذ بشیء من المتعارضین، لعدم علمه بما هو الحجّة والوظیفة بحسب الواقع فی الواقعة، ولا یتوجّه هذا الخطاب إلی من تعیّن أحدهما للحجیة له وصیرورته وظیفة فی الواقعة، ولولم یکن هذا ظاهر ما تقدّم من خبر الحسن بن الجهم، فلا أقلّ من عدم ظهوره فی الإطلاق.

إمکان التعدّی من المرجّحات المنصوصة

[1] قد تقدّم أنّ الصفات المشار إلیها لم ترد فی روایة معتبرة کونها مرجّحة لأحد المتعارضین من الخبرین علی الآخر، وما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة أنّها مرجّحة لأحد الحکمین أو الفتویین علی الآخر، نعم لو کانت الصفات المشار إلیها واردة فی ترجیح أحد الخبرین المتعارضین لم یمکن التعدی منها إلی غیرها وإن

ص : 153

ولما فی التعلیل بأن الرشد فی خلافهم.

ولا یخفی ما فی الاستدلال بها:

أما الأول: فإن جعل خصوص شیء فیه جهة الإراءة والطریقیة حجة أو مرجحاً لا دلالة فیه علی أن الملاک فیه بتمامه جهة إراءته، بل لا إشعار فیه کما لا یخفی، لإحتمال دخل خصوصیته فی مرجحیته أو حجیته، لا سیما قد ذکر فیها ما لا یحتمل الترجیح به إلاّ تعبداً، فافهم.

وأما الثانی: فلتوقفه علی عدم کون الروایة المشهورة فی نفسها مما لا ریب فیها، مع أن الشهرة فی الصدر الأول بین الرواة وأصحاب الأئمة علیهم السلام موجبة لکون الروایة مما یطمأن بصدورها، بحیث یصح أن یقال عرفاً: إنها ممّا لا ریب فیها، کما لا یخفی. ولا بأس بالتعدی منه إلی مثله مما یوجب الوثوق والإطمئنان بالصدور، لا إلی کل مزیة ولو لم یوجب إلاّ أقربیة ذی المزیة إلی الواقع، من المعارض الفاقد لها.

وأما الثالث: فلإحتمال أن یکون الرشد فی نفس المخالفة، لحسنها، ولو سلم أنه لغلبة الحق فی طرف الخبر المخالف، فلا شبهة فی حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا یخلو من الخلل صدوراً أو جهة، ولا بأس بالتعدی منه إلی مثله، کما مر آنفاً.

کانت الأوصاف موجبة لأقربیّة أحدهما علی الآخر؛ لأن کون مجرّد الأقربیّة تمام الملاک فی الترجیح بها غیر ظاهر، نظیر اعتبار خبر الثقة فإنّ الملاک فی اعتباره کون خبره کاشفاً عن الواقع نوعاً، ولکن لا یمکن التعدّی منه إلی کلّ ما یکون کاشفاً عن الواقع نوعاً ولولم یکن من سنخ خبر الثقة، وذکرنا أیضاً أنّ قوله علیه السلام فی المقبولة بعد الأمر بأخذ المشهور من الخبرین بالشهرة الروائیّة من: «أنّ المجمع علیه لا ریب فیه» وإن کان لا ریب فیه بالإضافة إلی الخبر الآخر، ولکن نفی الریب بالإضافة إلی أصل

ص : 154

ومنه انقدح حال ما إذا کان التعلیل لأجل انفتاح باب التقیة فیه، ضرورة کمال الوثوق بصدوره کذلک، مع الوثوق بصدورهما، لولا القطع به فی الصدر الأول، لقلّة الوسائط ومعرفتها، هذا مع ما فی عدم بیان الإمام علیه السلام للکلیّة کی لا یحتاج السائل إلی إعادة السؤال مراراً، وما فی أمره علیه السلام بالإرجاء بعد فرض التساوی فیما ذکره من المزایا المنصوصة، من الظهور فی أن المدار فی الترجیح علی المزایا المخصوصة، کما لا یخفی.

ثم إنه بناءً علی التعدی حیث کان فی المزایا المنصوصة ما لایوجب الظن بذی المزیة ولا أقربیته، کبعض صفات الراوی مثل الأورعیة أو الأفقهیة، إذا کان موجبهما مما لایوجب الظن أو الأقربیة، کالتورع من الشبهات، والجهد فی العبادات، وکثرة التتبع فی المسائل الفقهیة أو المهارة فی القواعد الأصولیة، فلا وجه للإقتصار علی التعدی إلی خصوص ما یوجب الظن أو الأقربیة، بل إلی کل مزیة، ولو لم تکن بموجبة لأحدهما، کما لا یخفی.

وتوهم أن ما یوجب الظن بصدق أحد الخبرین لا یکون بمرجح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجیة للظن بکذبه حینئذ، فاسد. فإن الظن بالکذب لا یضر بحجیة ما اعتبر من باب الظن نوعاً، وإنما یضر فیما أخذ فی اعتباره عدم الظن بخلافه، ولم یؤخذ فی اعتبار الأخبار صدوراً ولا ظهوراً ولا جهة ذلک، هذا مضافاً إلی اختصاص حصول الظن بالکذب بما إذا علم بکذب أحدهما صدوراً، وإلاّ فلا یوجبه الظن بصدور أحدهما لإمکان صدورهما مع عدم إرادة الظهور فی أحدهما أو فیهما، أو إرادته تقیة، کما لا یخفی.

صدوره إلی جهات اُخری، ولا یمکن التعدّی إلی ما یوجب کون الخبر مما لا ریب فیه من جهة اُخری غیر الصدور، وکذا الحال فی الترجیح بمخالفة العامّة وأخبارهم.

ص : 155

نعم لو کان وجه التعدی اندراج ذی المزیة فی أقوی الدلیلین لوجب الاقتصار علی ما یوجب القوة فی دلیلیته وفی جهة إثباته وطریقیته، من دون التعدی إلی ما لا یوجب ذلک، وإن کان موجباً لقوة مضمون ذیه ثبوتاً، کالشهرة الفتوائیة أو الأولویة الظنیة ونحوهما، فإن المنساق من قاعدة أقوی الدلیلین أو المتیقن منها، إنما هو الأقوی دلالة، کما لا یخفی، فافهم.

فصل

قد عرفت سابقاً أنه لا تعارض فی موارد الجمع والتوفیق العرفی، ولا یعمها ما یقتضیه الأصل فی المتعارضین، من سقوط أحدهما رأساً وسقوط کل منهما فی خصوص مضمونه، کما إذا لم یکونا فی البین، فهل التخییر أو الترجیح[1] یختص أیضاً بغیر مواردها أو یعمها؟

اختصاص التخییر والترجیح بغیر موارد الجمع العرفیّ

[1] قد ذکر الماتن اختصاص التخییر والترجیح بین الخبرین المتعارضین عند المشهور بغیر موارد الجمع العرفی قدس سره بدعوی أنّ الظاهر من الأخبار العلاجیّة سؤالاً وجواباً أنّها ناظرة إلی علاج التحیّر ممن وصل إلیه الخبران المتعارضان، ولکن ناقش قدس سره فی هذا الاستدلال بأنّ اختصاص التحیّر الاستمراری بغیر موارد الجمع العرفی لا یوجب اختصاصهما سؤالاً وجواباً بتلک الموارد، فإنّ التحیّر البدویّ متحقّق فی موارد الجمع العرفیّ أیضاً لأجل ما یکون بین الخطابین من الاختلاف، مع أنّ التحیّر بالإضافة إلی الحکم الواقعی موجود وإن لم یکن بحسب الوظیفة الظاهریّة استمرار فی التحیّر، مع أنّه یمکن أن یحتمل ردع الشارع عن الطریقة المألوفة من الجمع فی موارد الاختلاف بین الخاصّ والعامّ والمقیّد والمطلق

ص : 156

قولان: أولهما المشهور، وقصاری ما یقال فی وجهه: إن الظاهر من الأخبار العلاجیة _ سؤالاً وجواباً _ هو التخییر أو الترجیح فی موارد التحیّر، مما لا یکاد یستفاد المراد هناک عرفاً، لا فیما یستفاد ولو بالتوفیق، فإنه من أنحاء طرق الإستفادة عند أبناء المحاورة.

ویشکل بأن مساعدة العرف علی الجمع والتوفیق وارتکازه فی أذهانهم علی وجه وثیق، لا یوجب اختصاص السؤالات بغیر موارد الجمع، لصحة السؤال بملاحظة التحیّر فی الحال لأجل ما یتراءی من المعارضة وإن کان یزول عرفاً

ونحوهما.

وعلی الجملة العناوین المأخوذة فی الأخبار العلاجیّة تعمّ الحدیثین حتی فی موارد الجمع العرفی.

أقول: لا یخفی ما فی المناقشة، فإنّه لا یصحّ السؤال عن اختلاف الحدیثین فی موارد الجمع العرفیّ، إلاّ مع احتمال أنّ الشارع قد ألغی الطریقة المألوفة فی المحاورات من کون أحد الخطابین قرینة علی المراد الجدی من الآخر، أو کون مجموعهما قرینة علی ذلک أو یحتمل فی مورد خاصّ عدم صدور الخبرین أو أحدهما بخصوصه، واحتمال أن یکون نظر السائل إلی احتمال إلغاء الطریقة المألوفة فی مطلق الحدیثین المختلفین فی جمیع الموارد التی فیها جمع عرفیّ، وعن الموارد التی لا یکون فیها هذا الجمع کموارد التباین بین الحدیثین موهوم جدّاً، وإلاّ کان علیه أن یسأل عن اختلاف الحدیث العامّ وخبر الخاصّ وخبر المطلق والمقیّد وعن الأخبار التی تکون خاصّة بالإضافة إلی عموم الکتاب والسنّة أو إطلاقهما مستقلّة وعن صورة.

تعارض الخبرین کذلک؛ لأنّ منشأ السؤال والاحتمال فی الصورة الاُولی إلغاء

ص : 157

بحسب المآل، أو للتحیر فی الحکم واقعاً وإن لم یتحیر فیه ظاهراً، وهو کافٍ فی صحته قطعاً، مع إمکان أن یکون لإحتمال الردع شرعاً عن هذه الطریقة المتعارفة بین أبناء المحاورة، وجل العناوین المأخوذة فی الأسئلة لولا کلها یعمها، کما لا یخفی.

ودعوی أن المتیقن منها غیرها مجازفة، غایته أنه کان کذلک خارجاً لا بحسب مقام التخاطب، وبذلک ینقدح وجه القول الثانی، اللّهمّ إلاّ أن یقال: إن التوفیق فی مثل الخاص والعام والمقید والمطلق، کان علیه السیرة القطعیة من لدن زمان الأئمة علیهم السلام ، وهی کاشفة إجمالاً عما یوجب تخصیص أخبار العلاج بغیر موارد التوفیق العرفی، لولا دعوی اختصاصها به، وأنها سؤالاً وجواباً بصدد الإستعلاج والعلاج فی موارد التحیّر والإحتیاج، أو دعوی الإجمال وتساوی احتمال العموم مع احتمال الإختصاص، ولا ینافیها مجرد صحة السؤال لما لا ینافی العموم ما لم یکن هناک ظهور أنه لذلک، فلم یثبت بأخبار العلاج ردع عما هو علیه بناء العقلاء وسیرة العلماء، من التوفیق وحمل الظاهر علی الأظهر، والتصرف فیما یکون صدورهما قرینة علیه، فتأمل.

الطریقة المألوفة، وفی الصورة الثانیة التحیّر فی العمل وتشخیص الوظیفة فی الواقعة، کما أنّ الإطلاق فی الجواب لا یمکن أن یعمّ الصورتین، لما تقرر فی محلّه واعترف به الماتن من أنّ الإطلاق والعموم لا یمکن أن یکون رادعاً عن السیرة القائمة علی خلافه فی بعض أفراده، مثلاً: النهی عن اتّباع غیر العلم أو الظنّ لا یکون رادعاً عن السیرة الجاریة علی الاعتماد علی خبر الثقة والعدل.

ثمّ إنّه قد أجاب الماتن قدس سره عن مناقشته بقوله: «اللّهم إلاّ أن یقال . . .» ومراده قدس سره أنّ السیرة الجاریة من زمان المعصومین من رفع الید عن العمومات والمطلقات

ص : 158

فصل

قد عرفت حکم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل علی الآخر فلا إشکال فیما إذا ظهر أنّ أیّهما ظاهر وأیّهما أظهر، وقد ذکر فیما اشتبه الحال لتمییز ذلک ما لا عبرة به أصلاً، فلا بأس بالإشارة إلی جملة منها وبیان ضعفها:

منها: ما قیل فی ترجیح ظهور العموم علی الإطلاق[1].

بخطابات الخصوصات والمقیّدات کاشفة عن عدم الردع فتوجب تخصیص الأخبار العلاجیّة من التخییر والترجیح بعدم إرادة موارد الجمع العرفیّ منها.

والالتزام بکون السیرة المشار إلیها بالإضافة إلی الأخبار العلاجیّة إنّما إذا لم تتم دعوی انصراف تلک الأخبار إلی غیر موارد الجمع العرفیّ، بأن یقال بأنّها سؤالاً وجواباً ظاهرة فی الاستعلاج والعلاج فی موارد تحیّر من وصل إلیه الخبران واحتیاجه فیها إلی رفع تحیّره، أو لم تتمّ دعوی إجمال تلک الأخبار وعدم إحراز ظهورها سؤالاً وجواباً حتی بالإضافة إلی موارد الجمع العرفی، ولا ینافی دعوی الانصراف أو الإجمال لما تقدّم من صحة السؤال عن موارد الجمع العرفیّ أیضاً، وذلک فإنّ صحة السؤال لا تنافی الأخذ بالعموم لا أنّه یوجب انعقاد الظهور لها فی العموم، وبتعبیر آخر صحة السؤال لا تنافی العموم لولم یکن فی المقام ظهور فی أنّ السؤال والجواب لعلاج التحیّر فی موارد اختلاف الأخبار.

أقول: دعوی الانصراف والإجمال تنافی ما تقدّم منه قدس سره من عدم أخذ التحیّر فی الموضوع للتخییر بین المتعارضین.

تقدیم العام الوضعیّ علی الإطلاقیّ

اشارة

[1] قد تقدّم أنّ المعیار فی تقدیم أحد الخطابین علی الآخر فی بعض موارد الجمع العرفی کون أحدهما قرینة علی المراد الجدّی من الآخر، کما أنّه یکون

ص : 159

اجتماع الخطابین قرینة عرفیّة علی المراد الجدی من کلّ منهما، وعلی الجملة الملاک فی موارد الجمع العرفیّ هو القرینة علی المراد الجدّی من کلا الخطابین أو من أحدهما، سواء کانت القرینة وجدانیّة أو تعبّدیّة، لا مجرّد کون أحدهما فی الدلالة علی مدلوله أظهر من دلالة الآخر علی مدلوله مع ثبوت التنافی بینهما، کما إذا کان فی أحد الخطابین تأکید، وکما ذکرنا أنّ المدلول الاستعمالی للخاصّ مثلاً وإن یکن منافیاً للمدلول الاستعمالی للعامّ فیما إذا کان لکلّ منهما خطاب خاصّ إلاّ أنه لا تنافی بینهما فی کشفهما عن مقام الثبوت، حیث إنّ الخطاب الخاصّ مع ثبوته واعتبار ظهوره یحسب عرفاً قرینة علی المراد الجدّی من خطاب العّام المنافی لحکمه بمعنی یکون الخاصّ قرینة علی أنّ حکم العامّ ثبوتاً لا یعمّ موارد انطباق عنوان الخاصّ علیها؛ ولذا لا یکون مورد دلالة الخاصّ مورداً لأصالة التطابق فی ناحیة خطاب العامّ.

وعلی الجملة لا تعارض فی مثل موارد العامّ والخاصّ المخالفین فی حکمهما ویقدّم الخاصّ علی خطاب العامّ لأقوائیّة دلالته، بل یقدّم الخاصّ علی خطاب العامّ لعدم الدلالة فی ناحیة خطاب العامّ بالإضافة إلی موارد دلالة الخاصّ حیث إنّه إذا کان خطاب الخاصّ قطعیّاً صدوراً یرتفع الموضوع لأصالة التطابق فی ناحیة العامّ بالإضافة إلی موارد دلالة الخاصّ حقیقة، بخلاف ما إذا کان صدور خطاب الخاصّ بالتعبّد، حیث یکون ارتفاع الموضوع لأصالة التطابق فی ناحیة العام تعبّدیاً، فإنّ دلیل اعتبار صدور خطاب الخاصّ تعبّد بثبوت القرینة علی خلاف العامّ، وهذا یجری فی کلّ خطابین یعدّ أحدهما قرینة عرفیة علی المراد الجدّی من الخطاب الآخر فی المحاورات، کالاختلاف بین الخطاب المطلق والمقیّد ونحوهما، وقد وقع

ص : 160

الکلام فی بعض الموارد فی کون أحد الخطابین قرینة علی التصرف فی الآخر.

وقد یقال کما عن الشیخ قدس سره (1) أنّه کلّما دار الأمر بین رفع الید عن عموم العام الوضعیّ والعموم الإطلاقیّ فی خطابین یقدّم العموم الوضعیّ علی العموم الإطلاقیّ، وعلّل ذلک بأنّ العموم فی ناحیة العامّ تنجیزیّ بخلافه فی ناحیة المطلق فإنه تعلیقیّ یتوقف علی تمامیّة مقدمات الحکمة التی منها عدم ورود البیان للقید، وبما أنّ عموم خطاب العام وضعیّ یصلح لکونه بیاناً للقید علی خلاف العموم الإطلاقیّ، بخلاف العکس فإن صلاحیّة المطلق لکونه بیاناً للتخصیص فی العام یتوقف علی تمامیّة مقدمات إطلاقه الموقوف تمامیتها علی تخصیصه العام، وهذا هو المراد من القول بأنّ تقدیم المطلق علی العام الوضعیّ یوجب تخصیص العام بوجه دائر.

وناقش الماتن قدس سره فی هذا الاستدلال بأنّ انعقاد الظهور فی ناحیة العامّ وإن یکن تنجیزیّاً، بخلاف العموم الإطلاقیّ، فإنّه تعلیقیّ یتوقف علی تمامیّة مقدمات الإطلاق إلاّ أنّ المعتبر فی مقدمات الإطلاق عدم ورود القید فی مقام التخاطب بخطاب المطلق، لا إلی الأبد، وعلی ذلک بما أنّ خطاب کلّ من العامّ والمطلق مستقلّ علی الفرض یکون الظهور فی ناحیة کلّ منهما تنجیزیّاً فلا موجب لتقدیم أحدهما علی الآخر فیتعارضان فی مورد الاجتماع، وما قیل من تقدیم خطاب العامّ؛ لأنّ التقیید فی المطلقات أمر غالبیّ وأغلب من التخصیص لا یفید التقدیم، فإنّ الموجب للتقدیم فی تصرف غلبته وندرة التصرف الآخر، کما فی تقدیم التخصیص

ص : 161


1- 1) فرائد الاُصول 4:98.

وتقدیم التقیید علی التخصیص فیما دار الأمر بینهما، من کون ظهور العام فی العموم تنجیزیاً، بخلاف ظهور المطلق فی الاطلاق، فإنه معلّق علی عدم البیان، والعام یصلح بیاناً، فتقدیم العام حینئذ لعدم تمامیة مقتضی الإطلاق معه، بخلاف العکس، فإنه موجب لتخصیصه بلا وجه إلاّ علی نحو دائر. ومن أن التقیید أغلب

علی النسخ، وهذا لا یجری بین التخصیص والتقیید، فإن کثرة التخصیص أیضاً بمثابة ما قیل ما من عامّ إلاّ وقد خصّص.

دوران الأمر بین رفع الید عن العموم الوضعیّ أو العموم الإطلاقیّ

أقول: لا ینبغی التأمّل فی أنّ المقدمات الجاریة فی ناحیة المطلق توجب انعقاد ظهوره الاستعمالی فی ناحیة المطلق فی الإطلاق، بحیث یصحّ أن ینسب إلی المتکلم أنّه حین التکلم بخطاب المطلق أظهر عموم حکمه وإطلاقه، بأن یقال: أظهر سبحانه بقوله: «أحلّ اللّه البیع» حلّیة کلّ بیع، وهذا الظهور الاستعمالیّ فی ناحیة العامّ بالوضع، وفی ناحیة المطلق ببرکة مقدّمات الإطلاق، کما فی الفرق بین قوله علیه السلام : «کلّ قرض جرّ منفعة فهو ربا»(1) وبین قوله علیه السلام : «إنّ المقرض إذا اشترط قرضه نفعاً فهو ربا»(2) وعلی ذلک فورود خطاب القید کورود خطاب الخاصّ لا یوجب انحلال الظهور الاستعمالی، لا فی ناحیة المطلق ولا فی ناحیة العامّ.

نعم ترتفع أصالة التطابق بین الإطلاق ومقام الثبوت فی مورد دلالة خطاب القید من حین وروده، کما أنّ أصالة التطابق فی ناحیة خطاب العامّ ترتفع من حین ورود خطاب الخاصّ، نظیر ارتفاع الموضوع للأصل العملیّ من حین قیام الطریق إلی

ص : 162


1- 1) مستدرک الوسائل 13:409.
2- 2) انظر وسائل الشیعة 18:144، الباب 12 من أبواب الربا.

من التخصیص.

وفیه: إن عدم البیان الذی هو جزء المقتضی فی مقدمات الحکمة، إنما هو عدم البیان فی مقام التخاطب لا إلی الأبد، وأغلبیة التقیید مع کثرة التخصیص بمثابة قد قیل: مامن عام إلاّ وقد خص، غیر مفید، فلا بد فی کل قضیة من ملاحظة

الواقع، إلاّ أنّ کون الظهور فی کلّ من العامّ والمطلق تنجیزیاً لا یمنع أن لا تتقدم أصالة التطابق فی ناحیة العامّ علی أصالة التطابق فی ناحیة المطلق، حیث یحسب ورود أحدهما قرینة علی الآخر بالإضافة إلی المراد الجدّی منه، فلاحظ خطاب الخاصّ مع خطاب العامّ، فإنّ الظهور فی کلّ منهما تنجیزی ومع ذلک یتقدّم الظهور الأوّل علی الثانی.

والوجه فی تقدیم الخاصّ أنّه إذا اقترن بالعامّ یوجب عدم انعقاد ظهور العامّ فی العموم، وکونه قرینة علی المراد من العامّ ثبوتاً، ولذا لا یفرّق أهل المحاورة بین ذکر الخاصّ متّصلاً بالعامّ أو بخطاب منفصل إلاّ فیما ذکرنا من عدم انعقاد الظهور الاستعمالی فی الأوّل وانعقاده فی الثانی، والأمر فی العام الوضعیّ والعموم الإطلاقیّ من هذا القبیل، فإنّهما إذا اتّصلا فی الخطاب لا ینعقد الظهور الإطلاقی فی ناحیة المطلق، کما اعترف به الماتن قدس سره ، وإذا انفصلا یکون الأمر کذلک بالإضافة إلی ارتفاع أصالة التطابق فی ناحیة الإطلاق، وهذا معنی تقدیم العام الوضعیّ والتزم بتقدیم العامّ الوضعیّ علی الإطلاق فی بحث دوران الواجب بین کونه مشروطاً أو مطلقاً برجوع القید إلی المادّة.

فی دوران الأمر بین رفع الید عن الإطلاق الشمولیّ أو البدلیّ

ثمّ إنّه قد یقال بتقدیم الإطلاق الشمولیّ علی الإطلاق البدلیّ عندما دار الأمر بین أن یرفع الید عن الأوّل أو الثانی، فیقیّد الإطلاق البدلیّ بغیر ما یشمله الإطلاق

ص : 163

الشمولیّ ویذکر لذلک وجهان:

الأوّل: ما عن المحقّق القمی قدس سره من أن تقدیم الإطلاق البدلیّ علی الشمولیّ یوجب رفع الید عن بعض الأحکام الواردة فی خطاب الإطلاق الشمولیّ، بخلاف تقیید الإطلاق البدلیّ، فإنّه لا یوجب رفع الید عن شیء من الحکم الوارد فی خطاب الإطلاق البدلیّ؛ وذلک فإنّ الحکم الوارد فی خطاب البدلیّ حکم واحد لا یتعدّد، غایة الأمر علی تقدیر تقدیم الإطلاق الشمولیّ تتضیّق دائرة متعلّق ذلک الحکم أو موضوعه، بخلاف الحکم الوارد فی خطاب الإطلاق الشمولیّ فإنّه یتعدّد بتعدّد الوجودات والأفراد، فیکون تقدیم الإطلاق البدلیّ موجباً لرفع الید عن بعض الحکم الوارد فیه من بعض أفراده.

والجواب عن ذلک أنّ هذا مجرّد استحسان لا یوجب کون أحد الخطابین قرینة علی الآخر هذا أوّلاً، وثانیاً أنّ الإطلاق البدلی کما ذکر فی بحث إطلاق المتعلّق فی الأوامر بالطبایع یستلزم الترخیص من المولی فی تطبیق الطبیعیّ علی أیّ فرد منه، ومع تقدیم الإطلاق الشمولیّ علی خطاب البدلیّ یرتفع بعض الترخیص عن بعض أفراده؛ ولذا ذکرنا فی بحث اجتماع الأمر والنهی فی موارد الترکیب الاتحادیّ التحفظ علی إطلاق کلّ من خطابی الأمر والنهی؛ للزوم المناقضة بین النهی عن الطبیعی مطلقاً والترخیص فی تطبیق الطبیعی المأمور به بأیّ فرد منه فی صورة کونهما متحدین فی الوجود.

والوجه الثانی: دعوی أنّ المقدّمات الملحوظة فی ناحیة الإطلاق البدلی تزید علی الملحوظة فی ناحیة الإطلاق الشمولی بمقدّمة، وهی إحراز تساوی أفراد فی الملاک فی المطلق البدلی بالإضافة إلی أفراده، وأمّا إحراز التساوی بینهما لا یحتاج

ص : 164

خصوصیاتها الموجبة لأظهریة أحدهما من الآخر، فتدبر.

ومنها: ما قیل فیما إذا دار بین التخصیص والنسخ _ کما إذا ورد عامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، حیث یدور بین أن یکون الخاصّ مخصّصاً أو یکون العامّ ناسخاً، أو ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ، حیث یدور بین أن یکون الخاصّ مخصّصاً للعام أو ناسخاً له ورافعاً لإستمراره ودوامه _ فی وجه تقدیم التخصیص علی النسخ من غلبة التخصیص وندرة النسخ[1].

إلیه فی الإطلاق الشمولیّ؛ لأنّ شمول الحکم یجتمع مع عدم تساوی الأفراد فی ملاک ذلک الحکم، کما أنّ حرمة قتل النفس تعمّ قتل نفس العادل والفاسق والعالم والجاهل والنبی قدس سره والإمام علیه السلام مع الاختلاف فی الملاک بما لا یخفی، وهذا بخلاف الإطلاق البدلی، فإنّ الترخیص فی التطبیق لا یصحّ إلاّ مع وفاء کلّ من الأفراد بالملاک الملحوظ فی الأمر بالطبیعیّ.

وفیه أنّ عدم اختلاف الأفراد من حیث الوفاء بالملاک یحرز مع إطلاق متعلّق الأمر، کإحراز شمول الحکم لجمیع أفراد الطبیعی من إطلاقه.

وعلی الجملة إذا اقترن الإطلاق العمومیّ بالإطلاق البدلیّ یصیر الکلام مجملاً فی ناحیة کلّ منهما ویحتاج تقدیم أحدهما علی الآخر إلی قرینة، وهذا بخلاف اقتران العام الوضعیّ بالإطلاق علی ما تقدّم.

فی دوران الأمر بین التخصیص والنسخ

[1] یعنی قیل فی وجه تقدیم التخصیص علی النسخ فی الفرضین، أمّا الالتزام بالتخصیص؛ لغلبته وندرة النسخ، وبیان ذلک أنّه یدور الأمر بین التخصیص والنسخ فی فرضین:

الأول: ما إذا ورد عامّ ثمّ ورد خطاب الخاصّ بعد زمان، ودار أمر خطاب

ص : 165

الخاصّ بین أن یکون مخصّصاً لخطاب العامّ، بأن یکون کاشفاً عن عدم ثبوت العموم فی مورد دلالة الخاصّ من الأوّل، بمعنی عدم مطابقة عمومه للمراد الجدّی بالإضافة إلی مورد دلالة الخاصّ أصلاً، وهذا مساوق لخروج ما یدخل فی عنوان الخاصّ عن حکم العامّ من الأوّل، وبین کون الخاصّ المتأخّر ناسخاً لعموم العامّ فی مورد دلالته، بأن ینقطع حکم العامّ فیما یدخل فی عنوان الخاصّ ثبوتاً من حین ورود الخاص.

ولا یخفی أنّ هذا الفرض والتردّد فیه غیر مهمّ بالإضافة إلینا؛ لأن الوظیفة بالإضافة إلینا العمل بالخاصّ فی مورد دلالته، سواء کان ناسخاً لعموم العامّ أو مخصّصاً له، وإنّما تظهر الثمرة بالإضافة إلی من کان فی زمان صدور العامّ وبقی إلی ما بعد زمان صدور الخاصّ، بحیث لو کان الخاصّ المتأخّر مخصّصاً لم یلزم تدارک ما فاته من العمل بعموم العامّ.

لا یقال: کیف لا یکون هذا الفرض بالإضافة إلینا مهمّاً، فإنّه إذا کان خطاب العامّ من الکتاب المجید، ووصل الخاصّ بعد ذلک بالخبر الواحد المنقول عن النبی صلی الله علیه و آله فی آخر عمره الشریف، فإنّه إن کان ناسخاً لا یعتبر؛ لعدم اعتبار خبر الواحد فی نسخ أحکام الشریعة، بخلاف ما إذا کان مخصّصاً حیث یعتبر ویجوز تخصیص عموم الکتاب المجید بالخبر الواحد.

فإنّه یقال: لا فرق فی اعتبار الخبر الخاصّ _ المخالف لعموم الکتاب أو المخالف لإطلاقه _ بین أن یکون ناسخاً لعمومه أو مخصّصاً له، وکذا فی المقیّد، نعم إذا لم یتمّ شرط الاعتبار فی الخبر أو ابتلی بالمعارض یترک، وإنّما لا یعتبر الخبر إذا کان مدلوله مبایناً لما فی الکتاب المجید، کما تقدّم بیان ذلک فیما ورد فی عرض

ص : 166

الأخبار علی الکتاب، والمتسالم علیه بین الکلّ عدم اعتبار هذا الخبر، وأما إذا اُرید إثبات الشریعة اللاحقة بالخبر الواحد فإنّ تأسیس الشریعة ونسخ الشریعة السابقة لا یکون إلاّ من بیّنة واضحة علی ذلک کالإعجاز کما هو الحال فی الشرایع السابقة قبل شریعة سیّد المرسلین وخاتم النبیین، فإنّه لا یأتی من بعدها شریعة إلی آخر الدنیا.

الثانی: ما إذا کان الخاصّ متقدّماً، وورد بعد زمان خطاب العامّ، ودار أمر العامّ المتأخّر بین کونه ناسخاً للخاصّ المتقدّم أو کان الخاصّ المتقدّم مخصّصاً لعموم العامّ، وهذا یثمر بالإضافة إلینا، کما إذا ورد العامّ المتأخّر عن الأئمة علیهم السلام بناءً علی جواز النسخ بعد انقطاع الوحی، بأن کان خطاب الناسخ مستودعاً عندهم علیهم السلام من النبی صلی الله علیه و آله لیُظهر مَنْ علیه إظهاره منهم عند موعده، کما إذا أظهر النبی صلی الله علیه و آله فی حیاته حرمة أکل طحال الذبیحة بالنهی عنه(1)، ثمّ ورد عن الصادق علیه السلام : یؤکل من الذبیحة کلّ ما یجری فیه الدم من الحیوان، فإن کان العام المتأخر ناسخاً یحکم بجواز أکل طحال الذبیحة مما یؤکل لحمه، بخلاف ما کان الخاصّ المتقدّم مخصّصاً، فإنّه یتعین الحکم بحرمة أکل الطحال منها، والتزم المشهور فی کلا الفرضین بالتخصیص، وعلّلوه بندرة النسخ وکثرة التخصیص، وأورد علی ذلک الماتن قدس سره ، بأنّه بناءً علی ما تقدّم فی دوران الأمر بین أن یرفع الید عن العموم الإطلاقیّ والعام الوضعیّ من تعین رفع الید عن الإطلاق یتعیّن اختیار النسخ؛ لأن دلالة العامّ الأوّل علی استمرار حکمه فی فرض تقدّمه علی الخاصّ، وکذا دلالة الخاصّ علی استمرار حکمه فی فرض

ص : 167


1- 1) وسائل الشیعة 24:174، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحدیث 9.

تقدّمه علی العام إنّما هو بالإطلاق، بخلاف دلالة الخاصّ المتأخّر، فإنّ دلالته علی ثبوت حکمه لأفراد الخاصّ وضعیّ، وکذلک دلالة العامّ المتأخّر علی ثبوت حکمه لأفراده، ولازم تقدیم الدلالة الوضعیّة علی الإطلاق الالتزام بالنسخ، وما قیل من کثرة التخصیص وقلّة النسخ فبمجرّده لا یوجب إلاّ الظنّ بالتخصیص، ولا اعتبار بالظنّ فی رفع الید عن الظهور، بل لابدّ من أن تکون ندرة النسخ بحیث یوجب قرینیّة الخاصّ علی خلاف ظهور العامّ، وأنّه لا ثبوت لمدلوله لکلّ من أفراده بحیث یعمّ أفراد الخاصّ ثبوتاً.

وعن المحقّق النائینی قدس سره (1) : أنّ کلّ حکم مجعول لا یتکفّل خطابه لبیان استمراره وعدم نسخه، وإذا احتمل نسخه فلا یتمسّک فی بقائه إلاّ بدلیل آخر یدلّ علی بقائه أو بالاستصحاب فی ناحیة عدم نسخه، فیدور الأمر فی المقام بین العمل بالاستصحاب وبین الأخذ بظاهر الخطاب المتأخّر، ومع ظهوره لا تصل النوبة إلی استصحاب عدم النسخ فی الخاصّ المتقدّم، فیتعیّن الالتزام بکون العامّ المتأخّر ناسخاً، ولکنّ الصحیح فی وجه الالتزام بالتخصیص _ فیما إذا ورد خاصّ أوّلاً ثمّ ورد العامّ متأخراً _ أنّ استفادة العموم من خطاب العامّ موقوفة علی جریان مقدّمات الحکمة فی مدخول أداة العموم لإحراز المراد منه بحسبه، ومع الخاص المتقدّم لا تتمّ مقدّماته فی ناحیة ذلک المدخول.

أقول: فی کلا الأمرین ممّا ذکره قدس سره تأمّل بل منع، فإنّ عدم جواز التمسّک بخطاب الحکم فی موارد احتمال نسخه هو ما إذا أمکن النسخ فیه حقیقة کما فی

ص : 168


1- 1) فوائد الاُصول 4:739 _ 740.

ولا یخفی أنّ دلالة الخاص أو العام علی الإستمرار والدوام إنما هو بالإطلاق لا بالوضع، فعلی الوجه العقلی فی تقدیم التقیید علی التخصیص کان اللازم فی هذا الدوران تقدیم النسخ علی التخصیص أیضاً، وإنّ غلبة التخصیص إنما توجب

الأحکام من الموالی العرفیّة، وأمّا الأحکام الشرعیّة حیث یمتنع النسخ فیها بمعناه الحقیقی، بل یکون النسخ فیها بمعنی تقیید الحکم إلی زمان، فیدور الأمر فیه بین إطلاق الحکم من حیث الأزمنة وبین تقییده إلی زمان، ومع عدم ثبوت الدلیل علی التقیید یتمسّک بإطلاق خطاب الحکم من حیث الأزمنة، ولذا ذکرنا عدم الحاجة فی إثبات بقاء الأحکام المجعولة فی الشریعة إلی التمسّک بقولهم علیهم السلام : «حلال محمد حلال إلی یوم القیامة وحرامه حرام أبداً إلی یوم القیامة»(1) کما ورد ذلک فی صحیحة زرارة المرویة فی الجزء الأوّل من «اُصول الکافی» فی باب البدع والرأی والمقاییس، ولا لاستصحاب بقاء الأحکام الشرعیة وعدم نسخها، بل یتمسّک بنفس الخطابات المتکفّلة للأحکام الشرعیّة فی الوقایع.

وأمّا ما ذکره من أن التمسّک بالعام الوضعیّ متفرّع علی جریان مقدمات الحکمة فی مدخول أداة العموم، فقد تقدّم(2) فی بحث العامّ والخاصّ أنّ أداة العموم بمقتضی وضعها دالّة _ مع عدم ذکر قید لمدخولها _ علی عموم الحکم لأفراد المدخول بلا حاجة إلی مقدّمات الحکمة؛ ولذا لا یستفاد من أداة العموم التأکید، وتقدّم العام الوضعی علی العام الإطلاقی لعدم تمامیّة مقدمات الحکمة فی ناحیة العموم الإطلاقیّ إذا اقترنا علی ما مرّ.

والصحیح فی الجواب فی المقام من کون الخاصّ المتقدّم مخصّصاً للعامّ

ص : 169


1- 1) اُصول الکافی 1:58.
2- 2) دروس فی مسائل علم الاُصول 2:393.

أقوائیة ظهور الکلام فی الإستمرار والدوام من ظهور العام فی العموم إذا کانت مرتکزة فی أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المکتنفة بالکلام، وإلاّ فهی وإن کانت مفیدة للظن بالتخصیص، إلاّ أنها غیر موجبة لها، کما لا یخفی.

ثمّ إنه بناءً علی اعتبار عدم حضور وقت العمل[1]. فی التخصیص، لئلاّ یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة، یشکل الأمر فی تخصیص الکتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الأئمة علیهم السلام ، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل

المتأخّر هو أنّ الخطاب المنقول عن الأئمة علیهم السلام بما أنّهم مبیّنون لأحکام الشریعة فظاهر کلامهم أنّ الحکم الوارد فی العامّ الصادر عنهم ثابت من زمان تشریع أحکام الشریعة، لا أنّه حکم یثبت من زمان بیانهم، وما تقدّم من تصویر النسخ فی کلامهم مجرّد تصویر، وإلاّ فظاهر کلامهم ثبوت مدلوله من أوّل الشریعة، وإذا کان مدلول کلّ من العامّ المتأخّر والخاصّ ثابتاً من الأوّل یتعیّن تخصیص العامّ بالخاصّ وإن کان الخاصّ متقدّماً صدوراً، وإنما یحتمل النسخ فیما إذا کان کلّ من الخاصّ المتقدّم والعامّ المتأخّر فی الکتاب المجید أو فی کلام النبی صلی الله علیه و آله ولکن ظاهر خطاب الحکم فیهما أیضاً أنّ مدلول کلّ منهما ثابت من زمان تشریع الأحکام، وإنّما لوحظ التقدّم والتأخّر فی إبلاغ الأحکام إلی العباد لرعایة المصلحة، فلا یکون للعامّ المتأخّر ظهور تصدیقیّ فی إرادة العموم ثبوتاً، وکأنّ العام والخاصّ وردا فی زمان.

[1] ذکروا اعتبار ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ، وأنّه إذا ورد بعد حضور وقت العمل به یکون ناسخاً لعمومه، وعلیه فیشکل فی الخصوصات المأثورة عن الأئمة علیهم السلام ، حیث إنّها وردت بعد حضور وقت العمل بالعامّ فی الکتاب والسنة والالتزام بالنسخ فیها بعید جدّاً، ولو قلنا بإمکان النسخ منهم علیهم السلام بالتقریب المتقدّم.

ص : 170

بعموماتهما، والتزام نسخهما بها ولو قیل بجواز نسخهما بالروایة عنهم علیهم السلام کما تری، فلا محیص فی حله من أن یقال: إن اعتبار ذلک حیث کان لأجل قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة، وکان من الواضح أن ذلک فیما إذا لم یکن هناک مصلحة فی إخفاء الخصوصات أو مفسدة فی إبدائها، کإخفاء غیر واحد من التکالیف فی الصدر الأول، لم یکن بأس بتخصیص عموماتهما بها، واستکشاف أن موردها کان خارجاً عن حکم العام واقعاً وإن کان داخلاً فیه ظاهراً، ولأجله لا بأس بالإلتزام بالنسخ بمعنی رفع الید بها عن ظهور تلک العمومات بإطلاقها فی الإستمرار والدوام أیضاً، فتفطن.

ولکنّ لا یخفی أنّ الاشتراط المذکور فی التخصیص غیر تامّ علی إطلاقه فإنّه لقبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة، وإذا فرض صلاح فی تأخیر بیانه أو المفسدة فی إظهاره فلا قبح فی التأخیر، وعلیه تکون الخصوصیّات المأثورة عنهم کاشفة عن عدم إرادة العموم من العمومات من الأوّل. ولو کان ذلک التأخیر موجباً لاتّباع تلک العمومات ما لم ینکشف حال عدم الإرادة، وذکر الماتن قدس سره لا بأس بالالتزام بالنسخ فی تلک العمومات بمعنی رفع الید عن ظهورها فی الاستمرار والدوام من حیث العمل، ولکن لا یخفی أنّ هذا لیس من النسخ، فإنّ النسخ ینحصر فی ما إذا کان للحکم ثبوت واقعیّ إلی زمان، ولکن خطاب ذلک الحکم ظاهراً أو موهماً للدوام والاستمرار، ویکون الخطاب الناسخ مبیّناً لعدم دوامه واستمراره، و فیما إذا کان الخطاب المتأخّر کاشفاً عن عدم ثبوت ذلک الحکم من الأوّل رأساً، کما فی خطاب الخاصّ المتأخّر حیث یکشف من عدم ثبوت الحکم لبعض أفراد العامّ من الأوّل أصلاً، وأمّا ارتفاع أصالة العموم الجاریة فی ناحیة العامّ إلی زمان ورود الخاصّ فهو لیس من نسخ الحکم المجعول، بل من نظیر ارتفاع الأصل العملیّ بارتفاع موضوعه،

ص : 171

ص : 172

فصل

لا إشکال فی تعیین الأظهر لو کان فی البین إذا کان التعارض بین الإثنین[1[ وأمّا إذا کان بین الزائد علیهما فتعیّنه ربّما لا یخلو عن خفاء؛ ولذا وقع بعض الأعلام فی اشتباه وخطأ، حیث توهّم أنّه إذا کان هناک عامّ وخصوصات وقد خصّص ببعضها کان اللازم ملاحظة النسبة بینه وبین سائر الخصوصات بعد

ولا یخفی أیضاً أنّ ورود الخصوصیّات ونقلها عن الأئمة علیهم السلام لا یکشف عن عدم سبق بیانها أصلاً، بل یمکن جلّها أو بعضها مسبوقة ببیان النبی صلی الله علیه و آله ولو لبعض الناس ولم یصل ذلک البیان لعدم اهتمام السامعین بنقلها أو لغیر ذلک.

اختلاف الخطابات وتعارضها

اشارة

[1] توضیح الکلام فی المقام أنّه إذا کان بین الخطابین اختلاف یکون تعیین أنّهما من المتعارضین أو بینهما جمع عرفی بلا إشکال علی ما تقدّم، وأمّا إذا وقع الاختلاف بین أکثر من الدلیلین فربّما یکون تعیین أنّ بینهما جمعاً عرفیاً أو أنّهما من المتعارضات خفاءً؛ ولذلک ینبغی التکلم فی بیان أقسامها والتعرض لحکم کلّ قسم منها، فنقول: قد یکون الوارد فی الخبر من قبیل خطاب العامّ والوارد فی الخطابات الاُخری کلّها من قبیل الخاصّ إلی ذلک العامّ، ولکن النسبة بین کلّ خاصّ بالإضافة إلی الخاصّ الآخر تختلف فربّما تکون النسبة التباین بین موضوعهما، واُخری العموم من وجه، وثالثة العموم المطلق، ورابعة بالاختلاف.

الصورة الاُولی: ما إذا کانت النسبة بین کلّ خاصّ بالإضافة إلی الخاصّ الآخر التباین بالمعنی المتقدّم، کما إذا ورد فی خطاب؛ حرمة کلّ ربا، بالعموم الوضعیّ أو حتّی بالإطلاق، وورد فی خبر عدم حرمة الربا بین الوالد والولد، وفی خبر ثالث عدم حرمة الربا بین الزوج وزوجته وهکذا، وحیث إنّ کلاًّ من الخاصّین بالإضافة إلی

ص : 173

تخصیصه به. فربما تنقلب النسبة إلی عموم وخصوص من وجه، فلا بد من رعایة هذه النسبة وتقدیم الراجح منه ومنها، أو التخییر بینه وبینها لو لم یکن هناک راجح، لا تقدیمها علیه، إلاّ إذا کانت النسبة بعده علی حالها.

خطاب حرمة الربا من قبیل الخاصّ بالإضافة إلی العام أو المقیّد بالإضافة إلی المطلق یکون تخصیص خطاب العامّ أو تقیید خطاب المطلق بکلّ منهما متعیّناً، سواء کان خطاب العامّ والمطلق وارداً فی الکتاب المجید أو السنّة أو فی الخبر الواحد.

نعم، قد یکون خطاب العامّ والمطلق بحیث یلزم من تخصیصه أو تقییده بکلّ منهما بقاؤه بلا مورد أو بقاء أفراد نادرة، بحیث یکون تخصیص العامّ أو تقیید المطلق بذلک الحدّ مستهجناً، کما إذا ورد فی الخبر استحباب إکرام کلّ عالم أو العلماء، وفی خبر آخر وجوب إکرام العالم العادل، وفی ثالث یحرم إکرام العالم الفاسق، فإنّ تخصیص خطاب العامّ أو المطلق بهما یوجب بقاء العامّ أو المطلق بلا مورد أو أفراد نادرة؛ لأنّ العالم الذی لا یدخل فی أحد العنوانین غیر موجود أو أنّه نادر، کما فی العالم فی أوّل بلوغه بناءً علی أنّ العدالة هی الملکة أو الاستمرار فی الاستقامة فی الدین، وإذا لم یرتکب فی زمان بلوغه معصیة ولم یحصل له ملکة أو استمرار فی العمل بالوظایف فهو عالم غیر عادل ولا فاسق.

وقد ذکر الماتن قدس سره أنّه فی هذا الفرض یقع التعارض بین خطاب العامّ ومجموع الخاصّین؛ لأنّ النسبة بینه وبین مجموعهما التباین، بمعنی عدم الجمع العرفیّ بینهما، فإن کان لخطاب العامّ مرجح بالإضافة إلی کلّ منهما فیؤخذ به، ویقع التعارض العرضیّ بین الخاصّین؛ لأنّ المعلوم عدم صدقهما مع فرض صدق العامّ، وعلی ذلک فإن رجح أحد الخاصّین لمرجح فیه أو أخذ به تخییراً یخصّص خطاب

ص : 174

العامّ به ویطرح الخاصّ الآخر، وإن لم یکن العامّ بالإضافة إلی أحدهما أرجح وکان الترجیح فی کلّ منهما فیؤخذ بهما ویطرح العامّ رأساً، وکذا فیما إذا أخذ بهما تخییراً، لتساوی العامّ بالإضافة إلیهما لعدم المرجّح له.

وقد یقال: بأنّه لا وجه لجعل العامّ أحد طرفی المعارضة وجعل الطرف الآخر للمعارضة مجموع الخاصّین، لتحقّق الجمع العرفیّ بین العامّ وکلّ من الخاصّین، ومجموع الخاصّین لیس أمراً آخر غیرهما لیلاحظ النسبة بینه وبین العامّ، فالمتعیّن فی الفرض الأخذ بخطاب العامّ علی کلّ تقدیر، ویعمل بالأخبار العلاجیّة فی ناحیة الخاصّین للتعارض بینهما، فیقدّم أحدهما ترجیحاً أو تخییراً، ویخصّص العامّ به ویطرح الآخر.

أقول: قد تقدّم أنّ الأخذ بکلّ من خطابی العامّ والخاصّ وعدم حسابهما متعارضین لکون الخاصّ قرینة عرفاً لبیان المراد الجدّی من خطاب العامّ، وإذا فرض التعدّد فی ناحیة الخاصّ علی نحو المفروض فی المقام فلا یکون الخاصّ المتعدّد قرینة عرفیّة علی المراد الجدّی منه، ومع عدم حسابهما قرینة عرفیّة تقع المعارضة بین العامّ والخاصّ لا محالة، وکون أحدهما قرینة بشرط لا من الآخر لا یلازم کونه قرینة بشرط الاجتماع والانضمام إلی الآخر، وبتعبیر آخر الخصوصات المرویّة عن الأئمة علیهم السلام کلّها بمنزلة کلام واحد منقول عنهم، وهذا الکلام فیما أوجب التخصیص المستهجن فی خطاب العامّ فلا یعدّ قرینة عرفیّة علی المراد الجدی، فتقع المعارضة بینهما وبین خطاب العامّ علی قرار ما تقدّم.

وعلی الجملة، حاصل ما ذکر فی الکفایة فیما إذا استلزم تخصیص العامّ بکلّ من الخاصّین عدم بقاء مورد لحکم العامّ أو انتهاء تخصیصه إلی حدّ الاستهجان هو

ص : 175

ملاحظة الترجیح بین خطاب العامّ ومجموع الخاصّین، فإن کان العامّ راجحاً بالإضافة إلی مجموع الخاصّین یؤخذ به، ویقع التعارض العرضیّ بین الخاصّین، ولو کان لأحدهما ترجیح بالإضافة إلی الخاصّ الآخر أو أخذ بأحدهما تخییراً، فیخصّص العامّ به ویطرح الخاصّ الآخر، وکذا الحال فیما لو أخذ بخطاب العامّ تخییراً مع عدم ترجیح لخطابه ولا للخاصّین فإنه یؤخذ بالعامّ ویطرح من الخاصّین المرجوح منهما مع ترجیح لأحدهما أو لأخذ أحدهما تخییراً، وهذا بخلاف ما أخذ بالخاصّین لثبوت الترجیح فی ناحیة الخاصّین، فإنّه یطرح خطاب العامّ رأساً، وکذا إذا أخذ بخطاب الخاصّین تخییراً.

وما ذکره قدس سره صحیح بناءً علی ثبوت الترجیح بین المتعارضین، ومع عدمه الحکم هو التخییر.

ثمّ لا یخفی أنّه یکتفی فی کون العامّ أرجح بالإضافة إلی مجموع الخاصّین أن یکون راجحاً لأحد الخاصّین ومساویاً مع الخاصّ الآخر، وعلیه یقدّم علی مجموع الخاصّین وحیث إن الخاصّ المساوی للعامّ أرجح من الخاصّ الآخر یخصّص العام به، ویسقط الخاصّ الآخر عن الاعتبار، وأمّا إذا کان العام أرجح بالإضافة إلی کلّ من الخاصّین یؤخذ به ویقع التعارض العرضیّ بین الخاصّین، فإن کان بینهما أیضاً ترجیح یؤخذ به ویخصّص العامّ به، لعدم التعارض إلاّ بین العامّ ومجموع الخاصّین، لا المعارضة بینه وبین کلّ واحد من الخاصّین، وإن لم یکن رجحان بین الخاصّین یؤخذ بأحدهما تخییراً ویخصّص العام به لما عرفت، ویسقط الخاصّ الآخر عن الاعتبار.

ویکفی أیضاً فی ترجیح ناحیة الخاصّین بأن یکون أحدهما راجحاً بالإضافة

ص : 176

إلی العامّ والآخر مساویاً له، فإنّه إذا أخذ بالخاصّ الراجح أمکن الأخذ بالعامّ أیضاً لعدم المعارضة بینه وبین العامّ، وأمّا الخاصّ المساوی للعامّ فیسقط عن الاعتبار مع اختیار العامّ تخییراً بینه وبین الخاصّ الآخر، وأمّا إذا أخذ بالخاصّ الآخر مع الخاصّ الراجح ترجیحاً لناحیة مجموع الخاصّین یلغی خطاب العامّ، کما یلغی خطاب العامّ إذا کان کلّ من خطابی الخاص أرجح بالإضافة إلی خطاب العامّ، ومقتضی کلام الماتن الأخذ بالخاصّین، وأمّا إذا کان خطاب العامّ راجحاً بالإضافة إلی أحد الخاصّین ومرجوحاً بالإضافة إلی الخاصّ الآخر فمقتضی کلام الماتن قدس سره من أنّ المعارضة بین خطاب العامّ ومجموع خطابی الخاصّ هو کون العامّ فی الفرض مساویاً لمجموع الخاصّین بوقوع الکسر والانکسار، فإمّا أن یؤخذ بالخاصّین تخییراً فیلغو العامّ أو الأخذ بخطاب العامّ، ولا موجب لتخصیصه بالخاصّ الراجح تقدیماً له علی الخاصّ الآخر؛ وذلک فإنّ المأخوذ فی مقام الترجیح مجموع الخاصّین لا أحدهما، وهذا منسوب إلی الماتن قدس سره کما أشرنا.

یورد(1) علیه بأنّ المعارضة إنّما هی لعدم صدق أحد الخطابات الثلاثة خطاب العامّ أو خطاب الخاصّ الراجح علی العامّ أو الخاصّ الآخر الذی یکون خطاب العامّ راجحاً علیه فلا موجب لرفع الید عن کلا الخاصّین، بل بما أنّ المرجوح بالإضافة إلی خطاب العامّ یسقط عن الاعتبار لمزیة العامّ والخاصّ الآخر علیه، فیعمل بالعامّ والخاصّ الراجح.

ولکن لم یوجد فی کلام الماتن قدس سره فی «الکفایة» ما یدلّ علی ذلک، ولعلّه

ص : 177


1- 1) مصباح الاُصول 3:391.

استفید من قوله: «فلو رجّح جانبها أو اختیر فیما لم یکن هناک ترجیح فلا مجال للعمل به أصلاً بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدّم تخییراً فلا یطرح منها إلاّ خصوص ما لا یلزم من طرحه المحذور من التخصیص بغیره».

والمتحصّل مما ذکر أنّه لو کان لأحد الخاصّین مزیّة علی العامّ والخاصّ الآخر یؤخذ به ویجمع بینه وبین العامّ فلا موجب إلاّ لطرح الخاصّ الآخر، وکذا لو اختیر جانب الخاصّین تخییراً بینهما وبین العامّ وکان ترجیح لأحدهما بالإضافة إلی الخاصّ الآخر یطرح الخاص الآخر، ویجمع بین الخاصّ الراجح وبین العامّ فی العمل، کما فی الفرض الأخیر بلا موجب لطرح العامّ أصلاً، لما ذکرنا من أن الموجب للتعارض العلم الإجمالی بکذب أحد الخطابات الثلاثة من دون تعیین.

فتکون النتیجة أنّ کلّ مورد کان منشأ التعارض بین الخطابات متعددة العلم الإجمالی بکذب أحدها واقعاً، فإن کان أحد الخطابات مرجوحاً بالإضافة إلی الباقی یتعیّن ذلک فی السقوط عن الاعتبار ویؤخذ بالباقی منها، وإن لم یکن شیء منها مرجوحاً بالإضافة إلی الباقی، فبناءً علی ما هو الصحیح من عدم ثبوت التخییر بین المتعارضین حتی فی الأخبار یسقط کلّ منها عن الاعتبار فیرجع إلی القاعدة الأوّلیّة ولو کان أصلاً عملیّاً سواء کان مقتضاه الاشتغال أو البراءة، وبناءً علی مسلک التخییر یختار أحدهما فی الطرح ویعمل بالباقی لوجود الجمع العرفیّ بعد سقوط المطروح بین الخطابات الباقیّة، وقول الماتن قدس سره فی تقریر المعارضة بین العامّ ومجموع الخاصّین یقابل بالعلم بکذب هذا الخاصّ أو مجموع العامّ والخاصّ الآخر.

تعارض العمومات والخصوصات مع کون النسبة بین الخاصّین العموم والخصوص المطلق

وإذا کانت النسبة بین الخاصّین العموم والخصوص المطلق، کما إذا ورد الأمر

ص : 178

بإکرام العلماء فی خطاب، وفی خطاب آخر النهی عن إکرام من عصی ربّه، وفی خطاب ثالث النهی عن إکرام العالم الفاسق بناءً علی أنّ المراد بالفاسق المرتکب للکبیرة، فإنّ الظاهر تخصیص العامّ بکلّ منهما؛ لأنّه لا تنافی بین خطاب النهی عن إکرام العالم العاصی وخطاب النهی عن إکرام العالم الفاسق؛ لأنّ کلاًّ منهما خطاب انحلالیّ من حیث الحکم الوارد فیه یتوافقان فی السلب بناءً علی ما هو الصحیح من عدم المفهوم للوصف، وذکر الخاصّ الأوسع والخاصّ الأضیق متعارف، فیکون تخصیص الأخصّ بالذکر للاهتمام به نظیر قوله علیه السلام : «لا تصلّ خلف شارب النبیذ المسکر»(1) وقوله: «لا تصلّ خلف الفاسق»(2) بلا فرق فیما ذکر بین کون الخاصّ الأخصّ وارداً قبل الآخر أو بعده أو وردا فی زمان واحد، وقد تقدّم فی دوران الأمر بین النسخ والتخصیص بما أنّ الأئمة علیهم السلام مبیّنون لأحکام الشریعة یخبرون عن زمان تشریع الأحکام التی منها الحکم الوارد فی خطاب العامّ وکلّ من الخاصّین ولو کان أحدهما صادراً عن الإمام السابق علیه السلام والآخر صادراً عن الإمام اللاحق بمنزلة الصادرین عن إمام واحد، فلا وجه فی الفرض من تخصیص الخاصّ بأخصّ الخاصین أوّلاً لکونه متعیّناً أو کونه سابقاً.

نعم هذه الملاحظة صحیحة فیما إذا کان أخصّ الخاصّین متّصلاً بخطاب العامّ من الأوّل کما إذا ورد فی الخطاب: أکرم العلماء إلاّ من ارتکب کبیرة، وورد فی خطاب آخر: لا تکرم عالماً عصی ربّه، فإنّ العامّ المتصل به أخصّ الخاصّین

ص : 179


1- 1) انظر وسائل الشیعة 8:316، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 11.
2- 2) انظر المصدر السابق: 314، الحدیث 2 و 4.

وفیه: إن النسبة إنما هی بملاحظة الظهورات، وتخصیص العام بمخصص منفصل ولو کان قطعیاً لا ینثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجیته، ولذلک یکون بعد التخصیص حجة فی الباقی، لأصالة عمومه بالنسبة إلیه.

والخاصّ الآخر یجتمعان فی عالم ارتکب صغیرة ولم یتب، فإنّ مقتضی خطاب العامّ طلب إکرامه، ومقتضی الخاصّ المنفصل عدم طلب إکرامه، فیرجّح أحدهما فی مورد الاجتماع مع ثبوت الراجح ومع عدمه یتخیّر أو یتساقطان فی مورد الاجتماع ویرجع إلی العامّ الفوق أو المطلق المقام أو یرجع إلی الأصل العملیّ.

وعن النائینی قدس سره (1) أنّه إذا کان فی البین عامّ أو مطلق آخر غیر ما اتّصل به أخصّ الخاصّین لم یجز الرجوع إلیه ولا تخصیصه بالخاصّ المنفصل بعد تعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصین والخاصّ المنفصل الآخر، وذکر فی وجه ذلک وجهین لهما معاً:

الأوّل: أنّه لا تعارض بین العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّین والخاصّ المنفصل الآخر بالإضافة إلی مدلول أخصّ الخاصّین، فیخصّص العامّ الفوق فی ذلک المقدار وبعد تخصیصه فی ذلک المقدار یکون مدلوله معارضاً بالخاصّ المنفصل الأوسع، کما هو الحال فی تعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّین مع ذلک الخطاب الخاصّ المنفصل.

والثانی: أی عدم صلاحیة الخاصّ المنفصل لتخصیص العامّ الفوق لکونه مبتلی بالمعارض، والمعارض العامّ المتّصل به أخصّ الخاصین، ومع الابتلاء بالمعارض کیف یصلح لتخصیص العامّ الفوق أو تقیید المطلق الفوق.

ص : 180


1- 1) فوائد الاُصول 4:744 _ 745.

لا یقال: إن العام بعد تخصیصه بالقطعی لا یکون مستعملاً فی العموم قطعاً، فکیف یکون ظاهراً فیه؟

فإنه یقال: إن المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فیه لإفادة القاعدة الکلیة، فیعمل بعمومها ما لم یعلم بتخصیصها، وإلاّ لم یکن وجه فی حجیته

ولکن لا یخفی أنّه لا وجه لتخصیص العامّ الفوق بأخصّ الخاصّین أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بینه وبین الخاصّ الآخر الأوسع علی ما تقدّم، بل یرد التخصیص بالأخصّ فی عرض تخصیصه بالخاصّ الأوسع.

نعم بما أنّ الخاصّ الأوسع مبتلی بالمعارض مع العامّ المتّصل به أخصّ الخاصین کما هو الوجه الثانی وهو صحیح، فمقتضی المعارضة سقوطهما فی مورد اجتماعهما فیتمسّک بالعامّ الفوق فی مورد اجتماعهما حیث لم یثبت تخصیص له فی مورد اجتماع العامّ المتصل به أخصّ الخاصّین والخاصّ المنفصل الآخر وکذا الحال فی المطلق الفوق.

فیما کان مع خطاب العام خطابان خاصّان بینهما العموم من وجه

ومما ذکرنا یظهر الحال فی القسم الثالث وهو ما إذا کانت النسبة بین الخاصّین العموم من وجه، کما إذا ورد فی خطاب الأمر بإکرام العلماء، وفی خطاب ثان النهی عن إکرام العالم الفاسق وفی خطاب ثالث النهی عن إکرام العالم الکوفیّ، وأنّه لابدّ فی الفرض من تخصیص العامّ بکلّ من الخاصّین، بلا فرق بین کون أحدهما سابقاً علی الآخر من حیث الوصول أو کان وصولهما فی زمان واحد، حیث إنّ کلاًّ منهما یرشد إلی حصول مضمونه من زمان حصول مضمون الآخر، وعلی ذلک فالفرق بین القسم الأوّل من الخاصّین والقسمین الثانی والثالث منهما عدم جریان شبهة انقلاب النسبة فی القسم الأوّل لبقاء النسبة بحالها بعد تخصیص العامّ بأحد الخاصّین،

ص : 181

فی تمام الباقی، لجواز استعماله حینئذ فیه وفی غیره من المراتب التی یجوز أن ینتهی إلیها التخصیص، وأصالة عدم مخصص آخر لا یوجب انعقاد ظهور له، لا فیه ولا فی غیره من المراتب، لعدم الوضع ولا القرینة المعینة لمرتبة منها، کما لا یخفی، لجواز إرادتها وعدم نصب قرینة علیها.

بخلاف القسمین الثانی والثالث فإنّه ربّما یتوهّم فیهما انقلاب النسبة بوصول أحد الخاصّین أو تخصیص العامّ بأخصّ الخاصّین، ولکن ذکرنا لا وجه لجعل السابق علی الخاصّ الآخر مخصّصاً للعامّ أوّلاً فی القسم الثالث، وتخصیص العامّ بأخصّ الخاصّین فی القسم الثانی، والفرق بین القسم الثانی والقسم الثالث أنّه إن لزم من تخصیص العامّ بکلّ من الخاصّین بقاء العامّ بلا مورد فی القسم الثالث یجری فیه ما تقدّم فی القسم الأوّل، بخلاف القسم الثانی فإنّ المعارضة فیه تقع بین العامّ وبین الخاصّ الأوسع کما هو واضح.

فی الجمع بین الروایات الواردة فی ضمان العاریة وعدمه

ولا بأس فی المقام بالتعرّض للروایات الواردة فی ضمان العاریة ونفی الضمان فیها وبیان طریق الجمع بینهما.

فنقول: الروایات الواردة فی ذلک علی خمس طوائف:

الاُولی: ما دلّ علی نفی الضمان فی مطلق العاریة کصحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «صاحب الودیعة والبضاعة مؤتمنان، ولیس علی مستعیر عاریة ضمان وصاحب العاریة والودیعة مؤتمن»(1).

والطائفة الثانیة: ما دلّ علی عدم ضمان تلف العاریة علی المستعیر إلاّ إذا

ص : 182


1- 1) وسائل الشیعة 19:93، الباب الأوّل من أبواب العاریة، الحدیث 6.

نعم ربما یکون عدم نصب قرینة مع کون العام فی مقام البیان قرینة علی إرادة التمام، وهو غیر ظهور العام فیه فی کل مقام.

فانقدح بذلک أنه لا بد من تخصیص العام بکل واحد من الخصوصات مطلقاً، ولو کان بعضها مقدماً أو قطعیاً، ما لم یلزم منه محذور انتهائه إلی ما لا یجوز الإنتهاء إلیه عرفاً، ولو لم یکن مستوعبة لأفراده، فضلاً عما إذا کانت مستوعبة

اشترط علیه، کصحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام حیث ورد فیها: «إذا هلکت العاریة عند المستعیر لم یضمنه إلاّ أن یکون اشترط علیه»(1).

الثالثة: ما دلّ علی عدم الضمان فی العاریة فی غیر عاریة الذهب والفضة، کصحیحة زرارة قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام العاریة مضمونة؟ فقال: جمیع ما استعرته فتوی فلا یلزمک تواه إلاّ الذهب والفضة فإنهما یلزمان»(2).

الرابعة: ما دلّ علی عدم الضمان فی العاریة إلاّ مع الاشتراط إلاّ الدنانیر فإنها مضمونة وإن لم یشترط، کصحیحة عبداللّه بن سنان قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : لا تضمّن العاریة إلاّ أن یکون اشترط فیها ضمان إلاّ الدنانیر فإنها مضمونة وإن لم یشترط فیها ضماناً»(3).

الخامسة: ما دلّ علی عدم الضمان إلاّ فی الدراهم، کصحیحة عبدالملک بن عمرو عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «لیس علی صاحب العاریة ضمان إلاّ أن یشترط صاحبها إلاّ الدراهم فإنّها مضمونة اشترط صاحبها أو لم یشترط»(4).

ص : 183


1- 1) وسائل الشیعة 19:91، الباب الأول من أبواب العاریة، الحدیث الأول.
2- 2) المصدر السابق: 96، الباب 3، الحدیث 2.
3- 3) المصدر السابق: الحدیث الأول.
4- 4) المصدر السابق: الحدیث 3.

لها، فلا بد حینئذ من معاملة التباین بینه وبین مجموعها ومن ملاحظة الترجیح بینهما وعدمه، فلو رجح جانبها أو اختیر فیما لم یکن هناک ترجیح فلا مجال للعمل به أصلاً، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخییراً، فلا یطرح منها إلاّ

ومقتضی الجمع بین العقد الإیجابیّ فی کلّ من الأخیرین وبین العقد السلبی فی الآخر هو الالتزام بالضمان فی کلّ من عاریة الدنانیر والدراهم وإن لم یشترط الضمان، وما دلّ علی نفی الضمان فی العاریة مع عدم شرط الضمان إلاّ فی الذهب والفضة فالعقد الإیجابی فیه أی ثبوت الضمان فی عاریة الذهب والفضة یتعارض مع العقد السلبی فی عدم الضمان مع عدم اشتراطه فی غیر الدرهم والدینار بالعموم من وجه؛ لأنّ العقد الإیجابیّ یدلّ علی عدم الضمان فی الدرهم والدینار مع عدم الاشتراط، ولا ینافی العقد السلبیّ فی نفیه مع عدم الاشتراط فی غیر الدرهم والدینار، وهذا العقد السلبیّ یدلّ علی نفی الضمان مع عدم الاشتراط فی عاریة الکتب ونحوه، ولا ینافیه العقد الإیجابیّ من ثبوت الضمان مع عدم الاشتراط فی عاریة الذهب والفضة، وفی عاریة مثل الحلّی من الذهب والفضة یدلّ العقد الایجابیّ علی الضمان مع عدم الاشتراط وینفی هذا الضمان العقد السلبیّ من عدم الضمان مع عدم الاشتراط فی غیر الدرهم والدینار، ومع ذلک یؤخذ بإطلاق العقد الإیجابیّ الدالّ علی ثبوت الضمان فی عاریة الذهب والفضة مع عدم الاشتراط، ویرفع الید عن إطلاق العقد السلبیّ أی عدم الضمان مع عدم اشتراط فی غیر الدراهم والدنانیر؛ لأنّ تقدیم إطلاق العقد السلبیّ یوجب حمل العقد الایجابیّ المذکور علی الفرد النادر؛ لأنّ الغالب فی عاریة الذهب والفضة هو عاریة غیر الدرهم والدینار؛ لأنّ الانتفاع الغالب فی الدراهم والدنانیر بصرف أعیانها بخلاف مثل الحلّی من الذهب والفضة، فلا یکون مجال للقول بتساقطهما فی مورد اجتماعهما والرجوع

ص : 184

خصوص ما لا یلزم مع طرحة المحذور من التخصیص بغیره، فإن التباین إنما کان بینه وبین مجموعها لا جمیعها، وحینئذ فربما یقع التعارض بین الخصوصات فیخصص ببعضها ترجیحاً أو تخییراً، فلا تغفل.

هذا فیما کانت النسبة بین المتعارضات متحدة، وقد ظهر منه حالها فیما کانت النسبة بینها متعدّدة[1].

إلی العامّ الدالّ علی عدم الضمان فی العاریة مع عدم اشتراط الضمان، فیکون الحاصل من الطوائف الخمس من الروایات عدم الضمان فی العاریة إلاّ مع اشتراط الضمان فی غیر عاریة الذهب والفضة سواء کانا من الدینار والدرهم أو من الحلی ونحوه فإن فی عاریتهما الضمان إلاّ مع اشتراط عدمه کما فی ذیل صحیحة زرارة المتقدّمة.

[1] المراد بتعدّد النسبة عدم اتّحاد النسبة بین کلّ من الخطابین بالإضافة إلی الخطاب الثالث، کما کان الاتحاد فی الفروض المتقدّمة محفوظاً حیث کانت نسبة کلّ من الخطابین بالإضافة إلی الثالث العموم والخصوص المطلق وتعرّض قدس سره من صور اختلاف النسبة لصورة واحدة وعطف غیرها علیها فی الحکم.

موارد انقلاب النسبة

وتلک الصورة ما إذا کان فی البین العامّین من وجه وورد خطاب خاصّ بالإضافة إلی أحدهما، والتزم بأنّ الخاصّ المفروض یقدّم علی عامّه ویبقی التعارض بین العامّین من وجه بحاله مطلقاً أی سواء بقیت النسبة بعد تخصیص أحدهما بالخاصّ المخالف له بحالها، کما إذا ورد التخصیص لأحدهما فی بعض موارد افتراقهما أو فی بعض موارد اجتماعهما أو کانت النسبة بعد تخصیص أحدهما بذلک الخاصّ العموم والخصوص المطلق، کما إذا ورد التخصیص لأحدهما فی تمام مورد

ص : 185

کما إذا ورد هناک عامان من وجه مع ما هو أخص مطلقاً من أحدهما، وأنه لا بد من تقدیم الخاص علی العام ومعاملة العموم من وجه بین العامین من الترجیح والتخییر بینهما، وإن انقلبت النسبة بینهما إلی العموم المطلق بعد تخصیص أحدهما، لما عرفت من أنه لا وجه إلاّ لملاحظة النسبة قبل العلاج.

افتراقه عن الآخر حیث لا عبرة بهذا الانقلاب، ولا یلاحظ فی أخذ النسبة بین الخطابین إلاّ الظهور الأولی لکلّ منهما المعبّر عنه بالمدلولات الاستعمالیّة.

نعم لو کان تخصیص أحدهما بالخاصّ المخالف له موجباً لعدم بقاء شیء تحته علی تقدیر تقدیم العامّ الآخر علیه أو بقی تحته أفراد نادرة وقلیلة بحیث لا یجوز انتهاء التخصیص إلیه لتعیّن تقدیم العامّ المخصّص علی الآخر، لا لانقلاب النسبة، بل لدفع المحذور المذکور، کما إذا ورد فی خطاب استحباب إکرام العلماء وفی خطاب آخر کراهة إکرام الفساق، فالمعارضة بینهما بالعموم من وجه، وإذا ورد فی خطاب وجوب إکرام العالم الهاشمی یرفع الید عن الاستحباب فی العالم الهاشمیّ، فیلتزم باستحباب إکرام العلماء ووجوب إکرام العالم الهاشمیّ، وتبقی المعارضة بین الاستحباب والکراهة فی العالم والعالم الهاشمی بحالها، وفی الفرض بعد تخصیص أحد العامّین النسبة بین العامّین المتخالفین فی الحکم باقیة بحالها.

ولو کان مدلول الخاصّ وجوب إکرام العالم العادل یقدّم فی إکرام العالم الفاسق خطاب استحباب إکرام العلماء علی ما دلّ علی کراهة إکرام الفاسق لئلا یکون خطاب استحباب إکرام العلماء بلا مورد، ولذا لولم تنقلب النسبة أصلاً، ولکن کان فی تقدیم أحد الخطابین فی مورد اجتماعهما علی الآخر لزوم لغویته تعیّن العکس، کما إذا ورد فی خطاب: «اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه»(1) وورد فی خطاب

ص : 186


1- 1) وسائل الشیعة 3:405، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

آخر: «کلّ طائر یطیر بجناحیه فلا بأس ببوله وخرئه»(1) فإنّهما یتعارضان فی بول طیر لا یؤکل لحمه، فیقدّم خطاب کلّ طائر؛ لأنّه لو قدّم فی بول طیر ما لا یؤکل لحمه خطاب اغسل ینحصر مدلول خطاب کلّ طائر علی طیر یؤکل لحمه ویکون عنوان الطائر لغواً؛ لأنّ البول والروث من مأکول اللحم طاهر سواء کان طیراً أو غیره.

أقول: ظاهر کلام الماتن قدس سره أنّه إذا کانت النسبة بین الخطابین العموم من وجه، وکان فی البین خطاب آخر أخصّ مطلق من أحد الخطابین بحیث تکون النسبة بعد تخصیصه بالأخصّ العموم والخصوص المطلق بینه وبین الخطاب الآخر، فلا ترتفع المعارضة بین الخطابین الأولیین، کما إذا ورد فی خطاب استحباب إکرام العلماء وفی خطاب آخر کراهة إکرام الفساق وفی البین کان خطاب وجوب إکرام العلماء العدول تکون النسبة بین خطاب استحباب إکرام العلماء بعد إخراج العدول منه وبین خطاب کراهة إکرام الفساق العموم والخصوص المطلق، ومع ذلک یبقی التعارض بحاله، إلاّ إذا کان الباقی تحت العامّ الذی ورد علیه التخصیص، بحیث لو قدّم خطاب العامّ الثانی علیه لزم انتهاء التخصیص إلی ما لا یجوز انتهاؤه إلیه أو لا یبقی تحته فرد أصلاً، وهذا الذی أفاد لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ مع انقلاب النسبة من العامّین من وجه إلی العموم والخصوص المطلق بقاء التعارض بحاله غیر معقول؛ لأنّ ملاک التعارض لیس مجرّد تنافی مدلولی الدلیلین بالمدلول الاستعمالیّ بل الملاک فیه تنافیهما فی مقام الإثبات، بحیث یکون کلّ من الخطابین إلی دلیل الاعتبار علی حد سواء مع عدم إمکان شموله لهما معاً، وبعد ورود التخصیص علی

ص : 187


1- 1) وسائل الشیعة 3:412، الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث الأول.

نعم لو لم یکن الباقی تحته بعد تخصیصه إلاّ ما لا یجوز أن یجوز عنه التخصیص أو کان بعیداً جداً، لقدم علی العام الآخر، لا لإنقلاب النسبة بینهما، بل لکونه کالنص فیه، فیقدم علی الآخر الظاهر فیه بعمومه، کما لا یخفی.

أحد العامّین من وجه فی تمام مورد افتراقه عن الآخر یکون شمول دلیل الاعتبار لکلّ من العامّ المخصّص والعام الآخر بلا محذور، حیث یحسب العامّ المخصّص قرینة علی المراد الجدّی من العامّ الآخر کما فی المثال. أضف إلی ذلک أنّه لا یمکن فیما فرضه من عدم بقاء فرد تحت العامّ المخصّص بعد تخصیصه بالخاصّ الوارد علیه فی تمام مورد افتراقه عن الآخر وبقاء النسبة الأولیة بحالها. وبتعبیر آخر انقلاب النسبة من العموم من وجه إلی العموم والخصوص المطلق یلازم بقاء العامّ المخصّص مع تقدیم الآخر علیه بلا مورد أو بلوغ التخصیص إلی مرتبة الاستهجان.

وعلی ذلک یتصوّر فیما إذا کان فی البین عامّان بینهما العموم من وجه صور:

الاُولی: ما إذا ورد خطاب ثالث یوجب تخصیصهما فی تمام مورد اجتماعهما کما إذا ورد فی خطاب استحباب إکرام العلماء وفی خطاب آخر کراهة إکرام الفساق، وفی خطاب ثالث حرمة إکرام العالم الفاسق، وفی مثل ذلک یکون الخطاب الثالث من شاهد الجمع بین الخطابین؛ لأنّ له الدلالة علی التصرف فی کلا الخطابین الأوّلین ولا یرتبط هذا بباب انقلاب النسبة.

ومثل ذلک ما إذا ورد خطابان آخران غیر خطابی العامّین من وجه یخصّص أحد الخطابین بعض مورد اجتماع العامین من وجه والآخر البعض الآخر من مورد اجتماعهما، بحیث لا یبقی تحت العامّین إلاّ مورد افتراقهما، فإنّ هذا أیضاً یحسب من شاهد الجمع، ولا شبهة ولا تأمّل فی ارتفاع المعارضة بین العامّین من وجه بذلک، وإنّما یدخل فی انقلاب النسبة ما إذا کان فی البین عامّان من وجه بینهما

ص : 188

تعارض فی مورد اجتماعهما وورد خطاب ثالث یخصّص أحدهما فی تمام مورد افتراقه عن الآخر، ففی هذه الصورة یقدّم العامّ المخصّص علی العامّ الآخر؛ لانقلاب النسبة أو للزوم اللغویّة، وعلی الجملة هذه الصورة من صور انقلاب النسبة.

