تحریرات فی الفقه: کتاب الطهاره

اشارة

سرشناسه : خمینی، مصطفی، 1309-1356.

عنوان و نام پديدآور : تحریرات فی الفقه: کتاب الطهاره / تالیف مصطفی الخمینی.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1378.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : دوره 964-335-161-0 : ؛ 10000ریال: ج.1 964-335-138-6 : ؛ 37000 ریال (ج.1 ٬چاپ دوم) ؛ 12500ریال: ج.2 964-335-139-4 : ؛ 38000 ریال (ج.2، چاپ دوم)

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.1 و 2 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : کتابنامه.

عنوان دیگر : کتاب الطهاره.

موضوع : طهارت

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س)

رده بندی کنگره : BP185/2/خ8ت3 1378

رده بندی دیویی : 297/352

شماره کتابشناسی ملی : م 78-10611

[مقدمة التحقيق]

[تقريظ]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين و الصلاة على سيّدنا محمّد خاتم النبيّين، و على عترته الطيّبين الطاهرين، و اللعن الدائم علىٰ أعدائهم أجمعين إلىٰ يوم الدين.

و بعد. فقد ساعدني التوفيق للمراجعة إلىٰ بعض ما صنّفه في الفقه و الأُصول صديقنا الأعزّ و شريكنا في الدرس و المباحثة، جامع المعقول و المنقول، حاوي الفروع و الأُصول الذي قد جمع بين شدّة الاستعداد و قوّة الحافظة آية اللّٰه الحاج السيّد مصطفى الخميني (قدّس سرّه) ابن أستاذنا العلّامة المجاهد الأكبر الإمام الراحل (قدّس سرّه) فوجدته مشتملًا على تحقيقات و تدقيقات عميقة، لا يكون الطالب غنيّاً عن المراجعة إليه، و المحقّقُ مفتاق إلى المراجعة و الاستفادة منه.

حشرهما اللّٰه مع أجدادهما الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

محمّد الفاضل اللنكراني 18 جمادى الاولىٰ 1418

نُبذة مختصرة من حياة المصنّف

طهارة المولد و كرم المحتد

في مدينة قم المقدّسة، و في أُسره تطاول السماء مجدا و سؤدداً، ولد الشهيد السعيد عام 1309 ه. ش.

سمّاه أبوه العظيم محمّداً، و طوّقه ب «مصطفى» لقباً، و كنّاه ب «أبي الحسن»، و لم يُكنّه ب «أبي القاسم»؛ كي لا تجتمع النعوت الثلاثة لغير النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و غلب عليه لقبه، فاشتهر بالسيّد «مصطفى».

انحدر من صُلب ماجد، انحنىٰ له الدهر تبجيلًا و تعظيماً، و تصاغرت شواهق الجبال لشموخه و جلاله؛ ذلك والده المقدّس، الذي ملأ الدُّنيا و شغل الناس، و أنطق العدوّ ثناءً عليه قبل الصديق، فعدّوه رجل العالَم الأوّل لعامين انبهاراً بعظمته و قيادته.

و أمّا والدته التقيّة الفاضلة فهي كريمة آية اللّٰه الميرزا محمد الثقفي صاحب كتاب «روان جاويد» في التفسير و «غرر العوائد من درر الفوائد» في الأُصول، و كثيراً ما عبّر عنه المترجم له في كُتبه ب

«جدّي المُحشّي».

و كان آية اللّٰه الميرزا أبو الفضل الطهراني صاحب كتاب «شفاء الصدور

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 2

في شرح زيارة عاشور» جَدّاً لوالدته الفاضلة.

كما كان جدُّها الأعلى آية اللّٰه العلّامة الشهير الميرزا أبو القاسم الكلانتر مقرّر الشيخ الأعظم الأنصاري، و تقريراته الشهيرة معروفة ب «مطارح الأنظار»، و يعبّر عنه الشهيد ب «جدّي المقرّر».

و هي حفظها اللّٰه تعالىٰ تنطوي علىٰ نفس طيّبة طاهرة، و أخلاق و سجايا حميدة مجيدة، و روح شفّافة نقية، لها منامات عجيبة كثيرة لا يتّسع المقام لذكرها و سردها، إلّا أنّ من المناسب هنا أن نذكر ما يخصّ سيّدنا المترجَم له، و ذلك ما حدّثت به أيّام حملها بولدها الشهيد (قدّس سرّه) حيث رأت في منامها الصديقة الطاهرة (سلام اللّٰه عليها) جالسة في بستان واضعة في حِجْرها سيّد الشهداء (عليه السّلام) و هو طفل صغير.

و قد عبّروا لها هذا المنام بأنّ اللّٰه تعالىٰ سيرزقها ولداً ذَكَراً فحسب، و لم يكتشفوا أو لم يكشفوا لها تأويل رؤياها من بعد؛ تلك الرؤيا الصادقة، و أنّها ستلد ولداً عظيماً يستشهد، و يكون دمه ثورة على الطغاة المستكبرين، و مناراً للمجاهدين و المستضعفين.

نشأته العلميّة و عطاؤه المبكّر

نشأ الشهيد و ترعرع في ربوع قم المقدّسة و رحابها. اشتغل بدراسة العلوم العصريّة الحديثة في أوائل صباه حتّى ستّ سنوات، و بعدها اشتغل بطلب العلوم الدينية. و قد ارتدىٰ الزيّ العلمائي الخاصّ و هو ابن سبع عشرة سنة و ذلك بإصرار من والده العظيم.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 3

درس العلوم الأدبية بإتقان حتّى اجتهد فيها و أبدى رأيه السديد في قبال آراء علمائها المبرَّزين، و لو تصفّحت كتابه المُنيف «تفسير القرآن الكريم» لرأيت شواهد الصدق

علىٰ ما قلناه.

و بعدها شرع بدراسة العلوم الأُخرىٰ فقهاً و أُصولًا، رجالًا و حديثاً، فلسفة و عرفاناً. استطاع بذكائه الوقّاد و مثابرته الجادّة أن يُلمّ بهذه العلوم العميقة الدقيقة في فترة قياسية وجيزة.

درّس العديد من الكتب الدراسية العالية و كان موضع تقدير و حفاوة فائقين من طلّابه و مريديه، و قد غذاهم بعصارة روحه و خالص أفكاره. و قد أنهىٰ في مدينة قم المقدّسة دورة أُصولية مختصرة و لمّا يبلغ الثالثة و الثلاثين من عمره المبارك.

و أمّا في النجف الأشرف فقد ألقىٰ سماحته دورة أُصولية مفصّلة، نقد فيها آراء المحقّقين، و أبدى فيها آراءه الفذّة و تحقيقاته البكر؛ ممّا يدلّ علىٰ نضج علمي و إبداع فكري مبكّرين.

هذا، مضافاً إلىٰ دروسه الموسّعة في الفقه و التفسير التي كانت مثاراً للدهشة في العمق و السعة و الاستيعاب.

و مهما بالغنا في تمجيده و إطرائه فلسنا بالغين شأْو ما قاله فيه والده المقدّس الإمام الراحل طاب ثراه حيث قال في حقّ ولده حين بلغ الخامسة و الثلاثين: «إنّ مصطفى أفضل منّي حينما كنت في سنّه»، هذا، مع أنّ الإمام (قدّس سرّه) بلغ ما بلغ من تعلّم أُصول العلوم و فرغ منها في هذا السنّ، و هذه شهادة منه (قدّس سرّه) على اجتهاد ولده في شتّى العلوم المتعارفة، أُصولًا و فروعاً، معقولًا و منقولًا.

و كان من خصائص سيّدنا الشهيد ذكاؤه المفرط و دقّته النافذة و حافظته

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 4

المتميّزة، فقد كتب رسالة «لا ضرر» و هو في السجن لا يمتلك من المصادر غير ما في خزانة نفسه، و كتب بحث «الواجبات في الصلاة» و هو في منفاة في تركيا، و لم يكن في حوزته

غير «الوسائل» و «العروة الوثقىٰ» و «الوسيلة» المحشّاة. و قد تجلّت سعة حفظه و دقّة فكره في جلسة استغرقت حوالي الأربع ساعات كان السيّد الشهيد يُجيب فيها على أسئلة الحاضرين في العلوم المختلفة.

أساتذته الكرام

درس سيّدنا الشهيد على أعاظم علماء عصره، و حضر بحوثهم بجدارة و اقتدار و تفهّم و استيعاب، و كان من أجلّة أساتذته آية اللّٰه العظمىٰ السيّد البروجردي قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة.

و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد محمّد المحقّق الداماد (قدّس سرّه)، و آية اللّٰه العظمى السيّد الحجّة الكوهكمري (قدّس سرّه)، الذي عبّر عنه السيّد الشهيد ب «جدّ أولادي»، فإنّه تزوّج كريمة آية اللّٰه العظمىٰ الشيخ مرتضى الحائري (قدّس سرّه)، و كان هذا الشيخ صهراً لآية اللّٰه العظمىٰ السيّد الحجّة علىٰ كريمته، و لهذا عبّر المصنّف (رحمه اللّٰه) عن آية اللّٰه العظمى المؤسس الشيخ الحائري (قدّس سرّه)، أيضاً ب «جدّ أولادي». و كان تلمُّذُه في الحكمة و الفلسفة على آية اللّٰه العظمىٰ السيّد أبي الحسن الرفيعي القزويني (قدّس سرّه).

هذا لكن جُلّ استفادته كانت من والده السيّد الإمام العلّامة المحقّق في الأخلاق و اللغة و الفقه و الأُصول و المعقول و المنقول و العرفان و السلوك و تربية

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 5

ذوقه السليم في كشف أسرار العلوم و إدراك حقيقة الدين الإسلامي الناصعة و العلاقة الوثيقة بين الدين و السياسة و الوعي الاجتماعي و السياسي، ناهيك عن الفضائل الروحية و النفسية كالزهد و التقوىٰ و الشجاعة و غيرها.

و حضر عند أوّل وروده إلى النجف الأشرف بحوث علمائها المبرّزين كآية اللّٰه العظمىٰ السيّد الحكيم (قدّس سرّه) و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد الشاهرودي (قدّس سرّه) و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد الخوئي (قدّس

سرّه) و غيرهم، و كان حضوره حضور نقد و تدقيق و حصيلته رسالته المسمّاة ب «دروس الأعلام و نقدها».

مصنّفاته

عمر قصير في حساب الزمن، و لكنّه كبير في النتائج و الآثار، و كم من أعمار طالت بلا أثر يُذكر أو فائدة تُؤثر.

أيّ قلمٍ كان لشهيدنا العظيم سيّالٍ متدفّقٍ في فنون العلوم المختلفة و الدراسات العلميّة المتنوّعة؛ مُؤلّفات و مُصنّفات كبيرة و رسائل و حواشٍ كثيرة كتبها في قم المقدّسة و بورسا و النجف الأشرف، إلّا أنّه و للأسف قد ضاعت علينا كتبه التي صنّفها في قم المقدّسة حيث قد صادرتها حكومة الشاه العميل، بعد أن أقصته مع والده العظيم إلىٰ تركيا، و لم يبق لنا منها سوىٰ ما صنّفه في النجف الأشرف و بورسا؛ حيث جاءت بها إلى إيران المرأة الصالحة التي كانت تحظى بخدمتهم هناك، و آثرتها علىٰ حوائجها و لوازمها الخاصّة؛ خوفاً من ضياع ما رأته من مشاقّ تحمّلها سيّدنا الشهيد في سنين متمادية في حرّ النجف و ظروفه القاسية في آناء الليل و النهار.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 6

كتبه المفقودة:

1 القواعد الحكمية، و قد ارجع إليها كثيراً من المباحث العقليّة الفلسفيّة بل و المنطقيّة في كتبه.

2 رسالة «لا تعاد»، و هي رسالة مستوعبة مفصّلة.

3 الخلل في الصلاة، و هذا غير ما كتبه في النجف الأشرف المطبوع ضمن تراثه.

4 المختصر النافع في علم الأُصول، كتبه أثناء دورته الأُصوليّة الاولىٰ.

5 رسالة في قاعدة «لا ضرر».

6 رسالة في حديث الرفع.

7 رسالة في العلم الإجمالي، كتبها في «القيطرية» أثناء التبعيد.

8 كتاب الإجارة، و هو مجلّدان.

9 المكاسب المحرّمة، و هو جزء من كتابه الكبير «تحريرات في الفقه».

10 تتمّة كتاب البيع، و فيه الأبحاث الباقية من كتاب البيع المطبوع ضمن تراثه.

11 كتاب الخيارات، و هو المجلّدان الأوّل و الثاني من الخيارات.

12 رسالة في علم

الباري.

13 رسالة في الردّ علىٰ كتاب «الهيئة و الإسلام».

14 رسالة في قضاء الصلوات.

15 الفوائد الرجالية.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 7

16 كتاب الاجتهاد و التقليد، مفصّلة.

17 كتاب الصلاة، و الظاهر أنّه قسم من كتابه الكبير «تحريرات في الفقه»، و قد صرّح بكتابته لبعض مباحثه نحو «صلاة المسافر» و «القضاء عن الولي» و «صلاة الجماعة» و «أوقات الصلوات» و «مكان المصلّي» و «الأذان و الإقامة».

18 رسالة في «السرقفلية».

و له تعليقات كثيرة علىٰ عدّة من الكتب الأدبية و الفقهيّة و الرجاليّة و الفلسفيّة و العرفانيّة و قد صرّح ببعضها في مطاوي كتبه:

منها تعليقته علىٰ «شرح الرضي على الكافية».

و منها حاشيته علىٰ خاتمة «مستدرك الوسائل».

و منها تعليقته علىٰ كتاب «المبدأ و المعاد» لصدر المتألّهين.

كتبه المطبوعة:

اشارة

1 تحريرات في الأُصول.

2 مستند تحرير الوسيلة.

3 تفسير القرآن الكريم.

4 تعليقات على الحكمة المتعالية.

5 تحرير العروة الوثقىٰ.

6 تعليقة علىٰ العروة الوثقىٰ.

7 دروس الأعلام و نقدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 8

8 العوائد و الفوائد.

9 ولاية الفقيه: و هو قطعة من كتاب البيع المفقود بعض أجزائه.

تحريرات في الفقه

10 الطهارة.

11 الواجبات في الصلاة.

12 الخلل في الصلاة.

13 الصوم.

14 كتاب البيع من أوّله إلىٰ مبحث تعاقب الأيدي.

15 كتاب الخيارات و هو المجلّدان الثالث و الرابع.

أخلاقه و عبادته

العوامل الوراثية و البيئيّة و العائليّة لها الأثر الكبير علىٰ شخصيّة الإنسان كلّ إنسان، فهو ابن بيئته و ابن فواعله التربويّة و الوراثية، فلا عجب أن نجد شهيدنا الغالي يعيش قمّة الخلق الكريم و الفضائل الروحية، و النفسية و السلوكية و الكمالات الأخلاقية و العقلية، فقد عاش في بيت من بيوتات العلم و التقىٰ و الزهد و الهدى، تتلألأ لياليه بأنوار التبتّل و الانقطاع إلىٰ اللّٰه المتعال، كما تمتلئ ساعات نهاره بالعلم و الجهاد و معالي الأُمور، بيت يعيش همّ الإسلام و المسلمين بدون فتور أو انقطاع.

لأعجب أن نجد شهيدنا العظيم مجمعاً للفضائل و المكارم و قد كان مربّية بطل العلم و التقوىٰ و الجهاد، و قد تشرَّب من أجوائه التي عاشها بين يديه،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 9

أسمى الكمالات الروحية و المعنوية و أقدس المزايا و السجايا و أجلّ النعوت و أجمل الصفات.

إذا عرفت ذلك تعرف السرّ في حلول هذا الولد البارّ من نفس والده العظيم ذلك الموقع الخاصّ و المقام الرفيع، فكان يُشيد بفضائل ولده قولًا و عملًا، و يُشير إلىٰ مكانته العلمية و المعنويّة، و عُرف عنه (قدّس سرّه) أنّه لم يمدّ رجليه في حضرة ولده إكراماً و تبجيلًا له.

و قد عرف هذا الولد البارّ حقّ والديه، فلم يفعل شيئاً كرهاه، و كان يحترمهما إلىٰ حدّ التقديس، و كان يعلم ما لوالده العظيم من مقام روحي و علمي جليل، و أهداف إلهيّة عالية يعيش همّها بلا فتور ليله و نهاره في صمته و كلامه،

يجاهد في سبيل ربّه جهاداً كبيراً لا يعرف الكلل و لا الملل و لا الخوف و لا الضجر، و كان يُشير في كلّ مناسبة في أحاديثه و كتاباته بمقام والده الكبير الفقيه الحكيم و المجاهد العظيم. و سار الولد علىٰ مسار أبيه و اختطّ خطاه، و تبنّىٰ أهدافه و أمانيه، و جاهد كما جاهد أبوه بإصرار و شجاعة و عزم و ثبات.

و من الصفات الغُرّ لسيّدنا الشهيد أنّه كان شريفاً عفيفاً زاهداً عابداً قريباً من الناس محبوباً لديهم، كريماً محسناً محبّاً لأصدقائه مؤْثِراً للسمر معهم علىٰ سائر المُتع، و ربّما قضىٰ معهم الساعات الطويلة من الليل، ثمّ يُغفي إغفاءة يقوم بعدها لصلاة الليل و التضرّع و الابتهال لربّ العزّة و الجلال، ثمّ يعود بشغف و نشاط إلىٰ بحثه و تدريسه و تأليفه.

و هكذا كان عالماً عابداً مُجدّاً نشطاً، مواظباً على النوافل و الأدعية و الأوراد، ملتزماً بصلاة الجماعة، محتاطاً في تصرّفاته، خصوصاً فيما يتعلّق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 10

ببيت المال إلىٰ أبعد الحدود، و كان زاهداً في دنياه و راغباً في أُخراه.

جهاده السياسي

لا بدّ للمسلم المجاهد من علم بما يجاهد لأجله، و بالمحيط الذي يجاهد فيه، و بالعدوّ الذي يجاهده، كما لا بدّ أن يمتلك الأداة التي يجاهد بها؛ من قوّة مادّية و معنوية، و قبل ذلك أو مع ذلك لا بدّ له من قائد حكيم يؤمن بقيادته إيماناً مطلقاً.

لقد توافرت لسيّدنا الشهيد كلّ هذه المقوّمات التي صنعت منه مجاهداً عظيماً يعيش همّ الإسلام و المسلمين حتّى تكلّلت حياته بالشهادة ذلك الوسام الإلهيّ العظيم.

لقد كان (رحمه اللّٰه) عالماً بالشريعة الإسلامية، الخاتمة التي يجاهد من أجلها و كان مجتهداً فيها أُصولًا و

فروعاً.

و كان يعيش هموم المسلمين عن قرب و تفاعل، و محيطاً بمؤامرات العدوّ على الأُمّة الإسلامية بتفصيل و تتبّع، و كان يمتلك مع ذلك الشجاعة و الإيمان و الأعوان، و كان كلّ ذلك بفضل والده العظيم الذي أحسن تربيته و وفّر له مقوّمات المجاهد الشجاع، و كان (رحمه اللّٰه) يؤمن بقيادة والده العظيم و حكمته إيماناً مطلقاً، و قد غذّاه والده الحكيم منذ نعومة أظفاره بالعلم و التقوىٰ، و أنشأه علىٰ فهم الإسلام الحقيقي الناصع و شموليته و كماله و أصلحيته لقيادة الناس إلىٰ مرفأ الأمن و السلام و السعادة في الدنيا و الآخرة و علّمه منذ أوائل صباه أنّ السياسة جزء لا يتجزّأ من الإسلام؛ سياسة محمّد

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 11

و عليّ صلوات اللّٰه عليهما و آلهما، و ليست سياسة الأبالسة و الطغاة، سياسة الحقّ و العدل و الخير لعموم البشر، و ليس سياسة الخَتْل و الخداع و الظلْم و الضلال.

علّمه و هو صبيّ يافع ذكيّ متفتّح أنّ قيادة الناس و حكم البلاد فرض على عاتق الفقهاء العدول الأكفّاء في عصر الغيبة الكبرى، و لا بدّ للمسلمين أن يُلقوا لهم بالقياد، و أن يذعنوا لهم بالطاعة و الانقياد؛ حتّى يقودوهم لما فيه رضا بارئهم و سعادتهم، و عليهم أن يجاهدوا في سبيل اللّٰه تحت قيادتهم؛ حتى يُرغموا أُنوف الطغاة و ينتصر الإسلام و تكون كلمة اللّٰه هي العليا في الأرض كما في السماء.

لقد كان الشهيد السعيد ترجماناً صادقاً لآراء والده العظيم و معتقداته كما كان ساعده الفتي و مساعده الأمين في جهاده العظيم و نهضته الإسلاميّة المباركة. و يتبيّن لك صدق ما سمعت من خلال مواقفه السياسية الجهادية التي

وقفها، و إليك بعض النماذج المهمّة من تلك المواقف:

1 حيث قامت سلطات الشاه الغاشمة باعتقال الإمام الراحل (قدّس سرّه) لاعتقادها بأنّ عزل القائد عن الأُمّة كافٍ لإخماد الثورة التي ألهبها في نفوس الأحرار و الأخيار، و هنا قام الشهيد السعيد بدوره الفعّال في إلهاب مشاعر الأُمّة و قيادة جماهيرها الغاضبة من أجل تخليص قائدها العظيم من سجون الشاه العميل و تحريره من أيدي أزلامه الخونة.

2 و بعد أن ضاقت السلطات الغاشمة ذَرْعاً بالإمام الراحل و نشاطاته السياسيّة الواعية، و خطاباته الحماسية اللاهبة، و رأت في اعتقاله من قبلُ خطراً مُحدِقاً، عمدت إلىٰ تبعيده عن جماهيره الثائرة مؤمّلة أن تخبو جذوتها

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 12

المتّقِدة، فأقصته إلى تركيا و أخضعته هناك للرقابة التامّة.

فهل ترى سيّدنا الشهيد يقرّ له قرار أمام هذه الفعلة النكراء التي قامت بها السلطات الظالمة و طاغوتها المُتَفرعِن؟! لقد صعّد الشهيد السعيد من نشاطاته الجهادية و جهاده السياسي، فقام النظام الشاهنشاهي الغاشم باعتقاله و زجّه في ظلمات السجون، و تحت ضغط الجماهير المسلمة الغاضبة اضطُرّت سلطات الشاه المقبور إلىٰ الإفراج عنه بعد شهرين فقط. و ما أن شمّ نسيم الحرّيّة حتّى عاد المسلم الثائر إلىٰ نشاطه السياسيّ الفاعل، فكان بحقّ خليفة والده العظيم في قيادة الأُمّة، التي كانت تضطرم غضباً على الظالمين الآثمين بحقّها و بحقّ قائدها الأمين، فلم يجد النظام الطاغوتي الظالم بُدّاً من إقصائه عن وطنه و مَغْناه إلى تركيا حيث نُفي القائد الوالد.

3 و بعد أن حلّ أرض النجف الأشرف مع والده الحكيم و رغم كلّ الضغوط، كان يقوم في ظلّ والده القائد بدوره السياسي و واجبه الشرعي تجاه دينه و أُمّته؛ واكب الأحداث الساخنة

في الساحة السياسية في وطنه الإسلامي الكبير في إيران و العراق و سوريا و لبنان و سواها، و كان نائباً لوالده الإمام في إدارة شؤونه السياسيّة و قيادة الثورة في بلاده من بعيد بطريقة بِكْر و أُسلوب فذّ.

و سينشر المؤتمر المنعقد في الذكرى العشرين لشهادته تفاصيل مواقفه السياسية و نشاطاته الجهادية و دوره الرائد في ثورة الوالد القائد على الطغاة و المستكبرين.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 13

خاتمة حياته و جهاده

لقد أدرك العدوّ الحاقد خطر بقاء هذا المجاهد الثائر بخصائصه الفذّة إلىٰ جنب والده القائد العظيم، فأراد أن يفُتّ بعضد الإرادة الحديدية الصلبة و أن يثلم من العزم الراسخ و الجبل الشامخ و لم يكن يدور في خَلَده أنّ شهادة هذا المجاهد العظيم، ستكون سبباً للقضاء علىٰ عميل الغرب العتيد، و تقويض دعائم الحكم الوطيد لحارس مصالحه الأمين في الشرق الأوسط، كما أوضحنا ذلك من قبل.

لقد كان لاستشهاده (قدّس سرّه) ظلماً و غدراً وقع كبير و أثر بالغ في قلوب المؤمنين كافّة، و لكن ذلك الأثر البالغ يتضاعف علىٰ قلب والده العطوف العارف بخصائص ولده الفقيد، الذي نشأ علىٰ يديه الكريمتين، ولده الذي تربّى في حِجْره، و نشّأه علىٰ خطّه و فكره، و سقاه من نمير روحه و نوره، حتّى عقد آماله الكبار عليه، و لقد بكىٰ عليه بكاءً شديداً، و لكن لم يفتّ في عزمه، بل الهبة مِضاءً و عزماً أكيداً علىٰ محاربة الطغاة و المستكبرين و نصرة المستضعفين.

لقد قضى الشهيد السعيد نحبه في ظروف غامضة عام 1356 هجري شمسي عن عمر ناهز السابعة و الأربعين، فانطوت بذلك صفحة من صفحات الخلود، وَ وُوريَ إلىٰ جنب جدّه العظيم أمير المؤمنين و إمام المتّقين عليه

أفضل الصلوات و التحيّات، و انقضت بذلك حياة حافلة بالمآثر و الأمجاد زاخرة بالفضائل و الجهاد، فسلام عليه يوم ولد، و يوم جاهد فاستشهد، و يوم

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 14

يُبعث حيّاً، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

كلمة حول «تحريرات في الفقه»

الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ؛ قسم من الموسوعة الفقهيّة لآية اللّٰه العلّامة المحقّق السيد مصطفى الخمينيّ «قدّس سرّه الشريف» و قد أسميناه ب «تحريرات في الفقه» أخذاً ممّا ذكره (قدّس سرّه) في أثناء سائر مؤلّفاته.

و قد كتب معظمها في النجف الأشرف، و بعضها في قم المشرّفة، و قليلًا منها في تركيا، و هي تشتمل على كتاب الطهارة، و الصلاة، و الصوم، و المكاسب المحرّمة، و البيع، و الخيارات و الإجارة.

و قد ضاع و للأسف الشديد الكثير من أجزاء الكتاب، و لم نعثر إلّا على ذكر منها في مطاوي كلماته، أو السنة أصدقائه و تلامذته، و ما عثرنا عليه في الوقت الحاضر:

مباحث المياه، و بعض بحوث النجاسات.

و مباحث نيّة الصلاة، و بعض أحكام تكبيرة الإحرام، و عدّة بحوث في الخلل.

و مباحث نيّة الصيام، و بعض المفطرات.

و من أوّل كتاب البيع إلى مسألة تعاقب الأيدي.

و من أوائل بحوث خيار العيب إلى أواخر أحكام الخيار.

و قد قامت مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) بتحقيق تراثه الفقهيّ من التحريرات ضمن تسعة أجزاء، نرجو أن تنال رضا السادة الفضلاء

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 15

و الأعلام.

و لسنا بحاجة إلى التعريف بهذه البحوث، و الّتي هي كجميع بحوثه الفقهيّة و الأُصوليّة و العقليّة و التفسيريّة قد بلغت القمّة من حيث التحقيق و التدقيق و التتبّع، ممّا يوشك أن لا يراها المراجع

في غيرها، و ليس هذا إلّا لما حباه الباري سبحانه من الفهم، و سرعة الحفظ، و النبوغ، و الصفاء الروحانيّ، فكان ممّن جمع اللّٰه تعالى له بين الدنيا و الآخرة، و بين العلم و العمل، و حاز كلّ الكمالات الّتي يحتاجها الفقيه في الاستنباط.

و لا بأس بالإشارة إلى بعض الشواهد الناطقة بصدق ما ادعيناه، أداءً لبعض حقوقه، و كشفاً لما خفي على الخاصّة، فضلًا عن العامّة:

أ كان للشهيد المؤلّف (قدّس سرّه) قلم سيّال في مختلف العلوم الإسلاميّة، و كان مورداً للعناية و اللطف الربّانيّين، فقد كتب جميع تراثه الفكري في مدّة لا تتجاوز الخمسة عشر عاما، و بلغ ما وصلنا من آثاره الثمانية و العشرين مجلّداً، رغم إنّ الضائع هو أكثر من الموجود بأيدينا.