وإذا کان فی البین العامّان من وجه بینهما تعارض فی مورد اجتماعهما وورد خطابان آخران یحسب أحدهما مخصّصاً لأحد العامّین فی تمام مورد افتراقه عن الآخر، والآخر یحسب مخصّصاً للعامّ الآخر فی تمام مورد افتراقه أیضاً، کما إذا ورد استحباب إکرام العلماء فی خطاب وکراهة إکرام الفساق فی خطاب آخر، وورد فی خطاب ثالث وجوب إکرام العلماء العدول، وفی خطاب رابع حرمة إکرام الجاهل الفاسق، وفی ذلک یکون التعارض بین الخطابین الأوّلین فی مورد اجتماعهما بحاله بلا فرق بین القول بانقلاب النسبة أو القول بعدمه، فإن کان لأحد العامّین ترجیح علی الآخر یؤخذ به ویطرح الآخر، وإلاّ یتساقطان ویعمل بالخاصّین فی مورد افتراقهما ویرجع إلی الأصل العملیّ فی مورد اجتماعهما.

وقد یقال(1): إن أطراف المعارضة فی الفرض جمیع الخطابات الأربعة فإن کان لأحدهما ترجیح یؤخذ به فیجمع أو یطرح الخطابات الاُخری، فإنّ الموجب للتعارض هو العلم بکذب أحد الخطابات، وهذا حاصل بالإضافة إلی کلّ خطاب مع الخطابات الثلاثة الباقیة، ولو کان الکذب فی أحد الخاصّین کما إذا کان غیر صادر أصلاً أو کان الصادر الخطابات الثلاثة الباقیة لانتفی التعارض بینها بانقلاب النسبة بتخصیص أحد الخطابین من وجه فی تمام مورد افتراقه عن الآخر، ویبقی تحته

ص : 189


1- 1) مصباح الاُصول 3:400.

مورد اجتماع الخاصّین، فیکون خاصّاً بالإضافة إلی الآخر.

أقول: الموجب للتعارض لیس خصوص العلم بکذب أحد الخطابات الأربعة بمعنی عدم صدوره أصلاً، بل المراد بالکذب عدم مطابقة أحد الخطابات للحکم فی مقام الثبوت _ سواء کان عدم مطابقته لعدم صدوره أو لعدم کون مدلوله مراداً واقعاً _ ومع کون النسبة بین العامّین العموم من وجه یتحقق ملاک المعارضة بینهما بالإضافة إلی مورد اجتماعهما، وإذا ورد الخاصّ لکلّ منهما فی تمام موارد افتراقهما عن الآخر وإن یعلم بکذب أحد الخطابات الأربعة إلاّ أنّه یحتمل انطباق هذا المعلوم علی المعلوم بالإجمال الصغیر وهو عدم مطابقة أحد العامّین من وجه فی مورد اجتماعهما، فیکون العلم الإجمالی الثانی بالإضافة إلی کلّ من الخاصّین شکّاً بدویّاً، والاستشهاد لکون الخاصّین أیضاً من أطراف المعارضة بأنّه لو کان فی البین أحدهما دون الآخر منهما لما کان فی البین العلم بالکذب، بل کان یجمع بین العامّین من وجه بعد تخصیص أحدهما فی تمام مورد افتراقه عن الآخر بتخصیص العام الآخر بالعام المخصّص کما تری، فإنّ الموجب لارتفاع المعارضة بین العامّین من وجه ثبوت الخاصّ بالإضافة إلی أحد العامّین فقط، حیث یعلم به کذب أصالة العموم فی ناحیة عامّه الذی ورد علیه التخصیص، وأمّا إذا کان الخاصّ فی ناحیة العامّ الآخر أیضاً، ویکون مفاد ذلک الخاصّ إخراج مورد افتراقه عن تحت العامّ الآخر أیضاً فلا یتعیّن الکذب فی أحد العامّین.

ویشهد لما ذکرنا ما ذکره هذا القائل فی النوع الثالث(1) من التعارض بین

ص : 190


1- 1) مصباح الاُصول 3:401.

الخطابین، وهو ما إذا کان فی البین خطابان عامّان بینهما تعارض بالتباین، کما إذا ورد فی خطاب: یطهر المتنجس بغسله بالماء مرّة واحدة، وورد فی خطاب آخر: یطهر المتنجس بغسله بالماء بمرّتین لا بالمرّة، وورد فی خطاب ثالث: أنه یغسل المتنجس بالماء القلیل بمرتین، وفی خطاب رابع یغسل المتنجس فی الماء الجاری بمرّة واحدة، فیکون ما دلّ علی لزوم الغسل بالماء مرّة مخصّصاً فی صورة الغسل بالماء القلیل، کما أن العامّ الآخر: یغسل المتنجس بالماء مرّتین لا بالمرّة فی صورة الغسل فی الماء الجاری، وبعد تخصیص العامّین تقع المعارضة بینهما فی المغسول فی الکرّ بعد ارتفاع المعارضة بینهما فی المغسول بالماء القلیل والجاری، وبعبارة اُخری تنقلب نسبة التباین بین العامین إلی العموم والخصوص من وجه، حیث یفترقان بعد التخصیص فی مورد الغسل بالماء القلیل والغسل فی الماء الجاری، ویجتمعان فی الغسل بالکرّ، فیقدّم أحدهما فی مورد اجتماعهما لو کان لأحدهما ترجیح، وإلاّ یتساقطان فیرجع إلی الأصل العملیّ، ویلزم علی القائل بوقوع التعارض بین الخطابات الأربعة الالتزام به فی هذا الفرض، فإنّه لولم یکن فی البین أحد الخاصّین لم یکن بین الخطابات الثلاثة الباقیة تعارض، بل کان یخصّص الخاصّ المفروض عامّه، وبعد صیرورة عامّه خاصّاً کان یخصّص العامّ الآخر، فلو فرض عدم ورود خطاب: أن المتنجس یطهر فی الغسل بالماء الجاری بمرّة، وکان الوارد الخاصّ: بأنّه یغسل المتنجس بالماء القلیل بمرّتین، وبعد تخصیص العامّ الوارد: بأنّ المتنجس یغسل بالمرّة، یکون مفاد العامّ کفایة غسل المتنجس بمرّة فی غیر الغسل بالماء القلیل، وهذا المفاد خاصّ بالإضافة إلی ما دلّ علی طهارة المتنجس بالغسل بمرّتین، فتکون نتیجة الخطابات الثلاثة الغسل بمرّتین فی الغسل بالماء القلیل.

ص : 191

والقسم الثانی من النوع الثالث من التعارض بین أکثر من الدلیلین ما إذا کان خطابان بینهما تباین فی الحکم، وورد خطاب ثالث مخصّص بالإضافة إلی أحدهما کما إذا ورد فی خطاب: أکرم العلماء، وفی خطاب آخر: لا تکرم العلماء، وورد فی خطاب ثالث: لا تکرم العالم الفاسق، فإنّ هذا الخطاب مخصّص بالإضافة إلی ما دلّ علی وجوب إکرام العلماء فیقیّد خطاب وجوب إکرامهم بغیر الفساق، وهذا بناءً علی مسألة انقلاب النسبة یوجب تخصیص ما دلّ علی وجوب إکرام العلماء، فیکون وجوب الإکرام فی غیر العالم الفاسق، وبناءً علی إنکار الانقلاب یحکم بعدم جواز إکرام العالم الفاسق، ویتعارض ما دلّ علی وجوب إکرام العلماء مع النهی الوارد عن إکرام العلماء.

وربّما یقال(1) من هذا القبیل ما ورد فی: أن الزوجة لا ترث من العقار، وورد فی خطاب آخر: أن الزوجة ترث من العقار، وورد فی خبر ثالث: أنها ترث منه إذا کانت ذات ولد من زوجها.

ولکن لا یخفی أنّ القضیة الشرطیّة بما أنّ لها مفهوماً یکون ما ورد فی ذات ولا من شاهد الجمع لا من باب انقلاب النسبة.

والقسم الثالث من اختلاف النسبة بین الخطابات ما إذا کان فی البین خطابان متعارضان بالتباین، وورد خطابان آخران أحدهما خاصّ مخالف بالإضافة إلی أحد العامّین والآخر خاصّ مخالف بالإضافة إلی العامّ الآخر، کما إذا ورد خطاب وجوب إکرام العلماء، وفی الآخر عدم وجوب إکرامهم، وورد فی خطاب ثالث لا یجب إکرام

ص : 192


1- 1) مصباح الاُصول 3:401.

النحویین من العلماء، وورد فی خطاب رابع إکرام العلماء العدول، ومن الظاهر أن الخاصّین یتعارضان فی النحویّ العادل، ویفترقان فی النحویّ غیر العادل وفی غیر النحوی من العالم العادل، وإذا سقطا فی النحویّ العادل بالمعارضة فیما إذا لم یکن بینهما ترجیح أو أخذ بأحدهما علی تقدیره یبقی العامّان علی التعارض بالتباین فی موردی افتراق الخاصین أو فی مورد اجتماعهما أیضاً علی تقدیر ترجیح أحد الخاصّین.

لا یقال: فی النوع الثالث قسم رابع، وهو ما إذا کان بین خطابین تعارض بالتباین کما إذا ورد فی خطاب یستحب إکرام العلماء، وورد فی خطاب آخر یجب إکرام العلماء، وورد خاصّان بینهما العموم والخصوص المطلق، کما إذا ورد فی خطاب ثالث لا تکرم عالماً عصی ربّه، وفی رابع لا بأس بإکرام عالم هاشمی عصی ربّه.

فإنّه یقال: نعم ولکن إذا کانت النسبة بین الخاصّین العموم والخصوص المطلق وکان الخاصّ الأوسع بحیث یتخصّص کلاًّ من المتباینین بقیت النسبة بین العامّین علی التباین فی غیر مورد تخصیصها بالخاصّ الأوسع بعد تخصیصه بأخصّ الخاصین وصیرورة الخاصّ المخصّص للعامّین واحداً کما فی المثال، وأمّا إذا کان الخاصّ الأوسع بحیث یخصّص أحد العامّین فقط، کما إذا ورد فی خطاب: یجب إکرام العلماء، وفی خطاب آخر: لا یجب إکرام العلماء، وورد فی خطاب ثالث: یجب إکرام العلماء العدول، وفی رابع: لا یجب إکرام العالم العادل من غیر الهاشمی، فإنّه فی الفرض بعد تخصیص الخاصّ الأوسع یعنی یجب إکرام العلماء العدول بما دلّ علی عدم وجوب إکرام العالم العادل من غیر الهاشمی تکون النتیجة وجوب إکرام العلماء العدول من الهاشمیین، وبعد رفع الید بهذه النتیجة عما دلّ علی عدم

ص : 193

وجوب إکرام العلماء العدول من غیر الهاشمیین بقی تحت ما دلّ علی عدم وجوب إکرام العلماء العالم الذی لا یدخل فی عنوان العالم العادل الهاشمیّ، وهذا العامّ المخصّص أخصّ مطلق بالإضافة إلی عموم ما دلّ علی وجوب إکرام العلماء، فتنقلب النسبة من التباین بین العامّین إلی العموم والخصوص المطلق.

ص : 194

فصل

لا یخفی أنّ المزایا المرجّحة لأحد المتعارضین الموجبة للأخذ به وطرح الآخر بناءً علی وجوب الترجیح[1] وإن کانت علی أنحاء مختلفة.

[1] وحاصل ما ذکره قدس سره فی هذا المقام أنّ المزایا المخصوصة الموجبة لترجیح أحد الخبرین المتعارضین علی الآخر بناءً علی لزوم الترجیح مختلفة لا تدخل فی نوع أو صنف واحد، ومواردها أیضاً متعدّدة، فإنّ الفقاهة أو الأوثقیّة مرجّحة لأحد الخبرین فی راویه، والشهرة فی الروایة مرجّحة لنفس الخبر والنقل حیث إنّ الخبر المشهور قد تکرّر نقله عن المعصوم علیه السلام بخلاف الشاذّ، ومخالفة العامّة مزیّة فی وجه صدور الخبر، والفصاحة فی أحد الخبرین مزیّة فی متن أحد الخبرین وتبعّد التصرف فی نقل متنه، وموافقة الکتاب أو الشهرة الفتوائیّة مرجّحة فی مضمون الخبر ومدلوله، ولکن کلّ هذه المرجّحات علی اختلافها واختلاف مواردها علی حدّ سواء فی أنّ وجود أیّ منها فی أحد المتعارضین یوجب اعتبار صدوره، بخلاف الآخر حیث لا یعتبر صدوره، وذلک فإنّ التعبّد بصدور لا تعبّد لوجه صدوره أو ظهوره لغو محض، ولا یقاس بما إذا کان الخبران قطعیّین فی صدورهما، فإنّ الترجیح فیهما یکون فی وجه الصدور أو الظهور حیث لا مورد للتعبّد فی صدورهما، لیقال إنّ التعبّد به فی المطروح لغو محض.

وقد یقال: التعارض بین الخبرین وإن یوجب سقوط کلیهما عن الاعتبار فی صدورهما ومع ثبوت الترجیح لأحدهما. یتعیّن التعبّد بصدور ذی المزیّة، ویترتّب علیه اعتبار وجه صدوره وظهوره حیث جرت سیرة العقلاء فی کلام اُحرز استناده إلی المولی والمتکلم علی حمله علی الجدّ واتّباع الظهور، وأمّا الآخر فلا یمکن التعبّد بصدوره لکونه لغواً، ولکن هذا فیما کان التعارض بینهما بالتباین، وأمّا إذا کان

ص : 195

ومواردها متعددة، من راوی الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل: الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الکتاب والموافقة لفتوی الأصحاب، إلی غیر ذلک مما یوجب مزیة فی طرف من أطرافه، خصوصاً

بالعموم من وجه فالتعارض فی مورد اجتماعهما لا یوجب عدم التعبّد بصدورهما، بل لابدّ من أن یکون الترجیح بینهما فی مورد اجتماعهما بملاحظة الترجیح فی وجه الصدور أو المضمون، لا بمرجّحات الصدور، فإنّ ملاحظة مرجّحات الصدور یوجب طرح الآخر فی مورد الافتراق أیضاً.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّه کما یمکن التعبّد بالصدور فی أحد المتعارضین بالإضافة إلی تمام مدلوله کذلک یمکن التعبّد بالصدور بالإضافة إلی بعض مدلوله دون بعضه الآخر، وفی تعارض الخبرین بالعموم من وجه مقتضی دلیل الاعتبار لخبر الثقة التعبّد بالصدور فی کلّ منهما بحسب مورد افتراقهما، لعدم المعارضة بینهما بالإضافة إلی موردی افتراقهما، وإذا شملت الأخبار العلاجیّة لأحدهما لثبوت المرجّح فیه یکون التعبد بالصدور فیه حتی بالإضافة إلی مورد اجتماعهما أیضاً، فیکون الخبر الآخر مطروحاً بالإضافة إلی مورد الاجتماع.

وبتعبیر آخر الاعتبار حکم یطرأ علی الخبر باعتبار مدلوله، وإذا کان مدلوله متعدّداً وانحلالیّاً یمکن التعبّد بصدوره بالإضافة إلی بعض ذلک المتعدّد، فإذا فرض أنّه یدخل فی النهی عن إکرام الفساق إکرام العالم الفاسق فیمکن التعبّد ولو ببرکة الأخبار العلاجیّة بصدوره بالإضافة إلی تمام مدلوله، لثبوت المرجّح فیه علی خبر یستحب إکرام کلّ عالم، ولا یکون فی خبر أکرم کلّ عالم تعبّد بالصدور بالإضافة إلی إکرام العالم الفاسق، حیث یحتمل أن یکون صدورهما واقعاً کذلک، بأن کان خبر أکرم کلّ عالم مقترناً بما یقتضی اختصاصه بغیر العالم الفاسق، ووقعت الغفلة للناقل عن

ص : 196

لو قیل بالتعدی من المزایا المنصوصة، إلاّ أنها موجبة لتقدیم أحد السندین وترجیحه وطرح الآخر، فإن أخبار العلاج دلت علی تقدیم روایة ذات مزیة فی أحد أطرافها ونواحیها فجمیع هذه من مرجحات السند حتی موافقة الخبر للتقیة،

التعرض لنقل تلک القرینة ولو بلحاظ کونها من قبیل قرینة الحال والمقام.

والحاصل کما أنّ أصالة الظهور فیما کان السند فی کلّ من الخطابین قطعیّاً انحلالیّ، فیمکن اعتبار الظهور فی البعض وعدم اعتباره فی البعض الآخر کذلک أصالة الصدور فی الخبرین، فإنّ عدم صدور الخبر لاقترانه بقید أو قرینة یوجب صدور بعض ظاهره الفعلیّ دون تمامه.

ودعوی عدم إمکان التبعیض فی الخبر من حیث الصدور لا تخلو عن الجزاف، نعم لو کان التعبّد بالصدور وصفاً للخبر بحسب الدالّ، کما فی الحکم بحرمة الکذب لأمکن المناقشة فی التبعیض ولما کان الخبر معتبراً إذا علم أنّ المخبر یروی الحکم عن الإمام علیه السلام بالنقل بالمعنی، ولو قال المتکلّم: زید وعمرو قائمان وکان القائم فی الواقع أحدهما دون الآخر، وقال آخر: بکر وخالد قائمان ولم یکن واحد منهما قائماً فقد کذب کلّ من الخبرین کذباً واحداً؛ لأنّ الکذب ولو کان بحسب مدلول الکلام إلاّ أنّه وصف وعنوان لنفس الدالّ، بخلاف الاغتیاب فإنّه عنوان ینطبق علی الخبر فی مدلوله، لا أنّه عنوان للدالّ حیث إنّ الاغتیاب کشف ما ستره اللّه علی مؤمن فالمتکلّم بکلام واحد قد یکشف به عما ستره اللّه علی مؤمنین کما إذا قال: زید وعمرو شربا الخمر.

ثمّ علی ما ذکرنا من إمکان التبعیض فی الخبر فی التعبّد بصدوره لا یختلف فیما کان التعدّد والانحلال فی مدلوله وضعیّاً أو بالإطلاق، لما تقدّم من انعقاد الظهور الاستعمالی بمقدمات الإطلاق.

ص : 197

فإنها أیضاً مما یوجب ترجیح أحد السندین وحجیته فعلاً وطرح الآخر رأساً، وکونها فی مقطوعی الصدور متمحضة فی ترجیح الجهة لا یوجب کونها کذلک فی غیرهما، ضرورة أنه لا معنی للتعبد بسند ما یتعین حمله علی التقیة، فکیف یقاس علی ما لا تعبد فیه للقطع بصدوره؟.

ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتیب بین المرجّحات لو قیل بالتعدّی [1].

فی تعارض النسخ واختلافها

بقی الکلام فی اختلاف النسخ فی کونه داخلاً فی باب التعارض، لیلاحظ الترجیح أو أنّه داخل فی اشتباه الحجّة باللاحجّة، والصحیح أنّ اختلاف النسخ إن کان من مصنّفین، کما إذا روی الخبر الکلینی قدس سره بنحو والشیخ أو الصدوق بنحو آخر، بحیث لا یدخل نقل أحدهما فی التبعیض فی النقل فهذا یدخل فی باب التعارض؛ لأنّ العلم بعدم صدور أحد المنقولین عن المعصوم علیه السلام ملاک التعارض، إلاّ أن یکون الاختلاف بالزیادة والنقیصة بحیث لا تنفی الزیادة راوی النقیصة وراوی الزیادة ینقلها، فیثبت بنقله الزیادة من غیر معارضة بینهما.

وأمّا إذا کان الاختلاف فی نسخ کتاب واحد، وعلم أنّ منقول المؤلّف أحدهما وکان الناسخان ممن وصل إلیه نسخة الکتاب بطریق معتبر، وکانا ثقتین فهذا أیضاً داخل فی التعارض فی النقل، بخلاف ما إذا علم أنّ ما نقل المؤلّف أحدهما، ولم یظهر کیفیة وصول النسخة إلی الناسخ، فلا یجری علی اختلاف النسختین حکم التعارض ولا یثبت شیء من مورد الاختلاف.

[1] وحاصل ما ذکر قدس سره فی المقام أنّه لو بنی علی التعدّی من المرجّحات المنصوصة إلی غیرها _ بأحد المناطین اللذین استظهرا من الروایات الواردة فی الترجیح من کون ذی المزیّة إصابته الواقع مظنوناً أو کونه أقرب إلی إصابة الواقع

ص : 198

وإناطة الترجیح بالظن أو بالأقربیة إلی الواقع، ضرورة أن قضیة ذلک تقدیم الخبر الذی ظن صدقه أو کان أقرب إلی الواقع منهما، والتخییر بینهما إذا تساویا، فلا وجه لإتعاب النفس فی بیان أن أیّها یقدم أو یؤخر إلاّ تعیین أن أیّها یکون فیه المناط فی صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

وأما لو قیل بالإقتصار علی المزایا المنصوصة فله وجه لما یتراءی من ذکرها مرتباً فی المقبولة والمرفوعة، مع إمکان أن یقال: إن الظاهر کونهما کسائر أخبار الترجیح بصدد بیان أن هذا مرجح وذاک مرجح، ولذا اقتصر فی غیر واحد منها علی

بالإضافة إلی الآخر _ لَما کان بین المرجّحات ترتیب، بل إذا کان أحد المتعارضین واجداً لمزیّة والآخر منهما واجداً لمزیّة اُخری فإن اُحرز بذلک مناط الترجیح فی أحدهما دون الآخر فیقدّم علی الآخر وإلاّ یرجع إلی إطلاقات التخییر.

نعم لو اقتصر بالمرجّحات المنصوصة فیمکن القول باعتبار الترتیب الوارد فی المقبولة والمرفوعة، ولکنّ الصحیح علی ذلک أیضاً عدم لزوم رعایة الترتیب، بل إذا کان فی أحد المتعارضین مرجّح منها وفی الآخر منهما مرجّح آخر منها یؤخذ بإطلاقات التخییر، وإن اختصّ أحدهما بمرجّح منها من دون أن یوجد فی الآخر مرجّح یقدّم ما فیه المرجّح، وذلک فإنّ المقبولة وغیرها ناظرة إلی بیان تعداد المرجّحات لا لرعایة الترتیب بینها أیضاً، ویشهد لذلک الاقتصار فی بعض الروایات علی ذکر مرجّح واحد کمخالفة العامّة أو موافقة الکتاب، وملاحظة الترتیب یوجب تقیید هذه الروایات بالمقبولة، وهذا النحو من التقیید المستلزم لخروج کثیر من الصور بعید جدّاً.

وعلی الجملة إن کان فی أحد المتعارضین ملاک الترجیح من حیث الصدور وفی الآخر ملاک الترجیح من جهة الصدور أو المضمون أو غیرهما یلاحظ ما حصل

ص : 199

ذکر مرجح واحد، وإلاّ لزم تقیید جمیعها علی کثرتها بما فیالمقبولة، وهو بعید جداً، وعلیه فمتی وجد فی أحدهما مرجح وفی الآخر آخر منها، کان المرجع هو إطلاقات التخییر، ولا کذلک علی الأول بل لا بد من ملاحظة الترتیب، إلاّ إذا کانا فی عرض واحد.

وانقدح بذلک أن حال المرجح الجهتی حال سائر المرجحات، فی أنه لابد فی صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أیّهما فعلاً موجب للظن بصدق ذیه بمضمونه، أو الأقربیة کذلک إلی الواقع، فیوجب ترجیحه وطرح الآخر، أو أنه لا مزیة لأحدهما علی الآخر، کما إذا کان الخبر الموافق للتقیة بما له من المزیة مساویاً للخبر المخالف لها بحسب المناطین، فلا بد حینئذ من التخییر بین الخبرین، فلا وجه لتقدیمه علی غیره، کما عن الوحید البهبهانی قدس سره وبالغ فیه بعض أعاظم المعاصرین _ أعلی اللّه درجته _ ولا لتقدیم غیره علیه[1].

فیه مناط الترجیح بناءً علی التعدّی، ومع عدم حصوله یرجع إلی إطلاقات التخییر، کما إذا کان الخبر المخالف للعامّة مع الموافق لهم سیّان فی مناطین، کما إذا کان فی الموافق مرجح آخر من مرجّحات المتعارضین، وما عن الوحید البهبهانی قدس سره _ من تقدیم مرجّح جهة الصدور علی المرجّحات الاُخری، لأن مع کون أحد الخبرین مخالفاً للعامّة والآخر موافقاً لهم یتعیّن حمل الخبر الموافق لهم علی التقیّة، نظیر ما إذا کان بین ظهوری الخبرین جمع عرفی یعنی أن الأظهریّة فی أحدهما تکون موجبة لحمل الآخر علی خلاف ظاهره _ غیر صحیح.

[1] یعنی لا وجه لتقدیم غیر مرجّحات جهة الصدور علی مرجّح جهة الصدور، وهذا تعریض لما ذکره الشیخ قدس سره من أنّ الخبر الذی فی صدوره مزیّة یتقدّم علی الآخر وإن کان فی ذلک الآخر مزیّة جهة الصدور، کما إذا کان أحد الخبرین رواته

ص : 200

کما یظهر من شیخنا العلامة __ أعلی اللّه مقامه __ قال:

أما لو زاحم الترجیح بالصدور الترجیح من حیث جهة الصدور، بأن کان الأرجح صدوراً موافقاً للعامة، فالظاهر تقدیمه علی غیره وإن کان مخالفاً للعامة، بناءً علی تعلیل الترجیح بمخالفة العامة باحتمال التقیة فی الموافق، لأن هذا الترجیح ملحوظ فی الخبرین بعد فرض صدورهما قطعاً کما فی المتواترین، أو تعبداً کما فی الخبرین بعد عدم إمکان التعبد بصدور أحدهما وترک التعبد بصدور الآخر، وفیما نحن فیه یمکن ذلک بمقتضی أدلة الترجیح من حیث الصدور.

إن قلت: إن الأصل فی الخبرین الصدور[1].

أوثق أو کان مشهوراً بین أصحاب الحدیث وکان الخبر الآخر مخالفاً للعامّة، فإنّه یؤخذ بالخبر الذی رواته أوثق أو کان مشهوراً بین أصحاب الحدیث، ولا ینظر إلی الآخر الذی فیه مزیّة من حیث جهة الصدور، فإنّه قدس سره قال: أمّا لو زاحم الترجیح بالصدور الترجیح من حیث جهة الصدور، بأن کان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة، والمرجوح صدوراً مخالفاً لهم فالظاهر تقدیم الخبر الذی فیه ترجیح بحسب صدوره، بناءً علی ما ورد من تعلیل الترجیح بمخالفة العامّة باحتمال التقیّة فی الموافق، فإنه مقتضی هذا التعلیل لحاظ الترجیح بمخالفة العامّة فی فرض تساویهما صدوراً، کما فی الخبرین المقطوع صدورهما أو فی خبرین متساویین فی التعبّد بالصدور مع عدم إمکان تعیین أحدهما بالتعبد بالصدور، وهکذا الحال فی سایر المرجّحات من مرجّحات غیر الصدور، وإذا کان لأحدهما بعینه مرجّحاً من حیث صدوره أمکن بمقتضی أدلة الترجیح التعبّد بصدوره.

[1] هذا من تتمّة کلام الشیخ حیث إنّه قدس سره قد شرع فی توجیه الاستدلال علی ما اختاره الوحید البهبهانی قدس سره ثمّ ردّ ذلک التوجیه، حیث قال فی توجیهه: إنّ الخبرین

ص : 201

فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضی ذلک الحکم بصدور الموافق تقیة، کما یقتضی ذلک الحکم بإرادة خلاف الظاهر فی أضعفهما، فیکون هذا المرجح نظیر الترجیح بحسب الدلالة مقدماً علی الترجیح بحسب الصدور.

قلت: لا معنی للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعین علی التقیة، لأنه إلغاء لأحدهما فی الحقیقة.

فی مورد تعارضهما متساویان فی التعبّد بالصدور، بمعنی أنّ دلیل الاعتبار للخبر سیّان بالإضافة إلی کلّ منهما، وإذا حصل التعبّد بصدور کلّ منهما اقتضی ذلک الحکم بصدور الموافق للعامّة لرعایة التقیّة، کما أنّه إذا شمل دلیل الاعتبار لکلّ من خطابی العامّ والخاصّ اقتضی ذلک الحکم بإرادة خلاف الظاهر من العامّ، فیکون الترجیح بمرجّح جهة الصدور نظیر الترجیح بحسب الدلالة مقدّماً علی الترجیح بحسب الصدور، وردّ هذا التوجیه بقوله: «قلت هذا التعبّد بالصدور غیر معقول ولا یقاس بمسألة العامّ والخاصّ، حیث یعمل بالعامّ فی غیر مورد دلالة الخاصّ، فلا یکون التعبّد بصدوره لغواً بخلاف المقام، وعلی ذلک فینحصر الترجیح بجهة الصدور بما إذا کان الخبران متساویین فی الصدور وجداناً، کما فی القطعیین من حیث الصدور، والمتکافئین من حیث الصدور، وأمّا إذا کان لأحدهما مزیّة فی صدوره یکون مقتضی أدلّة الترجیح التعبّد بصدوره دون الآخر، ومعه لا تصل النوبة إلی ملاحظة المرجّح من جهة الصدور» انتهی.

وقد أورد بعض تلامذة الشیخ قدس سره علی جوابه عن الوحید البهبهانی قدس سره بأنّ الجواب غیر صحیح وأنّ ما ذکره البهبهانی قدس سره هو الصحیح، والإیراد هو أنّه إذا اعترف الشیخ قدس سره بعدم إمکان التعبّد بالخبرین مع حمل أحدهما علی التقیّة فی صورة الترجیح فی الصدور، فکیف یعقل التعبّد بهما فی صورة تکافؤهما فی الصدور

ص : 202

وقال بعد جملة من الکلام:

فمورد هذا الترجیح تساوی الخبرین من حیث الصدور، إما علماً کما فی المتواترین، أو تعبداً کما فی المتکافئین من الأخبار، وأما ما وجب فیه التعبد بصدور أحدهما المعین دون الآخر فلا وجه لإعمال هذا المرجح فیه، لأن جهة الصدور متفرع علی أصل الصدور، إنتهی موضع الحاجة من کلامه، (زید فی علو مقامه).

وفیه _ مضافاً إلی ما عرفت _ أن حدیث فرعیّة [1].

ووجود المزیّة لأحدهما فی جهة الصدور؟ ثمّ قال: لا مناص من الالتزام بما ذکر البهبهانی قدس سره ؛ لأنّ الخبر الموافق للعامّة لا یمکن الأخذ به قطعاً فی مقابل الخبر المخالف لهم؛ لأنّ الموافق إمّا لم یصدر أو صدر لرعایّة التقیة، وکیف خفی ذلک علی الشیخ قدس سره الذی یقرب دقّة نظره من شقّ القمر؟

وأجاب صاحب «الکفایة» قدس سره عن الإیراد علی الشیخ قدس سره بأن نظره أنّ المرجّح لأحد الخبرین فی جهة صدوره یکون ملاکاً للترجیح فی المتکافئین فی الصدور أی ما یکون دلیل الاعتبار للخبر علی حدّ سواء بالإضافة إلی کلّ منهما، ولا یعمّ إلاّ أحدهما _ ما دلّ علی ترجیح أحدهما لوجود مزیّة فی صدوره _ ولیس مراده من المتکافئین أن یثبت التعبّد بالصدور فی ناحیة کلّ من الخبرین فعلاً، وأیضاً لا یدور أمر الموافق للعامّة بین عدم الصدور أو صدوره تقیّة، لإمکان صدوره وکون مضمونه هو الحکم الواقعیّ والآخر المخالف کان غیر صادر أو کان المراد خلاف ظاهره، وإنّما یکون الخبر الموافق لهم کما ذکر، فیما کان المخالف قطعیّاً صدوراً ودلالة.

[1] هذا شروع منه قدس سره فی الردّ علی ما ذکره الشیخ قدس سره من أنّ الترجیح من جهة الصدور فرع تکافؤ الخبرین فی ناحیة صدورهما، وقد ذکر فی ردّه أمرین:

ص : 203

جهة الصدور علی أصله إنما یفید إذا لم یکن المرجح الجهتی من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها، وأما إذا کان من مرجحاته بأحد المناطین، فأیّ فرق بینه وبین سائر المرجحات؟ ولم یقم دلیل بعد فی الخبرین المتعارضین علی وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حیث غیر الجهة، مع کون الآخر راجحاً بحسبها، بل هو أول الکلام، کما لا یخفی، فلا محیص من ملاحظة الراجح من المرجحین بحسب أحد المناطین، أو من دلالة أخبار العلاج، علی الترجیح بینهما مع المزاحمة، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحکم هو إطلاق التخییر، فلا تغفل.

وقد أورد بعض أعاظم تلامیذه علیه بانتقاضه بالمتکافئین من حیث الصدور، فإنه لو لم یعقل التعبد بصدور المتخالفین من حیث الصدور، مع حمل أحدهما علی التقیة، لم یعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما علیها، لأنه إلغاء لأحدهما أیضاً فی الحقیقة.

الأوّل: أنه بناءً علی التعدّی من المرجّحات المنصوصة إلی غیرها یکون المعیار فی ترجیح أحد الخبرین علی الآخر أقربیّة أحدهما إلی الواقع بالإضافة إلی الآخر، أو کون أحدهما مظنون المطابقة، وإذا کان لأحد الخبرین مزیّة مرجّح فی صدوره وللآخر مزیّة فی ناحیة اُخری، فلابدّ من ملاحظة حصول أحد الملاکین للترجیح فی أیّ منهما، ومع عدم حصوله فی أیّ منهما فالمتعیّن الرجوع إلی إطلاقات التخییر.

الثانی: ما تقدّم منه قدس سره من أنّ جمیع المرجّحات علی حدّ سواء فی کونها موجبة للتعبّد بصدور ذی المزیّة، وعلیه إذا کان لأحد الخبرین مرجّح فی ناحیة صدوره وللآخر مرجّح فی جهة صدوره أو متنه ودلالته ومضمونه یثبت لکلّ من

ص : 204

وفیه ما لا یخفی من الغفلة، وحسبان أنه التزم قدس سره فی مورد الترجیح بحسب الجهة باعتبار تساویهما من حیث الصدور، إما للعلم بصدورهما، وإما للتعبد به فعلاً، مع بداهة أن غرضه من التساوی من حیث الصدور تعبداً تساویهما بحسب دلیل التعبد بالصدور قطعاً، ضرورة أن دلیل حجیة الخبر لا یقتضی التعبد فعلاً بالمتعارضین، بل ولا بأحدهما، وقضیة دلیل العلاج لیس إلاّ التعبد بأحدهما تخییراً أو ترجیحاً.

والعجب کل العجب أنه رحمه الله لم یکتف بما أورده من النقض، حتی ادعی استحالة تقدیم الترجیح بغیر هذا المرجح علی الترجیح به، وبرهن علیه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق، لدوران أمره بین عدم صدوره من أصله، وبین صدوره تقیة، ولا یعقل التعبد به علی التقدیرین بداهة، کما أنه لایعقل التعبد بالقطعی الصدور الموافق، بل الأمر فیالظنی الصدور أهون، لإحتمال عدم صدوره، بخلافه.

ثم قال: فاحتمال تقدیم المرجّحات السندیة علی مخالفة العامة، مع نص الإمام علیه السلام علی طرح موافقهم، من العجائب والغرائب التی لم یعهد صدورها من ذی مسکة، فضلاً عمن هو تالی العصمة علماً وعملاً.

ثم قال: ولیت شعری، إن هذه الغفلة الواضحة کیف صدرت منه؟ مع أنه فی جودة النظر یأتی بما یقرب من شق القمر.

الخبرین المرجّح للتعبّد بالصدور، ولم یرد فی أخبار الترجیح ما یدلّ علی أنّ مع مزاحمة مرجّح الصدور مع المرجّح الآخر کجهة الصدور یتعبّد بما یکون فی صدوره رجحان؛ ولذلک یلزم فی موارد ثبوت المرجّح لکلّ منهما فی جهة من جهات الخبر ملاحظة حصول أحد الملاکین للترجیح من الظنّ بصدق ذی الترجیح أو الأقربیّة للواقع، ومع عدم الحصول یرجع إلی إطلاقات التخییر.

ص : 205

وأنت خبیر بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بین الصدور تقیة وعدم الصدور رأساً، لإحتمال صدوره لبیان حکم اللّه واقعاً، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلاً، ولا یکاد یحتاج فی التعبد إلی أزید من احتمال صدور الخبر لبیان ذلک بداهة، وإنما دار احتمال الموافق بین الإثنین إذا کان المخالف قطعیاً صدوراً وجهةً ودلالةً، ضرورة دوران معارضه حینئذ بین عدم صدوره وصدوره تقیة، وفی غیر هذه الصورة کان دوران أمره بین الثلاثة لا محالة، لإحتمال صدوره لبیان الحکم الواقعی حینئذ أیضاً.

ومنه قد انقدح إمکان التعبد بصدور الموافق القطعی لبیان الحکم الواقعی أیضاً، وإنما لم یکن التعبد بصدوره لذلک إذا کان معارضه المخالف قطعیاً بحسب السند والدلالة، لتعیین حمله علی التقیة حینئذ لا محالة، ولعمری إن ما ذکرنا أوضح من أن یخفی علی مثله، إلاّ أن الخطأ والنسیان کالطبیعة الثانیة للإنسان، عصمنا اللّه من زلل الأقدام والأقلام فی کل ورطة ومقام.

ثمّ إنّ هذا کلّه إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حیث الجهة[1].

[1] وحاصل ما ذکره قدس سره أن ما تقدّم من تساوی المرجّح فی ناحیة الصدور مع المرجّح فی ناحیة جهة الصدور _ فی أنّه مع تحقّق أحدهما فی أحد الخبرین وتحقّق الآخر فی الخبر الآخر من ملاحظة حصول أحد المناطین وعدم حصوله فی ناحیة أحدهما، فیرجّح مع حصوله، ویتخیّر بینهما مع عدم حصوله _ کان مبنیّاً علی أنّ مخالفة أحد الخبرین للعامّة مرجّح فی مقام معارضة الخبرین کسایر المرجّحات، وأمّا بناءً علی أن مخالفة مدلول أحد الخبرین للعامّة وموافقة الآخر لهم یوجب کون الخبر المخالف أظهر فی الکشف عن الحکم فی مقام الثبوت بالإضافة إلی الآخر، حیث یحتمل التوریة فی الخبر الموافق دون الخبر المخالف، فربّما یقال: إنّ هذه

ص : 206

الموارد خارجة من المتعارضین، ویدخل الخبران فی موارد تقدیم الأظهر علی الظاهر.

وبتعبیر آخر فی الخبر الموافق للعامّة یکون المراد منه ما یجتمع مع الخبر المخالف، ولکن هذه الإرادة تکون بنحو التوریة، فاحتمال التوریة فیه یکون موجباً لکون الخبر المخالف أظهر؛ لعدم احتمال التوریة فیه، فیقدّم الأظهر ویحمل الظاهر علیه، نظیر حمل العامّ علی الخاصّ والمطلق علی المقیّد، حیث لا یوجب هذا الحمل عدم التعبّد بصدور خطاب العامّ أو خطاب المطلق.

ولکن لا یخفی ما فی هذا القول فإنّه مبنی علی لزوم التوریة علی الإمام علیه السلام فی مقام التقیّة فی بیان الحکم الشرعیّ، وهذا أمر لم یثبت، وأیضاً مجرّد احتمال التوریة فی الخبر الموافق للعامّة لا یوجب کون الخبر الآخر أظهر، فإنّه کما تقدّم أن الأظهریّة تحتاج إلی اُنس الأذهان بأنّه قرینة علی المراد من الخطاب الآخر، ککون الخاصّ قرینة علی بیان المراد الجدّی من العامّ، وکذا الحال فی خطاب المقیّد بالإضافة إلی خطاب المطلق، ولیس الحال فی الخبر المخالف للعامّة کذلک، وقیاس المقام بمقام خطابی العامّ والخاصّ أو المطلق والمقیّد بلا وجه، أضف إلی ذلک أنّ التعبّد بصدور خبر ثمّ حمله علی التوریة لغو محض، ولا یقاس بخطاب العامّ أو خطاب المطلق، فإنّ التعبّد بصدور خطاب العامّ أو المطلق لیؤخذ به مع عدم ورود الخاصّ أو المقیّد علی خلافه، وموارد إجمال الخاصّ والمقیّد ودوران أمرهما بین الأقلّ والأکثر، غرض صحیح علی المتکلم بخطاب المطلق والمقیّد؛ ولذا یمکن التعبّد بخطابهما فی موارد عدم الثبوت الوجدانیّ. وبتعبیر آخر التعبّد بخطاب کلّ من العامّ والخاصّ من قبیل التعبّد بالقرینة وذی القرینة.

ص : 207

وأمّا بما هو موجب لأقوائیة دلالة ذیه من معارضه، لإحتمال التوریة فی المعارض المحتمل فیه التقیة دونه، فهو مقدم علی جمیع مرجحات الصدور، بناءً علی ما هو المشهور من تقدم التوفیق _ بحمل الظاهر علی الأظهر _ علی

فی المرجّحات المنصوصة ولزوم الترتیب بینها

ثمّ إنّه قد ظهر مما ذکرنا سابقاً عدم ثبوت التخییر بین المتعارضین أصلاً، نعم یؤخذ من المتعارضین بالمشهور روایة منهما فی المتعارضین، کما ورد ذلک فی مقبولة عمر بن حنظلة التی لا یبعد اعتبارها، لکون عمر بن حنظلة من المشاهیر الذین لم یرد فی حقهم قدح، ومع تساوی الخبرین فی الصدور یؤخذ بما وافق الکتاب والسنة، ومع عدم کون أحدهما کذلک یؤخذ بما خالف العامّة، ویدلّ علی الترجیح بموافقة الکتاب ثمّ بمخالفة العامة ما رواه القطب الراوندی بسنده عن عبد الرحمن بن أبی عبداللّه عن الصادق علیه السلام : «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه، فما وافق کتاب اللّه فخذوه وما خالف کتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما فی کتاب اللّه فأعرضوهما علی أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»(1) ویستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة أن مع تساوی الخبرین فی الشهرة یکون کلّ من موافقة الکتاب والسنة أو مخالفة العامة مرجّحاً، ولکن یحمل علی أنّ کلاًّ منها مرجّح مستقل بقرینة معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام الدالة علی أنّ موافقة الکتاب بنفسها مرجّح، ودلالة ذیل الموثّقة علی أنّ مخالفة العامّة بنفسها مرجح إذا کان الخبر الآخر موافقاً لهم، وموافقة السنة أیضاً تکون مرجّحة مستقلاً، وإلاّ یکون ضمّها فی المقبولة إلی موافقة الکتاب کضمّ

ص : 208


1- 1) وسائل الشیعة 27:118، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 29.

الترجیح بها، اللّهمّ إلاّ أن یقال: أن باب احتمال التوریة وإن کان مفتوحاً فیما احتمل فیه التقیة، إلاّ أنه حیث کان بالتأمل والنظر لم یوجب أن یکون معارضه أظهر، بحیث یکون قرینة علی التصرف عرفاً فی الآخر، فتدبر.

الحجر إلی الإنسان.

وعلی ما ذکر یتعیّن الأخذ بما ورد فی المقبولة ومعتبرة السکونی، وما فی رسالة القطب الراوندی وتقیید إطلاق المعتبرة بما فی المقبولة من ملاحظة الشهرة وعدمها فی المتعارضین أوّلاً ثمّ ملاحظة موافقة الکتاب، نعم کون المرجّح بعد موافقة الکتاب والسنة مخالفة العامّة، بمعنی أنّه لا عبرة بمخالفة العامّة مع کون الخبر الآخر موافقاً للکتاب یستفاد من روایة القطب الراوندی بإسناده عن عبد الرحمن بن أبی عبداللّه قال: قال الصادق علیه السلام : «إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب اللّه، فما وافق الکتاب فخذوه، وما خالف کتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما فی کتاب اللّه فاعرضوهما علی أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»(1) ولکنّ السند لا یخلو عن المناقشة، وفی استفادة هذا النحو من الترتیب من مقبولة عمر بن حنظلة(2) تأمّل، لأنّ الترتیب فیها مفروض فی کلام السائل.

وأمّا معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ علی کلّ حقّ حقیقة وعلی کلّ صواب نوراً، فما وافق کتاب اللّه فخذوه، وما خالف کتاب اللّه فدعوه»(3)، فالاستدلال بها مبنی علی کونها ناظرة إلی صورة المتعارضین أو إطلاقهما.

ص : 209


1- 1) مرّ تخریجه فی الصفحة السابقة.
2- 2) وسائل الشیعة 27:106، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث الأول.
3- 3) المصدر السابق: 109، الحدیث 10.

ص : 210

فصل

موافقة الخبر لما یوجب الظن بمضمونه ولو نوعاً من المرجّحات فی الجملة[1].

ترجیح أحد المتعارضین علی الآخر بالظن غیر المعتبر

اشارة

[1] المرجّح لمضمون أحد المتعارضین بالإضافة إلی الآخر علی ما ذکر الماتن قدس سره ثلاثة أنحاء: الأوّل ما یوجب الظن بمضمون الخبر بظن شخصیّ أو نوعیّ مع عدم الدلیل علی اعتبار ذلک الظن الشخصیّ أو النوعیّ، کما إذا کان مضمون أحد الخبرین موافقاً لفتوی المشهور، وذکر أنّ هذا القسم من الظن یوجب الأخذ بأحد المتعارضین بناءً علی التعدّی من المرجّحات المنصوصة، أو قیل بأنّ مع کون أحد الخبرین کذلک یدخل ذلک الخبر فی أقوی الدلیلین المجمع علی الأخذ به عند الدوران، ولکن شیء منهما غیر تامّ، فإنّه لم یتمّ ما یوجب التعدّی من المرجّحات المنصوصة إلی غیرها، وإنّ الموافقة المزبورة غایتها الظن بصدق ذلک الخبر، ولیس الظن بالصدق موجباً لأقوائیّة أحد المتعارضین فی الدلالة والکشف عن مقام الثبوت بحیث یکون ذلک الخبر أظهر دلالة، ویحسب قرینة علی التصرف فی الآخر، نظیر ما تقدّم فی موارد الجمع العرفیّ بین الخطابین.

لا یقال: الظن بصدق أحد الخبرین بعینه لازمه الظن بالخلل فی الآخر من حیث صدوره أو جهة صدوره أو ظهوره.

فإنه یقال: لا یعتبر فی اعتبار الخبر إلاّ احتمال کونه مطابقاً للواقع فی صدوره وجهة صدوره وظهوره، فلا یوجب الظن بصدق أحد الخبرین سقوط الآخر عن ملاک الاعتبار.

وربّما یقال: إذا کان أحد المتعارضین من الخبر مطابقاً لفتوی المشهور یتعیّن

ص : 211

بناءً علی لزوم الترجیح لو قیل بالتعدی من المرجحات المنصوصة، أو قیل بدخوله فی القاعدة المجمع علیها کما ادعی، وهی لزوم العمل بأقوی الدلیلین، وقد عرفت أن التعدی محل نظر بل منع، وأن الظاهر من القاعدة هو ما کان الأقوائیة من حیث الدلیلیة والکشفیة، ومضمون أحدهما مظنوناً، لأجل مساعدة أمارة ظنیة علیه، لا یوجب قوة فیه من هذه الحیثیة، بل هو علی ما هو علیه من القوة لولا مساعدتها، کما لا یخفی، ومطابقة أحد الخبرین لها لا یکون لازمه الظن

الأخذ به وترک الآخر؛ لأنّ قوله علیه السلام فی مقبولة عمر بن حنظلة: «خذ بما اشتهر بین أصحابک» یعمّ الشهرة فی نقل الخبر والعمل بمفاده ومدلوله.

ولکن قد تقدّم أنّ فرض الشهرة فی کلا الخبرین فیها قرینة علی إرادة الشهرة فی النقل فقط، بل ظاهر الروایة المشهورة هو الشهرة فی نقلها فقط، فلا مجال لدعوی أنّ فرض الشهرة فی کلا المتعارضین ینافی اختصاص ما ورد فی المقبولة بالشهرة الفتوائیّة، ولا ینافی عمومها لها.

وأمّا ما یقال من أنّ إعراض المشهور عن أحد المتعارضین وترک العمل به یکشف عن الخلل فیه والمراد من المشهور عمدة قدماء الأصحاب حیث إنّ ثبوت القرینة فی عصرهم علی صحة خبر محتمل، لقرب عصرهم من زمان صدور الأخبار، بل لا یعتبر خبر أعرضوا عنه وإن لم یکن له معارض، لا یمکن المساعدة علیه؛ لما ورد فی کلمات بعضهم من عدّ بعض الاُمور قرینة علی صحة الخبر لکون مضمونه موافقاً للاحتیاط أو الأصل أو نحوهما، ومع ذلک لا یمکن الوثوق والاطمینان بعثورهم علی خلل فی الخبر الآخر، وأنّ ذلک الخلل لم یصل إلینا، نعم لو فرض فی مورد حصول الوثوق والاطمینان بذلک یتّبع، ولکن لیس هذا أمراً کلّیاً بالإضافة إلی جمیع موارد الإعراض أو أمراً غالبیّاً فیها.

ص : 212

بوجود خلل فی الآخر، إما من حیث الصدور، أو من حیث جهته، کیف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جمیع ما اعتبر فی حجیة المخالف لولا معارضة الموافق، والصدق واقعاً لا یکاد یعتبر فی الحجیة، کما لا یکاد یضرّ بها الکذب کذلک، فافهم. هذا حال الامارة الغیر المعتبرة لعدم الدلیل علی اعتبارها.

أمّا ما لیس بمعتبر بالخصوص لأجل الدلیل علی عدم اعتباره بالخصوص کالقیاس، فهو وإن کان کالغیر المعتبر لعدم الدلیل[1].

موافقة أحد الخبرین بما قام الدلیل علی عدم اعتباره

[1] وحاصله جریان ما تقدّم فی المرجّح الذی لم یتمّ دلیل اعتباره مستقلاًّ فیما قام الدلیل علی عدم اعتباره خصوصاً، کما فی القیاس فإنّ المرجّح السابق إن کان موجباً لدخول أحد الخبرین فی أقوی الدلیلین أو کونه أقرب إلی الواقع بالإضافة إلی الآخر کان الأمر کذلک فیما قام الدلیل الخاصّ علی عدم اعتباره، ولکن مع ذلک لا یمکن جعل القیاس مرجّحاً لأحد الخبرین؛ لأنّ الأخبار الناهیة عن استعمال القیاس فی الدین تمنع عن ذلک، حیث إنّ ترجیح أحد الخبرین بالقیاس تعیین الحجّة به، فیکون استعمالاً له فی المسألة الاُصولیّة، وخطره لیس بأقلّ من استعماله فی المسألة الفرعیّة أی تعیین الحکم الشرعی الفرعیّ بالقیاس، ولا یقاس استعمال القیاس وتعیین الحجّة من الخبرین به بالقیاس فی إحراز الموضوع للمسألة الفرعیّة التی یکون الموضوع لها من الموضوعات الصرفة أی الخارجیّة التی لا ترتبط بالمجعولات الشرعیة، بدعوی أنّه کما لا یعیّن بالقیاس فی موضوع المسألة الفرعیّة نفس الحکم الشرعی الفرعیّ الکلّی کذلک بالقیاس فی ترجیح أحد الخبرین، یتعیّن الموضوع للمسألة الاُصولیّة، لا أنّه یتعیّن به نفس الحکم الشرعیّ الاُصولیّ، والوجه فی عدم القیاس أنّ تعیین الحجّة علی الحکم الشرعیّ الفرعیّ الکلّی نحو استعمال

ص : 213

بحسب ما یقتضی الترجیح به من الأخبار بناءً علی التعدی، والقاعدة بناءً علی دخول مظنون المضمون فی أقوی الدلیلین، إلاّ أن الأخبار الناهیة عن القیاس وأن السنة إذا قیست محق الدین، مانعة عن الترجیح به، ضرورة أن استعماله فی ترجیح أحد الخبرین استعمال له فی المسألة الشرعیة الأصولیة، وخطره لیس بأقل من استعماله فی المسألة الفرعیة.

للقیاس فی الدین، بخلاف تعیین الموضوع للحکم الشرعیّ الفرعیّ بمعنی إحراز حصوله خارجاً، فإنّه لیس من استعمال القیاس فی الدین، فإن الدین نفس الحکم الشرعیّ الفرعیّ الکلّی لا حصول الموضوع له خارجاً.

أقول: قد ذکرنا فی مبحث اعتبار الظنّ أنّ النهی عن اتّباع القیاس فی الدین نهی طریقیّ، بمعنی أنّ القیاس لا یکون علماً بالواقع اعتباراً، لیکون منجّزاً عند الإصابة أو عذراً فی مخالفة الواقع عند خطئه، وأمّا کونه موجباً لدخول أمر آخر فی عنوان یکون ذلک الأمر بذلک العنوان منجّزاً أو معذّراً فلا تعرّض لذلک فی الأخبار الناهیة عن العمل بالقیاس، مثلاً إذا فرض أنّ الشارع اعتبر أقرب الخبرین المتعارضین أو أقوی الدلیلین، وکانت موافقة القیاس موجبة لکون أحد الخبرین کذلک، فلا بأس بالأخذ بذلک الخبر إلاّ أنّ الصغری ممنوعة، حیث إنّ القیاس بملاحظة ما ورد فیه من قصور إدراک العقل عن الإحاطة بملاکات الأحکام لا یوجب قرب مضمون أحد الخبرین إلی الواقع فضلاً عن إدخاله فی أقوی الدلیلین.

وبهذا یظهر الحال فی الاعتماد علی القیاس فی صغری المسألة الفرعیّة أی إحراز فعلیّة الموضوع لها خارجاً، فإنّ القیاس فی الفرض لم یکن فی تحصیل ملاک الحکم الشرعی الفعلیّ، فلا بأس بالاعتماد علیه فیما اکتفی الشارع فی إحراز ذلک الموضوع بالظنّ، کما فی باب الصلاة بالإضافة إلی إحراز القبلة، حیث ورد فی

ص : 214

وتوهم أن حال القیاس ها هنا لیس فی تحقق الأقوائیة به إلاّ کحاله فیما ینقح به موضوع آخر ذو حکم، من دون اعتماد علیه فی مسألة أصولیة ولا فرعیة، قیاس مع الفارق، لوضوح الفرق بین المقام والقیاس فی الموضوعات الخارجیة الصرفة، فإن القیاس المعمول فیها لیس فی الدین، فیکون إفساده أکثر من إصلاحه، وهذا بخلاف المعمول فی المقام، فإنه نحو إعمال له فی الدین، ضرورة أنه لولاه لما تعین الخبر الموافق له للحجیة بعد سقوطه عن الحجیّة بمقتضی أدلة الاعتبار، والتخییر بینه وبین معارضه بمقتضی أدلّة العلاج، فتأمل جیداً.

وأمّا ما إذا اعتضد بما کان دلیلاً مستقلاًّ[1].

الصحیح کفایة التحرّی إذا لم یعلم وجه القبلة، ولا یعمّه النهی عن القیاس فی الدین، فإنّ النهی راجع إلی تحصیل ملاکات الأحکام الشرعیة بالقیاس لینقل منها إلی نفس الأحکام الشرعیّة.

ثمّ إنّه لا یکاد ینقضی التعجّب مما ذکر الماتن قدس سره من أنّ خطر استعمال القیاس فی تعیین الحجّة لیس بأقلّ من استعماله فی نفس الأحکام الشرعیّة، مع أنّه قدس سره بنی علی التخییر بین المتعارضین من الخبرین، ومعنی التخییر صیرورة المأخوذ منهما حجّة بالأخذ، فالمأخوذ المطابق للقیاس حجّة سواء کان القیاس مرجّحاً أم لا، فأیّ خطر فی ذلک؟

[1] وحاصل ما ذکره قدس سره أنه إذا کان أحد الخبرین المتعارضین متعاضداً بما یکون دلیلاً مستقلاًّ کموافقته الکتاب والسنة، فلا ینبغی التأمّل فی عدم اعتبار الخبر الآخر وأنّه غیر حجة، بل لو کان الخبر الآخر منافیاً للکتاب والسنة بالتباین فلا یکون حجّة حتّی فیما إذا لم یکن فی البین الخبر الموافق، کما یقتضی ذلک مثل قوله علیه السلام فی صحیحة هشام وغیره عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «خطب رسول اللّه صلی الله علیه و آله بمنی فقال:

ص : 215

أیّها الناس، ما جاءکم عنّی یوافق کتاب اللّه فأنا قلته، وما جاءکم یخالف کتاب اللّه فلم أقله»(1) وقوله علیه السلام فی صحیحة أیوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: «کلّ شیء مردود إلی کتاب اللّه والسنة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب اللّه فهو زخرف»(2) إلی غیر ذلک.

وأمّا إذا کانت مخالفة الخبر للکتاب والسنة فی العموم والإطلاق، بأن کان أحد الخبرین مخالفاً لعمومهما أو إطلاقهما والخبر الآخر موافقاً، کما إذا ورد فی روایة: لا بأس بالربا بین الزوج والزوجة(3)، وورد فی خبر آخر: أنّ آکل الربا ومعطیه فی النار وإن کانا زوجاً وزوجة، فمقتضی القاعدة الأوّلیة _ أی مع قطع النظر عن الأخبار الواردة فی الأخذ من المتعارضین بما یوافق کتاب اللّه _ هو ملاحظة سایر المرجّحات بین الخبرین المتعارضین، فإن کان فی مخالف عموم الکتاب أو إطلاقه ونحو ذلک شیء من تلک المرجّحات یؤخذ به، ویرفع الید به عن عموم الکتاب أو إطلاقه، بناءً علی ما هو الصحیح من جواز تخصیص عموم الکتاب أو تقیید إطلاقه بالخبر الواحد، وإن لم یکن لأحد الخبرین ترجیح بالإضافة إلی الآخر یؤخذ بأحدهما تخییراً، فإن اُخذ بالمخالف یقع التخصیص والتقیید فی الکتاب. وأمّا بالنظر إلی ما ورد فی المتعارضین من الخبرین فمقتضی ذلک أن یؤخذ فی الفرض بالخبر الموافق للکتاب والسنة بناءً علی أنّ ما ورد، فی مقام ترجیح أحد الخبرین المتعارضین علی

ص : 216


1- 1) وسائل الشیعة 27:111، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 15.
2- 2) المصدر السابق: الحدیث 14.
3- 3) وسائل الشیعة 18:135 _ 136، الباب 7 من أبواب الربا، الحدیث 3 و 5.

فی نفسه، کالکتاب والسنة القطعیة، فالمعارض المخالف لأحدهما إن کانت مخالفته بالمباینة الکلیة، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجیح، لعدم حجیة الخبر المخالف کذلک من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنه المتیقن من الأخبار الدالة علی أنه زخرف أو باطل، أو أنّه: لم نقله، أو غیر ذلک.

الآخر.

نعم بناءً علی أنّ هذه الطائفة کالطائفة الدالّة علی عرض مطلق الخبر علی کتاب اللّه فإن وافقه فهو، وإلاّ فهو باطل أو زخرف فی مقام تعیین الحجّة عن اللاحجّة، فلا تکون موافقة الکتاب مرجّحاً، ویؤیّد کون الأخبار الدالّة علی الأخذ بموافق الکتاب من المتعارضین فی مقام تعیین الحجّة عن اللاحجة، لا فی مقام ترجیح أحد الخبرین المتعارضین، أنّ الطائفتین لسانهما واحد، فلا وجه لحمل المخالفة فی أحدهما علی غیر المخالفة فی الاُخری، بأن یقال إنّ ما ورد فی بیان الترجیح، المراد من المخالفة فیه المخالفة لعموم الکتاب أو إطلاقه ونحو ذلک، وما ورد فی تعیین الحجّة عن اللاحجّة المراد من المخالفة فیه هو تباین مدلول الخبر للکتاب أو کون النسبة العموم من وجه.

اللّهم إلاّ أن یقال التفرقة فی المراد للقطع بأنّ الأخبار الدالّة علی أنّ مخالف القرآن زخرف باطل لم نقله لا یمکن أن یعمّ الخاصّ الذی یخالف عموم القرآن أو المقیّد الدّال علی تقیید إطلاق الکتاب، لصدور هذا القسم من الأخبار عن النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام یقیناً فی موارد عدیدة، وإباء مثل تلک الأخبار عن التخصیص، فلا محالة یتعیّن أن یکون المراد من المخالفة للکتاب فیها المخالفة بنحو التباین، وعلی ذلک تنقسم الأخبار المشار إلیها إلی طائفتین، فالطائفة الاُولی تختصّ بما خالف الکتاب بالتباین، والطائفة الثانیة لا تعمّ صورة التباین بل لا تعمّ ما إذا کان بین

ص : 217

وإن کانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضیة القاعدة فیها، وإن کانت ملاحظة المرجحات بینه وبین الموافق وتخصیص الکتاب به تعییناً أو تخییراً، لو لم یکن الترجیح فی الموافق، بناءً علی جواز تخصیص الکتاب

مدلول الخبر ومدلول الکتاب العموم من وجه، فیلحق هذا القسم من الخبر بالطائفة الاُولی، بالإضافة إلی مورد اجتماعهما.

أقول: ما ورد فی المقبولة من الأمر بالأخذ بما یوافق الکتاب بعد فرض السائل تساوی الحکمین فی الصفات وتساوی الخبرین فی الشهرة شاهد قطعی علی أنّ المراد من مخالفة الکتاب لیس الخبر المخالف له بالتباین؛ لعدم اعتبار هذا النحو من الخبر أصلاً، ولو کان هذا هو المراد ینبغی للإمام علیه السلام التعرض لذلک قبل ترجیح الحکمین فی الصفات والخبرین بالشهرة وعدمها، فالمتعیّن فی المقبولة أن یکون المراد بالخبر المخالف للکتاب هو المخالف لعمومه أو إطلاقه ونحو ذلک.

الفرق بین کون موافقة الکتاب مرجّحاً أو مرجعاً

لا یقال: لا مجال لجعل موافقة أحد الخبرین المتعارضین للکتاب أو السنة مرجّحاً، فإنّ المتعارضین إذا لم یکن بینهما ترجیح من سایر الجهات یتعیّن العمل بعموم الکتاب أو إطلاقه بناءً علی سقوط المتعارضین عن الاعتبار عند التعارض وفقد المرجّح، فلا أثر لجعل موافقة أحد الخبرین مرجّحاً بالإضافة إلی معارضه.

فإنّه یقال: تظهر الثمرة بین کون موافقة الکتاب مرجّحاً لأحد الخبرین أو مرجعاً بعد تساقطهما عن الاعتبار فیما إذا کان فی البین خبر عامّ یکون خاصّاً بالإضافة إلی عموم الکتاب أو إطلاقه، بحیث یرفع الید به عن عموم الکتاب وإطلاقه، وکان فی البین خبران متعارضان کلّ منهما أخصّ بالإضافة إلی الخبر العامّ المفروض، وکان أحد الخبرین موافقاً لعموم الکتاب أو إطلاقه، کما إذا ورد فی خبر: أن الخفقة

ص : 218

بخبر الواحد، إلاّ أن الأخبار الدالة علی أخذ الموافق من المتعارضین غیر قاصرة عن العموم لهذه الصورة، لو قیل بأنها فی مقام ترجیح أحدهما لا تعیین الحجة عن اللا حجة، کما نزلناها علیه، ویؤیده أخبار العرض علی الکتاب الدالة علی عدم حجیة المخالف من أصله، فإنهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل

والخفقتین لا توجب الوضوء(1)، وورد فی خبر آخر أنّهما توجبانه، فالدالّ علی کونهما موجبتین له موافق لإطلاق الآیة المبارکة، فعلی تقدیر کون موافقة الکتاب مرجّحاً یؤخذ بالخبر الدّال علی وجوب الوضوء بهما، ویرفع الید به عن إطلاق المستثنی منه فی قوله علیه السلام : لا ینقض الوضوء إلاّ البول والغائط والریح والجنابة والنوم(2)، فإنّ مدلوله أنّ غیر الخمسة لا ینقض الوضوء ولا یوجبه إلاّ الخفقة، بخلاف ما إذا قیل بتساقط الخبرین وکون الکتاب مرجعاً، فإنّه علی ذلک لا تصل النوبة إلی الأخذ بعموم الکتاب وإطلاقه، بل یرجع إلی إطلاق المستثنی منه فی الخبر الدّال علی حصر النواقض، فإنّ هذا الخبر بالإضافة إلی الکتاب أخصّ کما لا یخفی، فتکون النتیجة عدم کونهما موجبتین للوضوء، ولابدّ من الالتزام بکون موافقة الکتاب مرجّحة لأحد الخبرین لا مرجعاً، کما هو ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة بل وغیرها، حیث أمر سلام اللّه علیه فیها بالأخذ بالخبر الموافق.

بقی فی المقام أمر وهو ما قیل من أنّ المرجّح لأحد المتعارضین فی الخبر موافقة العموم الوضعیّ للکتاب ولا تفید موافقة إطلاقه؛ لأنّ الإطلاق غیر داخل فی مدلول الکتاب أی مدلول ألفاظه، بل هو حکم عقلیّ یترتّب عقلاً علی تمامیّة مقدمات الحکمة فی ناحیة المطلق، وما هو من الکتاب المدلول علیه لذات المطلق

ص : 219


1- 1) انظر وسائل الشیعة 1:254، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 8.
2- 2) المصدر السابق: 251، الباب 2، الحدیث 8.

المخالفة فی أحدهما علی خلاف المخالفة فی الأخری، کما لا یخفی.

اللّهمّ إلاّ أن یقال: نعم، إلاّ أن دعوی اختصاص هذه الطائفة بما إذا کانت المخالفة بالمباینة _ بقرینة القطع بصدور المخالف الغیر المباین عنهم علیهم السلام کثیراً، وإباء مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف أو باطل عن التخصیص _ غیر بعیدة، وإن کانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر أنها کالمخالفة فی الصورة الاُولی کما لا یخفی[1].

لا إطلاقه، ولا یخفی أنّه قد تقدّم فی بحث المطلق والمقیّد أنّ مقدّمات الحکمة تحسب قرینة للمدلول الاستعمالیّ ویتمّ بها هذا الظهور، بحیث یصحّ أن ینسب مقتضی تلک القرینة إلی بیان المولی کما یصحّ ذلک فی القرینة الحالیّة والعقلیّة الخاصّة مثل قوله سبحانه: «واسأل القریة»(1).

فی الخبر إذا کانت النسبة بینه وبین الکتاب العموم من وجه

[1] إذا کانت مخالفة الخبر للکتاب المجید بالعموم من وجه فیسقط الخبر عن الاعتبار فی مورد الاجتماع ولولم یکن للخبر معارض من الأخبار، فإنّه بالإضافة إلی مورد اجتماعه مع الکتاب زخرف وباطل إلی غیر ذلک من الأخبار المتواترة إجمالاً، ولا ینافی عدم اعتباره بالإضافة إلی مورد الاجتماع دخوله فی أدلّة اعتبار الخبر بالإضافة إلی مورد افتراقه کما بیّنا سابقاً، وعلی ذلک فإن کان للخبر المفروض معارض آخر من الخبر، بأن کانت النسبة بین الخبرین التباین، کما إذا ورد فی خبر: أنّ الربیبة حرام(2)، وفی الخبر الآخر لا تحرم الربیبة، وحیث إنّ إطلاق عدم حرمة

ص : 220


1- 1) سورة یوسف: الآیة 82.
2- 2) انظر وسائل الشیعة 20:458، الباب 18 من أبواب ما یحرم، الحدیث 3 و 4 و 6.

وأمّا الترجیح بمثل الاستصحاب، کما وقع فی کلام غیر واحد من الأصحاب، فالظاهر أنه لأجل إعتباره من باب الظنّ والطریقیّة عندهم[1].

الربیبة ینافی الکتاب المجید الدالّ علی حرمتها فیما دخل باُمّها، تسقط اعتبار خبر عدم حرمتها فی فرض الدخول باُمّها، ویبقی من مدلوله عدم حرمة ربیبة لم یدخل باُمّها، وهذا المدلول أخصّ بالإضافة إلی الخبر الدالّ علی حرمة الربیبة، فیرفع الید به عن إطلاق الخبر الدالّ علی حرمة الربیبة وأنّ حرمتها فیما إذا دخل باُمّها، فلا حرمة فیما إذا لم یدخل باُمّها، وهذا بناءً علی انقلاب النسبة ظاهر، وأمّا بناءً علی إنکاره کما علیه الماتن قدس سره فالأمر أیضاً کذلک؛ لأنّه یلزم من تقدیم الخبر الدالّ علی حرمتها مطلقاً إلغاء قید الدخول باُمّها فی الآیة، وحمله علی القید الغالب کقید «اللاتی فی حجورکم»(1) تکلّف بلا موجب، کما لا موجب لطرح الخبر الدالّ علی عدم حرمتها فی مورد افتراقه عن مدلول الآیة؛ لأنّ مورد افتراقه لیس مخالفاً للکتاب المجید، لیکون باطلاً مطلقاً.

فی عدم کون الاستصحاب مرجّحاً لأحد الخبرین المتعارضین

[1] لا یخفی أنّ الاستصحاب بناءً علی کونه أمارة ظنیّة علی الواقع _ للغلبة بین حدوث الشیء وبقائه _ یکون من القسم الأوّل الذی لم یقم علی اعتباره دلیل، فیجری فی الترجیح به ما تقدّم فی الترجیح بالقسم الأوّل.

لا یقال: المفروض اعتبار الاستصحاب، فیکون من القسم الثالث.

فإنّه یقال: بناءً علی کونه أمارة للواقع وموجباً للظنّ بمدلول أحد الخبرین المتعارضین أو کون مدلوله أقرب إلی الواقع من مدلول الخبر الآخر یمکن الترجیح

ص : 221


1- 1) سورة النساء: الآیة 23.

وأما بناءً علی إعتباره تعبداً من باب الأخبار وظیفةً للشاک، کما هو المختار، کسائر الأصول العملیة التی یکون کذلک عقلاً أو نقلاً، فلا وجه للترجیح به أصلاً، لعدم تقویة مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة دلیل اعتباره کما لا یخفی.

هذا آخر ما أردنا إیراده، والحمد للّه أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.

به، بناءً علی التعدّی من المرجّحات المنصوصة بأحد المناطین، إلاّ أنّه لا یمکن کونه من القسم الثالث؛ لأنّه لو تمّ الدلیل علی اعتباره من باب الطریقیّة فاعتباره فیما إذا لم یکن فی البین خبر معتبر أو أمارة معتبرة اُخری؛ ولذا لم یعهد الالتزام باعتبار الاستصحاب بحیث یخصّص ظاهر الکتاب سواء کان عمومه وضعیّاً أو إطلاقیّاً، ویجعل الاستصحاب المنافی للخبر معارضاً له، ففی المقام بناءً علی ثبوت الترجیح بین الخبرین المتعارضین تکون مرجّحیّة الاستصحاب من القسم الأوّل ولولم نقل بأنّ الحکم هو التخییر بینهما مع عدم الترجیح.

وأمّا لو قیل علی کون الاستصحاب أصلاً عملیّاً حتّی فی الشبهات الحکمیّة فلا معنی للترجیح به کما هو الحال فی سائر الاُصول العملیّة، فإنّ مدلول الخبر الحکم الفرعیّ الکلّی الواقعیّ، والاستصحاب مع قطع النظر عن دلیل اعتباره لیس بشیء أصلاً، وبالنظر إلی دلیل اعتباره مدلوله حکم شرعیّ تعبدیّ عند الجهل بالواقع، فبناءً علی التخییر بین الخبرین المتعارضین لا موضوع للاستصحاب لإمکان الظفر بالأمارة المعتبرة بالأخذ بأحد الخبرین، وبناءً علی سقوط المتعارضین مع عدم الترجیح یکون الاستصحاب متّبعاً بنفسه، ومرجّحیته حینئذ لأحدهما موجباً لانعدام نفسه، واستلزام وجود شیء عدمه یمتنع، بلا فرق بین القول بأنّ مفاد خطابات الاستصحاب ثبوت الحکم الفرعیّ الظاهریّ أو التعبّد بالعلم بالواقع علی ما تقدّم من حکومة الأمارة علی الاستصحاب.

ص : 222

أما الخاتمة: فهی فیما یتعلق بالاجتهاد والتقلید

فصل

الاجتهاد لغة: تحمّل المشقة، واصطلاحاً کما عن الحاجبی والعلامة: استفراغ الوسع فی تحصیل الظنّ بالحکم الشرعی[1].

فی الاجتهاد وبیان حقیقته

[1] الاجتهاد لغة: تحمّل المشقة، بناءً علی أن (الجهد) بالفتح والضّم بمعنی واحد، وبناءً علی کونه بالضّم بمعنی الطاقة وبالفتح بمعنی المشقة یکون الاجتهاد بمعنی تحمل المشقّة أو کسب الطاقة، ویقال إنّه فی اصطلاح الاُصولیین کما عن الحاجبی والعلامة بمعنی استفراغ الوسع فی تحصیل الظنّ بالحکم الشرعیّ، والظاهر أنّ المراد من الحکم الشرعیّ الحکم الفرعیّ الکلّی.

ویرد علی التعریف المذکور بأنّ الظنّ بالحکم الفرعی الکلّی لا قیمة له، ولا یترتّب علیه أثر مع عدم قیام الدلیل علی اعتباره، ومع قیام الدلیل علی اعتبار أمر فاللازم اتّباعه، سواء کان مفیداً للظنّ أم لا؛ ولذا ذکر الماتن قدس سره الأولی تبدیل الظنّ بالحکم الشرعیّ إلی الحجّة به، فیکون الاجتهاد بمعنی استفراغ الوسع فی تحصیل الحجّة بالحکم الشرعی. وأردف علی ذلک أنه لا یمکن للأخباریّ تأبّی الاجتهاد بهذا المعنی، غایة الأمر أنّه لا یری بعض ما یراه الاُصولیّ حجّة من أفراد الحجّة، وهذا غیر ضائر بالالتزام بالاجتهاد بذلک المعنی، حیث إنّ اختلاف الاُصولیّ مع الأخباریّ فی بعض أفراد الحجّة کالاختلاف بین الاُصولیین بعضهم مع بعض فی اعتبار بعض الاُمور أو الحاصل بین الأخباریین بعضهم مع بعض، ولعلّ ذکر الظن فی تعریف الاجتهاد أوجب تأبّی الأخباری، ولا موجب أیضاً لذکره، فإنّ استفراغ الوسع لتحصیل العلم بالحکم الشرعیّ أیضاً داخل فی الاجتهاد، فلا وجه لانحصاره علی

ص : 223

وعن غیرهما: ملکة یقتدر بها علی استنباط الحکم الشرعی الفرعی من الأصل فعلاً أو قوةً قریبة.

ولا یخفی أن اختلاف عباراتهم فی بیان معناه اصطلاحاً، لیس من جهة الاختلاف فی حقیقته وماهیته، لوضوح أنهم لیسوا فی مقام بیان حده أو رسمه،

تحصیل الظنّ مع أنّ الظنّ بنفسه کما ذکر لا أثر له، ولعلّ منشأ ذلک أخذ التعریف من کلمات العامّة، ولکنّ الموضوع لجواز الافتاء وکذا لجواز الاعتماد علیه فی عمل نفسه هو الاجتهاد الفعلی.

ویخطر بالبال أنّ إضافة استفراغ الوسع فی التعریف بلا طائل، فإنّه لو قیل بأن الاجتهاد هو تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعیّ الفرعیّ الکلّی لکان أخصر، اللّهم إلاّ أن یقال إنّ الإضافة للاحتراز عن تقلید العامیّ أی تعلّم الفتوی لیستند إلیه فی مقام العمل، فإنّه أیضاً من تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی الفرعی الکلّی، ولکن لا یکون التحصیل باستفراغ الوسع وصرف الطاقة، وإن قیل إنّ الاجتهاد هو تحصیل الحجّة التفصیلیّة علی الحکم الشرعیّ الفرعیّ لم یرد ذلک وکان أخصر.

وعن غیرهما تعریف الاجتهاد بالملکة التی یقتدر بها علی استنباط الحکم الشرعیّ من الأصل فعلاً أو قوة، والمراد بالأصل المدرک.

وربّما قیل بأنّ المراد من القوّة القوّة القریبة، للاحتراز عن العامیّ المتمکّن من تحصیل العلوم.

وفیه أنّه لا یطلق علی تمکّنه الاجتهاد، لعدم فعلیّة الملکة له؛ لأنّ الملکة التی یطلق علیها الاجتهاد هی تمکّن الشخص علی الاستنباط فعلاً أو بالقوة، یعنی فیما إذا کان ما یطلق علیه مدارک الأحکام فی تناول یده، وبتعبیر آخر: الملکة أمر تحصیلیّ یطلق علی فعلیّته، فتکون الفعلیّة والقوّة القریبة قیداً للاستنباط لا لنفس الملکة کما

ص : 224

بل إنما کانوا فی مقام شرح اسمه والإشارة إلیه بلفظ آخر وإن لم یکن مساویاً له بحسب مفهومه، کاللغوی فی بیان معانی الألفاظ بتبدیل لفظ بلفظ آخر، ولو کان أخص منه مفهوماً أو أعم.

ومن هنا انقدح أنه لا وقع للإیراد علی تعریفاته بعدم الإنعکاس أو الإطراد،

لا یخفی.

ثمّ یقع الکلام فی أنّ من له ملکة الاجتهاد علی ما ذکر _ بالإضافة إلی مسائل أبواب الفقه جمیعها أو إلی بعضها _ هل یتعیّن علیه الاجتهاد باستفراغ وسعه فی الوقایع التی یحرز الابتلاء بها أو یحتمل ابتلاءه بها، أو أنّه یجوز له ترکه والأخذ بالتقلید فیها ممن أحرز فیه اجتماع شرایط التقلید عنه، فقد یقال بتعیّن الاجتهاد علیه فی الموارد التی لا یتیسّر له الاحتیاط فیها، ومع تیسّره یتخیّر ولا یجوز له التقلید بوجه، بمعنی أنّ فتوی المجتهد الآخر لا یکون مجزیاً فی حقّه؛ لأنّ الدلیل علی جواز التقلید السیرة العقلائیّة الجاریة فیهم من الرجوع إلی أهل الخبرة ولم تحرز هذه السیرة فی حقّ من یکون نفسه من أهل الخبرة، بأن یتمکّن مع تمکّنه من المعرفة الرجوع إلی غیره، ولیس فی البین دلیل لفظیّ علی جواز التقلید، بحیث یکون له إطلاق من هذه الجهة لیتمسّک بإطلاقه.

أضف إلی ذلک ما ذکره الشیخ قدس سره فی رسالته المعمولة فی الاجتهاد والتقلید من حکایة الإجماع علی عدم جواز التقلید لمن یتمکّن من تحصیل المعرفة بالأحکام الشرعیّة بالرجوع إلی مدارکها، وتعیین الوظیفة عند الجهل بها، وما ذکره بعضهم فی هذا المقام من أنّ من له ملکة الاجتهاد یعلم إجمالاً بتوجّه التکالیف إلیه فی جملة من الوقایع التی یبتلی بها فعلاً أو مستقبلاً، والخروج عن عهدتها بالاحتیاط أو باستفراغ وسعه فی تحصیلها من مدارکها محرز، والشکّ فی الخروج عن العهدة بالمراجعة إلی

ص : 225

کما هو الحال فی تعریف جل الأشیاء لولا الکل، ضرورة عدم الإحاطة بها بکنهها، أو بخواصها الموجبة لإمتیازها عما عداها، لغیر علام الغیوب، فافهم.

وکیف کان، فالأولی تبدیل الظن بالحکم بالحجة علیه، فإن المناط فیه هو تحصیلها قوةً أو فعلاً لا الظن حتی عند العامة القائلین بحجیته مطلقاً، أو بعض

الغیر.

ولا تفید دعوی انحلال علمه الإجمالی بأنّه یعلم بثبوت جملة من التکالیف فی الموارد التی أفتی فیها من یرید الرجوع إلیه بالتکالیف، وثبوت الزاید علی تلک التکالیف غیر معلوم، والوجه فی عدم کون الدعوی مفیدة أنّ صاحب الملکة إذا احتمل التکلیف فی بعض سایر الموارد التی أفتی من یرید الرجوع إلیه فیها بعدم التکلیف یکون مکلّفاً بالفحص فیها عن مدارک الأحکام بمقتضی أخبار وجوب التعلّم وعدم معذوریّة للجاهل التارک للتعلّم.

أقول: دعوی السیرة القطعیّة من المتشرعة الموجودین فی زمان الأئمة علیهم السلام علی مراجعتهم الرواة المعروفین بالفقاهة فی أخذ الأحکام والتکالیف أمر قطعیّ، لا یحتاج هذا الجواز إلی دعوی السیرة العقلائیّة علی الرجوع إلی أهل الخبرة، لیناقش فی عمومها أو خصوصها بالإضافة إلی غیر المتمکّن، وفی الروایات الواردة المستفاد منها جواز الرجوع إطلاق حتّی بالإضافة إلی صورة إمکان الوصول إلی الحکم والتکلیف بالسماع عن المعصوم علیه السلام کصحیحة عبدالعزیز بن المهتدی أو حسنته قال: «سألت الرضا علیه السلام فقلت: إنّی لا ألقاک فی کلّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی؟ قال: خذ عن یونس بن عبدالرحمن»(1) فإنّ الأخذ یعمّ ما إذا کان بصورة

ص : 226


1- 1) وسائل الشیعة 27:148، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 34.

الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحکام، فإنه مطلقاً عندهم، أو عند الإنسداد عنده من أفراد الحجة، ولذا لا شبهة فی کون استفراغ الوسع فی تحصیل غیره من أفرادها _ من العلم بالحکم أو غیره مما اعتبر من الطرق التعبدیة الغیر

سماع الروایة أو بیان الحکم، ونحوها غیرها.

وروایة أحمد بن إسحاق التی لا یبعد اعتبارها سنداً، فإنّه روی عن أبی الحسن علیه السلام قال: «سألته وقلت: من اُعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال: العمری ثقتی فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی، وما قال لک عنّی فعنّی یقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون. قال «وسألت أبا محمد علیه السلام عن مثل ذلک، فقال العمری وابنه ثقتان، فما أدّیا إلیک عنّی فعنّی یؤدّیان، وما قالا لک فعنّی یقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان» الحدیث(1).

وصحیحة عبداللّه بن أبی یعفور قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام إنّه لیس کلّ ساعة ألقاک ولا یمکن القدوم ویجیء الرجل من أصحابنا فیسألنی، ولیس عندی کلّ ما یسألنی عنه، فقال: ما یمنعک من محمد بن مسلم الثقفی، فإنّه سمع من أبی وکان عنده وجیهاً»(2) فإنّ الأخذ بروایة محمد بن مسلم عن الإمام علیه السلام لا یحتاج إلی السؤال کما یظهر من حال أصحابهم علیهم السلام من نقل بعضهم الحدیث عن بعض آخر عن الإمام علیه السلام ، ففی الروایة حثّ علی الأخذ بما یقول محمد بن مسلم الثقفی وإن کان قوله باستفادته مما سمعه عن الإمام علیه السلام .

ومما ذکر یظهر الحال فی دعوی الإجماع بأنّ المتمکّن من إحراز التکالیف فی

ص : 227


1- 1) المصدر السابق: 138، الحدیث 4.
2- 2) المصدر السابق: 144، الحدیث 23.

المفیدة للظن ولو نوعاً _ اجتهاداً أیضاً.

ومنه قد انقدح أنه لا وجه لتأبی الأخباری عن الإجتهاد بهذا المعنی، فإنه لا محیص عنه کما لا یخفی، غایة الأمر له أن ینازع فی حجیة بعض ما یقول

الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل الابتلاء بها لا یجوز له التقلید، بل یتعیّن علیه الاجتهاد أو الاحتیاط، فإنّ هذه المسألة لم تکن معنونة فی کلمات جلّ الأصحاب حتی یعلم الاتفاق علی عدم الجواز، مع کون مقتضی جملة من الروایات الجواز کما ذکرنا، وإذا جاز رجوع صاحب ملکة الاجتهاد إلی من استفرغ وسعه فی تحصیل العلم بالأحکام الشرعیّة فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل الابتلاء فیکون ذلک من العالم بأحکامه وتکالیفه، فلا یعمّه ما دلّ علی وجوب التعلّم والفحص وعدم کون ترک العمل بها مع ترک التعلّم عذراً.

روی الشیخ فی أمالیه قال حدثنا محمد بن محمد یعنی المفید قدس سره قال أخبرنی أبو القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری عن أبیه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زیاد قال: «سمعت جعفر بن محمد علیه السلام یقول وقد سئل عن قول اللّه تعالی: «فللّه الحجّة البالغة» فقال: إنّ اللّه تعالی یقول للعبد یوم القیامة أکنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال کنت جاهلاً قال له: أفلا تعلّمت حتّی تعمل، فیخصمه وذلک الحجّة البالغة»(1) ولا ضعف فی السند، ولا یضرّ عدم إخراجها فی الکتب الأربعة، ومدلولها عدم معذوریّة المکلف فی ترک العمل بالوظایف فی الوقایع مع التمکّن من تحصیل العلم بها.

وعلی الجملة الأخبار المشار إلیها کهذه الروایة ظاهرها کون وجوب التعلّم

ص : 228


1- 1) بحار الأنوار 1:177، والآیة: 149 من سورة الأنعام.

الأصولی باعتباره ویمنع عنها، وهو غیر ضائر بالاتفاق علی صحة الإجتهاد بذاک المعنی، ضرورة أنه ربما یقع بین الأخباریین، کما وقع بینهم وبین الأصولیین.

طریقیّ یوجب تنجّز التکالیف فی صورة إمکان إحرازها، فلا یضرّ سبق العلم الإجمالی بالتکالیف وانحلاله بالتعلّم بمقدار یوجب انحلاله عدم تنجّز التکلیف فی صورة احتماله ولو بعد الانحلال إذا أمکن الفحص والطلب والظفر به.

فتحصّل أنّ مع ترک الإحراز والفحص یجب الاحتیاط رعایة للاحتمال، وأنّه یتعیّن علی المکلّف فی الوقایع التی یبتلی بها تعلّم الوظیفة فیها، والعمل بما علمه من اجتهاد أو تقلید أو الأخذ بالاحتیاط فیها، ولا یکون جهله مع ترکه التعلّم مع مخالفته التکلیف فیها عذراً.

والروایات المشار إلیها مدلولها جواز الرجوع إلی من یعرف الأحکام الشرعیّة فی الوقایع من مدارکها المتعارفة التی جلّها الروایات المأثورة عن المعصومین علیهم السلام والکتاب المجید، فلا دلیل علی اعتبار قول من یدّعی العلم بها عن غیر المدارک المتعارفة من طریق الریاضات النفسانیة والجفر والرمل والاستحسانات والقیاسات ونحوها کما هو واضح.

ص : 229

ص : 230

فصل

ینقسم الاجتهاد إلی مطلق وتجزٍّ، فالاجتهاد المطلق هو ما یقتدر به علی استنباط الأحکام الفعلیّة من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً فی الموارد التی لم یظفر فیها بها، والتجزّی هو ما یقتدر به علی استنباط بعض الأحکام[1].

أقسام الاجتهاد

اشارة

[1] ذکروا تقسیم الاجتهاد إلی الاجتهاد المطلق والاجتهاد المتجزی، وهذا التقسیم أمر صحیح ومتعیّن بناءً علی أنّ المراد بالاجتهاد ملکة الاجتهاد والاستنباط، فالاجتهاد المطلق ملکة یقتدر بها صاحبها علی عرفان الوظیفة الفعلیّة فی کلّ واقعة تعرّض علیه سواء کان ذلک الحکم الفعلیّ من قبیل الحکم الواقعیّ أو الظاهریّ، فإنّه تارة یتمکّن من الوصول إلی الأحکام الشرعیّة المجعولة فی الوقایع المعبّر عنها بالأحکام الواقعیّة، سواء کان وصوله وعلمه بها وجدانیّاً أو تعبدیّاً، کما فی موارد قیام الأمارة المعتبرة بالحکم الواقعیّ، أو یتمکّن من الوصول إلی حال الحکم والتکلیف الواقعیّ من حیث التنجز أو عدمه، مع تعیین الحکم الظاهریّ الشرعیّ، کما فی موارد الاُصول الشرعیّة، أو بدون تعیینه، کما فی موارد الاُصول العقلیّة، ولا یضرّ بالاجتهاد المطلق عدم تمکّن المجتهد من الوصول إلی الحکم الشرعی المجعول فی واقعة بعنوان الحکم الواقعیّ، فإنّ عدم وصوله لیس لقصور باعه واقتداره، بل لأجل عدم دلیل موجب للعلم به أو یعتبر علماً به، وهذا بخلاف الاجتهاد بنحو التجزّی، فإنّ صاحب هذا الاجتهاد لا یتمکّن من معرفة الوظیفة الفعلیّة فی کلّ واقعة تعرض علیه، وذلک لقصور باعه واقتداره.

وقد یقال: بعدم إمکان التجزّی فی الاجتهاد بمعنی الملکة، فإنّ الملکة أمر

ص : 231

ثم إنه لا إشکال فی إمکان المطلق وحصوله للأعلام، وعدم التمکن من الترجیح فی المسألة وتعیین حکمها والتردد منهم فی بعض المسائل إنما هو بالنسبة إلی حکمها الواقعی، لأجل عدم دلیل مساعد فی کل مسألة علیه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلّة الإطلاع أو قصور الباع.

وأما بالنسبة إلی حکمها الفعلی، فلا تردد لهم اصلاً، کما لا إشکال فی جواز

بسیط لا مرکّب، والأمر البسیط إمّا أن یحصل وإمّا أن لا یحصل، ولو کان المراد بالاجتهاد هو الفعلیّ منه، فالتجزّی فیه بمعنی أن یستنبط بعض الأحکام من مدارکها، ویترک الاستنباط فی بعضها الآخر فهو أمر ظاهر ولکنّه غیر مهمّ فی المقام، بل الموضوع للبحث هو أن یتمکّن الشخص من استنباط جملة من الأحکام من مدارکها کالمجتهد المطلق ولا یتمکّن من استنباط جملة اُخری.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ مسائل الفقه وأبوابها مختلفة بحسب المدارک والاستفادة من المدارک تختلف بحسب السهولة والصعوبة، فربّ مسألة یکون المدرک فیها روایة، سندها معتبر ولا مورد للتأمّل فی ظهورها، بخلاف بعض المسائل الاُخری فإنّ المدرک فیها الأخبار المختلفة المتعدّدة، وإحراز ما یعارضها أو وجود الجمع العرفیّ بینها أو بین بعضها مع البعض الآخر یحتاج إلی کثرة الاُنس بالروایات، والخبرة الزائدة فی تشخیص الملاک فی الجمع العرفیّ وعدمه، وربّ مسألة تحتاج استفادة الحکم فیها إلی ضمّ مقدّمة عقلیّة أو مقدّمات عقلیة بخلاف بعضها الآخر، والأشخاص مختلفون بحسب قصور الباع وطوله بالإضافة إلی تحصیل الاقتدار علی الاستنباط بمقدّماته، فیوجب ذلک حصول الاقتدار تدریجاً وحصول مرتبة منه قبل حصول مرتبة اُخری إلی أن تکمل فی بعض الأشخاص إلی المرتبة الأعلی من الاجتهاد، ولهذا الکلام تتمّة نتعرّض لها عند تعرّض الماتن قدس سره .

ص : 232

العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به، وامّا لغیره فکذا لا اشکال فیه، اذا کان المجتهد ممن کان باب العلم او العلمی بالأحکام فتوحاً له _ علی ما یأتی الأدلّة علی جواز التقلید _ بخلاف ما إذا انسدّ علیه بابهما، فجواز تقلید الغیر عنه فی غایة الإشکال[1].

فی جواز الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ والإشکال فی الرجوع

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الاجتهاد بمعنی الملکة لا یکون عدلاً فی مسألة أنّه یجب علی المکلّف فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل ابتلاءه أن یکون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً، بل المراد منه الاجتهاد الفعلیّ، وهو تحصیل الحجّة التفصیلیّة علی حکم الواقعة، وهذا الاجتهاد مما لا ینبغی اعتباره فی حقّ نفسه، سواء کانت استفادته الحکم بالواقعة عن الأدلّة علماً بالحکم الواقعی فیها وجداناً أو تعبّداً أو علماً بالوظیفة الظاهریّة، أو حتّی فیما کان ما یعتمد علیه مما یستقلّ به العقل فی تنجّز الواقع أو العذر فیه؛ ولذا لا یفرق فی جواز الاکتفاء باتّباع اجتهاده بین أن یکون انفتاحیّاً أو انسدادیّاً، ودعوی أنّ ما یحصّله الانسدادی فی غالب الوقایع لا یکون علماً بالحکم الشرعیّ لا واقعاً ولا ظاهراً، ویمکن له الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ الذی یعلم الوظایف الشرعیّة فی الوقایع کما تری؛ وذلک فإنّ الانسدادیّ علی مسلک الحکومة یری أنّ غیره أیضاً غیر عالم بالوظیفة الشرعیّة، وبالأحکام الشرعیّة فی الوقایع لا واقعاً ولا تعبّداً، وإنّما یتخیل أنّه عالم بها، وأدلّة وجوب التعلّم ساقطة لعدم التمکّن من تحصیل العلم بالأحکام الشرعیّة فی معظم الوقایع، ولا موضوع لرجوعه إلی من یدّعی الانفتاح حیث لا یکون من رجوع الجاهل بالأحکام إلی العالم بها، بل من رجوع الجاهل إلی مثله فی جواز الرجوع إلی المجتهد الإنفتاحی والاشکال فی الرجوع فیما إذا کان انسدادیاً.

[1] وأمّا جواز رجوع العامیّ إلی المجتهد المطلق فی الوقایع للعمل بفتاواه فهو

ص : 233

فإن رجوعه إلیه لیس من رجوع الجاهل إلی العالم بل إلی الجاهل، وأدلة جواز التقلید إنما دلت علی جواز رجوع غیر العالم إلی العالم کما لا یخفی، وقضیة مقدمات الإنسداد لیست إلاّ حجیة الظن علیه لا علی غیره، فلا بد فی حجیة اجتهاد مثله علی غیره من التماس دلیل آخر غیر دلیل التقلید وغیر دلیل الإنسداد

مقتضی ما استفدناه من الروایات المشار إلیها سابقاً، وقلنا باستمرار سیرة المتشرعة علی ذلک فی الجملة حتی من زمان المعصومین علیهم السلام حیث ما یستنبطه المجتهد وهی الکبری الکلّیة من الحکم الشرعیّ فی الواقعة لا تختص بالمستنبط، بل قد لا یکون داخلاً فی موضوع تلک الکبری، وهذا فیما کان المجتهد انفتاحیّاً ظاهر، وأمّا إذا کان انسدادیّاً فقد استشکلوا فی جواز الرجوع إلیه، فإنّه إذا کان المجتهد انسدادیّاً علی مسلک الحکومة، فلا یکون عالماً بالحکم الشرعیّ الفرعیّ فی معظم الوقایع، بل یکون کالعامیّ جاهلاً به، غایة الأمر ظنّه أی إطاعته الظنیّة مجزیة، حیث یستقلّ العقل بأنّه لا یصحّ للشارع مطالبته ولا مطالبة غیره فی تلک الوقایع بأزید من الطاعة الظنیّة، کما لا یجوز للمکلّف الاقتصار علی ما دون الإطاعة الظنیّة، وأدلّة جواز التقلید مقتضاها رجوع الجاهل بالحکم الشرعیّ فی الوقایع إلی العالم به.

وعلی الجملة مقتضی تلک الأدلّة بجواز تعلّم العامیّ الأحکام الشرعیّة من العالم بها ولا تفید الرجوع إلی هذا المجتهد، وأیضاً فقضیّة مقدّمات الانسداد جواز الاقتصار بالطاعة الظنیّة وعدم جواز الاقتصار بدونها، وهذا فی حقّ من یتمّ فی حقّه مقدّمات الانسداد، ولا تتمّ فی حقّ العامیّ؛ لأن له طریقاً آخر إلی الأحکام الشرعیّة فی الوقایع التی یبتلی بها، وهو فتوی المجتهد الذی یری انفتاح باب العلم فیها، بل لا یجری فی حقّ العامیّ ما هو من مقدّمات الانسداد وهو عدم لزوم الاحتیاط فی الوقایع بمقتضی علمه الإجمالی بثبوت التکالیف فی جملة من الوقایع التی یبتلی أو یحتمل ابتلاءه بها. نعم إذا لم یکن فی البین مجتهد انفتاحی وتمکّن العامیّ من إحراز

ص : 234

الجاری فی حق المجتهد، من إجماع أو جریان مقدمات دلیل الإنسداد فی حقه، بحیث تکون منتجة لحجیة الظن الثابت حجیته بمقدماته له أیضاً، ولا مجال لدعوی الإجماع، ومقدماته کذلک غیر جاریة فی حقه، لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم لزوم محذور عقلی من عمله بالإحتیاط وان لزم منه العسر، إذا لم یکن له سبیل إلی إثبات عدم وجوبه مع عسره.

عدم وجوب الاحتیاط علیه _ لاستلزامه المحذور وأنّ اللّه لا یؤاخذه بترکه عند الاحتیاط _ أمکن إحرازه جواز الاقتصار له علی الامتثال الظنّی.

والحاصل أنّ تقلیده من المجتهد الانسدادیّ القائل بالحکومة مشکل من جهتین:

الاُولی: قصور أدلّة جواز التقلید حیث إنّ مقتضاها _ کما تقدّم _ جواز رجوع الجاهل بالحکم الشرعیّ فی الوقایع إلی العالم به، لا جواز الرجوع فی حکم العقل.

والثانیة: قصور ما دلّ علی کفایة الامتثال الظنّی فی معظم الوقایع، فإنّه لا یجری إلاّ علی من تتمّ فی حقّه مقدّمات الانسداد.

وأمّا علی القول بالکشف والالتزام بأنّ ما یقتضی مقدّمات الانسداد هو العلم بأنّ الشارع اعتبر الظنّ بالأحکام من التکالیف الواقعیّة وغیرها طریقاً إلی إحرازها فیشکل رجوع العامیّ إلی هذا المجتهد أیضاً من الجهة الثانیة، فإنّ الحکم المظنون للمجتهد الانسدادیّ علی الکشف وإن کان إحرازاً للحکم الشرعیّ إلاّ أنّ الموضوع لاعتبار الظنّ من تتمّ فی حقّه مقدّمات الانسداد، فلا تتمّ فی حقّ العامیّ لتمکّنه من الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ.

فی جواز الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ فی موارد الطرق والأمارات والاُصول العقلیّة

لا یقال: مقتضی ما ذکر من کون مفاد أدلّة جواز التقلید رجوع الجاهل بالأحکام الشرعیّة إلی العالم بها عدم جواز رجوع العامیّ إلی الانفتاحیّ أیضاً فی موارد الطرق

ص : 235

نعم، لو جرت المقدمات کذلک، بأن انحصر المجتهد، ولزم من الاحتیاط المحذور، أو لزم منه العسر مع التمکن من إبطال وجوبه حینئذ، کانت منتجة لحجیته فی حقه أیضاً، لکن دونه خرط القتاد، هذا علی تقدیر الحکومة.

وأما علی تقدیر الکشف وصحته، فجواز الرجوع إلیه فی غایة الإشکال لعدم

والأمارات المعتبرة بالخصوص، فإنّ اعتبارها عند الماتن قدس سره ومن یقول بقوله هو جعل الحجیّة یعنی المنجّزیّة والمعذریّة لها، فلا یکون المجتهد فی موارد قیامهما عالماً بالأحکام الشرعیّة المجعولة للوقایع، وعدم علمه بالحکم الواقعی ظاهر، وعدم علمه بالحکم الظاهریّ هو مقتضی الالتزام بأنّه یثبت للأمارة مع اعتبارها ما کان ثابتاً للعلم عقلاً من المنجّزیة والمعذریة، لا جعل مؤدّی الطرق والأمارات حکماً شرعیّاً ظاهریّاً کما علیه الشیخ قدس سره .

وأجاب الماتن قدس سره عن الإشکال بأنّ دلیل اعتبار الأمارة مقتضاه اعتبارها فی حقّ الجمیع ممّن لا یعلم الحکم الشرعیّ الواقعیّ فی الواقعة من دون اختصاص اعتباره بالمجتهد، والعامیّ یرجع إلی المجتهد الانفتاحیّ فیما یعلم المجتهد من قیام أمارة فی الواقعة علی التکلیف أو الحکم الشرعیّ الکذائیّ فی الواقعة.

لا یقال: العامیّ یرجع إلی المجتهد الانفتاحیّ فی موارد فقد الأمارة المعتبرة والأصل الشرعیّ، فلا یکون للمجتهد الانفتاحیّ فیها علم بالحکم الواقعیّ کما هو الفرض ولا بالحکم الشرعیّ الظاهریّ کما هو مقتضی فقد الأصل الشرعی.

وأجاب الماتن قدس سره عن ما یستفاد من ظاهر کلامه بأنّ العامیّ یرجع فی تلک الوقایع إلی المجتهد فیما یعلمه المجتهد من فقد الأمارة والأصل الشرعیّ، وبعد ذلک یعمل العامی بما هو وظیفته عند العقل ولو کان ما استقلّ به عقله غیر ما یستقلّ به مجتهد نفسه من البراءة أو الاحتیاط.

ص : 236

مساعدة أدلة التقلید علی جواز الرجوع إلی من اختص حجیة ظنه به، وقضیة مقدمات الإنسداد اختصاص حجیة الظن بمن جرت فی حقه دون غیره، ولو سلم أن قضیتها کون الظن المطلق معتبراً شرعاً، کالظنون الخاصة التی دل الدلیل علی اعتبارها بالخصوص، فتأمل.

إن قلت: حجیة الشیء شرعاً مطلقاً لا یوجب القطع بما أدی إلیه من الحکم

فی الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ فی الاُصول الشرعیّة

أقول: الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ فی موارد الطرق والأمارات المعتبرة بلا محذور، فإنّ معنی اعتبار الأمارة اعتبارها علماً بالواقع، وإذا کان مقتضی دلیل الاعتبار أنّ المجتهد فی موارد قیامها بثبوت التکلیف أو نفیه عالم بتلک التکالیف والأحکام أو نفیهما تکون فتواه بثبوتها أو نفیها فتوی بالعلم لا بغیر العلم، ومقتضی جواز أدلّة رجوع الجاهل إلی العالم جواز أخذ العامیّ بفتواه فی تلک الوقایع، وکذا الحال فی رجوع العامیّ إلی المجتهد فی موارد جریان الاُصول المحرزة والاُصول الشرعیّة التی مفادها حکم شرعی ظاهریّ، إلاّ أنّه قد یشکل الرجوع إلی المجتهد الانفتاحیّ فی موارد رجوعه إلی الاُصول الشرعیّة والاُصول العقلیّة بأنّ الموضوع للاُصول العملیّة عدم إمکان تحصیل العلم بالحکم الواقعیّ بالفحص عن طریق الحکم الواقعیّ وإحراز التکلیف، وهذا الموضوع محقّق فی حقّ المجتهد الذی یتمسّک بالاُصول العملیّة، ولکنّ الموضوع غیر تامّ فی حقّ العامیّ إذا کان فی البین مجتهد انفتاحیّ آخر یری _ ولو فی بعض تلک المسائل _ قیام الطریق المعتبر بالحکم والتکلیف الواقعیّ، نظیر ما تقدّم فی عدم جواز رجوع العامیّ إلی المجتهد الانسدادیّ مع وجود مجتهد انفتاحیّ، لعدم تمامیّة موضوع اعتبار مطلق الظنّ فی حقّ العامیّ، بعدم تمامیّة مقدّمات الانسداد فی حقّه.

ص : 237

ولو ظاهراً، کما مر تحقیقه، وأنه لیس أثره إلاّ تنجز الواقع مع الإصابة، والعذر مع عدمها، فیکون رجوعه إلیه مع انفتاح باب العلمی علیه أیضاً رجوعاً إلی الجاهل، فضلاً عما إذا انسد علیه.

وقد استشکلنا بذلک علی سیّدنا الاُستاذ أطال اللّه بقاءه، وأجاب بما(1) حاصله أنّ الإشکال غیر صحیح علی إطلاقه وإن کان صحیحاً فی الجملة، وأوضح ذلک بأنّ من یفتی بعدم وجوب فعل علی المکلّفین لعدم تمامیّة الحجّة علی الوجوب عنده، إمّا أن یکون أعلم ممّن یفتی بوجوبه بزعم قیام طریق معتبر فیه، وإمّا أن لا یکون أعلم منه.

فعلی الأوّل: لا یکون قول غیره حجّة فی حقّ العامیّ، لیکون مانعاً من الرجوع إلی الحکم الذی استفاده الأعلم من الأصل العملیّ، والوجه فی عدم حجیّة قول غیره حتّی فی حقّ العامیّ ما یأتی من أنّ الدلیل علی حجیّة الفتوی فی حقّ العامیّ _ أیّاً ما فرض غیر السیرة العقلائیّة _ لا یشمل المتعارضین وصورة العلم بمخالفة مجتهدین فی الفتوی، کما هو الحال فی الدلیل القائم علی اعتبار کلّ أمارة، وفی الفرض لا یشمل ذلک الدلیل شیئاً من الفتویین، لما ذکرنا أنّ الأصل سقوط المتعارضین عن الاعتبار. نعم السیرة العقلائیّة جاریة علی اتّباع قول الأعلم من أهل الخبرة عند اختلافهم، وعلی ذلک فلا تکون فتوی المجتهد غیر الأعلم بالحکم الواقعیّ مانعاً عن الرجوع إلی من ینکر قیام الدلیل علی الحکم الواقعیّ.

وعلی الثانی: أی ما إذا لم یکن الانفتاحیّ أعلم، إمّا أن یعلم العامیّ بفتوی من یقول بالتکلیف الواقعیّ لقیام الطریق عنده أو یکون جاهلاً به، فإن کان جاهلاً فالأمر

ص : 238


1- 1) مصباح الاُصول 3:439.

قلت: نعم، إلاّ أنه عالم بموارد قیام الحجة الشرعیة علی الأحکام، فیکون من رجوع الجاهل إلی العالم.

إن قلت: رجوعه إلیه فی موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التی یکون المرجع فیها الأصول العقلیة، لیس إلاّ الرجوع إلی الجاهل.

کما ذکر فی الصورة الاُولی من اعتبار فتوی المجتهد ما لم یعلم تفصیلاً أو إجمالاً بالمخالفة مع الآخرین؛ وذلک فإنّ جواز الأخذ مع عدم العلم بالخلاف مقتضی أدلّة جواز التقلید علی ما یأتی، ولا یقاس ذلک بموارد تمکّن المجتهد من الطریق إلی التکلیف فی الشبهات الحکمیّة، حیث لا یجوز له الرجوع إلی الأصل العملیّ فیها، فإنّ موضوع اعتبار الأصل عدم الحجّة للتکلیف وهو غیر محرز قبل الفحص، فإنّ الطریق بوجوده الواقعیّ مع إمکان الوصول إلیه طریق بالإضافة إلی المجتهد، وأین هذا من محلّ الکلام فی العامیّ؟ حیث إنّ فتوی من یفتی بالتکلیف غیر معتبر فی حق العامیّ قبل الوصول إلیه.

وأمّا علی فرض علم العامیّ بفتوی المجتهد الآخر بالتکلیف فالصحیح فی مورده عدم جواز الرجوع إلی المجتهد الأوّل الذی یتمسّک بالأصل الشرعیّ، ولا الثانی لمعارضة فتوی کلّ منهما مع الآخر، فلابدّ للعامیّ من الاحتیاط، لکون الشبهة حکمیّة وقبل الفحص بالإضافة إلیه، نعم لو تمّ ما ذکر الشیخ قدس سره فی رسالته المعمولة فی الاجتهاد والتقلید من الإجماع علی عدم وجوب الاحتیاط علی العامیّ، وثبوت جواز الرجوع إلی کلّ منهما جاز له الرجوع إلی من یفتی بعدم التکلیف، ویکون الإجماع هو الدلیل فی المسألة وإن کان خلاف القاعدة.

ولا یخفی أنّ فی هذا الجواب اعتراف بجواز رجوع العامیّ إلی المجتهد الانسدادیّ إذا کان أعلم من المجتهد الانفتاحیّ إذا سقطت فتوی الانفتاحیّ غیر

ص : 239

الأعلم فی الوقایع التی یزعم فیها قیام الطریق بقول المجتهد الانسدادیّ، سواء التزم الانسدادیّ بمقدّمات الانسداد علی الحکومة أو علی الکشف، فإنّ الأعلم أقوی خبرة بثبوت الطرق الخاصّة وعدم ثبوتها ومدالیلها، ومقتضی السیرة المشار إلیها اتّباع قوله، فإن تمّت عنده مقدّمات الانسداد علی نحو الحکومة فیرجع العامیّ إلی ذلک المجتهد فی کون الوظیفة للکلّ فی الوقایع الامتثال الظنّی، وکذا تشخیص موارده، لکونه من أهل خبرة ذلک، وفی کون الوظیفة جواز الاقتصار علیها إذا لم یمکن للعامیّ إحراز ذلک من وجه آخر.

وإن تمّت المقدمات عنده علی نحو الکشف فیرجع إلی الانسدادیّ فی تشخیص موارد قیام الظنّ بالتکلیف وکون الوظیفة العمل بالظنون الموجودة فی الوقایع؛ لأنّ نظر الانسدادیّ أنّ وظیفة الکلّ الالتزام بما یلتزم هو من الوظیفة.

نعم لو قیل إنّ مقتضی ما ورد فی جواز التقلید هو رجوع الجاهل بالحکم الشرعیّ الکلّی فی الواقعة إلی العالم به، وأنّ الانسدادیّ علی الحکومة لا یعرف الحکم الشرعیّ فی الوقایع، یکون الرجوع إلیه کالرجوع إلی الانفتاحیّ فی موارد الاُصول العقلیّة، وأمّا الرجوع إلی الانسدادیّ علی نحو الکشف فلا محذور فیه؛ لأنّه عالم بالحکم الشرعیّ الفعلیّ فی الوقایع، لاعتبار الشارع الظنّ النوعیّ وظنّه الشخصی علماً بالحکم الشرعیّ، واختصاص اعتبار الظنّ فی خصوص حقّه لا ینافی جواز الرجوع إلیه بعد کون مظنونه هو الحکم الفرعیّ الکلّی، نظیر العلم الوجدانی فإنّ اعتباره مختصّ بالعالم، ومع ذلک لا ینافی جواز الرجوع إلیه بأدلّة وجوب تعلّم الأحکام من العالم بها.

وعلی الجملة وجود المجتهد الانفتاحیّ مع کونه غیر أعلم لا یمنع عن جواز

ص : 240

قلت: رجوعه إلیه فیها إنما هو لأجل اطلاعه علی عدم الأمارة الشرعیة فیها، وهو عاجز عن الاطلاع علی ذلک، وأما تعیین ما هو حکم العقل وأنه مع عدمها هو البراءة أو الإحتیاط، فهو إنما یرجع إلیه، فالمتبع ما استقل به عقله ولو علی خلاف ما ذهب إلیه مجتهده، فافهم.

وکذلک لا خلاف ولا إشکال فی نفوذ حکم المجتهد المطلق إذا کان باب العلم أو العلمی له مفتوحاً[1].

تقلید الانسدادیّ الأعلم خصوصاً بالإضافة إلی القائل بتمامیّة مقدّمات الانسداد علی الکشف.

[1] قد تقدّم أنّ للمجتهد المطلق منصب الإفتاء فی الوقایع، والفتوی إظهاره الحکم الشرعیّ الفرعیّ الکلّی فی الوقایع علی ما استنبطه من مدارک الأحکام، وهذا شروع فی أنّ له منصب القضاء أیضاً، والقضاء عبارة عن إنشائه الحکم الجزئیّ، لثبوت موضوعه فیما إذا ترافع إلیه عند الاختلاف فی ثبوته وعدمه، کما إذا کانت الکبری الشرعیّة المجعولة عند المتخاصمین محرزة، والاختلاف والتخاصم وقع بینهم فی ثبوت موضوعها وعدم ثبوته خارجاً، أو وقع المخاصمة بینهم فی واقعة، لاختلافهم فی الکبری الشرعیّة المجعولة فی الشریعة فیها، کما فی اختلاف زوجة المیّت مع سایر الورثة فی إرثها من العقار الذی ترکه زوجها.

وعلی الجملة ثبوت منصب القضاء وإنهاء الخصومة _ فی موارد الدعاوی المالیّة وسایر الحقوق التی تقع المخاصمة بین المترافعین _ للفقیه الجامع لشرایط الفتوی ثابت.

وأمّا الحکم الابتدائی من الفقیه _ سواء کان حکمه بثبوت الموضوع، کحکمه بتحقّق رؤیة الهلال أو من قبیل تعیین الوظیفة للناس بالنظر إلی رعایة المصالح العامّة اللازم رعایتها بنظره، کترک الناس بعض المباحات فی زمان ونحوه _ فهذا محلّ

ص : 241

وأما إذا انسد علیه بابهما ففیه إشکال علی الصحیح من تقریر المقدمات علی نحو الحکومة، فإن مثله _ کما أشرت آنفاً _ لیس ممن یعرف الأحکام، مع أن معرفتها معتبرة فی الحاکم، کما فی المقبولة، إلاّ أن یدعی عدم القول بالفصل، وهو وإن کان غیر بعید، إلاّ أنه لیس بمثابة یکون حجة علی عدم الفصل، إلاّ أن یقال

الخلاف والإشکال فی نفوذ هذا القسم من الحکم، وقد تعرّضنا لذلک تفصیلاً فی بحث القضاء کما تکلّمنا فی منصب القضاء الثابت له علی التفصیل.

والماتن قدس سره تأمّل فی ثبوت منصب القضاء وفصل الخصومة للمجتهد المطلق الانسدادیّ، وعمدة القول فی نفوذ هذا القسم من الحکم ما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة من قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه فإنّما استخفّ بحکم اللّه وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی اللّه»(1) والمناقشة فی نفوذ هذا الحکم تدور بین الإشکال فی سندها أو دلالتها أو فیهما معاً.

وأمّا السند فلا بأس به؛ لأنّ عمر بن حنظلة من المعاریف الذین لم یرد فی حقهم قدح.

نعم، یناقش فی دلالتها بأنّ ما قبل هذا الکلام قرینة جلیّة علی أنّ المراد بالحکم القضاء وفصل الخصومة، وأنّ النظر فی المصالح العامّة ورعایتها لم یکن فی زمان صدور الأخبار من المقبولة وغیرها بید المؤمنین حتّی یجعل الإمام علیه السلام منصب الحکومة علی الرعیّة لرواة أحادیثهم والناظر فی حلالهم وحرامهم، بل ربّما یقال لا یستفاد من المقبولة النصب وجعل منصب القاضی المنصوب بحیث یجب علی الخصم الحضور إذا أحضره للمرافعة بل غایة مدلولها النصب بنحو قاضی التحکیم،

ص : 242


1- 1) وسائل الشیعة 1:34، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات، الحدیث 12.

بکفایة انفتاح باب العلم فی موارد الإجماعات والضروریات من الدین أو المذهب، والمتواترات إذا کانت جملة یعتدّ بها، وإن انسد باب العلم بمعظم الفقه، فإنه یصدق علیه حینئذ أنه ممن روی حدیثهم علیهم السلام ونظر فی حلالهم علیهم السلام وحرامهم علیهم السلام : وعرف أحکامهم عرفاً حقیقة. وأما قوله علیه السلام فی المقبولة (فإذا حکم

بمعنی نفوذ قضائه إذا ترافع المتخاصمون إلیه ورضوا أن یحکم فی مرافعتهم، حیث لا یجوز الإغماض عن حکمه إذا حکم.

وهذا الکلام وإن لا یخلو عن التأمّل، فإنّ ظاهر معتبرة سالم بن مکرم الجمّال هو النصب بمنصب القاضی فی وجوب الترافع إلیه وقبول حکمه إذا حکم، قال: قال أبو عبداللّه علیه السلام : «إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه»(1) ووجه ظهوره أنّ تفریع وجوب الرجوع والتحاکم إلیه علی جعله علیه السلام قاضیاً ظاهره إعطاء منصب القضاء، ولتمام الکلام محلّ آخر.

نفوذ قضاء المجتهد الانسدادیّ وعدم نفوذه

ثمّ ذکر الماتن قدس سره أنّ نفوذ القضاء من المجتهد الانسدادیّ علی تقریره مقدّمات الانسداد علی نحو الحکومة مشکل، فإنّ مثله لا یعرف الأحکام، ومعرفتها قید للموضوع فی ثبوت منصب القضاء.

أقول: لا فرق علی مسلکه فی حجیّة الأمارات من أنّ المجعول لها المنجّزیة والمعذریّة دون اعتبار الأمارة علماً بالحکم الواقعیّ فی الوقایع، فالانفتاحیّ أیضاً لا یعرف فی الوقایع أحکامها وإن کان تنجّز التکالیف علی تقدیر ثبوتها فی موارد

ص : 243


1- 1) وسائل الشیعة 27:13 _ 14، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.

بحکمنا) فالمراد أن مثله إذا حکم کان بحکمهم حکم، حیث کان منصوباً منهم، کیف وحکمه غالباً یکون فی الموضوعات الخارجیة، ولیس مثل ملکیة دار لزید أو زوجیة امرأة له من أحکامهم علیهم السلام فصحة إسناد حکمه إلیهم علیهم السلام إنما هو لأجل کونه من المنصوب من قبلهم.

الأمارات القائمة بها کافیة فی صدق العنوان، فالمجتهد الانسدادیّ علی تقریر الحکومة أیضاً یعرف تنجّزها فی موارد الظنّ بها علی تقدیر ثبوتها واقعاً.

نعم علی القول بأنّ اعتبار الأمارة اعتبارها علماً بالواقع فاللازم الاستشکال فی ثبوت منصب القضاء للانسدادیّ القائل بالحکومة، دون القائل بالکشف فضلاً عن الانفتاحیّ.

اللهم إلاّ أن یقال: إنّ الترافع فی ثبوت الموضوع فی الوقایع المعلوم حکمها الواقعیّ وعدم ثبوته، وکذا فیما إذا کان منشأ الترافع والمخاصمة الاختلاف فی نفس الحکم الشرعیّ المجعول فی الواقعة مع علم الانسدادیّ بالحکم الواقعیّ فیها داخل فی مدلول معتبرة سالم بن مکرم، حیث إنّ الوارد فیها: «انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا»، فلا یکون نفس کون المجتهد انسدادیّاً قائلاً بانسداد باب العلم والعلمیّ فی معظم الوقایع، وتقریر مقدّماته علی نحو الحکومة لا یمنع عن نفوذ حکمه فی الاختلاف والترافع فی الموضوعات أو بعض الأحکام المشار إلیها، ولا یحتاج إلی دعوی عدم القول بالفصل، غایة الأمر لا ینفذ حکمه فی غیر الموردین، لعدم علمه فی غیرهما کما هو ظاهر الفرض.

ص : 244

وأمّا التجزّی فی الاجتهاد ففیه مواضع من الکلام:

الأوّل: فی إمکانه[1]. وهو وإن کان محل الخلاف بین الأعلام إلاّ أنه لا ینبغی الإرتیاب فیه، حیث کانت أبواب الفقه مختلفة مدرکاً، والمدارک متفاوتة سهولة وصعوبة، عقلیة ونقلیة، مع اختلاف الأشخاص فی الاطلاع علیها، وفی طول الباع وقصوره بالنسبة إلیها، فرب شخص کثیر الإطلاع وطویل الباع فی مدرک باب بمهارته فی النقلیات أو العقلیات، ولیس کذلک فی آخر لعدم مهارته فیها وابتنائه علیها، وهذا بالضرورة ربما یوجب حصول القدرة علی الإستنباط فی بعضها لسهولة مدرکه أو لمهارة الشخص فیه مع صعوبته، مع عدم القدرة علی ما لیس

التجزّی فی الاجتهاد

[1] قد قیل بعدم إمکان التجزّی فی الاجتهاد أی فی ملکة الاجتهاد، فالتجزّی فی الاجتهاد بمعنی ان تستنبط بعض الأحکام من مدارکها ویترک استنباط بعضها الآخر فإمکانه بل وقوعه ممّا لا کلام فیه، وموضوع البحث فی المقام أن یکون الشخص له اقتدار علی استنباط بعض الأحکام من مدارکها کالمجتهد المطلق، ولیس له اقتدار علی استنباط جملة اُخری، فهذا هو الذی قیل بعدم إمکانه، لکون ملکة الاستنباط والاقتدار علیه أمر بسیط کسایر الملکات، فلا یقبل التبعّض کما هو مقتضی بساطة الشیء، ولکن ضعفه ظاهر، فإنّ مسائل الفقه وأبوابها مختلفة بحسب المدارک، والمدارک تختلف بحسب السهولة والصعوبة، فربّ مسألة یکون المدرک فیها روایة أمر سندها ودلالتها مما لا صعوبة فیه، بخلاف بعض المسائل الاُخری، فإنّه ربّما تکون الروایات الواردة فیها متعدّدة مختلفة یحتاج إحراز تعارضها أو الجمع العرفیّ بینها إلی کثرة الخبرة والاُنس بالخطابات الشرعیّة والروایات والتأمّل فی المدالیل، وقد تکون مسائل فیها استنباط الأحکام محتاجاً إلی ضمّ مقدّمة أو

ص : 245

کذلک، بل یستحیل حصول اجتهاد مطلق عادة غیر مسبوق بالتجزی، للزوم الطفرة. وبساطة الملکة وعدم قبولها التجزئة، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلی بعض الأبواب، بحیث یتمکن بها من الإحاطة بمدارکه، کما إذا کانت هناک ملکة الإستنباط فی جمیعها، ویقطع بعدم دخل ما فی سائرها به أصلاً، أو لا یعتنی باحتماله لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للإطمئنان بعدم دخله، کما فی الملکة المطلقة، بداهة أنه لا یعتبر فی استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلاً علی مدارک جمیع المسائل، کما لا یخفی.

الثانی: فی حجیة ما یؤدی إلیه علی المتصف به، وهو أیضاً محل الخلاف، إلاّ أن قضیة أدلة المدارک حجیته، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق، ضرورة أن بناء العقلاء علی حجیة الظواهر مطلقاً، وکذا ما دلّ علی حجیة

مقدّمات عقلیّة، ویختلف الأشخاص بحسب قصور الباع وطوله بالإضافة إلی تنقیح تلک المقدّمات وتطبیقها علی مواردها، فیوجب کلّ ذلک حصول الاقتدار وحصول بعض مرتبة منه قبل حصول مرتبة اُخری إلی أن تکمل المرتبة العلیا، ولیس المراد أنّ حصول مرتبة منه من المقدّمة لحصول مرتبة أعلی منه کما هو ظاهر الماتن قدس سره حیث ذکر لزوم التجزّی، وعدم حصول الاجتهاد المطلق بدونه عادة، وعلّله بلزوم الطفرة.

وعلی الجملة الاقتدار علی استنباط أحکام المعاملات وتعیین المشروع منها عن غیر المشروع غیر الاقتدار علی استنباط ما یعتبر فی العبادات والتکالیف المتعلّقة بها، حیث إنّ المدار فی جلّ المعاملات أی العقود والإیقاعات لقلّة الخطابات الشرعیة الواردة فیها سهلة تبتنی فی غالبها علی بعض الخطابات من الآیات والروایات والقواعد العامّة، فیکون الاقتدار علی الاستنباط فیها غیر ملازم لحصول الاقتدار علی الاستنباط فی العبادات والفروع الجاریة فیها، حیث إنّ الروایات فیها کثیرة وفی غالبها مختلفة کما

ص : 246

خبر الواحد، غایته تقییده بما إذا تمکن من دفع معارضاته کما هو المفروض.

الثالث: فی جواز رجوع غیر المتصف به إلیه فی کل مسألة اجتهد فیها، وهو أیضاً محل الإشکال، من أنه من رجوع الجاهل إلی العالم، فتعمّه أدلة جواز التقلید، ومن دعوی عدم إطلاق فیها، وعدم إحراز أن بناء العقلاء أو سیرة المتشرعة علی الرجوع إلی مثله أیضاً، وستعرف إن شاء اللّه تعالی ما هو قضیة الأدلة.

وأما جواز حکومته ونفوذ فصل خصومته فأشکل، نعم لا یبعد نفوذه فیما إذا عرف جملة معتدة بها واجتهد فیها، بحیث یصح أن یقال فی حقه عرفاً أنه ممن عرف أحکامهم، کما مر فی المجتهد المطلق المنسد علیه باب العلم والعلمی فی معظم الأحکام.

أشرنا إلیها، وإن شئت فلاحظ الاقتدار علی مسائل علم وتنقیحها غیر الاقتدار علی العلم بمسائل علم آخر، وکذلک الاقتدار فی مسائل علم واحد.

ثمّ إنّه لا ینبغی التأمّل فی أنّ المتجزی مع اجتهاده الفعلیّ فی بعض المسائل کالمجتهد المطلق یجوز له العمل باجتهاده، کما هو مقتضی اعتبار العلم والأمارة والاُصول حیث إنّ المفروض أنّ المتجزّی یعتمد فی تلک المسائل علی العلم والأمارة بعد الفحص اللازم فیها، ومع فقدها یعتمد علی الأصل، کما لا یبعد أن یعتمد العامیّ ویرجع إلیه فیها فی تلک المسائل إذا لم یعلم مخالفة نظره لمجتهد آخر مساوٍ له أو مجتهد مطلق _ تفصیلاً أو إجمالاً _ کما هو مقتضی أدلّة جواز التعلّم والأخذ بمعالم الدین من العارف بها الثقة المأمون، ولا یبعد نفوذ قضائه أیضاً فیما حصّله من أحکام الوقایع وکیفیّة الحکم المعتبر، حیث یعمّه قوله علیه السلام : یعلم شیئاً من قضایاهم ویروی أحادیثهم وینظر فی حلالهم وحرامهم، إذا کان بمقدار معتدّ به، لا مثل استنباط مسائل قلیلة معدودة کما لا یخفی.

ص : 247

ص : 248

فصل

لا یخفی احتیاج الاجتهاد إلی معرفة العلوم العربیّة فی الجملة، ولو بأن یقدر علی معرفة ما یبتنی علیه الاجتهاد فی المسألة بالرجوع إلی ما دوّن فیه، ومعرفة التفسیر کذلک[1].

العلوم التی تعدّ من مبادئ الاجتهاد

[1] تعرّضوا فی مباحث الاجتهاد لما یتوقف علیه من العلوم المعدودة من مبادیه، وذکر الماتن قدس سره من المبادئ وعدّ کغیره من مبادئ الاجتهاد علوم العربیّة، فإنّ المستند للأحکام الشرعیّة الفرعیّة فی غالبها الکتاب والسنة یعنی الأخبار المأثورة من المعصومین (صلوات اللّه وسلامه علیهم)، ومن الظاهر أنّ استظهار أیّ حکم فی الوقایع منهما یتوقّف علی العلم بمعانی اللغات ومفاد الهیئات الترکیبیّة علی اختلافها، والمتکفّل لذلک علم اللغة والصرف والنحو، ولا یعتبر حضور الذهن بها فی الاجتهاد، بل بحیث لو راجع إلی الکتب المدوّنة فیها تمکّن من معرفتها، ولیس لازم ذلک اعتبار قول اللغویّ أو النحویّ فی نفسه، بل المراجعة إلی تلک الکتب ربّما یوجب تعیین ظهور الآیة أو الخبر الموضوع للاعتبار بعد الفحص عن القرینة علی خلافه أو إحراز عدم المعارض له.

وقد ذکر من تلک العلوم علم التفسیر، فإنّ معرفته أیضاً من مبادئ الاجتهاد، والمراد من معرفته التمکّن من عرفانه ولو بالمراجعة إلی مصادره، فإنّ التفسیر یطلق علی معنیین؛ أحدهما: تعیین المراد من المجمل والمتشابه، والثانی: تعیین المراد فیما یکون علی خلاف ظاهر الآیة أو بیان أن المراد المعنی العامّ، یعمّ غیر معنی ظاهره.

ص : 249

وعمدة ما یحتاج إلیه هو علم الأصول، ضرورة أنه ما من مسألة الا ویحتاج فی استنباط حکمها إلی قاعدة أو قواعد برهن علیها فی الأصول، أو برهن علیها مقدمة فی نفس المسألة الفرعیة، کما هو طریقة الأخباری، وتدوین تلک القواعد

وممّا ذکر یعلم أنّ التفسیر لابدّ من أن یکون دلیله نفس الکتاب المجید أو من السنة والأخبار المعتبرة والنقل المتواتر الإجمالیّ، وهذا النحو من الدلیل لا یتعرّض له تماماً فی الکتب المرسومة فی التفسیر، فلابدّ للمجتهد من معرفة مصادره ولو من غیر کتب التفسیر من کتب الأخبار، وأمّا تشخیص ظواهر الآیات من حیث المواد والهیئات الترکیبیّة، وهیئات الألفاظ الواردة من المشتقات فقد تقدّم أنّ المتکفّل لمعرفتها علوم العربیّة.

وقد ذکر قدس سره أنّ عمدة ما یتوقف علیه الاجتهاد هو معرفة المسائل الاُصولیّة وتنقیح نتایجها، فإنّه ما من مسألة فرعیّة فی الفقه یتوقّف استنباط الحکم الشرعیّ فیها علی ضمّ مقدّمة أو مقدّمات اُحرزت فی علم الاُصول وتحسب من نتایج مسائله، وتدوین تلک المسائل مستقلاًّ وتسمیتها بعلم الاُصول أو تنقیحها فی الکتب الفقهیّة تمهیداً لمسائلها من غیر تدوینها فی کتاب مستقلّ وتسمیتها بعلم الاُصول غیر فارق، حیث إنّ تدوین تلک القواعد وجمعها فی کتاب مستقلّ لیس إلاّ کجمع مسائل الفقه وبیان أدلّتها فی کتاب مستقلّ. وکذا الحال فی غیرها من العلوم، فلیس للأخباریّ الدعوی لکون علم الاُصول بدعة إلاّ تحاشی تدوین تلک المقدمات مستقلاًّ لا إنکار أصلها رأساً،

وقد ذکرنا أنّ التدوین مستقلاًّ لا یدخل فی موضوع البدعة، ودعوی أنّ الاجتهاد والفقاهة کان فی الصدر الأوّل ولم تکن تلک القواعد کما تری، فإنّ جملة من تلک القواعد کحجیّة الظواهر والأخبار والعلاج فی التعارض بین الأخبار وغیر ذلک

ص : 250

المحتاج إلیها علی حدة لا یوجب کونها بدعة، وعدم تدوینها فی زمانهم علیهم السلام لا یوجب ذلک، وإلاّ کان تدوین الفقه والنحو والصرف بدعة.

وبالجملة لا محیص لأحد فی استنباط الأحکام الفرعیة من أدلتها إلاّ الرجوع

کانت فی الصدر الأوّل ولم تکن مدوّنة فی کتاب مستقلّ، وبعض القواعد کمباحث الاستلزامات، کمسألة اقتضاء النهی عن معاملة أو عبادة ومسألة جواز اجتماع الأمر والنهی کانت فی أذهان الفقهاء فی ذلک الزمان بصورة الارتکاز، فإنّهم أیضاً یرون أنّ مقتضی النهی عن التصرف فی ملک الغیر والأمر بالوضوء أو الاغتسال أو الصلاة فی ملک الغیر یرفع الید عن إطلاقات خطابات الأمر بها بخطاب النهی، ولکن بما أنّه حدث فی الأزمنة المتأخرة شبهة إمکان الأخذ بالإطلاق فی کلّ من خطابی الأمر والنهی صارت مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی وعدم جوازه بالصورة الفعلیة، وأنّهم یفهمون من مثل قوله سبحانه «إذا قمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم»(1) وجوب الوضوء ومن مثل قوله علیه السلام : «اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل»(2) وجوب الغسل، ووقع فی کلام المتأخرین أنّ الأمر فی مثل هذه الموارد إرشادیّ ولیس بمولویّ، فادعی بعضهم أنّ الأمر فیها مولویّ غیریّ، لأنّ الأمر بالشیء وإیجابه یستلزم إیجاب مقدّمته، والکلام وقع فی صحة أحد النظرین والثمرة بینهما، فاُخرجت مسألة مقدّمة الواجب و البحث عن الملازمة بین الإیجابین بصورة فعلیّة إلی غیر ذلک.

ثمّ إنّ الماتن قدس سره لم یتعرض لعلم المنطق، ولم یذکر أنّه من مبادئ الاجتهاد، ولعلّه لکون ما هو لازم فی الاجتهاد من کلّیة الکبری وکون صغراها موجبة ونظائر

ص : 251


1- 1) سورة المائدة: الآیة 6.
2- 2) وسائل الشیعة 3:405، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

إلی ما بنی علیه فی المسائل الأصولیة، وبدونه لا یکاد یتمکن من استنباط واجتهاد، مجتهداً کان أو أخباریاً. نعم یختلف الإحتیاج إلیها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد فی الصدر الأول، وعدم حاجته إلی کثیر مما یحتاج إلیه فی الأزمنة اللاحقة، مما لا یکاد یحقق ویختار عادة إلاّ بالرجوع إلی ما دوّن فیه من الکتب الأصولیة.

ذلک من الضروریّات والواضحات لا یحتاج إلی إقامة البرهان، ولا یتوقّف الاجتهاد علی معرفة الاصطلاحات فیها من التسمیّة بالشکل الأول فی القیاس، وکون القضیة الموجبة اسمها صغری، والمحمول الموضوع فی القضیة الکلیّة مع محمولها کبری، إلی غیر ذلک من المصطلحات، کما أنّه لم یتعرض لعلم الرجال ولزوم معرفتها فی الاجتهاد ولعلّه لیس هو فی الاصطلاح من العلوم، ولکن بما أنّ المدرک فی معظم المسائل الفقهیّة الأخبار المأثورة عن المعصومین علیهم السلام ، وکما نحتاج فی معرفة مدالیلها إلی معرفة العلوم العربیّة کذلک نحتاج فی معرفة أسانیدها وتمییز رواتها إلی عرفان الرواة ورجال الطبقات، هذا بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ الأخبار المخرجة فی کتب الأخبار المعروفة فی غالبها داخلة فی عنوان أخبار الآحاد، ولا یعتبر منها ما لم یکن مقترناً بقرینة موجبة للعلم بصحتها والوثوق بها غیر أخبار الثقات والعدول والحسان.

نعم لو التزم أحد بأنّ الأخبار المخرجة فی تلک الکتب هی قول المعصوم علیه السلام ، وإنّما ذکر السند لها للزینة وخروجها عن صورة المقطوعة والمرفوعة والمرسلة، کما زعم ذلک جلّ الأخباریین، أو التزم بأن کلّ ما عمل به المشهور من أخبارها یکشف عملهم عن إحرازهم القرینة علی صحّتها، وما ترکوها کاشف عن إحرازهم القرینة علی خلاف ذلک، فلا تکون حاجة إلی علم الرجال، ولکن شیء من الالتزامین لم یتمّ

ص : 252

له دلیل ووجه یمکن الاعتماد علیه، وتمام الکلام فی مقدّمات الطبقات، وأمّا الاعتذار بعدم کون علم الرجال علماً بالمعنی المصطلح فلا یفید شیئاً، فإنّ علم اللغة أیضاً لیس علماً بالمعنی المصطلح مع أنّه داخل فی المراد من العلوم العربیّة.

ص : 253

ص : 254

فصل

اتفقت الکلمة علی التخطئة فی العقلیّات[1].

التخطئة والتصویب

اشارة

[1] لا ینبغی التأمّل ولا خلاف فی التخطئة فی العقلیّات سواء کانت عقلیّة محضة کامتناع إعادة المعدوم وإمکان إعادته، وامتناع الجزء الذی لم یتجزّأ أو إمکانه، حیث لا یعقل التصویب عن القائلین بکلّ من الإمکان والامتناع؛ لاستلزامه کون شیء ممکناً وممتنعاً، أو کانت من العقلیات التی لها دخل فی استنباط الأحکام الشرعیّة کمسألة جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد من جهتین _ سواء کانت الجهتان اتحادیّتین أو کان الترکیب بینهما انضمامیّاً _ فإنّ الاجتماع کذلک لا یمکن أن یکون ممکناً وممتنعاً، وإنّما وقع الخلاف بیننا وبین مخالفینا فی الشرعیّات، حیث التزم مخالفونا فیها بالتصویب فی الاجتهاد، فإن أرادوا أنّه لیس فی الوقایع حکم شرعیّ مجعول مع قطع النظر عن الاجتهاد فی حقّ جمیع المکلفین فی الوقایع، بل الحکم المجعول فی حقّ کلّ مجتهد ومقلّدیه ما یؤدّی إلیه اجتهاده فی المسائل، ولکن بما أنّ اللّه سبحانه یعلم ما یؤدّی إلیه اجتهاد کلّ مجتهد جعل ذلک الحکم فی حقّه من الأوّل، نظیر ما قیل فی الواجب التخییریّ من أنّ الواجب فی حقّ کلّ مکلف واحد معیّن من الخصال وهو ما یعلم اللّه سبحانه أنّه یختاره.

وظاهر الماتن قدس سره إمکان التصویب بهذا المعنی وأنّه لیس بمستحیل إلاّ أنّه مخالف لإجماع أصحابنا، وللأخبار المستفاد منها أنّ للّه فی کلّ واقعة حکماً یشترک فیه الجاهل والعالم، وإن أرادوا أنّ الحکم المجعول فی حقّ کلّ مجتهد یترتّب علی فعلیّة اجتهاده بأن لا یکون فی کلّ واقعة حکم مجعول قبل اجتهاده، وإنما یثبت الحکم فی الواقعة بعد اجتهاده، بمعنی أنّ اللّه یکتب بعد اجتهاده ما أدّی إلیه اجتهاده

ص : 255

واختلفت فی الشرعیات، فقال أصحابنا بالتخطئة فیها أیضاً، وأن له تبارک وتعالی فی کل مسألة حکم یؤدی إلیه الإجتهاد تارة وإلی غیره أخری.

وقال مخالفونا بالتصویب، وأن له تعالی أحکاماً بعدد آراء المجتهدین، فما یؤدی إلیه الاجتهاد هو حکمه تبارک وتعالی، ولا یخفی أنه لا یکاد یعقل الاجتهاد فی حکم المسألة إلاّ إذا کان لها حکم واقعاً، حتی صار المجتهد بصدد استنباطه

فهذا أمر غیر معقول، حیث إنّه إذا لم یکن قبل اجتهاده حکم مجعول فی حقّه فکیف یفحص عنه إلاّ أن یلتزم بحکم إنشائیّ محض فی کلّ واقعة والمجتهد یفحص عنه، ویصیر ما یؤدّی إلیه اجتهاده حکماً فعلیّاً حقیقیّاً فی حقّه سواء صادف ذلک الحکم الإنشائیّ المجعول أم یؤدّی إلی غیره، وذلک الحکم الإنشائیّ المحض مع قطع النظر عن العلم به لیس بحکم حقیقة، وهذا القسم من التصویب یلتزم به القائل باعتبار الطرق والأمارات علی مسلک السببیّة والموضوعیّة، وربّما یشیر إلیه ما عن بعض أصحابنا من أنّ ظنیّة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم أی قطعیّة الحکم الفعلی.

نعم بناءً علی مسلک الطریقیّة فی الأمارات والطرق المعتبرة یقال بأنّ مؤدّیات الطرق أحکام شرعیّة طریقیّة لا نفسیّة، فیوجب عند إصابتها للواقع بلوغ الأحکام الواقعیة النفسیّة بمرتبة الفعلیّة فتکون منجزّة للواقع، ویمکن _ کما تقدّم فی بحث الأمارات _ أنّ مؤدّیاتها لیست بأحکام طریقیّة أیضاً، بل للأحکام الواقعیّة فعلیّة تبلغ مرتبة التنجّز بقیام الطریق وإصابته الواقع فتکون الأمارات منجّزة، ولا یکون للواقع تنجّز عند عدم قیام الحجّة علیه، بل لا یکون للواقع فعلیّة حینئذٍ.

أقول: الالتزام بإمکان کون المجعول فی حقّ کلّ مجتهد واقعاً ما یؤدّی فی علم اللّه اجتهاده إلیه، وأنّ المجتهد یفحص عنه عند اجتهاده علی قرار ما قیل فی الواجب التخییریّ أمر غیر معقول؛ لأنّ الاجتهاد عندهم هو تحصیل الظنّ بالحکم

ص : 256

من أدلته، وتعیینه بحسبها ظاهراً، فلو کان غرضهم من التصویب هو الإلتزام بإنشاء أحکام فی الواقع بعدد الآراء _ بأن تکون الأحکام المؤدی إلیها الاجتهادات أحکاماً واقعیة کما هی ظاهریة _ فهو وإن کان خطأ من جهة تواتر الأخبار، وإجماع أصحابنا الأخیار علی أن له تبارک وتعالی فی کل واقعة حکماً یشترک فیه الکل،

الشرعیّ، والظنّ ینافی فرض العلم به، فاللازم أن یکون ما تعلّق به الظنّ غیر ما تعلّق العلم والجزم به، أضف إلی ذلک أنّ ما ذکر البعض فی الواجب التخییری باطل، فإنّه إذا لم یختر المکلّف من الخصال شیئاً فلا یکون فی حقّه تکلیف أیضاً، کالمجتهد الذی لم یجتهد فی الحکم الشرعیّ فی الوقایع أصلاً مع تمکّنه منه حیث لا یکون فی حقّه فی الوقایع حکم وتکلیف أصلاً مع کونه متمکّناً منه لکونه ذا ملکة الاجتهاد.

واللازم علی القائل بالتصویب أن یلتزم باعتبار الطرق والأمارات علی نحو السببیّة والموضوعیّة، أو یلتزم بالمصلحة السلوکیّة بحیث یکون العمل بالأمارات والطرق عدلاً حقیقة للواقع علی تقدیر خطئها عن الواقع، لا أن یکون صلاح اعتبارها مجرّد تسهیل الأمر علی المکلّفین، بحیث یکون العمل علیها عند خطئها عذراً فی مخالفة الواقع ما لم ینکشف الخطأ علی ما تقدّم فی بحث إمکان التعبّد بالأمارات حتّی فی صورة الوصول إلی الواقع بالعلم الوجدانیّ، وفی الواقع والحقیقة تکون المصلحة فی اعتبارها لا فی العمل بها کما بیّنا(1) هناک.

والروایات الواردة فی وجوب طلب العلم بمعالم الدین وعدم کون الجهل بها _ مع التمکّن من تحصیل العلم بها والعمل علیها _ عذراً، والأمر بالاحتیاط فی الشبهات والترغیب إلیه فیها، ومقتضی إطلاقات خطابات الأحکام والتکالیف،

ص : 257


1- 1) مصباح الاُصول 3:445.

إلاّ أنه غیر محال، ولو کان غرضهم منه الإلتزام بإنشاء الأحکام علی وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد، فهو مما لا یکاد یعقل، فکیف یتفحص عما لا یکون له عین ولا أثر، أو یستظهر من الآیة أو الخبر، إلاّ أن یراد التصویب بالنسبة إلی الحکم الفعلی، وأن المجتهد وإن کان یتفحص عما هو الحکم واقعاً وإنشاءً، إلاّ أن ما أدی إلیه اجتهاده یکون هو حکمه الفعلی حقیقة، وهو مما یختلف باختلاف الآراء ضرورة، ولا یشترک فیه الجاهل والعالم بداهة، وما یشترکان فیه لیس بحکم حقیقة بل إنشاءً، فلا استحالة فی التصویب بهذا المعنی، بل لا محیص عنه فی الجملة

ثبوتها فی حقّ کلّ مکلّف حتی فی صورة الجهل وإمکان الوصول إلی رعایتها ولو بالاحتیاط فی موارد احتمالاتها.

والأحکام الظاهریّة فی موارد الجهل بها التی تکون مفاد الاُصول الشرعیّة لا توجب رفع الید عن إطلاقاتها؛ لما بیّناه من عدم المنافاة بین التکلیف الواقعیّ والترخیص الظاهریّ مع عدم الوصول إلیه بعد الفحص وعدم وجدان ما یدلّ علیه.

وقد یقال(1): بعدم تحقق التخطئة فی موارد الاُصول الشرعیّة بل مطلق الاُصول العملیّة، فلا یکون مجتهد یعمل بالأصل العملیّ فی مورد مخطئاً ومجتهد آخر لا یعمل به مصیباً، کما إذا رأی مجتهد عدم اعتبار الأخبار الحسان ویعمل فی مواردها بالأصل العملیّ، ویری مجتهد آخر اعتبار تلک الأخبار ویأخذ بها ویترک الأصل العملیّ، فلا یکون أحدهما مخطئاً والآخر مصیباً، بمعنی أنّ کلّ واحد یعمل علی وظیفته، فإنّ الأخبار الحسان لو کانت معتبرة واقعاً إنّما یکون اعتبارها مع وصول ذلک الاعتبار إلی المکلّف، ومع فحص المحتهد وعدم وصوله إلی ما یدلّ

ص : 258


1- 1) دروس فی مسائل علم الاُصول 3:107.

بناءً علی اعتبار الأخبار من باب السببیة والموضوعیة کما لا یخفی، وربما یشیر إلیه ما اشتهرت بیننا أن ظنیة الطریق لا ینافی قطعیة الحکم.

نعم بناءً علی اعتبارها من باب الطریقیة، کما هو کذلک، فمؤدیات الطرق والأمارات المعتبرة لیست بأحکام حقیقیة نفسیة، ولو قیل بکونها أحکاماً طریقیة، وقد مر غیر مرة إمکان منع کونها أحکاماً کذلک أیضاً، وأن قضیة حجیتها لیس إلاّ تنجز [تنجیز] مؤدیاتها عند إصابتها، والعذر عند خطئها، فلا یکون حکم أصلاً إلاّ الحکم الواقعی، فیصیر منجزاً فیما قام علیه حجة من علم أو طریق معتبر، ویکون غیر منجز بل غیر فعلی فیما لم تکن هناک حجة مصیبة، فتأمل جیداً.

علی اعتبارها یکون موضوع الأصل العملیّ فی حقّه فعلیّاً بخلاف المجتهد الآخر.

أقول: إن اُرید ما ذکر من نفی التخطئة فی موارد الاُصول العملیّة فله وجه، وإن اُرید غیر ذلک فلا یمکن المساعدة علیه، کالالتزام بالتصویب فیما إذا کان مجتهد یری اعتبار الاستصحاب مطلقاً فی الشبهات الحکمیّة، ثمّ تغیّر نظره إلی عدم اعتباره فیها فیأخذ بأصل البراءة فی الموارد التی کان یستصحب التکلیف، فإنّ الالتزام بعدم خطئه فی کلتا الحالتین کما تری. ونظیر ذلک ما إذا کان نظره إلی قیام الطریق المعتبر إلی التکلیف الواقعیّ، فکان یفتی به، ثمّ ظهر عدم اعتباره وأنّ المورد من موارد الأصل العملی، فإنّه لا یتحقّق موضوع الأصل العملیّ من حین تغیّر نظره، بل یکشف أنّ المورد کان من موارد الأصل العملیّ من الأوّل؛ لأنّ احتمال الخلاف کان من الأوّل موجوداً، فقد تخیّل أنّ ما قام فی المسألة علم بالواقع اعتباراً، ثمّ ظهر أنّه لم یکن کذلک.

ص : 259

ص : 260

فصل

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل الرأی الأول بالآخر أو بزواله بدونه فلا شبهة فی عدم العبرة به فی الأعمال اللاحقة، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقاً أو الاحتیاط فیها[1].

اضمحلال الاجتهاد السابق

[1] إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل نظر المجتهد إلی نظر آخر أو زال نظره الأوّل من غیر أن یستقرّ إلی نظر آخر فلا ینبغی التأمّل فی أنّه لا عبرة بنظره السابق بالإضافة إلی الأعمال اللاحقة، بل یتعیّن علیه العمل فیها بنظره اللاحق مطلقاً أی بلا فرق بین أن یکون اجتهاده الأوّل والثانی من الجزم بالواقع أم لا، کما أنّ علیه الاحتیاط فی الأعمال اللاحقة فیما زال نظره السابق من غیر استقرار نظره إلی شیء، فإنّ الاجتهاد الأوّل إن کان جزماً منه بالواقع فقد فرض زواله، وإن کان بحسبانه أنّ نظره السابق کان مدلول دلیل معتبر، وقد فرض ظهور أنّه لیس بمدلول دلیل معتبر بالظفر بالمقیّد أو المخصّص أو القرینة علی خلاف مدلوله أو بالظفر بالمعارض أو ظهور ضعف سنده، وإن کان بالاعتماد علی الأصل الشرعیّ فقد تبیّن أنّ المورد لیس من موارد ذلک الأصل، ویلزم علیه العمل بنظره اللاحق إذا فرض تبدّله إلیه، ولزوم الاحتیاط مع زوال نظره السابق وعدم استقراره إلی نظر آخر حیث إنّه مع التبدّل یکون نظره اللاحق مستنداً إلی الحجة المعتبرة، ومع زواله وعدمه تکون الشبهة بالإضافة إلیه قبل الفحص، فیلزم علیه الاحتیاط إلی أن یصل إلی حجّة شرعیّة علی التکلیف أو عدمه، أو أن یصل إلی الاعتماد علی الأصل العملیّ سواء کان مثبتاً للتکلیف أو نافیاً له.

وإنّما الکلام فی المقام فی بقاء اعتبار الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلی الأعمال

ص : 261

وأما الأعمال السابقة الواقعة علی وفقه المختل فیها ما اعتبر فی صحتها بحسب هذا الاجتهاد، فلا بد من معاملة البطلان معها فیما لم ینهض دلیل علی صحة العمل فیما إذا اختل فیه لعذر، کما نهض فی الصلاة وغیرها، مثل: لا تعاد، وحدیث الرفع، بل الإجماع علی الإجزاء فی العبادات علی ما ادعی.

السابقة فلا یکون علیه التدارک ولا لمقلّدیه، أو یلزم تدارکها علی طبق الاجتهاد الثانی من إعادتها أو قضائها أو بغیر ذلک من التدارک کتجدید المعاملة السابقة، ویکون التدارک بعنوان الاحتیاط المشار إلیه علی تقدیر زوال الاجتهاد السابق وعدم استقرار نظره إلی أمر معیّن.

فقد ذکر الماتن قدس سره أنّ مقتضی القاعدة لزوم تدارک الأعمال السابقة علی طبق الاجتهاد اللاحق إلاّ فی موارد قیام الدلیل علی الإجزاء والصحة مع الخلل المحرز بالاجتهاد الثانی، کحدیث: «لا تعاد»(1) فی باب الصلاة وحدیث الرفع(2) فی الصلاة وغیرها، وکالإجماع علی ما ادّعی فی العبادات صلاة کانت أو غیرها، وعلّل قدس سره کون عدم الإجزاء مقتضی القاعدة بأنّه إن کان الاجتهاد الأوّل من الجزم بالحکم فقد اضمحلّ ولم یکن فی مورد الاجتهاد الأوّل إلاّ التکلیف والحکم الواقعیّ، فشأن ذلک الجزم هو المعذوریّة فی المخالفة، لا صحة العمل الذی کان مع الخلل بحسب الاجتهاد اللاحق سواء کان العمل من قبیل المعاملة أو غیرها، والمراد بالمعاملة العقود والإیقاعات.

وإن کان الاجتهاد السابق بحسبان طریق معتبر فیه، ثمّ ظهر الخلاف وأنّه لم یکن فی البین طریق معتبر، کما فی موارد الظفر بالمعارض أو القرینة علی خلاف مدلوله

ص : 262


1- 1) وسائل الشیعة 5:471، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة، الحدیث 14.
2- 2) وسائل الشیعة 1:371 _ 372، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحدیث 8.

وذلک فیما کان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحکم وقد اضمحلّ واضح، بداهة أنه لا حکم معه شرعاً، غایته المعذوریة فی المخالفة عقلاً، وکذلک فیما کان هناک طریق معتبر شرعاً علیه بحسبه، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقید أو المخصص أو قرینة المجاز أو المعارض، بناءً علی ما هو التحقیق من اعتبار

أو لخلل فی السند وغیر ذلک، بلا فرق بین القول بأنّ معنی اعتبار الأمارة جعل المنجزیّة والمعذریّة لها أو جعل مؤدّاها حکماً طریقیّاً ظاهریّاً، فإنّ الغرض من جعل الحکم الطریقیّ تنجیز الواقع عند إصابته والعذر فی المخالفة عند الخطأ، من غیر أن یوجب انقلاباً فی الحکم الواقعیّ فی الواقعة بحیث یصحّ العمل معه، بلا فرق بین الاجتهاد فی متعلّقات التکالیف والأحکام أو فی نفس التکالیف والأحکام، والمراد من متعلّقات التکالیف العبادات، ومن متعلّقات الأحکام العقود والإیقاعات أو غیرهما مما اعتبر فی ناحیة موضوع الحکم قیداً کالتذکیة فی الحیوان.

وقد فصّل صاحب «الفصول» قدس سره بین المتعلّقات ونفس التکالیف والأحکام بأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادین، بخلاف نفس التکالیف والأحکام فیکون _ فی موارد تبدّل الرأی _ الحکمُ هو الإجزاء بالإضافة إلی الأعمال السابقة بخلاف التبدّل وزوال الرأی السابق فی نفس الأحکام حیث یحکم بعدم الإجزاء، ویأتی التعرّض لعدم تمام هذا الفرق، وقد ذکر الماتن قدس سره فی ذیل کلامه أمرین:

أحدهما: أنّ الخلاف فی موارد تبدّل الرأی أو زوال الرأی السابق فی الإجزاء إنّما هو علی مسلک الطریقیّة فی الأمارات، وأمّا بناءً علی مسلک الموضوعیّة والسببیّة فی اعتبارها فلا مجال لاحتمال عدم الإجزاء، فإنّه علی ذلک المسلک لا یکون فی الواقعة حکم غیر مؤدّی الاجتهاد السابق، وبالإضافة إلی الوقایع المستقبلة الحکم الواقعیّ فیها ما یکون علی طبق الرأی اللاحق، نظیر تبدّل المکلّف

ص : 263

الأمارات من باب الطریقیة، قیل بأن قضیة اعتبارها إنشاء أحکام طریقیة، أم لا علی ما مرّ منّا غیر مرة، من غیر فرق بین تعلقه بالأحکام أو بمتعلقاتها، ضرورة أن کیفیة اعتبارها فیهما علی نهج واحد، ولم یعلم وجه للتفصیل بینهما، کما فی الفصول، وأن المتعلقات لا تتحمل اجتهادین بخلاف الأحکام، إلاّ حسبان أن الأحکام قابلة للتغیّر والتبدل، بخلاف المتعلقات والموضوعات، وأنت خبیر بأن الواقع واحد

من موضوع حکم إلی موضوع حکم آخر، فإنّ الاختلاف فیها لتبدّل الموضوع نظیر اختلاف موضوع وجوب القصر ووجوب التمام.

والآخر: أنّه إذا کان مستند الرأی فی السابق التمسّک بالاُصول العملیّة الشرعیّة کالاستصحاب وأصالة البراءة یحکم بالإجزاء مع إحراز متعلّق التکلیف بالاستصحاب أو بأصالة الحلیّة أو الطهارة، واعتمد فی الحکم بالإجزاء علی ما ذکر فی بحث الإجزاء من أنّ جریان الاستصحاب فی شیء یکون قیداً لمتعلّق التکلیف یثبت أنّ المعتبر فیه أعمّ من وجود ذلک الشیء واقعاً أو تعبّداً، کما هو مقتضی الاستصحاب وقاعدة الحلیّة أو الطهارة، أو یثبت أنّ متعلّق التکلیف مطلق بالإضافة إلی وجود الشیء الفلانیّ وعدمه، کما هو مقتضی أصالة البراءة الجاریة عند السهو عن الجزء أو الشرط ونسیانهما، بل حتّی فی صورة الجهل علی وجه ذکره فی بحث الشکّ فی جزئیّة الشیء أو شرطیّته فی بحث الأقلّ والأکثر.