ب كلّ من يراجع إحدىٰ آثاره الثمينة في أيّ العلوم يخال إليه عكوف المؤلّف علىٰ تحقيق هذا الأثر فحسب، و لم يكن له شغل إلّا تنقيح هذه المباحث، مع أنّ تآليفه الفقهيّة كانت متزامنةً مع بحثه الأُصوليّ و التفسيريّ، و متقارنةً مع تعاليقه على الحكمة المتعالية، في الوقت الذي كان يتصدّى فيه لدفع الضغوط الواقعة على الأُمّة الإسلاميّة من قبل طاغوتي إيران و العراق، و يدافع عن حريم ساحة والده العظيم في مقابل بعض الملتفّين حول المراجع العظام.

ج على الرغم من توغّله في الأُصول و العلوم العقليّة، فقد دأب في

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 16

السير على ضوء السنّة الحنيفة، و لم يترك الأحاديث و الروايات المفتى بها و المشهورة لأجل أدنىٰ خدشة، أو خلل أُورد عليها.

د من يراجع مؤلّفاته (قدّس سرّه) يجده مجتهداً مؤسّساً مجدّداً في الكثير من آرائه و استدلالاته، و لكنّه مع ذلك ففتاواه موافقة لما

هو المعروف المشهور، و لم يتخذ فتوى شاذّة، أو فقهاً جديداً، بل صرّح في مواضع من كلماته: بأنّ مخالفة المشهور توهن جواز اتباع مرجع التقليد، فكان ذلك أصلًا اتبعه.

ه رأى أنّ كثرة احتياطات الفقهاء، توجب العسر و الحرج على المقلّدين المنفيّين في الشريعة السهلة السمحة، و أنّ الأصل هو السهولة و السماحة، و تمكّن من الجمع بين الاحتياط و عدم الخروج عن هذا الأصل الأصيل، الأمر الذي لا يتسنّى إلّا للأوحدي من الفقهاء المبدعين و المبتكرين.

و لم يتكلّف (قدّس سرّه) في استخدام الألفاظ، و لم يتفنّن في الإتيان بالعبارات، و تحرّز عن وضع اصطلاحات جديدة توجب صعوبة المطالب العلميّة و تعقيدها، بل سعىٰ إلىٰ بيان آرائه بأقلّ ما يمكن من الألفاظ، و أفنى اللفظ في المعنىٰ، و أوكل الكثير ممّا يلزم شرحه و توضيحه إلى فهم القارئ الفاضل، و لم ينقل من الأقوال و الاستدلالات إلّا محصّلها و مفادها، بل و هذّبها ممّا لا يليق بشأن قائله، و أدّاها ببيان آخر أوضح؛ علىٰ خلاف دأب الكثيرين ممّن جعلوا كتبهم استنساخاً لكتب الآخرين.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 17

عملنا في تحقيق الكتاب

1 مقابلة النسخة المستنسخة مع النسخة الخطّية للكتاب: و هي مسودّة بخطّ المصنّف (رحمه اللّٰه)، و هذه المخطوطة محفوظة مع سائر كتب المصنّف (رحمه اللّٰه) في المكتبة العامّة لآية اللّٰه العظمىٰ المرعشي النجفي (قدّس سرّه)، و نحن بدورنا نشكر سماحة حجّة الإسلام و المسلمين السيّد محمود المرعشي دام عزّه؛ لمساعداته الكثيرة التي قدّمها لنا.

2 تقويم النصّ و تقطيعه و تزيينه بعلائم الترقيم المناسبة: و هو جهد علمي و فنّي يتناسب مع طبيعة الكتاب المحقَّق من ناحية دقّة مطالبه و صعوبتها، و بذلك يستطيع القارئ الكريم

تقدير الجهد المبذول في هذا المجال بالنسبة لهذا الكتاب.

3 عنونة مطالب الكتاب: و حيث إنّ مخطوطة المصنّف الشهيد (قدّس سرّه) مسودّة لم يتناولها ثانية بالتصحيح و التهذيب، و لم يضع العناوين لجميع مطالب الكتاب؛ لذا فقد قمنا بوضع العناوين بحسب الحاجة في المواضع التي لم يعنونها المصنّف (رحمه اللّٰه).

4 تخريج الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة و أقوال العلماء.

و قد استعملنا كلمة «انظر» في الموارد التي لم نجزم بثبوت نسبة الأقوال إلىٰ أصحابها، كما استعملنا كلمة «لاحظ» في موردين:

الأوّل: حيث ينقل المصنّف (رحمه اللّٰه) أقوال العلماء نقلًا حدْسيّا.

الثاني: في الموارد التي لا نعثر علىٰ صاحب القول، و نعثر على

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 18

الناقل عنه.

5 إرجاعات المصنّف (قدّس سرّه): سواء كانت إلىٰ نفس كتابه سابقاً أو لاحقاً، أو إلىٰ كتبه الأُخرىٰ.

هذا، و قد قمنا بتحقيق هذا الكتاب و سائر كتب المصنّف الشهيد (قدّس سرّه) البالغة (28) مجلّداً، و أنجزناها بجميع مراحل التحقيق من المقابلة و التخريجات البالغة مائة ألف تخريج و التقويم و التقطيع و غيرها في فترة زمنيّة قصيرة جدّاً قياساً مع العمل الضخم المنجز، و قد تمّ بتوفيق اللّٰه عزّ و جلّ حيث أمدّنا بعونه و لطفه، و بجهد مجموعة من الأفاضل باذلين غاية وُسعهم في إخراجه بأحسن وجه أمكنهم.

و في الختام نرفع إلىٰ مقام المؤلّف الشهيد العلّامة (قدّس سرّه) و إلى حضرات الأعلام و الفضلاء اعتذارنا ممّا قد يُعثر عليه من خلل أو زلل في عملنا، و عذرنا في ذلك رغبتنا في إتحاف الملأ العلمي الكريم بمجموعة مصنّفات العلّامة الشهيد (قدّس سرّه) القيّمة، و ذلك بمناسبة الذكرى السنويّة العشرين لشهادته.

و لا يفوتنا في هذا المقام أن نشكر فضيلة الأخ

الجليل الشيخ محمّد حسين ساعي دام عزّه على عظيم جهوده المشكورة التي بذلها في هذا السبيل، أجزل اللّٰه ثوابه و شكر مساعيه.

مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) فرع قم المقدّسة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 1

الجزء الأول

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و صلّى اللّٰه تعالىٰ على الرسول الكريم، و علىٰ آله الطيّبين الطاهرين، و لعنة اللّٰه علىٰ أعدائهم أجمعين

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 3

كتاب الطهارة

اشارة

و هو مشتمل علىٰ مقاصد

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 5

المقصد الأوّل في المياه و أحكامها

اشارة

و فيه مقدّمة، و مباحث، و فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 7

مقدّمة
في تقسيم الماء و معناه

قد تعارف بينهم تقسيم الماء إلى المطلق و المضاف، و هذا التقسيم بلحاظ الأحكام المختلفة الطارية عليه، و ليس المقصود إلّا ذكر أنّ المائعات الخارجيّة؛ بين ما هو الطاهر المطهّر كالماء الخالص، و بين ما هو الطاهر بالذات، و ليس بمطهّر، كالماء المخلوط بغيره من أجزاء المأكولات كالرقّي و البطيخ، و من غيرها كالتراب و نحوه، و كالدبس المائع و الزيت و النفط و العطر و سائر الأعراق المتّخذة من النباتات، من غير كونها من الماء المضاف الاصطلاحيّ، مع أنّها أقرب إلىٰ إطلاق «الماء» عليها من غيرها و لو مجازاً.

فهذا التقسيم ناظر إلىٰ بيان أمر واقعيّ، من غير نظر إلىٰ خصوصيّات اللّغات، من الحقيقة و المجاز.

و لا يلتزم المقسِّم بأنّ الإطلاق قيد الماء المطهّر، مع أنّه لا بدّ منه في حصول القسمة حقيقةً.

و لا يلتزم بأنّ المضاف هنا هو معنى الإضافة التي هي النسبة، بل

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 8

مقصوده معلوم من الخارج.

و لا يلتزم بأنّ ماء البحر و البئر من المضاف أيضاً، فهذا التقسيم صحيح مع الغمض عن هذه الأُمور.

و العجب، أنّ قوماً توهّموا أنّ المقسم هو الجامع بين الحقيقة و المجاز!! «1» مع أنّه ممّا لا معنىٰ له إلّا بأن يقال: إنّ لفظ «الماء» كما هو موضوع للماء الخالص، موضوع للمائع القابل للصدق عليه و على المضاف؛ إمّا بنحو الحقيقة، أو بنحو المجاز، أو بنحو الادعاء بأن يكون المقسِّم مدّعياً أنّ الماء المضاف من الماء حقيقة؛ و أنّ الماء له أفراد، منها الخالص، و منها المخلوط، فعليه يكون التقسيم صحيحاً، و مستلزماً لصدق

«الماء» المقسمي على الأقسام بنعت الحقيقة على الفرضين، أو المجاز على الفرض الثاني.

معنى الماء المطلق و المضاف

ثمّ إنّهم لعدم وقوعهم في مواقف الشبهات في الإشكال، بنوا علىٰ تعريفه: «بأنّه ما يستحقّ أن يطلق عليه اسم «الماء» عرفاً من غير قيد و إضافة» «2».

و كأنّه لو لم يكن هذا التعريف له، يقعون في حيص و بيص، مع أنّ

______________________________

(1) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 109، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 11 و 12، مهذّب الأحكام 1: 123.

(2) شرائع الإسلام 1: 24، إرشاد الأذهان 1: 235، جواهر الكلام 1: 61.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 9

الأمر ليس كذلك، بل المناط علىٰ ما هو الماء، و يكون هو طبيعته، سواء كان إطلاق لفظ «الماء» عليه حقيقة، أو مجازاً و محتاجاً إلى القرينة، أو أُطلق عليه اللّفظ الآخر.

و بالجملة: الأمر سهل، و سيأتي البحث حول الأُصول العمليّة عند الشكّ في الصدق و المصداق إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

فالماء المطلق: هو ما ليس الإطلاق قيده، بل هو الطبيعة المائيّة الخالصة عن الأشياء الأُخر، الموجبة لانقلاب تلك الطبيعة إلىٰ طبيعة أُخرى؛ بحيث تغايرها، أو تكون هي معها.

و الماء المضاف: هو المائع الأعمّ من كونه سيّالًا بالماء، كماء الورد و غيره، أو سيّالًا بذاته، كالزيت و نحوه؛ فإنّ الجامع المزبور هو السيلان و الميعان القابل للصدق عليها أيضاً، فلا تغفل و تدبّر.

و عدم إطلاق لفظة «الماء المضاف» على اللّبن، لا يورث إشكالًا في هذه المسألة، و إلّا يلزم أن يكون ماء الورد من الماء المضاف في العربيّة، دون الفارسيّة؛ لأنّه يسمّى فيها ب «گلاب» مع أنّه أظهر المصاديق القريبة من الماء، حتّى حكي «2» عن الصدوق القول بمطهّريته «3»، فلا ينبغي الخلط

بين ما هو المقصود الأصيل في مثل هذا التقسيم، و بين خصوصيّات اللّغات التي لا بدّ منها لضيق اللّغة و الخناق.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 99 و ما بعدها.

(2) جواهر الكلام 1: 311، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 111 112.

(3) الفقيه 1: 6، الأمالي: 514، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 10

كما لا ينبغي الخلط بين ضرب القواعد الكلّية الشرعيّة التي هي المرجع عند الشكّ، و بين تعريف الماء على أن يكون مرجعاً في الشبهات؛ ضرورة أنّ الشكّ في الماء- سواء كان لأجل الشبهة المفهوميّة، أو المصداقيّة إذا كان له منشأ عقلائيّ، لا يمكن رفعه بهذا التعريف؛ لأنّ مرجع هذا التعريف تشخيص العرف أيضاً، نعم الوسواسيّ يرجع إليهم، فلا تغفل.

في أقسام الماء المطلق و أنّها عشرة

ثمّ إنّ المعروف بين جماعة تقسيم الماء: إلىٰ جارٍ، و محقون، و ماء بئر، و تقسيم المحقون: إلى الكثير، و القليل، و لمّا كان المقسم عندهم ماء الأرض، لم يتعرّضوا لماء المطر «1»، مع أنّ الأمر علىٰ خلافه؛ لأنّه منها أيضاً.

و قد عدل السيّد اليزديّ (رحمه اللّٰه) إلىٰ تقسيمه: بالجاري، و النابع غير الجاري، و البئر، و المطر، و الكرّ، و القليل «2».

و هذا ممّا لا يخفى ما فيه من الإشكالات؛ فإنّه- على الظاهر قسّمه باعتبار الأحكام، فكان ينبغي أن يترك النابع غير الجاري، كما ترك ماء الحمّام.

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 71 و مابعدها، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 26، فصل في المياه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 11

و لو كان بصدد ذكر العناوين المعروفة و إن كانت متّحدة في الأحكام، فما كان وجه لطرح الماء المستعمل في الأحداث

و ماء الحمّام.

و قد عدل عنه السيّد الأصفهانيّ (رحمه اللّٰه)، فترك الكرّ و القليل، فصارت الأقسام خمسة؛ بإضافة الماء الراكد «1»، و الأمر سهل.

و الذي هو التحقيق: ذكر جميع المياه بعناوينها من غير نظر إلى الأحكام؛ لأنّه من الممكن تفاوت آرائهم فيها، فهو الجاري، و النابع الراكد، و البئر، و المطر، و الحمّام، و الكثير، و القليل، و المستعمل في الأحداث.

و إن شئت أضف إليها الماء المشكوك، حتّى تكون هي العشرة الكاملة؛ لأنّ المراد من «المشكوك» أعمّ من الشكّ في خصوصيّات هذه المياه، أو الطهارة و النجاسة، فتدبّر.

______________________________

(1) وسيلة النجاة 1: 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 13

المبحث الأوّل في مطهّرية المياه المطلقة
اشارة

و فيه فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 15

الفصل الأوّل في محتملات عدم مطهّرية ماء البحر
اشارة

لا شبهة في مطهّرية الماء في الجملة، و لا منع من ادّعاء الضرورة عليه، و عليه اتفاق جميع الملل، و أمّا كون جميع أقسامه مطهّرةً من جميع الأحداث و الأخباث، من الضروريّ في الدين- كما يظهر من «الجواهر» «1» و هو صريح بعض آخرين «2» فهو محلّ منع.

و ما توهّموه من: أنّ عبد اللّٰه بن عمر، و عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص، من القائلين بعدم مطهّرية ماء البحر، و هكذا سعيد بن المسيّب «3»، فهو لعدم التدبّر في خصوصيّات كلامهم:

قال الشيخ في «الخلاف»: «مسألة: يجوز التوضّي بماء البحر مع

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 62.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 25، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 4، مهذّب الأحكام 1: 124.

(3) جواهر الكلام 1: 62، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 16

وجود غيره من المياه، و مع عدمه، و به قال جميع الفقهاء. و روى عن عبد اللّٰه بن عمر و عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص أنّهما قالا: التيمّم أحبّ (أعجب) إلينا منه. و قال سعيد بن المسيّب: يجوز التوضّي به مع عدم الماء، و لا يجوز مع وجوده» «1» انتهىٰ.

بيان عدم مطهّرية ماء البحر لأجل الشبهة الموضوعية

و التدبّر في المسألة يورث أنّهم لمكان الشبهة الموضوعيّة، قالوا بذلك، و كأنّ رأيهم في المسألة طوليّة ماء البحر بالنسبة إلى التراب، أو كأنّ هذا رأي الأخير، و رأيَهما طوليّة التراب بالنسبة إلىٰ ماء البحر، أو عرضيّتهما.

و هذا لما كانوا يرون فيه من الأملاح الكثيرة المورثة للشبهة في صدق «الماء» عليه، و لأجل ذلك الاشتباه أفتوا بأنّ الوضوء أوّلًا بالماء، ثمّ بماء البحر، ثمّ بالتراب، أو أفتى الأوّلان

بأنّه أوّلًا بالماء، ثمّ بالتراب أو ماء البحر؛ و ذلك لكلمة «أحبّ» أو «أعجب» في كلماتهم، و لقوله: «يجوز التوضّي بماء البحر مع عدم الماء».

فلو كان ماء البحر عنده ماءً، لكان ينبغي أن يقيّد كلامه؛ حتّى يعلم أنّه يرىٰ ماء البحر ماءً، فيعلم منه أنّه ما كان يجد صدق «الماء» علىٰ ماء البحر، و كانت فتواه في المسألة- و هي ما لو كان فاقد الماء واجد ماء

______________________________

(1) الخلاف 1: 50، و لاحظ أيضاً: المغني، ابن قدامة 1: 8، المحلّىٰ 1: 359، المجموع 1: 91، سنن الترمذي 1: 47.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 17

البحر، فهل يتيمّم، أو يتوضّأ؟ أنّه يتوضّأ، فكأنّه كان يقول بمطهّرية الماء طولًا لا عرضاً؛ و ذلك إذا كان أحد المياه مشتبهاً في الإطلاق، فلاحظ و تدبّر، و الأمر سهل.

بيان عدم المطهّرية لأجل الشبهة الحكميّة

ثمّ إنّ من المحتمل كون فتواهم في المسألة، لأجل الشبهة الحكميّة؛ و ذلك لأنّ المياه عندهم علىٰ قسمين: ماء الأرض، و ماء السماء، فجميع الأنهار و الآبار و المنابع و غيرها من ماء السماء، أو من السماء و لو كان من الثلج و (البرف) و ماء البحر من الأرض، و لا دليل علىٰ مطهّريته في الكتاب، و ما كان عندهم من السنّة شي ء.

و هذا في حدّ نفسه و إن كان غلطاً، إلّا أنّه ليس من الأمر الغريب، بعد ظهور الآيات الآتية في الأُمور الأُخر، أو مطهّرية ماء السماء.

نعم، فتواهم بالطوليّة كانت لأجل الأُمور الأُخر الموجودة عندهم، فلا يعدّ هؤلاء من مخالفي مطهّرية الماء على الفرض الأوّل، و لا من منكري الأمر الضروريّ على الفرض الثاني، بل غاية ما يظهر منهم؛ أنّهم يقولون بمطهّرية بعض المياه في طول المياه الأُخر،

أو في عَرْض التراب.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 18

الفصل الثاني في بيان المقصود من مسائل المياه
اشارة

لا شبهة في أنّ الماء طاهر، و ليس هذا هو المقصود في مسائل المياه، حتّى يذكر عليه الدليل من الكتاب و السنّة، و إلّا يلزم عقد الباب لجميع الأشياء، فهذا ليس مورد الدعوىٰ، كما لا حاجة إلىٰ ذكر الأدلّة علىٰ مطهّرية الماء في الجملة.

فالمقصود في المقام، إثبات مطهّرية جميع المياه، و إثبات أنّ مطهّريتها مشروطة بالطهارة؛ أي يعتبر في كونها مطهّرةً الطهارةُ، و عدمُ كونها نجسةً بالملاقاة كما في القليل، و بتغيّر أوصافها الثلاثة كما في غيره، و إثبات أنّ جميع المياه في عَرْض واحد في تلك الخاصيّة و الإفادة.

توهّم الملازمة بين مطهّرية الماء و طهارته و الجواب عنه

و توهّم: أنّ إثبات المطهّرية يستلزم إثبات الطهارة؛ لعدم معقوليّة التفكيك، أو عدم معهوديّته «1»، في غير محلّه؛ لأنّ الطهارة لو كانت من الأُمور الجعليّة الاعتباريّة- كما اختاره جماعة «2» يمكن أن لا تكون

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 70، جامع المدارك 1: 1 2، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 17.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 248، فوائد الأُصول 4: 401، نهاية الأفكار 4: 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 19

مجعولةً على الماء، و جعل المطهّرية لا يستلزم جعل الطهارة استلزاماً لغويّاً، و إلّا لم يصحّ إطلاقها علىٰ ما لا يصحّ إطلاق اسم «الطاهر» عليه، كالإسلام و النار و الانقلاب و الاستحالة، فإنّها من المطهّرات واقعاً من غير كونها طاهرةً، بل إطلاق «المطهّر» على الغسل و الوضوء و التيمّم، أيضاً من هذا القبيل كما لا يخفىٰ.

و لا ملازمة خارجيّة بينهما؛ لإمكان كون الماء النجس بالدم، مطهّراً للمتنجّس بالبول، فلا بدّ من إقامة الدليل على الشرطيّة المذكورة.

و ما أفاده الفقيه اليزديّ بعد ذكر المياه بقوله: «و كلّ منها مع عدم ملاقاة النجاسة، طاهر مطهّر

من الحدث و الخبث» «1» انتهىٰ، غير ظاهر؛ لأنّ غير القليل يطهّر و لو لاقىٰ النجس، و كونُ المقصود منه المعنى الأعمّ من الملاقاة التي تورث النجاسة بنفسها كما في القليل، أو توجب النجاسة لأجل تغيّر الماء بها في الأوصاف الآتية، لا يجوّز هذا الاستعمال الفاسد قطعاً.

هذا، و إثبات أنّه طاهر غير كافٍ عن إثبات اشتراط مطهّريته بالطهارة، مع أنّه- علىٰ ما أُشير إليه غير محتاج إليه.

فتحصّل: أنّ في المسألة ثلاث دعاوٍ: مطهّرية كلّ ماء، و اشتراطها بالطهارة، و أنّ هذا حكم عَرْضيّ لا طوليّ، خلافاً لجماعة من العامّة «2».

ثمّ بعد ذلك دعويان أُخريان: و هو أنّه مطهّر لكلّ الأحداث، و الأخباث.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 26 فصل في المياه.

(2) تقدّم في الصفحة 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 20

الفصل الثالث فيما يستدلّ به علىٰ مطهّرية المياه
اشارة

و هي الآيات و الروايات:

الآيات المستدلّ بها علىٰ مطهّرية المياه
[الآية الأولى]
اشارة

منها: قوله تعالىٰ في سورة الفرقان وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1».

و الكلام فيه من جهات:

فتارة: من جهة «الإنزال»، و أُخرى: من جهة إفادتها العموم، و ثالثة: في كلمة «الطهور».

و البحث في الجهة الأخيرة:

تارة: يكون في مادّة «الطهارة».

و أُخرى: في هيئة «الطهور».

و ثالثة: في مفاد الآية الكريمة.

و رابعة: فيما ورد في الروايات من استعمال كلمة «الطهور»، الدالّ علىٰ أنّ استعمال الكتاب استعمال خاصّ «2».

______________________________

(1) الفرقان (25): 48.

(2) وسائل الشيعة 1: 133 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 4 و 8 و 9 و 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 21

جهات البحث في مادّة الطهارة

و البحث في المادّة من نواحٍ شتّىٰ؛ لأنّه قد يكون حول أنّ الطهارة و النجاسة من الأُمور الحقيقيّة التي كشف عنها الشرع الأقدس، أو الاعتباريّة المجعولة، أو هي من الأُمور المعلومة العرفيّة، إلّا أنّ الشرع تصرّف فيها توسعةً و تضييقاً.

و قد يكون حول أنّ الطهارة و النجاسة من الضدّين لا ثالث لهما، أو من العدم و الملكة، أو كالعدم و الوجود من السلب و الإيجاب، أو لهما الثالث؛ لما أنّهما اعتباريّان مجعولان، أو تكون الطهارة مجعولة، دونها.

و قد يكون حول أنّ هذه المادّة، تقبل الاشتداد و الضعف بقول مطلق و لو كانتا من الاعتباريّات؛ لأنّ الأُمور الاعتباريّة لا تقبل الاشتداد و الضعف الحقيقيّ، دون الاعتباريّ، فتكون للملكيّة مراتب شديدة و ضعيفة كما صرّح به جماعة «1»، و منهم الفقيه اليزديّ في «ملحقات العروة» «2» أو لا تقبل إلّا على القولين الأوّل و الثالث.

أو يقال: بإمكان فرض التفاضل فيها، إلّا أنّه خلاف الواقع؛ فإنّ اعتبار التزايد و التفاضل يتقوّم بالغرض، فلو وجدنا الثمرة فهو، و إلّا فلا حاجة

______________________________

(1) بلغة الفقيه 2: 70، الإجارة، المحقّق الرشتي: 13/ السطر 34، و لاحظ حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 1: 32/ السطر 20.

(2) لم نعثر عليه في ملحقات العروة الوثقىٰ، لاحظ حاشية المكاسب، قسم الخيارات: 4/ السطر 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 22

إليه، فلا ينبغي الخلط بين الأُمور التكوينيّة و الاعتباريّة، و لا بدّ من التأمّل جدّاً.

هذا، و حيث إنّ الآية قاصرة عن إفادة مطهّرية جميع المياه- و لو قلنا: بأنّ «الطهور» هو المطهّر و أنّ «الإنزال» أعمّ من الإنزال المحسوس فلا وجه للغور في المباحث المشار إليها، و سيأتي في مطاوي المباحث الآتية ما يظهر لك من التحقيق فيها.

عدم دلالة الآية على مطهّرية المياه

و توهّم: أنّها مع إلغاء الخصوصيّة، أو القول بعدم الفصل، تفيد العموم «1»، غير نافع لما سيأتي، بل المتأمّل فيما قبلها و ما بعدها، يطمئنّ بأنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، و لذلك لا بأس بذكرها، فاستمع إليها:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبٰاساً وَ النَّوْمَ سُبٰاتاً وَ جَعَلَ النَّهٰارَ نُشُوراً. وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً. وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبىٰ أَكْثَرُ النّٰاسِ إِلّٰا كُفُوراً «2».

و أنت بعد التدبّر، تعرف أنّها في مقام الاحتجاج على المبدأ الأعلى؛

______________________________

(1) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 111، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 10.

(2) الفرقان (25): 47 50.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 23

و أنّه كما يرسل الرياح فكذا يرسل و ينزّل الماء الطهور؛ لإحياء الأراضي الموات، فالطهارة هنا صفة في الماء صفةً ذاتيّة، من غير نظر إلىٰ مطهّريته للأفراد من

الخبائث و الأحداث.

و بعبارة اخرىٰ: المطهّرية من صفات الماء، و ليست مجعولة عليه و إن أمكن سلبها عنه، كما في الماء النجس، فهي لتلك الجهة قابلة للجعل، بخلاف الطهور، فإنّه من الصفات الطبيعيّة له، فكأنّه أُريد هنا بيان الوصف الطبيعيّ، الذي عليه يترتّب سقي الأراضي و الناس الكثير.

و في قوله أَنٰاسِيَّ كَثِيراً شهادة علىٰ أنّ الماء فيه هو ماء المطر و طائفة من المياه، لا مطلقه، فالآية إمّا أجنبيّة عن مسألتنا، أو قاصرة عن إفادة المقصود بعد ما ورد في ذيلها قطعاً.

هذا مع أنّه لا يفيد العمومين الأخيرين؛ و هو مطهّريته من جميع الأحداث، و الأخباث، فربّما يكون مثل الشمس، فإنّها مطهّرة لغير المنقولات، علىٰ ما تقرّر في محلّه «1».

و ما ذكرناه لا ينافي كون الآية في مقام الامتنان؛ لأنّ الماء المنزل هو الذي فيه الخواصّ الكثيرة المترتّبة عليها، مع أنّها في مقام الهداية و إرشادهم إلى الاعتقاد باللّٰه تعالىٰ و كتبه و رسله، لا المنّة، فإثبات عمومه من تلك الجهة ممنوع جدّاً.

______________________________

(1) لاحظ جواهر الكلام 6: 253 266، العروة الوثقىٰ 1: 129 الثالث من المطهّرات، تحرير الوسيلة 1: 130.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 24

ردّ توّهم عدم دلالة «الطهور» على المطهّرية

و توهّم: أنّه لو كان «الطهور» بمعنى «المطهّر» لا يفيد أيضاً شيئاً؛ لأنّه مطهّر من القذارات العرفيّة، و لا يعهد من النجاسة و الأحداث الشرعيّة في صدر الإسلام، عين و لا أثر «1»، فاسد جدّاً؛ لأنّ قصرها بها يحتاج إلىٰ دليل، فلو عدّ في الإسلام شي ء قذراً و لو في الأعصار المتأخّرة، فهو يطهّر به كسائر الموضوعات المستحدثة.