أقول: إذا قام دلیل علی إجزاء عمل فی مورد _ کحدیث «لا تعاد» فی موارد الخلل فی الصلاة _ یکون مدلوله عدم الجزئیّة أو الشرطیّة أو المانعیّة فی صورة الجهل بالموضوع، وأمّا مع العلم بالموضوع والجهل بالجزئیّة والقیدیّة یکون مفاده جعل البدل فی مقام الامتثال، کما أوضحنا ذلک عند التکلّم فی مفاد الحدیث، وأیضاً یحکم بالإجزاء فی موارد اعتبار العلم بالشیء فی اعتباره قیداً لمتعلّق

ص : 264

فیهما، وقد عیّن أولا بما ظهر خطأه ثانیاً، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بین الأنام، لو قیل بعدم صحة العقود والإیقاعات والعبادات الواقعة علی طبق الاجتهاد الأول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثانی، ووجوب العمل علی طبق الثانی، من عدم ترتیب الأثر علی المعاملة وإعادة العبادة، لا یکون إلاّ أحیاناً، وأدلة نفی العسر لا ینفی إلاّ خصوص ما لزم

التکلیف، کما فی مانعیّة نجاسة الثوب أو البدن فی الصلاة حیث إنّ المانعیّة لم تثبت لواقع إصابة القذارة لهما، بل علی إحراز اصابتها، وفی غیر هذین الموردین لا یکون الإجزاء بالإضافة إلی الأعمال السابقة، ولکن مع ذلک یظهر الحکم بالإجزاء فی موارد تبدّل الرأی فی العبادات، وکذا فی العقود والإیقاعات من جملة من الأعلام، ویستفاد ذلک مما ذکره أیضاً فی العروة فی المسألة الثالثة والخمسین من مسائل الاجتهاد والتقلید، والمفروض فی تلک المسألة وإن کان تقلید العامیّ _ بعد موت مجتهده _ مجتهداً آخر یخالف رأیه رأی المجتهد الذی قلّده أوّلاً، إلاّ أنّ ما ذکره فیه لیس لدلیل یختصّ ذلک الفرض بل یجری فی فرض تبدّل الرأی علی ما یأتی بیانه.

قال قدس سره فی تلک المسألة: إذا قلّد من یکتفی بالمرّة مثلاً فی التسبیحات الأربع واکتفی بها أو قلّد من یکتفی فی التیمّم بضربة واحدة، ثمّ مات ذلک المجتهد، فقلّد من یقول بوجوب التعدّد لا یجب علیه إعادة الأعمال السابقة، وکذا لو أوقع عقداً أو إیقاعاً بتقلید مجتهد یحکم بالصحة، ثمّ مات وقلّد من یقول بالبطلان یجوز له البناء علی الصحة، نعم فیما سیأتی یجب علیه العمل بمقتضی فتوی المجتهد الثانی، وأمّا إذا قلّد من یقول بطهارة شیء کالغسالة، ثمّ مات وقلّد من یقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محکومة بالصحة وإن کانت مع استعمال ذلک الشیء، وأمّا نفس ذلک الشیء إذا کان باقیاً فلا یحکم بعد ذلک بطهارته، وکذا الحال فی الحلّیة

ص : 265

منه العسر فعلاً، مع عدم اختصاص ذلک بالمتعلقات، ولزوم العسر فی الأحکام کذلک أیضاً لو قیل بلزوم ترتیب الأثر علی طبق الاجتهاد الثانی فی الأعمال السابقة، وباب الهرج والمرج ینسد بالحکومة وفصل الخصومة.

والحرمة، فإذا أفتی المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغیر الحدید مثلاً، فذبح حیواناً کذلک فمات المجتهد وقلّد من یقول بحرمته، فإن باعه أو أکله حکم بصحّة البیع وإباحة الأکل، وأمّا إذا کان الحیوان المذبوح موجوداً فلا یجوز بیعه ولا أکله وهکذا.

وظاهر کلامه قدس سره أنّه یحکم بالإجزاء فی موارد العبادات والعمل بمقتضی الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلی الأعمال السابقة، وإنّما اللازم مراعاة فتوی الآخر بالإضافة إلی الأعمال الآتیة، وکذا الحال بالإضافة إلی المعاملات أی العقود والإیقاعات، وأمّا فی غیر العبادات وغیر العقود والإیقاعات فلابدّ من رعایة فتوی الآخر حتی بالإضافة إلی السابق کما فی الحکم بطهارة الغسالة وجواز الذبح بغیر الحدید، فإنّه لو بقی الحیوان المذبوح أو تلک الغسالة یحرم أکله ولا یجوز بیعه ویحکم بنجاسة الغسالة.

أقول: یستدلّ علی الإجزاء فی الاجتهاد الأوّل بالإضافة إلی الأعمال السابقة بوجوه:

الوجه الأول: أنّ الاجتهاد اللاحق لا یکشف عن بطلان الأعمال السابقة بکشف وجدانیّ بل المحتمل حتی بعد الاجتهاد الثانی أن تکون الوقایع فی علم اللّه علی طبق الاجتهاد الأوّل، وعلی ذلک یمکن دعوی عدم سقوط الاجتهاد الأوّل عن الاعتبار بالإضافة إلی الأعمال الماضیّة، وإنّما المحرز عدم ترتیب أثر علیه بالإضافة إلی الأعمال المستقبلة حیث زال أو تبدّل بالاجتهاد الثانی، والمعلوم من اعتبار الاجتهاد الثانی هو هذا المقدار.

ص : 266

وبالجملة لا یکون التفاوت بین الأحکام ومتعلقاتها، بتحمل الاجتهادین وعدم التحمل بیناً ولا مبیناً، بما یرجع إلی محصل فی کلامه _ زید فی علو مقامه _ فراجع وتأمل.

والجواب عن ذلک بأنّ الاجتهاد الأوّل بعد زواله لا یکون، لیکون حجّة بالإضافة إلی الأعمال السابقة، بخلاف الاجتهاد الثانی فإنّه تعلّق بالحکم حتّی بالإضافة إلی تلک الأعمال وحکم وقایعها، فاللازم أن یستند فی عدم تدارک الأعمال السابقة إلی حجّة، وبما أنّ الاجتهاد الثانی تعلّق بحکم الواقعة من الأوّل فاللازم اتّباع ذلک.

وبتعبیر آخر الاجتهاد السابق لا یزید علی العلم الوجدانیّ والاعتقاد الجزمیّ بالموافقة فی تلک الوقایع، وکما أنّه إذا زال الاعتقاد السابق وتبدّل إلی العلم بالخلاف أو بالشکّ الساریّ فاللازم اتّباع الطریق الفعلیّ، أو ملاحظة القواعد عند تبدّله إلی الشکّ الساریّ، هذا بالإضافة إلی نفس رأی المجتهد ونظره السابق، وأمّا بالإضافة إلی مستنده فقد ظهر بالاجتهاد الثانی أو بزواله أنّه لم یکن موضوع الاعتبار، بل کان مجرّد الاعتقاد والغفلة فی تشخیص موضوع الاعتبار عند الاجتهاد واستنباط حکم الواقعة، غایته أنّها عذر ما لم ینکشف الحال.

الوجه الثانی: ما یذکر فی المقام ونحوه من أنّ تدارک الأعمال السابقة فی العبادات والمعاملات من العقود والإیقاعات یوجب العسر والحرج نوعاً، بحیث لولم یخلّ تدارکها بنظام معاش العباد یقع الناس فی العسر والحرج نوعاً، کما إذا تبدّل الرأی الأوّل أو زال بعد زمان طویل من العمل به، بل تدارک المعاملات ربّما یوجب الاختلاف بین الناس، ولزم الفحص عن مالک الأموال التی اکتسبها الناس بالمعاملات التی ظهر فسادها علی طبق الاجتهاد الثانی أو التقلید الثانی، أو المعاملة معها معاملة الأموال المجهول مالکها، إلی غیر ذلک من المحذور ممّا یقطع بعدم إلزام الشارع بمثل

ص : 267

وأما بناءً علی اعتبارها من باب السببیة والموضوعیة، فلا محیص عن القول بصحة العمل علی طبق الاجتهاد الأول، عبادةً کان أو معاملةً، وکون مؤداه _ ما لم یضمحل _ حکماً حقیقة، وکذلک الحال إذا کان بحسب الاجتهاد الأول مجری الإستصحاب أو البراءة النقلیة، وقد ظفر فی الإجتهاد الثانی بدلیل علی الخلاف، فإنه عمل بما هو وظیفته علی تلک الحال، وقد مر فی مبحث الإجزاء تحقیق المقال، فراجع هناک.

هذه التدارکات التی کانت الأعمال حین وقوعها علی طبق الحجّة المعتبرة فی ذلک الزمان.

نعم لو بقی موضوع الحکم السابق کالحیوان المذبوح بغیر الحدید مع إمکان ذبحه به یعمل فی مثله علی ما تقدّم فی کلام صاحب العروة.

وقد أجاب عن ذلک الماتن قدس سره وغیره بأنّ أدلّة نفی العسر والحرج ناظرة إلی نفی العسر أو الحرج الشخصیّ، فیلتزم بالنفی فی موارد لزومهما، ومسألة الاختلاف بین الناس فی موارد المعاملات ترتفع بالمرافعات.

أقول: لا یخفی أنّ وجه الاستدلال ناظر إلی دعوی العلم والاطمینان بأنّ الشارع لم یلزم الناس بتدارک الأعمال السابقة، فإنّ لزومه ینافی کون الشریعة سهلة وسمحة، کما أنّه یوجب فرار الناس عن الالتزام بالشریعة، نظیر ما ادّعی من العلم والاطمینان بعدم لزوم الاحتیاط علی العامیّ فی الوقایع التی یختلف المجتهدان أو أکثر فی حکمها فیما إذا احتمل العامیّ أن الحکم الواقعیّ خارج عن اجتهادهما.

الوجه الثالث: دعوی سیرة المتشرعة علی عدم لزوم تدارک الأعمال الماضیّة الواقعة فی وقتها علی طبق الحجّة المعتبرة من العبادات والمعاملات من العقود والإیقاعات، نعم لم یثبت اعتبار الفتوی السابق فی موارد بقاء موضوع الحکم

ص : 268

الوضعیّ السابق أو موضوع الحکم التکلیفیّ، کما فی مثل مسألتی الذبح بغیر الحدید وبقاء ذلک الحیوان المذبوح کذلک بعضاً أو کلاًّ، وبقاء الشیء المتنجّس الذی کان علی اجتهاده السابق أو تقلیده طاهراً، ومن المقطوع عدم حدوث هذه السیرة جدیداً من فتوی العلماء بالإجزاء، بل کانت سابقة ومدرکاً لهذا الفتوی، کما یظهر ذلک من الروایات التی ذکر الإمام علیه السلام الحکم فیها تقیّة، حیث لم یرد فی شیء من الروایات تعرّضهم علیهم السلام للزوم تدارک الأعمال التی روعیت فیها التقیّة حین الإتیان بها.

وعلی الجملة لا امتناع فی إمضاء الشارع المعاملات التی صدرت عن المکلّف سابقاً علی طبق الحجّة عنده، ثمّ ینکشف فسادها واقعاً ووجداناً فضلاً عما لم ینکشف إلاّ تعبّداً، کما یشهد لذلک الحکم بصحة النکاح والطلاق من کافرین أسلما بعد ذلک، وانکشف لهما بطلان عقد النکاح، أو الطلاق الحاصل قبل إسلامهما، وکذا فی مسألة التوارث قبل إسلامهما، وکما فی مسألة الرجوع عن الإقرار الأوّل بالإقرار الثانی علی خلاف الأوّل.

نعم فیما إذا انکشف بطلان العمل السابق وجداناً لم یحرز جریان السیرة علی الإجزاء، بل المحرز جریانها فی موارد الانکشاف بطریق معتبر غیر وجدانیّ، کما وقع ذلک فی نفوذ القضاء السابق حیث لا ینتقض ذلک القضاء حتّی فیما إذا عدل القاضی عن فتواه السابق، ولا ینافی الإجزاء کذلک فی مثل هذه الموارد مع مسلک التخطئة، وربّما یشیر إلی الإجزاء التعبیر بنسخ الحدیث فیما إذا قام خبر معتبر عن إمام علیه السلام علی خلاف الخبر السابق، کما فی موثّقة محمد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قلت له: ما بال أقوام یروون عن فلان وفلان عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا یتّهمون بالکذب فیجیء

ص : 269

منکم خلافه؟ قال: إنّ الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن»(1) فإنّ نسخ القرآن یکون بالتخصیص والتقیید والحمل علی خلاف ظاهره بالقرینة کما هو مقتضی الجمع العرفیّ فی موارده، والتعبیر یشیر إلی الإجزاء فی موارده حتّی فیما إذا کان بین الحدیثین صدر أحدهما أوّلاً ثمّ جاء بعد العمل به خلافه حتّی فی موارد الجمع العرفیّ.

ص : 270


1- 1) وسائل الشیعة 27:108، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 4.

فصل

فی التقلید

وهو أخذ قول الغیر ورأیه للعمل به فی الفرعیّات أو للالتزام به فی الاعتقادیّات تعبّداً[1] بلا مطالبة دلیل علی رأیه، ولا یخفی أنّه لا وجه لتفسیره بنفس العمل ضرورة سبقه علیه، وإلاّ کان بلا تقلید، فافهم.

[1] ظاهر کلام الماتن قدس سره أنّ التقلید عبارة عن تعلّم قول الغیر ورأیه، ویکون داعیه إلی تعلّمه العمل به فی الفرعیّات والالتزام به فی الاعتقادیات تعبّداً أی بلا مطالبة دلیل علی رأیه وقوله، بمعنی أنّ المتعلّم والآخذ برأی الغیر لا یطالب الدلیل علی رأیه وقوله، وهذا أحد الأقوال فی تفسیره وبیان المراد منه، وقیل إنّه نفس الالتزام بالعمل بقول الغیر، وعلی ذلک فلو أخذ رسالة مجتهد للعمل بما فیها فی الوقایع التی یبتلی بها فقد حصل التقلید وإن لم یعلم بما فی الرسالة من أحکام الوقایع فضلاً عن العمل بما فیها، وقیل إنّه نفس العمل بقول الغیر، بمعنی أنّ العمل إذا استند إلی قول الغیر ورأیه تحقّق التقلید.

ولا یخفی أنّ ما یأتی بأنّه یجب علی المکلّف فی الوقایع التی یبتلی بها أن یکون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً لا ینظر إلی ما ذکر من أنّ التقلید هو الالتزام بالعمل بقول الغیر، ولا لمجرّد تعلّمه لغایة العمل به، فإنّ الوجوب المذکور من حکم العقل علی ما یأتی، والذی یحکم به العقل مراعاة الأحکام والتکالیف الشرعیّة فی الوقایع بالموافقة والطاعة إمّا بالوجدان ویحصل ذلک بالاحتیاط، أو بالاعتبار والاعتماد علی حجّة فعلیّة وهی ما استنبطه من مدارک الأحکام والتکالیف بطریق مألوف کما فی المجتهد، أو قول المجتهد وفتواه علی تقدیر تمام الدلیل علی جواز الاعتماد علی فتوی الفقیه من العامیّ فی مقام العمل.

وعلی الجملة حکم العقل فی مقام الطاعة هو لزوم تحصیل المؤمّن للمکلّف

ص : 271

ثم إنه لا یذهب علیک أن جواز التقلید ورجوع الجاهل إلی العالم فی الجملة، یکون بدیهیاً جبلّیاً فطریاً لا یحتاج إلی دلیل، وإلاّ لزم سدّ باب العلم به علی العامی مطلقاً غالباً، لعجزه عن معرفة ما دلّ علیه کتاباً وسنّةً، ولا یجوز التقلید فیه أیضاً، وإلاّ لدار أو تسلسل، بل هذه هی العمدة فی أدلته، وأغلب ما عداه قابل للمناقشة،

فی الوقایع التی یبتلی بها، ولا یلزم فی حکمه بلزوم تحصیله أن یکون سبق التعلّم علی العمل، وأن یکون عمله بدونه قبله من العمل بلا تقلید، حیث إنّه إذا عمل العامیّ فی واقعة عملاً برجاء أنّه عمل بالواقع والوظیفة، ثمّ ظهر له بعد العمل أنّه علی طبق فتوی المجتهد الذی یجب الرجوع إلیه کفی ذلک فی حکم العقل المتقدّم، وعدم سبق التقلید علی العمل لا یضرّ فی الفرض، فاستشهاد الماتن قدس سره بأنّ التقلید عبارة عن تعلّم الوظیفة للعمل لا نفس العمل بقول الغیر وإلاّ کان العمل الأوّل بلا تقلید کما تری، هذا کلّه بالإضافة إلی حکم العقل.

وأمّا الأدلّة والخطابات الشرعیّة فقد ذکرنا سابقاً أنّ وجوب تعلّم الأحکام والتکالیف بالإضافة إلی الوقایع التی یبتلی بها المکلّف أو یحتمل ابتلاءه بها طریقیّ، بمعنی أنّ الغرض من إیجاب التعلّم إسقاط الجهل بالتکلیف عن العذریّة فی صورة إمکان تعلّمه، فهذه الأدلّة منضمّاً إلی الروایات الواردة فی إرجاعهم علیهم السلام الناس إلی رواة الاُحادیث وفقهاء أصحابهم کافیة فی الجزم فی أنّ لزوم تعلّم الأحکام فی الوقایع التی یبتلی بها المکلف أو یحتمل ابتلاءه یعمّ التعلّم من فقهاء رواة الأحادیث، فلا یکون الجهل مع إمکان التعلّم من الفقیه عذراً فی مخالفة التکلیف وترک الوظیفة.

ومما ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره فی العروة _ من بطلان عمل العامیّ التارک للاحتیاط والتقلید _ بمعنی عدم الإجزاء به عقلاً، وأنّه لو کان مع ترکهما مخالفة التکلیف

ص : 272

لبعد تحصیل الإجماع فی مثل هذه المسألة، مما یمکن أن یکون القول فیه لأجل کونه من الأمور الفطریة الإرتکازیة، والمنقول منه غیر حجة فی مثلها، ولو قیل بحجیتها فی غیرها، لوهنه بذلک.

ومنه قد انقدح إمکان القدح فی دعوی کونه من ضروریات الدین، لاحتمال

الواقعیّ لاستحقّ العقاب علی تلک المخالفة، بخلاف ما إذا لم یکن ترکهما موجباً لذلک، کما إذا عمل حین العمل برجاء أنّه الواقع، ثمّ علم بعده أنّه مطابق لفتوی من یجب علیه التعلّم منه، فإنّ الأمن وعدم استحقاق العقاب الحاصل بهذا الإحراز کاف فی نظر العقل، ولیس وجوب التعلّم قبل العمل کسایر التکالیف النفسیّة علی ما تقدّم.

وأمّا ما ذکره جمع من العلماء من اعتبار العمل بفتوی المجتهد حال حیاته فی جواز البقاء علی تقلیده بعد موته، وما ذکروه من عدم جواز العدول عن الحیّ إلی حیّ آخر مع العمل بفتوی الأوّل وجوازه بدونه لا یقتضی کون التقلید هو نفس العمل، فإنّ المتّبع فی جواز الأول وعدم الجواز فی الثانی ملاحظة الدلیل فیهما لیؤخذ بمقتضاه؛ ولذا اعتبر فی الجواز وعدمه العملَ فیهما مَنْ یری التقلید هو الالتزام بالعمل أو التعلّم للعمل.

یقع الکلام فی جواز التقلید فی طریق إحراز العامیّ جوازه بنظره، لیمکن له التقلید، وفی جوازه للعامیّ بنظر المجتهد، وقد ذکر الماتن قدس سره أنّ جوازه فی الجملة أی الفرعیّات _ مع ملاحظة الأوصاف المعتبرة فی المجتهد أو المحتملة اعتبارها _ من الأوّلیات التی تکون فطریّة لکلّ إنسان یعلم بثبوت الأحکام والوظایف الشرعیّة فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل الابتلاء بها، ولأجل کون هذا فطریّاً جبلیّاً یجده کلّ عامیّ من نفسه، ولا یحتاج فیه إلی دلیل یوجب علمه بجوازه، ولو کان علم العامیّ بجوازه موقوفاً علی الدلیل علی إحرازه جوازه لانسدّ باب العلم بجوازه علیه

ص : 273

أن یکون من ضروریات العقل وفطریاته لا من ضروریاته، وکذا القدح فی دعوی سیرة المتدینین.

وأما الآیات، فلعدم دلالة آیة النفر(1) والسؤال(2) علی جوازه، لقوة احتمال أن یکون الإرجاع لتحصیل العلم لا للأخذ تعبداً، مع أن المسؤول فی آیة السؤال هم أهل الکتاب کما هو ظاهرها، أو أهل بیت العصمة الأطهار کما فسر به فی الأخبار(3).

مطلقاً أی ولو کان له حظّ من العلم ما لم یکن له ملکة الاجتهاد، فإنّ استناد العامیّ فی جوازه إلی التقلید یستلزم الدور أو التسلسل، فإنّ تقلیده فی مسألة جواز التقلید یتوقّف أیضاً علی إحرازه جواز التقلید فیها.

وأمّا جواز رجوع العامیّ إلی المجتهد بنظر المجتهد فقد ذکر الماتن قدس سره أنّ العمدة فی جوازه بنظر الفقیه هو الحکم الفطریّ أیضاً؛ لأنّ ما عداه من الوجوه القائمة عند المجتهد التی ذکروها غیر تامّة، کالاستدلال علی جوازه بالإجماع، فإنّ الإجماع مدرکیّ لاحتمال أن یکون المدرک لاتفاقهم هو کون الرجوع أمراً فطریّاً ارتکازیّاً، وهذا حال الإجماع المحصّل، فکیف بالمنقول؟ وإن قیل باعتبار المنقول فی غیر مثل المقام، وممّا ذکر یظهر الحال فی دعوی کون جواز التقلید علی العامیّ من ضروریات الدین؛ لأنّ احتمال کونه من ضروریّات العقل وفطریّاته أولی من تلک الدعوی، وأیضاً یظهر الحال فی دعوی سیرة المتدیّنین، فإنّ سیرتهم لیست ناشئة من مستند شرعیّ غیر ما ذکر من کون الجواز أمراً فطریّاً، وما استند فی جوازه من بعض الآیات من الکتاب المجید غیر تامّ، فإنّ آیة النفر لا دلالة لها علی جوازه وأخذ قول

ص : 274


1- 1) التوبة: 123.
2- 2) النحل: 43.
3- 3) الکافی 1 : 163 ، الباب 20.

نعم لا بأس بدلالة الأخبار علیه بالمطابقة أو الملازمة، حیث دلّ بعضها(1) علی وجوب اتباع قول العلماء، وبعضها علی أن للعوام تقلید العلماء، وبعضها علی جواز الإفتاء مفهوماً مثل ما دلّ علی المنع عن الفتوی بغیر علم، أو منطوقاً مثل ما دلّ علی إظهاره علیه السلام المحبة لأن یری فی أصحابه من یفتی الناس بالحلال والحرام.

النذیر والفقیه تعبّداً، حیث إنّها فی مقام إیجاب تعلّم الأحکام والتفقّه فیها ووجوب إبلاغها إلی السائرین بنحو الوجوب الکفائی، وآیة السؤال فی مقام إیجاب الفحص والتعلّم، ولعلّه لتحصیل العلم لا إیجاب التعبّد بجواب المسؤول، کما یشهد لذلک کون المسؤول هم أهل الکتاب والمسؤول عنه من الاعتقادیّات، ولو قیل بأن المسؤول هم الأئمّة علیهم السلام کما ورد فی بعض الروایات فلا شبهة فی اعتبار قولهم وکلامهم، وهذا خارج عن مورد الکلام فی المقام.

نعم یتمّ الاستدلال علی جواز التقلید بالروایات الواردة فی جواز تقلید العامیّ بالمطابقة أو بالاستلزام أو بالمفهوم، کما فیما ورد فی جواز الإفتاء مع العلم مفهوماً أو منطوقاً، فإنّ ما یدلّ علی عدم جواز الإفتاء من غیر علم ظاهر مفهوماً جواز الإفتاء بالعلم، وهذا الجواز یستلزم جواز التقلید، ونظیر ذلک ما ورد فی إظهاره علیه السلام أن یری فی أصحابه من یفتی الناس بالحلال والحرام، فإنّ مقتضاه جواز التقلید بالاستلزام؛ لأنّ افتاء شخص أو شخصین لا یوجب العلم بالواقع، بخلاف الأمر بإظهار الحقّ وحرمة کتمانه، فإنّه لا یدلّ علی التعبّد بالإظهار والأخذ بالبیان، فإنّ الأمر بالإظهار وحرمة الکتمان لغایة ظهور الحقّ والعلم به، کما یقتضیه مناسبة الحکم والموضوع.

والحاصل أنّ الأخبار المشار إلیها لکثرتها وتعدّد أسانیدها توجب القطع

ص : 275


1- 1) الوسائل 18 : 98 ، الباب 11.

لا یقال: إن مجرد إظهار الفتوی للغیر لا یدلّ علی جواز أخذه واتباعه.

فإنه یقال: إن الملازمة العرفیة بین جواز الإفتاء وجواز اتباعه واضحة، وهذا غیر وجوب إظهار الحق والواقع، حیث لا ملازمة بینه وبین وجوب أخذه تعبداً، فافهم وتأمل.

بصدور بعضها عن الإمام علیه السلام ، وإمضائهم جواز تقلید العامیّ فی الفرعیّات ولو فی الجملة، فیکون مخصّصاً لما دلّ علی عدم جواز اتّباع غیر العلم، وما دلّ علی الذمّ علی تقلید الغیر من الآیات والروایات کقوله سبحانه: «لا تقف ما لیس لک به علم»(1) وقوله سبحانه: «قالوا إنا وجدنا آباءنا علی أمّة وإنّا علی آثارهم مهتدون»(2) مع إمکان دعوی خروج التقلید فی الفرعیّات من الفقیه عن مدلول الآیتین تخصّصاً لا تخصیصاً، فإنّ آیة الذمّ علی الاقتداء راجعة إلی رجوع الجاهل إلی مثله، وآیة النهی عن اتّباع غیر العلم ناظرة إلی النهی فی الاعتقادیّات التی لابدّ من تحصیل العلم والمعرفة بها.

وأمّا قیاس الفرعیّات بالاعتقادیّات فی عدم جواز التقلید، بدعوی أنّ مع غموض الأمر فی الاعتقادیّات لا یجوز التقلید فیها، فکیف یجوز فی الفرعیّات مع سهولة الوصول إلیها فلا یمکن المساعدة علیه، فإنّ الاُصول الاعتقادیّة المطلوب فیها العلم والیقین والاعتقاد مسائل معدودة یتیسّر تحصیل العلم بها لکلّ شخص، بخلاف الفرعیّات التی لا یتیسّر الاجتهاد الفعلیّ فی مسائلها إلاّ فی کلّیاتها للأوحدیّ فی طول عمرهم کما لا یخفی.

أقول: الحکم العقلیّ الفطریّ وإن کان المنشأ فی بناء العقلاء علی الرجوع فی

ص : 276


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2) سورة الزخرف: الآیة 22.

وهذه الأخبار علی اختلاف مضامینها وتعدد أسانیدها، لا یبعد دعوی القطع بصدور بعضها، فیکون دلیلاً قاطعاً علی جواز التقلید، وإن لم یکن کل واحد منها بحجة، فیکون مخصصاً لما دلّ علی عدم جواز اتباع غیر العلم والذم علی التقلید، من الآیات والروایات.

کلّ أمر یعرفه أهل خبرته إلیهم، إلاّ أنّ هذا البناء وحکم العقل قابل للردع عنه، حیث یمکن للشارع إلغاء التقلید فی الحکم الشرعیّ الفرعیّ بالأمر بالاحتیاط فی کلّ واقعة لم یتفق العلماء الموجودون فی عصره علی نفی التکلیف فیها، وإذا أمکن ذلک واحتمل العامیّ الردع فلا یفیده الحکم العقلیّ الفطریّ، وقوله قدس سره : لولا ذلک الفطریّ عند العامیّ لانسدّ علی العامیّ باب العلم بجواز التقلید، ممنوع؛ إذ اللازم علی العامیّ علمه بجواز التقلید له فی المسائل التی یبتلی بها، وهذا یحصل من الاستدلال، والاستدلال لا یتوقّف علی تمکّنه وإحاطته بجمیع ما یکون دلیلاً للجواز عند الفقیه، بل علی العامیّ أن یعتمد علی علمه الحاصل من فتوی علماء عصره العدول المعروفین ومن کان قبل عصره، والجزم بأنّه لو منع الناس عن الرجوع إلی العلماء فی تعلّم الفتوی والعمل به وأوجب علیهم الاحتیاط لما أفتی هؤلاء بالجواز، وجواز الاقتصار بالعمل علی طبق الفتوی المعتبر، وبهذا أیضاً یقنع نفسه فی مسألة لزوم تحصیل العلم والیقین فی الاعتقادیّات ورفع الید عن حکم الارتکاز، بأنّه لولم یجب ذلک علی الناس وجاز التقلید فیها لما أفتوا بوجوب تحصیل العلم والیقین والاعتقاد ولو بدلیل یقنع نفسه.

وقد یقال: إنّه لولم یتمکّن العامیّ من تحصیل العلم بجواز التقلید کان اللازم فی حقّه بحکم العقل هو الاحتیاط فی الوقایع بالأخذ فیها بأحوط الأقوال من العلماء المعروفین فی عصره؛ لأنّه لا یعلم بثبوت تکالیف زائدة فی حقّه فی الوقایع التی

ص : 277

قال اللّه تبارک وتعالی: «ولا تقف ما لیس لک به علم»(1) وقوله تعالی: «إنا وجدنا آباءنا علی أمة وإنا علی آثارهم مقتدون»(2) مع احتمال أن الذم إنما کان علی تقلیدهم للجاهل، أو فی الأصول الاعتقادیة التی لابد فیها من الیقین، وأما قیاس المسائل الفرعیة علی الأصول الاعتقادیة، فی أنه کما لا یجوز التقلید فیها مع الغموض فیها

یبتلی بها غیر ما أفتوا بها فیها ولو من بعضهم، فإنّ مقتضی العلم الإجمالیّ بالتکالیف فی موارد فتاویهم یوجب علمه الإجمالیّ بثبوت التکالیف فی حقّ المکلفین فی الوقایع، وهذا الاحتیاط علی ما ذکرنا لا یوجب محذوراً علی العامیّ من عسر فضلاً عن اختلال النظام.

ولکن لا یخفی أنّ انحلال العلم الإجمالیّ الکبیر بالعلم الإجمالی الصغیر لا ینفع فیما إذا کان احتمال التکلیف بنفسه منجّزاً للتکلیف کما فی المفروض فی المقام، حیث لا یتمکّن العامیّ من الفحص عن جمیع الفتاوی فی الوقایع ولا عن أدلّة الأحکام.

نعم إذا حصل له الوثوق والاطمئنان بعدم الدلیل علی التکلیف فی غیر موارد فتوی العلماء المعروفین فی عصره، مع اعتقاده وجزمه بأنّ الشارع لم یردع عن العمل بوثوقه واطمئنانه ذلک أمکن له ترک الاحتیاط فی غیر موارد فتاوی علماء عصره بالتکلیف، أو حصل الوثوق بفحص علماء عصره فی مورد فتاویهم بنفی التکلیف، وکان هو بنفسه عارفاً باعتبار الاُصول النافیة.

وأیضاً ما ذکر الماتن قدس سره من الإیراد علی دعوی الإجماع ونقله وإن کان صحیحاً إلاّ أنّ عطفه قدس سره دعوی السیرة المتشرعة علی الإجماع فی عدم جواز الاعتماد علیها

ص : 278


1- 1) الاسراء: 36.
2- 2) الزخرف: 33.

کذلک لا یجوز فیها بالطریق الأولی لسهولتها، فباطل، مع أنه مع الفارق، ضرورة أن الأصول الاعتقادیة مسائل معدودة، بخلافها فإنها مما لا تعد ولا تحصی، ولا یکاد یتیسر من الاجتهاد فیها فعلاً طول العمر إلاّ للأوحدی فی کلیاتها، کما لا یخفی.

لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه لو ثبتت السیرة المتشرعة وکونها حتّی فی زمان المعصومین علیهم السلام لکان ذلک دلیلاً جزمیّاً علی عدم الردع عن السیرة العقلائیّة المعمولة بالإضافة إلی الأحکام الفرعیّة.

وأمّا الروایات فلا بأس بدلالتها _ ولو بالالتزام فی بعضها وبالمطابقة فی بعضها الآخر _ علی جواز تعلّم العامیّ والعمل علی طبقه فی الأحکام الفرعیّة من العالم بها بالطرق المألوفة فی الجملة، ویأتی التعرّض لذلک تفصیلاً.

وقد ظهر ممّا تقدّم استقلال العقل بعد اعتبار قول المفتی فی حقّ العامیّ بأنّ المکلّف فی الوقایع التی یبتلی بها إمّا أن یکون مجتهداً یعمل علی طبق اجتهاده، أو مقلّداً یعمل علی طبق فتوی المجتهد أو محتاطاً، وهذا التخییر بعد إحراز جواز الامتثال الإجمالیّ حتی فیما إذا کان العمل عبادة، والاحتیاط فیها موجباً لتکرار العمل؛ ولذا لا یجوز الأخذ بالاحتیاط فی العبادات إلاّ مع إحراز جوازه ولو بالاجتهاد فی هذه المسألة أو مع التقلید فیها، واعتبار قول المفتی فی حقّ العامیّ کاعتبار خبر العدل والثقة فی الأحکام طریقیّ یوجب تنجّز الواقع مع الإصابة والعذر عند موافقته وخطئه، فیختصّ اعتبار الفتوی بموارد الجهل بالحکم الواقعیّ، ولا یکون مورد التقلید فی ضروریات الدین والمذهب، ولا فی القطعیّات التی یعرفها العامیّ ولو بالتسالم علیه کأکثر المباحات.

نعم فیما یتردّد الحکم بین الإباحة والاستحباب أو بینهما وبین الکراهة فإن أراد

ص : 279

الإتیان بقصد الاستحباب أو بقصد الکراهة کی ینال الثواب فعلیه إحراز خصوص الحکم أو الإتیان بالرجاء واحتمال نیل الثواب؛ لئلا یکون عمله تشریعاً، وقد تقدّم مدلول أخبار وجوب طلب العلم وأنّه بالإضافة إلی الفرعیات طریقیّ.

بقی فی المقام ما ربّما یتوهّم من أنّ العمومات الناهیة عن اتّباع غیر العلم والمتضمّنة للذمّ علی اتّباع غیره رادعة عن التقلید کقوله سبحانه: «لا تقف ما لیس لک به علم»(1) وقوله سبحانه: «وإذا قیل لهم تعالوا إلی ما أنزل اللّه وإلی الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا علیه آباءنا»(2) إلی غیر ذلک.

ولکنّ العموم أو الإطلاق لا یصلح رادعاً خصوصاً بالإضافة إلی السیرة المتشرعة والمشار إلیها والأخبار المستفاد منها لزوم رجوع العامیّ إلی الفقیه، وقول الفقیه یکون من اتّباع العلم، والذم فی الآیة راجع إلی اتّباع الجاهل مثله بقرینة ما فی ذیلها: «أو لو کان آباؤهم لا یعلمون شیئاً ولا یهتدون» مع أنّها ناظرة إلی التقلید فی الاعتقادیّات ولا یجزی فیها التقلید، بل یجب فیها تحصیل العلم والعرفان والإیمان، ولا یمکن فیها الأخذ ببعض الأخبار، ودعوی إطلاقها یعمّ جواز التعلّم فی الاعتقادیات أیضاً بالأخذ بما یقول المسؤول، فیکون قوله أیضاً فیها علماً وعرفاناً لا یمکن المساعدة علیه بوجه، فإنّ مقتضی تلک الروایات اعتبار قول من یرجع إلیه، وأنّه علم فی جهة طریقیّته لا من جهة الوصفیّة، والمطلوب فی اُصول الدین

ص : 280


1- 1) سورة الإسراء: الآیة 36.
2- 2) سورة المائدة: الآیة 104.

والمذهب العلم بما هو صفة ویقین ینشرح به الصدر، ویشدّ القلب بالعروة الوثقی من الإیمان والاعتقاد، کما هو مقتضی الأمر بالإیمان فیها فی الکتاب المجید فی الآیات، وکذا الحال فی الروایات الواردة فیها.

ص : 281

ص : 282

فصل

إذا علم المقلد اختلاف الأحیاء فی الفتوی مع اختلافهم فی العلم والفقاهة، فلابدّ من الرجوع إلی الأفضل[1].

فی لزوم تقلید الأعلم مع إحراز العامیّ اختلاف الأحیاء فیما یبتلی فیه من المسائل

[1] إذا علم العامیّ اختلاف الأحیاء _ فی الفتوی سواء کان علمه باختلافهم فیها بالتفصیل أو بالإجمال بالإضافة إلی المسائل التی یبتلی بها _ یتعیّن علیه الأخذ بفتوی الأعلم فیها؛ لأنّ اعتبار فتاویه فیها فی نظره متیقّن، ویشکّ فی اعتبار فتوی غیره.

وبتعبیر آخر حکم العقل فی دوران الحجّة بین التعیین والتخییر هو التعیین، ولا یکون رجوعه فیها إلی غیر الأعلم عذراً ومبرئاً لذمّته حتّی فیما إذا أجاز ذلک غیر الأعلم؛ لأنّ اعتبار فتواه بفتواه دوری، أو تسلسل إن کان بفتوی ثالث مثله.

نعم لو فرض استقلال عقل العامیّ بتساوی الرجوع إلی الأعلم أو غیره فلا بأس بتقلیده المفضول لعدم لزوم المحذور، وکذا إذا فرض أنّ الأعلم جوّز الرجوع إلی غیر الأعلم فی المسائل، هذا بناءً علی دوران الأمر فی الحجّة بین التعیین والتخییر بنظر العامیّ، وأمّا جواز الرجوع إلی المفضول فی الفرض بنظر الفقیه بملاحظة الوجوه الدالّة علی جواز تقلید العامیّ فالأمر کذلک یعنی تقلید العامیّ مع العلم بالاختلاف ولو إجمالاً فی المسائل التی یبتلی بها ورجوعه فیها إلی الأعلم متعیّن؛ لأنّ ما دلّ علی اعتبار الفتوی بالإضافة إلی العامیّ من الروایات المشار إلیها لا تعمّ صورة إحرازه اختلاف العلماء فی حکم المسألة، کما هو شأن کلّ دلیل یتکفّل باعتبار شیء طریقاً، فإنّه لا تعمّ صورة تعارضه، ولا یظنّ أن یلتزم عالم أنّ الإمام علیه السلام إذا أمر بالرجوع إلی یونس بن عبدالرحمن أو الحارث النضری أنّه أمر بالرجوع إلی کلّ منهما

ص : 283

إذا احتمل تعیّنه، للقطع بحجیته والشک فی حجیة غیره، ولا وجه لرجوعه إلی الغیر فی تقلیده، إلاّ علی نحو دائر.

نعم لا بأس برجوعه إلیه إذا استقل عقله بالتساوی، وجواز الرجوع إلیه أیضاً، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إلیه، هذا حال العاجز عن الاجتهاد فی تعیین ما هو قضیة الأدلة فی هذه المسألة.

ولو مع علم المراجع بأنّهما یختلفان فی حکم مسألته، فإنّ ارتکاز الاعتقاد بأنّ کلاًّ منهما یخبر عن الحکم الشرعیّ الواحد فی تلک الواقعة، وبحسب نظر کلّ منهما ذلک الحکم غیر ما یذکره الآخر.

نعم الالتزام بجواز الرجوع إلی کلّ منهما فی بعض المسائل یعمّ صورة احتمال خلافهما فیها، بل علی ذلک السیرة العقلائیّة فی الرجوع فی سایر الاُمور إلی أهل خبرتها، فیراجع الناس الأطباء فی بلد مع کون کلّ منهم طبیباً حاذقاً وإن احتمل المراجع اختلافهم فی الطبابة فی مرضه.

نعم مع إحراز اختلافهم یتّبعون قول الأعلم ومن یکون أکثر خبرة بالإضافة إلی الآخرین، أفلا تجد أنّه إذا اختلف اثنان فی فهم الحکم من رسالة مجتهد وفسّرها فی الرسالة من هو أقوی خبرة فی فهم الحکم منها أنّ المراجع یأخذ بقول من هو أقوی خبرة منهما؟

نعم ربّما یکون ما فسّرها به غیر الأعلم منهما مطابقاً للاحتیاط والمراجع یعمل به احتیاطاً لا إلزاماً بحیث لولم یترک الاحتیاط وأخذ بتفسیر الأکثر خبرة فی فهمها لا یکون مورداً للتوبیخ، بل یقبل عذره عند العقلاء وهذا دلیل الاعتبار، وکذا الحال فی المجتهدین إذا اختلفوا أو کان واحد منهم أکثر خبرة، بل نلتزم بجریان ذلک أی الرجوع إلی من کان أکثر خبرة فی اختلاف أهل الخبرة فی تعیین الأعلم أو محتمل

ص : 284

وأما غیره، فقد اختلفوا فی جواز تقلید المفضول وعدم جوازه، ذهب بعضهم إلی الجواز، والمعروف بین الأصحاب _ علی ما قیل _ عدمه وهو الأقوی، للأصل، وعدم دلیل علی خلافه، ولا إطلاق فی أدلة التقلید بعد الغض عن نهوضها علی مشروعیة أصله، لوضوح أنها إنما تکون بصدد بیان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا فی کل حال، من غیر تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل، کما هو شأن

الأعلمیّة.

والحاصل أنّ السیرة المشار إلیها تکون دلیلاً قاطعاً علی تعیّن الأخذ بقول أعلم المجتهدین فیما إذا اُحرز اختلافهم فی المسائل ولو بالعلم الإجمالیّ، وإلاّ فما ذکروه من أنّ الأخذ بقول الأعلم من دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی الحجّة، وأنّ الشکّ فی اعتبار قول غیر الأعلم کاف فی الحکم بعدم اعتباره فی الوقایع التی یبتلی العامیّ بها أو یحتمل ابتلاءه لا یفید شیئاً، فإنّ مع سقوط دلیل اعتبار الفتوی بعدم شمول ما دلّ علی اعتباره للمتعارضین یمکن الإشکال فی اعتبار الفتوی مع التعارض والاختلاف، ویحتمل کون وظیفة العامیّ الأخذ بأحوط الأقوال فلا یکون فی البین دوران الحجّة بین التعیین والتخییر.

وأمّا سایر ما یقال فی تقدیم قول الأعلم من الوجوه من دعوی الإجماع علیه، أو دلالة مقبولة عمر بن حنظلة علی الترجیح بالأعلمیّة، أو قول مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده إلی مالک الأشتر: «اختر للقضاء بین الناس أفضل رعیّتک»(1)، أو کون فتوی الأعلم أقرب إلی الواقع، کلّها مخدوشة، فإنّه لا مجال لدعوی الإجماع التعبّدی فی مثل المسألة، والمقبولة واردة فی ترجیح القضاء

ص : 285


1- 1) انظر نهج البلاغة: 451، الکتاب رقم 53. طبعة دار الثقلین.

سائر الطرق والأمارات علی ما لا یخفی.

ودعوی السیرة علی الأخذ بفتوی أحد المخالفین فی الفتوی من دون فحص عن أعلمیته مع العلم بأعلمیة أحدهما، ممنوعة.

ولا عسر فی تقلید الأعلم، لا علیه لأخذ فتاواه من رسائله وکتبه، ولا لمقلدیه لذلک أیضاً، ولیس تشخیص الأعلمیة بأشکل من تشخیص أصل الاجتهاد، مع أن

وفصل الخصومة فلا یمکن فیه الحکم بالتخییر، وبهذا یظهر الحال فی العهد إلی مالک الأشتر، وأنّ تعیین الأعلم للقضاء فی البلد لا یقتضی تعیین أعلم الأحیاء فی الإفتاء، وأنّه ربّما تکون فتوی المفضول أقرب إلی الواقع لمطابقة قوله لفتوی المیّت الأعلم من الحیّ الفاضل.

وما یقال فی عدم لزوم تقلید الأعلم؛ لکون إحراز الأعلم أمراً حرجیّاً، فیه ما لا یخفی، فإنّ التقلید عن الأعلم لیس تکلیفاً نفسیّاً لیرتفع بقاعدة العسر والحرج، بل اعتبار فتوی الأعلم طریقیّ، فمع یسر رعایة التکلیف الواقعی ولو بالاحتیاط فی تلک المسائل لا یلاحظ عسر تعیین الأعلم أو یسره، ویشهد لعدم کون التقلید من الأعلم أمراً حرجیّاً مضافاً إلی ما یأتی التزام المتشرّعة بتقلید الأعلم أو محتمل الأعلمیّة فی طول الأعصار فی صورة إحراز المخالفة بین علماء العصر من غیر أن یقعوا فی حرج أو عسر.

بقی فی المقام اُمور:

الأوّل: أنّه هل یجب الفحص عن الأعلم فیما إذا تعدّد علماء العصر واُحرز اختلافهم فی الفتوی فی الوقایع التی یبتلی بها المقلّد؟

فنقول: لا ینبغی التأمّل فی الفرض فی لزوم الفحص فیما إذا علم أنّ بین الأحیاء من العلماء من هو أعلم من غیرهم؛ لأنّ اعتبار فتواه محرز دون فتوی السائرین المخالفین

ص : 286

قضیة نفی العسر الاقتصار علی موضع العسر، فیجب فیما لا یلزم منه عسر، فتأمل جیداً.

وقد استدل للمنع أیضاً بوجوه:

أحدها: نقل الإجماع علی تعین تقلید الأفضل.

ثانیها: الأخبار الدالة علی ترجیحه مع المعارضة، کما فی المقبولة وغیرها، أو علی اختیاره للحکم بین الناس، کما دل علیه المنقول عن أمیر المؤمنین علیه السلام :

له، فلا یکون الاستناد إلی فتوی بعضهم استناداً إلی الحجّة إلاّ مع إحراز کونه هو الأعلم.

نعم یجوز فی الفرض الأخذ بأحوط القولین أو الأقوال فی المسألة لأنّ الفتوی المطابق للاحتیاط لو کان من الأعلم فقد عمل به، وإن کان فتوی غیره فالترخیص فی الفعل أو الترک الذی هو مقتضی فتوی الأعلم لا یمنع عن الأخذ بالاحتیاط فی المسألة لا فی الجملة ولا بالجملة؛ ولذا لا یبعد الالتزام مع عدم إمکان تعیین الأعلم المعلوم إجمالاً بالأخذ بأحوط الأقوال، وکذا فیما إذا احتمل أنّ ما بین المختلفین فی الفتوی من یحتمل کونه أعلم من غیره، وهذا بناءً علی أنّ الحکم مع تساوی المجتهدین المختلفین فی الفتوی هو التخییر؛ لأنّ الأخذ بقول أحدهم مع احتمال أنّ فی البین من هو أعلم منه یکون من الأخذ بمشکوک الاعتبار.

نعم إذا کان احتمال الأعلمیّة منحصراً فی واحد معیّن قبل الفحص أو بعده یتعیّن الأخذ بقوله علی بناء التخییر بین المتساویین، لإحراز أن فتواه بالأخذ به حجّة، بخلاف الآخرین فإنّه لا یعلم حتی بالأخذ اعتبار فتواهم، وبناءً علی التساقط فی فرض عدم وجود الأعلم بینهم وعدم ثبوت التخییر بین المتساویین یکون الحکم هو لزوم الاحتیاط التامّ فی الواقعة، کما فی صورة إحراز التساوی وعدم ثبوت التخییر بینهما.

ص : 287

(اختر للحکم بین الناس أفضل رعیّتک).

ثالثها: إن قول الأفضل أقرب من غیره جزماً، فیجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً.

ولا یخفی ضعفها:

أما الأول: فلقوة احتمال أن یکون وجه القول بالتعیین للکلّ أو الجلّ هو الأصل، فلا مجال لتحصیل الإجماع مع الظفر بالاتفاق، فیکون نقله موهوناً، مع عدم حجیة نقله ولو مع عدم وهنه.

اللّهم إلاّ أن یقال بثبوت السیرة العقلائیّة عند اختلاف أهل الخبرة بالرجوع إلی من یکون احتمال الخبرویّة فیه أقوی من الغیر، وإذا کان احتمال الأعلمیّة غیر متعیّن فی واحد معیّن، بأن احتمل أعلمیّة زید من الجمیع حتی من عمرو، واحتمل أنّ عمراً کذلک یعنی أعلم من الکلّ حتی من زید لزم الاحتیاط بین فتاوی زید وعمرو، ولا یجب الاحتیاط التامّ فی الواقعة إذا علم أنّ أحدهما أعلم من الآخر إجمالاً أو احتمل ذلک إجمالاً، وأمّا إذا لم یکن کذلک بأن علم تساویهما فی الفضیلة، فإن قلنا بالتخییر فی المتساویین کان العامیّ مخیّراً بینهما، وإن لم نلتزم بالتخییر لعدم تمام الدلیل علیه یکون الحکم هو الاحتیاط التامّ فی الواقعة، کما إذا أفتی زید بوجوب صلاة الظهر وعمرو بوجوب الظهر أو الجمعة تخییراً وکان فی المسألة قول آخر ولو من غیر علماء عصره بوجوب الجمعة تعییناً فلابدّ للعامی من الإتیان بکلّ من الظهر والجمعة تعییناً للاحتیاط التامّ.

لا یقال: إذا أفتی أحد الأحیاء بوجوب صلاة الظهر تعییناً والآخر بوجوبها أو وجوب الجمعة تخییراً فمع فرض التساوی بینهما فی الفضیلة وکونهما أفضلین

ص : 288

وأما الثانی: فلأن الترجیح مع المعارضة فی مقام الحکومة، لأجل رفع الخصومة التی لا تکاد ترتفع إلاّ به، لا یستلزم الترجیح فی مقام الفتوی، کما لا یخفی.

وأما الثالث: فممنوع صغری وکبری، أما الصغری فلأجل أن فتوی غیر الأفضل ربما یکون أقرب من فتواه، لموافقته لفتوی من هو أفضل منه ممن مات،

بالإضافة إلی باقی الأحیاء أو من المحتمل أعلمیّتهما یکونان متفقین فی عدم وجوب صلاة الجمعة تعییناً وأنّ صلاة الظهر یوم الجمعة مجزیة عن الواقع، فما وجه الاحتیاط التامّ فی هذه الصورة حتی لزم علی العامیّ أن یحتاط بالإتیان بصلاة الجمعة أیضاً.

فإنه یقال: ما ذکر إنّما یتمّ فیما إذا اُحرز أنّ أحدهما أعلم من الآخر أو محتمل الأعلمیّة، ولکن لم یتمکّن من تعیینه شخصاً منهما، وأمّا إذا اُحرز تساویهما ولم نقل بالتخییر فی الفرض کما هو المفروض؛ لأنّه لم یتمّ دلیل علی اعتبار فتواهما للتعارض یسقط اعتبار کلّ من الفتویین، وقد ذکرنا أنّه إذا سقط الطریق عن الاعتبار فی مدلولهما المطابقیّ فلا یبقی مجال لاعتبار مدلولهما الالتزامیّ، وإذا احتمل وجوب صلاة الجمعة تعییناً فاللازم رعایته.

فقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ المعیّن لاعتبار فتوی مجتهد إحراز أعلمیّته بالإضافة إلی الآخرین أو احتمال الأعلمیّة فیه خاصّة، بأنّه إمّا أعلم من السائرین أو أنّه والسائرین علی حدّ سواء، بلا فرق بین أن یصل احتمال الأعلمیّة فیه إلی حدّ الظنّ أم لا. وأمّا إذا تردّدت الأعلمیّة بین المتعدّدین أو احتمالهما فاللازم الاحتیاط بالأخذ بالفتوی المطابقة للاحتیاط منهما.

ص : 289

ولا یصغی إلی أن فتوی الأفضل أقرب فی نفسه، فإنه لو سلم أنه کذلک إلاّ أنه لیس بصغری لما ادعی عقلاً من الکبری، بداهة أن العقل لا یری تفاوتاً بین أن تکون الأقربیة فی الأمارة لنفسها، أو لأجل موافقتها لأمارة أخری، کما لا یخفی.

الثانی: إذا تردّدت الأعلمیّة بین اثنین، بأن ظنّ أنّ زیداً أعلم من عمرو، واحتمل أیضاً أنّ عمراً أعلم من زید، ولکن کان احتمال أعلمیّة عمرو أضعف، فهل الظنّ یکون معیّناً لاعتبار فتواه بحیث لا یلزم علی العامیّ الاحتیاط بین فتواهما، أو یجب فی الفرض الجمع بأحوط القولین فی المسائل؟ بناءً علی ما ذکر من التخییر بین المتساویین فمجرّد احتمال مرجّحیّة الظنّ یوجب دوران الحجّة بین التعیین والتخییر فاللازم الأخذ باحتمال التعیین، وأمّا بناءً علی عدم الدلیل علی التخییر ولزوم الاحتیاط بین فتاویهما أو حتّی بالإضافة إلی الواقع فلا یکون مجرّد الظنّ بالأعلمیّة مع احتمال الأعلمیّة فی الطرف الآخر أیضاً مرجّحاً فاللازم الاحتیاط بالأخذ بأحوط القولین أو الاحتیاط التامّ علی تفصیل تقدّم.

هذا کلّه فیما إذا أمکن الاحتیاط بین الفتاوی أو فی الواقع وإلاّ فمع اختصاص احتمال الأعلمیّة _ ظنّاً أو بدونه _ لأحدهما یختصّ العمل بفتواه وإلاّ یتخیّر؛ لأنّ اللازم علی المکلّف مع عدم التمکّن من الموافقة القطعیّة للحکم الواقعیّ أو الحجّة المعتبرة الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیّة، بل الأمر کذلک حتی فیما أمکن الاحتیاط بین الفتاوی أو حتّی بالإضافة إلی الحکم الواقعیّ فی الواقعة، ولکن اُحرز أنّ الشارع لا یلزم الناس علی الاحتیاط المتقدّم، لعسره علی الناس ولما یناسب کون الشریعة سمحة وسهلة، بأن یوجب إلزامهم به فرار الناس عن الالتزام بأحکام الشریعة، فیتخیّر الناس فی الوقایع بالاکتفاء بالموافقة الاحتمالیّة فیما إذا لم تختصّ الواقعة بنفسها بعلم إجمالیّ، أو لم یختصّ احتمال الأعلمیّة بواحد من المجتهدین سواء کان بحدّ

ص : 290

وأما الکبری فلأن ملاک حجیة قول الغیر تعبداً ولو علی نحو الطریقیة، لم یعلم أنه القرب من الواقع، فلعله یکون ما هو فی الأفضل وغیره سیان، ولم یکن لزیادة القرب فی أحدهما دخل أصلاً.

نعم لو کان تمام الملاک هو القرب، کما إذا کان حجة بنظر العقل، لتعین الأقرب قطعاً، فافهم.

الظن أم لا.

الثالث: قد ذکر فی العروة فی المسألة السابعة عشرة من مسائل الاجتهاد والتقلید من العروة: المراد من الأعلم من یکون أعرف بالقواعد والمدارک للمسألة وأکثر اطلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار، والحاصل أن یکون أجود استنباطاً، والمرجع فی تعیینه أهل الخبرة والاستنباط.

أقول: ما ذکره قدس سره فی قوله أجود استنباطاً بالإضافة إلی الآخرین صحیح، ویحصل ذلک بکون الشخص أقوی مهارة فی القواعد التی تحسب من المدارک فی المسائل من حیث تنقیحها وتطبیقها علی صغریاتها، وأجود فهماً للخطابات الشرعیّة والخصوصیّات الواردة فیها خصوصاً فی الأخبار من تشخیص مدالیلها، وتشخیص الجمع العرفیّ بین مختلفاتها، ولحاظ المعارضة بین بعضها مع بعض، ولا أظنّ أن یکون مجرّد کثرة الاطلاع علی الأخبار أو نظائر المسألة دخیلاً فی الأعلمیّة، والمراد من القواعد المشار إلیها أعمّ من القواعد الفقهیّة العامّة أو القواعد الاُصولیّة التی یستعملها الفقیه فی مقام الاستنباط من الخطابات الشرعیّة کما لا یخفی.

ص : 291

ص : 292

فصل

اختلفوا فی اشتراط الحیاة فی المفتی، والمعروف بین الأصحاب الاشتراط وبین العامّة عدمه، وهو خیرة الأخباریّین وبعض المجتهدین من أصحابنا[1].

اشتراط الحیاة فی المفتی

[1] ذکر قدس سره أنّ المعروف بین أصحابنا اعتبار حیاة المجتهد فی جواز تقلیده فلا یجوز تقلیده بعد موته حدوثاً وبقاءً، خلافاً لما هو المعروف بین العامّة من عدم اعتبار الحیاة، وهو خیرة الأخباریّین وبعض المجتهدین من أصحابنا، وربّما یفصّل فیقال لا یجوز تقلید المجتهد بعد موته ابتداءً، ولکن یجوز البقاء علی تقلید المجتهد بعد موته، فیشترط فی جواز التقلید البدویّ ولا یشترط فی التقلید الاستمراریّ. وذکر قدس سره فی وجه ما هو المعروف بین أصحابنا وهو المختار عنده بأنّ جواز تقلید المیّت مشکوک والأصل عدم جوازه. وبتعبیر آخر کون شیء طریقاً بحیث یوجب تنجّز الواقع عند الإصابة والعذر عند خطئه وموافقته یحتاج إلی الإحراز وقیام دلیل علیه، وإلاّ فالأصل عدم الاعتبار.

وقد یقال فی الاستدلال علی الجواز وجوهاً ضعیفة لا تصلح لرفع الید عن الأصل الذی ذکرناه.

منها الاستصحاب فی بقاء رأی المجتهد ونظره بعد وفاته أیضاً علی الاعتبار.

وأجاب قدس سره عن هذا الوجه بأنّ الرأی والنظر بنظر العرف متقوّم بالحیاة، ولا بقاء له بعد موت المجتهد حتی یستصحب اعتباره، ویعتبر فی جریان الاستصحاب فی حکم _ وضعیّاً کان أو غیره _ بقاء الموضوع له، وبقاء بعض الأحکام بعد موت الشخص کطهارته أو نجاسته وجواز نظر زوجته إلیه إنّما هو بحسبان العرف بتقوّم هذه الأحکام ببدنه الباقی بعد موته وإن کانت الحیاة دخیلة فی حدوث هذه

ص : 293

وربما نقل تفاصیل:

منها: التفصیل بین البدوی فیشترط، والاستمراری فلا یشترط، والمختار ما هو المعروف بین الأصحاب، للشک فی جواز تقلید المیت، والأصل عدم جوازه، ولا مخرج عن هذا الأصل، إلاّ ما استدل به المجوّز علی الجواز من وجوه ضعیفة.

منها: استصحاب جواز تقلیده فی حال حیاته، ولا یذهب علیک أنه لا مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفاً، لعدم بقاء الرأی معه، فإنه متقوم بالحیاة بنظر

الأحکام، وهذا بخلاف اعتبار الرأی والنظر، فإنّ الرأی والنظر بحسب النظر العرفیّ یتقوّمان بحیاة الشخص، ولا بقاء له بعد الموت لیستصحب اعتباره.

نعم الموضوع له وإن کان باقیاً حقیقة لقیامه بالنفس الناطقة التی لتجرّدها لا زوال له، إلاّ أنّ المعیار فی جریان الاستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف، ولا بقاء للموضوع للرأی والنظر بعد الموت، فلا یجدی بقاء النفس عقلاً فی جریان الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف علی بقاء النفس وحسبان أهله أنّها غیر باقیة وإنّما تعاد یوم القیامة بعد انعدامها. وتعرّض قدس سره بعد ذلک لما یقال: هذا فیما کان حدوث الرأی والنظر موضوعاً لحدوث الاعتبار وبقاء الرأی والنظر موضوعاً لبقاء الاعتبار، وأمّا إذا کان الحدوث بمجرده موضوعاً لحدوث الاعتبار وبقائه فلا إشکال فی جواز التقلید بعد موت المجتهد. وأجاب عن ذلک بأنّ الأمر لیس کذلک، بل بقاء الرأی موضوع لبقاء الاعتبار؛ ولذا لو تبدّل رأی المجتهد أو زال بالهرم والجنون فلا یبقی للرأی الحادث اعتبار، هذا کلّه بالإضافة إلی جواز التقلید عن المجتهد بعد موته ابتداءً.

أقول: عدم جواز تقلید المجتهد بعد زوال عقله بجنون ونحوه أو تبدّل رأیه لا یدلّ علی أنّ الموضوع لحدوث الاعتبار حدوث الرأی، ولبقاء الاعتبار بقاء الرأی،

ص : 294

العرف، وإن لم یکن کذلک واقعاً، حیث إن الموت عند أهله موجب لإنعدام المیت ورأیه، ولا ینافی ذلک صحة استصحاب بعض أحکام حال حیاته، کطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إلیه، فإن ذلک إنما یکون فیما لا یتقوم بحیاته عرفاً بحسبان بقائه ببدنه الباقی بعد موته، وإن احتمل أن یکون للحیاة دخل فی عروضه واقعاً، وبقاء الرأی لابد منه فی جواز التقلید قطعاً، ولذا لا یجوز التقلید فیما إذا تبدّل الرأی أو ارتفع، لمرض أو هرم إجماعاً.

فإنّ نظیر ذلک ثابت فی اعتبار الخبر أیضاً، فإنّ المخبر إذا ذکر کذب خبره السابق وأنّه وقع اشتباهاً فلا یعبأ بخبره السابق فی الأحکام الشرعیّة الکلّیة، بل فی الموضوعات أیضاً فی غیر مقام الشهادة والإقرار حیث إنّ مع تمام الشهادة وحصول القضاء لا ینقض الحکم السابق، والرجوع من الإقرار السابق لا یسمع یعنی لا یبطل إقراره السابق إلاّ فیما اعتبر تعدّد الإقرار کالإقرار بالزنا ونحوه أو مطلق الحدود بناءً علی سقوطها بعد الإقرار علی ما قیل، مع أنّ الخبر والإقرار بحدوثهما موضوع للاعتبار حدوثاً وبقاءً، وکما یمکن أن یکون الخبر فیما إذا وقع موضوعاً للاعتبار بشرط عدم رجوع المخبر عن إخباره وعدم اعترافه بوقوعه اشتباهاً، کذلک یمکن أن یکون الرأی موضوعاً لحدوث الاعتبار وبقائه ما لم یقع رجوع عن الرأی الحادث أو ما لم یحدث جنون ونحوه، حیث إنّ المفتی بعد جنونه رأیه السابق غیر معتبر، لا لعدم بقاء الرأی بعده، بل لأنّ المجنون لا یلیق به منصب الزعامة الدینیّة؛ ولذا یعتبر فی مرجع التقلید بعض الاُمور مما لا یکون الشخص مع فقدها مناسباً لذلک المنصب ولو مع بقاء رأیه.

والصحیح فی الجواب عن استصحاب اعتبار الرأی والنظر هو ما تقدّم عند التکلّم فی الاستصحاب فی الأحکام من الشریعة السابقة، وأنّ المتیقّن هو اعتبار رأی

ص : 295

وبالجملة یکون انتفاء الرأی بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه، ویکون حشره فی القیامة إنما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم یکن کذلک حقیقة، لبقاء موضوعه، وهو النفس الناطقة الباقیة حال الموت لتجرده، وقد عرفت فی باب الإستصحاب أن المدار فی بقاء الموضوع وعدمه هو العرف، فلا یجدی بقاء النفس عقلاً فی صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف علیه، وحسبان أهله أنها غیر باقیة وإنما تعاد یوم القیامة بعد انعدامها، فتأمل جیداً.

لا یقال: نعم، الاعتقاد والرأی وإن کان یزول بالموت لانعدام موضوعه، إلاّ أن حدوثه فی حال حیاته کافٍ فی جواز تقلیده فی حال موته، کما هو الحال فی الروایة.

المجتهد بالإضافة إلی من تعلّم الحکم منه حال حیاته، وأمّا بالإضافة إلی من لم یتعلّم منه حال حیاته وأراد تعلّم رأیه ونظره بعد موته فلا دلیل علی اعتبار نظره الحادث بالإضافة إلیه، والمتیقّن السابق غیر باق قطعاً، والمشکوک فعلاً غیر مسبوق بالیقین به. أضف إلی ذلک أنّ الشبهة حکمیّة والاستصحاب فی عدم الجعل بنحو العموم لولم یکن وارداً علی الاستصحاب فی بقاء المجعول فلا ینبغی أنّه معارض له.

ومع الاغماض عن جمیع ما ذکر فما ذکر الماتن قدس سره من عدم بقاء الرأی للمیّت _ فإنّ قیامه بالنفس الناطقة وهی وإن کانت باقیة حقیقة ولکنّ بقاءها خلاف النظر العرفیّ حیث یری أهل العرف زوالها بالموت ویحسبون الحشر إعادة للنفس الناطقة المعدومة _ لا یخفی ما فیه، فإنّ أهل العرف یرون بقاء الروح الانسانیّة ویحتمل بقاء المیّت بعد موته علی رأیه وإن یحتملون الزوال بحسب انکشاف الحال للروح بعد الموت إلاّ أنّ ذلک لا یمنع من استصحاب بقاء رأیه بحاله ولو بالنسبة إلی المدارک التی کانت عنده قبل موته فی هذه الدنیا.

ص : 296

فإنه یقال: لا شبهة فی أنه لا بد فی جوازه من بقاء الرأی والإعتقاد، ولذا لو زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعاً، کما أشیر إلیه آنفاً. هذا بالنسبة إلی التقلید الإبتدائی.

وأمّا الاستمراری فربّما یقال بأنه قضیة استصحاب الأحکام التی قلّده فیها[1].

[1] بعد ما منع قدس سره من جریان الاستصحاب _ فی بقاء حجیّة الرأی والنظر بما ذکره من أنّ الموضوع لحدوث الحجیّة حدوث الرأی ولبقائها بقاء الرأی، وحیث إنّ المجتهد لا یبقی له رأی ونظر بعد موته فلا یکون لاستصحاب الحجیّة والنظر موضوع لیجری فیه الاستصحاب _ تعرّض لاستصحاب آخر ذکروه لمشروعیّة بقاء العامیّ علی تقلید مجتهده بعد موته، وهو جریانه فی بقاء الأحکام الشرعیّة الثابتة فی حقّ العامّی عند تقلیده ذلک المجتهد حال حیاته، حیث إنّ رأی مجتهده ونظره وإن کان واسطة فی حدوثها إلاّ أنّ تلک الأحکام التی حدوثها مقتضی حجّیة رأی مجتهده عارضة لموضوعاتها من الأفعال وغیرها کسایر الموضوعات.

وأجاب عن هذا الاستصحاب بأنّه لا مجال له بناءً علی ما تقدّم منه من أنّ اعتبار شیء طریقاً مقتضاه ثبوت الحجّیّة أی المنجّزیّة والمعذّریّة له، لا إنشاء أحکام یکون مفادها مطابقاً لمفاد ذلک الشیء حتّی بمفاد الحکم الشرعیّ الطریقیّ الظاهریّ، وإذا کان مفاد دلیل اعتباره ثبوت الحجیّة أی المنجّزیّة والمعذّریّة تکون الحجّیّة ثابتة لنفس الرأی والنظر، ولا بقاء لهما بعد موت المجتهد لیجری فیه الاستصحاب فی ناحیة حجّیته، وما تقدّم منه قدس سره سابقاً فی بعض تنبیهات الاستصحاب فی توجیه قیام الأمارة المعتبرة مقام العلم فی إحراز الحالة السابقة من أنّ مفاد خطابات الاستصحاب جعل الملازمة بین ثبوت الحکم وبقائه بحیث تکون الحجّة علی الحدوث

ص : 297

فإن رأیه وإن کان مناطاً لعروضها وحدوثها، إلاّ أنه عرفاً من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض، ولکنه لا یخفی أنه لا یقین بالحکم شرعاً سابقاً، فإن جواز التقلید إن کان بحکم العقل وقضیة الفطرة کما عرفت فواضح، فإنه لا یقتضی أزید من تنجز ما أصابه من التکلیف والعذر فیما أخطأ، وهو واضح. وإن کان بالنقل فکذلک، علی ما هو التحقیق من أن قضیة الحجیة شرعاً لیس إلاّ ذلک،

حجّة البقاء أیضاً عند الشک کان تکلّفاً، فلا یقال إنّ مقتضاه أنّ ما دلّ علی اعتبار الرأی والنظر عند حدوثه یلازم بقاء الحادث علی اعتباره، فلا یکون فی البین دلیل حجّیة رأیه السابق فی اللاحق أی بعد موته.

نعم بناءً علی ما هو المعروف عند العلماء من أن مقتضی اعتبار شیء طریقاً إنشاء أحکام تکلیفیة أو وضعیّة علی طبق الطریق المعتبر، وتکون تلک الأحکام أحکاماً طریقیة ظاهریة فللاستصحاب فی بقاء تلک الأحکام بعد موت المجتهد فی حقّ مقلدیه وجه، بدعوی أنّ حدوثها وإن کان مقتضی اعتبار الرأی والنظر إلاّ أنّها کانت قائمة بموضوعاتها ومتعلّقاتها، إلاّ أنّه لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه وإن بنی علی ثبوت تلک الأحکام فی حقّ العامیّ إلاّ أنّها کانت بعنوان رأی المجتهد ونظره، وهذا العنوان المقوّم لها غیر باق بعد موت المجتهد، واحتمال أنّ الأمر فی تلک الأحکام کان بهذا العنوان کاف فی عدم جریان الاستصحاب فیها، لعدم إحراز بقاء العنوان المقوّم لها.

بل یمکن أن یقال إنّه إذا لم یجز البقاء علی تقلید المجتهد بعد زوال رأیه لهرم ومرض لم یجز البقاء بعد موته بالأولویّة؛ لأنّ المرض والهرم لا یوجب زوال الشخص بل یزول رأیه ونظره، بخلاف الموت فإنّه زوال للشخص أیضاً.

أقول: لا یخفی ما فی کلامه فی قوله قدس سره عدم جریان الاستصحاب علی تقدیر

ص : 298

لإنشاء أحکام شرعیة علی طبق مؤداها، فلا مجال لاستصحاب ما قلده، لعدم القطع به سابقاً، إلاّ علی ما تکلفنا فی بعض تنبیهات الإستصحاب، فراجع، ولا دلیل علی حجیة رأیه السابق فی اللاحق.

وأما بناءً علی ما هو المعروف بینهم، من کون قضیة الحجیة الشرعیة جعل مثل ما أدت إلیه من الأحکام الواقعیة التکلیفیة أو الوضعیة شرعاً فی الظاهر، فلإستصحاب ما قلّده من الأحکام وإن کان مجال، بدعوی بقاء الموضوع عرفاً،

الالتزام بأنّ معنی اعتبار الرأی والنظر جعل الحجیّة له إلاّ علی التکلّف السابق، مع أنّ علی ذلک التکلّف أیضاً لا موضوع للاستصحاب فی المقام؛ لأنّ التکلّف السابق کان حاصله أنّه إذا اُحرز التکلیف والحکم بالأمارة المعتبرة، وکان الشکّ فی سعة ذلک الحکم والتکلیف ثبوتاً بحیث علی تقدیر ثبوته واقعاً له سعة تبقی فی مورد قصور تلک الأمارة علی دلالتها علی البقاء، فیقال إنّ مفاد خطابات الاستصحاب جعل الملازمة والتعبّد بها فی مورد الشکّ فی البقاء علی تقدیر الثبوت سابقاً، فتکون النتیجة هی أنّ الأمارة التی تکون منجّزة لذلک التکلیف والحکم توجب التنجّز بالإضافة إلی مورد الشکّ فی بقائه، والشکّ فی المقام لیس فی بقاء التکلیف والحکم الواقعیّ علی تقدیر إصابة الفتوی بالواقع وثبوت ما أدّی إلیه نظر المجتهد واقعاً، بل بقاؤه علی هذا التقدیر وجداناً معلوم، وإنّما الشکّ فی نفس إصابة نظر المجتهد للواقع.

نعم علی تقدیر الثبوت کان رأیه ونظره منجّزاً له بالإضافة إلی حال حیاته، کما أنّه کان موافقة نظره عذراً علی تقدیر عدم إصابة ومخالفة المکلّف الواقع، والمفروض أنّ هذا المنجّز والمعذّر انتفی بموت المجتهد، فإن أمکن استصحاب الحجیّة لذلک النظر الذی کان حال حیاة المجتهد فهو، وأمّا إذا بنی علی أنّ النظر فی

ص : 299

لأجل کون الرأی عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض، إلاّ أن الإنصاف عدم کون الدعوی خالیة عن الجزاف، فإنه من المحتمل _ لولا المقطوع _ أن الاحکام التقلیدیة عندهم أیضاً لیست أحکاماً لموضوعاتها بقول مطلق، بحیث عدّ من ارتفاع الحکم عندهم من موضوعه، بسبب تبدل الرأی ونحوه، بل إنما کانت أحکاماً لها بحسب رأیه، بحیث عدّ من انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه عند التبدل، ومجرد احتمال ذلک یکفی فی عدم صحة استصحابها،

بقائه منجّز بالإضافة إلی التکالیف المتوجهة إلی المقلّدین فلا موضوع للحجیّة؛ لانتفاء ذلک النظر بالموت.

هذا کلّه مع قطع النظر عمّا ذکرنا فی اعتبار شیء طریقاً حیث یعتبر ذلک الشیء علماً بالواقع، وعلیه فالمکلّف عند تعلّم رأی المجتهد وفتواه حال حیاته للعمل کان عالماً بتکالیفه الواقعیّة فی نظر الشارع ویشکّ بعد موته أنّ المتعلّم منه کذلک یکون أیضاً عالماً بتلک التکالیف بنظر الشارع، فبناءً علی جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة یجری الاستصحاب فی بقائه عالماً بها.

وأمّا ما ذکره قدس سره فی وجه عدم جواز البقاء وتقلید المیّت ابتداءً بقیاس الأولویّة فقد ذکرنا ما فیه، فإنّ الإجماع علی عدم جواز البقاء وتقلید المجتهد بعد الجنون أو الهرم الذی یلحق معه الشخص بالصبیان، للعلم بعدم رضا الشارع بزعامتها الدینیّة، بخلاف الموت فإنّه ارتحال الشخص من عالم إلی عالم أرقی حیث بموت الأنبیاء والمعصوم والأولیاء لا ینقص من شرفهم وعظمتهم شیئاً؛ ولذلک نلتزم بجواز البقاء علی تقلید المیّت إذا لم یکن فی الأحیاء الموجودین من هو أعلم منه، بل وجوب البقاء علی تقلیده إذا کان هو أعلم منهم، وتعلّم منه حال حیاته الوظایف الشرعیّة للعمل بها، وأمّا ما لم یتعلّمها فاللازم فیها الرجوع إلی الحیّ علی التفصیل السابق.

ص : 300

لإعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً، فتأمل جیداً.

هذا کلّه مع إمکان دعوی أنه إذا لم یجز البقاء علی التقلید بعد زوال الرأی، بسبب الهرم أو المرض إجماعاً، لم یجز فی حال الموت بنحو أولی قطعاً، فتأمل.

ومنها: إطلاق الآیات الدالة علی التقلید.

ولیس المدرک فی شیء من ذلک الاستصحاب، کلّ ذلک الالتزام لا للاستصحاب لیقال بأنّ المقام من الشبهة الحکمیّة ولا اعتبار للاستصحاب فیها، بل لإطلاق الروایات الواردة فی جواز أخذ معالم الدین من الأحیاء المتحمّلین لها علی ما فی الروایات المتعدّدة، فإنّه لم یقیّد فی شیء منها بأنّ المأخوذ من المعالم إذا کان بصورة الفتوی یعمل به مادام المأخوذ منه حیّاً، والالتزام بعدم جواز التقلید من المیّت ابتداءً _ یعنی التعلّم من المیّت للعمل بالرجوع إلی من یخبر بفتواه وما سمع منه _ لاحتمال أنّ المقدار الممضی من السیرة العقلائیّة فی الرجوع إلی أهل الخبرة فی تعلّم الأحکام الشرعیّة للعمل هو الرجوع إلی الحیّ والتعلّم منه.

وبتعبیر آخر الفقیه الذی تعلّم العامیّ منه وظیفته الشرعیّة فی الوقایع التی یبتلی بها حال حیاته یحسب کأحد الأحیاء، فإن کان أعلمهم یجب الأخذ بقوله ولو بعد موته کما هو مقتضی السیرة العقلیّة، وإن کان فیه احتمال الأعلمیّة جاز البقاء علی تقلیده إن اختصّ به احتمالها لو لم نقل بتعیّن البقاء فی الفرض أیضاً، بدعوی اختصاص احتمال الأعلمیّة بواحد فی الأحیاء کان معیّناً، لدوران الحجّة فی ذلک الفرض بین التعیین والتخییر، ولا یجری هذا الدوران فیما إذا کان الاحتمال فی المیّت؛ لأنّ جماعة من العلماء لم یجوّزوا التقلید من المیّت حتی بقاءً وحتّی فی فرض کونه أعلم من الحیّ فلا یتمّ دوران الأمر فی تقلیده بین التعیین والتخییر، وما ذکرنا من جریان السیرة العقلائیّة من اتّباع قول من یختصّ باحتمال الأعلمیّة،

ص : 301

وفیه _ مضافاً إلی ما أشرنا إلیه من عدم دلالتها علیه _ منع إطلاقها علی تقدیر دلالتها، وإنما هو مسوق لبیان أصل تشریعه کما لا یخفی. ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروایات علی التقلید، مع إمکان دعوی الإنسیاق إلی حال الحیاة فیها.

ومنها: دعوی أنه لا دلیل علی التقلید إلاّ دلیل الإنسداد، وقضیته جواز تقلید المیت کالحی بلا تفاوت بینهما أصلاً، کما لا یخفی.

إحرازها فیما إذا کان المحتمل میّتاً لا یخلو عن المناقشة، فالمتعیّن فی الفرض الاحتیاط بین قوله وقول أعلم الأحیاء إلاّ إذا ادّعی العلم أو الوثوق بأنّ الشارع لا یرید من العامیّ الاحتیاط فی الوقایع حتّی بین الأقوال، ویکتفی بالموافقة الاحتمالیّة الحاصلة بمطابقة عمله بقول أحدهما.

وقد یقال إنّما یجوز البقاء علی تقلید المیّت أو یجب فیما إذا عمل العامیّ بفتواه حال حیاته، وما لم یعمل به یتعیّن رجوعه إلی الحیّ سواء کان المیّت أعلم أم لا، ولعلّ هذا القائل یری أنّ التقلید هو العمل المستند إلی الفتوی وما دام لم یعمل به حال حیاة المفتی یکون اتّباع قوله بعد وفاته من التقلید الابتدائیّ من المیّت، أو یقال إنّه یکون المجتهد نوعاً فی فتاواه مبتلی بالمعارض من مثله من الأحیاء بحیث کان العامیّ مخیّراً بین تقلیده وتقلید المیّت، والتخییر فی الحجّة مقتضاه أن یکون أحدهما حجة تعیینیّة بالأخذ بأحدهما المعیّن، کما تقدّم ذلک فی التخییر بین الخبرین المتعارضین علی القول به، ولکن لا یخفی أنّه إذا کان المجتهد حال حیاته أعلم أو محتمل الأعلمیّة کانت فتواه معتبرة، فیکون تعلّم العامیّ الحکم فی واقعة منه موجباً لعلمه بالحکم الشرعیّ فی تلک الواقعة، وقد تقدّم أنّه مع التعلّم من مجتهد حال حیاته لا یعتبر العمل به حال حیاته أیضاً.