مع أنّ مسألة الجنابة و النجاسة الشرعيّة بنحو الإجمال، كانتا بين المسلمين، كما يأتي ذيل الآية الثانية.

فتحصّل: أنّ إطالة الكلام

في المقام حول كلمة «الطهور» من حيث المادّة و الهيئة التصوّرية، ثمّ الهيئة التصديقيّة من الآية، ممّا لا حاجة إليه، و كونُها في استعمال الروايات بمعنى المطهّر، لا يبلغ إلىٰ حدّ يورث الاستعمال الخاصّ في لسان الكتاب، حتّى ينقلب من الحقيقة اللّغوية إلى الحقيقة الثانية في محيط التشريع، كما قيل بذلك في كلمة «السهو» «2» فإنّه كثيراً ما استعمل مقام الشكّ، بحيث صار حقيقة فيه في محيط الأخبار.

هذا، و الذي يظهر لي: هو أنّ «الطهور» صفة مشبّهة فيه من المبالغة، و لا تتقوّم المبالغة بالتزايد و التفاضل الواقعيّ، بل هي في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 130.

(2) مرآة العقول 15: 227، الحدائق الناضرة 9: 293، جواهر الكلام 12: 418.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 25

موقف الدعوىٰ تكون مبالغة، و إلّا فهو الوصف، و لذلك يشكل حكمه؛ لاحتمال كونه كذباً جائزاً، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

تقريب الاستدلال بالآية الثانية على المطهّرية
اشارة

و منها: قوله تعالىٰ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدٰامَ «1».

و قد يتوهّم: أنّ الإنزال أعمّ من النزول الحسّي «2»؛ لما ورد في الكتاب ما يتعيّن فيه، مثل قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «3» و نظائره كثيرة، فلا يختصّ الإتيان بماء المطر من تلك الجهة، بل يعمّ جميع المياه، مع أنّ جميع المياه إلّا ماء البحر- حسب ما يستفاد من الآية «4» و الرواية «5» من ماء المطر، فيتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل «6».

______________________________

(1) الأنفال (8): 11.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 9 10، التنقيح

في شرح العروة الوثقىٰ 1: 18.

(3) الحديد (57): 25.

(4) وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ المؤمنون (23): 18.

(5) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السّلام) في قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ: فهي الأنهار و العيون و الآبار، تفسير القمّي 2: 91.

(6) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 9 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 26

و هذا ممنوع جدّاً؛ لأنّ «الإنزال» ظاهر في المحسوس، و ليست الاستعمالات في الأعمّ بالغة إلىٰ حدّ الهجر و اكتساء المعنى الآخر؛ لما فيها القرائن فلاحظ، و إتمامُ القول في ماء البحر بما مرّ، غيرُ إثبات العموم بالكتاب كما عرفت.

و مثله توهّم: أنّ الآية في مقام الامتنان، و «الماء» فيها نكرة، و لا امتنان معها؛ لأدائه إلىٰ تعطيله في التطهير، فيكون مفادها العموم «1».

و فيه: أنّ الامتنان فيما كان الضيق من قبل صاحب المنّة غيرَ مأنوس، و ليس «الماء» نكرة؛ لأنّ ماء المطر هو القدر المتيقّن من المقصود في الآية، و مجرّد كون الكلمة نكرة لا يفيد شيئاً، و لا يضّر بالمطلوب.

مع أنّ السنّة إذا عيّنت الماء فيها في المطر، يتمّ الامتنان، و لا يستلزم العموم، و قد ورد في الحديث المعتبر عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في خواصّ ماء المطر مذيّلًا فيه، قراءتُه (عليه السّلام) هذه الآية «2»؛ علىٰ وجه يعيّن فيه ذلك «3».

و دعوىٰ: أنّ ماء المطر له مصاديق كثيرة، و هو أيضاً مجهول من تلك الجهة، فلا ثمرة في تلك المنّة، غير مسموعة؛ ضرورة أنّ العرف لا ينتقل ذهنه منها إلى الأفراد، بل يفهم منها نوع الماء.

هذا

مع أنّ المقدّمات السابقة، تفيد عموم المطلوب في ماء المطر، دون غيره كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 19.

(2) الأنفال (8): 11.

(3) الكافي 6: 387/ 2، وسائل الشيعة 25: 266، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المباحة، الباب 22، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 27

دلالة الآية على مطهّرية ماء السماء من جميع الأخباث

ثمّ إنّ كون الماء المذكور مطهّراً لجميع الأخباث و الأحداث- خصوصاً الشرعيّات الاعتباريّة الملتحقة بالعرفيّات النافذة في غاية الإشكال، فلعلّه المطهّر للأنجاس العرفيّة و القذارات، و لموجبات تنفّر الطباع البشريّة؛ من غير نظر إلىٰ هذه المسألة، فتكون أجنبيّة عن الجهة المقصودة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ التحقيق في مسألة الطهارة و النجاسة، أنّهما من الأُمور العرفيّة، و لا دخالة للشرع الأقدس إلّا في إلحاق بعض الأُمور بها، كالخمر و الخنزير و الكافر، و عدم ترتيب الأحكام علىٰ بعض منها، كالنخاعة و نحوها، و إلّا فما هو المستقذر عرفاً المعبّر عندهم عنه ب «النجس» ليس إلّا ما هو عند الشرع نجس و موضوع الأحكام، و ليست كلمات «النجاسة» و «الجنابة» و «الطهارة» من المستحدثات الشرعيّة، بل هي تستعمل عنده فيما يستعمل عندهم.

فعلى هذا، يكون الماء مطهّراً عن مثل البول و المنيّ و العَذِرة، و هي الأنجاس الشرعيّة أيضاً، و تكون من المستقذرات العرفيّة، و يتمّ في الباقي بالحكومة الشرعيّة؛ لأنّ الشرع عبّر عن جميع ما رتّب عليه أحكام النجاسة ب

القذر

و ذلك لنقل العرف منه إلىٰ أحكام القذر الثابتة عندهم؛ من الاجتناب، و تصرَّف أحياناً في كيفيّة الاجتناب و التطهير،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 28

و ذلك في قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «1».

فإنّ المقصود من

القذر

هنا الأعمّ من

القذارات العرفيّة، و ممّا ادّعي أنّه قذر، فإذا كان الماء في الآية مطهّراً للقذارات العرفيّة، يكون مطهّراً لجميع القذارات الشرعيّة أيضاً، فتأمّل جيّداً.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ ماء السماء مطهّر لجميع الأخباث.

دلالة الآية علىٰ مطهّرية ماء السماء من جميع الأحداث

و أمّا كونه مطهّراً من الحدث، فذلك لما ورد في وجه نزول الآية من احتياج أصحاب النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلى الماء في غزوة بدر، و قد سبقهم الكفّار إلى الماء «2»، فوسوس إليهم الشيطان؛ بأنّ الإسلام كيف يصنع بكم من أن تصلّوا مجنبين و محدثين، و عدوّكم على الماء سيقوىٰ عليكم و يقتلكم، فنزلت الآية في تلك الوسوسة و ذلك الموقف، فيكون دالّا علىٰ مطهّرية الماء من الحدث أيضاً، بل المتعارف ابتلاؤهم بالنجاسات المنويّة و البوليّة و الغائطيّة، فتكون هي زائلة أيضاً بها.

اللهمّ إلّا أن يقال: لم يثبت نجاستهم الشرعيّة في عصر الآية، و لذلك ليس من وساوس الشيطان أنّهم يصلّون في الثوب النجس.

أو يقال: إنّ قوله تعالىٰ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ إشارة إلى

______________________________

(1) المقنع: 15، مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 4.

(2) التبيان في تفسير القرآن 5: 86، بحار الأنوار 19: 222.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 29

الجنابة؛ لأنّها منه، و يكون قوله تعالىٰ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» من الخبث، و هذا تطهير من الحدث، و اللّٰه العالم.

الآية تقتضي كون جميع المياه من السماء

فبالجملة: يثبت بهذه الآية مطهّرية ماء السماء لكلّ الأحداث و الأخباث، و مقتضى الآية الأُخرىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ «2» و بعضِ النصوص «3»، أنّ جميع مياه الأرض- غير البحر من السماء، فيثبت مطهّرية جميع المياه لجميعها.

و ليس مفهوم ماء المطر في الكتاب، حتّى يقال: بأنّ ماء البئر مثلًا و ماء الشطّ ليس منه، بل المطهّر هو ماء السماء، و المياه الأُخر منه أيضاً.

و كون ماء البحر أيضاً منه يستلزم بعض

الإشكالات، و التحقيق في محلّه.

و حاصله: أنّه ممّا لا منع منه عقلًا؛ لأنّ التسلسل في المعدّات من الجائز عقلًا و برهاناً، و مقتضى عموم الآية أنّ جميع المياه من السماء حتّى ماء البحر، و عدم وجود أداة العموم في هذه الآية، لا يورث عدم الاستفادة منها عرفاً، فليتدبّر.

و إن شئت قلت: إلغاء الخصوصيّة و مناسبة الحكم و الموضوع و الأولويّة و مفهوم الموافقة و أمثال ذلك، يقضي بأنّ الدليل متكفّل للمعنى

______________________________

(1) الأحزاب (33): 33.

(2) المؤمنون (23): 18.

(3) تقدّم في الصفحة 25، الرقم 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 30

العامّ، و هذا من الدلالة اللّفظية، فتكون الآية عامّة، و هذه التعابير لا تأتي في الآية الأُولىٰ؛ لما عرفت أنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و يحتمل قريباً، عدم تأتّيها هنا أيضاً؛ لأنّ ماء السماء من أظهر مصاديق الماء.

تقريب الاستدلال بالآية الثالثة على مطهّرية جميع المياه

و منها: قوله تعالىٰ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيعلم مطهّرية جميع المياه، إلّا أنّه ليس إلّا من الحدث الأكبر، بل و الأصغر؛ لقوله تعالىٰ قبله أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ «2».

و قد يشكل: بأنّ النكرة في سياق النفي ليست من أداة العموم، فنحتاج إلىٰ مقدّمات الحكمة، و الآية في مقام ترخيص التيمّم فيما لم يكن الماء، و لعلّ المطهّر ليس إلّا الماء الخاصّ.

هذا مع أنّه لا يستفاد منه مطهّرية الماء، و قد مضى لزوم جعل المطهّرية عليه؛ لما سلب هذه الصفة منه في بعض المياه.

و فيه: أنّه لو سلّمنا الحاجة إليها، لكن لنا دعوى عدم انفكاك مثل

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ

سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .. المائدة (5): 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 31

هذه الهيئة عن كون المتكلّم في مقام يرىٰ جميع المياه مطهِّرة، و الشكّ في أنّها لا تفيد المطهّرية من الشكّ في الأمر الواضح؛ ضرورة أنّ المقصود من المَاء في الآية، ليس إلّا التطهّر به، كما قال فَاطَّهَّرُوا فهذا من لوازمه القطعيّة، و العموم من لوازمه العرفيّة.

هذا تمام الكلام في الآيات الثلاث، إلّا أنّ تمام المدّعىٰ- و هو مطهّرية جميع المياه لجميع الأحداث و الأخباث غير ثابت بها، و إلغاء الخصوصيّة عن الأحداث لفهم المطهّرية للأخباث، كإلغائها لفهم المطهّرية لماء البئر من الآية السابقة، كما لا يخفىٰ.

المآثير المستدلّ بها علىٰ أنّ المياه مطهِّرة
اشارة

قد عرفت: أنّ المقصود ليس إثبات طهارة الماء في نفسه؛ لأنّه ليس من الأمر المهمّ، و لا معنىٰ له؛ للزوم عقد البحث لجميع أجناس العالم و طبائعه، بل المهمّ إثبات مطهّريتها لجميع الأحداث و الأخباث، و من الأخباث جميع المتنجّسات، حتّى يرجع إلىٰ ذلك العموم اللّفظي في مواقف الشبهة.

و توهّم: أنّه لا ثمرة فيه؛ لقيام الإجماعات و الضرورة عليها «1»، غير تمام؛ لإمكان التمسّك بإطلاق ذلك العموم لو شكّ في كيفيّة التطهّر من المرّة و المرّتين و غيرها.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى الاستصحاب التعدّد، و يجوز الاتكال عليه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 110 111.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 32

بترك الإتيان بالقيود في الكلام، و لكنّه محلّ منع.

و العجب، أنّ القوم يصرّون علىٰ إثبات طهارة الماء، مستدلّين بروايات تدلّ عليها!! و كأنّهم ظنّوا أنّ إثبات الطهارة ملازم لإثبات المطهّرية، و هو في محلّ المنع؛ لأنّ المطهّرية من الصفات

المجعولة، لإمكان سلبها عنها، كما في المنجَّس من الماء القليل، بل في المستعمل في الاستنجاء يكون الماء طاهراً غير مطهِّر، و المقصود ليس أنّه جعل المطهّرية للماء، بل بقاؤها عليه بعد ثبوتها العرفيّ، و عدمُ ردعه عنها يكفي لنا، فكونه طاهراً لا يستلزم ذلك، كما أنّ كونه مطهِّراً ليس كذلك، كما مضى تفصيله.

عدم دلالة المآثير المشتملة علىٰ كلمة «طهور» على المطهّرية

فبالجملة: قد وردت روايات مشتملة علىٰ كلمة ال

طهور

مثل معتبرة جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)- في حديث قال

إنّ اللّٰه جعل التراب طهوراً، كما جعل الماء طهوراً «1».

في حديث آخر من أحاديث الوضوء: «إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يقول عند النظر إلى الماء: الحمد للّٰه الذي جعل الماء طهوراً، و لم يجعله نجساً «2».

______________________________

(1) الفقيه 1: 60/ 223، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 52/ 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 16، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 33

و في ثالث

طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبعاً «1».

و هكذا.

فإنّ هذه الكلمة حسب القواعد، أمرها دائر بين كونها صفة مشبّهة، أو مبالغة، و حيث إنّ الاولىٰ غير مناسبة للقرائن في مواضع الاستعمال، تتعيّن الثانية.

و معنى المبالغة، إمّا يرجع إلى الصفة الذاتيّة في الماء، فهو ليس من المبالغة المصطلح عليها، و إمّا يرجع إلى الادعاء المحتاج إلى المصحّح.

فإن كان الجعل تكوينيّاً، يتعيّن الأوّل، و إن كان إنشائيّاً أو إخباراً عن أمر مُنشأ، يتعيّن الثاني.

و لعلّ الظاهر هو الثاني، و المصحّح له في التراب هو المطهّرية للغير، و لكنّ المصحّح في الماء يحتمل فيه ذلك، و يحتمل كونه لأجل

عدم انفعاله، أو هما معاً، و مقتضى السياق اتحادهما، و الجمود يقتضي خلافه كما لا يخفى، فيكون الدليل من تلك الجهة مجملًا.

و العجب من قوم، توهّموا في بعض المواقف المشابِهَة، لزومَ أعميّة الفرض مثلًا؛ لئلّا تلزم اللّغوية!! و كأنّهم لم يسمعوا في الأدلّة دليلًا مجملًا، حتّى يكون هذا منه.

و ممّا يشهد علىٰ أنّ كلمة «طهور» تستعمل في المآثير من غير إرادة المطهِّرية بالمعنى المقصود منها، ما رواه المفيد في «المقنعة» عن الباقر (عليه السّلام)

______________________________

(1) عوالي اللآلي 4: 49/ 173، مستدرك الوسائل 2: 603، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 45، الحديث 4، مع اختلاف.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 34

قال

أفطر على الحلو، فإن لم تجده فأفطر على الماء؛ فإنّ الماء طهور «1».

بل قوله (عليه السّلام)

و لم يجعله نجساً «2»

ربّما يشهد علىٰ أنّ المقصود من ال «طهور» هناك، ليس المطهِّرية بالمعنى المقصود، فلا تغفل.

بيان الاستدلال بحديث: «الماء يطهِّر و لا يطهَّر»

و سيأتي بيان حول استفادة العموم من الطائفة الأُخرىٰ من الروايات؛ و هي ممّا تكون ناطقة بأنّ

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

و قد ورد هذا المضمون مرسلًا بإرسال الصدوق، مسنداً إلى الإمام (عليه السّلام) في «الفقيه» «3» و مسنداً في «الكافي» بإسناده عن النَّوْفلي، عن السَّكُوني «4»، و مرفوعاً في «المحاسن» «5» فالرواية معتبرة علىٰ مذهبنا؛ لأنّ النوفليّ و السكونيّ عامّيان معروفان بالمتانة؛ علىٰ ما يظهر من رواياتهم في الأبواب المختلفة، و كون إبراهيم بن هاشم في السند أيضاً لا يورث شيئاً.

______________________________

(1) المقنعة: 317، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 10.

(2) تهذيب الأحكام 1: 52/ 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 16، الحديث 1.

(3) الفقيه 1: 6/ 2،

وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 3.

(4) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

(5) المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 35

و غاية ما يمكن أن يقال: هو أنّ حذف المتعلّق دليل العموم؛ فإنّه بالنسبة إلىٰ القذارات العرفيّة معلوم تطهيره، و الشرع ألحق النجاسات المجعولة السياسيّة و غيرها بها؛ بتعبيره عنها بال

قذر

كما في كثير من المآثير، فهو مطهِّر لجميع الأخباث و المتنجّسات بها، و حيث يعبّر في مسألة زوال الأحداث عن مطهّرية الماء- كما في الكتاب «1» يعلم أنّه من تلك الجهة له العموم أيضاً، فحذف المتعلّق من الشرع الأقدس، دليل علىٰ مطهّريته للكلّ؛ بشهادة ما عرفت، و مقتضى الإطلاق أنّ نفس طبيعة الماء تكون كذلك، فكأنّه جعل المطهّرية من لوازمها.

محتملات جملة «و لا يطهَّر»

هذا مع قطع النظر عن جملة

و لا يطهَّر

و فيها احتمالات:

من كونها ناظرة إلىٰ أنّ الماء لا يَنجُس حتّى يطهَّر، فتكون في مقابل أدلّة انفعال الماء القليل.

و من كونها ناظرة إلىٰ أنّه غير قابل للتطهير مقابل ما دلّ عليه، فتكون النتيجة لزومَ المزج؛ بإفناء موضوع النجاسة، كما هو خيرة جماعة «2».

و من كونها ناظرة إلىٰ أنّه لا يطهَّر بغيره، فيكون قابلًا للتطهير بنفسه.

و من كونها ناظرة إلىٰ تأكيد الجملة الأُولىٰ، و سريان مطهِّريته في

______________________________

(1) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ .. الأنفال (8): 11.

(2) منتهى المطلب 1: 6/ السطر 30، ذكرى الشيعة: 9/ السطر 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 36

جميع

الأشياء من غير النظر إلىٰ حكم الماء بالنسبة إلى الطهارة و كيفيّة تطهيره و نجاسته، و كأنّه لوحظ الماء بطبيعته في طرف؛ و سائر الأشياء القابلة للتطهير به في الطرف الآخر، فقال

الماء يطهِّر و لا يطهَّر.

و كونها قاصداً إثبات عدم تطهُّره بغيره، في غاية الاستهجان؛ لعدم وجه لتوهّم أنّ الماء يطهّر بملاقاة الكتاب، و القرطاس، و القلم، و الدواة، فيتعيّن غير الاحتمال الثالث، فتأمّل.

هذا، و لكنّ الإنصاف كونها بصدد الإطلاق، و من جهة حذف المتعلّق في مقام إفادة العموم في محلّ الإشكال، بل النظر فيها إلىٰ أنّه مطهِّر، في قبال سائر الأشياء التي ليست بمطهِّرات إلّا بعض منها، فافهم و تدبّر.

عدم الفرق بين ماء البحر و سائر المياه في المطهرية

و ممّا ذكرناه يظهر: أنّ ماء البحر ليس في طول سائر المياه؛ إمّا لتلك العمومات، أو لعدم الدليل عليه، بل قضيّة السيرة مطهّرية جميع المياه، و عدمُ ردع الشرع عنها يكفي، و إمضاء بعض المياه لا يدلّ علىٰ ردعه عن بعض، فلم يتصرّف الشرع في تلك الجهة.

نعم، الحق بالقذارات العرفيّة القابلة للتطهير بالماء، سلسلة القذارات الشرعيّة موضوعاً، فيعلم حكمها.

و أيضاً: الحق بالقذارات العرفيّة و الشرعيّة، القذارات المعنويّة الزائلة بالماء مع الكيفيّة الخاصّة.

فلا جديد له في هذه المسألة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 37

نعم قد تصرّف في عموم مطهِّرية الماء؛ بإخراج الماء المتنجّس، مع أنّ العرف لا يراه نجساً إلّا في بعض الفروض.

هذا مع أنّه قد وردت روايات خاصّة في ماء البحر ناطقة بجواز التوضّي به، و أنّه

الطهور «1»

بل في رواية «دعائم الإسلام» عن عليّ (عليه السّلام) أنّه قال

من لم يطهِّره البحر فلا طهور له «2».

الروايات الظاهرة في أنَّ «الطهور» ما لا يقبل النجاسة

ثمّ إنّ هنا روايات أُخر، ربّما تكون ظاهرة في أنّ المراد من

الطهور

ما لا يقبل النجاسة؛ لما فيه العصمة و القوّة «3»، فتكون هي دالّة علىٰ أنّ وجه المبالغة هو ذا، دون المطهِّرية للغير، مثل قوله (عليه السّلام)

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجِّسه شي ء «4»

و بهذا المضمون كثير في المآثير، فدعوى أنّ الماء طهور، لا تصحّ إلّا مع المصحّح، و هو هنا- بقرينة قوله

لا ينجّسه شي ء

هو أنّه لا ينفعل؛ لما فيه الصفة المانعة عنه.

الروايات الظاهرة في المطهّرية و بيان وجه الخدشة فيها

و بعض روايات أُخر، تشهد على الأعمّية في جهة الدعوىٰ؛ و أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 136، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 2.

(2) دعائم الإسلام 1: 111.

(3) وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 2.

(4) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 38

المتكلّم لاحظ الجهات الكثيرة في دعواه أنّه

الطهور

مثل صحيحة ابن فرقد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول، قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسّع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض، و جعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون «1».

فإنّها بمقتضى اشتمالها علىٰ هذه التوسعة، كالنصّ في أنّ الماء عند اللّٰه موجب للوَسِعَة؛ من عدم قبوله النجاسة، و من مطهّريته لجميع الأحداث و الأخباث.

و لعمري، إنّ استفادة العموم من هذه الجملة، بمكان من الإمكان جدّاً. نعم، هذه الرواية لمكان اشتمالها علىٰ ما لا يساعده العقل، يشكل اعتبارها، علىٰ ما تقرّر في محلّه، و الالتزام بالتفكيك بين الفقرات أيضاً مشكل؛ لأنّ سند اعتبار الخبر الواحد بناءُ العقلاء، و هو

قاصر عن شمول هذه المواضع، فالرواية مشكلة جدّاً.

و هكذا ما عن «إرشاد القلوب» بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) «2»، فإنّها في الدلالة أقوى، و لكنّها في السند أضعف، و انجبار السند بالشهرة غير العمليّة، عندنا ممنوع.

______________________________

(1) الفقيه 1: 9/ 13، تهذيب الأحكام 1: 356/ 1064، وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 4.

(2) إرشاد القلوب 2: 200. مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 39

المبحث الثاني في الماء المضاف
اشارة

و فيه فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 41

الفصل الأوّل حول التقسيم إلى المطلق و المضاف

قد مضى تعريف الماء المضاف، و قد عرفت أنّ المقصود منه ليس الذي يضاف إليه كلمة «الماء» ك «ماء البطّيخ» و «الرمّان» حتّى يقال: من المضاف ماء الحوض و الكيزان، بل و ماء الوجه، أو يقال: بأنّ ماء الورد من المضاف في العربيّ، و ليس منه في الفارسيّ و غيره .. و هكذا.

بل المقصود بيان أنّ الماء منه ما هو الخالص، و منه ما هو اختلط بشي ء كالتراب أو الموادّ الأُخر، كمادّة الرقّي و الورد و غيره.

و حيث إنّ تقسيم «المبسوط» الماء إلى المطلق و المضاف «1»، ليس من التقسيم المستوعب، مع لزوم كونه كذلك في العلوم، فالأولىٰ أن يقال:

المائع إمّا ما يطلق عليه لفظة «الماء» علىٰ نعت الحقيقة و سائر مرادفاته، أو ما لا يطلق عليه هذه اللّفظة، سواء أُطلق عليه مجازاً، أو

______________________________

(1) المبسوط 1: 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 42

لا يطلق عليه رأساً.

فالأوّل: طاهر و مطهّر من جميع الأحداث و الأخباث.

و الثاني: طاهر، و ليس كذلك.

الفصل الثاني عدم جعل النجاسة لا يستلزم جعل الطهارة
اشارة

لا شبهة و لا بحث في أنّ المائعات المضافة، طاهرة بذاتها، و لا نحتاج في هذه المسألة إلى الدليل، فالضرورة قاضية بأنّها ليست من الأعيان النجسة.

نعم، إذا كانت الطهارة منقسمة: إلى الطهارة العرفيّة، و الشرعيّة المجعولة، فكون غير الأعيان النجسة و الملاقيات معها طاهرة، يحتاج إلى الجعل، و إلّا فهي خارجة عنهما.

مثلًا: المستقذرات العرفيّة إذا لم يجعلها الشارع نجسةً، فهي ليست طاهرة؛ لعدم كونها طاهرةً عرفاً، و لا جعلها الشارع طاهرة في بدو طلوع الإسلام.

و ترتيبُ آثار الطهارة علىٰ شي ء، لا يستلزم الجعل؛ لأنّها الآثار الأعمّ، خصوصاً فيما كان القذر بطبعه، كالأبوال الطاهرة.

كما أنّ ترتيب آثار النجس لا يلازمه؛ لما ذكر، فإنّ النهي

عن الأكل و الشرب و التصرّف، لا يلازم النجاسة بالضرورة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 43

بل تجويز الأكل و الشرب للمياه المضافة و سائر الأشياء، ربّما يكون لعدم كونها نجسة، لا لأجل كونها طاهرة، فإثبات طهارة جميع الأشياء- و منها المياه المضافة ممّا لا حاجة إليه، بل المدار في الأحكام على النجاسة و عدمها.

نعم، الأشياء الطاهرة عرفاً القابلة لجعل النجاسة عليها، تكون طاهرة شرعاً؛ لإمضاء الشرع إيّاها، فتكون هي طاهرة شرعاً أيضاً، و لا منع من جمع الطهارة العرفيّة و الشرعيّة؛ لأنّ آثار الطهارة الشرعيّة لا تترتّب على العرفيّة.

بيان الملازمة بين نفي النجاسة و جعل الطهارة

و يمكن دعوى: أنّ سكوت الشرع، يورث انجعال الطهارة الشرعيّة؛ إذا كانت هي محتاجاً إليها، و أمّا إذا كان نفي النجاسة الشرعيّة، كافياً لإيفاء تمام الغرض، فلا يستكشف الطهارة الشرعيّة من المضيّ و عدم الردع، فلا تغفل.

فتحصّل: أنّ أحكام النجس كما تسلب بجعل الطهارة علىٰ شي ء، تكون هي مسلوبة بعدم جعل شي ء؛ لا الطهارة، و لا النجاسة، كما لا يخفىٰ.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ: الجهة المبحوث عنها هنا، الأعمّ من المياه المضافة، بل هي كسائر الجوامد الطاهرة غير المجعول لها النجاسة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 44

توهّم و دفع

و توهّم: أنّ هذا البيان ينعكس بالنسبة إلى النجاسة، فيقال: الطهارة مجعولة، و عند انتفائها يترتّب أحكام النجاسة، فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ الشريعة اعتبرت نجاسة الأشياء الكثيرة، كالكفّار و الكلاب و الخنازير و غيرها، و عدّها قذراً و نجساً، و هكذا ملاقي هذه الأُمور اعتبر نجساً؛ يترتّب آثار القذارات العرفيّة عليه، و لا يعهد هذا في سائر الأشياء، و لا دليل لفظيّ متعرّض لجعل الطهارة الواقعيّة لها.

قاعدة الطهارة لا تفي بجعل الطهارة الواقعيّة للأشياء

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ عموم قاعدة الطهارة، تقضي بمجعوليّتها لكلّ الأشياء، و لا تنافي بين شمولها للظاهريّة و الواقعيّة، و لكنّه ممنوع ثبوتاً.

و لو فرضنا إمكانه، فكون الجملة الواحدة ظاهرة فيهما معاً، غير تامّ، و لا ريب في ظهورها- بمناسبة الغاية في جعل الطهارة للمشكوك، و لا يلزم من جعلها على المشكوك، جعلُها على الواقع قبله، أو التزامه بها و ارتضاؤه كما لا يخفىٰ؛ ضرورة أنّ الشكّ في طهارة شي ء و نجاسته، لا يعقل مع كون جميع الأشياء طاهراً، و هكذا لو كان الجميع نجساً.

و أمّا لزوم كون طائفة منها طاهراً فهو ممنوع؛ لأنّه إذا لم يجعل الشرع طائفة منها نجساً، فإنّه يستلزم الشكّ في نجاسة شي ء و عدمها، فيجعل على المشكوك الطهارة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 45

الطهارة و النجاسة من الأوصاف العرفية بل الخارجية

هذا كلّه على القول: بأنّهما من المجعولات الشرعيّة، و حيث إنّ الحقّ أنّهما من الأوصاف العرفيّة، بل و الخارجيّة للأشياء، و لا تصرّف للشرع فيها إلّا سعةً و ضيقاً؛ بإلحاق بعض القذارات بالطيّبات و بالعكس، فلا يكون شي ء إلّا و هو طاهر أو قذر بحسب الواقع، و لا واسطة بينهما.

و يترتّب على القول بمجعوليّتهما، مفاسدُ كثيرة لا خير في التعرّض لها.

الفصل الثالث في عدم مطهّرية المضاف و سائر المائعات
اشاره

لا شبهة عندنا في عدم مطهّرية المياه المضافة و المائعات طرّاً للحدث، و قد خالف من مخالفينا الأصمّ و ابن أبي ليلىٰ، فقالا بجواز التوضّي بمطلق المائعات «1»، و لعلّهما لا يقولان به في الحدث الأكبر، فتصحّ دعوى اتفاق المسلمين علىٰ عدم مطهّريته للحدث الأكبر، و من أصحابنا الصدوق، فجوّز الوضوء بماء الورد «2».

______________________________

(1) الخلاف 1: 55، المجموع 1: 93/ السطر 2.

(2) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 46

و به قال أصحاب الحديث «1»، و هم بمنزلة الأخباريّين منّا، و عن الكاشانيّ الميل إليه «2».

و قال أبو حنيفة بجواز التوضّي بنبيذ التمر إذا كان مطبوخاً، عند عدم الماء، و هو قول أبي يوسف «3».

و قال محمّد: «يتوضّأ به و لا يتيمّم» «4».

و قال الأوزاعيّ: «يجوز التوضّي بسائر الأنبذة» «5».

فهؤلاء المخالفون، لم ينكروا حصر المطهّرية بالماء مع وجوده، نعم قالوا بالترتيب، كما قلنا به.

نعم، إنّا لا نقول بمطهّريتها مطلقاً، و هم يقولون بها حال الضرورة، و لعلّه هو قول ابن عقيل منّا أيضاً، فإنّه- علىٰ ما روي عنه قال: «فلا يجوز استعمال المضاف عند وجود غيره، و جاز في حال الضرورة عند عدم غيره» «6» انتهىٰ.

و الذي يظهر لنا: أنّ سائر المائعات ليست مطهّرة للأحداث؛ لا في

عَرْض الماء المطلق، و لا في عرض التراب، و لا بينهما.

______________________________

(1) لاحظ الخلاف 1: 55.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 47.

(3) الخلاف 1: 56، انظر المبسوط، السرخسي 1: 88/ السطر 12.

(4) الخلاف 1: 56، المبسوط، السرخسي 1: 88/ السطر 11، المجموع 1: 93/ السطر 15.

(5) الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93/ السطر 19، المبسوط، السرخسي: 89/ السطر 1.

(6) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 47

التمسّك بالاستصحاب لإثبات عدم المطهّرية

و قبل الخوض فيما يدلّ علىٰ مرامنا، نشير إلىٰ مقتضى الأصل في المسألة؛ و هو الاستصحاب الحاكم ببقاء الحدث و الخبث، أو الحاكم بعدم تحقّق الطهارة التي هي شرط الصلاة و غيرها؛ بناءً علىٰ أن يقال: بعدم الأثر للاستصحاب الأوّل.

و لك دعوى: أنّ الواجب ليس إلّا الوضوء و الغسل، و لا شي ء وراءهما حتّى يتمسّك بالاستصحاب؛ وجوديّاً كان، أو عدميّاً.

نعم، لو شكّ في صدق «الغسل» مع ماء الورد و غيره، فمقتضى الأصل هو الاحتياط و الإتيان بالمصداق المعلوم؛ لتماميّة الحجّة من قبله عليه، و لا يجوز الاكتفاء بالمشكوك، كما لا يخفىٰ.

و توهّم: أنّ مطهّرية المياه و المائعات عرفيّةٌ، خصوصاً بعضها بالنسبة إلىٰ القذارات العرفيّة و الأنجاس الشرعيّة، فلنا المطالبة بدليل يمنع من مطهّريتها، و إمضاءُ مطهّرية المياه المطلقة لا يورث ردعهم عن مطهّرية ماء الورد مثلًا قطعاً.

لا يقتضي إلّا مطهّريتها في الجملة، و هذا في الحقيقة دليل علىٰ خلاف الأصل المحرّر تأييداً لفتاوى الصدوق و غيره.

فبالجملة: قضيّة الأصل هو أنّ مطهّرية المياه و غيرها، تحتاج إلىٰ الدليل، و هي ثابتة في الماء المطلق و التراب، و في غيرهما لا بدّ من إقامة الأدلّة النافية و المثبتة، و مقتضى الأصل عند الشكّ عدمها، كما عرفت.

كتاب الطهارة

(للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 48

الفصل الرابع في الآيات المستدلّ بها علىٰ أنّ الماء المضاف و سائر المائعات، ليست من المطهّرات
اشارة

منها قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1».

و قوله تعالىٰ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «2».

بتقريب: أنّهما في مقام الامتنان، علىٰ ما صُرّح به في الآية الأُولىٰ «3»، و قضيّة الامتنان ذلك.

و فيه ما لا يخفىٰ؛ لأنّ مقتضى الامتنان هو التوسعة، لا التضييق، و عدم ذكر سائر المائعات لأغراض أُخر.

و إن شئت قلت: إنّه منّ علينا في جعل المطهّرية، لا في جعلها في الماء؛ فإنّه امتنان على الماء لا علينا، فتدبّر.

الاستدلال بآية التيمّم علىٰ عدم مطهّرية المائعات و جوابه

و منها: قوله تعالىٰ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «4».

و كيفيّة الاستدلال به حتّى يتمّ جميع المدّعىٰ؛ هو أنّ الصدر يقضي

______________________________

(1) الفرقان (25): 48.

(2) الأنفال (8): 11.

(3) جامع المقاصد 1: 123.

(4) النساء (4): 43.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 49

بأنّ ما ليس بماء، لا دخالة له في انتقال الحكم من الطهارة المائيّة إلى الترابية، و كلمة «الفاء» تدلّ علىٰ أنّ التوضّي بسائر المائعات- في طول الماء المطلق غير جائز، و الهيئة في الذيل تقضي بالتعينيّة، فكون مائع في عَرْض التيمّم مطهِّراً، ممنوع بها أيضاً، فبها يثبت أنّ سائر المائعات ليس مطهِّراً؛ لا في عَرْض المياه، و لا في طولها، و لا في عرض التيمّم، و لا في طوله.

و إن شئت قلت: هذه الآية بصدد بيان وظيفة المكلّفين في هذه الواقعة، فجعلها الماء و التراب طهورين لا غيرهما، يشهد علىٰ أنّ الغير ليس مطهّراً، و إلّا لكان عليه البيان التامّ بحدودها.

و أنت خبير بما فيه؛ ضرورة أنّ النكرة في سياق النفي، ليست من أداة العموم، فلعلّ الآية ناظرة في مقام آخر، كما هو الظاهر، فتكون دالّة علىٰ أنّ من كان علىٰ سفر و كذا و كذا،

فلم يجد الماء- أي ما يطهِّره فعليه التراب، فذكر الماء لأنّه من مصاديق المطهِّر عنده و من أوضح المصاديق، فلا شهادة لها علىٰ أنّ الماء المضاف ليس مطهِّراً.

و الإنصاف: أنّها في مقام قيود انتقال الحكم من المائيّة إلى الترابيّة، لا في مقام بيان ذات القيود و حدودها.

نعم، ظاهر كلمة «الفاء» نفي الواسطة بين الماء و التراب، فدعوى أنّه إن لم يجد الماء فليتوضّأ بالمضاف، و إذا لم يجد المضاف فليتيمّم «1»، مسموعة جدّاً؛ لاقتضاء «الفاء» و لذلك لو ورد جواز التوضّي بماء الورد، فإنّه لا يرى التعارض بينه و بين الآية الشريفة، بخلاف الفرض الثاني،

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 22.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 50

فإنّه يعارضها قطعاً.

و أمّا نفي كونها مطهّراً في عَرْض التيمّم بها، ففي غاية السقوط؛ ضرورة أنّ الهيئة فيها لا تدعو إلّا إلى المادّة، و كونُها واجباً تعيينيّاً غيريّاً ليس من دلالتهما، بل ذلك لاقتضاء الأصل العقلائيّ، و لو دلّت علىٰ نفي مطهّريتها لكانت هي معارضة مع ما يدلّ علىٰ مطهّرية ماء الورد فرضاً مع أنّه لا يعدّ معارضاً و لو بدواً، فما اشتهر بينهم من دلالتها على المدّعىٰ «1»، غير قابل للتصديق.

و العجب من الفقهاء رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم؛ من تمسّكهم بالكتاب من غير المراجعة إليه!! فنسبوا إليه تعالىٰ ما ليس فيه؛ و هو «و إن لم تجدوا» «2» فإنّ الآية في المسألة ما ذكرناها.

الفصل الخامس في المآثير المستدلّ بها علىٰ عموم المدّعىٰ
اشارة

و هي علىٰ طائفتين:

الطائفة الأُولىٰ: ما تضمّن جملةً تدلّ علىٰ حصر المطهّر في الماء و التراب
اشارة

، مثل رواية أبي بصير المرويّة في «التهذيب» عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): عن الرجل يكون معه اللّبن، أ يتوضّأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 5، مدارك الأحكام 1: 110، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 29.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 51

قال

لا، إنّما هو الماء و الصعيد «1»

و في بعض نسخ «الوسائل»

أو الصعيد.

و يشكل الاعتماد عليها؛ لما في سندها من محمّد بن عيسىٰ، مع أنّ تمييز أبي بصير هنا مشكل، و إن لا يبعد كونه مردّداً بين المراديّ و الأسديّ، و هما ثقتان.

و روايةِ عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض الصادقين قال

إذا كان الرجل لا يقدر على الماء، و هو يقدر على اللّبن، فلا يتوضّأ باللّبن؛ إنّما هو الماء أو التيمّم ..

الحديث «2».

و في اعتبارها من حيث إرسالها إشكال، و دعوىٰ أنّ الصادقَين هما الصادق و الكاظم (عليهما السّلام) «3» غير تامّة؛ لأنّه من المتأخّرين عنهما، و الاحتمال كافٍ لإرسالها، أو لكونها في حكم الإرسال.

و توهّم: أنّ ظاهر المتن يورث أنّ القائل هو الإمام (عليه السّلام)، ممّا لا يمكن الركون إليه.

نعم، بناءً علىٰ ما هو المعروف في أصحاب الإجماع، تكون الرواية معتبرة؛ لأنّ المرسِل منهم، و لكن في صحّة البناء إشكال، فالروايتان- من حيث السند غير تامّتين.

و دعوىٰ انجبار السندين بالشهرة القطعيّة، بل و الإجماعات

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 51

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 188/ 540، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة،

أبواب الماء المضاف، الباب 1، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

(3) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأوّل: 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 52

الكثيرة، غير مسموعة؛ لأنّ الشهرة الجابرة هي الشهرة العمليّة، و هي هنا غير ممكن تحصيلها، و مجرّد التطابق في الفتوىٰ و إن كان يكفي في بعض المسائل، و لكنّه هنا غير كافٍ؛ لاحتمال تلقّيهم هذه المسألة من المسلّمات التي لا حاجة فيها إلى الرواية و الآية؛ فإنّ عموم الابتلاء بالماء يوجب وضوح المسألة و أحكامها، خصوصاً مثل هذا الحكم، فلا جابر لمثلهما. هذا كله حال سندهما.

وجه دلالة الروايتين علىٰ نفي المطهّرية

و أمّا دلالتها، فالمشهور أنّها نافية لمطهِّرية سائر المياه المضافة و المائعات؛ لإفادتها الحصر بكلمة

إنّما.

و الذي ظهر لي في محلّه: أنّ كلمة

إنّما

لا تورث إلّا تأكيد الحكم في المدخول «1»، مثل قوله تعالىٰ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «2» فإنّه لا يرىٰ عند العرف تعارضها مع تنجّس المرتد مثلًا، و مثل قوله تعالىٰ إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ «3» .. و هكذا، فما أفادوه: «من إفادتها الحصر» في محلّ منع جدّاً.

و إرجاع كلمة «إنّما» إلىٰ «إن» النافية و الاستثناء، ليس من دأب المحصّلين و المحقّقين، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 185.

(2) التوبة (9): 28.

(3) التغابن (64): 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 53

دلالة الروايتين علىٰ نفي مطهّرية اللّبن

نعم، بعد النظر إلىٰ صدر الرواية؛ و أنّ السائل توهّم جواز التوضّي باللّبن، يعلم أنّ كلمة

إنّما

جي ء بها لرفع هذا الوهم؛ و إثباتِ مطهّرية الماء و التراب، من غير النظر إلى الحصر الكلّي، فهو دليل نفي مطهّرية اللّبن فقط.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقصود السائل هو الأعمّ، و ذكر «اللّبن» من باب المثال، و لكنّه مشكل إثباته فتدبّر.

وجوه أُخر للدلالة على عدم مطهّرية المائعات

و لك دعوى استفادة العموم من الإتيان بالمطهّر الترابيّ في عَرْض المطهّر المائيّ، فإنّه لو كان شي ء آخر مطهّراً، لكان أن يذكر هو، لا ما هو في طول الماء.

و يمكن الاستدلال على المقصود بها بتقريب: أنّ التقسيم قاطع للشركة، فإنّ كلمة

أو

توجب أنّ ما يتوضّأ به بين الماء و التراب، و لا شريك لهما، و لذلك لو ورد الشريك لهما يعدّ عند العرف معارضاً، فليتدبّر جيّداً.

أو دعوى: أنّ كلمة

إنّما

هنا للتعليل، و ظاهرها انحصار العلّية في الماء و التراب «1».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 54

و فيه: أنّ التعليل بالأمر المتعبّد به قبيح، و قد تقرّر لزوم كون العلّة من المرتكزات العرفيّة أو المدركات العقليّة، و إلّا فلا يحسن في الكلام.

و الاستدلال «1» بما في «الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السّلام)» من قوله بعد ذكر المياه المضافة

و كلّ ذلك لا يجوز استعمالها، إلّا الماء القُراح، أو التراب «2»

غير تامّ؛ لما حرّرنا في تعاليقنا على الفائدة الثانية من خاتمة «المستدرك» من عدم تماميّة وجوه حجّيته، فلاحظ «3».

الطائفة الثانية: من المآثير المستدلّ بها علىٰ عموم عدم المطهّرية

ما استدلّ به الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللّٰه) «4»، و هي روايات فاقد الماء الآمرة بالتيمّم، مثل معتبرة زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) «5»، و صحيحة الحلبيّ «6» و داود الرِّقّي «7» و غيرهما «8»، فإنّ الظاهر هنا- بترك الاستفصال عن حال الرجل المسافر- عدم مطهّرية شي ء آخر؛ و أنّه يدور مدار الماء، و عند فقده

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 398.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 92.

(3) تعليقات المؤلّف (قدّس سرّه) على المستدرك (مفقودة).

(4) مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 9.

(5) الكافي 3: 63/ 2، وسائل الشيعة 3: 341، كتاب

الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 1، الحديث 1.

(6) الفقيه 1: 57/ 213، وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 1.

(7) الكافي 3: 64/ 6، وسائل الشيعة 3: 342، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 1.

(8) وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 55

التراب، و لا ثالث وراءهما.

و يشكل أوّلًا: بأنّ مفروض الكلام هو المسافر، و المتعارف في حقّه، فقدانُه المياه المضافة و لو كانت عنده بعض المائعات فرضاً؛ ممّا يحتاج إليه في السفر، فلعلّ سكوته (عليه السّلام) عن التعرّض لذلك؛ لعدم وجوده في مفروض المسألة.

و ثانياً: لا يثبت بها تمام المدّعىٰ؛ و هو نفي المطهّرية عنها في جميع المراحل حتّى في عَرْض التراب، كما لا يخفىٰ.

و دَفعُ الإشكال الأوّل: بأنّ السائل مثلُ زرارة و الحلبيّ و الرِّقّي، الذين هم كانوا يفرضون المسائل، و يطلبون الجواب من المعصوم (عليه السّلام)، فعليه لا بدّ من الجواب المشتمل علىٰ جميع الجهات في المقام، لا يوجب اندفاع الشبهة الثانية.

فتحصّل: أنّ الاستدلال بالكتاب و السنّة، لا يورث إلّا بعض المقصود، و لا دليل لفظيّ علىٰ عموم المطلوب، كما هو المرام في المقام.

الفصل السادس فيما يستدلّ به علىٰ أنّ المياه المضافة مطهِّرة من الحدث

و هو إطلاق مادّة «الاغتسال» القابلة للصدق على الطهارة الحاصلة بالمضافات.

نعم، لا يتحقّق الغُسل بمطلق المائعات، حتّى يلزم التعارض بين ما

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 56

يدلّ علىٰ مطهّريته، و ما يدلّ علىٰ عدم مطهّريته.

و بعبارة اخرىٰ: لو سلّمنا دلالة الآية و الرواية علىٰ نفي مطهّرية سائر المائعات، و لكنّها قابلة للتخصيص و التقييد، فلو صحّ الغُسل بماء مضاف و مائع- كالأعراق المتّخذة من النباتات فإطلاق أدلّتها يخصّص و يقيّد بالآيتين

الآمرتين بالاغتسال و الغُسل.

فقوله تعالىٰ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «1» و قوله تعالىٰ فَاغْسِلُوا «2» مقدّم علىٰ تلك الأدلّة و إن كانت النسبة عموماً من وجه؛ و ذلك لأنّ من موجبات تقدّم أحد العامّين من وجه على الآخر، هو أن يكون الدليلان في مورد التصادق، مختلفي الظهور، فيكون أحدهما أظهر من الآخر، و فيما نحن فيه الأمر كذلك كما لا يخفىٰ.

و دعوىٰ: أنّ ذيل الآيتين يشهد علىٰ أنّ المقصود من «الغُسل» ما هو الحاصل بالماء «3»، غير مسموعة؛ لاحتمال كون الصدر- و هو إطلاق المادّة قرينةً علىٰ أنّ الماء المذكور في الذيل من باب أحد مصاديق المطهّر، بل هو كذلك، فتدبّر.

و إن شئت قلت: فيما لو دار الأمر بين كون الصدر قرينة على الذيل و بالعكس، يتعيّن الأوّل، خصوصاً فيما نحن فيه، و ما اشتهر من التمسّك بالانصراف في هذه المواقف، لا يرجع إلى المحصّل، فعليه يتعيّن تجويز

______________________________

(1) النساء (4): 43.

(2) المائدة (5): 6.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 34.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 57

كون جميع المياه المضافة التي يحصل بها الغسل لغة و عرفاً، مطهّرة للحدث، بل و للخبث علىٰ ما يأتي تفصيل البحث فيه.

و ما يظهر من بعض كتب اللّغة؛ من تقييد الغسل بالماء «1»؛ حتّى يكون الموضوع له أخصّ، غير قابل للتصديق؛ لقيام التبادر علىٰ خلافه.

الوجه في عدم مطهّرية المضاف من الحدث

و الإنصاف: أنّه بعد اللتيّا و التي، أنّ قضيّة الصناعة عدم مطهّرية غير الماء؛ لأنّ النسبة بين الدليلين عموم من وجه، و لا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر، و ما أشرنا إليه غير تامّ هنا، بل ما تعرّض لعدم مطهّرية غير الماء بلسانه، مقدّم علىٰ ما تعرّض للأمر بالاغتسال؛ لأنّه تعرّض لحدود موضوع

الآخر.

نعم لو قلنا: بعدم الدليل علىٰ نفي المطهّرية عن غير الماء، فالعمل بإطلاق المادّة جائز، و لكن الضرورة و بداهة الحكم عند المشهور مخالفه.

و يمكن دعوى: أنّ الأوامر المتعلقة بالغسل و إن كانت أعمّ، و لكن في طائفة من الروايات ورد التقييد بالماء «2»، و هذا دليل علىٰ أخصّية الموضوع في تلك المطلقات؛ لأنّ الإتيان بالقيد الغالب في مثل المقام،

______________________________

(1) المفردات في غريب القرآن: 360، أقرب الموارد 2: 872.

(2) وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3 و ما بعده.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 58

شاهد علىٰ قيديّته، فتأمّل جيّداً.

و إذا ثبت الحكم في الجملة، فيسري إلىٰ سائر المواقف؛ للزوم خرق الإجماع المركّب، فلاحظ و تدبّر.

الفصل السابع في عدم مطهّرية المضاف عند الضرورة
اشارة

قال الحسن بن عليّ بن أبي عقيل المعروف ب «الحذّاء» و «النعمانيّ»: «ما سقط في الماء ممّا ليس بنجس و لا محرّم، فغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، حتّى أُضيف إليه مثل «ماء الورد» و «ماء الزَّعْفَران» و «ماء الخَلوق» و «ماء الحِمِّص» و «ماء العُصْفُر» فلا يجوز استعماله عند وجود غيره، و جاز في حال الضرورة عند عدم غيره» «1» انتهىٰ.

و ظاهر كلامه: أنّ مطلق المضاف مطهّر من الحدث و الخبث عند فقد الماء المطلق، و لا يظهر منه أنّه يقول: بتعيّن الطهارة المضافيّة بعد المائيّة، أو يقول: بالتخيير بينها و بين الترابيّة.

و الظاهر أنّه أراد من قوله

محرَّم

اختلاطَ الماء بالمغصوب و نحوه؛ ممّا يورث الإشكال في صحّة الغسل و الوضوء.

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 59

الاستدلال على المطهّريّة عند الضرورة و جوابه

و يشهد له مضافاً إلىٰ قاعدة الميسور، ما رواه عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض الصادقين (عليهما السّلام) قال: إذا كان الرجل لا يقدر على الماء، و هو يقدر على اللّبن، فلا يتوضّأ باللّبن؛ إنّما هو الماء أو التيمّم، فإن لم يقدر على الماء و كان نبيذ، فإنّي سمعت حَرِيزاً يذكر في حديث: أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قد توضّأ بنبيذ، و لم يقدر على الماء «1».

و تقريب الاستدلال واضح، و لكنّ الحديث- من جهة الإرسال، و لأجل جهة الصدور، و لإعراض المشهور، و لعدم متانة المتن مخدوش جدّاً؛ فإنّ لفظة «الصادقين» ليست ظاهرة في الأئمّة أو واحد من الاثنين منهم، فهي في حكم المرسلة.

و لعلّ عبد اللّٰه بن المغيرة لغرض انتقالنا إلى الخدشة في الحكم، أتى بهذه الجملة، و إلّا فإنّ المتعارف في هذه

الاستعمالات مواقف التقيّة، و الحكم موافق لمذهب أبي حنيفة «2» الذي هو أشهرهم، و كانت فتواه في عصر الرواية مشهورة، حسب التأريخ و العصر فتدبّر.

و ما نسب إليه؛ من أنّه كان رجع من فتواه إلى المنع عن التوضّي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

(2) المغني، ابن قدامة 1: 9/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 60

به «1»، و هو مختار سائر الفقهاء «2»، و إن فرضنا صحّته، و لكنّه لا يورث الإشكال في حملها على التقيّة؛ لأنّ فتواه الاولىٰ كانت شاهرةً، مع أنّ في النسبة تأمّلًا.

بل نفس هذه الرواية، و خصوص ما ثبت عندهم من رواية ابن مسعود عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «3»، يدلّان علىٰ ذهابه إلى الجواز، و سائر الفقهاء- لأجل الشبهة الموضوعيّة منعوا عن التوضّي به، كما هو الوارد في رواياتنا، فقد روىٰ سَماعة بن مِهْران، عن الكلبيّ النسّابة، روايةً مفصّلة مشتملة علىٰ قصّة النبيذ الذي توضّأ به النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)؛ و أنّه كان من الماء المطلق «4»، فتكون رواية عبد اللّٰه بن المغيرة، ناظرة إلىٰ ذلك؛ و هو الوضوء بالنبيذ الكذائيّ عند عدم وجدانه الماء الصافي و الخالص.

هذا مع أنّ ذيل الحديث من عبد اللّٰه علىٰ احتمال قويّ، أو من الإمام (عليه السّلام) فرضاً، إلّا أنّه أومأ إلىٰ ما فيه بقوله (عليه السّلام): «في حديث» مع أنّ حَريزاً لا يحكي الحديث إلّا سماعاً من سائر الناس، فالاتكال علىٰ مثله- بعد إعراض المشهور عنه غير جائز قطعاً.

و توهّم: أنّ الحمل على التقيّة يختصّ بمورد التعارض، و ما

نحن فيه ليس كذلك؛ لإمكان الجمع العقلائيّ بالتقييد، كتوهّم أنّ الشهرة من

______________________________

(1) المجموع 1: 93/ السطر 17.

(2) المغني، ابن قدامة 1: 9/ السطر 9.

(3) سنن ابن ماجة 1: 135.

(4) الكافي 1: 348/ 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 61

المرجّحات في مقام التكاذب، و التفصيل يطلب من «تحريراتنا في الأُصول» «1» و حديث التمسّك بالقاعدة المشار إليها «2»، لا يرجع إلىٰ محصّل، كما لا يخفى.

و ما رواه الصدوق «3» علىٰ فرض كونه رواية، شاهد علىٰ أنّ النبيذ الذي توضّأ به النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، لم يخرج من كونه ماءً، فعليه يجوز ذلك عندنا، و لا يختصّ الحكم بالماء المطروح فيه التمرات.

ثمّ إنّه لو سلّمنا السند و الدلالة، فلنا دعوى أنّه من الأحكام المختصّة بالنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و لا دليل علىٰ حصرها، علىٰ ما تقرّر في محلّه «4» فتأمّل.

الفصل الثامن في عدم مطهّرية ماء الورد من الحدث
اشارة

قال الصدوق في «الأمالي» و «الفقيه» و «الهداية»: «يجوز الوضوء بماء الورد و غسل الجنابة» «5».

و نسب إلىٰ الكاشاني الميل إليه «6»، بل حكي عنه الفتوىٰ

______________________________

(1) ممّا يؤسف له عدم إنهاء الكتاب إلى مباحث التعادل و الترجيح.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 22.

(3) الفقيه 1: 11 بعض الحديث 20.

(4) لاحظ جواهر الكلام 29: 129.

(5) الأمالي: 514، الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

(6) الحدائق الناضرة 1: 397.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 62

به «1»، و هو محلّ منع؛ لصراحة كلامه في «المفاتيح» و «الوافي» «2» في أنّه شُبهةٌ في إضافته؛ و لدعوىٰ أنّه من المطلق جوّز التوضّي

به، و عليه يمكن حمل كلام الصدوق، بل و حمل كلام أصحاب الحديث القائلين بجوازه، بل و حمل الرواية الآتية، و لكنه ليس بمهمّ في البحث.