ومما ذکرنا یظهر أنّ ما ذکر فی العروة _ من أنّ التقلید هو الالتزام بالعمل بقول

ص : 302

وفیه أنه لا یکاد تصل النوبة إلیه، لما عرفت من دلیل العقل والنقل علیه.

ومنها: دعوی السیرة علی البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة علیهم السلام عدم رجوعهم عما أخذوه تقلیداً بعد موت المفتی.

وفیه منع السیرة فیما هو محل الکلام، وأصحابهم علیهم السلام إنما لم یرجعوا عما أخذوه من الأحکام لأجل أنهم غالباً إنما کانوا یأخذونها ممن ینقلها عنهم علیهم السلام بلا واسطة أحد، أو معها من دون دخل رأی الناقل فیه أصلاً، وهو لیس بتقلید کما لا یخفی، ولم یعلم إلی الآن حال من تعبد بقول غیره ورأیه، أنه کان قد رجع أو لم یرجع بعد موته.

ومنها: غیر ذلک مما لا یلیق بأن یسطر أو یذکر.

مجتهد معیّن وإن لم یعمل به، بل ولولم یأخذ فتواه، فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فیها کفی فی تحقق التقلید _ غیر تامّ؛ لأنّ الالتزام غیر داخل لا فی مدلول أخبار وجوب طلب العلم وأخذ معالم الدین، ولا فی حکم العقل من لزوم رعایة التکالیف الواقعیّة وموافقتها وامتثالها وجداناً أو بالإحراز التعبدیّ، فإذا أخذ رسالة مجتهد والتزم للعمل بما فیها ولکن توفّی المجتهد قبل التعلم منها فضلاً عن العمل یکون تقلیده تقلیداً من المیّت ابتداءً، لخروجها عن أخبار الأخذ والتعلّم التی أشرنا إلیها وذکرنا إحراز الإمضاء فی مقدار مدلولها من السیرة ولم یحرز الإمضاء فی غیر ذلک المقدار.

وکذا ظهر الحال فیما ذکره من أنّ الأقوی جواز البقاء علی تقلید المیّت ولا یجوز تقلید المیّت ابتداءً.

وقد تقدّم الوجه فی عدم جواز تقلید المیت ابتداءً، وقد یقال(1) فی وجه عدم

ص : 303


1- 1) مصباح الاُصول 3:462.

جوازه وجه آخر وهو أنّ المسائل الاختلافیّة بین الفقهاء فی نفسها کثیرة جدّاً ولو لم یعتبر فی جواز التقلید الابتدائیّ حیاة المفتی بأن جاز التقلید عن المیّت ابتداءً لزم الرجوع فی تلک المسائل الکثیرة إلی الأعلم من الأحیاء والأموات، فینحصر جواز التقلید فی المذهب بواحد أو اثنین فی جمیع الأعصار لاعتبار الأعلمیّة من الکلّ أو یحتاط بین اثنین وثلاث، وهذا خلاف المعلوم من ضرورة المذهب حیث إنّ هذا النحو من التقلید یعدّ مذهباً للعامّة.

ولکن هذا الوجه فیه من المناقشة؛ لأنّ الأعلم إلی بعض الأعصار لا یبقی بالإضافة إلی جمیع الأعصار فی وصف الأعلمیّة، بل یوجد فی بعض العصور التالیة من هو أعلم بالإضافة إلی الأعلم السابق، وهذا لیس نظیر مذهب العامّة حیث لا ینسدّ باب الاجتهاد فی الأحکام وینفتح باب الاجتهاد فی فهم الفتوی أو استخراج الفتوی من أقوال السابقین المعروفین بالأعلمیّة لا یحتاج إلی تکلّفه بعد ما بیّنا الوجه فی اعتبار الحیاة فی المفتی فی التقلید الابتدائیّ من قصور أدلّة إمضاء السیرة العقلائیّة.

ص : 304

مسائل فی الاجتهاد والتقلید

اشارة

ولا بأس بالتعرّض فی المقام إلی جملة من المسائل التی ذکرها فی العروة فی الاجتهاد والتقلید، منها ما ذکره قدس سره فی:

(مسألة 10) إذا عدل عن المیّت إلی الحیّ لا یجوز له العود إلی المیّت[1].

(مسألة 11) لا یجوز العدول عن الحیّ إلی الحیّ إلاّ إذا کان الثانی أعلم[2].

(مسألة 12) یجب تقلید الأعلم مع الإمکان علی الأحوط[3] ویجب الفحص عنه.

[1] وقد ظهر ممّا تقدّم إذا تعلّم الوظایف من مجتهد أعلم حال حیاته ومات ذلک المجتهد فقلّد مجتهداً حیّاً، فإن کان المیّت أعلم بالإضافة إلیه فرجوعه إلی الحیّ غیر صحیح، ووجب علیه العمل بما تعلّم من المیت حال حیاته، وإن کان فی کلّ منهما احتمال الأعلمیّة بالإضافة إلی الآخر فلا بأس فیما إذا لم یوجب القطع بمخالفة التکلیف الواقعیّ إمّا فی الواقعة السابقة أو اللاحقة وإن لم نقل بالاحتیاط بین القولین والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیّة.

[2] ولا یخفی أنّ الثانی إذا صار أعلم من السابق یجب الرجوع إلیه، وأمّا إذا علم أنّ الثانی کان أعلم من الحیّ الأوّل فیعلم بطلان تقلیده الأوّل.

[3] أقول: قد تقدّم لا یجب تقلید الأعلم فی المسائل التی لا یعلم اختلاف المجتهدین فیها لا إجمالاً ولا تفصیلاً، واتّباع الأعلم فی المسائل التی یعلم العامیّ اختلاف العلماء فیها ولو إجمالاً عندهم لعدم اعتبار قول غیره، ویجب الفحص عن الأعلم فیها مع العلم بوجوده، بل مع احتمال وجوده لإحراز الحجّة فالأخذ بقول أحدهم مع الشک فی اعتبار قوله لا یکون مجزیاً، کما تقدّم فی بیان حکم العقل فی إحراز الامتثال والطاعة، کما لا یحرز أن ما أخذه منه إحراز لمعالم دینه ووظیفته

ص : 305

(مسألة 13) إذا کان هناک مجتهدان متساویان فی الفضیلة یتخیّر بینهما إلاّ إذا کان أحدهما أورع فیختار الأورع[1].

الشرعیّة فی الواقعة. نعم لا بأس بترکه والاحتیاط بالأخذ بأحوط القولین.

[1] أقول: یقع الکلام تارة فیما إذا لم یعلم العامیّ اختلاف أحدهما مع الآخر فی المسائل التی یبتلی بها أو یحتمل ابتلاءه بها، واُخری فیما إذا علم اختلافهما تفصیلاً أو إجمالاً، أمّا الفرض الأوّل فالظاهر جواز تعلّم الحکم من کلّ منهما، وبعد تعلّمه یجب علیه العمل بما تعلّمه، وقد تقدّم أنّ هذا مقتضی الإطلاق فیما دلّ علی جواز المراجعة إلی من یثق به فی تعلّم الأحکام من یونس بن عبدالرحمن والحارث بن المغیرة وأمثالهما بلا حاجة إلی إحراز عدم المخالفة بینهما بالأصل، ولا أثر لأورعیّة أحدهما فی الفرض؛ لأنّ ما یمکن أن یستند إلیه فی الالتزام بالرجوع إلی الأورع من مقبولة عمر بن حنظلة وروایة داود بن الحصین التی فی سندها الحکم بن مسکین عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما فیه خلاف فرضیا بالعدلین فاختلف العدلان بینهما، عن قول أیّهما یمضی الحکم؟ قال: ینظر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما، فینفذ حکمه ولا یلتفت إلی الآخر»(1) وهما ظاهرتان فی فرض ظهور اختلافهما.

وأمّا إذا کان الاختلاف بینهما محرزاً فالمتعیّن سقوط اعتبار کلّ من الفتاوی المختلفة بینهما عن الاعتبار، فإنّ دلیل جواز التقلید بمعنی تعلّم الحکم من الفقیه لا یعمّ صورة العلم بالاختلاف، إلاّ فیما إذا کان أحدهما أعلم کما هو خلاف الفرض فی المسألة، فیدور أمر العامی فی المسألة بین الاحتیاط فی الواقعة إذا لم یمکن الاحتیاط فیها بالأخذ بأحد القولین، وإذا أحرز أنّ الشارع لا یرید منها الاحتیاط فی

ص : 306


1- 1) وسائل الشیعة 27:113، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 20.

الوقایع فتصل النوبة إلی الموافقة الاحتمالیّة التی تحصل بمطابقة عمله لفتوی أحدهما فی المسائل، حیث إنّه إذا لم یجب الموافقة القطعیّة فی الوقایع یکتفی بالموافقة الاحتمالیّة فی الوقایع، وهذه الموافقة الاحتمالیّة مقدّمة علی الموافقة القطعیّة فی بعض الموارد مع العلم بالمخالفة فی بعضها الآخر.

ولا دلالة فی المقبولة ولا لروایة داود علی خلاف ذلک، فإنّ موردهما القضاء وفصل الخصومة، ولا یمکن ذلک _ یعنی فصلها _ إلاّ بنفوذ حکم أحدهما المعیّن، ولو ادّعی استفادة حکم الرجوع إلی الفقیه فی تعلّم الحکم الشرعی أی الفتوی منهما لزم الالتزام بأنّه إذا کان أحد الفقیهین أعلم من الآخر، والآخر أورع من الأعلم یکون المکلّف علی التخییر بینهما مع أنّ صاحب العروة أو غیره لم یلتزم بذلک، ووجه اللزوم ظهور المقبولة والروایة کون کلّ من الأوصاف مرجّحاً لقضاء صاحبه، لا أنّ المرجّح مجموع تلک الأوصاف؛ ولذا کرّر فی المقبولة السؤال عمّا إذا کان کلّ من الحکمین مساویاً فیها ولیس لأحدهما فضل علی الآخر فیها.

ثمّ إنّه کما تقدّم لا تصل النوبة فی مفروض المسألة بقاعدة احتمال التعیّن فی الحجّة عند دوران أمرها، بأن یقال فتوی الأورع حجّة یقیناً والشکّ فی فتوی الآخر وذلک فإنّ التخییر الذی ذکرنا للالتزام بعدم وجوب الاحتیاط و کفایة الموافقة الاحتمالیّة، لا لاعتبار کلا الفتویین علی نحو التخییر أو اعتبار فتوی الأورع تعیّناً، لیقال یؤخذ بالتعیین عند دوران الحجّة بین التعیین والتخییر.

وقد یقال(1): لا یکون المقام من دوران الحجّة بین التعیین والتخییر حتّی بناءً

ص : 307


1- 1) بحوث فی الاُصول (الاجتهاد والتّقلید) :65. (للإصفهانی).

(مسألة 14) إذا لم یکن للأعلم فتوی فی مسألة من المسائل یجوز[1] فی تلک المسألة الأخذ من غیر الأعلم وإن أمکن الإحتیاط.

علی الالتزام بأنّ الحجة عند دوران الأمر بین مجتهدین متساویین تخییریّة؛ لأنّ ما فی أحد المجتهدین من المزیّة غیر دخیل فی ملاک طریقیّة فتواه، کما إذا دار الأمر بین مجتهدین متساویین فی العلم ولکن أحدهما یواظب علی نافلة اللیل دون الآخر.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه إذا احتمل أنّ ما فی أحدهما من المزیّة وإن لم یکن ذلک دخیلاً فی مطابقة فتاویه للواقع اعتبره الشارع بملاحظة منصب المرجعیّة والقضاء، دخل المقام مع الالتزام بالتخییر فی الحجّة فی صورة التساوی فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر فیها.

[1] قد یفصّل(1) فی المقام بین ما إذا لم یفتِ الأعلم فی مسألة لعدم إکمال فحصه عن مقتضی مدارک الحکم فیها أو أنّه لم یفحص عنها فی تلک المسألة أصلاً، کما ربّما یتّفق ذلک فی مقام الاستفتاء عنه فی مسألة فیجیب فیها بالاحتیاط، ففی مثل ذلک ممّا یحتمل الأعلم أنّه لو أکمل فحصه أو فحص عن المدرک فیها لأفتی بما أفتی فیه غیر الأعلم، وکذا فیما لا یرید الأعلم أن یفتی فیها ببعض الملاحظات، کأن لا یرید أن یخالف المشهور فی إفتائهم وإن کان مقتضی ملاحظة المدارک للأحکام هو ما أفتی به غیر الأعلم، فإنّه یجوز فی ذلک أیضاً الرجوع إلی فتوی غیر الأعلم، فإنّه عالم بحکم المسألة کما هو فرض کونه مجتهداً عارفاً بطریق الاستنباط وتعیین الأحکام من أدلّتها، وکان المانع عن اعتبار فتاواه فی سایر الموارد معارضتها وإحراز مخالفتها مع فتوی الأعلم ولو إجمالاً، وهذا المانع غیر موجود بالإضافة إلی مفروض الکلام فیعمّه ما دلّ علی الرجوع بالعارف بالأحکام، ویؤیّده السیرة العقلائیّة، ویلحق

ص : 308


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:145.

بذلک ما إذا کانت المسألة مما لم یتعرّض الأعلم لحکمها أصلاً ویحتمل العامیّ أنّه لو کان متعرّضاً لحکمها لأفتی بما أفتی به غیر الأعلم.

وأمّا إذا کان عدم إفتاء الأعلم بالإضافة إلی نفس الحکم الواقعیّ لا بالإضافة إلی مدرکه، بل کان المستفاد من قوله أنّ مقتضی رعایة المدارک هو الحکم بالتکلیف أو ما هو الموضوع له من الوضع، کما لو عبّر بقوله: الأحوط لولم یکن أقوی هو الترک أو الإتیان، فی مقابل من أفتی بجواز الارتکاب أو جواز الترک أو رأی الأعلم أنّ مقتضی العلم الإجمالیّ الموجود بالتکلیف فی المسألة هو الاحتیاط والجمع بین الفعلین، کما قال بالاحتیاط فی مسألة من سافر أربعة فراسخ غیر قاصد الرجوع من یومه، وإذا رأی المجتهد أنّ ما دلّ علی وجوب القصر فیه معارض بما دلّ علی التمام فیه ولیس فی البین معیّن آخر لوجوب خصوص أحدهما، فقال لا مجال فی المسألة إلاّ الاحتیاط بالجمع بین القصر والتمام، فلا یجوز للعامیّ فی مثل ذلک الرجوع إلی فتوی غیر الأعلم الذی ینفی التکلیف فی الفرض الأوّل أو یعیّن التکلیف فی ناحیة أحد الفعلین.

وعلی الجملة إذا کان ما ذکره الأعلم فی المسألة من الاحتیاط متضمّناً لتخطئة من ینفی التکلیف أو الاحتیاط فلا مجال فیها للرجوع إلی قول غیر الأعلم.

وقد ذکرنا فی جواب هذا التفصیل فی الدورات السابقة أنّ ما هو معتبر بالإضافة إلی العامّی هو الفتوی بالحکم الشرعی، ومع عدم الافتاء به فلا موضوع لوجوب التعلّم منه والمفروض فی المقام أنّه لیس للأعلم فتوی بالإضافة إلی الحکم الشرعی فی المسألة لیعارض فتوی الآخر، ویبقی ما یتضمّن قول الأعلم من تخطئة غیره، وأنّه لیس بمقتضی المدارک ولا دلیل علی اعتبار قول الأعلم فی نفس هذا

ص : 309

(مسألة 15) إذا قلّد مجتهداً کان یجوّز البقاء علی تقلید المیّت فمات ذلک المجتهد، لا یجوز البقاء علی تقلیده فی هذه المسألة، بل یجب الرجوع إلی الحیّ الأعلم فی جواز البقاء وعدمه[1].

القول، ولکن لا یبعد بأن یقال الدلیل علی اعتبار قول الأعلم فی فرض المعارضة السیرة العقلائیّة، والعقلاء لا یعتنون بقول غیر الأعلم إذا کان القول المزبور موضع اتّهام من الأعلم مع إمکان رعایة الواقع ولو بالاحتیاط، والمفروض أنّ الأعلم عیّن الوظیفة الظاهریّة فیه.

ثمّ إذا جاز العدول إلی غیر الأعلم فی موارد عدم الفتوی من الأعلم یجب رعایة الرجوع إلی الأعلم فالأعلم مع اختلافهما لعین ما تقدّم.

اختلاف الحیّ والمیّت فی مسألة جواز البقاء

[1] یقع الکلام تارة فی فتوی المجتهد المیّت فی مسألة البقاء علی تقلید المیّت سواء أفتی فیها بجواز البقاء أو بعدم جوازه أو بوجوب البقاء، واُخری فی فتوی الحیّ الأعلم سواء أفتی بجواز البقاء أو بعدم جوازه.

فنقول: إذا أفتی المیّت بجواز البقاء علی تقلید المیّت فلا یجوز الاستناد إلیه والاعتماد علیه فی مقام العمل بسایر فتاواه؛ لأنّ الاستناد فی العمل بفتاواه اعتماداً علی فتواه بجواز البقاء دوریّ، فلابدّ من الرجوع إلی الحیّ الأعلم فی مسألة جواز البقاء علی تقلید المیّت، فیکون المقام نظیر ما إذا لم یکن للأعلم فتوی فی المسائل التی ابتلی بها المکلّف، حتّی فیما إذا فرض أنّ المیّت کان أعلم من الحیّ الموجود فعلاً، إذ لا یعتبر قوله فی مسألة البقاء علی تقلید المیّت سواء کان فتواه بجواز البقاء أو وجوبه أو عدم جواز البقاء، وکذا یکون نظیر ما إذا کان الأعلم الحیّ غیر واجد لسایر شرایط التقلید حیث یرجع إلی فتوی الحیّ الواجد لشرایط جواز التقلید،

ص : 310

حیث إنّ فتوی الأعلم الحیّ هو المتیقّن فی الاعتبار بالإضافة إلی العامیّ بعد سقوط فتوی المیّت عن الاعتبار فی مسألة البقاء علی تقلید المیت.

وعلی ذلک فإن أفتی الحیّ الأعلم بعدم جواز البقاء علی تقلید المیت فلا یترتّب علی رأی المیّت فی المسائل أیّ أثر حتّی إذا فرض أنّ فتواه کانت وجوب البقاء علی تقلید المیّت فضلاً عن فتواه بجواز البقاء أو حرمته، وأمّا إذا أفتی الحیّ الأعلم بجواز البقاء فهل یمکن الالتزام بأنّ للعامیّ أن یعتمد فی مسألة البقاء علی تقلید المیّت علی فتوی المیّت بفتوی الحیّ فیها بجواز البقاء؟ بأن یبقی علی تقلید المیّت فی خصوص هذه المسألة بحیث صار ما یفتی المیّت حال حیاته من جواز البقاء علی تقلید المیّت حجّة بعد وفاته أیضاً بفتوی الحیّ، أو أنّ فتاوی المیّت فی سایر المسائل معتبرة بفتوی الحیّ بجواز البقاء ولا تعتبر فتوی المیّت فی مسألة جواز البقاء حتّی مع حکم الحیّ بجواز البقاء علی تقلید المیّت.

الصحیح أن یقال: إن لم یختلف فتوی الحیّ الأعلم مع فتوی المیّت فی مسألة جواز البقاء علی تقلید المیّت _ بأن یکون ما أجازه الحیّ من البقاء کان هو الجائز علی فتوی المیّت _ فلا یصیر قول المیّت فی مسألة جواز البقاء مع تقلید العامیّ عن الحیّ الأعلم حجّة معتبرة فی تلک المسألة، فإنّ فتوی الأعلم الحیّ بجواز البقاء معناه أنّ الفتاوی من المیّت فی المسائل إذا قلّد العامیّ إیّاه فیها حال حیاته هی الوظائف الشرعیّة بالإضافة إلیه بعد مماته، ومع فرض رجوع العامیّ إلی الحیّ الأعلم فی ذلک وصیرورته عالماً بوظائفه الشرعیّة لا معنی لاعتبار فتاوی المیّت علماً فی حقّ العامی ثانیاً بفتوی نفس المیّت حال حیاته بجواز البقاء، لأنّ هذا الاعتبار یصیر لغواً محضاً، وکذا الحال فیما إذا اختلفت فتوی الحیّ الأعلم مع فتوی المیّت وکانت

ص : 311

فتوی الحیّ أوسع من فتوی المیّت فی الجواز، کما إذا کان المیّت یعتبر فی جواز البقاء العمل بفتوی المیّت حال حیاته، ولکنّ الحیّ الأعلم یجوّز البقاء مطلقاً سواء عمل بفتوی المیت حال حیاته أم لم یعمل، فإنّه فی هذا الفرض أیضاً یکون العامیّ بالرجوع إلی الحیّ عالماً بالوظایف الشرعیّة فی الوقایع التی قلّد فیها المجتهد المیّت، فلا أثر للضیق فی فتوی المیّت فی مسألة جواز البقاء.

وبتعبیر آخر إذا صارت فتاوی المیّت فی الوقایع فی المسائل التی تعلم حکمها من المیت حال حیاته حجة فی حق العامیّ بفتوی الحیّ فلا یمکن شمول اعتبار فتوی الحیّ بالإضافة إلی فتوی المیّت فی مسألة البقاء، حیث إنّه لغو محض.

وأمّا إذا کان الأمر بالعکس، بأن کان المیّت یجوّز البقاء علی تقلید المیّت فی المسائل التی فیها قلّد فی حیاة المجتهد، سواء عمل بها فی حال حیاته أم لا، ولکن الحیّ الموجود فعلاً یجوز له البقاء علی تقلید المیّت فی خصوص المسائل التی قلّد فیها المجتهد، وعمل بها فی حال حیاته، ففی هذا الفرض لو عمل العامیّ بفتوی المیّت فی مسألة البقاء حال حیاته، کما إذا بقی علی تقلید مجتهد برهة من الزمان بعد موته اعتماداً علی فتوی حیّ أجاز البقاء علی تقلید المیّت ولولم یعمل بفتواه حال حیاته، وبعد موت هذا الحیّ إذا رجع إلی الحیّ الذی یعتبر العمل فی حال حیاة المیّت یبقی علی تقلید الثانی فی مسألة البقاء الذی عمل بفتواه حال حیاته فی البقاء علی تقلید المیّت الأوّل، وبذلک یمکن القول باعتبار فتوی المیّت الثانی بفتوی الحیّ الفعلیّ فی البقاء علی تقلید المیّت الأوّل حتّی فی المسائل التی لم یعمل بفتواه فیها زمان حیاته، فیکون هذا نظیر ما أقمنا الدلیل علی حجّیة خبر العدل فی الأحکام الشرعیّة وقام خبر عدل علی حجّیة خبر مطلق الثقة فی الأحکام الشرعیّة، فتکون النتیجة حجّیة خبر مطلق

ص : 312

الثقة فی الأحکام الشرعیّة.

لا یقال: إذا أفتی الحیّ الفعلیّ بجواز البقاء علی تقلید المیّت فی خصوص المسائل التی عمل بها العامیّ حال حیاة مجتهده، ومنع عن البقاء علی تقلیده فیما لم یعمل به حال حیاته؛ لقیام الدلیل عند الحیّ علی الاختصاص، فکیف یجوز للعامیّ الذی عمل بفتوی المیّت فی مسألة جواز البقاء حال حیاته البقاء علی فتاوی المیّت الأوّل مع عدم عمله بتلک الفتاوی زمان حیاة المیّت الأوّل؟ حیث إنّ الحیّ الفعلیّ یمنع عن مثل هذا البقاء.

فإنّه یقال: العامیّ لم یستند فی البقاء علی تلک الفتاوی إلی فتوی الحیّ فی مسألة جواز البقاء لیتناقض هذا النحو من البقاء مع فتواه، بل یستند فی جواز البقاء علیها إلی فتوی المیّت الثانی فی مسألة جواز البقاء، والمفروض أنّه عمل بهذه الفتوی فی زمان حیاته ویستند فی البقاء فی هذا الجواز إلی فتوی الحیّ الفعلی.

وبتعبیر آخر إنّما منع الحیّ فی الاستناد فی تلک الفتوی بأن یعمل العامیّ بها مستنداً إلی الحیّ الفعلیّ وأنّه جوّز هذا الاستناد فیها ولم یمنع عنه، ولکن لم یمنع عن العمل بها مستنداً إلی فتوی المیّت الثانی.

ولا یخفی أنّ المراد بجواز البقاء فی کلّ من فتوی الحیّ والمیّت الثانی عدم تعیّن البقاء، وعلیه یکون فتاوی المیت الأوّل وفتاوی الحیّ الفعلیّ من قبیل الحجّة التخییریّة بالمعنی المتقدّم، بمعنی أنّ للعامیّ اختیار إحداهما فی مقام العمل.

وأمّا إذا أفتی المیّت بجواز البقاء علی تقلید المیّت، وأفتی الحیّ بوجوب البقاء فهل یمکن أن یعمّ فتوی الحیّ لمسألة جواز البقاء علی تقلید المیّت التی أفتی فیها

ص : 313

المیّت بالجواز؟ بحیث جاز للعامیّ العدول فی غیرها من المسائل إلی الحیّ استناداً إلی فتوی المیّت بجواز العدول والبقاء، أو أنّه لا یمکن أن تعمّ فتوی الحیّ تلک المسألة، بل یختصّ اعتبار فتوی الحیّ لسایر فتاوی المیّت فی المسائل.

قد یقال بالاختصاص حیث إنّ شمول اعتبار فتوی الحیّ بوجوب البقاء لنفس مسألة ما أفتاه المیّت فی مسألة جواز البقاء یوجب أن یکون فتوی المیّت فی سایر المسائل حجّة تعیینیّة وتخییریّة حیث إنّ شمول فتوی الحیّ لما أفتی به فی سایر المسائل مقتضاه أنّ فتوی المیّت فیها حجّة تعیینیّة، وشمول فتواه لنفس مسألة جواز البقاء الذی هو فتوی المیّت یوجب کونها حجّة تخییریّة، ولا یمکن أن یکون فتوی أیّ مفت فی مسألة من المسائل أن تکون حجّة تعیینیّة وتخییریّة.

أقول: إنّما لا یکون قول المیّت حجّة فی مسألة البقاء علی تقلید المیّت ولا فی سائر المسائل إذا کان الاستناد بنفس قوله، وإذا أفتی الحیّ بوجوب البقاء علی تقلید المیّت، وکان قوله حجّة فیها یکون العامیّ برجوعه إلی هذا الحیّ عالماً بوظایفه فی سائر المسائل التی تعلّم حکمها من المیّت حال حیاته کما هو مقتضی الحجّة التعیینیّة، ولا یعتبر قول المیّت فی مسألة جواز البقاء وإن تعلّمه العامیّ من المیّت حال حیاته؛ لأنّ مرجع قول المیّت أنّ العامیّ جاهل بعد موت مجتهده بالوظائف فی المسائل ما لم یختر البقاء والرجوع إلی الحیّ، والمفروض أنّ الحیّ الذی قوله معتبر فی البقاء نفی ذلک وأفتی بأنّ العامیّ بعد موت مجتهده عالم بالوظائف وأنّ وظائفه هی التی کانت علیها حال حیاة مجتهده.

وبتعبیر آخر اختیار البقاء أو الرجوع فی المسائل إلی الحیّ وفتوی المیّت فی مسألة البقاء موضوعها العامیّ والجاهل بالوظیفة، وبفتوی الحیّ بوجوب البقاء

ص : 314

واعتباره کما هو المفروض یخرج العامیّ عن الموضوع الذی ذکر المیّت الحکم له، فیکون فتوی الحیّ حاکماً علی فتوی المیّت فتدبّر.

وأمّا إذا کان الأمر بالعکس، بأن کان فتوی المیّت فی مسألة البقاء الوجوب وفتوی الحیّ الجواز، حیث لا اعتبار بفتوی المیّت فی المسائل ومنها مسألة البقاء علی التقلید بعد موت المجتهد فیجوز للعامیّ البقاء علی فتاوی المیّت أو الرجوع فیها إلی الحیّ.

وبتعبیر آخر لا یمکن أن تکون فتاوی مجتهد بالإضافة إلی العامیّ حجة تعیینیة وتخییریّة وحیث إنّ قول المجتهد الثانی لیس بحجّة یکون المتّبع قول الحیّ.

نعم إذا کان لفتوی الحیّ فی الجواز خصوصیّة ولم تکن تلک الخصوصیّة فی فتوی المیّت، بأن أجاز الحیّ البقاء فی خصوص المسائل التی عمل المکلف بها زمان حیاة مجتهده، وفرض أنّ العامیّ قد عمل بفتوی المیّت بوجوب البقاء فی حیاة المجتهد جاز له البقاء علی تقلید المجتهد الثانی فی هذه المسألة، وبذلک تکون فتاوی المجتهد المیّت الأول حجّة فی حقّه وإن لم یکن عاملاً بها زمان المجتهد الأوّل الذی مات قبل المجتهد الثانی.

وأمّا إذا کان کلّ من المیّت والحیّ الفعلیّ قائلاً بوجوب البقاء علی تقلید المیّت فإن لم یکن بینهما اختلاف فی الخصوصیّات أصلاً أو کانت الخصوصیّة فی فتوی المیّت فقط فلا یعتبر قول المیّت فی مسألة البقاء أصلاً لعین الوجه المذکور فیما تقدّم فی المسألة فی صورة تجویز کلّ منهما البقاء علی تقلید المیت، وأمّا إذا کانت الخصوصیّة فی فتوی الحیّ فقط، کما إذا أفتی الحیّ بوجوب البقاء فی خصوص المسائل التی عمل العامیّ بها زمان حیاة المفتی، وکان فتوی المیّت وجوب البقاء

ص : 315

(مسألة 16) عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل[1] وإن کان مطابقاً للواقع، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذی کان غافلاً حین العمل وحصل منه قصد القربة، فإن کان مطابقاً لفتوی المجتهد الذی قلّده بعد ذلک کان صحیحاً، والأحوط مع ذلک مطابقته لفتوی المجتهد الذی کان یجب علیه تقلیده حین العمل.

سواء عمل بها زمان حیاة مجتهده أم لا، فیمکن أن تصیر فتوی المیّت حجّة فی مسألة وجوب البقاء علی النحو الذی فرضنا فی اختلاف الحیّ مع المیّت فی فتواهما فی خصوصیّة جواز البقاء.

بقی فی المقام ما إذا أفتی الحیّ بعدم جواز البقاء علی تقلید المیّت بعد موته، وقد أشرنا فی أوّل البحث أنّ فتواه بعدم جواز البقاء علی تقلید المیت یوجب الرجوع فی تمام المسائل إلیه ولا یعتبر شیء من فتاوی المیّت لا فی مسألة البقاء علی تقلید المیت، ولا فی سائرها؛ لأنّ معنی عدم جواز البقاء أنّ فتاوی المیّت لا تکون شیء منها حجّة فی حقّ العامیّ، والمفروض أنّ علی العامیّ الرجوع فی الوقایع التی یبتلی بها إلی أعلم الأحیاء، فإنّ قوله القدر الیقین فی الاعتبار بالإضافة إلیه، واللّه العالم.

حکم الجاهل القاصر والمقصّر

[1] یقع الکلام فی المقام تارة فی استحقاق الجاهل العقاب علی مخالفة الواقع والتکلیف الثابت فیه، بل وفی استحقاقه العقاب علی احتمال مخالفته الواقع وإن لم یخالفه اتّفاقاً، واُخری فی الحکم بصحة أعماله الصادرة عنه حین الجهل فیما إذا صادفت الواقع.

أمّا الکلام فی الجهة الاُولی فلا ینبغی التأمّل فی أنّ الجهل قصوراً لا یوجب استحقاق العقاب علی مخالفة الواقع فضلاً عمّا إذا لم یخالفه ولو اتّفاقاً، والمراد من

ص : 316

الجاهل القاصر فی المقام من لم یستند فی عمله إلی الحجّة الشرعیّة، کالعامیّ إذا لم یستند فی عمله إلی الحجة الشرعیّة، ولم یکن متمکّناً من الاحتیاط، وأمّا إذا کان مقصّراً بأن لم یستند فی عمله إلی الحجة الشرعیة من فتوی المجتهد مع تمکّنه منه وترک الاحتیاط أیضاً کذلک فلا کلام فی استحقاقه العقاب علی مخالفة الواقع فیما لو تعلّم الفتوی أو أخذ بالاحتیاط لم یکن یخالف الواقع، بل یمکن الالتزام باستحقاق الجاهل العقاب فیما ترک التعلّم وترک الاحتیاط ولکن لم یخالف التکلیف الواقعیّ اتفاقاً حیث إنّ احتمال مخالفة التکلیف الواقعی حین ارتکاب العمل من غیر حجّة شرعیّة علی جواز الارتکاب لا یقصر عن التجرّی، کمن شرب العصیر الزبیبیّ بعد غلیانه مع جهله بحلیّته، واحتماله الحرمة حین الارتکاب یعدّ من التجرّی ولو کان فی الواقع حلالاً.

وأمّا الحکم بصحة أعمال الجاهل فیما إذا أحرز بعد ذلک بطریق معتبر تمام العمل ولو اتّفاقاً، فإن کان العمل المزبور من قبیل المعاملات بالمعنی الأعمّ کالذبیحة التی ذبحها مع الجهل بکیفیة الذبح فلا ینبغی التأمّل فی ترتیب آثار الصحة علیها؛ لأنّ المفروض تمامها وعدم اعتبار قصد التقرّب فیها حال العمل، وکذا إذا ظهر نقصها ولکن کان نقصه قابلاً للتدارک کمن غسل ثوبه المتنجس بالبول فی الکر مرّة، فإنّه إذا غسله مرّة ثانیة یترتّب علیه طهارته وتذکر أنّ الطریق إلی إحراز صحّتها حین العمل بالإضافة إلی العامیّ فتوی المجتهد الذی یتعیّن علیه فعلاً الرجوع إلیه، ولا عبرة بفتوی من کان علیه التعلّم منه حال العمل من غیر فرق فی ذلک بین الجاهل القاصر والمقصّر.

وأمّا إذا کان العمل السابق من العبادات فقد فصّل الماتن قدس سره بین الجاهل القاصر

ص : 317

والمقصّر فیما إذا انکشف تمام العمل حینه وأنّ ما أتی به الجاهل کان مطابقاً للواقع، فإنّه حکم بالصحة فیما کان قاصراً أو مقصّراً ولکن کان حین العمل غافلاً بحیث حصل منه قصد التقرّب حال العمل، بخلاف ما إذا کان حین العمل ملتفتاً إلی کونه مقصّراً، فإنّه حکم ببطلان عمله ولو مع انکشاف أنّه کان مطابقاً للواقع بعد ذلک، وکان الوجه فی الحکم بالبطلان التفاته حین العمل بکونه مقصّراً فلا یحصل معه قصد التقرب.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ التجرّی یکون بترکه الاحتیاط، کما إذا لم یعلم أنّ وظیفته فی الواقع القصر أو التمام، فإنّ التجری فی الفرض یکون بترک صلاة التمام لا بالإتیان بالقصر، وإنّما أتی بالقصر لرجاء أن تکون وظیفته فی الواقع القصر، وکذا فی مورد کون الاحتیاط غیر مستلزم للتکرار، کما إذا اقتصر فی صلاته علی قراءة سورة الحمد خاصة مع احتماله وجوب السورة بعد قراءتها، فإنّ تجرّیه یکون بترک الاحتیاط أی بعدم إعادة الصلاة بعد تلک الصلاة بقراءة السورة بعد الحمد، لا فی الإتیان بالصلاة المأتیّ بها لاحتمال کونها هی الواجب.

وعلی الجملة الإتیان بالعمل لرجاء کونه الواجب یحقّق قصد التقرّب.

ثمّ إحراز العامیّ بالعلم الوجدانیّ بأن ما أتی به فی السابق من الأعمال کانت مطابقة للوظایف الواقعیة أمر لا یتحقّق، ویکون إحرازه ذلک بفتوی المجتهد الذی تکون وظیفته الرجوع إلیه فعلاً؛ لأنّ رجوعه إلی المجتهد الذی مات بتعلّم فتواه من تقلید المیّت ابتداءً ولأنّ تدارک الأعمال أو عدم تدارکها بالقضاء أو الإعادة من الوقایع الفعلیّة التی ابتلی بها، والمعتبر فیها قول المجتهد الحیّ فعلاً.

نعم ربّما یکون استناد العامیّ فی أعماله السابقة إلی فتوی المجتهد السابق،

ص : 318

(مسألة 17) المراد من الأعلم من یکون أعرف بالقواعد والمدارک للمسألة، وأکثر اطّلاعاً لنظائرها وللأخبار، وأجود فهماً للأخبار. واجود فهماً للأخبار والحاصل أن یکون أجود استنباطاً، والمرجع فی تعیینه أهل الخبرة والاستنباط[1].

(مسألة 18) الأحوط عدم تقلید المفضول حتّی فی المسألة التی توافق فتواه فتوی الأفضل[2].

بأن کانت تلک الأعمال عن تقلید موجباً لحکم المجتهد الفعلیّ بإجزائها علی ما تقدّم، وهذا خارج عن مفروض الکلام فی المقام.

لا یقال: إذا فرض کون فتوی المجتهد السابق حجّة کان العمل المطابق له مجزیاً سواء استند فی العمل إلی فتواه فی زمان العمل أو لم یستند إلیه کما هو شأن سائر الطرق المعتبرة.

فإنه یقال: قد تقدّم أنّ مقتضی أدلّة إمضاء السیرة فی الرجوع إلی أهل الخبرة فی الوظایف الشرعیّة کون التعلم فی حیاة من یرجع إلیه مجزیاً _ سواء کان العمل بما تعلّمه منه حال حیاته أو بعد مماته _ وفی غیر ذلک لا سبیل إلی کشف الإمضاء.

وعلی الجملة ما یعتبر فی حقّ العامیّ بالإضافة إلی صحة أعماله السابقة فتوی المجتهد الذی یتعیّن علیه الرجوع إلیه فعلاً. نعم رعایة موافقتها لفتوی المجتهد السابق أیضاً أحوط.

مسائل التقلید

[1] قد تقدّم فی بحث وجوب تقلید الأعلم بیان المراد من الأعلم فراجع.

[2] قد ذکرنا سابقاً أنّ مقتضی ما ورد فی جواز تعلّم الحکم ممن یعلمه وأخذ من یؤخذ منه معالم الدین جواز التعلّم من کلّ من الفاضل والمفضول مع عدم العلم ولو إجمالاً بمخالفتهما فی الفتوی، وإذا أحرز العامیّ توافقهما فی مسائل مما یبتلی بها

ص : 319

(مسألة 19) لا یجوز تقلید غیر المجتهد وإن کان من أهل العلم، کما أنّه یجب علی غیر المجتهد التقلید وإن کان من أهل العلم[1].

یجوز له الاستناد فیها إلی کلّ منهما، فإنّه کما أنّ للمجتهد الاستناد فی فتواه إلی کلّ من الخبرین المعتبرین أی للجمیع، کذلک الأمر فی العامیّ إذا تعلّم منهما الحکم فی تلک المسائل.

نعم إذا لم یحرز توافق الفاضل والمفضول واحتمل مخالفتهما فی تلک المسائل فیجوز الأخذ والعمل بالفتوی من کلّ منهما کما هو مقتضی السیرة العقلائیّة فی الرجوع إلی أهل الخبرة علی ما بیّنا سابقاً، وکذا إطلاق أدلّة الإمضاء بأمر الإمام علیه السلام فیها بالرجوع إلی بعض أصحابه فی أخذ معالم الدین، وکذا فی الرجوع إلی بعض أصحاب أبیه إلاّ أنّه ما لم یحرز الاتفاق لا یجوز الاستناد فی عمله إلیهما، بل له أن یختار أحدهما فی التعلّم والاستناد فی عمله إلی قوله، وهذا ظاهر.

[1] عدم جواز التقلید من غیر المجتهد فلأنّ غیر المجتهد لیس من أهل الخبرة فی الوقایع بالإضافة إلی الوظائف الشرعیّة المقرّرة فیها بالإضافة إلی المکلّفین، وما ورد فی تعلّم الأحکام والأخذ بمعالم الدین ممن یعلمها هو الرجوع إلی من یعرفها بالطریق المألوف المتعارف فی ذلک الزمان من عرفانها بنحو الاجتهاد والاستظهار من الخطابات المأثورة وأقوال المعصومین علیهم السلام ولو کان ذلک الاجتهاد قد تطوّر بمرور الزمان لکثرة الوسائط والمناقشات فی المقدّمات اللازمة للاجتهاد الموجبة للحاجة إلی تنقیح تلک المقدّمات، وهذا غیر الاعتماد علی قول بعض أهل العلم فی نقل الفتوی ممن یرجع الناس إلیه ویأخذون الفتوی بواسطته، فإنّ الاعتماد المذکور من باب حجّیة خبر الثقة والعدل بالفتوی حیث یجب علی مثل هذا العالم التقلید عن المجتهد کالعامی.

ص : 320

(مسألة 20) یعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجدانیّ، کما إذا کان المقلِّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص. وکذا یعرف بشهادة عدلین من أهل الخبرة إذا لم تکن معارضة بشهادة آخرین من أهل الخبرة ینفیان عنه الاجتهاد. وکذا یعرف بالشّیاع المفید للعلم. وکذا الأعلمیّة تعرف بالعلم أو البیّنة غیر المعارضة أو الشیاع المفید للعلم[1].

نعم ذکرنا فیما سبق أنّ الجاهل بالحکم فی واقعة ابتلی بها یجوز له الرجوع إلی العالم بحکمها من طریق المألوف فی معرفة الأحکام وإن کان متمکّناً من الوصول إلی الحکم الشرعیّ بالسؤال من الإمام علیه السلام والأخذ بما استظهره من کلامه، کما هو مقتضی بعض تلک الروایات الواردة فی الإرجاع إلی بعض الرواة من الفقهاء مع ظهور أنّ المأمور بالرجوع ممن له أهلیّة الاستظهار من کلامه علیه السلام وتمکّنه من الوصول إلیه فراجع.

[1] لا کلام إذا علم باجتهاد المجتهد أو کونه أعلم، کما إذا کان المقلّد من أهل العلم والخبرة واُحرز وجداناً اجتهاد شخص أو کونه أعلم من غیره، فإنّ اعتبار العلم الوجدانیّ ذاتیّ، بمعنی أنّه لا یحتاج اعتباره إلی جعل شرعیّ وأن یقوم الدلیل علی أنّ الشارع اعتبره، وإنّما الکلام فی اختصاص الاعتبار بالعلم الوجدانیّ کما هو ظاهر المتن، أو أنّه یعمّ الاطمینان والوثوق، ولا یبعد عدم الاختصاص فإنّ الاطمینان وإن لم یکن کالعلم الوجدانیّ بحیث یکون اعتباره ذاتیاً، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الوثوق والاطمینان یعتبر عند العقلاء، ولم یردع عنه الشارع لا فی إحراز الموضوعات ولا الأحکام.

نعم لم یثبت الاعتماد علیه حتّی عند العقلاء فی إثبات الدعاوی علی الغیر ونحوها من ارتکاب موجب الحدّ من حقوق اللّه وحقوق الناس مما قرّر الشارع فی

ص : 321

ثبوتها طریقاً خاصّاً.

ومما ذکرنا یظهر أنّه لو کان لاجتهاد المجتهد أو کونه أعلم شیاع بین أهل الخبرة بحیث أوجب ذلک العلم باجتهاده أو کونه أعلم کفی فی ثبوتهما، وذکر الماتن قدس سره فی ثبوت الاجتهاد أو الأعلمیة شهادة عدلین من أهل الخبرة وکأنّ شهادتهما تدخل فی البیّنة المعتبرة فی الموضوعات، ومنها اجتهاد المجتهد أو کونه أعلم.

ویستدلّ علی اعتبار شهادة العدلین بوجهین:

الأول: ما ورد فی القضاء وفصل الخصومة بین المترافعین والتعبیر عن شهادتهما بالبیّنة فی مثل قوله علیه السلام : «إنّما أقضی بینکم بالبیّنات»(1) فإنّ ظاهره أنّ المراد بالبینة ما تکون بیّنة مع قطع النظر عن القضاء وإنشاء فصل الخصومة، وقد طبّق عنوان البیّنة علی شهادة العدلین إلاّ فی موارد خاصّة کالبیّنة علی الزنا ونحوه، والشاهد لکون المراد بالبیّنة ما ذکر وأنّ شهادة العدلین بیّنة للاُمور مع قطع النظر عن مقام القضاء أنّه لو کان المراد أنّ شهادتهما بیّنة فی مقام القضاء وبلحاظ فصل الخصومة، لا مع قطع النظر عن ذلک لم یکن لعطف الأیمان علی البیّنة فی بعض الروایات وجه، حیث إن الیمین أیضاً فی خصوص القضاء بیّنة لإثبات مورد الخصومة أو نفیه.

والثانی: بعض الروایات الوارد فیها اعتبارها فی ثبوت کلّ موضوع للحکم الإلزامی وغیره تکلیفاً ووضعاً، کروایة مسعدة بن صدقة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال سمعته یقول: «کلّ شیء هو لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه، فتدعه من قبل

ص : 322


1- 1) وسائل الشیعة 27:232، الباب 2 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث الأول.

نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، أو المملوک عندک ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبیع قهراً، أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک، والأشیاء کلّها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة»(1) فإنّ ظاهرها أنّ کلّ شیء یحتمل حلّیته وحرمته وحکم بحلیّته عند الجهل بأیّ جهة فهذه الحلیة تنتهی بظهور الخلاف والعلم بحرمته أو تقوم بخلاف الحلیّة بیّنة، فتکون الروایة ظاهرة فی أنّ البیّنة مثبتة لجمیع الموضوعات التی یترتب علیها الحکم الإلزامی وضعاً وتکلیفاً وإن اقتضی خلافها قاعدة الید، کما فی مسألة شراء الثوب أو العبد المشتری أو أصالة عدم تحقّق الرضاع والنسب کما فی مسألة تزویج المرأة إلی غیر ذلک، وعلیه یرفع الید عن أصالة عدم بلوغ أهل العلم مرتبة الاجتهاد أو عدم صیرورة المجتهد أعلم بقیام البیّنة علی اجتهاده أو کونه أعلم.

وقد یناقش فی الاستدلال بهذه الروایة _ مع الإغماض عن سندها، حیث إنّ مسعدة بن صدقة لم یثبت له توثیق _ بأنّه لا یمکن الاستدلال بها فی المقام؛ لأن البیّنة شهادة کلّ من العدلین علی واقعة محسوسة منهما، والاجتهاد أو کون شخص أعلم من الاُمور الحدسیّة لا الحسّیة، ولذا یعتبر فیهما قول أهل الخبرة.

وقد یجاب(2) عن ذلک بأنّ الأمر الحدسیّ إذا کان له أثر بارز حسّی یدرک بالحسّ کالسماع لکیفیة الاستنباط من مدارک الأحکام وکیفیة استظهاره الحکم منها وتکرّر هذا السماع مکرّراً یحسب عند العقلاء حسّاً بالواقعة، نظیر الشهادة بإیمان

ص : 323


1- 1) وسائل الشیعة 17:89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.
2- 2) التنقیح فی شرح العروة 1:175.

شخص واقعاً واعتقاده بالولایة برؤیة آثارها فی الوقایع المتعدّدة.

وفیه إذا کان الأمر الحدسی بحیث یکون أثره محسوساً بحیث یعرفه کلّ من أحرز ذلک الأثر بالحسّ کالشهادة بالشجاعة والعدالة یصحّ دعوی أنّ هذه الاُمور عند العقلاء داخلة فی الحسّ، فیکون الإخبار بها برؤیة آثارها شهادة علیها بالحسّ، ولکن اجتهاد الشخص أو کونه أعلم لیس من هذا القبیل، فإنّهما وإن یحرزان بالأثر لکن إحرازهما من الأثر أمر حدسیّ یختصّ هذا الإحراز والحدس بأشخاص مخصوصین، ولا یکون الإخبار بهما شهادة بالواقعة بالحسّ.

ولا یستفاد اعتبار التعدّد فی الإخبار عنهما مما ورد فی اعتبار التعدّد فی الشاهد بالواقعة، کما لا یستفاد ذلک مما ورد فی اعتبار البیّنة فی القضاء ولا من روایة مسعدة بن صدقة المتقدّمة، بل المعتبر فی الاُمور التی یرجع فیها إلی أهل الخبرة قولهم إلاّ مع الاختلاف حیث یکون المتّبع قول من هو أکثر خبرة حتّی فیما إذا کان واحداً، وعلیه فلا یعتبر فیمن یرجع إلیه فی إحراز الاجتهاد أو کونه أعلم التعدّد کما هو مقتضی السیرة العقلائیّة فی الرجوع إلی أهل الخبرة.

وربّما یورد(1) علی الاستدلال بروایة مسعدة بن صدقة بأن البیّنة معناها اللغوی ما یوضح الشیء ویثبته، وقد استعمل کثیراً حتی فی الروایة بهذا المعنی، غایة الأمر قد طبّق عنوانها فی موارد فصل الخصومة علی شهادة عدلین فی أکثر موارد فصلها، وإذا کان فی بناء العقلاء وسیرتهم العمل بأخبار الثقات فی غیر موارد الدعاوی ونحوها ولم یثبت ردع الشارع عنها، بل ورد فی بعض الموارد الاعتناء بخبر الثقة مع

ص : 324


1- 1) المصدر السابق 1:173.

کونها من الموضوعات یکون خبره أیضاً بیّنة.

ولکن قد ذکرنا فی بحث ثبوت النجاسات أنّ المراجع فی الأخبار یطمئنّ لولا الجزم بأنّ البیّنة فی زمان الصادقین علیهماالسلام وما بعده فی نظیر المقامات ظاهرها شهادة العدلین، فالعمدة فی الإشکال ضعف الروایة سنداً وکذا خبر عبداللّه بن سلیمان عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الجبن قال: «کلّ شیء حلال حتی یجیئک شاهدان یشهدان أنّ فیه میتة»(1).

وعلی الجملة هاتان الروایتان لضعفهما سنداً لا تصلحان للردع عن السیرة التی أشرنا إلیها من الاحتجاج والاعتذار فی الموضوعات أیضاً بأخبار الثقات، کما هو الحال فی الإخبار بالأحکام الکلیّة بحکایة قول المعصوم علیه السلام أو فتوی المجتهد الذی تکون فتواه معتبرة فی حقّ العامیّ.

وقد یقال: إنّه لولم نقل باعتبار خبر الثقة فی سایر الموضوعات فأیضاً یلتزم باعتبار الخبر باجتهاد شخص أو بأعلمیّته أو بفتواه ولو کان الخبر واحداً ولم یعارض خبره بخبر مثله، وذلک فإنّ الخبر باجتهاد شخص أو کونه أعلم، أو بفتواه کما یخبر بهما کذلک یخبر بأنّ فتواه هو الحکم الشرعیّ فی حقّ العامیّ نظیر خبر زرارة مثلاً بقول الإمام علیه السلام ، فإنّه کما أنّ المرویّ بالمطابقة قول الإمام علیه السلام کذلک المرویّ بالالتزام هو الحکم الشرعیّ الکلّی.

غایة الأمر المدلول الالتزامیّ فی خبر زرارة بقول الإمام علیه السلام یکون بحدس المجتهد، وفی الإخبار باجتهاد شخص أو أعلمیته أو فتواه یکون أیضاً بحدس

ص : 325


1- 1) وسائل الشیعة 25:118، الباب 25 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 2.

المجتهد ولکن لا یختصّ به بل یعمّ المخبر بالاجتهاد والفتوی أیضاً، وکما أنّ الإخبار بقول المعصوم حتی للمخبر به بالإضافة إلی المدلول المطابقیّ کذلک نفس اجتهاد الشخص أو فتواه مدلول مطابقیّ وحسّی للمخبر بهما.

ثمّ ذکر القائل إنّه علی ذلک یکفی الخبر الواحد فی توثیق الراوی ولا یحتاج إلی التعدّد ولو قیل باعتبار التعدّد فی الإخبار عن الموضوعات، حیث إنّ الإخبار بتوثیق الراوی إخبار عن کون ما یرویه هو الحکم الشرعیّ الکلّی.

ولا یخفی ما فیه، فإنّ غایة ما ذکر أن یکون الخبر الواحد کافیاً فی نقل فتوی المجتهد لمقلّدیه بالتقریب، وأمّا الإخبار بکون الشخص مجتهداً أو أنّ ما استظهره من مدارک الأحکام استنباط شخص ذی ملکة بطریق متعارف فهو إخبار بأمر حدسیّ لا حسّی، بخلاف خبر زرارة بقول الإمام علیه السلام حیث إنّ ما یرویه من قول الإمام علیه السلام أمر حسّی قد سمعه منه علیه السلام ، وکذا الحال فی خبر شخص بکون الراوی ثقة، فإنّه قد أحرز حال الراوی وأنّه یجتنب عن الکذب وإظهار خلاف الواقع، وأمّا کون ما یرویه عن الإمام علیه السلام هو الحکم الشرعیّ واقعاً فهذا خارج عن شأن الراوی بما هو راوٍ، ولا یدلّ دلیل اعتبار خبر الثقة بقول الإمام علیه السلام علی اعتبار حدس الراوی فی هذه الجهة، بل اعتباره بالنسبة إلی اعتبار الدالّ علی الحکم الشرعیّ الکلّی الحکم الذی یستظهره الفقیه من ذلک الدالّ، بخلاف الخبر عن اجتهاد شخص فإنّه لیس إخباراً بالدالّ علی الحکم الشرعیّ ولا بلزوم الحکم الشرعیّ الکلّی حسّاً، بل المخبر عن الحکم الشرعیّ الکلّی هو نفس ذلک المجتهد.

نعم المخبر باجتهاد شخص أو بکونه أعلم یخبر عن حکم جزئیّ وهو اعتبار فتواه، ولکن لا یکون قوله فی هذا الحکم معتبراً لولم یکن عند من یخبره هذا الحکم

ص : 326

(مسألة 21) إذا کان مجتهدان لا یمکن تحصیل العلم بأعلمیّة أحدهما ولا البیّنة، فإن حصل الظنّ بأعلمیّة أحدهما تعیّن تقلیده،[1] بل لو کان فی أحدهما احتمال الأعلمیّة یقدّم، کما إذا علم أنّهما إمّا متساویان أو هذا المعیّن أعلم ولا یحتمل أعلمیّة الآخر، فالأحوط تقدیم من یحتمل أعلمیّته.

(مسألة 22) یشترط فی المجتهد اُمور: البلوغ، والعقل، والإیمان، والعدالة[2].

معلوماً، کما هو الحال فی الإخبار بسائر الموضوعات حیث إنّ المعتبر بقول المخبر نفس الإخبار بالموضوع، ولو بنی علی اعتبار تعدّد الشاهد والمخبر لزم رعایة التعدّد فی الإخبار عنهما مع قطع النظر عما ذکرنا من عدم الاعتبار فی موارد الرجوع إلی أهل الخبرة، ومما ذکر یظهر الحال فی موارد الإخبار بکون الراوی ثقة وأنّه من قبیل الإخبار بالموضوع لا الحکم الکلّی ولا الحکم الجزئیّ إذا لم یحرز المجتهد اعتبار خبر الثقة.

[1] قد تقدّم الکلام فی ذلک فی ذیل لزوم تقلید الأعلم فیما إذا علم الاختلاف بین المجتهدین فی المسائل التی یمکن ابتلاء المکلف بها حتی فیما إذا کان ذلک بنحو العلم الإجمالیّ، وذکرنا أنّ الاطمینان والوثوق ملحق بالعلم، وأنّ مجرّد الظن لا اعتبار به، بل لو اختصّ احتمال الأعلمیّة بأحدهما المعیّن تعیّن تقلیده وإن لم یکن الاحتمال بمرتبة الظنّ، ومع جریان الاحتمال فی ناحیة کلّ منهما یحتاط أو یکتفی بالموافقة بقول أحدهما علی ما مرّ من التفصیل.

[2] ینبغی أن تعلم الاُمور المعتبرة فی المجتهد بالإضافة إلی اعتبار فتواه فی حقّ العامیّ، لا بالإضافة إلی عمل نفسه حیث تقدّم أنّ العامیّ لابدّ له من علمه بجواز التقلید، ولا یمکن أن یحصل له العلم إلاّ إذا اجتمع فی المجتهد الذی یرجع إلیه جمیع ما یحتمل دخالته فی جواز التقلید، والکلام فی المقام أنّه بنظر المجتهد

ص : 327

المستفاد من مدارک الحکم أیّ أوصاف تعتبر فی المجتهد الذی یرجع إلیه العامیّ حتی یمکن للعامیّ بعد کونه القدر المتیقن من جواز التقلید أن یستند إلی فتواه فی رجوعه ولو فی احتیاطاته إلی من هو واجد لما یعتبره من أوصاف المجتهد، فنقول: أمّا اعتبار البلوغ فقد ادّعی علی اعتباره فی المجتهد الإجماع والاتّفاق وأنّ المرجعیّة التی ینالها أشخاص مخصوصون منصب یتلو منصب الإمامة والنبوّة، فلا یناسب التصدّی لها من الصّبی حیث یصعب علی الناس إحراز أنّه لا یصدر عنه انحراف وزلل، ولا ینتقض ذلک بنبوّة بعض الأنبیاء وتصدّیهم النبوة حال صغرهم، وکذا بالإمامة حیث تصدّی بعض الأئمّة إلی الإمامة حال صغرهم، فإنّ عصمتهم تخرجهم عن مقام التردّد والشکّ فی أقوالهم، وتوجب الیقین والجزم بصحّة أقوالهم وأفعالهم.

وعلی الجملة مع العصمة لا ینظر إلی السنّ والبلوغ، بخلاف من لم تکن فیه العصمة، فإنّ الصّبی فی صباوته معرض لعدم الوثوق به، کیف وقد رفع القلم عنه ولا ولایة له بالمعاملة فی أمواله ونحوها، فکیف یکون له منصب الفتوی والقضاء للناس؟ مع أنّ من یؤخذ منه الفتوی یحمل أوزار من یعمل بفتاویه، مع أنّ الصّبی لا یحمل وزر عمله فضلاً عن أوزار أعمال الناس.

والحاصل المرتکز عند المتشرعة هو کون المفتی ممن یؤمن بأنّ وزر من عمل بفتواه علیه وأنّه یحاسب به، ویشهد لذلک بعض الروایات منها صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج قال: کان أبو عبداللّه علیه السلام قاعداً فی حلقة ربیعة الرأی، فجاء أعرابیّ فسأل ربیعة الرأی عن مسألة فأجابه، فلمّا سکت قال له الأعرابیّ: أهو فی عنقک؟ فسکت عنه ربیعة ولم یرد علیه شیئاً، فأعاد المسألة علیه فأجابه بمثل ذلک، فقال له الأعرابیّ: أهو فی عنقک؟ فسکت ربیعة، فقال أبو عبداللّه علیه السلام : «هو فی

ص : 328

عنقه، قال أو لم یقل وکلّ مفت ضامن؟»(1).

وربّما ینساق من معنی تقلید مجتهد تحمیل وزر العمل بفتواه علیه، وعلی ذلک فلا یصلح الصّبی والمجنون للتحمیل والتحمّل للوزر علیه، بل یکون فی تقلید المجنون ولو کان أدواریّاً مهانة للمذهب حیث إنّ المرجعیّة للفتاوی _ کما تقدّم _ منصب وزعامة دینیّة یتلو منصب الإمامة، والمجنون والفاسق بل العادل الذی له سابقة فسق ظاهر عند الناس لا یصلح لهذا المنصب.

ویعتبر فیمن یرجع إلی فتاواه کونه أهل الإیمان لا لمجرّد روایة أحمد بن حاتم بن ماهویه قال: کتبت إلیه یعنی أبا الحسن الثالث علیه السلام أسأله عمّن آخذ معالم دینی؟ وکتب أخوه أیضاً بذلک، فکتب إلیهما: فهمت ما ذکرتما فاصمدا فی دینکما علی کلّ مسنّ فی حبّنا وکلّ کثیر القدم فی أمرنا، فإنّهما کافوکما إن شاء اللّه تعالی»(2) وروایة علی بن سوید قال: کتب إلیّ أبو الحسن علیه السلام وهو فی السجن: «وأمّا ما ذکرت یا علی ممّن تأخذ معالم دینک، لا تأخذنّ معالم دینک عن غیر شیعتنا فإنّک إن تعدّیتهم أخذت دینک عن الخائنین الذین خانوا اللّه ورسوله، وخانوا أماناتهم، إنّهم ائتمنوا علی کتاب اللّه فحرّفوه وبدّلوه فعلیهم لعنة اللّه ولعنة رسوله»(3).

فإنّ الثانیة ضعیفة سنداً لوقوع محمد بن اسماعیل الرازی وعلی بن حبیب المدائنی فی سندها، وکذا الاُولی فإنّ فی سندها أحمد بن حاتم وغیره ممّن لم تثبت وثاقته، مع أنّ فی الاُولی اعتبار کثرة الحبّ، وقدم أمره فی ولایتهم، بل لما

ص : 329


1- 1) وسائل الشیعة 27:220، الباب 7 من أبواب آداب القاضی، الحدیث 2.
2- 2) وسائل الشیعة 27:151، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 45.
3- 3) وسائل الشیعة 27:150، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 42.

والرجولیّة، والحریة، علی قول[1].

تقدّم من أنّ المرجعیّة فی الفتاوی منصب یتلو منصب الإمامة، وغیر المؤمن لا یصلح لذلک فإنّ تصدّیه لهذا المنصب وهن، حیث یوهم الناس بطلان المذهب حیث یلقی فیهم أنّه لو کان مذهبهم حقّاً لما عدل عنه.

وما ذکر من الأوصاف یعتبر فی المجتهد ابتداءً وفی البقاء علی تقلیده لجریان ما ذکرنا من الوجوه المانعة فی أصل الرجوع وفی البقاء علی تقلیده.

[1] یعتبر فیمن یرجع إلیه فی الفتوی الرجولیّة، ویستدلّ علی ذلک بما ورد فی القضاء فی معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم الجمال قال: قال أبو عبداللّه جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : «إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا، فاجعلوه بینکم فإنّی قد جعلته قاضیاً»(1).

ودعوی(2) أنّ ذکر الرجل باعتبار العادة فی الخارج فی ذلک الزمان لعدم وجود من یعلم من قضایاهم من النساء، وکذا الحال فی معتبرة عمر بن حنظلة حیث ورد فیها: «ینظران إلی من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا»(3) حیث إنّ ظاهرها أنّ المرجع فی القضاء الرجل، لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ القید الغالبی إنّما لا یمنع عن الأخذ بالإطلاق إذا کان فی البین إطلاق یعمّ مورد القید وعدمه، ولکن لیس فی أدلة نفوذ القضاء إطلاق یعمّ النساء، بل ورد فیه أنّ المرأة لا تتولّی القضاء، وإذا لم یکن القضاء من غیر الرجل نافذاً فکیف یعتبر فتوی غیر الرجل؟ فإنّ منصب القضاء لیس بأکثر من منصب الإفتاء، بل ربّما یکون القضاء

ص : 330


1- 1) وسائل الشیعة 27:13، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.
2- 2) التنقیح فی شرح العروة 1:187.
3- 3) وسائل الشیعة 1:34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 12.

وکونه مجتهداً مطلقاً فلا یجوز تقلید المتجزّئ[1]، والحیاة فلا یجوز تقلید

بتطبیق القاضی فتواه علی مورد الترافع. أضف إلی ذلک أنّ الشارع لا یرضی بإمامة المرأة للرجال فی صلاتهم فکیف یحتمل تجویزه کونها مفتیة للناس المقتضی جعل نفسها عرضة للسؤال عنها من الرجال، مع أنّ الوارد فی حقّ المرأة: أنّ مسجدها بیتها(1)، وخوطب الرجال بأنّ النساء عورات فاستروهن بالبیوت(2) إلی غیر ذلک.

وأمّا ما ذکره قدس سره من اعتبار الحریّة علی قول فلیس فی البین ما یعتمد علیه فی اعتبارها فی المفتی وأن لا یجوز الرجوع إلی العبد الواجد لسایر الشرایط، فإنّ ما ورد فی القضاء یعمّ کونه حرّاً أو عبداً ولیس فی تصدّی العبد لمقام الإفتاء أیّ منقصة فیه، وما یقال من أنّ استغراق أوقات العبد بالجواب عما یسأل عنه فی الأحکام الشرعیّة ینافی کون أعماله ملکاً لمولاه حیث لا یجوز له صرفها فی غیر ما یأمر مولاه به من الأعمال فیه ما لا یخفی، فإنّه لو اتّفق ذلک ووجب علی العبد التصدّی للجواب عمن یسأله یکون ذلک کسایر وظائفه الشرعیّة التی لا یجوز لمولاه منعه عن مباشرتها.

[1] إذا أراد العامیّ التقلید فی الوقایع التی یبتلی بها مع علمه إجمالاً بمخالفة الأحیاء فیها ولو کان علمه بنحو الإجمال فلا یجوز له التقلید من المتجزّی ولا المجتهد المطلق الذی لا یکون أعلم أو محتمل الأعلمیة من السائرین، کما أنّه لا دلیل علی کفایة التعلّم فیما إذا علم من أهل العلم مسألة أو مسألتین أو عدّة مسائل معیّنة من مدارکها؛ لعدم الدلیل علی اعتبار فتواه، فإنّ عمدة ما اعتمدنا علیه فی جواز التقلید الروایات المتقدّمة الوارد فیها الإرجاع إلی أشخاص خاصّة، ولاحتمال

ص : 331


1- 1) وسائل الشیعة 5:236، الباب 30 من أبواب أحکام المساجد.
2- 2) وسائل الشیعة 20:66، الباب 24 من أبواب مقدمات النکاح، الحدیث 6.

المیّت ابتداءً نعم یجوز البقاء کما مرّ، وأن یکون أعلم[1]. فلا یجوز علی الأحوط تقلید المفضول مع التمکّن من الأفضل، وأن لا یکون متولّداً من الزنا[2].

اقتصار الشارع فی الإمضاء علی أمثالهم لا یجوز التعدّی إلی مثل الشخص المفروض، بل یتعدّی إلی ما ورد فی معتبرة عمر بن حنظلة، ویلتزم بأن یصدق علی من یرجع إلیه رجل یعرف حلالهم وحرامهم وینظر فیهما کما ورد فیها.

وأمّا ما ورد فی معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم: «انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا، فاجعلوه حکماً»(1) فمضافاً إلی أنّه فی القضاء وفصل الخصومة، ونفوذ قضائه لا یلازم جواز الرجوع إلیه فی الفتوی، أنّ قوله علیه السلام : «یعلم شیئاً من قضایانا» لا یعمّ عرفان مسألة أو مسائل معدودة، فإنّ إطلاق الشیء علی علمه فی مقابل علمهم علیه السلام کإطلاق شیء من الماء علی ماء النهر العریض الجاری فی مقابل ماء البحر کما لا یخفی.

[1] قد تقدّم الکلام فی ذلک عند التکلم فی اشتراط الحیاة فی المفتی، وذکرنا الوجه فی عدم جواز تقلید المیّت ابتداءً، کما ذکرنا الوجه فی جواز البقاء علی تقلید المیّت علی التفصیل المتقدّم، وتقدّم أیضاً الوجه فی لزوم تقلید الأعلم فی المسائل التی یعلم اختلاف الأحیاء فیها ولو بنحو الإجمال إذا کانت تلک المسائل محلّ الابتلاء للعامیّ.

[2] لا یجوز أخذ الفتوی من ولد الزنا وإن کان عادلاً لما تقدّم من کون شخص ولد الزنا غیر مناف لکونه مجتهداً وعادلاً، إلاّ أن تصدّیه لمقام المرجعیّة والإفتاء

ص : 332


1- 1) وسائل الشیعة 27:13، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.

وأن لا یکون مقبلاً علی الدنیا وطالباً لها مکبّاً علیها، مجدّاً فی تحصیلها[1] ففی الخبر: «من کان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً لهواه، مطیعاً لأمر مولاه، فللعوام أن یقلّدوه.

مهانة للمذهب، فیعلم أنّ الشارع لا یرضی به، کیف وأنّ الشارع لم یجوّز إمامته وتصدّیه کونه إمام الجماعة؟ فکیف یحتمل أن یجوّز تصدّیه لمنصب یتلو منصب الإمامة؟ وممّا ذکرنا یظهر أن طروّ بعض الاُمور التی لا یحسب طروّها منقصة للشخص ولا المنصب لا یمنع من جواز التقلید حدوثاً أو بقاءً، کعروض الإغماء لمرض وإن استمرّ، بخلاف عروض الجنون ولا سمح اللّه الفسق، فإنّ عروضهما منقصة للشخص ویمنع من جواز التقلید بقاءً فضلاً عن التقلید عنهما ابتداءً.

[1] ظاهر کلامه قدس سره حیث ذکر اشتراط العدالة فی المفتی قبل ذلک أنّ هذا الاشتراط زائد علی اشتراط العدالة لا أنّه تکرار؛ ولذا یقع الکلام فی الدلیل علی اعتبار الزائد من العدالة، فإن کان المستند فی ذلک الخبر المروی فی تفسیر العسکری علیه السلام علی ما هو المعروف فلا دلالة له علی أزید من العدالة، فإنّ المکبّ علی الدنیا بجمع المال حتّی من الحرام ینافی العدالة، وأمّا جمعه من الحلال بعد أداء ما علیه من الحقوق إلی أهلها فلم یثبت کراهته فضلاً عن کونه منافیاً للعدالة، والورع ومخالفة الهوی ظاهره الإمساک عمّا تشتهیه النفس من ارتکاب ما حرّم اللّه سبحانه، وأمّا ما أباحه سبحانه فلا ینافی الورع.

هذا مع ضعف الخبر وعدم صلاحه للاعتماد علیه، مع ظهور المکبّ یعنی المکبّ علی الدنیا تحصیلها بحلال وحرام، وکذا اتّباع الهوی الإتیان بما تشتهیه نفسه ولو بتهیّئة المقدّمات من حلال وحرام.

ص : 333

(مسألة 23) العدالة عبارة عن ملکة إتیان الواجبات وترک المحرمات[1].

العدالة وحقیقتها

[1] قد وقعت العدالة قیداً لموضوع الحکم فی جملة من الموارد، کالعدالة فی المفتی حیث إنّها قید لاعتبار فتواه، وعدالة القاضی فإنّها قید لنفوذ قضائه، وعدالة الشاهد فی قبول شهادته والاستماع إلی الطلاق، وعدالة إمام الجماعة والجمعة فی صحّة الاقتداء وإجزاء صلاة الجمعة وغیر ذلک؛ ولذا یقع البحث فی المراد منها والمعروف بینهم أنّها ملکة الاجتناب عن الکبائر وترک الإصرار علی الصغائر کما ذکر ذلک الماتن قدس سره أیضاً فی عدالة إمام الجماعة، ولکن أطلق فیما نحن فیه بذکر أنّها ملکة الإتیان بالواجبات وترک المحرّمات. ومقتضاه عدم الفرق بین واجب وواجب آخر وعدم الفرق بین حرام وحرام آخر فی أنّ ملکة الإتیان بالأوّل وترک الثانی هی العدالة.

وعبّر فی کلمات البعض عن الملکة بأنّها حالة راسخة للنفس أو فی النفس تدعو إلی الاجتناب عن المحرّمات والإتیان بالواجبات، فیکون اتّصاف الشخص بالعدالة من وصفه بصفات نفسانیة، ویظهر من بعض الکلمات أنّ اتّصاف الشخص بالعدالة من قبیل وصفه بصفات الفعل، فالعدل هو کون الشخص مستمرّاً فی أفعاله وأعماله علی الوظیفة الشرعیّة بأن یستمرّ علی الإتیان بالواجبات وترک المحرّمات، وکونه کذلک فی أعماله فعلاً أو ترکاً ناشئاً عن حالته النفسانیّة المستقرّة، فالعدالة هی المسبّب عن الملکة لا أنّها بنفسها هی الملکة.

وقد یقال: إنّ العدالة ثبوت حسن الظاهر للشخص بحیث لو سئل عن معاشریه والمطلّعین علی أحواله قالوا علمنا منه الاستمرار علی الوظائف الشرعیّة ولم نر منه سوءاً، کما أنّه قیل أیضاً بأنّها ظهور إیمان الشخص وأنّه مؤمن مع عدم ظهور الفسق

ص : 334

منه، ولکن لا یخفی أنّه لو کان لظهور إیمان الشخص وعدم إحراز فسقه اعتبار فهو بمعنی کونه طریقاً إلی عدالته واقعاً، لا أنّ العدالة تجتمع مع الفسق الواقعیّ، فإنّ المضادّة بین الفسق والعدالة لا تحتاج إلی إقامة الدلیل، وکذا الأمر فی حسن الظاهر فإنّ إخبار من یعاشره أو أشخاص یعاشرونه بحسن ظاهره، وأنّهم لم یروا منه إلاّ الخیر والمواظبة علی الطاعات، ذلک من إحراز الطریق إلی عدالته لا أنّ نفس حسن الظاهر بنفسه هو العدالة؛ لأنّ الفسق المستور عن الناس لا یجتمع مع العدالة الواقعیّة.

وعلی ذلک یبقی الکلام فی أنّ العدالة هی استقامة الشخص فی أعماله علی طبق الوظائف الشرعیّة وعدم انحرافه عنها فی العمل بأنّه یطیع اللّه ولا یعصیه، ولو انحرف اتفاقاً فی عمل من باب: الجواد قد یکبو، وأنّ الغریق قد ینجو بذکر اللّه تدارکه بالتوبة والاستغفار، أو أنّ العدالة من صفات النفس لا وصفٌ له بحسب أعماله وأفعاله وسلوکه الدینیّ.

تنبیه

وقبل التکلّم فی الاحتمالین بل القولین ینبغی التنبیه لأمر، وهو أنّ تعوید الإنسان نفسه بترک الحرام والإتیان بالواجب بحیث یشمئز من تصوّر الحرام ولحاظ وقوعه منه، ویشتاق إلی فعل الواجب والإتیان به غیر معتبر فی تحقّق العدالة، سواء قیل بأنّها ملکة فعل الواجبات وترک المحرمات أو کونها الاستقامة علی الوظائف الشرعیّة وعدم الانحراف عنها، فإنّه یوصف الشخص بأنّه عادل بدون ذلک، فإنّه إذا خاف من سوء الحساب والابتلاء بالعقاب یوم الحساب وأوجب ذلک أی دعاه إلی ترک الحرام مع کمال میل نفسه إلیه، والإتیان بالواجب مع صعوبته علیه ویستمرّ

ص : 335

علی ذلک، وإذا اتّفق الانحراف والارتکاب أحیاناً تندم بعده واستغفرّ ربّه فهو عادل ومأمون فی دینه، وینطبق علیه بعض العناوین الواردة فی موارد اعتبار العدالة من کونه خیّراً ومرضیّاً وصالحاً وثقة فی دینه إلی غیر ذلک.

وعلی ذلک فنقول: ینظر فی ارتکاز المتشرعة فی عدالة الشخص وفسقه إلی أعماله، فإن لم یخرج فی أعماله عن وظائفه الدینیّة فهو رجل عادل، بخلاف ما إذا لم یکن مبالیاً فیها فیرتکب الحرام إذا دعاه غرضه إلی ارتکابه للوصول إلیه أو إذا هوت إلیه نفسه، ویترک الواجب ولا یبالی به إذا کان ترکه یساعده علی الوصول إلی غرضه الدنیویّ أو هوی نفسه، فإنّه یقال إنّه لیس بعادل. وبتعبیر آخر استمرار الشخص فی أعماله علی وظائفه الشرعیّة وإن ینشأ من أمر نفسانیّ من خوفه من سوء الحساب والابتلاء بالعقاب أو اشتیاقه إلی نیل الثواب والوصول إلی الجنة أو غیر ذلک من تحصیل رضی ربّه، إلاّ أنّ کون العدالة هی الأمر النفسانیّ خصوصاً فی تعیینها فی الملکة دون الخوف من اللّه والاشتیاق إلی نجاة نفسه من العقاب ونیل الشفاعة أمر لا یساعده ارتکاز المتشرعة ولا معنی العدالة عرفاً فی استعمالاته فی مقابل الفسق والغیر المبالیّ.

لا یقال: إذا کان المراد من العدالة استقامة الشخص فی أعماله بحسب وظائفه الشرعیّة، وانحرافه عنها موجباً لفسقه وعدم عدالته فلا یمکن إحراز العدالة إلاّ بالإضافة إلی النوادر من الأشخاص؛ إذ العلم الإجمالیّ بأنّ نوع الإنسان یرتکب ولو فی بعض الأحیان بعض الصغائر حاصل، فکیف یحرز توبته لیترتّب علیه آثار العدالة من جواز الاقتداء به وقبول شهادته وصحة الطلاق عنده إلی غیر ذلک؟ وکیف یمکن للمدعیّ إقامة شهادة عدلین لدعواه؟

ص : 336

فإنّه یقال: قد ذکرنا أنّ الانحراف الاتفاقیّ لا یضرّ بالعدالة إذا تدارکه بالتوبة أی الندم والاستغفار، فإنّ التائب بتوبته واستمراره فی أعماله علی طبق الوظائف الشرعیّة عادل فی دینه کما یشهد لذلک ما ورد فی التوبة، غایة الأمر دعوی أنّ التوبة من المرتکب ولو اتفاقاً لا تحرز غالباً، ولکن هذا الأمر سهل مع جعل الشارع الطریق إلی إحراز عدالة الشخص وهو ثبوت حسن الظاهر له، وإذا اُحرز ثبوت هذا الحسن فی حقه واحتمل عدالته واقعاً یکون ذلک إحرازاً لعدالته، کما هو الحال فی إحراز سائر الاُمور بالطریق المعتبر فیه.

وعلی الجملة عدالة الشخص استقامته فی أعماله وعدم الانحراف فیها عن وظائفه الشرعیة.

نعم الاستقامة یوماً أو یومین ونحو ذلک لا تکون مصداقاً للاستقامة فیها ما لم یحرز استمرارها ودوامها بحسب الحالات وطروّ التغیّرات الزمانیّة.