التمسّك بخبر يونس علىٰ مطهّرية ماء الورد من الحدث

و الذي هو المهمّ: هو أنّه هل يجوز التوضّي بماء الورد و لو كان مضافاً أم لا؟

فمقتضىٰ ما عرفت منّا هو الثاني، و قضيّة رواية يونس، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة. قال

لا بأس بذلك

و إطلاقِها هو الأوّل.

و لا يخفىٰ: أنّ كونها مستند «الفقيه» محلّ منع؛ لأنّ ظاهره تجويز غُسل الجنابة به، دون الأغسال الأُخر، بل من المحتمل قويّاً أنّ قوله: «يغتسل» هو الغَسل من النجاسة، لا الحدث، و إلّا كان ينبغي أن يأتي بكلمة «أو» و عليه تكون الرواية من الأدلّة علىٰ جواز رفع الخبث بماء الورد، و بعد إلغاء الخصوصيّة و حمله علىٰ المثال، يظهر الحكم في سائر المياه المضافة، و نشير إليها في المبحث الآتي.

ثمّ إنّ مقتضىٰ إطلاق الرواية، جواز التوضّي بكلّ ما يعدّ ماء الورد،

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 31.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 47، الوافي 6: 325.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 63

سواء كان من الماء المطلق أو ماءً مشكوكاً إطلاقه، أو مضافاً، فالرواية علىٰ خلاف القاعدة في الفرضين الأخيرين، فتأمّل جدّاً.

و قد يظهر من بعضٍ اختيار الصدوق الأوّل ذلك أيضاً، و لكنّه غيرَ موجود في الكتب المعدّة لنقل فتوى الأعلام.

بيان وجوه الخدشة في خبر يونس

فبالجملة: هذه الرواية من حيث السند مخدوشة؛ لما فيه أشخاص، مثل عليّ بن محمّد المشترك بين الثقة و الضعيف، و سهل بن زياد غير معتبر عندي، و قد ضعّفه النجاشيّ و غيره «1»، و محمّد بن عيسىٰ عن يونس الذي قيل في حقه: «إنّه غير معتمد في رواياته عنه» «2» و هذا أيضاً شاهد علىٰ أنّ مستند فتوى الصدوق، ليس هذه الرواية.

و فيها من جهة

الصدور أيضاً إشكال؛ لما مضى الإيماء إليه.

و لعلّ ماء الورد الجائز التوضّي به، من المطلق في عصر صدور الرواية؛ لعدم المياه الغليظة، بل غاية ما كان عندهم الماء الملقى فيه بعض الورد، كالماء الملقى فيه التمرة و التمرات، فإطلاقها غير معلوم؛ لأنّ من المحتمل- قويّاً أن يكون ترك الاستفصال؛ للاتكاء على التعارف، و لا أقلّ من الشك؛ ضرورة أنّ الإطلاق الجائي من قبل ترك الاستفصال، لا يثبت إلّا بعد إحراز ما ذكر، فتدبّر.

______________________________

(1) رجال النجاشي: 185/ 490، الفهرست، الشيخ الطوسي: 80.

(2) لاحظ رجال النجاشي: 333/ 896.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 64

فالرواية من الجهات الثلاث، غير نقيّة، بل إعراض المشهور عنها و عدم كونها مستند الصدوق ظاهراً، يضربها على الجدار.

هذا مضافاً إلىٰ معارضته مع «الفقه الرضويّ» النافي بالصراحة جوازَ التطهّر بماء الورد «1».

و توهّم: أنّ النسبة بين الرواية و مفهوم الحصر المستفاد من الكتاب، عموم من وجه «2»، ناشئ عن الغفلة؛ فإنّ النسبة عموم مطلق.

نعم لو قلنا: بأنّ الرواية ناظرة إلىٰ إثبات مطهّرية ماء الورد للحدث و الخبث، تكون النسبة عموماً من وجه.

و لك دعوى: أنّ الحصر لا يستفاد من الكريمة قطعاً، كما أشرنا إليه، و غاية ما في الباب استفادته من الرواية، و هي تفيد انحصار المطهّرية للحدث و الخبث بالماء، فتكون النسبة بين الرواية و مفهوم الحصر، عموماً مطلقاً أيضاً.

الفصل التاسع في عدم مطهّرية المضاف من الخبث
اشارة

المشهور عدم مطهّريته للخبث أيضاً، و ما ترى في «الروض» من دعوى الإجماع «3»، و هكذا في «الجواهر» و غيره «4»، من قلّة التدبّر في

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 92.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 34.

(3) روض الجنان: 133/ السطر الأخير.

(4) جواهر الكلام 1: 315، مجمع الفائدة

و البرهان 1: 249.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 65

كلمات القوم، علىٰ ما سيأتي بعض الكلام فيها.

تحديد الجهة المبحوث عنها في المقام

و قبل الخوض في المسألة، لا بدّ من الإشارة إلى الجهة المبحوث عنها؛ و هو أنّ الشي ء إذا تنجّس، فهل يطهر بمطلق الاصطكاك و لو بالجامدات، أو لا يطهر إلّا بالمائع، أو المضاف، أو الماء المطلق؟

و أمّا البحث حول أنّ الشي ء لا ينجس أصلًا، بل اللّازم الاجتناب عن النجس بوجوده أينما كان، سواء كان قائماً بنفسه، أو قائماً بالغير عرفاً، فهو خارج عن هذا المقام، و سيأتي البحث عنه في مباحث النجاسات «1».

و المخالف في تلك المسألة هو الفيض، حيث توهّم أنّ أجزاء النجس كأجزاء ما لا يؤكل «2»، فكما هي مانعة عن الصلاة، و إذا زالت تصحّ الصلاة مع الثوب، كذلك تلك الأجزاء النجسة، و لا يعقل حمل المتنجّس علىٰ شي ء إلّا مع وجود المنجِّس، و الوساطةُ في الثبوت ممّا لا دليل عليها، بل الظاهر من الأدلّة هي الوساطة في العُروض، فإذا زالت أجزاء النجس فقد طهر الشي ء، و عليه يلزم سقوط الاستصحاب و الأصل المحرّر سابقاً؛ لأنّه لا يقين بتنجّس الشي ء، حتّى يشكّ في زوالها بالمضاف و غيره.

فبالجملة: لا ينبغي الخلط بين المسألتين، و تلك المسألة تعْرض لموضوع هذه المسألة؛ و هي أنّه إذا تنجّس الشي ء بالسراية، فهل يحتاج

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 283 و ما بعدها.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 66

في تطهيره إلىٰ مزيل خاصّ، أو إلىٰ عنوان «الغسل» أم لا؟

و لا يخفىٰ: أنّه لا ملازمة بين كون الشي ء متنجّساً، و كون المزيل أمراً مخصوصاً، بل يمكن الجمع بين اختيار تنجّس الشي ء، و إمكانِ تطهيره بكلّ

شي ء.

نعم، في مثل ما لو زالت الأجزاء النجسة بالهواء و الشمس، فإنّه لا يطهّر المتنجّس، بل لا بدّ من القول باعتبار الاصطكاك الخارجيّ و المسّ و لو بالثوب.

و أمّا القول بتنجّس الشي ء، و القول بإمكان تطهيره بكلّ شي ء و لو بتلك الأُمور المشار إليها- بل و لو بانعدام تلك الأجزاء فهو يرجع إلىٰ إنكار التنجّس المقصود في تلك المسألة، كما لا يخفىٰ.

القول بمطهّرية المضاف ليس شاذاً، و لا مهجوراً

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ المسألة ذات قولين معروفين، و ليس السيّد المرتضىٰ و شيخه المفيد، وحيدين في مرامهما؛ و ذلك لدعوى السيّد الإجماع في «الناصريّات» «1» و لقول الشيخ في «الخلاف»: «و هو مذهب أكثر علمائنا» «2» و مثله كلام السيّد في «الغنية» «3» و العلّامة في «التذكرة» «4».

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(2) الخلاف 1: 59.

(3) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 490/ السطر 26.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 67

و لقول «المختلف»: «و هو المشهور» «1» و لنصّ «السرائر» في نسبته إلى السيّد و جماعة من أصحابنا «2».

و لقول المفيد، حيث نقل المحقّق عنه نسبته إلى المذهب «3»، بل و مثله السيّد في غير «الناصريّات».

و لما تحرّر منّا في محلّه: أنّ كثيراً من الأعاظم السابقين أصحاب الكتب و الفتوىٰ، مهملين في كتب التراجم و الفهارس، بل في عصرنا- مع هذه السعة و الوسائل للاطلاع يسقط تراجم كثير من الأعلام، و لذلك استشكلنا في حجّية الشهرة صغرويّاً «4».

فالنسبة إلىٰ الشهرة و الإجماع، و دعوى الشذوذ؛ و أنّ القول بمطهّرية المضاف مهجور، خالٍ من التحقيق.

نعم، هو المهجور بما لا يوجب إشكالًا في المسألة؛ فإنّ ذهاب المتأخّرين إلىٰ أمر، لا يورث لنا شيئاً.

فتوهّم: أنّ كلام «السرائر» و

غيره خالٍ من التحقيق، نشأ من عدم الاطلاع علىٰ أوضاع السابقين و أحوالهم، أ فما سمعت أنّ الشيخ منتجب الدين جمع في «فهرسته» جماعة من العلماء أصحاب التصانيف، مع أنّه سقط- حسبما أقرّ به السيّد الأُستاذ البروجرديّ من قلمه جماعة،

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

(2) السرائر 1: 59.

(3) المعتبر 1: 82.

(4) تحريرات في الأُصول 6: 403.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 68

و أنهاهم إلىٰ قريب من سبعين «1»؟! فمنه يعلم أنّ الأمر ليس كما زعمه القوم في هذه المسألة، فتدبّر.

فعليه تكون المسألة روائيّة محضة، فإن دلّت الروايات علىٰ مذهبهما فهو، أو علىٰ مذهب ثالث فهو المأخوذ، و لا حجّة في قبالها من تلك المنقولات و المحصّلات المنقولة، فالبحث في المقام يتمّ في ضمن أُمور:

الأوّل: في اشتراط التطهير بالغسل بالماء
اشارة

هل يعتبر التطهير بالمائع، أو يكفي التراب مثلًا، أو غيره؛ بأنّ يكون اللّازم الاصطكاك بشي ء و لو كان جامداً؟

فيه وجهان، و الذي لا ريب فيه- حسب الأقوال و الروايات هو الأوّل.

و ربّما يخطر بالبال توهّم؛ رجوع الثاني إلىٰ إنكار تنجّس الشي ء، و لكنّك أحطت بما فيه؛ فإنّه- علىٰ هذا القول يجب الاصطكاك و إن لم يكن مزيلًا لشي ء لزوال جميع الأجزاء النجسة، بخلاف القول بعدم تنجّس الشي ء، كما هو الظاهر.

وجه عدم اشتراط الغسل و جوابه

و الوجه المعتمد عليه هنا، هو أنّ المقصود من الشرع ليس إلّا تنظيف الشي ء عرفاً، و هي تحصل بالجامد أيضاً، فلو تلوّثت الظروف، فكما

______________________________

(1) لاحظ مقدّمة جامع الرواة الصفحة «ج».

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 69

تنظف بالماء و (الألكل) و غيرهما ممّا يشابههما، كذلك تنظف بالثياب، كما هو المتعارف اليوم في الأسواق، و كما يكون استعمال الماء في مورد القطع بزوال الأجزاء القذرة، أمراً تعبّدياً، كذلك استعمال الثوب، فالماء في الرواية مذكور لغلبة الاستعمال، و هكذا الغسل؛ للمتعارف، و الذي هو المقصود هو التطهير و التنظيف المأمور به في الكتاب وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ «1».

و توهّم: أنّ التطهير مخصوص من حيث اللّغة بالغسل، فاسد جدّاً؛ ضرورة استعمالها في الأعمّ، فيتعيّن عليه هذا القول الثالث في المسألة.

و لكن الالتزام به- بعد إجمال الآية الشريفة، علىٰ ما يأتي بعض البحث حولها، و عدمِ معروفيّة الحكم بين الملّة الإسلاميّة، مع كثرة الابتلاء به غير ممكن جدّاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّها ليست مجملة؛ ضرورة أنّ حذف المتعلّق دليل العموم، و ما ورد من: «أنّ المقصود من التطهير التقصير» «2» أو «أنّ المقصود منه رفع الثياب و تشميرها» «3» لا بدّ و أن يرجع إلىٰ معنى التطهير،

______________________________

(1) المدّثّر

(74): 4.

(2) كنت عند أبي جعفر (عليه السّلام) إذ دخل عليه أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال أبو جعفر (عليه السّلام): يا بنيّ أ لا تطهّر قميصك؟ فذهب فظننّا أنّ ثوبه قد أصابه شي ء فرجع فقال: إنّه هكذا فقلنا: جعلنا اللّٰه فداك ما لقميصه؟ قال: كان قميصه طويلًا و أمرته أن يقصِّر إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ».

الكافي 6: 457/ 10.

(3) عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قوله تعالىٰ «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ» قال: فشمّر.

الكافي 6: 455/ 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 70

و يكون من مصاديقه علىٰ ما تقرّر منّا في كيفيّة تفسير الأخبار من الآيات، خصوصاً بعد عدم ورود التطهير بالمعنى المفسّر به لغةً.

المختار في معنى قوله تعالىٰ وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ

و الذي يظهر لي: أنّ الثياب المنجرّة على الأرض، كانت موجبة لنقل النجاسات و الكثافات، و تنجِّسه بالقاذورات، و كانت موجبة للتفخيم و التكبّر و المفاخرة و الطمطراق فأُمروا بالتطهير؛ للزوم تقصيرها عادة، فتقصيرها به لأجل تنجّسه بعدم التشمير، و ما ورد في الروايتين يرجع إلىٰ معنى واحد أيضاً، فبذلك يحصل الطهارة، و يلزم عدم تنجّسه الذي هو أيضاً من الطهارة، و لو لم يكن الأمر كما ذكر يلزم الاستعمال الغلط، إلّا بالالتزام بأنّ من معاني «التطهير» التقصير، و هو بلا حجّة.

و ربّما يخطر بالبال: أنّ المراد من الآية تطهير النفس من الأدناس و الأنجاس و الأرجاس، و هي كناية معروفة بين العرف و العرب، و يعرب عنه كتب اللّغة فراجع «1»، و قولُه (عليه السّلام)

فسدلت دونها ثوباً

«2» ف «الثوب» و «الثياب» من الكنايات، كما في الفارسيّة، و عليه تسقط الآية عن صحّة الاستدلال بها بعد هذا الاحتمال القويّ جدّاً.

و توهّم التنافي بين مفاد

الروايات الواردة في ذيلها و هذا المعنى الكنائيّ، ممنوع، بل ظاهر بعضها يدلّ علىٰ ما أُشير إليه، فراجع.

______________________________

(1) المفردات في غريب القرآن: 308، أقرب الموارد 1: 719.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 71

فتحصّل: أنّ هذه الآية أجنبيّة عن المسألة «1»، و هكذا عن مختار السيّد و المفيد في المسألة الآتية.

لزوم تقييد الآية بالغسل بالماء علىٰ فرض إطلاقها

و لو سلّمنا إطلاقها و دلالتها علىٰ هذه المسألة، فمقتضىٰ ما تحرّر في محلّه في المثبتات، حملُ المقيّد أيضاً إذا كان القيد في المقيّد ظاهراً في المفهوم، و كان الحكم و المطلوب واحداً «2»، فعليه يحمل إطلاق الآية على المقيّدات، و سيأتي بعض البحث فيه «3».

و لو سلّمنا صحّة حمل المقيّدات على المتعارف؛ و أنّ القيد فيها من القيود غير الاحترازيّة، نظير آية الربيبة «4»، فالالتزام بهذا الحكم مشكل؛ لما سمعت منّا أنّ هذه الأحكام الكثير ابتلاء الناس بها، لا يحتاج ثبوتها إلى الرواية و إطلاقها، بل لا بدّ من اشتهارها بين الناس في جميع

______________________________

(1) و مثلها قوله تعالىٰ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (أ).

و قوله تعالىٰ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (ب).

و تقريب الاستدلال بهما بعد حذف المتعلّق معلوم، و لا يرد عليهما ما يتوجّه إلى الاولىٰ، بل لهما العموم دونها، فإذا كان التطهّر محبوباً، فطهارته ممضاة في الشريعة، فتدبّر جيّداً. [منه (قدّس سرّه)] (أ) البقرة (2): 222.

(ب) التوبة (9): 108.

(2) تحريرات في الأُصول 5: 492 493.

(3) يأتي في الصفحة 74 75.

(4) النساء (4): 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 72

الأعصار و الأمصار.

و توهّم: أنّ الماء ممّا كثر في البلاد، فلا يلزم ما ذكر، مدفوع بأنّ الأعصار الماضية لا

تقاس بهذه الأعصار، فافهم و تدبّر.

و قد مضى أنّ قضيّة الأُصول العمليّة، لزوم التطهير بما هو القدر المتيقّن و هو الماء المطلق «1».

الاستدلال علىٰ مطهّرية المسح و الغسل بالبزاق

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال لهذا المرام، بما رواه الصدوق بإسناده المعتبر، عن حكم بن حكيم ابن أخي خلّاد: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال له: أبول فلا أُصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول، فأمسحه بالحائط و بالتراب، ثمّ تعرق يدي، فأمسح به وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي.

قال

لا بأس به «2».

فإنّ الظاهر منه أنّ الراوي ظنّ طهارة يده بالمسح، و كفاية التراب المطهّر من الحدث و من الخبث في ولوغ الكلب، فأجابه الإمام بما سمعت. و كونها دليلًا علىٰ عدم منجّسية المتنجّس، بعيد.

نعم، ظاهرها أنّه مطهّر من الخبث البوليّ عند عدم القدرة على

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 47.

(2) الفقيه 1: 40/ 158، وسائل الشيعة 3: 401، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 6، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 73

الماء، فيكون قولًا آخر في المسألة، إلّا أنّ ذكر عدم إصابة الماء لا يدلّ علىٰ شي ء، كما لا يخفىٰ.

و لك الاستدلال بمآثير وردت في مسألة الغسل بالبُزاق «1»، بناءً علىٰ أنّ الغسل العرفيّ لا يحصل به، فهو في حكم الجامد، فكما يلغى الخصوصيّات في مذهب المشهور- لكلّية الحكم كذلك هي ملغاة هنا، و سيوافيك تمام البحث حولها من قريب.

الثاني: في عدم مطهّرية المضاف و سائر المائعات
اشارة

المنسوب إلى المفيد و تلميذه السيّد و جماعة من معاصري ابن إدريس، جوازُ التطهير بمطلق المائعات «2».

و الذي يظهر لي بعد التدبّر في كلام السيّد صدراً و ذيلًا المحكيّ عن «الناصريّات» و «شرح المسائل الخلافيّة» هو أنّه من المخالفين في تلك المسألة، كالفيض الكاشانيّ «3»، و أنّه اتخذ المسألة من المفيد أستاذه، فإنّهما هنا واحد، و إفتاؤه بجواز التطهير بالمسح في الأجسام الصيقليّة دون غيرها، ليس إلّا لأجل

عدم قوله بالسراية، و أنّه مع كون الجسم صقيلًا يتمكّن من إزالة الأجزاء النجسة دون غيرها؛ لأنّ الأجزاء

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.

(2) مفتاح الكرامة 1: 59/ السطر 10، لاحظ الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(3) مفاتيح الشرائع 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 74

الصغيرة تدخل الأجواف من الجسم، و هي لا تزول إلّا بالماء و مثله، فعليه لا مخالف في هذه المسألة إلّا توهّماً.

نعم، إطلاق فتوى ابن أبي عقيل «1»، يورث مخالفته طوليّاً لا عَرْضيّاً، كما مرّ تفصيله «2».

أدلّة مطهّرية المائعات و نقدها
اشارة

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ لهذا القول- بعد ما عرفت حال الإجماع و الآيات الثلاث بنصوص و إطلاقات.

و قبل الإشارة إليهما، لا بدّ من الإيماء إلىٰ نكتة، و هو أنّ من المحتمل اختيار السيّد في تلك المسألة تنجّسَ الأشياء و سرايةَ النجاسة إليها، و اختياره في هذه المسألة مطهّرية غير المائعات أيضاً، و لنا اختياره و إن كان من إحداث القول الثالث كما مضى سبيله.

و لذلك نستدلّ بالآيتين السابقتين- أيضاً لعموم هذا القول، و لا يتوجّه إليهما الإشكالات المتوجّهة إلى الآية الأُولىٰ، و لا وجه لدعوىٰ ورودهما في التطهير بالماء في الاستنجاء، أو الحدث فقط؛ لأنّ الروايات لا توجب حصر العموم في مفادها، كما لا يخفىٰ.

فلو فرضنا قصورهما عن إثبات مطهّرية الجوامد في الجملة، فلا شبهة في دلالتهما علىٰ مطهّرية المائعات بمقتضى الصناعة، فكما مَن تطهَّر

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

(2) تقدّم في الصفحة 58، الفصل السابع.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 75

بالأحجار موردُ حبّ اللّٰه تعالىٰ، و نتيجته جواز الصلاة و الطواف و غيرهما، كذلك مَن تطهَّر مِن نجاسة

الدم مثلًا بالتراب و هكذا.

نعم، بناءً علىٰ ما يأتي من استفادة مطهّرية المياه المطلقة فقط من الروايات، يمكن تقييد الآية و تخصيصها.

الروايات الدالة على مطهّرية المائعات و الجواب عنها

إذا عرفت ذلك فالنصوص كثيرة:

منها: رواية يونس، عن أبي الحسن (عليه السّلام) الماضية قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة.

قال

لا بأس بذلك «1».

فإنّها تدلّ علىٰ إزالة الخبث بالمضاف، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة سريان الحكم إلىٰ كلّ مائع.

و منها: النصوص الواردة في نفي البأس عن غسل الدم بالبُصاق «2»، و هي نقيّة السند، تامّة الدلالة.

و توهّم إمكان حملها على التقيّة غير تامّ؛ ضرورة أنّ قوله (عليه السّلام)

لا يغسل بالبصاق غير الدم

لا يقبل الحمل على التقيّة، بل حصره خلاف التقيّة.

______________________________

(1) الكافي 3: 73/ 12، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 76

نعم، إعراض المشهور- علىٰ إشكال يوجب وهنها، و كثرةُ الابتلاء بمثل ذلك و عدمُ وضوح الحكم، تكفي لفساد هذا الرأي.

و منها: ما مرّ في الأمر الأوّل من رواية حكم بن حكيم، فإنّها ذات وجوه و احتمالات، و منها: دلالتها علىٰ طهارة اليد النجسة- بالبول بالعرق الذي هو لا يقصر من البصاق، فتكون من أدلّة السيّد علىٰ حصول الطهارة بمطلق المائعات.

و لعمري، إنّ هذه المسائل الرائجة، لا تثبت بمثل هذه النصوص، خصوصاً بعد إعراض المشهور عنها، و لا سيّما بعد موافقتها مع الفتوى المعروفة عن العامّة القائلين بجواز التطهير بالمائعات «1»، فلا ينبغي التأمّل في فساد هذا الرأي أيضاً.

كلام صاحب الجواهر و نقده

و أمّا ما في «الجواهر»: من الاستدلال على السيّد و من يحذو حذوه، بالإجماع علىٰ نجاسة المائعات بملاقات النجاسة «2»، فتكون الروايات خلاف ما ذهب إليه المشهور أيضاً في تنجّس المضاف، فهو غير تامّ؛ ضرورة أنّ قضيّة الجمع بين

الأخبار- بعد قصور الإجماعات في هذه المسائل عن إفادة شي ء هو القول بتنجّس المائع بورود النجس عليه لا العكس، فلو ورد المائع الطاهر على النجس فهو يورث طهارته، و هذا هو

______________________________

(1) الخلاف 1: 59، المبسوط، السرخسي 1: 96.

(2) جواهر الكلام 1: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 77

المناسب للاعتبار، كما لا يخفى.

تقريب التمسّك بالمطلقات لإثبات مطهّرية المائعات

و أمّا التمسّك بالمطلقات، فيتمّ- علىٰ فرض صدق «الغسل» بمطلق المائع، و علىٰ فرض الإطلاق للأوامر الباعثة إلى الغسل في أبواب النجاسات البالغة حدّا لا يحصى بحمل القيد في المقيّدات على الغالب، و بتكذيب دعوى انصرافها إلى الغسل بالماء، فحينئذٍ يتمّ القول بمطهّرية المياه المضافة، خصوصاً بعد عدم الدليل علىٰ حصر المطهّرية بالماء في المقام، و استفادة الحصر في البول لا يورث الحصر الكلّي؛ لاختصاصه بأحكام خاصّة.

بل الظاهر من قوله (عليه السّلام) في أبواب الخلوة

و لا يجزي من البول إلّا الماء «1»

أنّ غير البول يطهّر بغير الماء، و إلّا يلزم التقييد المستهجن.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه في قبال قوله (عليه السّلام) في الرواية

يجزي من الغائط المسح بالأحجار

فلا دلالة له إلّا علىٰ أنّ الغائط أعمّ، دون البول.

و ما أفاده «الجواهر»: «من إهمال المطلقات طرّاً» «2» غير قابل للتصديق؛ فإنّ لسان تلك الروايات مختلف، و في طائفة منها يكون الحذف

______________________________

(1) عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلّا الماء.

تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 6.

(2) جواهر الكلام 1: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 78

قرينة الإطلاق.

نعم، كثير منها ليس في مقام إفادة كيفيّة الغسل، بل ربّما

تكون ظاهرة في إفادة النجاسة؛ بإيجاب الغسل، من دون النظر إلىٰ ما يغسل به.

و ما أفاده القوم: «من أنّ الماء في طائفة من الروايات جي ء لإفادة المفهوم و الاحتراز» «1» خالٍ عن التحصيل؛ ضرورة أنّ ورود القيد مورد الغالب لو كان له محلّ و مورد فهو هنا، فإنّ الماء الكثير الرائج و المطهّر إلّا على المتعارف القليل المئونة للصرف و غير ذلك، لا يذكر في الكلام إلّا للتعارف و كثرة الانس به.

و توهّم: أنّ ذكره مع هذه الشواهد، دليل علىٰ أنّ المتكلّم يريد الاحتراز به، غير ناهض علىٰ ما يفهم العرف من هذه القيود.

و العجب من الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللّٰه)، حيث ظنّ أنّ قضيّة القواعد حملها علىٰ القيديّة إذا شكّ في أنّه وارد مورد الغالب!! «2» و ذلك لأنّ الرجوع إلىٰ تلك القاعدة، يتمّ في مورد الشكّ و الاحتمال غير المستند، دون الشكّ المستقرّ و الاحتمال العقلائيّ، و قد تقرّر في حمل الكلام على المطلق: أنّ مع وجود ما يصلح للقرينية، لا يمكن ذلك الحمل؛ لعدم مساعدة العقلاء معه «3»، فلا تغفل.

نعم دعوى الانصراف قويّة جدّاً.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 42.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 55/ السطر الأخير.

(3) تحريرات في الأُصول 5: 350 351.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 79

إبطال التمسّك بالمطلقات

و الذي يسهّل الأمر: هو أنّ جميع هذه المطلقات و تلك العمومات التي أسّسناها في المسألة من الكتاب و السنّة، لا تفيد شيئاً، بل كلّما ازدادت قوّة الدليل علىٰ مطهّرية المائعات، يعلم ضعف هذا المرام و فساد هذا الرأي؛ لأنّه لو كان هذا من المذهب، لما خفي علىٰ أرباب الأُصول الأوّلية و الثانويّة و أصحاب الكتب المدوّنة في الفتوىٰ من السابقين و

اللّاحقين، بل يشهر كالشمس في رابعة النهار.

فالحقّ انحصار المطهّر بالمياه المطلقة، كما هو المشهور المعلوم من المذهب، فلا حاجة إلىٰ تحرير الأمر الثالث؛ في أنّ الأدلّة قائمة علىٰ مطهّرية المياه، بعد بطلان ما يقتضي مطهّرية غير المياه من سائر المائعات، فلاحظ و تدبّر.