ما یستدلّ به علی کون العدالة هی الملکة

ویستدلّ علی کون العدالة بمعنی ملکة الاجتناب عن الکبائر وترک الإصرار علی الصغائر أو ملکة الإتیان بالواجبات وترک المحرّمات بوجهین:

الأوّل: أنّ الأحکام المترتّبة علی العدالة وعنوان العادل ثبوتها فی حق الفاقد للملکة لولم یکن عدم ترتّبها محرزاً فلا أقلّ من الشکّ فی ترتّبها علی فقدها وفاقدها؛ لأنّ العدالة لولم یکن ظاهرها ما ذکر من الملکة فلا أقلّ من إجمالها واحتمالها فی تحقّقها، فیدور ترتّبها علی القلیل أو الکثیر فیؤخذ بالقدر المتیقّن، فإنّه لولم یکن فاقد الملکة من الفاسق احتمالاً فلا یحرز کونه عادلاً.

ص : 337

وفیه قد ذکرنا أنّ ظاهر العدالة أنّها وصف للشخص بحسب أعماله وأفعاله وعدم الخروج فیها عن وظائفه الشرعیّة سواء کان منشأ الاستقامة فی أعماله وعدم انحرافه فیها عن وظایفه الشرعیّة الملکة المذکورة، أو مجرّد الخوف من اللّه وسوء الحساب والابتلاء بجزاء أعماله یوم الجزاء، هذا أوّلاً. وثانیاً: لیس کلّ مورد یترتّب فیه الأثر اُخذ عنوان العدالة قیداً فی خطاب ذلک الأثر، فإنّ الموضوع لأخذ الفتوی ونفوذ القضاء من یعلم معالم الدین وحلال الشرع وحرامه، غایة الأمر علمنا بما تقدّم ذکره أنّ الشارع لا یرضی بالاعتماد علی من هو غیر مستقیم فی دینه وغیر أمین فی قوله، ویبقی فی الموضوع من هو مستقیم ومأمون فی قوله، واحتمال اعتبار الملکة یدفع بالإطلاق، وکذا الحال فی الایتمام فإنّ المقدار الثابت فی إمام الجماعة اعتبار کونه ثقة فی دینه ومأموناً فی الاقتداء به.

والوجه الثانی: استظهار اعتبار الملکة فی العدالة من بعض الروایات کصحیحة عبداللّه بن أبی یعفور التی رواها الصدوق وفی سندها أحمد بن یحیی لا یضرّ بصحّتها؛ لأنّه من المعاریف الذین لم یرد فیهم قدح، قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام بم تعرف عدالة الرجل بین المسلمین حتی یقبل شهادته لهم وعلیهم فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف وکفّ البطن والفرج والید واللسان، ویعرف باجتناب الکبائر التی أوعد اللّه علیها النار من شرب الخمر والزنا والربا، وعقوق الوالدین، والفرار من الزحف وغیر ذلک، والدلالة علی ذلک کلّه أن یکون ساتراً لجمیع عیوبه حتی یحرم علی المسلمین وراء ذلک من عثراته وعیوبه وتفتیش ماوراء ذلک، ویجب علیهم تزکیته وإظهار عدالته فی الناس، ویکون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب علیهن، وحفظ مواقیتهن بحضور جماعة من المسلمین، وأن لا یتخلّف عن

ص : 338

جماعتهم فی مصلاّهم إلاّ من علّة، فإذا کان کذلک لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عن قبیلته ومحلّته قالوا: ما رأینا منه إلاّ خیراً، مواظباً علی الصلوات متعاهداً لأوقاتها فی مصلاّه، فإنّ ذلک یجیز شهادته وعدالته بین المسلمین، وذلک أنّ الصلاة ستر وکفارة للذنوب»(1) الحدیث.

وهذه الصحیحة تتضمّن لفقرات ثلاث:

الاُولی: قوله علیه السلام : أن تعرفوه بالستر والعفاف وکفّ البطن والفرج والید واللسان.

الثانیة: قوله علیه السلام : ویعرف باجتناب الکبائر التی أوعد اللّه علیها النار.

الثالثة: قوله علیه السلام : والدلالة علی ذلک کلّه أن یکون ساتراً لجمیع عیوبه.

ولا ینبغی التأمّل فی أنّ ما فی الفقرة الثالثة بیان لحسن ظاهر الشخص الذی یعتبر طریقاً إلی عدالته الواقعیّة عند الجهل بها، کما هو الشأن فی سایر الطرق المعتبرة، وأمّا الفقرة الاُولی فقد قیل إنّ الستر والعفاف وکفّ البطن والفرج والید واللسان بمجموعها وقع معرّفاً للعدالة وبما أنّ الستر والعفاف من صفات النفس تکون العدالة مساویة للملکة الداعیة إلی الکفّ وعدم انتشار أعضاء الشخص إلی المعاصی.

وبتعبیر آخر ثبوت الستر والعفاف للشخص ظاهره أن له الاستحیاء من ربّه فی المعاصی ونحو امتناع النفس له فی ارتکابه فیلزم الکفّ وعدم انتشار جوارحه إلیها، وعلیه فالمذکور فی الفقرة الاُولی تعریف لنفس العدالة، والعرفان المذکور مأخوذ فیها بما هو طریق لا وصف دخیل فی العدالة، ولا یمکن أن یکون نفس الستر

ص : 339


1- 1) وسائل الشیعة 27:391، الباب 41 من أبواب کتاب الشهادات، الحدیث الأول.

والعفاف طریقاً إلی العدالة لا نفسها، ویؤیّد ذلک أنّه لو کان المذکور فیها طریقاً إلی العدالة لا بیاناً لنفس العدالة لما کان وجه لما ذکره فی الفقرة الثالثة حیث إنّه مع إحراز ما ذکر فی الفقرة الثالثة لا یحتاج إلی إحراز ما ذکر فی الفقرة الاُولی.

وحمل ما ذکر فی الفقرة الثالثة علی اعتبار الطریق إلی الطریق الوارد فی الفقرة الاُولی ینافیه قوله علیه السلام فی الفقرة الثالثة: «ویجب علیهم تزکیته وإظهار عدالته» حیث إنّ ظاهرها کون ما ذکر فی الفقرة الثالثة طریقاً إلی نفس العدالة لا أنّها طریق إلی طریقها.

أقول: کون الفقرة الثالثة طریقاً معتبراً إلی عدالة الشخص المعبّر عن الطریق بحسن الظاهر مما لا کلام فیه، ولکن لا دلالة فیها ولا فی الفقرة الاُولی علی کون العدالة هی الملکة، وذلک فإنّ المذکور فی الفقرة الاُولی: «أن تعرفوه بالستر والعفاف وکفّ البطن . . . إلخ» ولا ینبغی التأمّل فی أنّ الکفّ من أفعال النفس، وکون المراد من العفاف غیر الکفّ غیر ظاهر، فإن عفّة الشخص عن المعاصی امتناعه عن ارتکابها، وأمّا الستر فهو إمّا بمعنی الستر عن الناس أو الستر عن اللّه بمعنی ثبوت الحاجز بینه وبین معصیة اللّه، والحاجب والمانع یکون الخوف من اللّه أو غیره، فیکون المفاد إذا عرف الشخص بالستر والعفاف والکفّ واجتناب المعاصی فعدالته تحرز، ولکن لا تدلّ علی أنّ العدالة هی الستر والعفاف والکفّ، ولعلّ العدالة هی الاستقامة فی العمل الناشیء من ستر الشخص وعفافه وکفّه، هذا إذا کان المراد بالستر والعفاف صفة النفس، وأمّا إذا کان المراد بهما ما هو من أفعالها بأن یکون المراد من العفّة الامتناع عن العصیان، والستر الامتناع عن الظهور علی تقدیر الاتفاق واستمرّ له الکفّ عن المعاصی یکون الشخص ممن عرفت عدالته، ولا بأس بالالتزام بأنّ عرفان

ص : 340

ذلک عرفان لاستقامة الشخص فی أعماله.

ثمّ إنّ الماتن قدس سره قد ذکر فی فصل شرایط إمام الجماعة عدالته، وفسّر العدالة بأنّها ملکة الاجتناب عن الکبائر وعن الإصرار علی الصغائر وعن منافیات المروّة الدالّة علی عدم مبالاة مرتکبها بالدین، وذکر فی المقام العدالة عبارة عن ملکة الإتیان بالواجبات وترک المحرّمات، ولم یفصِّل کما تری بین الکبیرة والصغیرة، ولم یذکر منافیات المروّة، وأمّا التفرقة بین الکبائر والصغائر فیأتی الکلام فیها بعد ذلک.

ارتکاب خلاف المروة قادح فی العدالة أو فی حسن الظاهر أم لا؟

والکلام فعلاً فی اعتبار ملکة منافیات المروّة، فنقول: فسروا المروّة بعدم خروج الشخص عن العادات مما یعدّ ارتکاب خلافها مهانة له وعلامة لخسّة النفس ومراعاتها کمالاً لها وإن لم یکن من ترک الواجب أو فعل الحرام، ویستدلّ علی اعتبار ذلک بما ورد فی صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور من کون الشخص: «ساتراً لجمیع عیوبه»(1) فإنّ جمیع العیوب یشمل العیوب المشار إلیها. والماتن قدس سره اعتبر الاجتناب عن منافیات المروّة أی الدالة علی أنّ مرتکبها لا یبالی بالدین، وظاهره أنّ الشخص إذا کان بین الناس بحیث لا یبالی بالإضافة إلی ما یعدّ عندهم عیباً وقبیحاً بالإضافة إلی أمثاله ولا یراعیها أصلاً یکشف ذلک عندهم أنّه لا یبالی أیضاً بالإضافة إلی الوظائف الشرعیّة فلا تتحقق العدالة.

أقول: ظاهر ما ورد فی صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور من کونه: «ساتراً لجمیع عیوبه» هو العیوب الشرعیّة، وعلی تقدیر الإغماض فارتکاب خلاف المروّة یوجب

ص : 341


1- 1) مرّ تخریجه قبل قلیل.

انتفاء حسن الظاهر الذی هو طریق إلی العدالة، لا أنّه یوجب انتفاء العدالة حیث لا ملازمة بین کون الشخص غیر مبالٍ بعادات أمثاله وکونه مبالیاً تماماً ومحافظاً علی رعایة الوظائف الشرعیّة، فما ذکره الماتن قدس سره من دلالة ارتکاب المنافیات ولو بعضها علی عدم المبالاة فی الدین غیر تامّ.

نعم إذا کان ارتکاب شیء مباح فی نفسه فی موارد موجباً لهتک المرتکب وإذلال نفسه عند الناس فلا یجوز ذلک الارتکاب، ویخرج به الشخص عن العدالة؛ لأنّ حرمة هتک المؤمن لا تختصّ بما إذا کان الهاتک شخصاً والمهتوک شخصاً آخر، بل یعمّ هتک المؤمن نفسه، کما إذا خرج المؤمن إلی الأسواق ومجتمعات الناس عاریاً ساتراً عورته بخرقة صغیرة بحیث لا یری عورته فقط، فإنّ هذا العمل حرام وإن کان فی نفسه لا بأس به، کما إذا فعل ذلک فی مغتسل الحمام أو عند بعض أهله، وأمّا إذا لم یکن ارتکاب خلاف عادة أمثاله کذلک بحیث رأی الناس فی عمله قدحاً فیه فغایته انتفاء حسن الظاهر، لاحتمال الناس أنّ جرأته لخرق عادة أمثاله ناشئة من عدم اهتمامه بالوظائف الشرعیّة.

وقد تقدّم أنّ انتفاء الطریق إلی العدالة غیر انتفاء العدالة فإذا علم أنّه متعبّد ومبالٍ بالإضافة إلی الوظائف الدینیّة ولا ینحرف عنها یترتّب علیه ما یترتّب علی العادل وعدالته، ولا یبعد أن ینتفی حسن الظاهر بترک المستحب أو ارتکاب المکروه، کما فی عدم حضور الشخص لصلاة الجماعة فی أوقات الصلوات أو خلف وعده إذا وعد مع أنّ خلفه لیس بحرام.

ثمّ إنّ المنسوب إلی المشهور قدح ارتکاب الکبیرة فی العدالة، وإذا تاب عنها رجع إلی العدالة، والظاهر أنّ الإصرار علی الصغیرة عندهم کذلک أیضاً حیث وردت

ص : 342

عدّة روایات معتبرة فی أنه: «لا صغیرة بصغیرة مع الإصرار»(1) ولعلّ المستند عندهم لذلک أنّ ثبوت الملکة التی هی العدالة عندهم لا تنافی ارتکاب الذنب اتفاقاً وإن لم یتب، هذا بالإضافة إلی الصغیرة حیث إنّ ترکه الکبائر وعدم إصراره علی الصغیرة مکفّر لذنبه، بخلاف ارتکابه الکبیرة أو إصراره علی الصغایر، فإنّ الشخص یدخل مع ارتکابهما فی عنوان الفاسق ما لم یتب، ولکن لا یمکننا المساعدة علی المنسوب إلیهم فإنّ العدالة _ کما ذکرنا _ هی الاستقامة من الشخص فی وظائفه الدینیّة، وعدم انحرافه عنها، وإذا انحرف عنها ولو بارتکاب الصغیرة یکون داخلاً فی عنوان غیر العادل إلاّ إذا تاب ورجع إلی استمراره علیها حیث إنّ التائب عن ذنبه کمن لا ذنب له، ولا فرق فی الرجوع بالتوبة بین ارتکاب الکبیرة أو الصغیرة.

لا یقال: إذا لم یکن فرق فی الخروج عن العدالة والعود إلیها بالتوبة بین الکبیرة والصغیرة فما معنی تقسیم المعاصی إلی الکبائر والصغائر.

فإنّه یقال: المستفاد من الخطابات الشرعیّة أن تقسیم المعاصی إلیها بلحاظ أمر آخر، وهو أنّه إذا کان الشخص عند ذهابه من هذه الدنیا ممن لیس علیه کبیرة فی أعماله قد وعد بغفران صغائره کما هو ظاهر الآیة المبارکة أیضاً، ولکن من فی أعماله کبیرة لم یتب عنها فلیس فی حقّه وعد الغفران إلاّ إذا تاب، فتکون توبته مکفّرة عن سیئاته کبائرها وصغائرها. نعم غفران الربّ الجلیل لسعة رحمته ولو ببرکة شفاعة النبی وأوصیائه وأولیاء اللّه وصلحاء عباد اللّه له مقام آخر، فلاحظ الآیات والروایات الواردة فی غفران الربّ الجلیل والتوبة إلیه والشفاعة وما یرتبط بها واللّه الهادی

ص : 343


1- 1) وسائل الشیعة 5:111، الباب 70 من أبواب أحکام الملابس، الحدیث 2.

وتعرف بحسن الظاهر الکاشف عنها علماً أو ظنّاً[1] وتثبت بشهادة العدلین، وبالشیاع المفید للعلم.

وولیّ التوفیق.

[1] قد تقدّم تفسیر حسن الظاهر بما ورد فی صحیحة ابن أبی یعفور ومایری من الاختلاف بینها وبین غیرها من الروایات یجمع بینهما إمّا بحمل الإطلاق علی التقیید، أو أنّ الوارد فی غیرها أیضاً فرد آخر من حسن الظاهر، کصحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : «لو کان الأمر إلینا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خیر مع یمین الخصم فی حقوق الناس»(1)، فإنّها تحمل علی ما إذا کان ساتراً لجمیع عیوبه أیضاً بالمعنی المتقدم، کما یحمل علی ذلک مثل روایة إبراهیم بن زیاد الکرخی عن الصادق جعفر بن محمد علیه السلام : «من صلّی خمس صلوات فی الیوم واللیلة فی جماعة فظنّوا به خیراً وأجیزوا شهادته»(2).

کما یظهر الحال فی صحیحة حریز عن أبی عبداللّه علیه السلام فی أربعة شهدوا علی رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان ولم یعدّل الآخران فقال: «إذا کانوا أربعة من المسلمین لیس یعرفون بشهادة الزور اُجیزت شهادتهم جمیعاً واُقیم الحدّ علی الذی شهدوا علیه، إنّما علیهم أن یشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلی الوالی أن یجیز شهادتهم إلاّ أن یکونوا معروفین بالفسق»(3)، فإنّ مثل هذه یعارضها ما دلّ علی اعتبار العدالة فی الشهود، فیحمل الجواب علی الفرض الذی أحرز حسن ظاهرهم، وإن لم یکن لهم حسن الظاهر وطریق إحراز عدالتهم تکون شهادتهم جایزة فی سقوط حدّ

ص : 344


1- 1) وسائل الشیعة 27:394، الباب 41 من کتاب الشهادات، الحدیث 8.
2- 2) المصدر السابق: 395، الحدیث 12.
3- 3) وسائل الشیعة 27:397، الباب 41 من کتاب الشهادات، الحدیث 18.

(مسألة 24) إذا عرض للمجتهد ما یوجب فقده للشرائط یجب علی المقلّد العدول إلی غیره[1].

القذف عنهم إذا کانوا أربعة إلاّ أن یکونوا معروفین بالفسق. وأمّا موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبداللّه علیه السلام : «من عامل الناس فلم یظلمهم، وحدّثهم فلم یکذبهم، وواعدهم فلم یخلفهم کان ممن حرمت غیبته، وکملت مروّته، وظهر عدله، ووجبت اُخوّته»(1)، فهو فرد آخر من حسن الظاهر یترتّب علی من له ذلک آثار العدالة فیما إذا احتمل کونه عادلاً فی الواقع کما هو شأن کلّ طریق معتبر. ونحوها روایتا عبداللّه بن سنان وعبداللّه بن أحمد بن عامر الطائی عن أبیه عن الرضا علیه السلام عن آبائه.

وما فی کلام المتن من تقیید اعتبار حسن الظاهر بما إذا کان مفیداً للعلم أو الظنّ لا یمکن المساعدة علیه، فإنّ حسن الظاهر علی الوجه المتقدم أمارة للعدالة فتتّبع مع احتمال الإصابة ولولم یفد ظنّاً.

وقد تقدّم اعتبار البیّنة فی الموضوعات وأنّه لا یبعد ثبوت الإخبار بالموضوع بخبر الثقة العارف فی غیر موارد الترافع والموارد التی اعتبر الشارع فی ثبوتها طریقاً أو شهادة خاصّة، ولا فرق فی اعتبار البیّنة وخبر الثقة العارف بین إخبارهما بنفس عدالة الشخص أو بحسن ظاهره علی النحو المتقدّم الذی هو طریق إلی إحراز نفس العدالة، وکذا فی اعتبار الشیاع المفید للعلم أو الاطمینان حیث إنّ العلم طریق بالذات أی بلا جعل جاعل، والاطمینان کإخبار الثقة معتبر ببناء العقلاء إلاّ فی الموارد التی أشرنا إلیها.

[1] هذا بالإضافة إلی الشرائط التی تعتبر فی جواز التقلید حدوثاً وبقاءً، وأمّا ما

ص : 345


1- 1) وسائل الشیعة 8 :315 _ 316، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 9.

(مسألة 25) إذا قلّد من لم یکن جامعاً [للشرائط] ومضی علیه برهة من الزمان کان کمن لم یقلّد أصلاً، فحاله حال الجاهل القاصر أو المقصّر[1].

(مسألة 26) إذا قلّد من یحرّم البقاء علی تقلید المیت فمات وقلّد من یجوّز البقاء، له أن یبقی علی تقلید الأوّل فی جمیع المسائل إلاّ مسألة حرمة البقاء[2].

(مسألة 27) یجب عل المکلّف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدّماتها[3] ولولم یعلمها لکن علم إجمالاً أنّ عمله واجد لجمیع الأجزاء والشرائط وفاقد للموانع صحّ وإن لم یعلمها تفصیلاً.

یعتبر فی جواز التقلید ابتداءً کحیاة المفتی فیجوز البقاء علی تقلیده إذا کان الحیّ الفعلیّ یُجوّز البقاء علی تقلید المیّت علی ما مرّ الکلام فیه.

[1] إذا کانت فتوی من رجع إلیه غیر معتبرة، کفقد شرط الرجوع إلیه یکون عمله بلا تقلید، فیجری فیه ما ذکرنا فی المسألة السادسة عشرة.

[2] قد ذکر سابقاً أنّ المجتهد الذی قلّده فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل ابتلاءه بها إذا أفتی بعدم جواز البقاء علی تقلید المیت لا تکون هذه الفتوی منه بعد موته معتبرة، بلا فرق بین ما أفتی الحیّ الفعلی بجواز البقاء علی تقلید المیّت أو أفتی بوجوب البقاء، والسرّ فی ذلک أنه لا یمکن أن تکون فتواه فی مسألة البقاء معتبرة.

[3] ولعلّ ذکر مقدّمات العبادات عطف تفسیریّ للشرائط والموانع، وإلاّ فلا نعرف مقدّمة تتوقّف علیها صحّة العمل ولم یکن من الشرائط والموانع الداخل فیها عدم القاطع، وکیف کان بما أنّ المکلف فی موارد التکلیف بالعبادة علیه الامتثال فلا یفرّق بین الامتثال التفصیلیّ الحاصل ولو باتّباع طریق معتبر فی معرفتها وإحراز الإتیان بها والامتثال الإجمالی الحاصل بالاحتیاط ولولم یعلم تفصیلاً أجزاءها وشرائطها وموانعها المعتبرة فیها.

ص : 346

والحاصل إذا أمکن للمکلّف الإتیان بالواجب الواقعی بتمام ما یعتبر فیه من غیر علمه تفصیلاً بأجزائه وشرائطه وموانعه یکون الامتثال مجزیاً، کما تقدّم فی مسألة جواز الاحتیاط مع التمکّن من الاجتهاد الفعلیّ أو التقلید بلا فرق بین موارد استلزام الاحتیاط التکرار، کما فی مورد دوران أمر الصلاة بین القصر والتمام، أم لا، کما فی دوران الصلاة بین الأقلّ کالاکتفاء بقراءة الحمد خاصّة فی الرکعتین الأوّلتین، أو الأکثر کلزوم قراءة السورة بعد قراءتها، هذا کلّه فی صورة إحراز الامتثال بالإتیان بالواجب الواقعی إمّا بالتفصیل أو الإجمال.

وأمّا تعلّم أجزاء العبادة وشرایطها وموانعها فیما لولم یتعلّمها لم یتمکن من الامتثال أو لم یتمکّن من إحراز الامتثال فیفرض الکلام فی الواجب المشروط والموقّت، وأنّ المکلّف لولم یتعلّم الواجب قبل حصول شرط الوجوب أو دخول الوقت یمکن له التعلّم بعد حصول الوجوب بحصول شرطه أو دخول وقته، کما هو الحال فعلاً فی واجبات الحج وشرائطه وموانعه، ففی هذا الفرض حیث المکلّف یتمکّن من المعرفة والامتثال فی ظرف التکلیف فلا موجب لوجوب التعلّم علیه قبل فعلیّة التکلیف وقبل حصول الاستطاعة.

واُخری لولم یتعلّم أجزاء العمل وشرایطه وموانعه لم یتمکّن من إحراز الامتثال فی ظرف التکلیف أو لا یمکن له الامتثال أصلاً، کما فی الصلاة حیث من لم یکن من أهل اللسان لولم یتعلّم کیفیة الصلاة والقراءة وغیر ذلک مما یعتبر فیها قبل دخول وقتها لا یتمکّن من الصلاة فی وقتها أو لا یتمکن من إحراز الامتثال، وفی هاتین الصورتین علیه التعلّم قبل حصول شرط الوجوب ودخول الوقت؛ وذلک فإنّ الأخبار الواردة فی وجوب التعلّم وأنّ الجهل لا یکون عذراً مسوّغاً لترک الواجب وأنّ

ص : 347

المکلّف یؤخذ به ولو فیما إذا کان منشؤه ترک التعلّم قبل حصول الشرط ودخول الوقت، بل لا ینحصر وجوب التعلّم فیما إذا کان العلم بابتلائه بذلک الواجب فیما بعد، ویجری فیما إذا احتمل الابتلاء ولم یتمکّن بعده من التعلّم وأنّه لا یکون جهله فی ترکه عذراً فیما إذا انجرّ ترک تعلّمه إلی مخالفة التکلیف باتّفاق الابتلاء.

وقد یقال(1): إنما یحتاج إلی أخبار وجوب التعلّم قبل الوقت أو حصول شرط الوجوب فیما إذا توقف التمکّن من إتیان الواجب بعد حصول شرط وجوبه علی التعلّم قبله، وأمّا إذا توقف إحراز الامتثال علی التعلّم قبل أحدهما فالعقل یستقلّ بلزوم التعلّم؛ لأنّ فی ترکه احتمال ترک الواجب کما هو فرض القدرة علی الإتیان بعد حصول شرط وجوبه.

فإنّه یقال: المستفاد من أخبار وجوب التعلّم أنّ القدرة علی الإتیان بالواجب من ناحیة التعلّم شرط لاستیفاء الملاک الملزم، ولا یکون ترکه حتی مع عدم القدرة علیه وعدم التکلیف به خطاباً بعد حصول شرط وجوبه عذراً إذا کان العجز ناشئاً من ترک التعلّم سواء کان ترکه محرزاً أو محتملاً، وأنّه لا مجال للاُصول النافیة فی هذه الموارد أو دعوی جواز الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیّة فیما إذا کان بعد حصول شرط الوجوب لم یتمکّن إلاّ منها.

لا مجال للاستصحاب لإحراز عدم الابتلاء بالواقعة التی ترک تعلّم حکمها

لا یقال: إذا لم یجب علی المکلّف التعلّم بالإضافة إلی الوقایع التی یعلم بعدم ابتلائه بها ولو مستقبلاً فیمکن له إحراز عدم الابتلاء عند الشک بالاستصحاب، حیث

ص : 348


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:247.

یتمسّک به ویحرز عدم ابتلائه ولو مستقبلاً فینتفی الموضوع لوجوب التعلّم، والاستصحاب کما یجری فی أمر یکون نفس ذلک الأمر موضوع الحکم أو نفیه کذلک یجری فیما إذا کان إحراز ذلک الأمر هو الموضوع للحکم، فیثبت أو ینفی علی ما تقدّم من قیام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ فی الموضوع بنحو الطریقیّة والکشف لا بنحو الوصف والصفتّیة، وأیضاً تقدّم فی بحث الاستصحاب أنّه کما یجری فی الاُمور الماضیّة کذلک یجری فی الاُمور الاستقبالیّة، فلا وجه لما یقال بعدم جریان الاستصحاب فی الابتلاء وعدمه لعدم کونه حکماً ولا موضوعاً له.

فإنّه یقال: قد تقدّم أنّ وجوب التعلّم حکم طریقی قد جعل لإسقاط الجهل بالحکم التکلیفی والوضعی وغیره من العذریّة فی مخالفة التکلیف _ سواء کان للجهل بالحکم أو المتعلّق _ وعلیه فعدم وجوب التعلّم فی موارد العلم الوجدانیّ بعدم الابتلاء لکون التعلّم الواجب النفسیّ الطریقیّ علی کلّ مکلّف لغواً بالإضافة إلی موارد علمه بعدم الابتلاء، لا لأنّ لخطابات وجوب التعلّم الطریقیّ ورد تقیید خارجیّ بعدم وجوبه فی موارد عدم ابتلائه، لیتوهّم أنّ الاستصحاب فی عدم الابتلاء مستقبلاً عند الشکّ محرز لذلک القید، والاستصحاب بعدم الابتلاء مستقبلاً لا یثبت اللغویّة مع إطلاق خطابات وجوب التعلّم وشمولها لموارد إحراز الابتلاء واحتماله.

وعلی الجملة بمجرّد الاحتمال یحرز موضوع وجوب التعلّم، والاستصحاب إنما یکون تعبّداً بالعلم فیما إذا لم یعلم الحکم الواقعیّ فی الواقعة ولو کان المعلوم حکماً طریقیّاً واقعیّاً.

ص : 349

(مسألة 28) یجب تعلّم مسائل الشکّ والسهو بالمقدار الذی هو محلّ الإبتلاء غالباً، نعم لو اطمأنّ من نفسه أنّه لا یبتلی بالشکّ والسهو صحّ عمله وإن لم یحصل العلم بأحکامهما[1].

[1] إن قیل بحرمة قطع الصلاة الواجبة کالیومیّة یجب علی المکلّف تحصیل العلم بأحکام الشکّ والسهو فی الصلاة فیما إذا احتمل ابتلاءه بهما أثناء الصلاة مع عدم إمکان تعلّم حکمهما؛ لأنّ مع عدم تعلّم حکمهما من قبل وإن یمکن له الإتیان بالوظیفة المقرّرة للشاکّ والساهی فی صلاته اتّفاقاً إلاّ أنه یحتمل أن یکون ما أتی به حالهما مبطلاً، کما یکون رفع یده عن تلک الصلاة باستینافها قطعاً للفریضة، کما إذا شکّ حال القیام فی أنّه رفع رأسه من الرکوع أو أنّه بعد لم یرکع، فإنّه إذا سجد یکون هذا إبطالاً لصلاته لو کان ترکه الرکوع مطابقاً للواقع، فإحراز أنّه لا یرتکب الحرام بقطع تلک الصلاة وترک الرکوع أو تدارک الرکوع یتوقّف علی تعلّم أحکام الشک والسهو ولو قبل مجیء الوقت.

نعم لو التزم بعدم حرمة قطع الصلاة الواجبة أو إبطالها وأنّ ما ذکر فی أحکام الشکّ والسهو تعیین علاج السهو والشکّ فی تلک الصلاة فلا موجب للقول بوجوب التعلّم، لإمکان إحراز الامتثال بالاستیناف بعد الإبطال من غیر ارتکاب محذور.

ثمّ إنه لا وجه لتقیید الماتن قدس سره وجوب التعلّم بما هو محلّ الابتلاء غالباً، إلاّ أن یراد منه عدم وجوب التعلّم بالإضافة إلی الموارد التی یطمئنّ بعدم الابتلاء بها.

وأیضاً ما ذکر قدس سره من أنّ المکلّف إذا لم یتعلّم أحکام الشکّ والسهو بالإضافة إلی الموارد التی یعمّ الابتلاء بها نوعاً وأتی المکلف بالصلاة مع اطمئنانه بأنّه لا یبتلی بها یصحّ عمله، ولازم ذلک أن لا یحکم بالصحة مع عدم الاطمینان بابتلائه، أو ابتلی بها وأتی بوظیفة الشاک والساهی اتّفاقاً بعنوان الرجاء، لا یمکن المساعدة علیه، کما إذا

ص : 350

أتی فی المثال السابق بالرکوع برجاء أنّ ذلک وظیفته وأتمّها ثمّ ظهر أنّ ما فعله فتوی العلماء، ولعلّه قدس سره یری أنّه لا یتحقق فی الصورتین قصد التقرّب المعتبر، حیث إنّه لا یتحقّق ممّن یحتمل ارتکاب الحرام بصلاته نظیر ما یقال بأنّه لو توضّأ بأحد الماءین یعلم بغصبیّة أحدهما یبطل وضوؤه حتّی ما إذا ظهر بعد الوضوء به أنّه کان المباح منهما، أو إذا توضّأ بکلّ منهما یحکم ببطلان وضوئه لعدم تحقق قصد التقرّب عند التوضؤ بکلّ منهما.

أقول: حرمة إبطال الصلاة الفریضة أو عبادة اُخری أثناءها موقوفة علی کون الدخول فی الصلاة أو نحوها دخولاً صحیحاً، وإذا فرض من الأوّل بطلان ذلک العمل لجهة ما فلا یکون قطعه محرّماً، فلابدّ من الالتزام بأنّ عدم تعلّم حکم الشکّ والسهو والدخول فی الصلاة مع احتمال عدم ابتلائه بهما أثناءهما لا ینافی قصد التقرّب إذا اتّفق عدم ابتلائه بهما، نظیر من صام فی نهار شهر رمضان مع عدم تعلّمه المفطرات الموجبة ارتکابها بطلان الصوم برجاء أنّه لا یرتکب شیئاً منها، حیث لا یحکم ببطلان صومه مع إمساکه عنها طرّاً، وکذا فیما إذا دخل فی الصلاة مع احتماله إتمامها صحیحاً حتّی فیما إذا اتّفق الشک والسهو ولکن بنی عند طروّ أحدهما علی شیء باحتمال أنّه وظیفة الشاکّ والساهی ثمّ تبیّن أنّ البناء الذی عمل علیه کان وظیفة الشاکّ أو الساهی، کما إذا رکع فی فرض الشکّ فی الرکوع حال قیامه.

وممّا ذکرنا یظهر الفرق بین التوضّؤ بأحد الماءین الذی یعلم بکون أحدهما مغصوباً وبین الدخول فی الصلاة مع احتمال إتمامها صحیحاً لعدم ابتلائه بالشکّ أو السهو، أو مع بنائه بما یحتمل کونه وظیفة الشاکّ أو الساهی، بخلاف التوضّؤ بأحدهما حیث یحتمل أنّ الغسل به ارتکاب الحرام المنجّز المعلوم بالإجمال،

ص : 351

حیث إنّ ما یبنی علیه عند عروض الشکّ والسهو من أحد الطرفین رجاءً لدوران الأمر بین المحذورین، بخلاف الوضوء فإنّه یترکه ویتیمّم کما هو وظیفته.

بقی فی المقام أمر وهو أنّ المنقول عن الشیخ الأنصاری قدس سره أنّ من ترک تعلّم أحکام الشکّ والسهو فی الصلاة یحکم علیه بالفسق، وهذه الفتوی منه قدس سره لا یمکن أن تبتنی علی حرمة التجرّی شرعاً، فإنّه قدس سره لم یلتزم لا بحرمة التجرّی ولا بقبحه الفعلیّ، وهو قدس سره یری أنّ العدالة هی ملکة الاجتناب عن المحرّمات والإتیان بالواجبات، ولو قیل بأنّ هذا التجرّی یکشف عن عدم ملکة الاجتناب والإتیان بالواجب، فلوجود الواسطة بین عدم الملکة والفسق لا یحکم بکونه فاسقاً، وقد تقدّم أنّ العدالة لیست بمعنی ملکتهما، بل هی استقامة الشخص علی وظائفه الشرعیّة وعدم خروجه عنها، وهذا الشخص لم یخرج بترک تعلّمه عن وظائفه الشرعیّة، بل المفروض أنّه أتی بصلاته صحیحة.

والتعلّم لم یکن وجوبه نفسیّاً بل کان وجوبه طریقیّاً، والغرض من موافقته الخروج عن عهدة التکالیف النفسیّة وعدم مخالفتها، والظاهر أنّ حکمه بالفسق مبنیّ علی ما تقدّم من بطلان الصلاة من تارک التعلّم لأحکام الشکّ والسهو حتّی ما إذا صلّی ولم یبتل فیها بالشکّ والسهو، فیکون محکوماً بالفسق.

ودعوی(1) أنّ الحکم بالفسق فیما إذا استلزم ترک التعلّم عدم تمکّنه من إحراز الامتثال بالإضافة إلی التکلیف المنجّز فی موطنه، فإنّ عدم إحراز امتثاله خروج عن الوظیفة الدینیّة فیکون فاسقاً، لا یمکن المساعدة علیها، فإنّ انطباق عنوان الفاسق

ص : 352


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:254.

(مسألة 29) کما یجب التقلید فی الواجبات والمحرّمات یجب فی المستحبّات والمکروهات والمباحات[1] بل یجب تعلّم حکم کلّ فعل یصدر منه سواء کان من العبادات أو المعاملات أو العادیّات.

(مسألة 30) إذا علم أنّ الفعل الفلانی لیس حراماً ولم یعلم أنّه واجب أو مباح أو مستحبّ أو مکروه یجوز له أن یأتی به، لاحتمال کونه مطلوباً[2] وبرجاء الثواب. وإذا علم أنّه لیس بواجب ولم یعلم أنّه حرام أو مکروه أو مباح له أن یترکه لاحتمال کونه مبغوضاً.

فیما إذا ترتب الأثر الشرعیّ علیه مشکل جدّاً وإن لا یبعد نفی بعض العناوین المنطبقة علی العادل عنه، کالمأمون بدینه أو أنّه یواظب علی وظائفه الشرعیّة فتدبّر.

[1] لا ینبغی التأمّل فی أنّ علی العامیّ تعلّم الواجبات الشرعیّة بأجزائها وشرائطها وموانعها بالتقلید أو الاحتیاط فیها علی ما تقدّم، وکذلک الأمر فی المحرّمات حیث إنّ القیود المعتبرة فی المحرّم إمّا أن تحرز بالتقلید أو علیه الاحتیاط، وأمّا لزوم التقلید فی المستحبات والمکروهات والمباحات ففیما إذا احتمل الإلزام فیها، حیث إنّ علیه رعایة احتمال الإلزام أو التقلید فی إحراز عدم الإلزام فی الفعل سواء کان إحرازه نفی الإلزام بفتوی الفقیه بالاستحباب أو الإباحة أو الکراهة. وأمّا إذا علم العامیّ بعدم الإلزام وتردّد فی استحبابه الشرعیّ فإنّه وإن یجوز الإتیان به برجاء کونه مستحبّاً إلاّ أنّ قصد الاستحباب الجزمیّ فیه یتوقّف علی إحراز الاستحباب بالتقلید، وکذلک ترک الفعل فیما إذا احتمل کراهته مع إحرازه عدم الحرمة فیه، ویجری لزوم التقلید فی الأجزاء والشرائط فی العبادات المستحبة، بل فی المعاملة فی إحراز صحتها إن ترک الاحتیاط فیها أو لم یعرف کیفیّة الاحتیاط فیها.

[2] إذا ترک التقلید فی الصورة الاُولی ولم یحرز عدم وجوبه فعلیه الاحتیاط

ص : 353

(مسألة 31) إذا تبدّل رأی المجتهد لا یجوز للمقلّد البقاء علی رأیه الأوّل [1].

(مسألة 32) إذا عدل المجتهد عن الفتوی إلی التوقّف والتردّد یجب علی المقلّد الاحتیاط أو العدول إلی الأعلم بعد ذلک المجتهد[2].

بالإتیان به برجاء الوجوب، فإنّ الاحتیاط علی العامیّ قبل الفحص لازم فی موارد احتمال التکلیف، وکذا الحال فی الصورة الثانیة إذا لم یحرز عدم حرمته علیه الاحتیاط فی ترکه.

نعم إذا أحرز عدم الوجوب والحرمة فی الصورتین یجوز له الاحتیاط بما ذکره، فإنّ إحراز عدم التکلیف بالطریق المعتبر لا یمنع عن الاحتیاط بل هو حسن ومستحب کما قرّر فی محلّه.

[1] قد تقدّم أنّ الفتوی السابقة بعد رجوع المجتهد عنها إلی فتوی اُخری لا تبقی الفتوی الاُولی علی الاعتبار، والفتوی إخبار عن حکم الواقعة وتعیین للوظیفة المجعولة فیها من أوّل تأسیس الشریعة علی طبق ما استفاده من مدارک الأحکام؛ ولذا قلنا إنه لولم یکن دلیل علی إجزاء الأعمال السابقة التی کانت علی طبق الفتوی السابقة کان علی المکلّف تدارکها علی طبق الفتوی الجدیدة؛ لأنّ ما دلّ علی اعتبار الفتوی للعامیّ من الروایات والسیرة العقلائیة لا یعمّ شیء منهما صورة عدول المجتهد من فتواه السابقة، ولا فرق فی ذلک سواء کان عدوله من فتواه السابقة إلی الفتوی الاُخری أو کان إلی التوقّف والتردّد فی حکم الواقعة.

هذا فیما إذا أحرز العامی العدول إلی الفتوی الاُخری أو إلی التوقّف والاحتیاط، وأمّا إذا شکّ فی العدول فله أن یبقی علی تلک الفتوی، فإنّه مقتضی الاستصحاب فی بقاء تلک الفتوی وعدم العدول عنها.

[2] فإنّه برجوع المجتهد إلی التوقّف والفتوی فلا یکون له فی الواقعة فتوی فعلاً،

ص : 354

(مسألة 33) إذا کان هناک مجتهدان متساویان فی العلم کان للمقلّد تقلید أیّهما شاء[1] ویجوز التبعیض فی المسائل. وإذا کان أحدهما أرجح من الآخر فی العدالة أو الورع أو نحو ذلک فالأولی بل الأحوط اختیاره.

ویکون علی العامیّ فعلاً إما الاحتیاط فی الواقعة أو الرجوع إلی الأعلم بعد ذلک المجتهد علی ما تقدّم سابقاً من تخییر العامیّ بین الاحتیاط والرجوع إلی فتوی المجتهد الواجد للشرایط.

التبعیض فی التقلید

[1] هذا مبنیّ علی ثبوت التخییر للعامیّ بین تقلید أیّ من المجتهدین المتساویین فی العلم مطلقاً سواء لم یعلم المخالفة بین فتاویهما فی الوقایع أصلاً أو علم ذلک ولو بالإجمال، وقد ذکر هذا التخییر الماتن قدس سره سابقاً ولکن قیّده بما إذا لم یکن أحدهما أورع من الآخر واحتاط فی تقلید الأورع. وفی المقام أجاز التبعیض بینهما فی المسائل وقال: إذا کان أحدهما أرجح من الآخر فی العدالة أو الورع أو نحو ذلک فالأولی بل الأحوط اختیاره، وکما تری لا یکون کلامه فی المقام ظاهراً فی الاحتیاط الوجوبیّ، بخلاف ما تقدّم فی مسألة تخییر العامیّ بین تقلید أحد من المجتهدین المتساویین فی العلم.

أقول: لو قلنا بالتخییر وبجواز التبعیض فهذا القول فیما لم یعلم ولو إجمالاً اختلافهما فی المسائل التی یبتلی بها المکلف صحیح لاغبار فیه، وأمّا فی المسائل التی یعلم العامیّ باختلافهما فیها إجمالاً فثبوت التخییر محلّ إشکال إلاّ بناءً علی ما ذکرنا سابقاً من إحراز أنّ الشارع لا یرید العسر، وأن یعمل العامیّ بالاحتیاط فی المسائل المشار إلیها، لا بالإضافة إلی الاحتمالات فی الواقعة، ولا الاحتیاط بالإضافة إلی فتوی کلّ من المتساویین فی الواقعة، فإنّ الاحتیاط فی الأول عسر وینافی ما علیه

ص : 355

الشریعة السهلة السمحة، والثانی لا وجه له فإنّ مع سقوط فتوی المجتهدین فی واقعة للمعارضة لا یمکن نفی الاحتمال الثالث لما تقرّر فی الاُصول من أنّه لا یمکن نفی الثالث بالدلالة الالتزامیّة بعد سقوط المدلول المطابقیّ عن الاعتبار، فلا وجه لما یقال فی وجه الاحتیاط بین القولین بأنّه لا اعتبار بفتوی الآخرین؛ لأنّ المفروض أنّهما بالإضافة إلی الآخرین أفضلان أو أنّ فتواهما تتضمّن الفتوی بأنّ الحکم الثالث غیر ثابت فی الواقعة فتدبّر.

وربّما(1) یقال: إنّه علی تقدیر التبعیض فی التقلید فاللازم رعایة عدم استلزامه الإتیان بعمل بنحو یکون باطلاً عند کلیهما، کما إذا أفتی أحدهما بعدم وجوب السورة بعد قراءة الحمد فی الرکعتین الأوّلتین وبلزوم الإتیان فی الأخیرتین بالإتیان بالتسبیحات الأربعة ثلاث مرات، وأفتی الثانی بلزوم قراءة السورة وکفایة التسبیحات مرّة، فإنّ العامی إذا قلّد فی مسألة قراءة السورة بالأوّل وفی التسبیحات بالثانی فالصلاة التی یأتی بها بلا سورة وبالتسبیحات بالمرّة لا تصحّ عند کلیهما فهذا التخییر غیر جایز، وکذا التبعیض فی الموارد التی یکون العمل متعدّداً وفی واقعتین ولکن بینهما تلازم فی الحکمین وأوجب التبعیض التفکیک بین المسألتین، کما إذا أفتی أحدهما بوجوب التمام والصوم فی سفر وأفتی الآخر فیه بالقصر والإفطار فقلّد العامی الأوّل فی وجوب التمام، والثانی فی لزوم الإفطار، وهکذا فإنّ العلم الإجمالی إمّا ببطلان صلاته أو عدم جواز إفطاره منجّز.

وقد أجبنا عن ذلک وقلنا بجواز التبعیض حتی بالإضافة إلی العمل الواحد فی

ص : 356


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:257 _ 258.

مسألة (65) الآتیة حیث قال الماتن قدس سره فیها: فی صورة تساوی المجتهدین یتخیّر بین تقلید أیّهما شاء کما یجوز له التبعیض حتی فی أحکام العمل الواحد حتّی أنّه لو کان مثلاً فتوی أحدهما وجوب جلسة الاستراحة، واستحباب التثلیث فی التسبیحات الأربع وفتوی الآخر بالعکس یجوز أن یقلّد الأوّل فی استحباب التثلیث، والثانی فی استحباب الجلسة.

وما قیل من أنّ صلاته بتقلید الأول فی استحباب التثلیث، والثانی فی استحباب جلسة الاستراحة تکون باطلة عند کلا المجتهدین غیر صحیح، فإنّ من یقول ببطلان الصلاة من المجتهدین بترک التثلیث فی التسبیحات الأربع یقول بالبطلان مع عدم العذر فی ترکها، وکذلک من یقول ببطلانها بترک جلسة الاستراحة یقول ببطلانها فی صورة عدم العذر فی ترکها کما هو مقتضی حدیث: «لا تعاد» ولیس من یفتی بعدم وجوب جلسة الاستراحة یقیّد عدم وجوبها بصورة الإتیان بالتسبیحات الأربع ثلاثاً، کما أنّه لیس فتوی من یفتی بکفایة الواحدة یقیّد کفایتها بصورة الإتیان بجلسة الاستراحة بحیث لولم یأت بالتسبیحات إلاّ مرّة یکون علیه الإتیان بجلسة الاستراحة، ولیس علی العامیّ إلاّ التقلید عمّن یری عدم وجوب جلسة الاستراحة والتقلید عمّن یری عدم وجوب التثلیث فی التسبیحات الأربع، کما هو مقتضی جواز التبعیض فی تقلیده لتساوی المجتهدین.

نعم، فیما إذا کان الجزء أو القید رکناً بحیث لا یعذر فیه الجاهل بأن یبطل عمله بالإخلال به علی قولی المجتهدین، فمع الإخلال بالرکن فی ذلک العمل لم یجز التبعیض، وهذا لا یفرض فی الصلاة لعدم الاختلاف فی أرکانها، ویتصوّر فی مثل الحجّ، کما إذا أفتی أحد المجتهدین بإجزاء درک الوقوف الاضطراریّ المزدلفة یوم

ص : 357

(مسألة 34) إذا قلّد من یقول بحرمة العدول حتی إلی الأعلم ثم وجد أعلم من ذلک المجتهد[1] فالأحوط العدول إلی ذلک الأعلم وإن قال الأول بعدم جوازه.

العید وإن لم یدرک الوقوف الاختیاریّ والاضطراریّ بعرفة، ولکن کان فتواه عدم کفایة الغسل المستحب فی الطهارة من المحدث بالأصغر، ویری المجتهد الآخر العکس وأنّ الغسل الاستحبابی یجزی ولا یجزی الوقوف الاضطراریّ من غیر درک الاضطراریّ بعرفة والمکلّف أدرک الاضطراری بالمشعر خاصّة، وعلیه فإن أدرک المکلّف الوقوف الاضطراری بالمشعر خاصّة وأتی بطواف حجه وعمرته بالغسل المستحب من وضوء یکون حجّه باطلاً عند کلا المجتهدین، وفی جواز التبعیض کذلک إشکال لعدم إحراز العامیّ صحة عمله علی فتوی واحد منهما.

وأمّا مسألة القصر والصوم فلا تکون من هذا القبیل؛ لأن من یوجب القصر من المجتهدین والإفطار فصلاته قصراً وظیفته عنده والآخر یقول إنّ الصوم وظیفته الواقعیّة، والقائل بالإفطار یقول بصحّة صومه لکونه صائماً جهلاً بوجوب الإفطار علیه.

نعم لو علم العامیّ أنّ وجوب القصر فی الصلاة فی سفر لا یجتمع مع وجوب الصوم فیه یلزم علیه الجمع بین القصر والتمام والصوم فیه والقضاء بعده أو ترک التبعیض؛ لأنّ علمه الإجمالیّ بعدم اجتماع وجوب القصر مع وجوب الصوم فی السفر المفروض یوجب علمه ببطلان أحد الأمرین من صلاته أو صومه.

[1] حیث إنّه قدس سره احتاط فی تقلید الأعلم _ کما تقدّم سابقاً _ احتاط فی المقام أیضاً فی العدول.

ولکن لا یخفی أنّه لو کان تقلید الأعلم من الأوّل احتیاطاً واجباً لا یکون العدول إلی الأعلم فی الفرض من الاحتیاط؛ لأنّ ظاهر الفرض وقوع التقلید الأوّل صحیحاً

ص : 358

(مسألة 35) إذا قلّد شخصاً بتخیّل أنّه زید فبان عمرواً، فإن کانا متساویین فی الفضیلة ولم یکن علی وجه التقیید صحّ، وإلاّ فمشکل[1].

وکان یقول بحرمة العدول حتی إلی الأعلم، وبعد وجدان الأعلم منه متأخّراً یحتمل تعیّن تقلید ما قلّده، کما تقدّم فی مسألة عدم جواز العدول عن الحیّ؛ وذلک لا لفتوی ذلک المجتهد بعدم جواز العدول حتّی إلی الأعلم، بل لاحتمال تعیّن الحجّة فی فتاویه فی الوقایع کما أنّ تعیّن الرجوع إلی الأعلم منجّز لوجوب تقلید الأعلم الفعلیّ فعلیه الجمع فی المسائل بین فتوی الأعلم السابق والأعلم الفعلیّ فیها.

هذا بناءً علی ما ذکره من وجوب الاحتیاط فی تقلید الأعلم من المجتهدین، وأمّا بناءً علی ما ذکرنا من عدم اعتبار فتوی غیر الأعلم مع الأعلم یتعیّن الرجوع فی المسائل التی یعلم اختلافهما فیها ولو إجمالاً.

[1] حاصل ما ذکره فی المقام أنّه إذا کان فی البین مجتهدان متساویان فی الفضیلة بحیث یجوز للعامیّ تقلید أیّ منهما وقلّد أحدهما باعتقاد أنّه زید ثمّ بان أنّه عمرو أی المجتهد الآخر، فإن کان العامیّ بحیث لو علم من الأوّل أنّه عمرو کان أیضاً یقلّده ففی الفرض حکم بصحة التقلید، وأمّا إذا کان عالماً بأنه عمرو لم یکن یقلّده فإنّه مشکل فی تحقّق التقلید.

وعبّر فی الصورة الاُولی بأنّ قصد التقلید عن الشخص المزبور فی الفرض الأوّل لم یکن بنحو التقیید بخلاف الفرض الثانی، وهذا نظیر ما ذکر فی الاقتداء وأنّ المکلف إذا قصد الائتمام بالإمام باعتقاد أنّه زید ثمّ ظهر بعد الصلاة أنّه عمرو، فإن کان قصده الائتمام بزید لا علی نحو التقیید بحیث لو کان عالماً من الأوّل أنّ الإمام عمرو کان أیضاً یأتمّ به تصحّ صلاته جماعة، وأمّا إذا کان عالماً بأنّ الإمام عمرو لما کان یأتمّ به فصلاته أو جماعته باطلة.

ولکن لا یخفی أنّ القابل للتقیید حقیقة هو الکلّی أی ما کان الفعل کلیّاً ولو مع

ص : 359

عدم کلیّة متعلّقه، کما فی متعلّقات الأوامر والنواهی وغیرهما من الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة حیث یمکن لجاعل الحکم أن یجعل متعلّق حکمه واعتباره مطلقاً أو مقیّداً، وأمّا ما صار فعلیّاً فی الخارج بأن تحقّق فیه فلا یتّصف بالإطلاق والتقیید، بل هو موجود جزئیّ خارجیّ لا محالة.

فإن کان ذلک الموجود الخارجیّ من الفعل عنوانه من العناوین غیر القصدیّة ینطبق عنوانه علیه لا محالة، غایة الأمر إذا کان الفاعل الصادر عنه الفعل ملتفتاً إلی عنوانه حین صدوره منه یکون الفعل عمدیّاً، وإن کان غیر ملتفت إلیه بحیث لو کان ملتفتاً لم یصدر عنه ولم یفعل یکون خطأً، وکذلک إذا کان ملتفتاً إلی عنوان الفعل ولکن لم یلتفت إلی ما وقع ذلک الفعل علیه من المتعلّق له، فلو کان ملتفتاً إلیه کان الفعل المقصود والملتفت إلی عنوانه عمدیّاً وإلاّ کان خطأً، کما إذا قتل شخصاً بزعم أنّه زید ولکن ظهر بعد ذلک أنّه عمرو بحیث لو احتمل أنّه کان عمراً لم یکن یقتله.

وأمّا إذا کان عنوان الفعل من العناوین القصدیّة ولم یقصد ذلک العنوان بفعله لا یکون ذلک الفعل مصداقاً لذلک العنوان، من غیر فرق بین العبادات والمعاملات، وکذا إذا قصد العنوان القصدیّ ولکن انتفی عما ینطبق علیه العنوان القصدیّ ما یعدّ قیداً مقوّماً فی انطباق ذلک العنوان، کما إذا قصد إنشاء الطلاق لامرأة بتخیّل أنّها زوجته ولکن أخطأ ولم تکن المرأة زوجته بل أجنبیة له، وهذا بخلاف ما إذا تحقّق ذلک القید، فإنّه یکون ذلک الفعل الذی هو عنوان قصدیّ محقّقاً لا محالة، والمفروض فی المقام کذلک، فإنّ المفروض أنّ الذی قلّده بتخیّل أنّه زید فبان أنّه عمرو واجد لتمام الشرائط المعتبرة فی المجتهد، وقد تعلم منه الفتوی وعمل علی طبقه فیکون تقلیداً مجزیاً، ولو کان عالماً بأنّه عمرو لما قلّده من قبیل تخلّف الداعی،

ص : 360

(مسألة 36) فتوی المجتهد یعلم بأحد اُمور: الأوّل: أن یسمع منه شفاهاً، الثانی: أن یخبر بها عدلان، الثالث: إخبار عدل واحد بل یکفی إخبار شخص موثّق یوجب قوله الاطمئنان وان لم یکن عادلاً، الرابع: الوجدان فی رسالته، ولابدّ أن تکون مأمونة من الغلط[1].

وکذا فی مسألة الائتمام بأحد الشخصین الواجدین لشرائط الائتمام فإنه یتحقّق الائتمام ویکون مجزیاً، بخلاف ما لم یکن واجداً لشرائط الائتمام فإنه لعدم تحقّق شرائط الائتمام لم یتحقّق الائتمام، غایة الأمر صلاة المأموم محکومة بالصحة إذا لم یرتکب فی صلاته ما یبطل صلاته الفرادی حتّی حال العذر کتعدّد الرکوع فی رکعة؛ وذلک فإنّ صلاته لم تنقص من صلاة المنفرد إلاّ القراءة وتسقط اعتباره عند العذر، ومنه الاعتقاد بصحة ائتمامه.

[1] وذلک فإنّ السماع من المجتهد شفاهاً تعلّم لفتواه وجداناً إذا کان ما ذکر المجتهد من فتواه صریحاً بحسب المدلول أو کان ظاهراً، والکلام فی اعتبار الظواهر مفروغ عنه فی المقام، وأمّا الثانی یعنی إخبار العدلین بفتواه فإنّه داخل فی البیّنة لفتواه إذا کان إخبارهما به بالسماع من المجتهد، وأمّا إذا لم یکن إخبارهما کذلک أو أخبر عدل بفتواه فهو داخل فی خبر العدل، وقد تقدّم اعتباره فی الأحکام التی منها فتوی المجتهد بالإضافة إلی العامیّ، بل ذکرنا اعتباره فی الموضوعات أیضاً وإن استشکل فیه بعض الأصحاب کالماتن قدس سره ، بل المعتبر فی نقل الحکم خبر الثقة إذا استند فی نقله إلی الحسّ وإن کان بوسائط؛ ولذا التزم الماتن قدس سره فی المقام باعتبار خبر العدل الواحد بل الثقة وإن لم یکن عدلاً، ولکن قیّد الثقة بوصف بقوله: «موثّق یوجب قوله الاطمینان» ولو کان مراده الإیجاب النوعیّ فمفاده اعتبار نفس خبر الثقة، وإن کان مراده الاطمینان الشخصیّ تکون النتیجة اعتبار الاطمینان الناشئ من خبر الثقة، وفی

ص : 361

اعتبار خبر الثقة قولان وکأنه اختار أحد القولین یعنی القول الثانی.

وعلی الجملة کما أنّ قول الإمام علیه السلام طریق إلی الحکم الشرعیّ المجعول فی الشریعة والراوی عنه علیه السلام یخبر عن ذلک الطریق کذلک فتوی المجتهد طریق شرعیّ إلی الحکم الشرعیّ المجعول فی الشریعة بالإضافة إلی العامیّ، والمخبر بفتوی المجتهد یخبر عن ذلک الطریق المعتبر فی حقّه، فالراوی عن المعصوم لا یروی الحکم الشرعیّ المجعول فی الشریعة بالذات، وإنّما یخبر عن طریقه بنقله قول المعصوم. کذلک الراوی لفتوی المجتهد إنما یروی طریقه إلی الحکم الشرعیّ المجعول بنقل فتوی المجتهد ونظره؛ ولذا لم یستشکل الماتن قدس سره فی اعتبار خبر العدل بل الثقة عن المجتهد بفتواه مع أنّه لم یلتزم باعتبار خبر العدل فی الموضوعات بل استشکل فی اعتباره فیها.

وما ذکر فی المتن من تقیید الموثّق بما «یوجب قوله الاطمینان» إن کان من قبیل الوصف التوضیحیّ وبأنّ الموثّق من یوجب قوله الوثوق والاطمینان نوعاً فهو، وإلاّ بأن کان المراد اعتبار الوثوق والاطمینان الشخصیّ من خبره فلا یمکن المساعدة علیه؛ لما ذکرنا فی بحث حجیّة الخبر من أنّ خبر الثقة موضوع للاعتبار عند العقلاء فی مقام الاحتجاج والاعتذار، ولا یدور اعتباره مدار الوثوق والاطمینان الشخصیّ وعدمه.

والوجه فی اعتبار أخبار الثقات عند العقلاء هو تنظیم أمر اجتماعاتهم ولا یمکن أن یستند إلی أمر نفسانیّ لا یتمکّن نوعاً من إحرازه، وعدم إحرازه فی مقام الاحتجاج والاعتذار فیما بینهم، کما ذکرنا ذلک فی بحث حجّیة الظواهر أیضاً، حیث لا معنی أن یکون اعتبار ظاهر کلام المتکلّم منوطاً بظنّ السامع والمستمع بمراد

ص : 362

(مسألة 37) إذا قلّد من لیس له أهلیّة الفتوی ثمّ التفت وجب علیه العدول، وحال الأعمال السابقة حال عمل الجاهل غیر المقلّد. وکذا إذا قلّد غیر الأعلم وجب علی الأحوط العدول إلی الأعلم، وإذا قلّد الأعلم ثمّ صار بعد ذلک غیره أعلم وجب العدول إلی الثانی علی الأحوط[1].

المتکلّم وعدم ظنّه، فیکون ظاهر کلامه معتبراً سواء حصل الظنّ منه بالمراد أم لا.

وأمّا ما ذکره قدس سره من «الوجدان فی رسالته ولابد من أن تکون مأمونة من الغلط» فقد ذکر فی بحث حجّیة الظواهر أنّه لا فرق فی اعتبار ظهور الکلام بین أن یکون مکتوباً أو شفهیاً، ولابد من إحراز کون ما فی الرسالة کتابة فتواه بأن یکون مأموناً من الغلط، کما إذا لاحظ المفتی الرسالة فوقّعها بأنّ ما ذکر فیها فتاواه فی المسائل الشرعیّة، واللّه العالم.

[1] وذلک فإنّ الاستناد فی أعماله السابقة إلی قول من لیس له أهلیّة الفتوی لا یکون استناداً فیها إلی الحجّة ولا یعتبر تعلّم قوله تعلّماً للحکم الشرعیّ فی الواقعة التی ابتلی بها، فعلی ذلک یجب تدارک الأعمال السابقة علی طبق فتوی المجتهد الفعلیّ إذا کانت فتواه بطلان تلک الأعمال ولا یحکم بإجزائها فی موارد فتواه ببطلانها؛ لأنّ ما ذکرنا سابقاً من الإجزاء فی العبادات والمعاملات بمعنی العقود والإیقاعات ما إذا کان العامیّ حال العمل مستنداً إلی فتوی المجتهد الواجد لما تقدّم من الشرائط.

وقد تقدّم أیضاً أنّه مع علم العامیّ باختلاف الفتوی فی الوقایع التی یعلم ابتلاءه بها أو یحتمل ابتلاءه علیه أن یرجع إلی الأعلم، ولو کان علمه بالاختلاف علماً إجمالیّاً فتقلیده عن غیر الأعلم فی الفرض غیر مجزئ، ویجب العدول إلی الأعلم ویتدارک أعماله السابقة إذا کان منها ما یفتی الأعلم ببطلانه.

ص : 363

(مسألة 38) إن کان الأعلم منحصراً فی شخصین ولم یمکن التعیین فإن أمکن الإحتیاط بین القولین فهو الأحوط، وإلاّ کان مخیّراً بینهما[1].

نعم لو کان رجوعه إلی غیر الأعلم فیها لفتوی الأعلم بجواز الرجوع إلی غیر الأعلم فلا تحتاج الأعمال السابقة إلی التدارک، ویحکم بإجزائها علی القول بالإجزاء بالإضافة إلی الأعمال السابقة فی العبادات والمعاملات؛ لأنّ المفروض أنّ العامیّ کان مستنداً فی تلک الأعمال إلی الحجّة، ونظیر ذلک ما إذا کان آخذاً بفتوی الأعلم فی أعماله السابقة ثمّ صار غیره أعلم منه، فیجب الرجوع إلی الأعلم الفعلیّ، ولکن یحکم فی أعماله السابقة بالإجزاء.

وما ذکر الماتن قدس سره من الاحتیاط الوجوبیّ فی تقلید الأعلم وکذا فی فرض صیرورة غیره أعلم منه لعلّه یرید صورة عدم العلم بالاختلاف، وإلاّ کما ذکرنا لا اعتبار بقول غیر الأعلم مع الأعلم فی صورة العلم ولو بالإجمال باختلافهما فی المسائل التی یبتلی بها العامیّ، وکذا مع العلم الإجمالیّ فی المسائل التی یحتمل الابتلاء بها.

ثمّ إنّ ما ذکره قدس سره إذا قلّد غیر الأعلم وجب علیه العدول إلی الأعلم علی الأحوط، وکذا ما إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غیره أعلم، ففی الاحتیاط المذکور مع احتماله التخییر بین الأعلم وغیر الأعلم تأمّل، خصوصاً فی الفرض الثانی حیث کانت فتوی الأوّل حجة فی حقّه ودار الأمر بین بقائه علی الحجّة أو صیرورة الثانی حجّة، فلابدّ فی صورة اختلافهما فی الفتوی الأخذ بالأحوط من قولیهما علی ما تقدّم.

نعم فی الفرض الأوّل یجری الاستصحاب فی ناحیة عدم کون فتوی الأوّل حجّة فی حقّه من الأوّل، فالأحوط علی مسلکه العدول إلی الثانی.

[1] لإمکان الاحتیاط صورتان: الاُولی أن یفتی کلّ منهما فی المسألة بالتکلیف ولکن اختلفا فی متعلّقه کما إذا أفتی أحدهما فی سفر بوجوب القصر، والآخر

ص : 364

بوجوب التمام، کما إذا سافر المکلّف ثمانیة فراسخ ثلاثة ذهاباً وأربعة رجوعاً أو أفتی أحدهما فی کفارة بصوم شهرین متتابعین تعییناً، والآخر بالتخییر بینه وبین إطعام ستین مسکیناً، وفی هذا الفرض یجب علی العامی الأخذ بالاحتیاط بالجمع بین القصر والتمام، وبالتکفیر بشهرین عن الصیام، وذلک إمّا لعلمه إجمالاً بوجوب إحدی الصلاتین أو علمه بقیام الحجّة علی وجوب شهرین ولا یعلم بقیام الحجّة علی إجزاء إطعام ستین مسکیناً وکونه بدلاً عن صیام شهرین متتابعین، وکما إذا أفتی أحدهما بأن من فات عنه رمی الجمرات یقضیه من الغد، وقال الآخر یقضیه فی لیلته، فإنّه یجب علیه الجمع بین الرمی فی لیلته والرمی من الغد لعلمه بقیام الحجّة علی وجوب أحدهما، ولو احتمل عدم وجوب التدارک أصلاً فإنّ هذا الاحتمال لا یزید علی احتمال الخلاف وعدم الإصابة فی سائر الطرق والأمارات المعتبرة.

وربّما یتمسّک بأصالة الاشتغال وأنّ مقتضاه الجمع بین الفتویین فی العمل والأخذ بالأحوط منهما؛ لأنّ العلم الإجمالیّ للعامیّ بثبوت التکالیف فی الوقایع التی یبتلی بها مقتضاه الاحتیاط فی جمیع الصور المتقدمة، بل علیه الاحتیاط حتی فیما إذا احتمل التکلیف إلاّ فی مورد أحرز الحجّة علی نفی التکلیف فیه، کما إذا أفتی فی واقعة کلّ من المجتهدین اللذین لا یحرز الأعلم منهما بعدم التکلیف، بخلاف ما إذا أفتی أحدهما بالتکلیف، وأفتی الآخر بعدمه حیث إنّ مع اشتباه الحجّة بلا حجّة من الفتویین لا یحرز قیام الحجّة علی نفی التکلیف.

هذا کلّه فیما إذا أمکن الاحتیاط بالعمل بالفتویین أو الأخذ بأحوط القولین، وأمّا إذا لم یمکن الاحتیاط کذلک، کما إذا أفتی أحدهما بوجوب فعل والآخر بعدم جوازه أو أفتی أحدهما بوجوب الإفطار والآخر بوجوب الصوم فیتخیّر العامیّ فی

ص : 365

(مسألة 39) إذا شکّ فی موت المجتهد أو فی تبدّل رأیه أو عروض ما یوجب عدم جواز تقلیده، یجوز له البقاء إلی أن یتبیّن الحال[1].

العمل بأحدهما لکفایة الامتثال الاحتمالیّ بعد فرض عدم تمکّنه من الموافقة القطعیّة بالعمل بالفتویین.

وربّما(1) یقال فی الفرض بتقدیم فتوی من فیه ترجیح کما إذا کان فی أحدهما المعیّن ظنّ بأنّه الأعلم، ولعلّ ذلک للنزول من الموافقة الظنیّة بعد عدم التمکّن من الموافقة القطعیّة.

وفیه أنّ العلم باعتبار أحد الفتویین لا یزید علی العلم الوجدانیّ بثبوت أحد التکلیفین، فمع کون المقام من دوران الأمر بین المحذورین لا یکون العلم بثبوت الحرمة أو الوجوب بیاناً لأحدهما المعیّن، والعلم باعتبار الفتوی بالحرمة أو الوجوب لا یزید علی العلم بأحدهما، کما أنّ الظنّ بأحدهما بعینه لا أثر له فکذلک العلم باعتبار أحد الفتویین، ولا تقاس المسألة بما إذا کان أحد المجتهدین بعینه أعلم من الآخر احتمالاً بأن علم إما أنّه أعلم أو متساویین فبناءً علی التخییر فی المتساویین یتعیّن تقلید ما هو محتمل أعلمیّته من الآخر فی موارد العلم بخلافهما ولو کان المعلوم کذلک بالعلم الإجمالی.

وعلی الجملة الظنّ إنّما یعتبر فی الحجّة فی دوران أمر الحجّة بین التعیین والتخییر کما یعتبر الظنّ بالأهمیّة فی مقام التکلیفین المتزاحمین.

[1] وذلک للاستصحاب فی حیاته وسائر أوصافه التی تکون دخیلة فی جواز البقاء علی تقلیده، وبما أنّ الشبهة موضوعیّة لا یجب الفحص من بقاء حیاته أو سائر

ص : 366


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:268.

(مسألة 40) إذا علم أنّه کان فی عباداته بلا تقلید مدّة من الزمان ولم یعلم مقداره، فإن علم بکیفیّتها وموافقتها للواقع أو لفتوی المجتهد الذی یکون مکلّفاً بالرجوع إلیه فهو، وإلاّ فیقضی المقدار الذی یعلم معه بالبراءة علی الأحوط، وإن کان لا یبعد جواز الاکتفاء بالقدر المتیقّن[1].

الأوصاف، بل یبنی علی بقائها حتی یتبیّن الحال.

نعم علی العامیّ إحراز جواز البناء علی هذا البقاء من غیر ناحیة فتوی ذلک المجتهد المشکوک بقاؤه علی الأوصاف.

[1] إذا اتّفق للعامیّ المفروض فی المسألة العلم بأنّ أعماله السابقة کانت موافقة للوظیفة الواقعیّة وفرض الإتیان بها بقصد التقرّب فلا ینبغی التأمّل فی عدم لزوم تدارکها؛ لأنّ التقلید لم یکن شرطاً فی صحّة العبادات بل طریقاً إلی إحراز امتثال التکالیف المتعلّق بها، وکذا إذا علم أنّها تکون مطابقة لفتوی المجتهد الذی تکون وظیفته فی لزوم تدارکها وعدمه الرجوع إلیه فعلاً، فإنّه مع فتوی المجتهد الفعلیّ بما ینطبق علی أعماله السابقة لا موضوع لتدارکها حتّی فیما إذا کانت بعض تلک الأعمال باطلة علی فتوی المجتهد الذی کان علی العامیّ الرجوع إلیه فی تلک الأعمال، فإنّ فتوی المفتی تعتبر طریقاً إلی التکلیف والحکم الشرعیّ فی الواقعة بنحو القضیّة الحقیقیّة من أوّل الشریعة، وإذا سقطت فتوی المجتهد عن الاعتبار لموته أو غیره أو لم یکن معتبراً فی حقّه لعدم تعلّمه منه وعدم الاستناد إلیه فی مقام العمل یکون الطریق إلی تلک القضیة الحقیقیّة فتوی المجتهد الذی علیه الرجوع فعلاً؛ ولذا ذکرنا أنّ مقتضی القاعدة تدارک الأعمال السابقة علی طبق فتوی من یعتبر فتواه فعلاً حتی فیما إذا کان متعلّماً من المجتهد السابق وکان مستنداً إلی فتواه حین العمل، وإنّما التزمنا بالإجزاء للعلم بأنّ الشارع لا یرید تدارک عباداته السابقة فیما إذا احتمل

ص : 367

صحتها واقعاً وکان حین العمل مستنداً إلی فتوی من کانت فتواه معتبرة فی حقّه، وکذلک الحال فی عقوده وإیقاعاته السابقة، وأمّا إذا لم یستند حین العمل بذلک الفتوی فالإجزاء فیها خارج عن مورد العلم به، فلابدّ من تدارکها علی فتوی المجتهد الذی تکون وظیفته الرجوع إلیه فعلاً.

نعم یفصّل فی المقام بأنّه لا یحتاج إلی التدارک فی العبادات التی یکون تدارکها بالقضاء، فإنّه یکفی فیها احتمال مطابقتها للواقع حال العمل أو صحّتها واقعاً، فلا یجب فیه القضاء بخلاف ما إذا اُحرز بطلانها بحسب فتوی المجتهد الذی یرجع إلیه فعلاً لإخلاله فیها بما یوجب قضاءها، کالإخلال ببعض الأرکان فی الصلاة أو الإخلال بسائر الأجزاء وترکها مع احتمال اعتبارها حال العمل حیث لا مجری لحدیث «لا تعاد» مع احتمال الاعتبار والإخلال حال العمل.

وعلی الجملة موارد لزوم القضاء إحراز الفوت وجداناً أو بطریق معتبر فعلاً فمع عدم إحرازه کذلک کما إذا لم یخلّ بصلاته حال عدم تقلید فی أرکانها ولا فی سائر الأجزاء وشرایطها إلاّ نسیاناً أو غفلة فیکون مقتضی حدیث «لا تعاد» الحکم بصحّتها، بخلاف ما إذا أخلّ فی الأرکان أو فی الأجزاء والشرائط التی کان یحتمل حال العمل اعتبارها ومع ذلک لم یکن یراعیها، فإنّه یجب علیه تدارک تلک الصلوات، وکذا الحال فی سائر العبادات التی یحرز فوتها بفتوی المجتهد الذی یجب الرجوع إلیه فعلاً. وأمّا إذا شکّ فی فوتها لعدم علمه بکیفیة عمله فی ذلک الحال فلا یجب قضاؤها لأنّ الشکّ فیه من الشکّ فی التکلیف فعلاً.

وقد ذکر النائینی قدس سره (1) اختصاص حدیث «لا تعاد» بالناسی حیث إنّ المکلف

ص : 368


1- 1) کتاب الصلاة للمحقّق الآملی 3:5.

حال صلاته وإخلاله فیها جهلاً کان مکلّفاً بالإتیان بالصلاة التامّة کما هو مقتضی التکلیف الواقعیّ غیر المقیّد بالعلم والجهل بالجزئیّة والشرطیّة، فالمکلّف الجاهل والمخلّ بالجزء أو الشرط جهلاً مکلّف عند إخلاله کقبل الإخلال، وبعده مکلّف بما کان مکلّفاً به، بخلاف الناسی فإنّه حین نسیانه لا یکون مکلّفاً بالصلاة التامّة لنسیانه الجزء والشرط وبعد تذکّره وزوال نسیانه یتوجه إلیه التکلیف بالإعادة أو عدمها، بخلاف الجاهل قاصراً أو مقصّراً فإنّه حین العمل یکون مکلّفاً بالصلاة التامّة علی ما تقدّم.

أقول: لا یختصّ ما ذکره قدس سره بالناسی بل یجری فی حقّ المقصّر الذی کان غافلاً عن اعتبار شیء فی الصحة حیث إنّ التکلیف بالواجد له لغفلته ساقط فی حقّه فلا یختص الأمر بالإعادة فی حقّ الناسی.

لا یقال: إذا کان غفلة المکلّف عن اعتبار شیء فی الصلاة ناشئاً عن ترک التعلّم فلا یکون المکلّف معذوراً فی ترکه فی الصلاة.

فإنّه یقال: هذا لا یمنع عن الحکم بصحة الصلاة التی أتی بها حال غفلته إذا لم یکن الإخلال فی أرکانها.

أضف إلی ذلک أنّ الغافل الذی لم یکن له سبیل إلی معرفة جمیع ما یعتبر فی الصلاة وکان معتقداً صحّة ما أتی به حال العمل فیدخل فی حدیث «لا تعاد»، فإنّه یجری فیه ما ذکره قدس سره فی الاستظهار من حدیث «لا تعاد».

أضف إلی ذلک أنّ مفاد حدیث «لا تعاد» لیس تکلیفاً نفسیّاً بل هو إرشاد إلی بقاء التکلیف الواقعیّ عند الإخلال بما ذکر فی المستثنی وعدم بقائه مع الإخلال بما یدخل فی المستثنی منه، وأنّ التعبیر بالإعادة وعدمها لفرض أنّ المکلف حین

ص : 369

العمل یأتی بما یعتقد أنّه وظیفته؛ ولذا لا یشمل الجاهل المقصّر الذی یحتمل عند الإتیان أنّ عمله ناقص وفیه خلل من حیث بعض الأجزاء والشرایط أو ارتکاب المانع مع تمکّنه من الإتیان بصلاته صحیحة ولو بالتعلّم، مع أنّ الالتزام بشمول حدیث لهذا الجاهل المقصّر یوجب حمل بعض الخطابات الواردة فی الأجزاء والشرائط والموانع للعمل علی الفرد النادر کقوله علیه السلام : «من تکلّم فی صلاته متعمّداً فعلیه إعادة الصلاة»(1) فإنّه علی تقدیر شمول «لا تعاد» للمقصّر الذی یحتمل عند التکلّم فی صلاته بطلانها یلزم حمل الخطاب المذکور علی العالم المتعمّد، وصدوره من العالم المتعمّد المرید للامتثال نادر.

والمتحصّل مما ذکرنا أنّ الجاهل إذا لم یعلم کیفیّة عمله واحتمل صحته واقعاً لا یجب علیه القضاء؛ لأنّ الموضوع لوجوبه فوت الفریضة فی وقتها، ومقتضی الاستصحاب فی عدم الفوت ولا أقل أصالة البراءة عن تکلیف القضاء عدم وجوبه.

نعم لا تجری فی حقّ العامیّ الجاهل حال العمل أصالة الصحّة فی عمله أی قاعدة الفراغ فإنّ العامی المفروض یحتمل إخلاله بالعمل جهلاً لا بطروّ الغفلة حال العمل علی ما قرّر ذلک فی بحث قاعدة الفراغ، کما أنّ الاستصحاب فی عدم الإتیان بالواجب علیه فی وقته لا یثبت فوت ذلک الواجب.

وممّا ذکر یظهر أنّه علی العامیّ تدارک معاملاته السابقة إذا احتمل الخلل فیها علی طبق فتوی المجتهد الذی یجب الرجوع إلیه فعلاً. وعلی ما ذکرنا کلّما دار أمر القضاء بین الأقلّ والأکثر یکتفی بالأقلّ؛ لأصالة عدم فوت الزائد أو لأصالة البراءة عن

ص : 370


1- 1) وسائل الشیعة 8:206، الباب 44 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الحدیث 3.

(مسألة 41) إذا علم أنّ أعماله السابقة کانت مع التقلید لکن لا یعلم أنّها

وجوب قضاء الزائد.

ولکن ربّما یقال فی الدوران بین الأقل والأکثر لزوم القضاء بمقدار یعلم الفراغ، وعن بعض بمقدار یظنّ بالفراغ، وقد ذکر فی وجه ذلک أنّ فی مورد دوران التکلیف بین الأقلّ والأکثر غیر الارتباطیین تجری البراءة عن التکلیف الزائد، کما إذا أتلف مال زید وتردّدت قیمته بین الأقلّ والأکثر، أو علم بعد شهر رمضان أنّه أفطر الصیام فی مرضه ودارت تلک الأیام بین الثمانیة وبین العشرة، أو أنّه استیقظ من نومه وتردّد أنّه نام تمام وقت صلاتین أو یوماً واحداً بتمامه، ففی مثل ذلک لا ینبغی التأمّل فی الاکتفاء بالأقلّ، وأمّا إذا تردّد التکلیف المنجّز السابق بین الأقلّ والأکثر، کما إذا علم أنّه لم یصلّ أیّاماً وتردّد فی تلک الأیام بعد ذلک بین الأقل والأکثر فإنّه یجب علیه الاحتیاط، وذلک فإنّ کلّ یوم ترک فیه الصلاة فقد تنجّز علیه قضاء صلوات ذلک الیوم، وکذا الحال فیما إذا ترکها فی الیوم الثانی تنجّز علیه قضاء صلوات ذلک الیوم أیضاً، وهکذا فإنّ هذا المکلّف إذا اقتصر بعد ذلک بمقدار الأقلّ یحتمل مخالفة بعض التکالیف المنجّزة فی حقّه من السابق، ونظیر ذلک ما إذا استدان من زید تدریجاً وبعد ذلک تردّد فی ما استدانه بین الأقلّ والأکثر، فإنّه لا تجری البراءة فی ناحیة الأکثر حیث إنّه کان مکلّفاً بأداء کلّ دین بالتکالیف المنجّزة من السابق فیحتمل عدم سقوط بعضها عن عهدته بأداء الأقلّ والعامیّ الذی ترک التقلید عمداً من هذا القبیل.