الفصل العاشر في انفعال المائعات مطلقاً و لو كانت كثيرة، إلّا الماء المطلق إذا كان كرّاً
اشارة

أمّا البحث في الماء المطلق و قليله و كثيره، فسيأتي من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 80

و أمّا في غيره، فالمشهور بين الأصحاب- بل المجمع عليه «1» و هو المعروف في المخالفين «2»، انفعال المياه المضافة و جميع المائعات.

و نسب إلىٰ جماعة منهم عدمه «3»، و هو المنسوب إلى السيّد المرتضىٰ «4»؛ لأنّه يقول بمطهّريتها، و إطلاقه يقتضي طهارة النجس الوارد على المضاف المورود.

و فيه: إمكان المنع، و الأمر سهل.

و الذي هو المقصود في المقام، إيجاب الاجتناب عن ملاقي الأنجاس؛ سواء قلنا بالسراية، أو لم نقل.

نعم، قضيّة فهم العرف هي السراية، و لكنّه ممنوع في موارد مع وجوب الاجتناب فيها؛ ضرورة أنّ القذارات الشرعيّة لا تسري إلى الملاقيات عرفاً، فلا بدّ من إقامة الدليل.

مقتضى الأصل العملي في المقام

فبالجملة: مقتضى الأصل عدم وجوب الاجتناب عن الملاقيات، كما صرح به «الجواهر» (رحمه اللّٰه) «1».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 33، منتهى المطلب 1: 22/ السطر 1، ذكرى الشيعة 1: 7/ السطر الأخير، جواهر الكلام 1: 322.

(2) المجموع 1: 125/ السطر 5.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 33، المغني، ابن قدامة 1: 29، الشرح الكبير 1: 31 32.

(4) الخلاف 1: 59، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(1) جواهر الكلام 1: 135.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 81

و لا وجه لما قد يتوهّم؛ من أنّ جعل النجاسة للأعيان النجسة، يستلزم قهراً وجوب الاجتناب؛ لأنّ السراية من تبعات النجاسة في مرتكز العرف و المتشرّعة، بداهة أنّ ذلك ليس إلّا لأجل الأدلّة الشرعيّة، و للشرع تجويز ارتكاب ملاقي النجاسة، كما قيل به في الوسائط الكثيرة «1»، فلا إشكال على الأصل المذكور، كما يظهر من الشيخ الأنصاريّ (رحمه

اللّٰه) في «كتاب الطهارة» «2».

نعم، لا بدّ من الدليل للخروج عن مقتضاه؛ من الإجماع و العقل، أو الكتاب و السنّة.

أدلّة تنجّس المائعات
اشارة

و ما يمكن أن يستدلّ به عليه أُمور:

الأمر الأوّل: التمسّك بذيل العرف

قد تقرّر في محلّه وجوب الاجتناب عن القذر و النجس «3»، و هما من العناوين العرفيّة، فكما يجب الاجتناب عن الأعيان النجسة القذرة العرفيّة، يجب الاجتناب عن ملاقياتها؛ لصدق الاسم عليها، فلو وقعت العَذِرة في إناء من اللّبن، يعدّ اللّبن قذراً، فيجب الاجتناب عنه؛ لقوله (عليه السّلام)

______________________________

(1) تحرير الوسيلة 1: 123، المسألة 9.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

(3) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 156 158، جواهر الكلام 6: 89.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 82

كلّ شي ء طاهِر حتّى تعلم أنّه قذر «1»

فإنّه يعلم منه لزوم الاجتناب عنه.

نعم، في غير القذرات العرفيّة تحتاج إلى الدليل، فمثل الكافر يلحق بالقذارات العرفيّة، دون ملاقيه، إلّا من جهة لزوم خرق الإجماع؛ لاستلزامه التفصيل الذي لا يقول به أحد.

و فيه منع واضح؛ لأنّه ليس من الإجماع المعتبر بعد وجود النصوص في المسألة، فبهذا البيان يثبت السراية في الجملة.

و غير خفيّ: أنّ معنى السراية، هو إحداث التكليف الآخر غير التكليف المتوجّه أوّلًا بالأصل، كما أنّ معناها ليس السراية التكوينيّة، حتّى يلزم وجود الأجزاء من الشي ء الملاقى إلى الملاقي بالكسر، و لذلك لا نبالي بها مطلقاً فتدبّر.

إن قلت: لا بدّ من الالتزام بالسراية، حتّى يشمل الدليل الواحد نجاسة الملاقى و الملاقي، فما دام لم يكن اللّبن قذراً لا يشمله الأدلّة العامّة، و هذا هو النجاسة الاكتسابيّة قبال الذاتيّة.

قلت: نعم، إلّا أنّ الجهة المبحوث عنها أعمّ، و لا يتقوّم بذلك.

و بعبارة اخرىٰ: الاستدلال بهذا الوجه، لا يمكن إلّا بالالتزام بالسراية و النجاسة الاكتسابيّة، حتّى تأتي الأدلّة المتكفّلة لأحكامها هنا، و لكن نحن في موقف إثبات وجوب الاجتناب عن ملاقيات الأنجاس و إن لم تكن

قذرة عرفاً، و لا تكون النجاسة مسرية، فما يظهر من القوم؛ من تقوّم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 30، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 83

المسألة بالسراية «1»، في غير محلّه.

نعم، في مورد السراية يكون هذا التقرير أيضاً، دليلًا علىٰ لزوم الاجتناب عن الملاقي؛ بلغ ما بلغ.

الأمر الثاني: الأدلّة اللفظية
اشارة

قد تقرّر في الماء القليل، أنّ الأدلّة اللّفظيّة- بعمومها قاضية بأنّ ملاقاة النجاسة تقتضي السراية، و أيضاً تكون الكرّية مانعة عن الانفعال؛ و ذلك لامتناع كون الماء في أصل طبيعته، محكومَ الحكمين المتضادّين؛ و هما الانفعال، و اللّاانفعال، فيكون في الموضوعين قيدان وجوديّان أو غيرهما؛ و هما القلّة، و الكثرة.

و لا يعقل كون القلّة موجبة للانفعال؛ لأنّها أمر عدميّ، و لاحظ له حتّى يكون له هذه الشأنيّة، فتكون الكثرة مانعة، و حيث هي منحصرة بالكرّية، فجميع ملاقيات الأنجاس تنجس قهراً؛ لتماميّة المقتضي، و عدمِ المانع.

و لو شكّ في مورد، يكون من الشكّ في التخصيص، و الأصل عدمه.

و توهّم: أنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ممنوع؛ لأنّ المفروض استفادة حصر المانع بالكرّية في الماء المطلق، فلا وجه لدعوىٰ أنّ المقتضي محرز، دون المانع فيما نحن فيه، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 114.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 84

مناقشة الدليل السابق

أقول: هذا ما قد أشار إليه الشيخ الأعظم «1»، و قد أتممناه بتقرير منّا، و بهذا البيان يقال بنجاسة المضاف الملاقى و لو كان كثيراً.

و لكنّه لو سلّمنا جميع ما قد أفاده من الاستفادة في تلك المسألة، لا يتمّ الدليل هنا، و لا في الكثير:

أمّا في الكثير؛ فلأنّ الانفعال و التأثّر في القليل- في الجملة أمر عرفيّ يدركه العقلاء، و في غيره لا بدّ من الالتزام بكشف الشرع، و الأدلّةُ عنه قاصرة، أو الالتزام بالتعبّد بالسراية، فهو كذلك، و لا داعي إلى التعبّد في الموضوع بعد إعمال التعبّد في الحكم بالاجتناب.

و أمّا في القليل من المضاف، فلا يتمّ الدليل فيه أيضاً؛ لأنّ المستكشف هناك

أُمور ثلاثة: اقتضاء الملاقاة للسراية، و قابليّة الماء للانفعال حسب الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل، و مانعيّة الكرّية عن الانفعال، و الأمر الأوّل و الثالث في المضاف موجودان و محرزان، دون الثاني؛ لأنّه أوّل الكلام، فالاستدلال به هنا مصادرة كما هو الواضح، و إثبات قابليّة المياه المضافة للنجاسة بأدلّتها الخاصّة «2»، خروج عن هذا الدليل كما لا يخفى.

و قد يستدلّ على المطلوب بالأولويّة؛ فإنّ الماء القليل إذا كان

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 85

ينفعل، فالمضاف بطريق أولىٰ، أو الإجماعاتِ المنقولة و الشهرات المحصّلة المحقّقة «1».

و أنت خبير: بقصورهما عن إثبات أمر في المقام.

بل لك الإشكال في الوجه الأوّل أيضاً: بأنّ ثبوت الصغرىٰ- و هي القذارة المكتسبة لا يكفي بدون الكبرى الكلّية، و لا دليل علىٰ أنّ كل قذر يجب الاجتناب عنه إلّا ما خرج بالدليل، و قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر «2»

لا يورث الكلّية و الإطلاق.

إلّا أن يقال: بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي الإطلاق، إلّا إذا دلّ الدليل، كما في بعض القذرات العرفيّة.

أو يقال: بأنّ بناء العقلاء على الاجتناب عن القذرات، و عدمُ الردع كافٍ لاستكشاف اللّزوم الشرعيّ، فتأمّل جيّداً.

و أمّا توهّم: أنّ القذر و النظيف في محيط الشرع، غيرهما في محيط العرف بالضرورة، فهو ممنوع؛ لما تقرّر منّا في محلّه أنّ الشرع لم يأتِ بأمر جديد في هذه المسائل، بل أتى بالقوانين الإصلاحيّة سعةً و ضيقاً «3».

الأمر الثالث: الآيات

و هي التي يمكن الاستدلال بها على لزوم الاجتناب عن ملاقيات النجس، و منها المائعات و المياه المضافة، مثل قوله تعالىٰ

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322.

(2)

تهذيب الأحكام 1: 285/ 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.

(3) تحريرات في الأُصول 1: 183 186.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 86

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1».

و قد استدلّ به السيّد في «الغنية» في مسألة انفعال الماء القليل «2»، و لا وجه للاختصاص.

و منها: قوله تعالىٰ في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «3».

و قد استدلّ به جماعة في مسألة حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة «4»، و لا وجه للخصوصيّة بعد تحقّق صغراهما في الملاقيات بالسراية و الاكتساب؛ لغةً و عرفاً و طبعاً و وجداناً.

و منها: قوله تعالىٰ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ «5».

و قد استدلّ به جماعة في المسألة السابقة «6»، و الأمر كما مضى، و وجه التقريب في الكلّ واحد و واضح.

و هكذا قوله تعالىٰ في سوره المائدة يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ «7».

______________________________

(1) المدّثّر (74): 5.

(2) الغنية، ضمن الينابيع الفقهيّة 2: 379.

(3) المائدة (5): 90.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مستند الشيعة 2: 395، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 11/ السطر 8.

(5) الأعراف (7): 157.

(6) لاحظ الام 1: 241، المحلّى بالآثار 6: 65، المجموع 9: 35.

(7) المائدة (5): 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 87

فإنّ قضيّة المفهوم ممنوعيّة الخبائث، و منها المياه المضافة الملاقية للأنجاس و المكتسبة للقذارة بها، و توهّم انصراف تلك الآيات إلى النجاسات الأصليّة دون الاكتسابيّة، لا يرجع إلىٰ محصّل.

نعم، هي أخصّ من المدّعىٰ؛ لعدم حصول القذارة في جميع الملاقيات كما عرفت.

و لا يخفىٰ: أنّه لا منع من التفصيل بين

الملاقيات، كما فصّل كثير من المعاصرين في الوسائط الكثيرة «1»، فكما أنّهم التزموا به هناك؛ لعدم تحقّق صغرى الكبرى الكلّية الزاجرة عن الأقذار، لقصور السراية عرفاً، و لعدم النصّ خصوصاً إلّا في ثلاث وسائط مثلًا، كذلك لنا التفصيل بين ملاقي النجس الذي يعدّ عرفاً مصداق النجس و القذر، و بين ما لا يعدّ، بعد ثبوت قصور النصوص الخاصّة عن إيجاب الاجتناب على النعت الكلّي.

هذا، و لكنك خبير: بقصور هذه الآيات عن إثبات الحكم و لو في الجملة فيما نحن، و قد تعرّضنا لها في المكاسب المحرّمة «2»، و أنّها هنالك لا تنفع شيئاً، فضلًا عن هذه المسألة.

الأمر الرابع: المآثير الكثيرة
اشارة

و هي واردة في الموضوعات المختلفة المشار إليها في كتب الأصحاب.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 173، المسألة 11، تحرير الوسيلة 1: 123، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 2: 221.

(2) كتاب المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه (مفقود).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 88

مثل ما ورد في نجاسة السمن و الزيت و شبهه «1»؛ بالتفصيل بين الجامد و المائع، فإنّه يعلم منه أنّ الأمر دائر بينهما، و لا خصوصيّة للمذكورات.

و منها: ما ورد في إيجاب إراقة المرق الذي وجدت فيه الفأرة و ماتت «2»، فإنّه يعلم منها أنّ الوجه انفعال الماء المضاف، دون الأمر الآخر، خصوصاً بعد الأمر بأكل اللّحم بعد تطهيره و غسله، و احتمال كون ذلك لرفع المرض الجائي من الفأرة، بعيد عن منساق الأخبار.

و منها: ما ورد في سؤر اليهود و النصارى «3»، فإنّ إطلاقاتها تشمل المضاف و كلّ مائع، و هكذا ما ورد في سؤر الكلب «4» و الخنزير «5» و النواصب «6»، فإنّ له من الإطلاق ما يشمل المقام، خصوصاً بعد مناسبة الحكم

و الموضوع، و أعمّية لغة «السؤر» لكلّ ما باشره جسم الحيوان.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

(2) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(3) الكافي 3: 11/ 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 225/ 644، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 3.

(5) تهذيب الأحكام 1: 261/ 760، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 2.

(6) الكافي 3: 11/ 6، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 89

و منها: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدَّنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ، أو ماء كامخ، أو زيتون؟

قال

إذا غسل فلا بأس «1».

فبالجملة: المتتبّع في النصوص و الروايات، يطمئنّ بأنّ الأمر في الملاقي للأنجاس، ما ذهب إليه المشهور و الأصحاب كلّا.

شبهة الجمود على الموارد السابقة و جوابها

و لو كنت في شبهة من التجاوز عن هذه الموارد إلىٰ موارد أُخر، و من الأخذ بتلك الإطلاقات- كما لا يبعد جدّاً؛ فإنّ شرب الكلب و الخنزير من الإناء، كالنصّ في أنّ المشروب هو الماء، كما يشهد به رواية عمّار الساباطيّ في الأسآر «2»، و لو أُريد من الاستدلال بها إلغاء الخصوصيّة، فهو خروج عن هذا الأمر، و قد مضى البحث عنه- و من عدم تماميّة أعمّية كلمة «السؤر» لغةً؛ فإنّ الظاهر من «أقرب الموارد» هو بقيّة الماء في الإناء، بل قال: «ثمّ أستعير لبقيّة

الطعام و غيره» «3» تكون المسألة بلا دليل.

و العجب من «الحدائق» «1» حيث تجاوز عن مورد موثّقة

______________________________

(1) الكافي 6: 427/ 1، وسائل الشيعة 3: 494، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 51، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3.

(3) أقرب الموارد 1: 486.

(1) الحدائق الناضرة 1: 392.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 90

السَّكوني «1»، و لم يتجاوز عن مورد صحيحة زرارة!! «2» مع أنّ الملاك واحد فتأمّل.

هذا، و لكنّ الإنصاف: أنّ العرف لا يجد في هذه المواضيع خصوصيّة، و لو صحّ في مورد إلغاء الخصوصيّة، فهو هنا قطعاً.

الروايات المعارضة لمّا دلّ على التنجّس و الجواب عنها

ثمّ إنّ في المسألة ما يعارضها، مثل ما رواه الكلينيّ، بإسناده عن سعيد الأعرج، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفأرة و الكلب، يقع في السمن و الزيت، ثمّ يخرج منه حيّاً.

قال

لا بأس بأكله «3».

فإنّه بعد إلغاء الخصوصيّة منها، يشكل الحكم بالنجاسة في جميع الموارد.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الموضوع في تلك الروايات، هي الفأرة الميّتة، و الميتة من كلّ شي ء، و التجاوز هناك- لو أمكن فهو ينحصر في مورد الملاقى- بالفتح و كيفيّة الملاقاة، دون الملاقي، فتلك الأخبار كانت في حدّ ذاتها، قاصرةً عن إثبات تنجّس المرق بوقوع سائر النجاسات

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

(3) الكافي 6: 261/ 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 91

فيه، و بعد ملاحظة هذه الرواية يفصّل بين الميتة و غيرها؛ من

الكلب الخارج حيّاً.

و لكنّه بعدُ تبقى المعارضة بينها و بين ما يدلّ علىٰ نجاسة سؤر الأعيان النجسة.

و هي تندفع: بأنّ معنى «السؤر» ليس مطلق المباشر كما أُشير إليه، فعلى هذا يحدث في المسألة قول جديد؛ حسب الجمع بين الروايات، فتدبّر.

و الذي يسهّل الخطب، عدم حجّية هذه الرواية؛ لإعراض المشهور عنها، مع أنّ في سندها إشكالًا، مع أنّ في بعض النسخ ليس لفظة «الكلب» «1» فعليه يتمّ المطلوب بمقتضى الروايات و إلغاء الخصوصيّة من المورد، و بفهم العرف أنّ الشرع لمكان نجاسة الميتة، منع عن استعمال الملاقى، فيشترك معها سائر النجاسات، فتأمّل جيّداً.

وجه آخر لتنجّس مطلق المائعات

و ممّا يشهد علىٰ نجاسة المياه المضافة و سائر المائعات، إطلاق الرطوبة الواردة في الأحاديث التي هي السبب للسراية، و هي الأعمّ، و لمّا كانت النجاسة تسري إلى الجسم بها، فلا بدّ أوّلًا من نجاستها، و حيث إنّ نجاسة الجوامد مورد الاتفاق، و عليها الروايات الكثيرة، فيعلم أنّ المائعات أيضاً تنجس إلّا ما خرج بالنصّ، كالكرّ من الماء، فافهم و تدبّر.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 86/ 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 92

الفصل الحادي عشر في الفروع المذكورة في المسألة
فمنها: نجاسة المضاف و إن كثر
اشارة

المشهور بين المتعرّضين، نجاسةُ الكثير كالقليل، و اختصاصُ أدلّة الكرّ بالمياه، و ظاهر تعابيرهم عدم الفرق بين أفراد الكثير، فلو فرضنا الاوقيانوس من المضاف، فإنّه ينجس بملاقاة رأس الإبرة النجس.

اللهمّ إلّا أن يقال: بانصراف كلماتهم عنها «1»، فيكون الإجماعات المحكيّة و الشهرات المحقّقة بإطلاقها، شاملةً لغير الأفراد الخارجة عن العادة.

و يظهر من «الجواهر» «2» و جماعة «3»، كفايةُ هذه الإجماعات- بعد إطلاق معقدها في حكم المسألة، و قد عرفت عدم الاعتداد بها في أمثال هذه المسائل، كما نصّ عليه الأصحاب (رحمهم اللّٰه).

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 9.

(2) جواهر الكلام 1: 322.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 56/ السطر 22، جامع المدارك 1: 19، دليل العروة الوثقىٰ 1: 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 93

بيان مقتضى الأصل في المقام

و قد يقال: إنّ المسألة دائرة مدار أنّ الأصل نجاسة الشي ء بالملاقاة، أو العكس «1»، و قد مضى بعض الكلام فيه على الوجه الصحيح «2».

و أمّا تفسير الأصل؛ بأنّ قضيّة النجاسة سرايتها إلى الملاقيات «3»، حتّى يلزم كونها علّة لنقل النجاسة إلى الأطراف، فيكون الماء المستعمل في الاستنجاء مثلًا، طاهراً بالتخصيص، فهو غير راجع إلىٰ محصّل؛ فإنّ مسائل النجاسات الشرعيّة، ليست غير ما عليه الارتكازات العرفيّة، فالنجاسة و إن تسري إلى الملاقيات، و تنتقل بأمواج المياه إلى الأطراف، و لكن ذلك ليس إلّا ذوقاً خالصاً من الدليل؛ لعدم إمكان الالتزام بالموارد المختلف فيها أهل الذوق، فربّما يجد بعضهم السراية، و ربّما لا يجد بعضهم ذلك، فيكون الحكم منوطاً بهم كما في الشبهات الموضوعيّة.

و بعبارة اخرىٰ: يلزم رجوع هذه المسألة إلىٰ تلك المسائل، و هذا غير تامّ حسب ما يؤدّي إليه نظر الفقيه، فالأصل المحرّر في المسألة، هو عدم وجوب الاجتناب عن

الملاقيات إلّا ما خرج بالدليل.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322.

(2) تقدّم في الصفحة 80 81.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 18/ السطر 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 94

التمسّك بقاعدة المقتضى و عدم المانع و جوابه

و في الكثير ربّما يذكر أدلّة غير ما أُشير إليها، و منها: أنّ المستفاد من أدلّة النجاسات، سرايتها إلى الملاقيات حسب الاقتضاء لا العلّية، و المستفاد من أدلّة الكرّ انحصار المانعيّة بالكرّ من الماء، فعليه يلزم انفعال الكثير، إلّا إذا دلّ الدليل علىٰ خلافه.

و أمّا تقريبه: بأنّ الكرّية من الماء مانعة، و فيما نحن فيه يلزم انفعال الكثير «1»، فهو غير مفيد؛ لأنّه مع الشكّ في المانع لا يمكن الحكم بالنجاسة.

و يتوجّه إلىٰ أصل البرهان: أنّ المقدّمتين غير كافيتين؛ لأنّ من الشرائط قابليّة المعلول للتأثّر، و هي في الماء ثابتة بمقتضىٰ أدلّة انفعال الماء القليل، فعليه يمكن إتمام البرهان بأنّ مقتضى الأدلّة في المقام أيضاً، انفعال الماء المضاف في الجملة، فالحكم في الكثير قطعيّ بناءً علىٰ تماميّة هذه المقدّمات.

و لكنّك تعلم: أنّ إثبات الانحصار للكرّية بل أنّها مانعة عن الانفعال، في غاية الإشكال؛ للزوم كون الكثرة القليلة من الكرّ يسيراً، غيرَ مانع من تنجّس الماء، و إذا بلغت كرّاً تمنع و لو كان النجس الوارد عليه منّاً من البول مثلًا، و هذا أمر فاحش فساده.

فتحصّل: أنّ السراية ليست علّة، و لا مقتضياً، بل هي نكتة التشريع

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 95

الكلّي، فلو دلّ دليل على الحكم فهو، و إلّا فالأصل متّبع.

التمسّك بتنجيس المتنجّس مطلقاً لإثبات تنجس المضاف الكثير
اشارة

و ممّا يمكن الاستدلال به على المقصود، هو أنّ الجامد ينجس بالرطوبة، فلو لاقىٰ أطرافها برطوبة واردة على الموضع الأوّل المتنجّس، يتنجّس الموضع الثاني و هكذا، و حيث إنّ المتنجّس منجّس على الإطلاق، فيمكن تنجيس الجامد كلّه بهذه الطريقة «1».

و من هنا يعلم نجاسة الكثير و لو بلغ ما بلغ؛ لأنّ الموضع الأوّل ينجس، فإن

قلت بنجاسة ذلك الموضع، فلا بدّ من اختيار نجاسة الكلّ؛ للوجه المذكور، و الاستبعاد لذلك ليس أكثر من الاستبعاد لتنجّس العالم بنجاسة واحدة؛ لعدم انقطاع الحكم، فالنجس من هذا الطرف من العالم، ينتقل في الجوامد إلى الطرف الآخر منه، فكيف لا ينتقل في المائعات؟! و إذا كان حكم العرف في مقدار من الماء معلوماً، و ما زاد عليه صار مشكوكاً، فالشرع القائل بأنّ ملاقي المتنجّس ينجس مطلقاً، يرفع الشكّ، فإن قلنا في تلك المسألة بما يتراءىٰ من المشهور، فالكثير من المضاف ينجس، و إلّا فلا، فتدبّر.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الحكم هناك في الأشياء الكثيرة المختلفة في الوجود، و لا يعقل الملاقاة مكرّراً بين الشي ء و نفسه، فلا يحكم بنجاسة الكثير، فليتدبّر.

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 56/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 96

التمسّك بالمآثير و الجواب عنه

ثمّ إنّه قد يتمسّك في المسألة بروايات خاصّة؛ ظنّاً أنّها بإطلاقها تدلّ علىٰ نجاسة الكثير «1»، و الذي يظهر لي قصورها:

و أمّا ما ورد في سؤر النصارى و اليهود «2»، و ما ورد في المرق و الزيت و السمن و شبهها «3»، فعدم إطلاقها بمكان من الوضوح.

نعم، هنا روايتان ربّما يستدلّ بهما عليها:

أُولاهما: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

ليس بفضل السّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا يشرب سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه «4».

فإنّها بمقتضىٰ إطلاق الجملة الأُولىٰ، و ظهورِ الذيل في الماء الكثير، تدلّ علىٰ نجاسة المضاف الكثير.

و فيه: أنّ الشرب ظاهر في الماء، و إلّا فللمستثنىٰ أيضاً إطلاق؛ لأنّه لو فرضنا الحوض من اللّبن، فإنّه أيضاً لا ينجس.

و العجب أنّ المستدلّ يتخيّل في روايات القدر

المطبوخ فيه اللّحم

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

(2) الكافي 3: 11/ 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 1: 205 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 97

إطلاقها؛ بدعوىٰ القدور الكبيرة المستعملة في الأعراس «1»، و لم ينتقل هنا إلىٰ ذلك!! و لعمري، إنّ الحبّ للأمر يُعمي و يُصمّ.

هذا مع أنّ الظاهر منها لزوم كون الحوض غير المنفعل كبيراً، مع أنّه خلاف الأخبار في مسألة الكرّ، و حملها على الكرّ غير صحيح جدّاً، فعليه يشكل العمل بهذه الرواية؛ لإعراض الأصحاب عنها، فافهم.

ثانيتهما: صحيحة زرارة «2»، فإنّها أدارت الأمر في نجاسة الملاقي بين الجمود و الميعان، فيعلم علّية الميعان، و لأجله تجاوز الأصحاب عن موردها، فيحكم بنجاسة الكثير؛ لميعانه.

و فيه: أنّ الميعان نكتة سراية النجاسة، و هي ممنوعة في الكبير.

خاتمة المطاف في تنجّس المضاف الكثير

فعلى هذا تكون الأدلّة الاجتهاديّة، قاصرةً عن إثبات الحكم، و قضيّة الأُصول العمليّة طهارته استصحاباً، و أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب و قاعدة الطهارة و الحلّ.

و لو قيل: بأنّ القاعدتين لا تجريان في الشبهات الحكميّة.

قلنا: في غيرهما الكفاية، بل هو الحاكم عليهما، مع أنّ المسألة

______________________________

(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 52 53.

(2) عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها و ما يليها، و كل ما بقي، و إن كان ذائباً فلا تأكله، و استصبح به، و الزيت مثل ذلك.

تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب

الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 98

- في وجه من الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ وجه النجاسة هي السراية، و هي مشكوكة في الكثير، فلا تغفل.

و منها: عدم تنجّس الملاقى سواء علا أم سفل

لو لاقى العالي النجس أو بالعكس، فهل ينجس الجميع، أو لا ينجس مطلقاً، أو يفصّل فينجّس السافل في الأوّل، دون العالي في الثاني؟ فيه وجوه بل أقوال.

و التحقيق: عدم النجاسة مطلقاً؛ لتعدد الموضوع عرفاً، فإنّ الموجود في الإناء ساكن، و الخارج من فم الإبريق متحرّك، و هما لا يعقل وحدتهما عرفاً إلّا في بعض الفروض.

و ممّا ذكرنا يظهر حال المتساوي السطوح، إذا كانت متعدّدات عرفاً، و إن كان بينها الاتصال الضعيف، و حديث السراية لا يرجع إلىٰ كون الحكم منوطاً بها، بعد ما عرفت حالها؛ ضرورة أنّ من المحتمل كون الوجه في الحكم بالاجتناب عن المائع، كونه واحداً، بخلاف الجامد، فإنّه ينقسم- مع الرطوبة إلى القسمين: اليابس، و الرطب، فيتعدّد الموضوع، فافهم و تدبّر جيّداً.

و هكذا يعلم حال المضاف الجاري، فإنّه لا ينجس بعضه ببعض إذا كانت المسافة بعيدة، و لا سيّما بالنسبة إلى العالي، و ضرورة الحكم في الماء القليل تقضي بأنّ العالي لا ينجس، و لمّا كانت السراية من الأُمور السريعة، لا البطيئة، و لا الرقيقة، فيمكن عليها أيضاً دعوى طهارة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 99

الداني لو تلاقىٰ مع العالي؛ بشرط جرّ اليد من تحت الإبريق فوراً.

فتحصّل: أنّ الالتزام بالسراية بالمعنى المقصود؛ و هو حصول مصداق النجس من دون قيام أجزاء النجاسة بالملاقى، و الالتزامَ بعلّية السراية، أو اقتضاءِ النجاسة للسراية، و كونِ الحكم منوطاً بها في الأوّل، أو كونِ القاعدة تقتضي النجاسة عند الملاقاة إلّا

مع الدليل، حتّى يلزم كون المائع المردّد بين المضاف و المطلق، أو المردّد بين القليل و الكثير نجساً، في حيّز المنع، و ما يذكر دليلًا عليها غير ناهض؛ لتحمّله الاحتمالات الأُخر، فتدبّر.

و منها: أحكام تردّد المائع بين المطلق و المضاف
اشارة

لو تردّد المائع بين المطلق و المضاف، يتصوّر صور؛ لأنّه:

تارة: يكون منشأ التردّد الشبهة الموضوعيّة.

و أُخرى: مفهوميّة.

و ثالثة: هما معاً.

و لعلّ ما ورد في كلام الشيخ الأعظم من «الشبهة الصدقيّة» «1» إشارة إلىٰ ذلك.

و على التقدير الأوّل تارة: حالته السابقة هو الإطلاق.

و أُخرى: هي الإضافة.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 67.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 100

و ثالثة: لا تكون له الحالة السابقة.

و رابعة: تكون له الحالتان المتواردتان، و الكلام في الأخير يأتي في المباحث الآتية المناسبة معها.

اختار الكلّ في الفرض الأوّل جريان الاستصحاب الموضوعيّ، و هكذا في الفرض الثاني، و فيهما بحث؛ ضرورة أنّ الإطلاق ليس من قيود الموضوع في أدلّة مطهّرية الماء، و هكذا الإضافة، فما هو الموضوع هو الماء.

ثمّ إنّ الإطلاق و التقييد، من الأوصاف المنوّعة و الموجبة لتحوّل الموضوع، فكما لو شكّ في أنّ الكلب صار ملحاً لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب؛ لأنّ الوحدة المعتبرة في الموضوع في القضيّتين المتيقّنة و المشكوكة، غير محرزة، كذلك الأمر هنا، فعليه لا يمكن- وجداناً أن يقال: «هذا كان كذا» لأنّه ربّما يكون إشارة إلىٰ ما هو المباين مع السابق، فلا تغفل.

و من هنا يتّجه سقوط جريان الاستصحاب الحكميّ؛ لأنّ الجامع المأخوذ في الاستصحاب الشخصيّ، لا يورث وحدة القضيّتين مثلًا، فكما لا معنىٰ لأن يقال: «هذا الجسم كان نجساً» في المثال المشار إليه؛ لأنّ مصاديقه متبادلة الهويّة، كذلك لا يصحّ أن يقال: «هذا المائع كان مطهّراً» لأنّه المفهوم الجنسيّ.

فجريان الأصلين الموضوعيّ و الحكميّ،

مشكل جدّاً، و دعوىٰ أنّ الإطلاق و الإضافة من العوارض الشخصيّة- كالعلم و الجهل «1» فاسدة بالضرورة.

و ممّا ينبّهك علىٰ تعدّد الموضوع عرفاً، ذهابهم إلىٰ طهارة المائع

______________________________

(1) لاحظ دليل العروة الوثقىٰ 1: 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 101

المتبدّل من الخمريّة إلى الخلّية و بالعكس، فافهم جيّداً.

ثمّ إنّ مفهوم «الإضافة» و «الماء المضاف» ليس موضوعاً في الأدلّة حتّى يستصحب، بل المستفاد من الأدلّة قضيّة موجبة معدولة المحمول؛ و هي: «أنّ المائع غير الماء، لا يطهّر» و اصطياد الموضوع الكلّي المعلوم من الموارد الجزئيّة، في غاية الإشكال، فعليه يمكن أن يقال: بعدم جريان الأصل الموضوعيّ في هذه المسألة، خصوصاً لتلك الجهة، كما لا يخفىٰ.

التردّد بين المطلق و المضاف مع عدم الحالة السابقة

و أمّا في الفرض الثالث، فالمشهور بين المتعرّضين عدم ترتيب أحكام الماء المطلق، و عدم انفعاله بملاقاة النجس؛ لاحتمال كونه ماءً مطلقاً، بعد مفروغيّة كونه كثيراً و كرّاً.

نعم، إذا كان قليلًا ينفعل، إلّا علىٰ القول بعدم انفعال القليل، كما إذا كان كثيراً مفرطاً لا ينفعل؛ بناءً علىٰ ما مرّ من عدم انفعال الكثير المضاف.

و قد خالفهم جماعة، كالشيخ الأنصاريّ (قدّس سرّه) و غيره، و قالوا بالانفعال «1»؛ و ذلك لأنّ قضيّة الأدلّة اقتضاء النجاسة للسراية عند الملاقاة، و إذا شكّ في وجود المانع، تكون تلك الأدلّة مرجعاً؛ لأصالة عدم التخصيص.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 298 و 300، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 102

و فيه: أنّه لو فرضنا تماميّته، يفيد إذا كان الشبهة حكميّة، و أمّا فيما كانت الشبهة موضوعيّة- و هو أنّ الكرّية معلوم مانعيّتها، و مشكوك وجودها فلا يكون المرجع تلك العمومات؛ للزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فحصول

الأثر لا يعقل إلّا بعد المقتضي و عدم المانع، و إذا شكّ في الثاني يشكّ في النجاسة؛ لأنّ الملاقاة مقتضية، و ليست علّة.

و دعوىٰ: أنّ بناء العقلاء على الاعتناء بالمقتضي عند الشكّ في المانع «1»، غير ثابتة.

و لك دعوى: أنّ الالتزام بالطهارة الظاهريّة، لا يورث التخصيص، حتّى يتمسّك بأصالة عدمه؛ لأنّ مرتبة الحكم الواقعيّ محفوظة مع الحكم الظاهريّ، فعليه يلزم القول بطهارته و لو قلنا بصحّة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فلا تغفل.

الاستدلال على النجاسة و جوابه

و قد يستدلّ علىٰ النجاسة: بأنّ المستفاد من الأدلّة، أنّ كلّ مائع ينجس بالملاقاة إلّا الكرّ من الماء، و ظاهره أنّ العنوان الخارج أمر وجوديّ معلّق عليه الحكم، و في تلك المواضع يستظهر من الدليل أنّ الشرط و المعلّق عليه هو الأمر الإحرازيّ، كما في مسألة حرمة النظر إلىٰ الأجنبيّة، فإنّها ترتفع بالمماثلة و المحرّمية الإحرازيّة، لا الواقعيّة، فعليه كما إذا شكّ في الكرّية، يبنىٰ على النجاسة، كذلك إذا شكّ في

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 75/ السطر 22.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 103

المائيّة؛ لأنّ المعتصم هو الماء الكرّ «1».

و فيه: أنّه لو سلّمنا جميع المقدّمات، لا يمكن الالتزام؛ لأنّ الإحراز- سواء كان جزء الموضوع، أو تمام الموضوع يكون دخيلًا في التنجّس، فيلزم تنجّس المائع غير المحرز بالملاقاة و إن تبيّن بعدها أنّه كرّ من الماء، فيعلم منه أنّه لو كان المستفاد من الأدلّة ما ذكرتم، فلا بدّ من حمل المستثنىٰ على الأمر الواقعيّ، مع أنّ هذا العموم ممنوع، و هكذا يمنع كون الخارج معنىٰ إحرازيّاً.

نعم، لا بأس بالالتزام بذلك لو اقتضى الدليل في مورد، كما هو الظاهر.

التمسّك باستصحاب العدم الأزلي على النجاسة و ما فيه

ثمّ إنّ هاهنا طريقاً ثالثاً؛ و هو أنّ قضيّة استصحاب العدم الأزليّ، إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العامّ؛ و هو عموم دليل الانفعال، و لا يعارضه استصحاب عدم كونه مضافاً؛ لعدم إثباته أنّه ماء «2».

و فيه: بعد المنع من جريان الأُصول في الأعدام الأزليّة إلّا في صورة، و ما نحن فيه ليس منها، و القائل بجريانه فيها غافل عن الشبهة في المسألة، و إلّا فهي غير قابلة للاندفاع- لأنّه في هذه المسألة غير تامّ؛ لأنّ المائيّة من الماهيّات، و ليست من أوصاف الموضوع كالقرشيّة

و القابليّة، فلا يمكن أن يقال: «هذا كان غير ماء» لاحتمال كونه ماءً، بخلافه

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 62.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 104

في القرشيّة.

و لأنّ العامّ المشار إليه ليس عنوان «غير الماء ينفعل» لأنّه قابل للصدق على المجرّدات و سائر الأشياء غير ما يتنجّس أيضاً، فما هو الموضوع هو «المائع غير الماء» و إحراز بعض الموضوع المركّب بالوجدان، و بعضه بالأصل، لا يوجب إحراز ما هو الموضوع؛ و هو المعنى الحرفيّ و التقيّد الواقع في الكلام.

و لو فرضنا أنّ العموم المستفاد من الأدلّة، هو «أنّ غير الماء ينفعل» فلنا دعوى أنّ الموضوع المستفاد منها في مقابله هو «أنّ غير المضاد و ما يلحق به حكماً، لا ينفعل» فيكون الأصلان متعارضين، كما لا يخفىٰ.

فالحقّ في المسألة: هو عدم انفعال المائع المردّد، و لا دليل علىٰ تماميّة قاعدة المقتضي و المانع؛ بأن يقال: إنّ بناء العقلاء علىٰ عدم الاعتناء بالشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي، فيحكم بانفعال الملاقى، فلا تغفل. هذا كلّه في الشبهات الموضوعيّة.

حكم المائع المردّد عند الشك في الشبهة الحكمية

و أمّا في الشبهات المفهوميّة، فجريان الأُصول الموضوعيّة و الحكميّة فيها محلّ بحث، و التفصيل في الأُصول «1».

و لو سلّمنا جريان الموضوعيّة كما هو ليس ببعيد إلّا في بعض الفروض، ففي جريان الحكميّة هنا إشكال آخر؛ و هو أنّ التعبّد بأنّ ما هو

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 542.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 105

الموجود في الخارج مطهّر، لا يثمر؛ لأنّ التعبّد بالسبب بما هو السبب، لا يثبت المسبّب إلّا عقلًا، و هو من الأصل المثبت.

و لو كان مصبّ الاستصحاب الحكميّ قضيّة تعليقيّة، و هو «أنّه

كان إذا يتوضّأ بهذا الشي ء الخارجيّ، كان وضوؤه صحيحاً» فهو في حدّ ذاته ممّا لا بأس به، إلّا أنّه من التعليقيّات الاختراعيّة، لا الشرعيّة.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 105

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المستصحب قضيّة منجّزة، و هو «أنّ الوضوء به كان صحيحاً».

و يمكن دعوى: أنّ استصحاب المطهّرية من الأُصول الموضوعيّة؛ لأنّ قضيّة مرسلة عبد اللّٰه بن المغيرة

إنّما هو الماء أو التيمّم «1»

هو أنّ المطهّر و ما يتوضّأ به هو الماء، فبهذا الأصل يعلم أنّه الماء تعبدّاً، و إذا كان هو الماء فيندرج في الكبرى الشرعيّة، كما في الأُصول الموضوعيّة، فافهم و تدبّر جيّداً.

حكم التردّد في الشبهة المفهومية

ثمّ إنّ المائع المردّد في الشبهة المفهوميّة، قد يكون معلوماً عدم إضافته، و مشكوكاً مائيّته، فإنّه حينئذٍ تجري الأُصول الحكميّة المنجّزة و المعلّقة، و لا يقع التعارض بينهما؛ لعدم اختلاف حكمهما.

و يمكن دعوى: أنّ الأُصول الجارية في الفرض كلّها منجّزة؛ لأنّ ما

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 106

هو المعلوم سابقاً؛ أنّه كان غير منفعل، فيستصحب، و علىٰ هذا كما يمكن التفصيل في المسألة، فيقال بجريان الأُصول المنجّزة، دون المعلّقة؛ لشبهة في كبراها، يمكن عكس ذلك؛ لأنّ المنجّزة مثبتة، دونها لعدم تماميّة تلك الشبهة، و هذا التفصيل- بعد إمكان التفكيك بين الأحكام ممّا لا بأس به.

و قد لا يكون معلوماً عدم إضافته، فإنّه حينئذٍ لا تجري الأُصول الموضوعيّة؛ لعدم إحراز الاتحاد المعتبر في جريانها علىٰ

ما تقرّر تقريبه. هذا تمام الكلام في الشبهة المفهوميّة من مفهوم «الماء».

و أمّا مفهوم «المضاف» فلا أثر له؛ لعدم كونه موضوعاً في الأدلّة، و استصحاب عناوين ذاتيّة من المضاف لا ينفع، فينحصر الأصل بالحكميّ، و حينئذٍ يلزم التعارض بين التنجيزيّ و التعليقيّ، و قد تقرّر تقدّم الثاني على الأوّل في محلّه «1».

لزوم التيمّم والتوضّؤ عند تردّد المائع

ثمّ إنّه فيما لم يعلم حال المائع، يجب عليه التوضّي به و التيمّم؛ لما تقرّر من لزوم الاحتياط في الشكّ في القدرة و العلم الإجمالي بوجوب أحدهما، إذا لم تكن له الحالة السابقة، أو كانت حالته السابقة وجدان الماء، فإنّه لا ينفع الأصل الموضوعيّ؛ لعدم انكشاف حال المائع به.

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 554، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 143.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 107

نعم، إذا كانت حالته السابقة فقد الماء، فالأصل جارٍ، و ينحلّ به العلم المذكور، و التفصيل يطلب من محلّه «2».

و يحتمل تعيّن التيمّم عليه في جميع الصور؛ لما ورد من الأمر بإهراق الماء «1» فيما هو من قبيل المفروض في المقام، فليتدبّر.

الفصل الثاني عشر كيفيّة تطهير المضاف و المائعات النجسة
اشارة

و التي هي المبحوث عنها في المقام، هو إثبات قابليّتها للطهارة في الجملة؛ أي أنّ المائع و المضاف- بما هو مضاف لا يسلب عنه تلك القابليّة بالتنجّس كالجامد.

و أمّا أنّ كلّ مائع و مضاف يمكن تطهيره، فهو غير مقصود؛ لما يمكن استلزامه الإشكال من الجهات الأُخر المانعة من قبوله الطهارة، الخارجة عن ذات المائع، و اللاحقة ببعض مصاديقها، و خَلْطُ الأصحاب أوقعهم في اعتبار بعض القيود في المسألة؛ من الزيادة على الكرّية، أو إلقاء النجس عليه لا العكس .. و هكذا «2».

______________________________

(2) تحريرات في الأُصول 7: 466 471.

(1) وسائل الشيعة 1: 151 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 14، وسائل الشيعة 3: 345، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 4، الحديث 1.

(2) جواهر الكلام 1: 323.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 108

وجه قابلية المضاف للتطهير و الجواب عنه

و غاية ما يمكن أن يقال في المقام لسلب القابليّة: أنّ المطهّر هنا إمّا هو الانقلاب، فهو لا يفيد؛ لما تقرّر في محلّه من اختصاصه- للنصّ بموضع.

و إمّا هو الاستحالة، فقد مرّ الكلام في أنّها ليست في مثل المقام من الاستحالة في الصور النوعيّة، و لو كانت يعدّ المعاد عين الأوّل في نظر العرف، و يكون من إعادة المعدوم عرفاً.

و إمّا هو الاستهلاك في الماء المطلق المعتصم؛ بأن تلاقي الأجزاء المنتشرة المتصغّرة الكرّ و الجاري، فإذا عادت- فرضاً يكون طاهراً.

و هذا غير البول المنتشر، فإنّه إذا كان في الماء، فلا حكم للشرع عليه لما لا يرىٰ عرفاً، و لكنّه لو عادت أجزاؤه هو، تعدّ «بولًا» و تشمله أدلّة نجاسته.

فبالجملة: ما دام هي في الكرّ فلا موضوع حتّى يكون له حكم، و تظهر الثمرة في حال العود، و

لذلك انتشار الأجزاء في الهواء و الماء الكثير المضاف، مثل انتشارها في المطلق الكثير؛ في انعدام الموضوع و انسلاب الحكم قهراً.

فعليه يقال: بحصول الطهارة لتلك الأجزاء بملاقاتها للماء المطلق، بخلاف أجزاء البول، فالاستهلاك ليس من المطهّرات كما توهّم، بل الاستهلاك طريق حصول طهارة المضاف، فيكون المائع قابلًا له بالضرورة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 109

و يشكل ذلك أيضاً: بأنّ المائع النجس إن كان غير مضاف، فهو لو كان قابلًا للتطهير، فكان ينبغي الإشارة إليه في النصوص؛ حتّى لا يلزم الاختلاف في الاقتصاد، و لا يلزم التبذير و الإسراف؛ فإنّ إهراق السمن و الزيت و إحراقه، دليل علىٰ عدم القابليّة في نظر الشرع.

و إن كان مضافاً كالمرق، فهو أيضاً يهراق حسب النصّ «1» و الفتوىٰ «2».

و في غيره، فحصول الطهارة بعد كون جميع الأجزاء الظاهريّة و الباطنيّة نجسة، يتقوّم على القول بإمكان تطهير الصابون و البقولات التي صار باطنها نجساً، و قد منع كثير منهم عنه «3»؛ لأنّ سراية النجاسة إلى الباطن قليلة المئونة، بخلاف الطهارة؛ فإنّها متقوّمة بلقاء الكرّ و الجاري، دون الرطوبات النافذة.

فالجزء الصغير من المضاف لا بدّ أن ينقسم، و يكون ذا جهات ستّ، و له الباطن و الظاهر، و طهارة ظاهره لا تكفي عن باطنه، فكيف يطهر عقلًا؟! بل العرف يجد من النصوص المشار إليها، عدمَ قابليّة الذائب، من غير فرق بين ما هو الدسم و غيره، خصوصاً إذا فرضنا انتشار الزيت في الماء الحارّ المغليّ.

و لو كان المقصود طهارة المضاف حال الاستهلاك، فهو مثل البول،

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(2) صراط النجاة، المسألة 113، الطهارة، الشيخ الأنصاري

1: 299.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 113، فصل في المطهّرات، المسألة 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 110

من غير فرق بين الأشياء المستهلك فيه.

بل لو كان آنُ استهلاكه و ملاقاته واحداً، فلا يشترط كون المستهلك فيه ماءً كثيراً، أو مضافاً كثيراً، كما فرض السيّد في قطرة الخمر الملقاة في الخلّ، و ظنّ إمكانه «1»، فراجع.

قابلية المضاف للتطهير في الجملة

هذا، و لكنّه مع ذلك كلّه، التجاوز عن مورد النصوص إلىٰ سائر المواضيع، غير صحيح؛ لأنّ فيها الدسومة المانعة عن قبول الطهارة، مع أنّ الأمر بالإهراق و الإحراق ليس إرشاداً إلىٰ أنّ تطهيره غير ممكن، بل ربّما كان ذلك لأجل استلزامه تحمّل المشاقّ، مع صرف مقدار من المال.

و توهّم نجاسة الباطن في المقام- كما في الأمثلة المشار إليها غير تامّ؛ لأنّ ما هو من الأجزاء نجس يطهر، و ما من الأجزاء بالقوّة لا ينجس عرفاً، حتّى يحتاج إلى التطهير، و لا أقلّ من الشكّ، فتدبّر.

فتحصّل: أنّ المضاف قابل للتطهير في الجملة.

و لك دعوى طهارة بعض الأصناف منها في صورة الاستحالة الحقيقيّة، كما لو صار اللّبن نفطاً، و دعوىٰ سراية النجاسة من موضع النجس إلى المستحال إليه، تتمّ علىٰ بعض المباني، و هذا لا ينافي الجهة المبحوث عنها في المقام.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 134، فصل في المطهّرات، المسألة 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 111

تنبيه

المحكيّ «1» عن بعض كتب العلّامة عليه الرحمة، طهارة الماء المضاف بمجرّد الاتصال بالمطلق «2»، و إليه ذهب جماعة في القليل من المطلق «3»، و لو تمّ الدليل هناك فلا فارق عند العرف بين الموضوعين، و حيث إنّ المسألة هناك محلّ شبهة، فالأمر هنا أشكل، مع أنّ في صحّة الإسناد تأمّلًا جدّاً.

فرع: في أنّ المضاف قد لا يكون طاهراً و لا نجساً

لو حصل الاستهلاك و الإضافة دفعة، كما لو كانت الإضافة من قِبَل الأمر الآخر، فمقتضىٰ ما تحرّر منّا- من أنّ الاستهلاك ليس من المطهّرات، و لا الاستهلاك بالماء موجباً للطهارة، بل الاستهلاك طريق لإصابة الأجزاء بالكرّ و لو كانت الأجزاء مستهلكة بالأمر الآخر «4» عدم كون هذا الماء المضاف طاهراً، و لا نجساً، إذا نظرنا إليه بما هو المركّب:

أمّا أنّه ليس بطاهر؛ لأنّه صفة معلولة للماء المطلق، فلا بدّ من حفظ وجوده للتأثير، و لإزالة الخبث عن الأجزاء المنتشرة، و حيث هو كان

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 308.

(2) منتهى المطلب 1: 22/ السطر 6.

(3) المبسوط 1: 7، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 24.

(4) تقدّم في الصفحة 108.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 112

مضافاً في رتبة الاستهلاك، فلا يكون مطهّراً، و لا تلك الأجزاء النجسة طاهرة.

و أمّا أنّه ليس بنجس؛ فلأنّه أمر معلول للماء الملقى، و هو لا يبقىٰ للتأثير؛ ضرورة أنّه حال الإلقاء قد لقي المطلق، و هو لا يتأثّر منه، و حال الاستهلاك ليس بشي ء عرفاً حتّى يكون مؤثّراً في المضاف، فعليه حكمه الواقعيّ في هذا النظر عدم الطهارة و النجاسة، و في نظر آخر هي الطهارة كما لا يخفىٰ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 113

المبحث الثالث أنّه لو تغيّر الماء المطلق بالنجاسة ينجس
اشارة

و البحث في هذه المسألة يقع من جهات

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 115

الجهة الاولىٰ في احتمال عدم تنجّس الماء المعتصم بمجرّد التغيّر
اشاره

هل ينجس الماء المعتصم بمجرّد التغيّر المستند إلى النجاسة أم لا؟ فيه وجهان.

ما ذهب إليه الملّة و الشريعة هو الأوّل، مع اختلاف في بعض الخصوصيّات، مثل كونها غالبة و غيره.

و ما نحتمله في المسألة هو الثاني؛ و أنّ الماء المطلق ما دام لم يصر مضافاً لا ينجس.

أدلّة تنجّس المعتصم إذا تغيّر

و ذلك لأنّ ما يدلّ على مقصودهم هو أنّ النصوص الصحيحة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 116

و الموثّقة الواردة في المسألة «1»، تدلّ علىٰ أنّ الماء إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجس، فلا يتوضّأ منه، و لا يشرب، و هذا هو من الأحكام الملازمة لاعتبار النجاسة، مع أنّ التغيّر أعمّ من الإضافة، بل لا تحصل الإضافة بذلك؛ لما مرّ أنّها غير حقيقة الماء.

هذا مع أنّ قضيّة النبويّ المنجبر

خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه

اعتبار النجاسة «2».

و هو أيضاً قضيّة ذيل رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام).

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء «3».

ما يتوجّه على القول بالنجاسة

أقول: يتوجّه إليها:

أوّلًا: أنّ نفي الحكمين أعمّ من اعتبار النجاسة: أمّا الثاني فهو واضح؛ لأنّه إذا كان من الخبائث يحرم الشرب.

و أمّا الأوّل، فلما سيأتي من صحيحة الحلبيّ، الصريحة في أنّ الماء الآجن- و هو المتغيّر في الطعم و الريح يتوضّأ منه إذا لم يكن ماءٌ صافٍ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(2) المعتبر 1: 40، عوالي اللآلي 1: 76/ 154 و 2: 15/ 29.

(3) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 117

و ثانياً: أنّ الماء المضاف ليس المضاف التكوينيّ، بل الماء المضاف ما لا يعدّ في نظر العرف ماءً؛ لانسلاب أوصافه الذاتيّة، ضرورة أنّ شيئيّة الشي ء بخواصّه، و صورته العرفيّة، و آثاره

البارزة، فكثيراً ما يتّفق أن يصير الماء بالنجس، متغيّراً إلىٰ حدّ الإضافة، فعليه يمكن الخروج عن إطلاق التغيّر بالدليل و الشاهد.

و ثالثاً: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ. فقال

إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه «1»

تدلّ علىٰ أنّ المقصود من «التغيّر» هو الإضافة، و إلّا يلزم إمّا الالتزام بنجاسة الأبوال من الدوابّ، و هو خلاف المشهور.

أو الحمل على التقيّة، و هو في مورد لم يمكن الجمع العرفيّ.

أو حمل الهيئة على الكراهة، و هو خلاف الأصل أوّلًا، و ثانياً يلزم التفكيك في الصدر و الذيل؛ لأنّه إذا تغيّر بالدم ينجس، فيلزم التفكيك في الهيئة، و هو خلاف الفهم العرفيّ.

فمقتضى الجمع حمل «التغيّر» على الإضافة، فيكون الحديث مقيّداً لسائر المطلقات الواردة.

و رابعاً: قضيّة صحيحة الحلبيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

في الماء

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 118

الآجن يتوضّأ منه، إلّا أن تجد ماءً غيره فتنزّه منه «1»

هو أنّ النواهي عن الشرب و الوضوء، مخصوصة بما إذا لم يكن الماء الصافي، و لا وجه لحمل

الآجن

على المتغيّر من قبل نفسه بعد إطلاقه، و لا سيّما بعد الأمر بالتنزّه عنه، فيعلم أنّ الآجن بالنجاسة لا ينجس لمّا أمر بالتوضّي به.

فالنتيجة: هو أنّ الشرع المقدّس لم يأتِ في هذه المسألة- من جهة النجاسة شيئاً جديداً، بل الأخبار في المسألة ناظرة إلىٰ أنّ المطلق إذا صار مضافاً، ينجس في المقام قهراً للملاقاة، أو

ينجس إذا كانت الإضافة مستندة إلى النجس و إن لم يكن اللّقاء.

نعم، قضيّة الأخبار أمر آخر؛ و هو وجوب الاجتناب عن الماء غير الصافي في الشرب و الوضوء، أو الغسل أيضاً، و هذا ممّا لا بأس بالالتزام به بعد عدم حجّية رأيهم و فهمهم، فتدبّر.

ثمّ إنّ مقتضى النبويّ و العلويّ المعتبر

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

«2» عدم قابليّة الماء للتنجّس؛ لأنّ الموضوع في القضيّتين أمر واحد، و التصرّف فيه بلا وجه، فمفاده «أنّه لا ينجس حتّى يطهر، و لو تنجّس- فرضاً فهو لا يطهر إلّا بانسلاب الموضوع بالاستهلاك».

بل قضيّة بعض المرسلات الآتية بل و غيرها، أنّ مجرّد التغيّر في أحد الأوصاف غير كافٍ، و التغيّر في جميعها مع الغلبة، يدرجه في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 217/ 626، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 2.