ولکن لا یخفی ما فیه، أوّلاً: لعدم اندراج المقام فی الکبری المذکورة حیث إنّ المکلّف لا یعلم بکیفیّة أعماله السابقة الصادرة فی ذلک الزمان ویحتمل انطباق تلک

ص : 371

کانت عن تقلید صحیح أم لا، بنی علی الصحّة[1].

الأعمال علی طبق فتوی المجتهد الذی یجب علیه الرجوع إلیه فعلاً.

نعم إذا علم أنّ ما أتی به سابقاً کان مخالفاً لفتوی من یجب علیه الرجوع إلیه فعلاً وتردّد بعد ذلک فی مقداره بین الأقلّ والأکثر فیمکن أن یقال: مقتضی ما تقدم هو الاحتیاط.

وثانیاً: أنّ التکلیف فی دوران الواجب الاستقلالیّ بین الأقل والأکثر هو تنجّز الأقلّ والرجوع إلی البراءة فی الأکثر من غیر فرق بین الموارد؛ لأنّ تنجّز التکلیف وإن کان بالعلم إلاّ أنّ بقاء تنجّزه إنّما هو ببقاء ذلک العلم علی ما قرّر فی بحث اعتبار العلم والاعتقاد.

إجراء أصالة الصحة فی تقلیده السابق

[1] الشکّ فی صحّة تقلیده السابق من حیث الصحّة وعدمها یکون فی فروض:

الأوّل: أن یشکّ فی أنّ من قلّده سابقاً، بأن تعلّم منه الفتوی وعمل بها هل کان واجداً للصفات التی تعتبر فی ناحیة من یرجع إلیه العامیّ لیکون العمل بفتاواه مجزیاً فیما إذا کان فتوی من یرجع إلیه فعلاً مخالفاً لفتوی ذلک المجتهد الذی کان یقلّده؟

الثانی: أن یشکّ فی الطریق الذی اعتمد علیه فی التقلید فی السابق هل کان من الطرق المعتبرة فی تشخیص المجتهد الواجد للشرائط أو کان اعتماده فی تقلیده السابق بغیر تلک الطرق؟

الثالث: أن یشکّ فی کلا الأمرین من کونه واجداً للصفات المعتبرة فی أخذ الفتوی منه وکون أخذه منه الفتاوی للاعتماد علی الطرق المعتبرة فی تشخیص من یرجع إلیه والأخذ منه أم لا.

ویکون غرضه من إحراز صحة تقلیده منه إحراز الإجزاء فی أعماله السابقة

ص : 372

التی وقعت علی طبق فتاوی ذلک المجتهد، واُخری یکون غرضه إحراز صحة البقاء علی تقلیده کما إذا مات ذلک المجتهد وکان من یرجع إلیه فعلاً فی تعلّم الفتوی شخص آخر أو عدم جواز رجوعه إلی حیّ آخر إذا کان الحیّ الآخر الفعلیّ واجداً لما یعتبر فی التقلید عنه.

فإن کان غرضه إحراز الإجزاء فی أعماله السابقة الصادرة عنه علی طبق فتاوی المجتهد السابق وقلنا بالإجزاء فی تلک الأعمال فیترتّب علیها الإجزاء فی صورتین:

الاُولی: أن یکون تقلیده سابقاً عنه للاعتماد فی تقلیده علی الطرق المعتبرة فی تشخیص من یجوز أو یجب تقلیده من زمان تقلیده.

والثانیة: إحرازه فعلاً بتلک الطرق أنّه کان فی زمان الأخذ منه والعمل واجداً لتمام شرائط التقلید وإن کان فی السابق معتمداً علی غیر تلک الطرق، وحیث إنّ إحرازه فعلاً کون ذلک المجتهد الذی أخذ فی السابق منه الفتوی کان کذلک یکفی فی إحراز الإجزاء، بل وفی جواز البقاء إذا مات علی تلک الفتاوی التی تعلّمها، وعدم جواز العدول مع عدم موته إلی الحیّ الفعلی ولو کان مساویاً معه فی الفضیلة، لا یکون فی البین موضوع لأصالة الصحة فی تقلیده السابق، کما لا یکون موضوع لأصالة الصحة فیما إذا لم یحرز أنّه کان علی الأوصاف المعتبرة وعلم أنّه کان عند تقلیده سابقاً غیر معتمد علی الطرق المعتبرة فی تشخیص الأعلم واجداً للأوصاف؛ لأنّه مع إحراز الغفلة فی تقلیده السابق أو احتمال تعمّده فیه الخلل لا مجری لأصالة الصحة علی ما تقرّر فی محلّه.

نعم یبقی ما إذا احتمل صحة تقلیده عنه سابقاً بالاعتماد علی الطرق المعتبرة فی تشخیصه وجدانه الصفات وإن کان لا یتذکر بذلک فعلاً، فإنّه تجری فی تقلیده

ص : 373

(مسألة 42) إذا قلّد مجتهداً ثمّ شکّ فی أنّه جامع للشرائط أم لا وجب علیه الفحص[1].

أصالة الصحة ویبقی علی تقلیده فی تلک المسائل التی تعلّمها إذا لم یثبت الحیّ الآخر أو الحیّ الفعلیّ أعلم منه وأفضل.

وعلی الجملة فصحة التقلید السابق تحرز إمّا بأن یعتمد العامیّ علی الطرق المعتبرة فی تشخیص من رجع إلیه فی تعلّم الفتوی زمان التقلید والعمل أو بعد ذلک، وأمّا مع عدم اعتماده علیها کذلک فمجرّد احتمال کونه واجداً لتمام الصفات لا یجدی فی صحّته إذا لم یحرز بعد ذلک أیضاً کونه واجداً لها. هذا کلّه بناءً علی الإجزاء وعدم لزوم الاحتیاط فی موارد الاختلاف.

[1] إذا کان الشکّ فی کونه جامعاً للشرائط بقاءً؛ لاحتمال زوالها بعد أن کان جامعاً لها فلا ینبغی التأمّل فی جواز البناء علی بقائه علی تلک الشرائط، فإنّ ذلک مقتضی الاستصحاب الجاری فی الموضوعات عند الشکّ فی بقائها وقد تقدّم ذلک، وأمّا إذا أحرز زوالها أو بعضها واحتمل بقاء فتواه السابق الذی تعلّم منه حال استجماعه الشرایط فقد تعرّضنا لذلک فی مسألة جواز البقاء علی تقلید المیّت، وذکرنا أنّه یمکن اعتبار فتوی من کان مستجمعاً للشرائط حتی بعد زوالها فیما إذا صدرت الفتوی أو کان تعلّمه منه قبل زوالها، کما هو الحال فی اعتبار الخبر عن المعصوم علیه السلام بالأحکام الشرعیّة أو الخبر والشهادة علی الموضوعات قبل زوال وصف العدالة والثقة عن الراوی، فإنّ زوال الوصف عن الراوی والشاهد فیما بعد لا یوجب سقوط خبره أو شهادته عن الاعتبار، بل یمکن التشبّث فی إثبات ذلک فی الفتوی أیضاً بعد زوال بعض الأوصاف عن المفتی کالحیاة ببعض الإطلاق فی الأخبار الواردة فی الإرجاع إلی بعض الفقهاء من الرواة، إلاّ أنّه قد بیّنا أنّه لا یمکن الالتزام ببقاء

ص : 374

فتوی المفتی علی الاعتبار بعد زوال بعض الأوصاف عنه مما یکون اتّباع فتواه بعد زواله مهانة فی الدین والمذهب.

وإذا اعتقد العامیّ کون مجتهد واجداً لتمام الأوصاف المعتبرة فی اعتبار فتواه کالأعلمیّة فی المسائل الخلافیّة بین العلماء وقلّده فیها ثمّ شکّ فی صحة اعتقاده السابق واحتمل خطأه نظیر الشکّ الساری فیتعیّن فی الفرض الفحص وإحراز صحة اعتقاده، ومراد الماتن قدس سره فی حکمه بوجوب الفحص هذا الفرض کما أشرنا إلی ذلک آنفاً حیث إنّ قاعدة الیقین لا دلیل علی اعتبارها.

وقد ذکرنا عند التعرّض للأخبار الواردة فی الاستصحاب(1) أنّ دعوی ظهور بعض تلک الأخبار فی قاعدة الیقین فیکون دلیلاً علی اعتبارها أیضاً، لا یمکن المساعدة علیها فإنّ قوله علیه السلام : «من کان علی یقین فشکّ فلیمض علی یقینه»(2) وإن قیل بظهوره فی القاعدة حیث إنّ دخول (الفاء) علی (شکّ) الدالّة علی حصول الشکّ بعد الیقین مع حذف متعلّقهما الظاهر فرض اتحاد متعلّقهما من جمیع الجهات لا ینطبق إلاّ علی قاعدة الیقین؛ لأنّه لا یعتبر فی الاستصحاب حصول الشکّ بعد الیقین، بل المعتبر فیه سبق المتیقن علی المشکوک وإن کان الشکّ حاصلاً قبل الیقین ولا یمکن فی الاستصحاب اتحاد متعلّقی الیقین والشکّ من جمیع الجهات، بل یکون متعلّق الیقین سابقاً وبقاؤه مشکوکاً، بخلاف قاعدة الیقین حیث یکون نفس الیقین سابقاً والشکّ لاحقاً مع اتحاد متعلّقهما من جمیع الجهات.

ص : 375


1- 1) دروس فی مسائل علم الاُصول 5: 169 و 170.
2- 2) وسائل الشیعة 1:246 _ 247، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 6.

(مسألة 43) من لیس أهلاً للفتوی یحرم علیه الإفتاء، وکذا من لیس أهلاً للقضاء یحرم علیه القضاء بین الناس، وحکمه لیس بنافذ[1].

والوجه فی عدم المساعدة علی الدعوی المذکورة أنّ صدر الخبر مع قطع النظر عن ذیله وإن کان کما ذکر إلاّ أنّ الذیل وهو: «فلیمض علی یقینه»، قرینة علی أنّ المراد منه أیضاً الاستصحاب حیث إنّ ظاهره المضی علی یقینه الموجود حال المضیّ، وهذا یکون فی الاستصحاب؛ لأنّ الیقین والشکّ فی موارد الاستصحاب یجتمعان فی زمان الحکم بالبقاء لاختلاف متعلّقهما من حیث الحدوث والبقاء.

وعلی الجملة دخول (کان) علی (یقین) بلحاظ المتیقّن حیث إنّ زمانه بالإضافة إلی زمان الشکّ ماضٍ غالباً فی موارد الاستصحاب ولا یوجب تقییداً فی سائر خطابات الاستصحاب المطلقة من هذه الجهة کقوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین أبداً بالشکّ وإنّما انقضه بیقین آخر»(1).

[1] إن کان عدم أهلیّته للإفتاء لفقده ملکة الاجتهاد وعدم معرفة الأحکام فی المسائل من مدارکها الشرعیّة فلا ینبغی التأمّل فی حرمة إفتائه؛ لأنّه یدخل فی الافتراء علی اللّه کما إذا بیّن الحکم الشرعیّ بالاستحسان والقیاس والتأویل بذهنه القاصر، ویدخل فی قوله سبحانه: «ءاللّه أذن لکم أم علی اللّه تفترون»(2) حیث إنّه سبحانه عدّ ما نسب إلیه بلا إذن وحجّة فی الافتراء علی اللّه سبحانه.

وفی صحیحة أبی عبیدة قال: قال أبو جعفر علیه السلام : «من أفتی الناس بغیر علم ولا هدی من اللّه لعنته ملائکة الرحمة وملائکة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتیاه»(3).

ص : 376


1- 1) وسائل الشیعة 1:245، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث الأول.
2- 2) سورة یونس: الآیة 59.
3- 3) وسائل الشیعة 27:20، الباب 4 من أبواب صفات القاضی الحدیث الأول.

وفی صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج قال: قال أبو عبداللّه علیه السلام : «إیّاک وخصلتین ففیهما هلک من هلک، إیّاک أن تفتی الناس برأیک أو تدین بما لا تعلم»(1) وفی معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «یعذّب اللّه اللسان بعذاب لا یعذّب به شیئاً من الجوارح، فیقول: ربّ عذّبتنی بعذاب لم تعذّب به شیئاً، فیقال له: خرجت منک کلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفک بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهک بها الفرج الحرام، وعزّتی لاُعذّبک بعذاب لا اُعذّب به شیئاً من جوارحک»(2) إلی غیر ذلک.

وأمّا إذا کان عدم أهلیّته للفتوی من سائر الجهات مع علمه بالحکم الشرعیّ الکلیّ من مدارک الأحکام علی ما هو طریق الاستنباط منها، ففی مثل ذلک مما یکون نظره وفتواه حجّة فی حقّ نفسه فلا بأس بإظهار نظره وفتواه فی نفسه، فإنّه من الفتوی بعلم ولیس من الإفتاء بالرأی والتأویل والاستحسان إلاّ أنّه قد یلتزم بحرمته؛ لکون إفتائه إغراءً للجاهل وإضلالاً له لعدم اعتبار فتواه بالإضافة إلی غیر نفسه، وهذا فیما کان السائل أو السامع عنه جاهلاً بسائر شرایط العمل بالفتوی، وکانت الفتوی بحیث تتضمّن دعوة السائل والجاهل إلی العمل بفتواه، وأمّا إذا أظهر للجاهل شرائط العمل بفتوی المفتی ولم یتضمّن افتاؤه العمل به، کما إذا قال الحکم الشرعیّ فی الواقعة بنظری هذا، فمجرّد ذلک لا حرمة فیه؛ لأنّه صدق وفتوی بعلم ولیس فیه دعوة إلی العمل به إذا کان المخاطب عالماً بشرائط اعتبار الفتوی.

وأمّا إذا لم یکن عالماً بها فعلیه أن یعلمه شرائط العمل به من غیر أن یظهر بأنّه

ص : 377


1- 1) المصدر السابق: 21، الحدیث 3.
2- 2) المصدر السابق: الحدیث 4.

واجدها وإلاّ کان کذباً.

وأمّا القضاء ممن لیس أهلاً له فقد یقال بحرمة تصدّی القضاء بین الناس، ولو کان عالماً بموازین القضاء وکان قضاؤه علی طبقها، ولکن کان فاقداً لبعض ما یعتبر فی القاضی من الصفات، ولا یقاس بالإفتاء ممّن یعلم الأحکام من مدارکها ولکن کان فاقداً لشرائط التقلید منه، والفرق فی ذلک أنّه یظهر من الروایات حرمة القضاء ممّن یکون فاقداً للوصف المعتبر فی القضاء وأنّه لا یجوز القضاء إلاّ ممّن ثبت الإذن له فیه، وفی صحیحة سلیمان بن خالد عن أبی عبداللّه علیه السلام : «اتّقوا الحکومة فإنّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء العادل بین المسلمین لنبیّ أو وصیّ نبیّ»(1) فإنّ مقتضاه أنّه لا یجوز التصدّی للقضاء بین الناس لغیر النبیّ أو وصیّ النّبیّ، فیرفع الید عن مقتضاها فیما إذا ثبت له الإذن من النبیّ أو الوصیّ ولو کان الإذن عامّاً علی ما نطقت به مقبولة عمر بن حنظلة وغیرها مما یأتی.

وعلی الجملة القضاء فی المرتبة الاُولی إنّما هو للنبیّ والوصیّ وفی المرتبة الثانیة من کان مأذوناً فی القضاء بین الناس من قبل أحدهما ولو کان بإذن عامّ، ویبقی غیر من لم یثبت فی حقّه الإذن تحت المنع المستفاد من الحصر الوارد فی الصحیحة. وبتعبیر آخر الإفتاء هو بیان الحکم الشرعیّ الکلیّ المجعول بنحو القضیة الحقیقیّة کقول المجتهد: الخمر نجس، وعصیر الزبیب بعد غلیانه أیضاً حلال، وبیع المکیل والموزون بلا کیل ولا وزن باطل . . . إلی غیر ذلک. وأمّا القضاء أی فصل الخصومة هو تعیین حکم جزئیّ فی الواقعة وإنشاؤه ثبوته فی الواقعة، کقوله فی المترافعین إلیه فی

ص : 378


1- 1) وسائل الشیعة 27:17، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 3.

قضیة دعوی الدین: إنّ فلاناً مدیون لفلان وعلیه إفراغ ذمته . . . ونحوها، وهذا لا یجوز التصدّی له إلاّ ممّن کان جامعاً للشرائط والأوصاف المعتبرة فی القاضی.

نعم بیان أنّ مقتضی موازین أن یحسب فلان مدیوناً لفلان من غیر أن ینشأ الحکم ممّن یکون عالماً بموازین القضاء ولم یکن واجداً لما یعتبر فی القاضی لا یکون من التصدّی للقضاء ولا یحسب قوله قضاءً، وهذا بخلاف التصدّی للقضاء وإنشاء الحکم فإنه لا یجوز؛ لما تقدّم، ویؤیّده ما ورد من قول علی علیه السلام مخاطباً لشریح: «یا شریح! قد جلست مجلساً لا یجلسه إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ أو شقیّ»(1).

ویدلّ علی عدم جواز الترافع إلی غیر الواجد للشرائط ما ورد فی النهی عن الترافع إلی قضاة الجور، وفی معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم: «إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا، فاجعلوه بینکم فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه»(2) فإنّ ظاهرها أنّ جواز القضاء بین الناس ومشروعیّته یکون بجعلهم ولو کان بجعل وإذن عامّ، وهذا الجعل ثابت فی حقّ من یکون من أهل الإیمان ویعرف جملة من قضایاهم علیهم السلام کما فی هذه المعتبرة: «من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً»(3) کما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فیها السؤال عمّن ترفع إلیه المرافعة عند الحاجة إلی القضاء وفصل

ص : 379


1- 1) المصدر السابق: الحدیث 2.
2- 2) المصدر السابق: 13، الباب الأول، الحدیث 5.
3- 3) وسائل الشیعة 1:34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 12.

الخصومة بعد بیان عدم جواز رفعها إلی قضاة الجور.

والحاصل أنّ التصدّی للقضاء بین الناس ممّن لا یکون واجداً للصفات المعتبرة فی القاضی والمراجعة إلیه فی المرافعات أمر محرّم، ولا یکون قضاؤه نافذاً.

نعم مجرّد بیان الحکم الجزئیّ فی الواقعة بنحو الإخبار به من العالم به علی طبق موازین القضاء من غیر أن ینشأ ذلک الحکم بقصد أن یتّبعوه فلا دلیل علی حرمته، کما إذا قال: الحکم الشرعیّ فی هذه الواقعة علی طبق موازین القضاء ینبغی أن یکون کذا.

ثم ینبغی الکلام فی المقام فی اعتبار الاجتهاد فی القاضی فی جواز قضائه ونفوذه بأن یکون عالماً بالأحکام الشرعیّة من مدارکها بطریق متعارف مألوف بین العلماء، أو کفایة العلم بها ولو من طریق التقلید الصحیح فخصوص العلم بطریق الاجتهاد غیر معتبر، فالمنسوب إلی المشهور اعتباره، وعن جماعة منهم صاحب الجواهر قدس سره (1) کفایة علم القاضی ولو بطریق التقلید الصحیح، فلا یعتبر فی جواز القضاء ونفوذه عنده إلاّ علم القاضی بما یقضی بالحجّة المعتبرة عنده ولو أفتی المفتی بأنّه فی اختلاف المالک ومن تلف المال عنده من غیر تفریط فقال المالک: إنّه کان قرضاً، وقال من تلف المال عنده: إنّه کان ودیعة، إذا لم یکن لمن یدعی الودیعة بیّنة علی أنّه کان ودیعة، یحلف المالک علی عدم الودیعة أو کونه قرضاً ویأخذ بدل التالف، ووقع الخلاف کذلک بین اثنین وترافعا عند من یعلم ولو بالتقلید یجوز له القضاء بذلک. واستدلّ علی ذلک بالآیات والروایات کقوله تعالی: «وإذا حکمتم بین

ص : 380


1- 1) جواهر الکلام 40:15 فما بعد.

الناس أن تحکموا بالعدل»(1) وقوله: «یا أیّها الذین آمنوا کونوا قوّامین للّه شهداء بالقسط ولا یجرمنّکم شنآن قوم ألاّ تعدلوا اعدلوا»(2) ومفهوم قوله سبحانه: «ومن لم یحکم بما أنزل اللّه فاُولئک هم الفاسقون»(3).

واستدلّ من الروایات بما ورد فی: أنّ القضاة أربعة وأنّ ثلاثة منهم فی النار، وواحد فی الجنة وهو رجل قضی بالحقّ وهو یعلم(4). وبما ورد فی خبر أبی خدیجة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «اجعلوا بینکم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا»(5) وفی معتبرته قال أبو عبداللّه جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : «إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم فإنّی جعلته حاکماً فتحاکموا إلیه»(6) وصحیحة الحلبی قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ربما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء فیتراضیان برجل منّا، فقال: لیس هو ذلک، إنّما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط»(7) إلی غیر ذلک.

ولکن لا یخفی أنّ الآیة الشریفة بعنوان القضیة الشرطیّة ناظرة إلی لزوم رعایة العدل فی الحکم وعدم الانحراف عنه، وأمّا أیّ شخص له ولایة الحکم والقضاء

ص : 381


1- 1) سورة النساء: الآیة 58.
2- 2) سورة المائدة: الآیة 8.
3- 3) سورة المائدة: الآیة 47.
4- 4) وسائل الشیعة 27:22، الباب 4 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 6.
5- 5) المصدر السابق :139، الباب 2، الحدیث 6.
6- 6) المصدر السابق: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.
7- 7) وسائل الشیعة 27:15، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 8.

فلا تدلّ علی تعیینه.

وأمّا الآیة الثانیة فهی ظاهرة فی حثّ الناس علی الاستمرار والمداومة علی إقامة القسط والعدل سواء کان فی القضاء والشهادة أو غیرهما، ولکن لا دلالة لها علی شرائط نفوذ القضاء أو الشهادة؛ ولذا یمکن الاستدلال بالآیة علی وجوب الشهادة علی کلّ شخص یعلم الحقّ ولکن لا تدلّ علی نفوذ شهادته.

وعلی الجملة ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار الاجتهاد فی ولایة القضاء ونفوذ الحکم، کما هو مقتضی موردها من کون الشبهة فی قضیة المنازعة المفروضة فیها حکمیّة، وکلّ من الحاکمین فقیهاً یستند فی حکمه إلی ما وصل إلیه من الحدیث، وقوله علیه السلام فیها: «ینظران إلی من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا» الخ(1). وظاهر النظر اعتبار الاجتهاد، وقد تقدّم اعتبار الروایة سنداً حیث إنّ عمر بن حنظلة من المشاهیر الذین لم یرد فیهم قدح، ویؤیّده التوقیع المنقول عن صاحب الأمر صلوات اللّه وسلامه علیه وعلی آبائه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة اللّه»(2) فإنّ المراد من «رواة حدیثنا» الفقهاء ممّن یعتمدون فی أقوالهم علی أحادیثهم علیهم السلام فی مقابل فقهاء العامّة حیث لا یعتمدون فی فتاویهم وقضائهم إلی أحادیث أهل البیت علیهم السلام ، وإلاّ فمجرّد نقل الروایة من غیر نظر واجتهاد فی الروایات والأحادیث المنقولة عنهم علیهم السلام لا یوجب انکشاف الحکم والقضاء فی الحوادث الواقعة.

ص : 382


1- 1) وسائل الشیعة 1:34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 12.
2- 2) وسائل الشیعة 27:140، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 9.

ولا یجوز الترافع إلیه، ولا الشهادة عنده[1] والمال الذی یؤخذ بحکمه حرام وإن کان الآخذ محقّاً[2].

وکیف ما کان فالتوقیع لا یعمّ من کان یعلم الحکم فی الوقایع لا عن أحادیثهم علیهم السلام وإنّما یعرف فتوی من یرجع إلیه فی الأحکام، وأمّا ما ذکر فی «الجواهر» من التمسّک بصحیحة الحلبی فلا یمکن الاستناد إلیه فی نفی اشتراط الاجتهاد، فإنّ الوارد فیها أنّ التراضی بقضاء رجل منکم خارج عن المراجعة بحکّام الجور، والمفروض أنّ الرجل لابدّ من أن یکون عالماً بمیزان القضاء فیه ولو کان منشأ المخاصمة من قبیل الشبهة الحکمیّة وحتّی ما إذا کانت القضیة المرفوعة من مجتهدین، والعلم بالقضاء فی هذه الموارد فی تلک الأزمنة لم یکن إلاّ بالطریق المعهود بین الرواة الفقهاء کما لا یخفی.

[1] إذا کان الترافع إلی القاضی الذی لیس من أهل الإیمان فالمراجعة إلیه من ترویج الباطل وإعانة الظالم علی ترویج أمره، وإن کان للقضاء منصوباً من قبل الجائر فهو من الإیمان بالجبت والطاغوت کما فی الروایات.

وممّا ذکر یظهر الحال إذا کان الفاقد للأوصاف متصدّیاً للقضاء حیث إنّ المراجعة إلیه أیضاً ترویج للباطل وترغیب لفاقد الأوصاف علی بقائه فی تصدّیه الباطل، ویظهر الحال أیضاً فی الشهادة عنده حیث یوجب ذلک کون الشاهد من أعوان الظلمة ومن المرغّبین للباطل.

[2] وقد یقال بدلالة مقبولة عمر بن حنظلة علی ذلک حیث ورد فیها: «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی طاغوت، وما یحکم له فإنّما یأخذه سحتاً وإن کان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحکم الطاغوت»(1).

ص : 383


1- 1) المصدر السابق: 13، الباب الأول، الحدیث 4.

ودعوی أنّ المراد بالحقّ الدین المأخوذ کما هو ظاهر الحقّ فلا یشمل ما إذا کان المأخوذ بحکمه عین ماله، لا یمکن المساعدة علیها؛ لأنّ الوارد فی صدر المقبولة هو اختلاف المترافعین فی دین أو میراث وتنازعهما فیها، ومن الظاهر أنّ المیراث یعمّ العین بل یکون غالباً العین.

والصحیح فی الجواب أنّ المقبولة ناظرة جواباً عمّا فرضه عمر بن حنظلة من اختلاف الشخصین فیما کانت من الشبهة الحکمیّة، ولا بأس بالالتزام فیها بأنّه لا یجوز التصرّف فی المأخوذ فیها بحکم القاضی المفروض فی الصدر حتّی فیما کان المأخوذ له واقعاً، لأنّه لم یحرز أنّه ملکه بقضاء صحیح، وإنّما استند فی کونه له بقضاء الجور، ولا أقلّ من الالتزام باستحقاقه العقاب بتصرّفه فیه؛ لأنّ التصرّف فیه مع عدم إحراز کونه له بوجه معتبر یعدّ من التجرّی، ولعلّ المراد بالسحت ذلک لا عدم کون المأخوذ لیس له واقعاً أو أنّه مما لم یتملّک لو کان هو الوارث له، ولو فرض إطلاق المقبولة حتّی فیما إذا کانت المخاصمة فی الموضوعات، وکان کلّ من المدّعی والمنکر جازمین فی الدعوی والإنکار فلابدّ من حمل المقبولة علی ما ذکر جمعاً بینها وبین موثّقة الحسن بن علی بن فضّال قال: قرأت فی کتاب أبی الأسد إلی أبی الحسن الماضی علیه السلام وقرأته بخطّه: سأله ما تفسیر قوله تعالی: «ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل وتدلوا بها إلی الحکّام»؟ فکتب بخطّه: «الحکّام القضاة ثمّ کتب تحته: هو أن یعلم الرجل أنّه ظالم فیحکم له القاضی فهو غیر معذور فی أخذه ذلک الذی قد حکم له إذا کان قد علم أنّه ظالم»(1). فإنّ مقتضی الذیل أنّه لا بأس بالمأخوذ فیما

ص : 384


1- 1) وسائل الشیعة 27:15، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 9. والآیة: 188 من سورة البقرة.

إلاّ إذا انحصر استنقاذ حقّه بالترافع عنده[1].

إذا لم یحرز أنّه ظالم وأنّه لا یأکل المال بالباطل.

[1] المذکور فی کلمات الأصحاب جواز الترافع إلی حکام الجور فیما إذا توقّف استنقاذ الحقّ أو دفع المظلمة علی ذلک، فإنّه وإن ورد تحریم الرجوع إلیهم فی جملة من الروایات بنحو الإطلاق، إلاّ أنّ الحرمة المستفادة منها کالحرمة الواردة فی الروایات فی سائر الأفعال حیث یرفع الید عن إطلاق حرمتها فی موارد جریان رفع الاضطرار وحکومة ما ورد فی نفی الضرر، مع أنّ جواز الرجوع إلیهم فی موارد التوقّف والانحصار مما لا یحتمل تحریمه، کما یظهر ذلک بملاحظة التأمّل فی الخصومات الواقعة فی زمان المعصومین بین موالیهم وسائر الناس.

وربّما یشیر إلی الجواز ما فی معتبرة أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: فی رجل کان بینه وبین أخ له مماراة فی حقّ فدعاه إلی رجل من إخوانه لیحکم بینه وبینه فأبی إلاّ أن یرافعه إلی هؤلاء، کان بمنزلة الذین قال اللّه عزّ وجلّ: «ألم تر إلی الذین یزعمون أنّهم آمنوا بما اُنزل الیک وما اُنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد اُمروا أن یکفروا به»(1) حیث إنّ ظاهره أنّ وزر الرجوع إلیهم علی الممتنع من المرافعة إلاّ إلی قضاة الجور. ثمّ إنّ فی تعیّن الدین فی المال المدفوع فیما إذا کان المتصدّی لأدائه من مال غریمه قاضی الجور، أو من عیّنه لذلک فی صورة توقّف إنقاذ الحق علی الترافع عنده إشکال، ولکن إذا علم من له الحقّ بحقّه مع قطع النظر عن قضاء الجائر کما هو ظاهر الفرض جاز له استیفاؤه تقاصّاً لحقّه ولا بأس به، وأمّا إذا باع قاضی الجور ماله للأداء فالاستیفاء مشکل جدّاً، إلاّ إذا کان الخصم منهم فیجوز أخذاً

ص : 385


1- 1) المصدر السابق: 11 _ 12، الحدیث 2. والآیة: 60 من سورة النساء.

(مسألة 44) یجب فی المفتی والقاضی العدالة وتثبت العدالة بشهادة عدلین، وبالمعاشرة المفیدة للعلم بالملکة أو الاطمئنان بها، وبالشیاع المفید للعلم[1].

(مسألة 45) إذا مضت مدّة من بلوغه وشکّ بعد ذلک فی أن أعماله کانت عن تقلید صحیح أم لا، یجوز له البناء علی الصحّة[2] فی أعماله السابقة، وفی اللاحقة یجب علیه التصحیح فعلاً.

بقاعدة الإلزام.

[1] قد تقدّم اعتبار العدالة فی المفتی، وما ذکرنا فی وجه اعتبارها فیه یجری فی القاضی أیضاً، فإنّ القاضی هو المنصوب لاستیفاء حقوق الناس بعضهم من بعض ودفع المظلمة عنهم، فلا یحتمل إیکال هذا المنصب إلی الفاسق وغیر المبالی للدین مع أنّ القضاوة فی أصلها منصب للنبیّ والوصیّ للنبیّ کما هو مدلول صحیحة سلیمان بن خالد المتقدّمة فلا یحتمل إیکاله إلی غیر المبالی فی دینه.

ثمّ إنّه قد ذکرنا أنّ عدالة الشخص کسائر الموضوعات فی أنّه یکفی فی ثبوتها خبر العدل والثقة العارف بالعدالة ولا یعتبر خصوص البیّنة، ولا یعتبر فی اعتبار خبر العدل والبیّنة أن یکون المخبر به أو المشهود نفس العدالة، بل یکفی الخبر والشهادة بحسن الظاهر الذی هو طریق شرعیّ إلی عدالة الشخص، وأیضاً لا یعتبر فی ثبوت العدالة بالشیاع خصوص العلم بالعدالة أو بحسن الظاهر بل یکفی حصول الاطمینان بالعدالة أو بحسن الظاهر.

[2] الجاری فی أعماله السابقة أصالة الصحة کما هو مفاد قاعدة الفراغ، فإن أحرز أنّ أعماله السابقة کانت علی طبق التقلید، ولکن شکّ فعلاً أنّ تقلیده السابق کان صحیحاً بحیث تکون تلک الأعمال مجزیة فی حقّه أم کان تقلیده ممّن یکون

ص : 386

التقلید منه غیر صحیح فلا تکون مجزیة فی حقّه علی تقدیر وقوع الخلل فیه، فإن کان احتمال الخلل فی تقلیده لاحتمال غفلته عند التقلید فتجری أصالة الصحة فی تقلیده ویحکم بإجزاء الأعمال السابقة، وأمّا بالإضافة إلی الأعمال اللاحقة فلابدّ من إحراز صحة تقلیده فیها، ولا یخفی أنّه بناءً علی الإجزاء فی تقلیده الصحیح یکون التقلید الصحیح شرطاً فی صحة أعماله السابقة التی وقع فیها الخلل بالإضافة إلی الخطابات الواقعیّة، سواء کانت تلک الأعمال من العبادات أو من المعاملات بمعنی العقود والإیقاعات. وأمّا بناءً علی عدم الإجزاء ولزوم تدارک الخلل الواقع فیها بمقتضی الأدلة الأولیّة الواردة فی أجزاء العبادات فتجری أصالة الصحة فی نفس أعماله السابقة فی موارد احتمال الخلل المبطل فیها، بل فیما کان تدارکها بالقضاء الذی موضوع وجوبه فوت الواقع تجری أصالة عدم الفوت، ولا أقلّ من أصالة عدم وجوب القضاء.

وکیف کان فأصالة الصحة فی تقلیده فی أعماله السابقة تفید فی الإجزاء بالإضافة إلیها، وأمّا بالإضافة إلی أعماله الآتیة فاللازم إحراز صحّة تقلیده فعلاً؛ لأنّ الأعمال المستقبلة لیست مورد قاعدة الفراغ، کما أنّ الصحة فی تقلیده السابق لا تثبت صحة تقلیده فعلاً.

نعم إذا أحرز تقلیده السابق علی الموازین الشرعیّة بلا خلل فی ذلک التقلید وشکّ فی صحّته فعلاً لاحتمال زوال بعض الأوصاف عن المجتهد فیجری الاستصحاب فی بقائها، ولا یکفی فی إحراز الصفات سابقاً أصالة الصحة الجاریة فی تقلیده السابق؛ لأنّ إثبات الأوصاف بأصالة الصحة من الأصل المثبت حیث إنّ إثبات الموضوع بالتعبّد بالحکم لیس من الترتّب الشرعیّ، بخلاف إثبات الحکم

ص : 387

(مسألة 46) یجب علی العامیّ أن یقلّد الأعلم فی مسألة وجوب تقلید الأعلم[1] أو عدم وجوبه، ولا یجوز أن یقلّد غیر الأعلم إذا أفتی بعدم وجوب

بإثبات الموضوع لذلک الحکم فتدبّر.

[1] قد تقدّم أنّ علی العامیّ أن یحرز جواز التقلید ولا یجوز أن یستند فی جواز تقلید مجتهد علی قول ذلک المجتهد بجواز التقلید، وعلیه فاللازم علی تقدیر علمه بجواز التقلید فی الجملة أن یقلّد المجتهد الذی هو القدر الیقین من جواز التقلید، فلا یجوز له الاکتفاء بتقلید غیر الأعلم فی الفرعیّات بقول غیرالأعلم بجواز التقلید من غیر الأعلم فیها؛ لأنّ تقلیده فی الفرعیّات من غیر الأعلم اعتماداً علی فتوی غیر الأعلم بجوازه یکون دوریّاً، ویتعیّن علیه تقلید المورد الیقین وهو تقلید الأعلم فیها.

نعم قد ذکروا أنّه إذا قلّد الأعلم فی مسألة جواز تقلید غیر الأعلم بأن أجاز الأعلم تقلید العامیّ فی المسائل الفرعیّة من غیر الأعلم جاز للعامیّ تقلیده اعتماداً علی قول الأعلم، ولکن أشکل الماتن قدس سره فی ذلک أیضاً؛ لأنّ العامیّ لا یحرز جواز التقلید من غیر الأعلم فی الفرعیّات بهذه الفتوی من الأعلم، بل القدر الیقین عنده من جواز التقلید من کان أعلم فی الفرعیّات.

أقول: قد جوّز الماتن قدس سره البقاء علی تقلید المیّت إذا أفتی الحیّ بجوازه مع أنّ القدر الیقین عند العامیّ _ من جواز التقلید _ الحیّ.

وعلی الجملة مسألة جواز التقلید عن غیر الأعلم فی الفرعیّات کمسألة جواز البقاء علی تقلید المیّت فإن جاز تقلید الأعلم فی الثانیة جاز فی الاُولی أیضاً، ومسألة جواز تقلید غیر الأعلم من نفس المسائل الفرعیّة فإذا أفتی أعلم الأحیاء بجوازه ففتواه قدر الیقین فی الاعتبار فی تلک المسألة، فیجوز للعامیّ أن یعتمد علی فتواه فی العمل بفتاوی غیر الأعلم.

ص : 388

تقلید الأعلم، بل لو أفتی الأعلم بعدم وجوب تقلید الأعلم یشکل جواز الاعتماد علیه، فالقدر المتیقّن للعامیّ تقلید الأعلم فی الفرعیّات.

(مسألة 47) إذا کان مجتهدان أحدهما أعلم فی أحکام العبادات والآخر أعلم فی المعاملات، فالأحوط تبعیض التقلید[1] وکذا إذا کان أحدهما أعلم فی بعض العبادات مثلاً والآخر فی البعض الآخر.

[1] قد یتّفق أن یکون أحد المجتهدین أعلم من الآخر فی بعض أبواب الفقه کالعبادات لتضلّعه فیها فی الأخبار وکونه أجود اطلاعاً علی خصوصیّاتها ووجه الجمع بین مختلفاتها فی موارد الجمع العرفیّ، بخلاف مجتهد آخر فإنّه لا یکون فی العبادات التی غالب المدرک فی مسائلها الروایات ذلک التضلّع والإحاطة، ولکنّه فی المعاملات التی یکون مدرک الحکم فی مسائلها القواعد العامّة أکثر خبرة، ویفرض ذلک حتّی فی العبادات بالإضافة إلی مجتهدین یکون لأحدهما أکثر ممارسة لمصادر الأحکام فی بعض العبادات وتضلّعه فی فروعها، بخلاف الثانی فإنه یکون کذلک فی بعض العبادات الاُخری. ولو اتّفق هذا الفرض وأحرز ذلک بوجه معتبر فاللازم علی العامی التبعیض فی تقلیده، فیقلّد من هو أعلم فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل ابتلاءه بها إذا علم ولو إجمالاً اختلاف الأعلم مع غیر الأعلم فی مسائل العبادات والمعاملات أو فی المسائل الراجعة إلی العبادات ولو کان غیر الأعلم فی بعضها أعلم فی مسائل البعض الآخر؛ وذلک لما تقدّم من أنّ دلیل اعتبار الفتوی کدلیل اعتبار سائر الحجج لا یشمل المتعارضین فیسقط التمسّک به فی صورة التعارض، غیر أنّ السیرة العقلائیّة وسیرة المتشرّعة الناشئة من السیرة الاُولی من غیر ردع مقتضاها اتّباع قول من هو أعلم بحکم الواقعة أو یحتمل أعلمیّته.

ص : 389

(مسألة 48) إذا نقل شخص فتوی المجتهد خطأً یجب علیه إعلام من تعلّم منه[1]، وکذا إذا أخطأ المجتهد فی بیان فتواه یجب علیه الإعلام.

[1] إذا نقل فتوی المجتهد خطأً یکون النقل والخطأ فیه فی الإلزامیّات بمعنی أنّ المجتهد کانت فتواه الحکم الإلزامیّ أو الوضع الموضوع للإلزام ونقل عن المجتهد بأنّ فتواه فی مسألة عدم التکلیف ثمّ ظهر أنّه أخطأ فی نقله، ففی هذه الصورة یجب علی الناقل الإعلام فیما إذا علم أو اطمأنّ بأنّ المنقول إلیه یعتمد علی نقله ویعمل علی طبقه أو أحرز کذلک أنّ ما بین المستمعین من یعمل علی طبق نقله. والوجه فی وجوب الإعلام أنّ نقل فتوی المجتهد بنحو الخطأ فی الفرض تسبیب إلی مخالفة التکلیف الواقعیّ من المستمعین وذلک غیر جائز، حیث إنّ المتفاهم العرفیّ من خطابات تحریم المحرّمات والتکالیف بالواجبات عدم الفرق فی الحرمة وعدم الجواز بین أن یکون ارتکاب الحرام أو ترک الواجب بالمباشرة أو بالتسبیب، فلو باع الدهن المتنجّس أو الطعام المتنجّس ثمّ تذکّر بعد بیعه أنّه کان نجساً فعلیه إعلام المشتری بالحال، ولا یکون اشتباهه أو نسیانه عند البیع عذراً فی ترک الإعلام بعد العلم والتذکّر.

وأمّا إذا کان الخطأ فی النقل فی غیر الإلزامیّات بأن نقل عن المجتهد الإلزام والتکلیف أو الوضع الموضوع له ثمّ التفت، بأنّ المجتهد لم یفت بذلک بل أفتی بالترخیص وعدم الإلزام بحیث لا ینجرّ عمل المستمع علی طبق نقله إلی مخالفة المستمع التکلیف الواقعیّ لا یجری فی الفرض التسبیب إلی ارتکاب الحرام أو ترک الواجب، فلا موجب لوجوب إعلامه إلاّ إذا یؤدّی عدم إعلامه بزوال اعتماد المستمعین علی غیره من الناقلین للفتوی أو وقوع بعضهم فی الضرر أو الحرج، کما نقل عن المجتهد بأنّ الدهن المتنجّس لا یجوز بیعه مطلقاً، ونحو ذلک مما یعلم بعدم

ص : 390

(مسألة 49) إذا اتّفق فی أثناء الصلاة مسألة لا یعلم حکمها یجوز له أن یبنی علی أحد الطرفین بقصد أن یسأل عن الحکم بعد الصلاة، وأنّه إذا کان ما أتی به علی خلاف الواقع یعید صلاته، فلو فعل ذلک وکان ما فعله مطابقاً للواقع لا یجب علیه الإعادة[1].

رضا الشارع فی إیقاع الناس فی الضرر أو الحرج أو سلب اعتمادهم علی المتصدّین لإبلاغ الأحکام الشرعیّة إلی الناس.

هذا کلّه فیما إذا کان الاشتباه من ناقل الفتوی، وأمّا إذا کان الخطأ فی نقل الفتوی من نفس المجتهد ففی الإلزامیات کما تقدّم فی الخطأ فی ناقل الفتوی فعلیه الإعلام بفتواه فإنّه مضافاً إلی التسبیب المتقدّم یجری فیه ما دلّ علی ضمان المفتی.

أمّا إذا کانت فتواه عدم التکلیف وأفتی بالتکلیف خطأً فإن کان المورد ممّا فیه احتمال التکلیف واقعاً فلا یجب علیه الإعلام؛ لأنّ المترتب علی خطئه رعایة المستفتی احتمال التکلیف الواقعیّ، وأمّا إذا لم یکن الأمر کذلک فیجب علیه الإعلام؛ لأنّ إرشاد الجاهل إلی تکلیفه وحکم الشریعة فی حقّه واجب کفائی کما هو مفاد آیة النفر وغیرها من الآیة والروایات.

[1] إذا أمکن للعامیّ الاحتیاط بعد اتّفاق المسألة، کما إذا شکّ فی قراءة الحمد بعد الشروع فی السورة ولم یدر أنّه یصحّ له المضیّ فی صلاته بالبناء علی قراءة الحمد أو أنّ علیه استیناف القراءة، ففی مثل ذلک یصحّ له العود إلی قراءة الحمد بقصد الأعمّ من قصد کون قراءتها جزءاً أو قرآناً، ففی هذا الفرض یتعیّن علیه هذا النحو من الاحتیاط بناءً علی عدم جواز قطع الصلاة الفریضة کما علیه دعوی الإجماع خصوصاً إذا لم یتعلّم حکم المسألة من الأوّل مع احتماله الابتلاء بها، فإنّ حرمة قطع الصلاة فی الفرض کانت منجّزة علیه بأخبار وجوب التعلّم.

ص : 391

(مسألة 50) یجب علی العامیّ فی زمان الفحص عن المجتهد أو عن الأعلم أن یحتاط فی أعماله[1].

وأمّا إذا لم یمکن له الاحتیاط، کما إذا شکّ حین قصد وضع الجبهة علی الأرض للسجود فی أنّه رکع فی تلک الرکعة أم لا فإنّه إن رجع إلی الرکوع یحتمل زیادة الرکوع وإن مضی علی الشکّ یحتمل نقص الرکوع، ففی هذا الفرض إن لم یحتمل الابتلاء بهذه المسألة أثناء الصلاة لیجب علیه تعلّم حکمها، أو تعلّم حکمها ولکن نسی الحکم عند اتّفاق الابتلاء یجوز له قطع الصلاة واستینافها؛ لعدم الدلیل علی حرمة قطع الفریضة علیه فی مثل هذا الفرض، فإنّ المتیقّن من حرمة قطعها صورة قطعها بلا عذر فإنّ الدلیل علی الحرمة هو الإجماع. وهذا بخلاف صورة ترک تعلّم المسألة من قبل مع علمه أو احتماله بالابتلاء بها أثناء الصلاة حیث إنّ فی هذه الصورة یتعیّن علیه البناء علی أحد الطرفین؛ لأنّ حرمة قطعها منجّزة علیه من قبل، وبما أنّه لا یتمکّن من إحراز الموافقة القطعیّة یراعی الموافقة الاحتمالیّة مع الفحص عن حکمها بعد الصلاة وإعادتها علی تقدیر مخالفة ما بنی علیه مع الوظیفة ویحکم بصحتها علی تقدیر کونه علی وفق الوظیفة، وکفی البناء علی أحد الطرفین مع هذا القصد فی حصول قصد التقرّب المعتبر فی العبادة عندنا، ولکن الماتن قدس سره قد تأمّل سابقاً فی حصوله فی مورد احتمال کون ما یأتی به إبطالاً للصلاة.

[1] وذلک فإنّ مقتضی العلم الإجمالیّ بثبوت التکالیف والأحکام الإلزامیّة _ فی غیر واحد مما یبتلی به _ الخروج عن عهدة تلک التکالیف بموافقتها وجداناً أو بطریق معتبر علی ما تقدّم فی مسألة تخییر العامی بین الأخذ بالتقلید أو الاحتیاط فی الوقایع المبتلی بها برعایة احتمال التکلیف فیها، وحیث إنّ التقلید فی زمان الفحص غیر حاصل تعیّن علیه الاحتیاط مادام کذلک. ویکفی فی هذا الاحتیاط مراعاة

ص : 392

(مسألة 51) المأذون والوکیل عن المجتهد فی التصرّف فی الأوقاف أو فی أموال القصّر ینعزل بموت المجتهد[1]، بخلاف المنصوب من قبله. کما إذا نصبه متولیاً للوقف اوقیّماً علی القصّر، فإنّه لا تبطل تولیته وقیمومته علی الأظهر.

الفتوی بالتکلیف من فتاوی المجتهدین الذین احتمال الأعلمیّة منحصر فیهم، بأن یأخذ بأحوط أقوالهم ولا عبرة بالتکلیف الذی أفتی به غیرهم لعلمه بعدم اعتبار تلک الفتوی علی ما تقدّم فی مسألة انحصار احتمال الأعلمیّة فی أحد المجتهدین أو أکثر.

[1] وذلک فإنّ المأذون والوکیل من المجتهد یتصرّف فی الأوقاف وأموال القصّر من قبل المجتهد، کتصرّف الوکیل من قبل موکّله فالتصرّف الواقع من المأذون والوکیل یستند إلی المجتهد، ویکون المجتهد هو المتصرّف فی مال الوقف ویبیع ویشتری للأیتام بالاستنابة، ولذا یعتبر فی الإذن والتوکیل أن یکون الآذن والموکّل مالکاً لذلک التصرّف بأن یصحّ منه ذلک التصرف بالمباشرة، والمجتهد بعد موته ینقضی إذنه وتوکیله فینعزل المأذون والوکیل فی الإذن والوکالة وهذا ظاهر، وهذا بخلاف ما إذا نصبه المجتهد متولّیاً للوقف أو قیّماً للصغار فإنّ تنصیبه متولّیاً أو قیّماً من قبیل جعل ولایة التصرّف فی الوقف وأموال القصّر، فإن کان جعل الولایة مقیّدة بما دامت حیاة المجتهد فتنتهی الولایة المجعولة بموته، کما إذا جعل واقف العین التولیة للوقف لشخص مادام حیاة الواقف تنتهی ولایته بموت الواقف؛ لأنّ الوقوف حسب ما یوقفها أهلها، بخلاف ما إذا جعل التولیة للوقف أو القیمومة علی الصغار مطلقاً فإنّ التولیة أو القیمومة تبقی بعد موته أیضاً بمقتضی ما دلّ علی نفوذ الوقف ونفوذ جعل الولیّ القیّم لصغاره بعد موته. ولکنّ الکلام فی المقام فی الدلیل علی أنّ للفقیة الولایة علی جعل المتولّی للوقف أو القیّم للأیتام نظیر ولایة الواقف والأب أو الجدّ لجعل القیّم لأولاده الصغار.

ص : 393

وبتعبیر آخر قد یقال: لیس للفقیة هذه الولایة فی الجعل کما هو مقتضی الأصل، وإنّما للفقیه التصرّف فی أموال الوقف والقصّر فیما إذا لم یکن للوقف متولٍّ من قبل الواقف وقیّم للصغار من قبل الأب والجدّ سواء کان تصرّف الفقیه بالمباشرة أو بالاستنابة، فإنّ المقدار المتیقّن من جواز التصرف الذی مقتضی القاعدة الأوّلیة عدم جوازه هو هذا المقدار، فلو جعل الفقیه متولّیاً للوقف أو قیّماً فهو فی الحقیقة استنابة فی التصرّف وتوکیل فینتهی بموت المجتهد، فیحتاج نفوذ تصرفهما إلی الاستیذان والتوکیل عن فقیه آخر.

ودعوی أنّه مع احتمال بقاء التولیة والقیمومة بعد موت المجتهد الذی جعل الشخص متولّیاً أو قیّماً یستصحب بقاء ما کان للشخص المفروض، فینفذ تصرفاته فی الوقف أو مال القصّر بلا حاجة إلی الاستیذان من حاکم آخر، لا یمکن المساعدة علیها، فإنّ الاستصحاب المذکور بزعم أنّ المورد من موارد القسم الثانی من الکلّی فیستصحب الجامع بین الولایة والاستنابة فیترتّب علیه نفوذ التصرّف وجوازه، ولکن إذا جری عدم الإمضاء بالاضافة إلی ما یقع من التصرّفات بعد موت ذلک المجتهد فلا یبقی موضوع للجواز والنفوذ.

وبتعبیر آخر ولایة التصرّف وجوازه ونفوذه قبل موت المجتهد متیقّن _ سواء کان الموجود سابقاً جعل المنصب أو الاستنابة _ وأمّا الولایة بعد موت المجتهد بمعنی جعل المنصب مدفوع بالاستصحاب فی عدم إمضائه ولا یعارض بالاستصحاب فی عدم الاستنابة؛ لعدم الأثر له فعلاً حیث إنّ جواز التصرف حال حیاة المجتهد متیقّن والاستصحاب فی عدم کون الحادث استنابة لا یثبت أنّه کانت ولایة، کما أنّ دعوی أنّ للمجتهد إعطاء المنصب والولایة للآخر بالاضافة إلی الوقف

ص : 394

وأموال القصّر مستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة سالم بن مکرم، لا یمکن المساعدة علیها، فإنّ المستفاد منها إعطاء ولایة القضاء وفصل الخصومة للفقیة مطلقاً أو بنحو قاضی التحکیم علی ما تقدّم، وشیء منهما لا یتضمّن أنّ للفقیه جعل منصب التولیة للوقف أو أموال القصّر، بل قضیة التوکیل والاستنابة التی ذکرنا مقتضی کون التصرف فی الوقف أو أموال القصّر ونحوهما دلیل الحسبة.

ودعوی أنّ مفاد الروایتین إعطاء ولایة القضاء للفقیه بنحو النصب العامّ بما لولایة القضاء من الشؤون ونصب المتولّی للوقف أو القیّم للأطفال من شؤون ولایة القضاء، یدفعها أنّ المعطی للفقیه علی ما یستفاد منهما هو منصب القضاء أی فصل الخصومة، لا إعطاء ولایة الحکم والقضاء بنحو کانت عند العامّة من الشؤون، فإنّ المنصوبین للقضاء من ولاة الجور وإن کان کما ذکر إلاّ أنّ الروایتین لا تدلاّن علی أن النصب العامّ من الإمام علیه السلام للقضاء کذلک؛ ولذا لا یمکن الاستدلال بهما علی نفوذ الحکم الابتدائیّ من الفقیه، وأمّا سائر الروایات التی یستند إلیها فی ثبوت الولایة للفقیه بنحو الشمول بحیث یکون الفقیه مفروض الطاعة کالإمام، فقد ذکرنا(1) فی بحث ولایة الفقیه أنّ دائرة ولایته فی الاُمور الحسبیّة ولا تدلّ فی تلک الروایات علی کون الفقیه مفروض الطاعة نفسیّاً کالإمام علیه السلام ، فراجع.

نعم یبقی فی البین أمر وهو دعوی أنّ مجرّد الاستیذان والتوکیل من الفقیه فی التصدّی لمثل أموال الأیتام والأوقاف لا یوجب انتظام اُمور الأوقاف وأموال القصّر وغیر ذلک مما یعدّ التصرف فیها حسبة، حیث یعطّل التصرّفات فیها ووضعها بحالها

ص : 395


1- 1) إرشاد الطالب 3:26 فما بعد.

(مسألة 52) إذا بقی علی تقلید المیّت من دون أن یقلّد الحیّ فی هذه المسألة کان کمن عمل من غیر تقلید[1].

إلی حصول الإذن والوکالة من مجتهد آخر بعد موت المجتهد الأوّل. وهذا مما یعلم أنّ التصرّفات فی هذه الموارد لا یمکن تعطیلها، فاللازم أن یکون الصادر عن المجتهد بنحو إعطاء الولایة بجعل الشیخ متولّیاً أو قیّماً.

[1] ذکر قدس سره إذا بقی علی تقلید المیّت من دون أن یقلّد الحی فی هذه المسألة کان کمن عمل بلا تقلید، وقد ذکر قدس سره فی مسألة من عمل فی السابق بلا تقلید أنّه لا تجزی أعماله السابقة إلاّ إذا کان ما عمله السابق مطابقاً لفتوی من یجب علیه الرجوع إلیه فعلاً، وإلحاق من بقی علی تقلیده السابق فی أعماله بلا رجوع إلی الحیّ الفعلیّ فی البقاء بما ذکره فی تلک المسألة أن لا یحکم بصحة أعماله أیضاً إلاّ إذا کان مطابقاً لفتاوی الحیّ الفعلیّ.

ولکن لا یخفی ما فی الإلحاق وذلک فإنّ ما تقدّم فی عمل العامیّ بلا تقلید وظیفته بعد تلک الأعمال الرجوع إلی المجتهد الذی تکون فتاویه حجّة فعلاً بالإضافة إلیه، فإن کانت تلک الأعمال مخالفة لفتاویه فعلیه تدارکها علی طبق فتاوی المجتهد الفعلیّ.

ولا ینفع انکشاف مطابقتها لفتاوی المجتهد الذی کان یتعیّن علیه أن یقلّده فی ذلک الزمان أو کان یجوز له التقلید منه حتّی فیما إذا کان أعلم من الحیّ الفعلیّ حیث لا یجوز للعامیّ فعلاً الرجوع إلی فتاویه؛ لأنّ التقلید منه یحسب من التقلید الابتدائیّ من المیّت، بخلاف هذه المسألة فإنّ العامیّ قد عمل علی فتاوی المیّت الذی تعلّم الفتاوی منه حال حیاته، غایة الأمر لا یعلم جواز العمل بها بعد موته حیث لم یرجع فی جواز البقاء علی الحیّ، وإذا رجع علیه وأوجب ذلک البقاء أو جوّزه تکون فتوی الحیّ فی البقاء طریقاً معتبراً

ص : 396

(مسألة 53) إذا قلّد من یکتفی بالمرّة مثلاً فی التسبیحات الأربع واکتفی بها، أو قلّد من یکتفی فی التیمّم بضربة واحدة ثمّ مات ذلک المجتهد فقلّد من یقول بوجوب التعدّد لا یجب[1] علیه إعادة الأعمال السابقة، وکذا لو أوقع عقداً أو إیقاعاً بتقلید مجتهد یحکم بالصحّة ثمّ مات وقلّد من یقول بالبطلان یجوز له البناء علی الصحّة، نعم فیما سیأتی یجب علیه العمل بمقتضی فتوی المجتهد الثانی. وأمّا إذا قلّد من یقول بطهارة شیء کالغسالة ثمّ مات وقلّد من یقول بنجاسته فالصلوات والأعمال السابقة محکومة بالصحّة، وإن کانت مع استعمال ذلک الشیء، وأمّا نفس ذلک الشیء إذا کان باقیاً فلا یحکم بعد ذلک بطهارته وکذا فی

إلی اعتبار فتاوی المیّت بعد موته أیضاً، فالعامیّ المفروض یحرز الإتیان بوظائفه بالأخذ بفتاوی المیّت فیها، وأمّا فتاوی الحیّ الفعلیّ لا یعتبر فی حقّ العامیّ فی غیر مسألة جواز البقاء إمّا لفتواه بوجوب البقاء المسقط لاعتبار فتاویه، أو لفتواه بجواز البقاء الموجب لعدم اعتبار فتاویه فی حقّه فی سائر المسائل ما لم یأخذ العامیّ بها، بخلاف فتاوی المیّت بعد موته فإنّ المفروض أنّه أخذ بها وعمل علیها فی زمان حیاته، فلا ترتبط هذه المسألة بمسألة العمل بلا تقلید.

موارد الإجزاء فی الأعمال السابقة الواقعة علی طبق حجّة معتبرة

[1] قد تقدّم أنّ الوجه فی التفصیل هو دعوی العلم أو الاطمینان بأنّ الشارع لا یکلّف العباد بتدارک الأعمال السابقة التی لا یحصل العلم الوجدانیّ ببطلانها واقعاً فیما إذا أتی بها حین العمل علی طبق حجّة معتبرة ثمّ أحرز بحجّة اُخری أنّها کانت مخالفة للواقع لا بانکشاف وجدانیّ بل بقیام حجّة اُخری بعد سقوط ما کان للعامل عن الاعتبار فی الحجّیة، ومورد المتیقّن من هذا الإجزاء ودعوی التسالم فی العبادات السابقة والعقود والایقاعات، وأمّا غیرها من الأعمال مما کان موضوع

ص : 397

الحلّیة والحرمة. فإذا أفتی المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغیر الحدید مثلاً فذبح حیواناً کذلک فمات المجتهد وقلّد من یقول بحرمته، فإن باعه أو أکله حکم بصحّة البیع وإباحة الأکل، وأمّا إذا کان الحیوان المذبوح موجوداً فلا یجوز بیعه ولا أکله وهکذا.

(مسألة 54) الوکیل فی عمل عن الغیر کإجراء عقد أو إیقاع أو إعطاء خمس أو زکاة أو کفّارة أو نحو ذلک یجب[1] أن یعمل بمقتضی تقلید الموکّل لا تقلید نفسه إذا کانا مختلفین، وکذلک الوصیّ فی مثل ما لو کان وصیّاً فی استیجار الصلاة عنه یجب أن یکون علی وفق فتوی مجتهد المیّت.

الحکم والتکلیف بحسب الحجّة القائمة موجوداً فیعمل فی ذلک الموضوع علی طبق الحجّة القائمة، وبما أنّ الذبح فیما کان الحیوان المذبوح غیر داخل فی العبادات والعقود والإیقاعات فاللازم فیه رعایة التقلید الثانی، نعم ما باع منه قبل ذلک یحکم بصحة ذلک البیع. وعلی الجملة الإجزاء فی الأعمال السابقة علی خلاف القاعدة بعد سقوط فتوی المجتهد السابق عن الاعتبار وکون المعتبر فی الوقایع هو فتوی المجتهد الفعلیّ وإحراز فوت الواقع بهذه الفتوی، کما إذا أفتی باعتبار ضربتین فی التیمّم أو فساد النکاح الأوّل بإفتائه باعتبار العربیّة فی عقد النکاح ونحو ذلک. نعم الالتزام بالإجزاء فی مثل الإخلال بالتعدّد فی التسبیحات الأربع علی القاعدة، لحکومة حدیث «لا تعاد» فی الخلل الحاصل فی الصلاة عن عذر فی غیر الوارد فی ناحیة المستثنی فی ذلک الحدیث، أو غیره کالوارد فی الإخلال بتکبیرة الإحرام، والمتحصّل الالتزام بالإجزاء مع کونه علی خلاف القاعدة لما تقدّم من بعض الوجوه التی عمدتها ما أشرنا إلیه.

[1] لا ینبغی التأمّل فی عمل الوکیل وأنّ اللازم علیه رعایة تقلید الموکّل حیث

ص : 398

إنّه وکیل فیما یکون عند موکّله نکاحاً أو بیعاً أو غیر ذلک ممّا علی الموکّل من إعطاء ما یجب علیه من الزکاة والخمس حیث إنّه لا یعتبر فی إعطائهما المباشرة بل یکفی التسبیب الحاصل بالإذن والتوکیل، وکذا الحال فی الوصیّ فیما لا یجب الإتیان به عن المیّت إلاّ بالوصیّة کما فی قضاء الصلاة والصوم عنه، وأمّا إذا کان الإتیان به لخروجه عن أصل الترکة بحیث لو أحرز اشتغال ذمته به وجب إخراجه عن ترکته وإن لم یوص به، کاشتغال ذمته بالخمس أو الزکاة والحج فعلی الوصیّ أن یؤدّیها علی وجه یحرز به فراغ ذمة المیّت، فیکفی إحراز الفراغ بحسب تقلید نفسه، والأحوط لزوماً ملاحظة تقلید الورثة أیضاً؛ لأنّ ترکة المیّت تنتقل إلی الورثة بعد أداء مثل هذه الدیون وإذا کان أداء الوصیّ صحیحاً علی تقلیده وغیر صحیح علی تقلید سایر الورثة فلا یمکن للورثة تقسیم الباقی من الترکة والتصرّف فیه، کما أنّ ما یجب علی بعض الورثة ولو مع عدم الوصیّة کقضاء الفائتة من الأب من صلاته وصیامه ووجوبه علی الولد الأکبر فعلیه أن یلاحظ تقلید نفسه، وإذا کان علی تقلید الأب المتوفّی صحة التیمم بضربة واحدة وکان علی تقلید الولد الأکبر لزوم ضربتین فلا یجوز له أن یقضی ما فات عن أبیه بضربة واحدة ونحو ذلک، فإنّ القضاء عن الأب تکلیف متوجّه إلی الولد الأکبر فعلیه إحراز فراغ ذمّة الأب عما علیه من الصلاة والصیام.

وعلی الجملة ما ذکر من أنّ الوصی یراعی تقلید الموصی فوجهه انصراف وصیته إلی الإتیان بما هو صحیح عنده، وإذا کان الصحیح عنده باطلاً علی تقلید الولد الأکبر فلا یجوز له الاکتفاء به حتی فیما لو استأجر الوصیّ من یقضی صلاة الأب علی طبق تقلید الموصی، ویجوز فی الفرض تقسیم باقی الترکة _ بعد إخراج ثلث

ص : 399

(مسألة 55) إذا کان البائع مقلّداً لمن یقول بصحة المعاطاة مثلاً أو العقد بالفارسی والمشتری مقلّداً لمن یقول بالبطلان، لا یصحّ البیع بالنسبة إلی البایع[1[ أیضاً؛ لأنه متقوّم بطرفین، فاللازم أن یکون صحیحاً من الطرفین. وکذا فی کلّ عقد کان مذهب أحد الطرفین بطلانه ومذهب الآخر صحته.

المیّت أو مقدار الوصیّة وإن کان أقلّ من ثلثه _ بین الورثة حتّی فیما کان ما صرف فیه ثلث المیّت أو مقدار الوصیّة باطلاً عند الورثة أو الولد الأکبر، والفرق بین ما یؤخذ علی المیّت من أصل الترکة أو من مقدار ثلثه، بأنّه لا یجوز التقسیم فیما یخرج من أصل الترکة إلاّ فی فرض صحة ما یخرج، ویجوز التقسیم فیما لا یخرج من أصلها، ولا یجب الإتیان به إلاّ بالوصیّة النافذة من الثلث وإن أحرز الورثة ما صرفه الوصیّ فیه کان باطلاً علی تقلیدهم، یظهر بالتأمّل فیما ذکرنا.

نعم لو أوصی المیّت بأنّه علی الوصیّ إفراغ ذمّة الموصی من صلاته وصیامه ونحو ذلک فلا بأس أن یلاحظ الوصیّ تقلید نفسه ولا یراعی تقلید الموصی.

إختلاف المتعاملین فی التقلید

[1] لا أظنّ أن یلتزم الماتن قدس سره أو غیره ببطلان المعاملة واقعاً فیما کانت المعاملة فاسدة بحسب تقلید أحد المتعاملین أو اجتهاده، حیث إنّ الصحة الواقعیّة للمعاملة أو فسادها لا تتبع آراء المجتهد أو تقلید المتعاقدین ولیکن مراده قدس سره أنّه إذا کان العقد باطلاً بحسب تقلید أحد المتعاقدین لا یمکن أن یرتّب الآخر آثار الصحة علیه.

لا یقال: إذا لم یمکن التفکیک بحسب الوظیفة الظاهریّة فالحکم بصحته بالإضافة إلی أحد المتعاقدین واقعاً یوجب الحکم بصحّته بالإضافة إلی الآخر فما وجه تقدیم جانب البطلان؟

فإنّه یقال: المراد هو أنّه إذا حکم ببطلان المعاملة بالإضافة إلی أحد المتعاقدین

ص : 400

فلا یجوز له أن یرتّب آثار الصحیح علیها. وإذا لم یرتّب آثار الصحیح علیها شرعاً فلا یمکن للآخر أیضاً ترتیب آثار الصحة لعدم جواز إلزام الآخر لقیام الحجّة عنده علی فسادها؛ ولذا یحکم بفساد المعاملة بالمعنی الذی ذکرنا أی بالفساد بحسب الظاهر، ولکن لا یخفی أنّه إن أمکن للمعتقد بصحة العقد وترتّب الأثر علیه من الفسخ واختاره فهو، وإلاّ فالمورد من موارد الترافع، فینفذ حکم الحاکم الثالث فی حقّهما.

لا یقال: الرجوع إلی قضاء الثالث لا یرفع المحذور، مثلاً إذا تزوّج بامرأة بالعقد الفارسیّ وکان مذهب المرأة بحسب تقلیدها بطلان عقد النکاح بالفارسیّ مع التمکّن من العقد باللغة العربیّة ومذهب الزوج صحته وکان الزوج باذلاً للمهر، فإنّه إذا رجعا إلی الثالث الذی سیأتی أنّ اختیار الثالث بید المدّعی وحکم بصحة الزواج فلا یجوز للمرأة التمکین؛ لأنّها بحسب تقلیدها أجنبیّة.

فإنّه یقال: القضاء وإن لا یوجب تغییراً فی الحکم الواقعی لمورد الترافع کما یأتی فی المسألة الآتیة، إلاّ أنّ هذا فیما إذا اُحرز الحکم الواقعیّ وجداناً، ومع إحراز أحد المتنازعین الحکم بغیر العلم الوجدانیّ بالتقلید أو الاجتهاد فمقتضی قضاء الثالث سقوط فتوی مجتهده ببطلان العقد الفارسیّ عن الاعتبار فی الواقعة المرفوعة إلی الثالث حتّی فیما إذا اعتقدت المرأة أنّ من رجعت إلیه فی الفتاوی أعلم، وهذا معنی انتقاض الفتوی بالقضاء، وهذا فیما کان کلّ من الزوج والزوجة قائلاً بصحة تقلیده، وأمّا مع تسالمهما أنّ الأعلم هو المعیّن الذی یرجع إلیه أحدهما فعلی الآخر أیضاً ولا تصل النوبة إلی الترافع.

ص : 401

(مسألة 56) فی المرافعات اختیار تعیین الحاکم بید المدّعی، إلاّ إذا کان مختار المدّعی علیه أعلم، بل مع وجود الأعلم وإمکان الترافع إلیه الأحوط الرجوع إلیه مطلقاً[1].

[1] الکلام فی المقام أنّ مع تعدّد القاضی کما إذا کان کلّ من المتعدّد فقیهاً منصوباً ولو بالنصب العامّ المستفاد من المقبولة والمعتبرة یکون اختیار القاضی بید المدّعی أو بتعیین من سبق إلیه أحد المترافعین برفع القضیة إلیه أو یرجع مع اختلاف الخصمین فی تعینه إلی القرعة، ومع اتّفاق الخصمین إذا لم یختلفا، ذکر فی المستند أنّه إذا کان هناک مجتهدان أو أکثر بحیث یجوز الرجوع إلی کلّ منهما أو منهم فمن اختاره المدّعی المرافعة عنده یکون له القضاء فی الواقعة، ویجب علی خصمه الإجابة إلی القاضی الذی عیّنه المدّعی، وعلی ذلک الإجماع؛ ولأنّ المدّعی هو المطالب بالحقّ ولا حقّ للمنکر ابتداءً. وأجاب عن ذلک فی ملحقات «العروة»(1) بأنّ للمنکر أیضاً حقّ الجواب بأن یسبق إلی الحاکم فیطالبه بتخلیصه عن دعوی المدّعی، ومقتضی القاعدة مع عدم أعلمیّة أحدهما هو القرعة إلاّ إذا ثبت الإجماع علی تقدیم مختار المدّعی، وذکر قدس سره فی المتن اختیار الحاکم بید المدّعی إلاّ إذا کان مختار المدّعی علیه أعلم، بل الأحوط الرجوع إلی الأعلم مطلقاً أی سواء کان هو مختار المدّعی أم لا، اتّفقا فی تعیّنه أم اختلفا.

أقول: لیس الملاک فی کون شیء مدّعیاً أن یکون مطالباً بحقّ بل یکفی فی کونه مدّعیاً أن تحتاج دعواه علی الآخر إلی الإثبات سواء کان غرضه بثبوت حقّ له علی الآخر أو سقوط حقّه عنه کما فی دعواه سقوط دین للآخر عنه بأدائه أو بإبراء الدائن،

ص : 402


1- 1) محلقات العروة 3:14 و 15.

وحیث إنّ ما علیه الإثبات بطریق معتبر لا یکلّف فی إثباته بطریق خاصّ یرید خصمه بل علیه الإثبات بأیّ طریق معتبر، یکون تعیین القاضی الواجد للشرائط بیدّ المدعی سواء کان ما یعیّنه بنظره أعلم من الآخرین أم کان مساویاً حیث ذکرنا فی باب القضاء أنّ اعتبار الأعلمیّة غیر معتبر فی نفوذ القضاء.

وما ذکر الماتن قدس سره فی ملحقات «العروة» من ثبوت الجواب للمنکر أیضاً لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه لا دلیل علی اعتبار الحقّ للمنکر قبل رجوع المدّعی إلی القاضی وسماع دعواه، وإن اُرید جواز الجواب أو وجوبه بالإقرار أو بالإنکار فهذا لیس من الحقّ علی المدّعی، بل هو حکم یترتّب علی رجوع المدّعی إلی القاضی وطرح دعواه عنده ومطالبة القاضی الجواب منه، وإن اُرید أنّ للمنکر حقّ استخلاص نفسه من دعوی المدّعی فلیس فی البین ما یدلّ علی ثبوت هذا الحقّ له قبل المراجعة إلی القاضی برفع الدعوی إلیه من ناحیة المدّعی ومادام لم یطالب المدّعی من القاضی تحلیف المنکر حیث لا یکون للمدّعی علیه الحلف تبرّعاً لیسقط دعوی الغیر علیه.

هذا کلّه فیما إذا کان التنازع فی الموضوع الخارجیّ، وأمّا إذا کان منشأ الاختلاف الاختلاف فی الحکم الشرعیّ الکلیّ فإن کانا متسالمین فی أنّ الأعلم أو محتمل الأعلمیّة مجتهد معیّن خارجاً فلا مورد للترافع أصلاً بل علیهما أن یعملا علی فتوی الأعلم المزبور أو محتمل الأعلمیّة، وأمّا إذا لم یکن بینهما تسالم علی ذلک وتوقّف إنهاء المخاصمة علی القضاء بینهما، کما إذا کان الاختلاف بین مقلّدین لمجتهدین یختلفان فی الفتوی، فإن کان المورد من موارد الدعوی علی الغیر والإنکار، فإن أرادا القضاء بالتحکیم فلابد من تراضیهما إلی قاض، وإن أراد أحدهما

ص : 403

(مسألة 57) حکم الحاکم الجامع للشرائط لا یجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلاّ إذا تبیّن خطأه[1].

القاضی المنصوب فالتعیین بیدّ المدعی، وحکمه نافذ علی المدّعی علیه وإن کان مخالفاً لفتوی مرجعه لما تقدّم، بخلاف ما إذا کان المورد من موارد التداعی فیعیّن فی الفرض القاضی المرفوع إلیه الواقعة بالقرعة، فإنّ المورد من الموارد المشکلة من حیث الظاهر أیضاً.

[1] تبیّنُ الخطأ من القاضی إمّا بالعلم الوجدانیّ کما إذا علم أنّه استند فی حکمه علی شهادة رجلین فاسقین اشتباهاً أو أنّه اشتبه وطالب المنکر بالبیّنة، وحیث لم یکن له بیّنة حکم للمدّعی باستحلافه أو اعتمد فیما کان منشأ الخلاف الاختلاف فی الحکم الشرعی بوجه استحسانیّ مخالف للکتاب العزیز أو الخبر الصحیح علی خلافه ونحو ذلک، فإنّه فی مثل هذه الموارد ینتقض القضاء بالقضاء الثانی أو بالفتوی حیث إنّه لم یکن علی طبق الموازین المعلومة الظاهرة فیکون کالعدم ولا یجوز للمترافعین مع العلم بالحال ترتیب الأثر علیه، فإنّ القضاء علی طبق الموازین الشرعیّة طریق فلا یجوز ترتیب الأثر علیه إذا اُحرز أنّه لیس بطریق لعدم کونه علی طبق الموازین بل هو خلاف تلک الموازین.

نعم، إذا لم یحرز اشتباهه واحتمل أنّه علی طبق الموازین عنده حتی مع التذکّر له فلا یجوز نقضه ولا ردّه حملاً لقضائه علی الصحة بعد إحراز أنّ له ولایة القضاء أخذاً بما دلّ علی نفوذ قضاء الواجد للشرائط حتّی بالإضافة إلی الحاکم الآخر إلاّ إذا أحرز خطأه البیّن کما فی المثالین وتمام الکلام موکول إلی بحث القضاء.

وبالجملة للقضاء جهتان:

إحداهما: إنهاء المخاصمة بحیث لا یکون للمتخاصمین بعد القضاء تجدید

ص : 404

(مسألة 58) إذا نقل ناقل فتوی المجتهد لغیره ثمّ تبدّل رأی المجتهد فی تلک المسألة، لا یجب علی الناقل إعلام[1] من سمع منه الفتوی الاُولی، وإن کان أحوط. بخلاف ما إذا تبیّن له خطأه فی النقل فإنه یجب علیه الإعلام.

المرافعة وسقوط حقّ الدعوی إثباتاً أو نفیاً.

والثانیة: تعیین وظیفة المترافعین فی الواقعة.

وللقضاء فی الجهة الاُولی موضوعیّة إلاّ فیما ذکر فی تبیّن الخطأ؛ وذلک لعدم الدلیل علی مشروعیّة القضاء الثانی ونفوذه، وأمّا القضاء بالإضافة إلی الوظیفة الواقعیّة یعتبر طریقاً فمن أحرز أنّه علی خلاف وظیفته الواقعیّة وإن کان القضاء علی الموازین فعلیه رعایة التکلیف الواقعیّ، کما یشهد لذلک ما فی صحیحة هشام بن الحکم: «فأیّما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1) ولو کان اختلاف بین الرجل والمرأة فی دوام الزوجیّة وانقطاعه فادّعی الزوج الدوام والزوجة الانقطاع وتمام مدّة المتعة وحکم القاضی الواجد للشرائط بالدوام بعد إحلاف الزوج بعدم الانقطاع فاللازم علی المرأة التشبث فی حلیّة تمکینها من إرضاء الرجل بعقد آخر دواماً لیتمکّن من تمکین الرجل من نفسها، واللّه سبحانه هو العالم.

[1] والوجه فی عدم وجوب الإعلام علی الناقل هو أنّ ناقل الفتوی حین نقل فتوی المجتهد لم یتصدّ إلاّ للخبر عن فتواه، وأمّا بقاء المجتهد علی فتواه أو عدوله عنه أو التردّد فیه مستقبلاً فشیء من ذلک غیر داخل فی خبره، فارتکاب المنقول إلیه ما هو محرّم بحسب فتواه الثانی أو ترکه ما هو واجب بحسبه مستند إلی نفس المنقول إلیه من اعتقاده بقاءه علی فتواه السابق أو للاستصحاب فی ناحیة بقائه

ص : 405


1- 1) وسائل الشیعة 27:232، الباب 2 من أبواب کیفیة الحکم، الحدیث الأول.

(مسألة 59) إذا تعارض الناقلان فی نقل الفتوی تساقطا[1]، وکذا البیّنتان. وإذا تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاهاً قدّم السماع، وکذا إذا تعارض ما فی الرسالة مع السماع، وفی تعارض النقل مع ما فی الرسالة قدّم ما فی الرسالة مع الأمن من الغلط.

لا بتسبیب الناقل، بخلاف ما إذا کان نقله فتوی المجتهد بعدم حرمة الفعل أو عدم وجوبه علی نحو الاشتباه والخطأ، فإنّ ارتکاب المنقول إلیه المحرّم أو ترکه الواجب یکون مستنداً إلی الناقل الذی وقع نقله اشتباهاً.

وأمّا التفرقة بأنّ التسبیب إلی ارتکاب الحرام أو ترک الواجب فی الفرض مستند إلی الناقل بخلاف مورد عدول المجتهد، فإنّ ارتکاب الحرام أو ترک الواجب مستند إلی فعل الشارع حیث اعتبر الشارع فتوی المجتهد حجّة شرعیّة، فإن کان المراد ما ذکرناه من الفرق فهو، وإلاّ فاعتبار الشارع نقل الناقل الثقة أیضاً أوجب ارتکاب المنقول إلیه ما هو حرام أو ترکه ما هو واجب.

وعلی الجملة بقاء فتوی المجتهد أو زواله مستقبلاً خارج عن مدلول خبر ناقل الفتوی، بخلاف صورة نقل الفتوی اشتباهاً، فإنّ الناقل بخطئه فی نقل الفتوی أوجب وقوع المخبر إلیه فی خلاف وظیفته، وقد تقدّم تمام الکلام فی المقام فی المسألة الثامنة والأربعین من المسائل المتقدّمة.

الاختلاف فی نقل الفتوی

[1] إذا کان مستند الناقلین السماع من المجتهد بأن یخبر کلّ منهما بأنّه سمع المجتهد أنّه یفتی بکذا، فتارة یکون تاریخ أحد السماعین بحسب نقل أحدهما متقدّماً علی زمان سماع الآخر بحسب نقلهما، فیؤخذ بالنقل الذی سماعه متأخّر عن سماع الآخر مع احتمال العدول، حیث إنّه تقدّم أنّ ناقل الفتوی لا یتکفّل نقله

ص : 406

بعدول المجتهد عن الفتوی الذی ینقله عنه مسقبلاً أو لا یعدل عنه، وأمّا إذا کان فی البین اطمینان بعدم عدوله عن فتواه کما إذا کان تاریخ سماع أحدهما عن سماع الآخر قریباً جداً بحیث یطمئنّ المنقول إلیه أنّه لم یکن فی البین عدول فیتعارضان ویتساقطان، وکذلک فیما إذا لم یذکرا تاریخ سماعهما عند نقل الفتوی عنه أو ذکر أحدهما دون الآخر، فإنّه لا یعمل بشیء منهما إلاّ إذا کان المنقول عن المجتهد بحسب أحد النقلین مطابقاً للاحتیاط حیث إنّه لو کانت فتواه الترخیص فتلک الفتوی لا تمنع عن الاحتیاط فی المسألة.

وبالجملة مع اختلاف تاریخی السماع من الناقلین واحتمال العدول یؤخذ بالنقل المتأخّر حیث لا یجری الاستصحاب فی الفتوی السابق مع النقل القائم بالفتوی المتأخّر.

ومما ذکرنا یظهر الحال فیما إذا کان النقل فی کلّ من الفتویین بنحو البیّنة حیث إنّه یؤخذ بالبیّنة المتأخّرة فیما إذا احتمل عدول المجتهد عن فتواه السابق، ومع الاطمینان بعدم عدوله تقع بینهما المعارضة فتسقطان عن الاعتبار، بل وکذا الحال فیما إذا کان الاختلاف بین النقل المعتبر والبیّنة، فإن دعوی أنّ مع البیّنة لا یعتنی بالنقل علی خلافها، لا یمکن المساعدة علیها، فإنّ هذا فی الموارد التی یعتبر فی ثبوتها خصوص البیّنة أو کان الدلیل علی اعتبار النقل فی مورد عدم قیام البیّنة، وأمّا إذا لم یکن شیء من الأمرین _ کما هو الحال فی مورد الکلام _ تقع المعارضة بینهما علی قرار ما تقدّم، فإنّ اعتبار البیّنة فی المقام بما هو خبر عدل أو ثقة، فتکون المعارضة کما فی صورة النقل عن الإمام علیه السلام بأن یخبر العدلان أنّهما سمعا عنه علیه السلام یقول کذا وقام خبر عدل عنه علیه السلام أو خبر ثقة علی خلاف خبرهما، حیث إنّ الإخبار

ص : 407

(مسألة 60) إذا عرضت مسألة لا یعلم حکمها ولم یکن الأعلم حاضراً، فإن

عن الفتوی بالاضافة إلی العامیّ کالإخبار عن قول الإمام علیه السلام بالإضافة إلی أهل الاجتهاد.

ولو کان مستند إخبارهما رسالة المجتهد، فإن کان مستند أحدهما الرسالة المطبوعة سابقاً ومستند الآخر الرسالة المطبوعة جدیداً مع أمنهما من الخطأ یؤخذ بالمطبوعة الجدیدة مع احتمال العدول کما تقدّم، وإذا کان المستند لکلّ منهما الرسالة الواحدة وکان اختلافهما ناشئاً عن کیفیة الاستظهار من تلک الرسالة فیؤخذ بالنقل الذی ناقله أکثر خبرة فی فهم الرسالة علی ما أشرنا إلیه من جریان السیرة العقلائیّة حتّی عند المتشرّعة بالأخذ بما یقوله الأکثر خبرة والأقوی فهماً فیما إذا علم الخلاف بینه وبین غیره، وهذا فیما لم یمکن الرجوع إلی نفس المجتهد ولو بتأخیر الواقعة وإلاّ فالمجتهد أقوی خبرة بما کتبه بالإضافة إلی غیره کما لا یخفی.

وإذا تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاهاً قدّم السماع؛ لأنّ ما سمعه من المجتهد شفاهاً هو فتواه، ولا عبرة بالنقل مع العلم بفتوی المجتهد.

وقد یقال(1) بتقدیم الرسالة علی السماع منه، وکذا فی صورة اختلاف ما فی الرسالة مع النقل عن المجتهد فیما کانت الرسالة مأمونة فی الفرضین، کما إذا کانت بخطّ المجتهد أو لاحظها بنفسه بعد کتابتها، بدعوی أنّ المجتهد حین الکتابة أو ملاحظتها عنایته بالمسألة وخصوصیّاتها أکثر ممّا أجاب عن حکم المسألة عند السؤال منه شفاهاً.

أقول: علی العامیّ فی مثل هذه الموارد الأخذ بالاحتیاط حتی یتحقّق الحال،

ص : 408


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:339.

أمکن تأخیر الواقعة إلی السؤال[1] یجب ذلک، وإلاّ فإن أمکن الاحتیاط تعیّن، وإن لم یمکن یجوز الرجوع إلی مجتهد آخر الأعلم فالأعلم، وإن لم یکن هناک مجتهد آخر ولا رسالته یجوز العمل بقول المشهور بین العلماء إذا کان هناک من یقدر علی

فإنّه کما یحتمل أن یکون ما سمع الناقل من المجتهد أو نفس العامیّ عند السؤال عن مجتهده رجوعاً عما فی الرسالة المأمونة من الغلط، کذلک یحتمل أن یکون المجتهد ناسیاً لما ذکره فی رسالته فأجاب عند السؤال بما اعتقد أنّه هو المذکور فی رسالته. وعلی الجملة إطلاق تقدیم السماع مشکل جدّاً.

[1] لزوم تأخیر الواقعة ینحصر بما إذا لم یتمکّن من الاحتیاط، وإلاّ جاز الأخذ بالاحتیاط ولم یؤخّر الواقعة إلی السؤال، فإنّ العمل بفتوی المجتهد لزومه طریقیّ ومع الاحتیاط وإحراز امتثال الوظیفة الواقعیّة لا یکون موضوع لإحرازه بالطریق، وإذا لم یمکن تأخیر الواقعة ولم یمکن الاحتیاط یجوز الرجوع إلی مجتهد آخر مع رعایة الأعلم فالأعلم؛ لأنّ السیرة العقلائیّة الجاریة علی الرجوع إلی الأعلم من الأحیاء فیما أحرز الاختلاف بینهم فی فتاویهم، فی صورة إمکان الرجوع إلی ذلک الأعلم، وإلاّ مقتضی سیرتهم الرجوع إلی غیره غایة الأمر مع رعایة الأعلم أو محتمل الأعلمیّة بالإضافة إلی سایر الأحیاء، بل یمکن أن یقال بجواز الرجوع إلی غیر الأعلم فی الفرض حیث لا یعلم مخالفة فتوی غیر الأعلم فیها مع الأعلم وإن علم الاختلاف بین فتاویهما ولو إجمالاً فی سائر المسائل.

وإذا لم یمکن الرجوع إلی غیر الأعلم منهم أیضاً لعدم حضورهم وعدم إمکان تأخیر الواقعة وعدم إمکان الاحتیاط فی الواقعة فقد ذکر الماتن أنّه یعمل بقول المشهور بین العلماء إذا کان فی البین من یتمکّن من تشخیص قول المشهور فی حکم الواقعة، وإن لم یمکن ذلک یرجع إلی قول أوثق الأموات إذا أمکن، فإن لم یمکن

ص : 409

تعیین قول المشهور، وإذا عمل بقول المشهور ثمّ تبیّن له بعد ذلک مخالفته لفتوی مجتهده فعلیه الإعادة أو القضاء. وإذا لم یقدر علی تعیین قول المشهور یرجع إلی أوثق الأموات، وإن لم یمکن ذلک أیضاً یعمل بظنّه، وإن لم یکن له ظنّ بأحد الطرفین یبنی علی أحدهما، وعلی التقادیر بعد الإطلاع علی فتوی المجتهد إن کان عمله مخالفاً لفتواه فعلیه الإعادة أو القضاء.

ذلک أیضاً یعمل فی الواقعة علی الظنّ، فإن لم یکن ظنّ یعمل بأحد الاحتمالین ثمّ إذا علم بعد ذلک قول المجتهد الذی یتعیّن الرجوع إلیه فإن وافقه ما عمله فهو وإلاّ یلزم تدارکه بالإعادة والقضاء، وینحصر هذا التدارک بناءً علی إجزاء التقلید فی موارد العمل بقول المشهور أو أوثق الأموات أو العمل بالظنّ والأخذ بأحد الاحتمالین وبناءً علی القول بعدم الإجزاء یجری التدارک مع إمکانه فی جمیع الصور.

ویستدلّ(1) علی ما ذکره قدس سره بتمامیّة مقدّمات الانسداد فی حقّ العامی المفروض ووصول النوبة إلی الامتثال غیر العلمیّ، وحیث إنّ مقتضاها التنزّل إلی الامتثال الظنّی مع مراعاة مراتب الظنّ حیث إنّ أقواها قول المشهور، ومع عدم التمکّن منه علیه موافقة أعلم الأموات، ومع عدم تمکّنه منه أیضاً علیه بمطلق الامتثال الظنّی، ومع عدم الظنّی أیضاً علیه الامتثال الاحتمالیّ، وبما أنّ هذا بحکم العقل فی مقام الامتثال بعد تمامیّة مقدّمات الانسداد یجب علیه مع التمکّن من قول الأعلم بعد ذلک فإن وافق عمله السابق قوله فهو وإلاّ لزم تدارکه.

أقول: لم یظهر ما فی قول الماتن قدس سره من الرجوع: «إلی أوثق الأموات» ما المراد منه؟ فإن کان المراد منه أعلم الأموات فکیف یتنزّل مع عدم التمکّن منه إلی ظنّ

ص : 410


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:341.

(مسألة 61) إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات فقلّد غیره ثمّ مات فقلّد من یقول بوجوب البقاء علی تقلید المیّت أو جوازه، فهل یبقی علی تقلید المجتهد الأوّل، أو الثانی؟ الأظهر الثانی[1] والأحوط مراعاة الاحتیاط.

العامیّ بالوظیفة الواقعیّة مع أنّه لا قیمة لظنّه فی الحکم الواقعیّ الکلّی الذی لا یخرج عن التخمین، وکیف یقدّم ظنّه علی قول المجتهد الذی لم یعلم کونه أعلم الأموات أو علم بعدم کونه أعلمهم؟ وکیف تجری مقدّمات الانسداد فی الحکم الواقعیّ الکلّی ولو فی مسألة أو مسألتین؟ وکیف لا یجوز له الاکتفاء بالامتثال الاحتمالیّ فیهما مع عدم إمکان التأخیر وعدم إمکان الاحتیاط فیها ولو کان له ظنّ بخلافه حیث إنّ المفروض أنّ الشارع لا یطالبه بالموافقة القطعیّة، ولم یقم دلیل علی أزید من الموافقة الاحتمالیّة کما هو مقتضی عدم اعتبار فتوی المیّت وعدم اعتبار ظنّ العامیّ.

وإنّما لا یجوز الاکتفاء بالامتثال الاحتمالیّ بالإضافة إلی معظم الفقه فی حقّ المجتهد الانسدادیّ للعلم بأنّ الشارع لا یرضی بالاکتفاء بمجرد احتمال الموافقة فی معظم الوقایع لاستلزام ذلک بقاء التکالیف الواقعیّة بلا امتثال فی جملة تلک الوقایع، ولا یجری ذلک فی مفروض الکلام فی المقام من جهل العامیّ بالحکم والتکلیف الواقعیّ فی مسألة أو مسائل لعدم تمکّنه فیها من الرجوع إلی فتوی المعتبر فی حقّه وعدم تمکّنه من الاحتیاط فیها.

[1] ذکر قدس سره فیما إذا قلّد مجتهداً ومات ذلک المجتهد فقلّد مجتهداً آخر فی الوقایع التی یبتلی بها ثمّ مات هذا المجتهد فقلّد مجتهداً یفتی بجواز البقاء علی تقلید المیّت أو بوجوبه، فهل علی تقدیر البقاء یبقی علی تقلید المجتهد الأوّل أو یبقی علی تقلید الثانی؟ فاختار قدس سره البقاء علی التقلید الثانی واحتاط استحباباً فی

ص : 411

(مسألة 62) یکفی فی تحقّق التقلید أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فیها[1 [وإن لم یعلم ما فیها ولم یعمل، فلو مات مجتهده یجوز له البقاء وإن کان الأحوط مع عدم العلم، بل مع عدم العمل ولو کان بعد العلم عدم البقاء والعدول إلی الحیّ، بل الأحوط استحباباً _ علی وجه _ عدم البقاء مطلقاً، ولو کان بعد العلم والعمل.

مراعاة الاحتیاط بالأخذ بأحوط القولین فی المسائل أو الجمع بین فتواهما.

ولکن لا یخفی ما فیه، فإنّ المجتهد الحیّ إذا أفتی بجواز البقاء مطلقاً أو فیما إذا کان المیّت أعلم، فهذا التخییر بین البقاء والعدول أوجب سقوط فتاوی المجتهد الأول عن الاعتبار، وصارت فتاوی المجتهد الثانی حجّة تعیینیّة فی حقّه زمان حیاته، وإذا أفتی المجتهد الحیّ بعد موت الثانی بجواز البقاء معناه أنّ ما کان حجّة للعامیّ زمان حیاة مجتهده فهو حجّة بعد موته أیضاً، والمفروض أنّه بعدوله عن المجتهد الأوّل کانت الحجّة فی حقّه فتاوی الثانی ما لم یعدل عن فتاواه.

وعلی الجملة التخییر فی البقاء والعدول معناه تعیّن الفتوی فی الحجّیة بالأخذ والاستناد إلیه فیکون التخییر بدویّاً، ومع صیرورة الفتاوی من المجتهد الثانی حجّة علی العامیّ بعدوله عن فتاوی الأوّل یتخیّر بین البقاء علی فتاوی المجتهد الثانی وبین الرجوع إلی الحیّ. نعم إذا أفتی المجتهد الحیّ بوجوب البقاء مطلقاً أو ما إذا کان المیّت أعلم فاللازم البقاء علی فتاوی الأوّل مطلقاً أو ما إذا کان أعلم؛ لأنّ تقلیده من المجتهد الثانی لم یکن صحیحاً علی فتوی المجتهد الحیّ الفعلیّ وإن التزم الحیّ بمعذوریّة العامّی فی أعماله فی تلک الفترة بل وإن التزم بالإجزاء أیضاً.

التقلید

[1] قد تقدّم فی مسألة وجوب التقلید علی العامیّ من أنّ التقلید تعلّم العامیّ

ص : 412

حکم الواقعة للعمل به، وإحراز التکلیف وجوداً وعدماً فی الواقعة التی یبتلی بها، حیث إنّ وجوب طلب العلم وتعلّم التکالیف فی الوقایع التی یحتمل المکلّف الابتلاء بها طریقیّ یوجب عدم کون مخالفة التکالیف فیها علی تقدیر ثبوتها عذراً، کما هو مفاد الروایات الواردة فی وجوب طلب العلم وتعلّم الأحکام، وهذا التعلّم لا یکون بمجرد أخذ رسالة مجتهد والالتزام بالعمل فیها. وأمّا التقلید بمعنی تحصیل الأمن علی العامیّ فی مقام الامتثال فیکون بالاستناد فی عمله فی الواقعة إلی إحرازه الوجدانیّ کما فی الاحتیاط أو بطریق معتبر وهو فتوی المفتی الواجد للشرائط، وهذا المعنی من التقلید لازم بحکم العقل بعد قیام الدلیل علی اعتبار فتوی المفتی.

وما ذکره قدس سره من أخذ رسالة المجتهد والالتزام بالعمل بما فیها فلم یدلّ شیء علی وجوبه لا تعییناً ولا تخییراً لا شرعاً ولا عقلاً، ودعوی أنّ مجرّد أخذ رسالة مجتهد حال حیاته مع الالتزام بالعمل فیه یکفی فی جواز العمل بما فی تلک الرسالة ولو مات ذلک المجتهد بعد أخذها مع الالتزام المذکور وإن لم یعلم بما فیها حال حیاته ولم یعمل؛ لأنّ الدلیل علی عدم جواز تقلید المیّت ابتداءً هو الإجماع، والإجماع مفقود فی الفرض لالتزام جماعة بل المشهور بأنّ التقلید هو الالتزام، لا یمکن المساعدة علیها؛ لما ذکرنا سابقاً من أنّ الأدلّة التی اُقیمت علی مشروعیّة التقلید عمدتها الروایات الواردة فی إرجاعهم علیهم السلام إلی من یعرف معالم الدین وأحکامه، وتلک الروایات لا تعمّ إلاّ التعلّم من الحیّ، ومقتضی إطلاقها العمل بما تعلم، ولو کان العمل بعد موت من تعلّم منه، فعدم جواز تقلید المیّت أی التعلّم بعد موته لخروجه عن مدلول تلک الروایات المستفاد منها إمضاء السیرة العقلائیة فی الرجوع إلی أهل الخبرة بالإضافة إلی تعلّم العامیّ الوظایف الشرعیّة لاحتمال انحصار

ص : 413

(مسألة 63) فی احتیاطات الأعلم إذا لم یکن له فتوی یتخیّر المقلّد بین العمل بها وبین الرجوع إلی غیره الأعلم فالأعلم[1].

إمضائها فی مقدار مدلول تلک الروایات.

نعم التقلید من الأعلم أی اعتبار التعلّم منه فی موارد العلم ولو إجمالاً باختلاف الفقهاء الأحیاء وإن کان خارجاً عن مدلولها؛ لعدم شمولها لصورة الاختلاف والمعارضة إلاّ أنه لا یحتمل الفرق بین التقلید المعتبر فی جواز البقاء وعدمه فی الصورتین.

ثمّ إنّه إذا علم الاختلاف بین المیّت الذی أخذ الحکم منه حال حیاته وبین المجتهد الحیّ الفعلیّ فقد ذکرنا أنّه یتعیّن علی العامیّ فی الفرض البقاء علی تقلید المیّت مع فرض کونه أعلم من الحیّ الفعلیّ، ولا یجوز له الرجوع إلی الحیّ الفعلیّ إلاّ فی مسألة جواز البقاء حیث علی المجتهد الحیّ الفعلیّ أن یفتی بوجوب البقاء علی هذا التقدیر، وفی فرض کون الحیّ الفعلی أعلم منه أن یفتی بلزوم العدول علی ما تقدّم الکلام فی ذلک فی مسألة جواز البقاء وعدمه فراجع.

[1] مراده قدس سره أنّ احتیاطات الأعلم التی یذکرها فی رسالته أو فی الجواب عن الاستفتاءات إن کان له فتوی فیها کما إذا ذکر الاحتیاط بعد فتواه فی المسألة أو قبل فتواه یکون الاحتیاط فیها استحبابیاً فیأخذ العامیّ بفتواه أو بالاحتیاط المذکور، وأمّا لولم یکن فیها فتواه ویسمّی بالاحتیاط المطلق أو الاحتیاط الوجوبی، ففی هذه الموارد یجوز للعامیّ الأخذ فیها بالاحتیاط الذی ذکره أو الرجوع إلی فتوی غیره مع رعایة الأعلم فالأعلم. والوجه فی ذلک أنّ الاحتیاط المذکور حکم لعمل العامیّ فی المسألة التی یحتمل فیها التکلیف الواقعیّ، وحیث إنّ المسألة قبل الفحص بالإضافة إلی العامیّ فیکون التکلیف الواقعیّ علی تقدیره منجّزاً بالإضافة إلیه فیکون

ص : 414

الاحتیاط لرعایة تنجّز التکلیف علی تقدیره، وحیث إنّ الأعلم لم یفت فی المسألة فتکون فتوی غیره معتبرة فی المسألة بالإضافة إلی العامیّ؛ لأنّ الموجب لسقوط فتواه عن الاعتبار فتوی الأعلم، والمفروض أنّ الأعلم لم یفت فی المسألة.

والحاصل یجوز لمقلّد الأعلم فی الاحتیاطات الوجوبیّة الرجوع إلی فتوی غیره، ورعایة الأعلم فالأعلم فی الرجوع إلی غیره ینحصر علی موارد العلم بالمخالفة فی فتاوی الباقین ولو کان العلم إجمالیّاً.

وربّما(1) یقال إنّ جواز الرجوع فی احتیاطات الأعلم إلی غیره ممّن یفتی بعدم التکلیف یجوز فیما لم یتضمّن احتیاطه تخطئة غیره، کما إذا لم یفحص الأعلم عن مدارک الحکم فی المسألة بالفحص المعتبر فاحتاط فیها، وأمّا إذا تضمّن تخطئة غیره کما ذکر فی المسألة أنّ رعایة الوجوب أو رعایة الحرمة لولم یکن أقوی فلا أقلّ من کونه أحوط، فإنّه فی هذه الصورة لا یجوز لمقلّد الأعلم أن یستریح فی المسألة بالرجوع إلی فتوی غیره بفتواه بعدم الوجوب أو بعدم الحرمة لسقوط فتوی غیره عن الاعتبار لإحراز خطئه بقول الأعلم، اللّهم إلاّ أن یقال ذکر الأعلم الاحتیاط فی هذه الصورة کالصورة السابقة حکم إرشادیّ عقلیّ منوط باحتمال الضرر أی العقاب المحتمل، وإذا أحرز العامیّ عدم احتمال الضرر بفتوی غیر الأعلم بعدم التکلیف وعدم معارضته بقول الأعلم وفتواه _ کما هو الفرض _ فلا بأس بترکه الاحتیاط، ودعوی عدم شمول السیرة علی الأخذ بقول غیر الأعلم فی صورة تخطئة الأعلم غیره فی الإفتاء بعدم التکلیف لا یمکن المساعدة علیها، وإن کان الأحوط عدم ترک

ص : 415


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:346.

(مسألة 64) الاحتیاط المذکور فی الرسالة إمّا استحبابیّ وهو ما إذا کان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوی، وإمّا وجوبیّ وهو ما لم یکن معه فتوی ویسمّی بالاحتیاط المطلق، وفیه یتخیّر المقلّد بین العمل به والرجوع إلی مجتهد آخر، وأمّا القسم الأوّل فلا یجب العمل به ولا یجوز الرجوع إلی الغیر، بل یتخیّر بین العمل بمقتضی الفتوی وبین العمل به[1].

(مسألة 65) فی صورة تساوی المجتهدین یتخیّر بین تقلید أیّهما شاء، کما یجوز له التبعیض[2] حتّی فی أحکام العمل الواحد، حتی أنّه لو کان مثلاً فتوی

الاحتیاط فی الفرض مهما أمکن.

[1] قد ظهر ما ذکره قدس سره فی هذه المسألة ممّا ذکرناه فی المسألة السابقة فلا حاجة إلی الإعادة.

[2] بناءً علی ثبوت التخییر بین تقلید أیّ من المجتهدین فی فرض تساویهما یجوز التبعیض حتّی بالإضافة إلی عمل واحد علی ما تقدّم.

ولکن قد یقال(1) التبعیض فی التقلید بحسب قیود العمل الواحد وأجزائه غیر جائز کما فی المثال، حیث إنّه لو صلّی بترک الجلسة مع الاکتفاء بمرّة واحدة فی التسبیحات الأربع کانت صلاته باطلة بحسب فتوی أیّ من المجتهدین، حیث من یفتی بجواز ترک الجلسة وصحة الصلاة مع ترکها یقول ذلک فیما إذا أتی فی تلک الصلاة بالتسبیحات الأربع ثلاث مرّات، ومن یفتی بجواز الاکتفاء بالمرّة الواحدة وصحة الصلاة یقول ذلک فی صلاة روعی فیها الجلسة.

وفیه ما تقدّم من الجواب وأنّ القائل منهما بعدم وجوب الجلسة والتسبیحات

ص : 416


1- 1) التنقیح فی شرح العروة 1:312 و313.

أحدهما وجوب جلسة الإستراحة واستحباب التثلیث فی التسبیحات الأربع، وفتوی الآخر بالعکس، یجوز أن یقلّد الأول فی استحباب التثلیت والثانی فی استحباب الجلسة.

ثلاث مرّات یقول ذلک فیما إذا لم یکن للمکلّف عذر فی ترک الثلاث؛ ولذا لو سئل المجتهد المفروض عمّن ترک التسبیحات ثلاثاً لعذر وترک الجلسة أیضاً فی صلاته یفتی بصحة تلک الصلاة أخذاً بحدیث «لا تعاد» وکذلک الأمر فی ناحیة من یکتفی بالمرّة ولکن یلتزم بوجوب الجلسة.

وبتعبیر آخر من یفتی بعدم وجوب الجلسة لا یقیّد عدم وجوبها بصورة الإتیان بالتسبیحات ثلاثاً بحیث لولم یأت بها ثلاثاً فالجلسة واجبة بل فتواه عدم وجوب الجلسة مطلقاً، کما أنّ فتوی من یقول بعدم وجوب التثلیث لم یعلّق عدم وجوبه علی صورة الإتیان بالجلسة، ولا یلزم علی العامیّ علی الفرض إلاّ تعلّم الأجزاء والشرائط والموانع للصلاة بالتقلید، ولیست الصحة أمراً زائداً علی الإتیان بالصلاة بالأجزاء والشرائط التی علی طبق الفتوی المعتبر فی حقّه.

وقد یقال إذا کان الاختلاف بینهما فی الجزء الرکنیّ أو القید الرکنیّ بحیث لو أتی بالعمل الواحد علی تقلیدهما علی نحو التبعیض لکان ذلک العمل باطلاً عندهما فلا مورد للتبعیض، کما إذا کانت فتوی أحد المجتهدین صحة الحج إذا أدرک الحاج الوقوف الاضطراریّ بالمشعر یوم العید، وکان أیضاً فتواه أنّ المستحاضة الکثیرة علیها الغسل والوضوء لطوافه، والمجتهد الآخر یری عدم إجزاء ذلک الوقوف بمجرّده بل لابدّ من درک الوقوف الاضطراریّ بعرفة أیضاً لیلة العید، ولکن التزم باکتفاء الوضوء لطواف المستحاضة حتی فیما إذا کانت الاستحاضة کثیرة، فالمرأة المستحاضة کذلک إذا أدرکت الوقوف بالمشعر یوم العید قبل الزوال

ص : 417

(مسألة 66) لا یخفی أنّ تشخیص موارد الإحتیاط عسر علی العامیّ؛ إذ لابد فیه من الاطّلاع التامّ[1]، ومع ذلک قد یتعارض الإحتیاطان فلابدّ من الترجیح، وقد لا یلتفت إلی إشکال المسألة حتی یحتاط، وقد یکون الاحتیاط فی ترک الاحتیاط، مثلاً: الأحوط ترک الوضوء بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر لکن إذا فرض انحصار الماء فیه الأحوط التوضؤ به، بل یجب ذلک بناءً علی کون احتیاط الترک

وتوضّأت لطوافها فقط أخذاً فی الوقوف بفتوی المجتهد الأوّل، وفی اعتبار الطهارة لطوافها بفتوی الآخر، فإنّ الحج کذلک یبطل عند کلا المجتهدین، اللهم إلاّ أن یلتزم بالإجزاء حتّی فی هذه الصورة لاحتمال الصحة الواقعیّة حیث یمکن أن یکون حجّها واقعاً صحیحاً، وقد أتت ببعضه بفتوی المجتهد الأوّل والبعض الآخر بفتوی المجتهد الثانی، ولکن فی دعوی الإجماع علی التخییر بین المجتهدین المتساویین علی تقدیر ثبوتها بالإضافة إلی العمل الواحد إشکال خصوصاً إذا کان الاختلاف فی القیود الرکنیّة.

[1] لا یخفی أنّه یکفی فی الاحتیاط المبرئ للذمّة الاحتیاط فی فتاوی العلماء الذین یحتمل وجود الأعلم بینهم فی عصره أو أحرز ذلک، وأمّا فتاوی الآخرین الذین اُحرز أنّهم لا یبلغون فی الفضل العلماء المذکورین فلا موجب للاحتیاط برعایة فتاویهم، وهذا النحو من الاحتیاط داخل فی المسألة المتقدّمة فی أوائل مسائل التقلید من لزوم کون المکلّف فی عباداته ومعاملاته أن یکون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً حیث إنّ رعایة أحوط الأقوال من المجتهدین المذکورین لا یدخل فی التقلید علی ما تقدّم من أنّ التقلید المعتبر شرعاً هو الأخذ بالفتوی للعمل بها بحیث یکون العامیّ بعد الأخذ عالماً بالحکم الشرعیّ فی الواقعة.

والآخذ بالاحتیاط بحسب فتاویهم یراعی فتوی ذلک المجتهد، لاحتمال أنّ ما

ص : 418

استحبابیّاً، والأحوط الجمع بین التوضّؤ به والتیمّم. وأیضاً الأحوط التثلیث فی التسبیحات الأربع، لکن إذا کان فی ضیق الوقت، ویلزم من التثلیث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فالأحوط ترک هذا الاحتیاط، أو یلزم ترکه، وکذا التیمّم بالجصّ خلاف الاحتیاط، لکن إذا لم یکن معه إلاّ هذا فالأحوط التیمّم به، وإن کان عنده الطین مثلاً فالأحوط الجمع وهکذا.

(مسألة 67) محلّ التقلید ومورده هو الأحکام الفرعیّة العملیّة فلا یجری فی اُصول الدّین] 1].

أفتی به من التکلیف ثابت فی الواقع لیکون قصده رجاءً بإصابة الواقع المعبّر عن ذلک بالاحتیاط.

وعلی الجملة لا یتعیّن علی العامیّ التارک للتقلید رعایة الاحتیاط فی الوقایع علی ما ذکره الماتن قدس سره .

ثمّ إنّ الاحتیاط حتی بهذا النحو أیضاً قد لا یتیسّر علی العامیّ فلابدّ فی بعض الموارد من التقلید مثلاً إذا کان عند المکلّف الجصّ والطین فقط فإن جمع بین التیمّم بکلّ منهما تقع بعض صلاته خارج الوقت، وفی مثل ذلک لا مناص إلاّ من التقلید ممّن توفّرت فیه الشروط المعتبرة فی جواز التقلید، وإذا لم یتیسّر له التقلید منه فلابدّ من التیمّم بأحدهما وقضاء تلک الصلاة فی خارج الوقت بالطهارة المائیّة إذا لم یحرز بعد العمل أنّ عمله کان مطابقاً لفتوی من یکون واجداً لشرائط التقلید. والوجه فی وجوب القضاء جریان الأصل بعد التیمّم بأحدهما فی ناحیة عدم کونه طهوراً فتدبّر.

[1] قد تقدّم أن ما یستفاد منه مشروعیّة التقلید من الروایات مقتضاها تعلّم العامیّ معالم دینه ممّن یعلمها علی ما تقدّم من الاُمور المعتبرة فی العالم بها من حلال الشریعة وحرامها فی الوقایع التی یبتلی بها أو یحتمل ابتلاءه بها، وکذا ما یکون

ص : 419

من الأحکام الفرعیّة العملیّة أو ملحقاً بها ممّا یأتی بیانها، وأمّا ما یکون من اُصول الدین والمذهب مما یکون المطلوب فیها تحصیل العلم والمعرفة والاعتقاد والإیمان بها فلا یکون التقلید فیها مشروعاً، بمعنی أن قول الغیر فیها لا یحسب علماً وعرفاً واعتقاداً وإیماناً.

نعم إذا کانت أقوال الصالحین من العلماء العاملین المتّقین فی طول الأعصار وکذا الشهداء والزهاد موجباً للإنسان الیقین والاعتقاد باُصول الدین والمذهب بحیث صار الإنسان علی معرفة ویقین واعتقاد بأنّه لولم یکن ما ذکروه فی اُصول الدین والمذهب حقّاً لما کان هؤلاء فی دار الدنیا متعبین فی طریق الدین والمذهب فأیقن أو اعتقد بها، کفی ذلک ممّا یجب علی المکلّف بالإضافة إلی اُصول دینه ومذهبه، ولیس هذا من التقلید فیهما، فإنّ التقلید کما تقدّم الأخذ بقول الغیر تعبّداً أی من غیر یقین ودلیل عنده علی صحّة ذلک القول وکونه حقّاً مطابقاً للواقع، وإنّما یکون الأخذ بقوله للدلیل عنده علی اعتباره فی حقّه وإن لم یکن حقّاً واقعاً.

وبتعبیر آخر الدلیل عند العامیّ إنّما علی الأخذ بقوله لا علی نفس قول الغیر فی مورد مشروعیّة التقلید، ودعوی أنّه لا یکفی الیقین والاعتقاد الناشئ من قول الغیر فی الاعتقادیّات من اُصول الدین والمذهب استظهاراً من الکتاب المجید: «قالوا إنا وجدنا آباءنا علی اُمّة وإنّا علی آثارهم مهتدون»(1) «بل نتبع ما ألفینا علیه آباءنا أو لو کان آباؤهم لا یعقلون شیئاً ولا یهتدون»(2)، لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه قد تقدّم أنّه لا یستفاد منهما عدم اعتبار العلم والیقین والاعتقاد الحاصل مما ذکرنا،

ص : 420


1- 1) سورة الزخرف: الآیة 22.
2- 2) سورة البقرة: الآیة 170.

وفی مسائل اُصول الفقه[1] ولا فی مبادئ الاستنباط من النحو والصرف ونحوهما، ولا فی الموضوعات المستنبطة العرفیّة أو اللغویّة ولا فی الموضوعات الصرفة. فلو شکّ المقلّد فی مایع أنّه خمر أو خلّ مثلاً، وقال المجتهد: إنّه خمر، لا یجوز له تقلیده. نعم من حیث إنّه مخبر عادل یقبل قوله، کما فی إخبار العامیّ العادل وهکذا، وأمّا الموضوعات المستنبطة الشرعیّة کالصلاة والصوم ونحوهما فیجری التقلید فیها کالأحکام العملیّة.

وظاهر الآیة تعبّد الجاهل بقول جاهلین مثله کما لا یخفی.

[1] کما إذا لم یتمکّن عالم من الجزم بامتناع اجتماع الأمر والنهی أو جوازه فقلّد من هو أعلم فی مسائل اُصول الفقه، وکان هذا الأعلم یقول بجواز الاجتماع فیها إذا کان الترکیب فی مورد الاجتماع انضمامیّاً، وبالامتناع فیما إذا کان الترکیب فیه اتحادیّاً، وفرض أنّ العالم المفروض یتمکن من تشخیص موارد الترکیب الاتحادیّ والترکیب الانضمامیّ فی مسائل الفقه، فهل یجوز له بعد التقلید فی المسألة الاُصولیّة واستنباط الحکم الفرعیّ العمل بما استنبطه أو لا یجزی فی عمل نفسه فضلاً عن رجوع الغیر له؟ والظاهر إمکان هذا النحو من التقلید. وما یقال من عدم حصول الاقتدار علی التطبیقات والتفریعات فی نتائج المسائل الاُصولیّة بلا حصول الاقتدار علی نفس المسائل الاُصولیّة، ویمکن العکس بأن لا یتمکّن من الاستنباط فی الأحکام الفرعیّة من مدارکها فی جملة من الموارد، ولکن یکون مجتهداً فی نفس المسائل الاُصولیّة لا یمکن المساعدة علیه.

نعم جلّ المسائل الاُصولیّة هو ممّا یکون العلم بنتائجها الکلّیة بالاستدلال فیها مقدّماً علی الاجتهاد فی المسائل الفرعیّة وذلک لکثرة المسائل الفرعیّة، والاتقان فی تطبیقات قواعد الاُصول فیها یحتاج إلی الإحاطة الکاملة بخصوصیّات المسائل وصعوبة ملاحظة النسبة فی کثیر من المسائل الفرعیّة التی تتعدّد فی کلّ منها

ص : 421

الخطابات الشرعیّة المختلفة بحسب الظهورات الاستعمالیّة.

وعلی أیّ حال یمکن تجویز التقلید فی المسائل الاُصولیّة فی الجملة، ولا یکون التجویز لغواً إلاّ أنّ عمدة الدلیل علی جواز التقلید ما فی الروایات من أخذ معالم الدین وحلاله وحرامه ممن یعلمها، وصدق معالم الدین علی ما یلتزم به الاُصولیّ من التزامه بامتناع الاجتماع أو ثبوت الملازمة بین إیجاب الشیء وإیجاب مقدّمته مطلقاً أو ما إذا کانت موصلة أو بقصد التوصل غیر محرز، ومجرّد عدم الإحراز کاف فی الالتزام بعدم جواز التقلید فیها، وما یستنبط من الخطابات بضمیمة التقلید المتقدّم لا یکون علماً بالحکم الشرعی، لا وجداناً لما هو الفرض، ولا اعتباراً لعدم ثبوت الاعتبار فی البناء علی الکبری التی هی قول الغیر فی المسألة الاُصولیّة.

أمّا التقلید فی الموضوعات فقد قسّم الموضوعات علی ثلاثة أقسام: الموضوعات المستنبطة الشرعیة، والموضوعات المستنبطة العرفیّة واللغویّة، والموضوعات الصرفة، فقد التزم قدس سره بجواز التقلید فی الموضوعات المستنبطة الشرعیة کالتقلید فی نفس الأحکام الشرعیّة، وبعدم جریان التقلید فی غیرها من المستنبطات العرفیّة واللغویّة والموضوعات الصرفة.

أمّا جریانه فی القسم الأوّل فإنّ تلک الموضوعات إمّا من مخترعات الشارع واعتباراته کالصلاة والصوم وغیرهما من العبادات أو من غیر العبادات کالذکاة للذبیحة فاللازم تعلّمها ممن علم بها من مدارکها الشرعیّة.

وأمّا الموضوعات الصرفة التی تکون مفاهیمها مرتکزة معلومة عند الأذهان بحیث لا إجمال فیها، وإنّما یکون الجهل فی انطباق ذلک العنوان علی الخارج للجهل بشیء من جهات ما فی الخارج، کما هو الحال فی الشبهات الخارجیّة، فهذه

ص : 422

الموضوعات خارجة عن موارد التقلید الذی هو رجوع الجاهل بالحکم الشرعیّ المجعول فی الشرع إلی العالم به، فقول المجتهد مشیراً إلی مایع أنّه خمر کإخبار ثقة بأنّه خمر.

وأمّا الموضوعات المستنبطة العرفیّة أو اللغویّة، ککون الغناء مطلق کیفیّة الصوت المقتضی للطرب بمعنی خروج النفس عن الاعتدال، أو کیفیّته التی تشتمل علی الترجیع وتردید الصوت فی الحلق وإن لم یکن فی کلام باطل، أو خصوص ما کان فی کلام باطل، وکون الکنز مطلق المال المذخور فی الأرض أو خصوص المذخور فیها من الذهب والفضة، وکون الصعید مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب والرمل، فالصحیح جریان التقلید فیهما؛ لأنّ مع إفتاء المجتهد بإطلاق الحکم أو خصوصه مع احتمال کون ما أفتی به هو الحکم الکلّی الفرعیّ فی الواقعة یکون ذلک طریقاً متّبعاً بالإضافة إلی العامیّ بلا فرق بین أن یذکر الغناء مطلق کیفیّة الصوت المقتضی للطرب أو یقول هذه الکیفیّة حرام، فمع عدم العلم بالخلاف کما هو الفرض یجب الأخذ به.

وممّا ذکرنا یظهر الحال فی التقلید فی أحوال الرجال فی أسناد الروایات، فإنّ إحراز عدالتهم أو وثاقتهم کإحراز العدالة والوثاقة فی سائر الموارد لا تعدّ من الاُمور التی یرجع فیها إلی أهل خبرتها، بل العدالة والوثاقة من الاُمور التی تثبت بخبر العدل بلا واسطة أو معها ویحرز بحسن الظاهر، ولیستا من الاُمور التی تحتاج إلی إعمال الحدس من أشخاص خاصّة، ولا یصل الأمر إلی دعوی انسداد باب العلم فی الرجال، مع أنّه لو کان انسداد لم یثبت فیها جواز التقلید ولا اعتبار مطلق الظنّ فیها علی ما تقرّر ذلک عند البحث فی مقدّمات دلیل الانسداد فی الأحکام.

ص : 423

(مسألة 68) لا یعتبر الأعلمیّة فیما أمره راجع إلی المجتهد إلاّ فی التقلید، وأمّا الولایة علی الأیتام والمجانین والأوقاف التی لا متولّی لها والوصایا التی لا وصی لها ونحو ذلک فلا یعتبر فیها الأعلمیة، نعم الأحوط فی القاضی أن یکون أعلم من فی ذلک البلد أو فی غیره مما لا حرج فی الترافع إلیه[1].

عدم اعتبار الأعلمیة فی الاُمور الحسبیة

[1] قد یذکر فی المقام دعوی الإجماع علی عدم اعتبار الأعلمیّة فی ما أمره راجع إلی الحاکم الشرعیّ فی غیر مسألة التقلید فی الأحکام الشرعیّة علی ما تقدّم، ولکنّ الإجماع علی تقدیره غیر مفید فی المقام، فإنّه من المحتمل جدّاً التزام الجلّ ممن تعرّضوا لذلک لإطلاق بعض الأخبار کإطلاق التوقیع: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا»(1) وما ورد من أنّ العلماء ورثة الأنبیاء(2) وأنّهم خلفاء النبی صلی الله علیه و آله وأنّ المؤمنین الفقهاء حصون الإسلام(3) وأنّ مجاری الاُمور والأحکام بید العلماء(4). وما ورد من ثبوت منصب القضاء للفقیه علی ما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة وغیرها، والظاهر أنّ الولایة للاُمور المشار إلیها من شؤون ثبوت منصب القضاء، وکان المتصدّی لها القضاة، کما یفصح بذلک بعض الروایات کصحیحة محمد بن إسماعیل بن بزیع قال: «مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع أمره إلی قاضی الکوفة فصیّر عبدالحمید القیّم بماله، وکان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً، فباع عبدالحمید المتاع فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه

ص : 424


1- 1) وسائل الشیعة 27:140، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 9.
2- 2) المصدر المتقدم: 78، الباب 8، الحدیث 2.
3- 3) انظر وسائل الشیعة 3:283، الباب 88 من أبواب الدفن، الحدیث الأول.
4- 4) بحار الأنوار 100:80.

عن بیعهنّ إذ لم یکن المیّت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی لأنهنّ فروج، قال: فذکرت ذلک لأبی جعفر علیه السلام [إلی أن قال علیه السلام ]: إذا کان القیّم به مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس»(1).

أقول: قد تعرّضنا للأخبار الواردة فی کون العلماء ورثة الأنبیاء ونحوها فی بحث ولایة الفقیه فی «إرشاد الطالب»(2)، وذکرنا أنّه لا یتمّ الاستناد إلی شیء منها فی الالتزام بثبوت ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام للفقیه العادل بلا فرق بین زمان الحضور وزمان الغیبة، وأنّ غایة ما یستفاد منها أنّ ما علی الانبیاء فی أمر تبلیغ الدین وإرشاد الناس وهدایتهم من بعدهم علی العلماء، وأمّا الولایة الثابتة للنبیّ صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام من کون أمره الولائیّ واجب الاتّباع حیث إنّهم علیهم السلام قوم فرض اللّه طاعتهم فلم تثبت ذلک للفقیه فضلاً عن الولایة علی التصرف، ویشهد لذلک إطلاق تلک الأخبار وشمولها حتی لزمان الأئمّة علیهم السلام ، وغایة ما یستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة نفوذ قضاء الفقیه وفصل خصومته وأنّ له ولایة القضاء بالنصب العامّ ولم یظهر منهما أو من غیرهما إعطاء الولایة فی أموال القصّر والأوقاف مع عدم القیّم والمتولّی للفقیه. والتوقیع المتقدّم وإن کان ظاهراً فی غیر ذلک إلاّ أنّ السند فیه غیر تامّ، ووقوع بعض التصرّفات من المنصوبین للقضاء من قبل ولاة الجور وإن لا یقبل الإنکار، إلاّ أنّه لم یثبت إعطاء الولایة لهم من قبلهم لدخولها فی منصب القضاء، بل من المحتمل أنّها کانت منصباً زائداً کان یعطی لهم، وعلی تقدیره فتلک کانت فی المنصوب بنصب خاصّ لا ما إذا کان بالنصب العامّ.

ص : 425


1- 1) وسائل الشیعة 17:363، الباب 16 من أبواب عقد البیع، الحدیث 2.
2- 2) إرشاد الطالب 3:26 فما بعد.

وعلی الجملة بما أنّ هذه الولایة مخالفة للأصل فلابدّ من الاقتصار علی مورد الیقین، وهو ما إذا کان المتصرّف فی تلک الاُمور الفقیه ولو بغیر المباشرة من التوکیل والإجازة لمن یقوم بها، ولکن لا تعتبر الأعلمیّة فی المجیز ومن یرجع إلیه فی التوکیل والإذن أو النصب علی ما مرّ؛ لأنّه لا یحتمل أن یکون جمیع الاُمور الحسبیّة فی جمیع أرجاء العالم بید شخص واحد.

نعم فی الأمر الذی یرید الشخص التصدّی له إن کان من الاُمور المهمّة جدّاً کحفظ نظام البلاد وترتیب اُمور نظمها والمحافظة علی أمنها وتهیئة الاستعدادات اللازمة للدفاع عنها ومنع نشر الفساد وأقامة مراکزه فیها فلا یبعد اعتبار إجازة الأعلم وأنّ له إجازة التصدّی للغیر إذا کان الغیر أهلاً له، وأنّ علیه الامتناع عن الإجازة إذا لم یحرز الأهلیّة فیمن یستجیزه.

هذا بالإضافة إلی الاُمور الحسبیّة، وأمّا بالإضافة إلی القضاء فلا یعتبر فیه الأعلمیّة کما هو مقتضی الإطلاق فی مقبولة عمر بن حنظلة، وإطلاق معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم حیث ورد فی الاُولی: «ینظران إلی من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا»(1) وفی الثانیة: «انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا»(2) والشیء وإن کان نکرة یعمّ الشیء الیسیر إلاّ أنّه قد تقدّم أنّه بالإضافة إلی علم قضایا الأئمة علیهم السلام فلا ینافی کثرته فی نفسه. وعلی تقدیر الإغماض یقیّد بما ورد فی المقبولة: «نظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا».

ص : 426


1- 1) وسائل الشیعة 1:34، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات، الحدیث 12.
2- 2) وسائل الشیعة 27:13، الباب الأول من أبواب صفات القاضی، الحدیث 5.

وما ورد فی المقبولة من فرض العلم بالمخالفة فی القضاء والأمر بالرجوع إلی الأعدل والأفقه لا یعمّ فرض عدم العلم بالمخالفة مع فرض الشبهة فیه حکمیّة کما هو مقتضی اختلاف الفقیهین فی حدیثهم علیهم السلام ، وأمّا ما فی العهد المعروف إلی مالک الاشتر: «اختر للقضاء أفضل رعیّتک»(1) فهو وإن کان معتبراً من حیث السند حیث إنّ الشیخ قدس سره ذکر له طریقاً معتبراً، وعدم الإشارة إلی الاختلاف فی متن العهد، وأنّه یروی بالطریق المعتبر العهد المعروف دلیل علی عدم الخلاف فی متنه، إلاّ أنه لا دلالة له علی أنّ وظیفة المترافعین المراجعة فی القضاء إلی الأفضل، بل غایة ما یستفاد منه هو أنّ علی الوالی الذی علیه تعیین القاضی للبلد بالنصب الخاصّ أن یعیّن الأفضل، والکلام فی المقام فی الرجوع إلی القاضی المنصوب بنصب عامّ.

ثمّ إنّه قد یعدّ من الاُمور الحسبیّة التی یرجع فی التصرف فیها إلی الفقیه السهم المبارک للإمام من الخمس، أو أنّه وإن لم یکن من تلک الاُمور إلاّ أنّه إذن الفقیه معتبر فی التصرّف فیه فی زمان الغیبة وعدم حضور الإمام علیه السلام .

وینبغی فی المقام الکلام فی سهم الإمام علیه السلام من الخمس أوّلاً، والتکلّم فی أنّه کیف یتصرّف فیه زمان الغیبة، فنقول المشهور بین أصحابنا أنّ الخمس یقسّم علی ستّة أسهم ثلاثة منها للّه ولرسوله والإمام علیه السلام فإنّ ما کان للّه بملکیّة اعتباریّة یصل النبیّ صلی الله علیه و آله وما کان للنبیّ صلی الله علیه و آله وصولاً وأصالة یصل إلی الإمام علیه السلام ، فیکون نصف الخمس ملک الإمام بعنوان أنّه الإمام المنصوب بعد النبیّ بحسب العصور والأزمنة، وثلاثة أسهم منه للأیتام والمساکین وابناء السبیل ممن ینتسب إلی هاشم بالاُبوّة،

ص : 427


1- 1) نهج البلاغة: من کتاب له علیه السلام کتبه للأشتر النخعی، الکتاب رقم (53).

ولزوم اعتبار الخمس ستة أسهم کما ذکرنا هو المشهور بین الأصحاب واستظهر ذلک من ظاهر الآیة المبارکة: «واعلموا أنّما غنمتم من شیء فأنّ للّه خمسه وللرسول ولذی القربی والیتامی والمساکین وابن السبیل»(1)، مضافاً إلی دلالة بعض الروایات.

وربّما ینسب الخلاف إلی ابن الجنید وأنّه قال: السهام فی الخمس خمسة، بحذف سهم اللّه، وعن «المدارک» المیل إلیه، وقد تعرّضنا لذلک فی بحث قسمة الخمس من مباحث کتاب الخمس، وبیّنا أنّ نصف الخمس یعنی سهم اللّه وسهم الرسول وذی القربی المعبر عنه بسهم الإمام علیه السلام یصل إلی الإمام علیه السلام ، وأنّ نصفه الآخر یعنی سهم الیتامی والمساکین وابن السبیل المعبّر عنه بسهم السادات یصرف ویعطی الهاشمیّ منهم أی من ینتسب إلی هاشم من جهة الأب، وفی موثقة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «لو کان العدل ما احتاج هاشمی ولا مطّلبی إلی صدقة، إنّ اللّه جعل لهم فی کتابه ما کان فیه سعتهم»(2)، ونحوها غیرها. ومن الظاهر أنّ المجعول لهم فی الکتاب ما فی آیة الخمس.

والمحکیّ عن ابن الجنید أنّ السهام فی الخمس خمسة، بحذف سهم اللّه تعالی، وعن «المدارک» المیل إلیه لصحیحة ربعی بن عبداللّه بن الجارود عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وکان ذلک له ثمّ یقسم ما بقی خمسة أخماس ویأخذ خمسه ثمّ یقسم أربعة أخماس بین الناس الذین قاتلوا علیه ثمّ قسّم الخمس الذی أخذه خمسة أخماس یأخذ خمس اللّه عزّ وجلّ

ص : 428


1- 1) سورة الأنفال: الآیة 41.
2- 2) وسائل الشیعة 9:276 _ 277، الباب 33 من أبواب المستحقین للزکاة، وفیه حدیث واحد.

لنفسه ثمّ یقسم الأربعة أخماس بین ذوی القربی والیتامی والمساکین وأبناء السبیل یعطی کلّ واحد منهم حقّاً وکذلک الإمام یأخذ کما أخذ الرسول»(1).

وفیه أنّ مدلولها اکتفاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله بسهم اللّه سبحانه وأنّه کان یترک سهمه، وحیث إنّ سهم النبیّ صلی الله علیه و آله ملکه فله وضعه کیف ما شاء، فلا دلالة لها علی أنّ فعله صلی الله علیه و آله کان واجباً علیه، وما فی ذیلها: وکذلک الإمام أخذ کما أخذ الرسول، لم یکن بیاناً للحکم الواجب علی الإمام علیه السلام فی الخمس فضلاً عن صفو المال من المغنم.

وعلی الجملة ففی الآیة المبارکة ولو بملاحظة الروایات الواردة فی قسمة الخمس ظهور ودلالة علی کون الخمس علی ستّة أسهم، وورد فی روایات منها صحیحة البزنطی عن الرضا علیه السلام : «أنّ ما کان للّه وللرسول یصل إلی الإمام علیه السلام حیث سئل علیه السلام عن قول اللّه عز وجلّ: «واعلموا أنّما غنمتم من شیء فأنّ للّه خمسه وللرسول ولذی القربی» فقیل له: فما کان للّه فلمن هو؟ فقال: «لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وما کان لرسول اللّه فهو للإمام»(2) کما أنّ المراد بذی القربی فی الآیة الأئمة علیهم السلام کما یظهر ذلک من غیر واحدة من الروایات، وهذه السهام الثلاثة بعد النبیّ صلی الله علیه و آله للإمام من بعده وللإمام من بعد الإمام، وفی مرسلة حماد بن عیسی عن العبد الصالح علیه السلام فی حدیث طویل قال: «وله [یعنی للإمام] نصف الخمس کملاً، ونصف الخمس الباقی بین أهل بیته، فسهم لیتاماهم وسهم لمساکینهم وسهم لأبناء سبیلهم یقسّم بینهم علی الکتاب

ص : 429


1- 1) المصدر السابق: 510، الباب الأول من أبواب قسمة الخمس، الحدیث 3.
2- 2) المصدر السابق: 512، الحدیث 6.

والسنة ما یستغنون به فی سنّتهم»(1) وقد تقدّم فی موثقة زرارة: «لو کان العدل ما احتاج هاشمی ولا مطّلبی إلی صدقة، إن اللّه جعل لهم فی کتابه ما کان فیه سعتهم».

ثمّ إنّه لا ینبغی التأمّل فی جواز تصدّی مالک المال لدفع نصف الخمس یعنی سهم الیتامی والمساکین وابن السبیل إلیهم زمان عدم حضور الإمام وعدم التمکّن من إیصال هذه السهام الثلاثة إلیه _ بناءً علی ما ذکرنا من عدم ثبوت الدلیل علی الولایة العامّة للفقیه العادل ونیابتهم عن الإمام علیه السلام بالنیابة العامّة _ فإنّ مقتضی الآیة المبارکة والروایات المشار إلیها أنّ نصف الخمس إنّما جعل لسدّ حوائج الیتامی والمساکین وأبناء السبیل من السادات، کما یشهد لذلک صحیحة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إنّه لو کان العدل ما احتاج هاشمی ولا مطّلبی إلی صدقة، إنّ اللّه جعل لهم فی کتابه ما کان فیه سعتهم، ثمّ قال: إنّ الرجل إذا لم یجد شیئاً حلّت له المیتة، والصدقة لا تحلّ لأحد منهم إلاّ أن لا یجد شیئاً ویکون ممّن یحلّ له المیتة»(2).

وهذه الصحیحة ومثلها بضمیمة ما تقدّم من کون السهام الثلاثة للإمام علیه السلام تدلّ علی قسمة الخمس علی ستة أقسام وأنّ سهم السادة تعویض عن الزکاة التی یکون فیها للمالک أکثر المال وله الولایة علی إخراجها؛ ولأنّ الشرکة فی کلّ من الزکاة والخمس بحسب المالیّة، لا من قبیل الإشاعة فی العین حتی لا یجوز لأحد الشریکین ولو کان سهمه أکثر التصرّف فی بعض المال بلا إذن شریکه، فإنّ الشرکة

ص : 430


1- 1) الکافی 1:619، الباب 186، الحدیث 4.
2- 2) مرّ تخریجه قبل قلیل.

فی العین بحسب المالیّة مقتضاها إخراج الزکاة والخمس من العین أو من قیمتها، ویجوز التصرّف فی المال بعد إخراج سهم الغیر ولو بالقیمة _ ولو قلنا بأنّ تعلّق الخمس أو الزکاة بالمال بنحو الکلّی فی المعیّن جاز التصرّف ولو قبل الإخراج _ کما یدلّ علی ذلک صحیحة محمد بن خالد البرقی قال: «کتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام هل یجوز أن أخرج عما یجب فی الحرث من الحنطة والشعیر وما یجب علی الذهب، دراهم بقیمة ما یسوی؟ أم لا یجوز إلاّ أن یخرج من کلّ شیء ما فیه؟ فأجاب أیّما تیسّر یخرج»(1).

وعلی الجملة مقتضی الإشاعة فی مالیّة العین کما فی إرث الزوجة من البناء دفع القیمة، وأنّه إذا کان من بیده المال الذی فیه حقّ من سهم الغیر بنحو الإشاعة فی المالیّة یجوز أن یدفع سهمه بالقیمة.

والحاصل إذا کان مدلول الآیة المبارکة ولو بملاحظة الروایات الواردة فی تفسیرها وملاحظة صحیحة زرارة المتقدّمة أنّ نصف الخمس ولو بالقیمة سهم السادات الکرام، یجب علی الذی أکثر المال له إیصال هذا السهم إلیهم.

وما دلّ علی ولایة الإمام علیه السلام علی ذلک السهم ووجوب إیصاله إلی الإمام علیه السلام کصحیحة حفص البختری عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «خذ مال الناصب حیثما وجدته وادفع إلینا الخمس»(2). وفی صحیحة علی بن مهزیار قال: «قال أبو علی بن راشد قلت له: أمرتنی بالقیام بأمرک وأخذ حقّک فأعلمت موالیک بذلک، فقال لی بعضهم: وأیّ

ص : 431


1- 1) وسائل الشیعة 9:167، الباب 14 من أبواب زکاة الذهب والفضة، الحدیث الأول.
2- 2) المصدر السابق: 487 _ 488، الباب 2 من أبواب ما یجب فیه الخمس، الحدیث 6.

شیء حقّه؟ فلم أدر ما اُجیبه، فقال: یجب علیهم الخمس»(1) الحدیث، غایة ما یستفاد منه إیصال سهم السادات أیضاً إلی الإمام علیه السلام ولو مع التمکّن من الإیصال إلی وکلائهم، وأمّا مع عدم إمکانه وانتهاء أمر الوکالة کما فی زمان الغیبة الکبری یکون مقتضی الآیة المبارکة بضمیمة مثل صحیحة زرارة المتقدّمة إیصال المالک ودفعه سهمهم إلیهم، ولا ننکر أنّ الدفع إلیهم بالاستیذان ممّن یلزم إیصال سهم الإمام إلیه زمان الغیبة _ علی ما نذکر _ أحوط، وأمّا بالإضافة إلی سهم الإمام علیه السلام فلا یجری فیه حکم المال المجهول مالکه، نظیر مال الغیر الذی بید الإنسان ولا یمکن إیصاله إلیه لجهالة مکانه وعدم إمکان إحرازه، حیث إنّ جهة صرف المال معلوم فی الجملة کغیره من المال المجهول مالکه مع العلم بجهة صرفه الذی عیّنه ذلک المالک.

ویبقی فی البین دعوی الجزم بأنّ الإمام علیه السلام راض وصادر منه الإذن فی التصرّف فی ذلک السهم فی اُمور، من ترویج أحکام الشریعة وتثبیت أمر المذهب ونشره حتّی فی الأجیال الآتیة من المؤمنین بتربیة علماء الدین والمذهب وتبیین معتقدات الشیعة وطریق عرفانهم حجج اللّه بعد نبیّهم وإیصال وإبقاء آثار أهل البیت وإنقاذ المضطرّین ورفع اضطرارهم وابتلاءاتهم إلی غیر ذلک من المهمات التی ترجع کلّها إلی أمر ترویج الدین والمذهب ونشره فی الأجیال والبلاد والقری وإنقاذ المضطرّین من المؤمنین بقضاء حوائجهم الضروریّة، وحیث إنّ المتصرّف فی السهم المبارک غیر مالک بل هو ملک الإمام علیه السلام ولو بعنوان الإمامة فاللازم أن یکون المتصرّف من یعلم برضاء الإمام علیه فی تصرّفه علی ما ذکر، والمتیقّن هو الذی

ص : 432


1- 1) وسائل الشیعة 9:500، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس، الحدیث 3.

یرجع إلیه فی أخذ الفتوی لاحتمال دخالته فی الرضا بالتصرّف، حیث إنّ إیصال السهم المبارک إلی ید وکلائه الثقات ورعایة نظره فی التصرّف یوجب عزّ المذهب ویعرف المذهب بعظمة هؤلاء الرجال کما یعرف کلّ من الأقوام برئیسهم، وإذا احتمل دخالة هذا الأمر فی رضاء الإمام علیه السلام فلا یجوز التصرّف فیه بطریق آخر؛ لأنّ القاعدة الأوّلیّة عدم جواز التصرّف فی مال الغیر، ولا یجری هذا بالإضافة إلی سهم السادة الکرام؛ لما ذکرنا من ثبوت الإطلاق فی وجوب إخراجه ودفعه وعدم ثبوت التقیید لها بالدفع إلی الامام علیه السلام إلاّ بمقدار إمکان الإیصال إلیه علیه السلام .

هذا کلّه علی تقدیر ثبوت الخمس والتکلیف بالأداء کما هو ظاهر الآیة المبارکة والروایات الواردة فی السؤال عن الخمس والمعادن والکنز والغوص وأرباح التجارات والصناعات من فاضل المؤنة، ولکن ربّما یتوهّم أو یستظهر من بعض الروایات تحلیل الخمس أو السهم المبارک للشیعة من ناحیة الأئمة علیهم السلام ، فلا یکون للمؤمن تکلیف بالإضافة إلی الخمس أو السهم المبارک کصحیحة أبی بصیر وزرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام علی بن أبی طالب: «هلک الناس فی بطونهم وفروجهم، لأنّهم لم یؤدّوا إلینا حقّنا، ألا وإنّ شیعتنا من ذلک وآباءهم فی حلّ»(1) وصحیحة ضریس الکناسی قال: قال أبو عبداللّه علیه السلام : «أتدری من أین دخل علی الناس الزنا؟ فقلت: لا أدری، فقال: من قبل خمسنا أهل البیت، إلاّ لشیعتنا الأطیبین، فإنه محلّل لهم ولمیلادهم(2). ومعتبرة یونس بن یعقوب، قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام فدخل علیه رجل من القمّاطین فقال: جعلت فداک تقع

ص : 433


1- 1) وسائل الشیعة 9:543، الباب 4 من أبواب الانفال، الحدیث الأول.
2- 2) المصدر السابق: 544، الحدیث 3.

فی أیدینا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنّ حقّک فیها ثابت وإنّا عن ذلک مقصّرون، فقال أبو عبداللّه علیه السلام : ما انصفناکم إن کلّفناکم ذلک الیوم»(1)، ومعتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رجل وأنا حاضر حلّل لی الفروج، ففزع أبو عبداللّه علیه السلام فقال له رجل: لیس یسألک أن یعترض الطریق، إنّما یسألک خادماً یشتریها أو امرأة یتزوّجها أو میراثاً یصیبه أو تجارة أو شیئاً اُعطیه، فقال: هذا لشیعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب والمیّت منهم والحیّ وما یولد منهم إلی یوم القیامة فهو حلال، أمّا واللّه لا یحلّ إلاّ لمن أحللنا له»(2) الحدیث، وفی مقابل ذلک روایات تدلّ علی إیصال الخمس وحقّ الإمام علیه السلام إلیه وجملة من الروایات فی صورة کون المال للشیعة کصحیحة حفص بن البختری عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «خذ مال الناصب حیثما وجدته وادفع إلینا الخمس»(3)، وما فی صحیحة علی بن مهزیار بعد عدّ ما یجب فیه فی کلّ عامّ من الخمس کتب علیه السلام : «فمن کان عنده شیء من ذلک فلیوصله إلی وکیلی»(4).

وعلی الجملة قضیة وکلاء الأئمة علیهم السلام وأنّهم کانوا یأخذون الحقوق للإمام علیه السلام وکان عمدتها الخمس من الواضحات، وشیء من ذلک لا یجتمع مع الأمر بالتحلیل المتوهّم من الروایات المتقدّمة، بل أمر الإمام علیه السلام موالیه بإیصال الخمس إلی وکیله أو دفعه إلیه، کما هو ظاهر صحیحة علی بن مهزیار، وأنّ ما یصل إلیه فی کلّ عام

ص : 434


1- 1) المصدر السابق: 545، الحدیث 6.
2- 2) المصدر السابق: 544، الحدیث 4.
3- 3) وسائل الشیعة 9:487 _ 488، الباب 2 من أبواب ما یجب فیه الخمس، الحدیث 6.
4- 4) المصدر السابق: 501 _ 502، الباب 8، الحدیث 5.

بعنوان الربح والفائدة أو سائر العناوین الراجعة إلی الدخول فی عنوان الفائدة هو المراد من الغنیمة.

وأمّا أخبار التحلیل فهی ناظرة إلی تحلیل ما یؤخذ من الناس وقد تعلّق الخمس به فی أیدیهم ثمّ یصل إلی الشیعة منهم فإنّه مورد التحلیل، بل ظاهر بعضها عدم اختصاص التحلیل بوصول ما فیه الخمس ممن لا یعتقد به، بل یعمّ ما یصل المال المتعلّق به الخمس ممن لا یدفعه کما هو الحال بالإضافة إلی معتبرة أبی خدیجة، وما ورد ما ظاهره عدم حلّ الخمس فیما کان متعلّقاً به فی الأیدی السابقة علی تقدیر تمامیّة السند کروایة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول: «من اشتری شیئاً من الخمس لم یعذّره اللّه، اشتری ما لا یحلّ له»(1) یحمل علی شراء غیر الشیعة.

بقی أمر وهو أنّه قد ورد فی صحیحة علی بن مهزیار قال: قرأت فی کتاب لأبی جعفر علیه السلام من رجل یسأله أن یجعله فی حلّ من مأکله ومشربه من الخمس، فکتب بخطه: «من أعوزه شیء من حقّی فهو فی حلّ»(2) وظاهرها بإطلاقها یعمّ ما إذا کان حقّه علیه السلام قد انتقل إلیه بالشراء ونحوه أو تعلّق حقّه علیه السلام بالمال فی یده فتحمل علی الصورة الاُولی، ومع الإغماض عن ذلک فللإمام علیه السلام الإغماض عن الخمس فی حقّ شخص أو جماعة واقعین فی الحرج، کما یشهد لذلک صحیحة علی بن مهزیار حیث أوجب الإمام علیه السلام فی سنة الکتابة بعض الخمس وأغمض عن بعض آخر.

ص : 435


1- 1) وسائل الشیعة 9:540، الباب 3 من أبواب ما یجب فیه الخمس، الحدیث 6.
2- 2) المصدر السابق: 543، الباب 4، الحدیث 2.

(مسألة 69) إذا تبدّل رأی المجتهد هل یجب علیه إعلام المقلّدین أم لا؟ فیه[1] تفصیل: فإن کانت الفتوی السابقة موافقة للاحتیاط فالظاهر عدم الوجوب، وإن کانت مخالفة فالأحوط الإعلام، بل لا یخلو عن قوّة.

[1] القائل بوجوب الإعلام عند تبدّل رأی المجتهد إمّا أن یستند إلی عدم جواز التسبیب إلی خلاف الوظیفة الواقعیّة، وأنّ فتوی المجتهد سابقاً مع عدم إعلامه بتبدّل فتواه تسبیب، فعلیه أن یفصّل بین أن تکون فتواه السابقة مطابقة للاحتیاط أو مخالفة له، فلا یجب الإعلام بالعدول فی الأوّل دون الثانی، کما إذا کانت فتواه حرمة العصیر بعد غلیانه وذهاب ثلثیه بغیر النار ثمّ تبدّل رأیه إلی حلیة العصیر بعد غلیانه وذهاب ثلثیه ولو بغیر النار، فإنّ فتواه سابقاً بالحرمة کانت بحسب ما استفاده من مدارک الأحکام فلم یکن فی إظهاره فی السابق محذور، وعدم إعلامه بعد تبدّل رأیه لیس فیه أیّ تسبیب إلی مخالفة التکلیف الإلزامیّ من ترک الواجب أو الحرام، غایة الأمر أنّ مقلّدیه یترکون العصیر الذی ذهب ثلثاه بغیر النار بعد غلیانه بالبناء علی حرمته، وهذا البناء منهم لا یتضمّن أیّ محذور لهم لإحرازهم بوجه معتبر حرمته بفتواه السابق فلا تشریع، وکذا الحال إذا استند القائل بوجوب الإعلام إلی آیة النفر حیث یجب علی الفقیه فی الدین إنذار قومه، والإبلاغ بالحلیّة والطهارة ونحوهما لا یدخل فی عنوان الإنذار.

نعم إذا کانت فتواه السابقة علی خلاف التکلیف الإلزامیّ ثمّ تبدّل رأیه إلی التکلیف الإلزامیّ أو ما یلزم التکلیف الإلزامی یکون مقتضی وجوب الإنذار إعلامه، وکذا مقتضی عدم جواز التسبیب إلی مخالفة التکلیف الإلزامیّ.

ولکن لا یخفی أنّ المجتهد لم یکلّف العامیّ العمل بفتواه، بل هو من عنده أحرز أنّه یجوز له العمل بفتواه فیما إذا کانت فتواه السابقة غیر إلزامیّة، والمفروض أنّ

ص : 436

(مسألة 70) لا یجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة[1] وأمّا فی الشبهات الموضوعیّة فیجوز بعد أن قلّد مجتهده فی حجیّتها، مثلاً: إذا شکّ فی أنّ عرق الجنب من الحرام نجس أم لا، لیس له إجراء أصالة الطهارة، لکن فی أنّ هذا الماء أو غیره لاقته النجاسة أم لا، یجوز له إجراؤها بعد أن قلّد المجتهد فی جواز الإجراء.

المجتهد لم یقصّر فی فتواه السابقة، بل فحص المقدار اللازم من الفحص وأفتی بحلّیة عمل وجوازه، والعامیّ أیضاً أحرز من عنده أنّه یجوز العمل بفتواه، لإحرازه الاُمور المعتبرة فیه الموضوع لجواز العمل بفتواه.

نعم إذا سأل أحد المجتهد واشتبه وأفتی له بخلاف فتواه من الإلزام فعلیه أن ینبّه السائل إذا أمکن، نظیر ما ذکرنا فی اشتباه الناقل فی نقل فتوی المجتهد، وهذا غیر مسألة التبدّل، وأمّا بالإضافة إلی الإنذار فاللازم أن یجعل فتواه اللاحقة إذا کانت إلزامیّة فی معرض الوصول، لا إعلام الذین أخذوا منه فتواه السابقة واستمرّوا فی العمل علی طبقها بمقتضی الاستصحاب فی عدم عدوله وبقائه علی فتواه.

[1] والوجه فی ذلک أنّ کلاًّ من أصالة البراءة والطهارة والاستصحاب جریانها عند الشکّ فی الشبهات الحکمیّة مشروطة بالفحص عن مدارک الأحکام والتکالیف وعدم الظفر بالدلیل علی الحکم والتکلیف فی موارد إجرائها، وبما أنّ العامیّ لا یتمکّن من هذا الفحص وإحراز عدم الدلیل علی التکلیف والحکم الواقعیّ فی الوقایع فلا یتمّ فی حقّه الموضوع لاعتبار تلک الاُصول.

وبتعبیر آخر الأخبار الواردة فی وجوب تعلّم التکالیف والأحکام فی الوقایع حیث إنّ مدلولها إسقاط عذریّة الجهل بالتکالیف فی موارد تمکّن المکلّف من الوصول إلی تلک التکالیف ولو بطریق معتبر، فلا یکون للعامیّ سبیل إلی إجراء تلک

ص : 437

(مسألة 71) المجتهد غیر العادل أو مجهول الحال لا یجوز تقلیده[1] وإن کان موثوقاً به فی فتواه ولکن فتاواه معتبرة لعمل نفسه، وکذا لا ینفذ حکمه ولا تصرّفاته فی الاُمور العامّة، ولا ولایة له فی الأوقاف والوصایا وأموال القصّر والغیّب.

الاُصول مع تمکّنه من الوصول إلی التکالیف فی تلک الموارد بأخذ الفتوی من المجتهد الواجد للشرائط، وکما أنّ المجتهد لیس له إجراء تلک الاُصول قبل الفحص عن مدارک الأحکام، لسقوط جهله بالحکم والتکلیف قبل الفحص عن تلک المدارک المعتبرة فی حقّه، کذلک لا یجوز للعامیّ ولو کان فاضلاً یعلم باعتبار تلک الاُصول إجراؤها قبل الفحص عن فتاوی المجتهد الذی تعتبر فتاواه فی الوقایع فی حقّه علماً بالواقع.

وهذا بخلاف الشبهات الموضوعیّة الصرفة التی بیّناها سابقاً، فإنّ العامیّ یجوز له الرجوع فیها إلی تلک الاُصول عند الشکّ فیها خارجاً بعد أخذ الفتوی من المجتهد بعدم لزوم الفحص فیها، أو مع علمه بعدم لزوم الفحص فیها من جهة کونه فاضلاً قد اجتهد فی جریان الاُصول العملیّة فیها من غیر اشتراط الفحص، کما إذا شکّ فی أنّ هذا الماء أو شیئاً آخر لاقی نجساً أم لا، فیبنی علی طهارته إلی أن یعلم نجاسته إلی غیر ذلک.

[1] وذلک فإنّه مع عدم العدالة لا تکون فتواه معتبرة فی حقّ العامی، لما تقدّم من أنّ المعتبر فتوی العادل لا ما یعمّ من یتحرّز عن الکذب خاصّة، وکذلک إذا لم یکن فی المجتهد سائر الأوصاف المعتبرة فی أخذ الفتوی منه.

نعم فتواه معتبرة فی حقّه؛ لأنّها ممّا أخذها من مدارک الأحکام بطریق متعارف کسائر المجتهدین وإن لم یجز للعامیّ تقلیده، وکذا الحال فیما إذا شکّ فی عدالته

ص : 438

(مسألة 72) الظنّ بکون فتوی المجتهد کذا لا یکفی فی جواز العمل، إلاّ إذا کان حاصلاً[1] من ظاهر لفظه شفاهاً، أو لفظ الناقل، أو من ألفاظه فی رسالته. والحاصل أنّ الظنّ لیس حجّة، إلاّ إذا کان حاصلاً من ظواهر الألفاظ منه، أو من الناقل.

ولم تکن حالته السابقة العدالة، بلا فرق بین القول بأنّها ملکة أو الاستمرار والاستقامة فی الدین؛ لأنّ کلاًّ من العدالة والاستمرار علی الاستقامة أمر حادث مسبوق بالعدم، ولا ینفذ أیضاً قضاؤه ولا تصرّفاته فی الاُمور العامّة ولا یکون له ولایة فی التصرّف فی الأوقاف وأموال الغیّب والقصّر من باب الحسبة، علی ما تقدّم الکلام فی وجه جواز التصرّف فیها.

[1] قد تقدم فی بحث الظواهر أنّ المعتبر هو ظهور الکلام الصادر عن الغیر أو کلام الناقل عن الغیر مع ثبوت اعتبار نقله، ولا یختلف بین أن یکون الکلام الصادر بالتلفظ أو بکتابته، فما لم یحرز بوجه معتبر قرینة علی أنّ مراده علی خلاف ظاهره یتّبع ظاهر کلامه _ سواء حصل الظنّ بأن ظاهر کلامه مراده الجدّی أو لم یحصل _ وإذا کان ظاهر کلامه فی أمر ولم یظنّ المستمع بأنّ مراده الجدّی هو علی طبق ذلک الظاهر فعمل علی خلافه یؤاخذه المتکلّم بظاهر کلامه، واعتذاره بأنّی ما حصلت علی الظنّ بالمراد أو کان ظنّی علی إرادة خلاف الظهور غیر مقبول عند العقلاء، وحیث إنّ الشارع لم یخترع فی تفهیم مراداته طریقاً آخر غیر ما عند العقلاء من الطریق یکون الأمر بالإضافة إلی ظهورات الخطابات الشرعیّة أیضاً کذلک، فالملاک فی الاعتذار والاحتجاج هو ظهورات الخطابات والکلام الصادر عن المتکلّم مع عدم قرینة معتبرة علی إرادة المتکلّم خلاف الظهور، وما فی کلام الماتن قدس سره من الاستثناء بقوله: إلاّ إذا کان حاصلاً من لفظه، مما یوحی إلی الذهن أنّ الاعتبار بنفس الظنّ الشخصیّ الناشئ من الظهور غیر مراد قطعاً، ولعلّ مراده الظنّ النوعیّ الذی

ص : 439

مرجعه إلی أصالة التطابق بین الظهور والمراد الجدّی حیث یکون هذا التطابق فی نوعه ظنیّاً، والمراد من الظهور الذی یبنی علی أنّ المراد الجدّی للمتکلّم علی طبقه هو الظهور الاستعمالیّ الذی لا من إحرازه ومع عدم القرینة علی الخلاف یبنی علی التطابق.

* * *

(440)

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.