(2) المحاسن: 570/ 4، الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6 و 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 119

المضاف قهراً، أو يلحقه به؛ لموافقة الذوق، و مساعدة الحكم و الموضوع.

و خامساً: أنّ النبويّ المشار إليه مورد الخدشة، و قد طعنه صاحب «الحدائق» نهايته «1»، مع أنّ في دلالته إشكالًا، بل هو- فرضاً من المطلقات المحمولة على التغيّر إلىٰ حدّ الإضافة، و فيه من المحتملات أن يقرأ الفعل في المستثنىٰ مجهولًا؛ أي «إلّا الماء المتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه، فإنّه ينجّسه الشي ء» و ظاهر الفعل المجهول هنا هو التغيّر بنفسه أو بشي ء طاهر، كما لا يخفىٰ.

و رواية زرارة «2» غير نقيّة السند؛ لما فيه عليّ بن حديد، مع اشتمالها على اشتراط الغلبة الذي

لا يقول به المشهور.

فاستفادة النجاسة للماء المتغيّر لونه أو غيره، من تلك المآثير مشكل، و الإجماعات المحكيّة و المحصلات المدّعاة «3»، لا تفيد شيئاً بعد وضوح مستند المجمعين، و ما في «المنتهي»: «و هو قول من يحفظ عنه العلم» «4» يشهد علىٰ أنّ المخالفين أيضاً يوافقونهم، و عليه ينحصر المخالف بالكاتب، و يجب حينئذٍ الاحتياط.

فذلكة الموقف ثمّ إنّه لو سلّمنا قصور رواية أبي بصير لما في سندها

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 305.

(2) تقدّم في الصفحة 116، الهامش 3.

(3) مدارك الأحكام 1: 28، رياض المسائل 1: 2/ السطر 26، جواهر الكلام 1: 75، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 82، مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 6.

(4) منتهى المطلب 1: 5/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 120

محمّد بن عيسىٰ بن عبيد «1»، و فيه بحث طويل الذيل- فلا وجه لتقييد المطلقات.

أو قلنا: بأنّها و غيرها متوافقان، و لا دليل علىٰ وحدة الحكم، فتبقى المطلقات بحالها.

أو صدّقنا أحد المحامل الأُخر حولها، فكفاية هذه المآثير لاعتبار النجاسة- بعد صراحة صحيحة الحلبيّ في خلافه ممنوعة جدّاً.

بل لنا أن نقول: بأنّ النسبة بين صحيحة الحلبيّ و غيرها، عموم مطلق؛ لتوافقهما فيما كان الموجود ماءان: أحدهما المتغيّر، و الآخر: النقيع، و اختلافهما فيما لم يكن الماء النقيع، و مقتضى إطلاق الصحيحة جواز التوضّي، و قضيّة غيرها- بالنصّ مثلًا عدم جوازه، فيقدّم غيرها عليها.

و لكنّه مع ذلك، لا شهادة في تلك الأخبار على اعتبار الشرع نجاسة المتغيّر، و مجرّد اجتناب العرف في مواقف خاصّة، لا يفي لاعتبار القذارة التي هي موضوع الأحكام الخاصّة؛ فإنّ تحريم الشرب يمكن أن يكون لأجل الضرر و الخباثة، و تحريم الوضوء لأجل اشتراط كون الماء فيه

صافياً، كما يظهر من بعض الأخبار «2»، و يساعده بعض المطلقات الأُخر، ففي

______________________________

(1) محمّد بن عيسى بن عبيد يقطيني ضعيف، استثناه أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة و قال: لا أروي ما يختصّ برواياته ..

رجال الطوسي: 422/ 10.

(2) محمّد بن عليّ بن الحسين قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ، لأنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) قد توضّأ به، و كان ذلك ماء قد نبذت فيه تميرات و كان صافياً فوقها، فتوضّأ به.

وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 121

مرسلة الصدوق قال: و قال الرضا (عليه السّلام)

ليس يكره من قرب و لا بعد بئر

يعني قريبة من الكنيف

يغتسل منها و يتوضّأ ما لم يتغيّر الماء «1».

فبالجملة: استفادة الموضوع من الحكم الأعمّ، تنحصر بما إذا ساعدها الاعتبار، و هو هنا ممنوع بعد وجود القرائن.

الاستدلال علىٰ عدم نجاسة المتغيّر المعتصم

و ممّا يدلّ علىٰ ما أفدناه، ما روي عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال

الماء لا ينجّسه شي ء «2».

فمنه يعلم أنّ المستثنىٰ في الروايات منقطع، و هذا شاهد علىٰ أنّ المقصود من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

أيضاً ما شرحناه و قوّيناه.

دلالة موثقة سماعة علىٰ إرادة القذارة لا النجاسة:

و ممّا يدلّ علىٰ أنّ هذه الروايات، ليست في مقام إفادة النجاسة، بل نفس القذارة العرفيّة توجب المنع من التوضّي و الشرب، موثّقةُ سَماعة، عن أبي بصير قال: سألته عن كرٍّ من ماء، مررت به و أنا في سفر، قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان.

قال

لا توضّأ منه و لا تشرب منه «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14.

(2) عوالي اللآلي 1: 76/ 153، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

(3) تهذيب الأحكام 1: 40/ 110، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 122

و لا وجه لحملها علىٰ خلاف ظاهرها، بعد اتحادها مع غيرها في الحكم، بل مقتضى الصناعة عدم نجاسة المتغيّر بالنجس إذا كان ماء؛ لأنّه- حسب النبويّ و العلويّ لا ينجس، و يكون عمومه قرينة علىٰ عدم اعتبار النجاسة فيما نحن فيه.

نعم، في القليل نلتزم بها؛ للنصّ، علىٰ إشكال يأتي من ذي قبل «1».

و بعبارة اخرىٰ: يدور الأمر بين التخصيص و التخصّص، و الثاني متعيّن إذا ساعده الذوق و الفهم السليم.

و المحصول: أنّ ما هو مستند المشهور، طائفتان من المأثور:

إحداهما: ما كانت متعرّضة للحكم.

و ثانيتهما: ما هي ناطقة بالموضوع.

و الأولى قد عرفت أنّها

قاصرة عن إثباتها اعتبار النجاسة، و الثانية ما هي قاصرة سنداً و دلالة.

التمسّك بالنبويّ و جوابه

و لو قيل: بأنّ النبويّ المشهور بين الفريقين مع استناد المجمعين إليه فهماً- لقصور الطائفة الأُولىٰ، و لنقل مثل ابن إدريس: «أنّه متّفق علىٰ روايته» «2» و للحكاية عن ابن عقيل: «أنّه متواتر عن الصادق، عن

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 254.

(2) السرائر 1: 64.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 123

آبائه (عليهم السّلام)» «1» منجبر قطعاً سنداً، و ظاهره أنّه الاستثناء المتّصل؛ و أنّ الموصول هو النجس، و يؤيّده رواية زرارة المتعرّضة لاعتبار النجاسة «2».

قلنا: نعم، إلّا أنّه لا يفيد المطلوب؛ ضرورة أنّ مقتضى القواعد في الاستثناء عن المنفيّ، ثبوت نقيض الحكم في المستثنىٰ على الوجه المذكور في المستثنىٰ منه، فعليه لا بدّ و أن يصحّ أن يقال بعد جملة المستثنىٰ: «فإنّه ينجّسه شي ء» مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو نجس حسب ما أفتىٰ به المشهور، فيعلم منه أنّ الموصول هو «الماء» و الاستثناء متّصل فرضاً، و لكن الفعل بني على المجهول؛ أي «إلّا الماء المتغيّر لونه أو ريحه أو طعمه، فإنّه ينجّسه النجس».

و بعبارة اخرىٰ: الماء المتغيّر في أحد أوصافه، الموجب لتنفّر الطباع نوعاً، ينجس بملاقاة النجس، كما يكون القليل كذلك، فعليه يكون النبويّ غير مربوط بما نحن فيه، و لعلّه في المضمون أخصّ من الأدلّة المتضمّنة لاعتصام الكرّ و غيره، و لا بأس بالالتزام به بعد قوّة احتمال الانجبار، فتدبّر.

بطلان التمسّك بصحيحة زرارة على النجاسة

و دعوىٰ دلالة صحيحة زرارة على النجاسة «3» بعد ما عرفت، غير مسموعة؛

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 19.

(2) تقدّم في الصفحة 116، الهامش 3.

(3) الحدائق الناضرة 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 76.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 124

لأنّ قوله (عليه السّلام)

إلّا أن يجي ء له ريح

تغلب علىٰ ريح الماء «1»

ظاهر في أنّ الريح مستند إلىٰ غير النجاسة، فإنّه حينئذٍ ينجّسه الشي ء، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

مع أنّها مشتملة علىٰ ما لا يقول به الإماميّة، و حملها على التقيّة- كما قيل «2» غير تامّ؛ لأنّه بنصّه خلافها، كما لا يخفىٰ.

و لنا دعوى دلالة صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول

لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر، إلّا أن ينتن، فإن نتن غسل الثوب، و أعاد الصلاة، و نزحت البئر «3».

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال بقاعدة الطهارة، علىٰ نجاسة جميع المستقذرات العرفيّة إلّا ما دلّ علىٰ خلافه، و التغيّر بالنجاسة من الأقذار قطعاً، فيكون مندرجاً في غاية تلك القاعدة، فليتأمّل.

الجهة الثانية: في كفاية التغيّر في صفة واحدة

بناءً علىٰ نجاسة المتغيّر، أو وجوب الاجتناب عنه في الشرب و الوضوء و الغسل، دون غيرها، فيكون مطهّراً من الخبث، و طاهراً في ذاته، فهل ذلك عند تغيّره في جميع الصفات، أو يكفي الصفة الواحدة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 116.

(2) مقابس الأنوار: 46/ السطر 17.

(3) تهذيب الأحكام 1: 232/ 670، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 125

كاللّون و غيره؟

ظاهر المشهور بل هو المجمع عليه، هي الثانية «1»، و هو قضيّة المآثير الكثيرة من المعتبرات و غيرها «2»، و لا يعارضها المطلقات، بل هي تؤكّدها.

نعم، قضيّة صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة، فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه، و لا تشرب «3»

اشتراط الجمع بين الصفة إجمالًا، و ظاهر قوله

تغيّر الماء

بقرينة الصدر هو التغيّر في الريح.

و هذا هو مقتضىٰ رواية أبي خالد القمّاط: أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل، و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة.

فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه، فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ منه

علىٰ نسخة «الاستبصار» «4».

و ضعف آخر السند ينجبر بحمّاد بن عيسىٰ، علىٰ ما هو المشهور فيهم.

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5/ السطر 3، رياض المسائل 1: 2/ السطر 26.

(2) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9، و 137 141، الباب 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

(4) الاستبصار 1: 9/ 10، و فيه: «و توضأ» بدل «و توضأ منه»، لاحظ جامع أحاديث الشيعة 2: 9/ 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 126

و يشهد له ما في مواضع من «فقه الرضا» «1» فراجع أبواب هذه المسألة و البئر، فإنّه يشهد علىٰ أنّ النسخة عند عليّ بن موسى كانت ب «الواو» و جمعاً بين الأحاديث اختار شرطيّة التغيّر من الأوصاف الثلاثة.

أقول: قضيّة بعض نسخ «التهذيب» «2» تعويض «الواو» ب «أو» في الرواية الأُولىٰ، فتسقط هذه الأحاديث عن الدلالة، و يبقى سائرها سليماً عن المعارض، و دعوىٰ أنّها «الواو» ممنوعة، بل الظاهر- بقرينة غيرها هي «أو» أو هي معارضة بما في «الفقه» فتوهّم المعارضة بين الأخبار و سقوطها، و الرجوع إلى الأُصول العمليّة، و هي تقضي بطهارة الماء إلى التغيّر في جميع الأوصاف، غير

تامّ.

و ممّا يؤيّد هذا التوهّم، الملازمة النوعيّة بين التغيّر بالطعم و الريح، بل و الثلاثة، فلو سبق التغيّر بأحد الأوصاف، مع التعارف علىٰ التغيّر بغيره بعد برهة، فلا يحكم بالنجاسة.

و علىٰ هذا، يمكن دعوى أنّ الروايات جامعة بين الأوصاف؛ لتلك الغلبة، فيتعيّن القول بكفاية الواحد؛ لأنّه مع الجمع أيضاً يثبت الحكم، فلا تعارض.

و إن شئت قلت: يقع التعارض بين المفهوم و المنطوق، و الثاني مقدّم، و إلّا فلا مفهوم.

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91 92.

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 127

الجهة الثالثة: في تنجّس المتغيّر بغير الأوصاف الثلاثة
اشارة

هل التغيّر بغير الأوصاف الثلاثة المدركة بالبصر و الشمّ و الذوق، يورث النجاسة؟ ظاهرهم عدمه، و لا خلاف من أحد.

و لكن في المسألة شبهة يشكل حلّها؛ لأنّ قضيّة بعض روايات الباب، أنّ تمام الموضوع هو التغيّر، و منها قول الصدوق: قال الرضا (عليه السّلام)

ليس يكره من قرب و لا بعد بئر

يعني قريبة من الكنيف

فيغتسل منها و يتوضّأ ما لم يتغيّر الماء «1».

و ذيل رواية أبي بصير الماضية

و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه «2»

فإنّه بعمومه بل و إطلاقه، يشمل جميع التغيّرات الحاصلة من أنواع مشابهات الدم في النجاسة و غيرها.

و مقتضى الروايات الأُخر المختلفة في التعديد فمنها ما يشمل الثلاثة، و منها ما يشمل الواحد، و منها ما يشمل الاثنين ليس التقييد؛ لعدم مساعدة فهم العرف في المقام إلّا للمثاليّة و التعارف، و مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و سريان تنفّر الطباع إلى الحرارة الحاصلة من النجاسة أيضاً، هو الأعمّ.

و توهّم الإجماعات المحصّلة على الحصر «3»، في غير محلّه؛

______________________________

(1) الفقيه 1: 13/ 23.

(2) تقدّم في الصفحة 117، الهامش 1.

(3) مقابس الأنوار:

51/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 128

لاحتمال كون نظرهم إلىٰ إثبات الثالثة، لا نفي الرابعة، فتدبّر.

مع أنّه محتمل كلام الجعفيّ و ابني بابويه، فإنّهم- علىٰ ما عن «الذكرى»: «لم يصرّحوا بالأوصاف الثلاثة، بل اعتبروا أغلبيّة النجاسة للماء» «1» انتهىٰ.

فتوهّم الحصر من النبويّ و غيره «2»، مبنيّ علىٰ فهم القيديّة، و لو شكّ في ذلك فالمرجع هي الطهارة.

إشكال و دفع

إن قلت: لا نفع في هذه المباحث بعد إنكار نجاسة الماء المتغيّر، و حمل النواهي على التحريم في الشرب؛ لجهة غير النجاسة، و في الوضوء على الكراهة؛ لاقتضاء الطبع ذلك، و هو قاصر عن إثبات الشرطيّة و إن مرّ احتماله، بل و قوّته «3».

قلت: لسنا طارحين هذه النصوص، حتّى يلزم ما أُشير إليه، بل نحن نقول: بأنّ المياه المتغيّرة تذهب عاصميّتها، و تصير قابلًا لأن ينجّسها الشي ء، سواء تغيّر بالنجس أو غيره، و هكذا نقول: لو تغيّر بالنجس، و لم يكن بعد التغيّر ملاقياً إيّاه، فهو لا ينجس.

فعليه لا بدّ من البحث فيما يوجب ذهاب عاصميّة الماء؛ و أنّه هي

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 61/ السطر 20، ذكرى الشيعة: 8/ السطر 11.

(2) لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.

(3) تقدّم في الصفحة 120 122.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 129

الثلاثة جمعاً، أو فرادى حصراً، أو زائداً عليها .. و هكذا.

الجهة الرابعة: في أنّ تغيّر اللون ملحق بالطعم و الريح
اشارة

لو تغيّر في طعمه أو ريحه، فلا خلاف من أحد، و عليه الإجماعات «1» و النصوص «2».

و لو تغيّر في اللّون، ففيه قولان: المشهور من الأقدمين إلى العصر الأخير، إلحاقه بهما في الأثر «3».

و استشكل فيه: بأنّ النصوص خالية عن ذكره «4»، و مقصود النافي منها الرواية المعتبرة، بعد عدم كفاية الإطلاقات؛ لأنّها مقيّدة بهما.

و لكنّه بمعزل عن التحقيق؛ و ذلك لأنّ في النصوص روايتين صريحتين في ذلك، و هي رواية العلاء بن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الحياض يبال فيها.

قال

لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول «5»

بناءً على المفهوم.

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5/ السطر 3، الحبل المتين: 106/ السطر 12، مدارك الأحكام 1: 29،

رياض المسائل 1: 133، مستند الشيعة 1: 11، جواهر الكلام 1: 75.

(2) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(3) المبسوط 1: 5، السرائر 1: 60، تذكرة الفقهاء 1: 15، الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 76 77.

(4) الحبل المتين: 106/ السطر 13، مشارق الشموس: 203/ السطر 7.

(5) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 130

و معتبرة شهاب بن عبد ربّه، قال: أتيت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) .. إلىٰ أن قال: قلت: فما التغيّر؟

قال

الصفرة ..

الحديث «1».

و لو فرضنا عدم تماميّة سند الاولىٰ بمحمّد بن سِنان «2» كما لا يبعد، و الثانية من جهات عديدة معلومة لأهله، و لكنّها عندي غير تامّة، فالمتّبع هو رأي المشهور أيضاً؛ لأنّ تلك الشهرة العظيمة إمّا جابرة لإحدى هذه النصوص الواصلة من النبويّ و غيره، أو كاشفة عن نصّ لو وصل إلينا كنّا نفهم منه ما فهمه الكلّ، أو عن رأي المعصوم (عليه السّلام)، فعلى التقادير يتمّ المطلوب، إلّا علىٰ إشكال في مباحث الشهرة، فيرجع إلىٰ محلّه «3».

إشكال صاحب الحدائق و جوابه

نعم، شبهة ترد عليهم: و هو أنّ اللّون مسبوق الوجود بغيره، فليس هو دخيلًا؛ للزوم اللغويّة، و قد صرّح بذلك «الحدائق» و غيره «4»، وهماً أنّ به

______________________________

(1) بصائر الدرجات: 258/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

(2) محمّد بن سنان أبو جعفر الزاهري من ولد زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي. قال أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد: أنّه روى عن الرضا (عليه السّلام) قال: و له مسائل عنه

معروفة و هو رجل ضعيف جدّاً لا يعول عليه و لا يلتفت إلى ما تفرّد به.

رجال النجاشي: 328/ 888، و ضعّفه الشيخ الطوسي في كتابيه، لاحظ رجال الطوسي: 386/ 7، الفهرست: 143/ 609.

(3) تحريرات في الأُصول 6: 388 و ما بعدها.

(4) الحدائق الناضرة 1: 181، الحبل المتين: 106/ السطر 15، جواهر الكلام 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 131

يعلم وجه إهمال اللّون في بعض النصوص و الآراء، غفلةً عن لزوم لغويّته في الاعتبار، كما تقرّر في محلّه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بغالبيّة المسبوقيّة، و هي تكفي للفرار عن اللغويّة، و توهّم كفاية المقارنة فاسد، فلا بدّ من كون كلّ واحد منها مختلف الوجود سابقاً و مسبوقاً.

بل لو كان السبق نادراً بحيث يلحق بالعدم، ففي صحّة جعله شرطاً مستقلا و سبباً أيضاً إشكال، بل منع.

ثمّ إنّه قد يشكل الأمر في اللّون: و هو أنّه من النور، و ليس منه الأثر في اللّيل، و يلزم نجاسته في النهار، و طهارته في اللّيل.

و فيه ما لا يخفىٰ، مع أنّه من الممكن دعوى إلحاقه به، كما في كثير من المسائل الشرعيّة، فتأمّل جيّداً.

الجهة الخامسة: في تنجّس جميع أقسام المياه بالتغيّر

مقتضىٰ إطلاق النصّ «1» و الفتوىٰ «2»، و عليه دعوى الاتفاق «3»، عدم الفرق بين أقسام المياه، و توهّم اختصاص الحكم بغير الجاري؛ ظنّاً أنّ بعضه يطهّر بعضاً، و هذا معناه عدم تنجّسه مطلقاً، غير تامّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9. و 158، الباب 9، الحديث 1، و 204 أبواب الماء المضاف، الباب 3.

(2) الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75، العروة الوثقىٰ 1: 30، فصل في المياه، المسألة 9.

(3) منتهى المطلب 1: 5/ السطر

3، الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 132

نعم، قد يشكل الحكم في بعض المياه؛ و ذلك لأنّ قضيّة الإطلاقات في خصوص كلّ ماء، عدم تنجّسه حتّى بالتغيّر، و تكون النسبة بينها و بين المطلقات فيما نحن فيه، عموماً من وجه، فلو لم يكن مقيّدات في خصوص بعض المياه- كالبئر، و الكرّ، كما في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع «1»، و معتبر أبي بصير «2» و غيره «3» كان لتقديم المطلقات فيما نحن فيه وجه واضح؛ و ذلك للزوم لغويّتها لو أعملنا قواعد باب التعارض؛ من سقوطهما، و المراجعة إلى الأُصول العمليّة؛ و هي قاعدة الطهارة، و الاستصحاب.

فعليه يتعيّن الأخذ بإطلاق صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، الناطقة بأنّ الماء المتغيّر ينجس «4» مثلًا، و حملها على الماء الأعمّ من الحقيقيّ

______________________________

(1) عن الرضا (عليه السّلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه، أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأنّ له مادّة، الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(2) عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال: إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه. تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(3) عن أبي خالد القمّاط، أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل، و هو نقيع فيه الميتة و

الجيفة، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ.

تهذيب الأحكام 1: 40/ 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 4.

(4) عن حريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال: كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه و لا تشرب.

تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 133

و المضاف، فيكون الخارج الحقيقيَّ، و الباقي المجازيَّ، غير صحيح.

و لكن مع الأسف، بعد وجود المقيّدات في البئر و الكرّ، دون غيرهما من المطر و الجاري و الحمّام، تنقلب النسبة في خصوص تلك المياه، و يكون مفاد الإطلاق فيما نحن فيه و المطلقات- بعد التقييد في خصوص الماءين واحداً، و النسبة باقية مع المطلقات في غيرهما، و قضيّة القواعد طهارة الماء الجاري و المطر و الحمّام، و لو تغيّر بالنجس.

نعم، يمكن دعوى إنكار إطلاق الأدلّة في خصوص الماء الجاري، فيبقىٰ إطلاق الأدلّة في هذه المسألة بلا معارض، فيؤخذ به، و لكنّه في المطر و الحمّام غير ممكن.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع و إلغاء الخصوصيّة، يقضي بعدم الفرق بين المياه، و التفكيك يحتاج إلىٰ دليل صريح فيه.

بل لك دعوى تقدّم المطلقات في هذه المسألة علىٰ غيرها، من غير ملاحظة النسبة؛ لأظهريّتها من غيرها في مورد التصادم.

أو يقال: بأنّ

الماء

في قوله (عليه السّلام) مثلًا: «الماء

إذا تغيّر ينجس» من العناوين المشيرة إلىٰ أنواعه، و هذا أمر رائج في العناوين التي يكون لأنواعها الأحكام الخاصّة، أو لأصنافها، دون نفس الطبيعة من حيث هي

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 134

هي، و عندئذٍ تكون النسبة عموماً مطلقاً، كما لا يخفى.

الجهة السادسة: في الشرائط الدخيلة في تنجّس الماء المتغيّر
اشاره

و هي أُمور، على المعروف بينهم:

فمنها: كون التغيّر مستنداً إلىٰ الملاقاة
اشارة

و لا يكفي بالمجاورة و لو تغيّر في جميع أوصاف النجس، و عليه حكاية الإجماع «1»، و لا يوجد الخلاف من أحد.

و لكنّ التحقيق: عدم الفرق؛ لأنّ التفكيك في هذه المسائل العرفيّة، يحتاج إلىٰ دليل صريح ينادي بأعلى صوته؛ ضرورة أنّ المستفاد من الأدلّة، ليس إلّا أنّ المناط، هو التغيّر الحاصل في الماء من النجس، سواء كان بالملاقاة، أو بالمجاورة، أو بهما معاً، أو بالمجاورة مع الملاقاة غير الدخيلة .. أو غير ذلك.

و لعمري، إنّ هذا التقييد من أعاجيب ما وقع في كلام القوم، فإنّه يلزم منه طهارة المتغيّر في اللّون و الريح و الطعم و غيرها، و نجاسة المتغيّر في اللّون فقط!! من غير استفادة العرف خصوصيّة للملاقاة، فكونه مستنداً إلى الملاقاة، تعبّد صِرْف و محتاج إلى الأعمال بالدليل الواضح المتقن، لا الاستظهار، فلو لم يكن إطلاق في الأدلّة، و كانت الروايات منحصرة بما يشتمل علىٰ قضايا جزئيّة، كان القول المذكور متعيّناً عند المتدبّر و المتأمّل.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 82.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 135

و لعمري، إنّه لا يحتاج إلى التدبّر، بل لو كان في كلام الشرع قيد الملاقاة، لكنّا نطرحه؛ لكونه غير دخيل في نظر العرف، و يكون من القيود الغالبيّة، و لو كان في العالم مورد لإلغاء الخصوصيّة فيها، هو هذا بلا شكّ و ارتياب.

و من المؤسف عليه، وجود الإطلاقات في المآثير «1»، خصوصاً في صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) الماضية، فإنّه (عليه السّلام) فيها- مبتدئاً بالكلام لم يعتبر هذا القيد، بل في بعض الأخبار ألغىٰ قيد الملاقاة المفروض في السؤال، فقال (عليه السّلام)

إذا كان النتن الغالبَ

على الماء، فلا يتوضّأ، و لا يشرب «2».

فبالجملة: حمل المطلق «3»، و دعوى الانصراف «4» و غير ذلك «5» في المسألة من الغفلة جدّاً.

الفرق بين الكثير و القليل من ناحية الملاقاة

و من العجب، توهّم جماعة «6» و منهم الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «7» أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 6.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 80.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 119، دليل العروة الوثقىٰ 1: 36.

(5) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.

(6) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84، مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 18.

(7) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 11 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 136

هذه المسألة مثل مسألة انفعال الماء القليل، فكما هناك لا بدّ من الملاقاة، كذلك هنا، إلّا أنّ هنا زيادة عليها؛ و هو التغيّر!! و ذلك لأنّ هناك لولا الملاقاة، لٰا معنى لاعتبار النجاسة؛ لعدم وجود الأثر منها فيه، بخلاف ما نحن فيه، فإنّه أثّر في طعمه و ريحه و لونه و غيرها أشدّ من التأثير بالملاقاة.

فعلى ما تقرّر، تكون طائفة من الروايات، ظاهرة في أنّ موضوع وجوب الاجتناب أو النجاسة، هو الماء المتغيّر بالنجس، لا المتغيّر المطلق، و لا المتغيّر به بشرط الملاقاة، و لا بحال الملاقاة بنحو العلّية الناقصة، أو العلّية التامّة.

بحث: في تنجّس الكثير إن تعفن بمجرّد الملاقاة للنجاسة

يمكن دعوى قصور المآثير عن دلالتها علىٰ أنّ المتغيّر بالنجس، يكون نجساً فقط، بل مقتضى النصوص هو أنّ المتغيّر المتعفّن المنزجرة عنه الطباع المتعارفة، ينجس بملاقاته للنجس، و ما ورد في الأسئلة من مصاديق هذه الكلّية، و ما وقع جواباً عنها «1» يفيد هذه الكلّية؛ لعدم ورود القيد في المآثير المفيدة لهذه الخصوصيّة، و قد مضى شطر من البحث حول تلك الجهة سابقاً.

و هذا هو الظاهر

من صحيحة ابن بَزيع، عن الرضا (عليه السّلام) قال

ماء البئر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 138 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8 و 10 و 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 137

واسع لا يفسده شي ء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فلينزح حتّى يذهب الريح، و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «1».

لأنّ الظاهر هو هكذا «إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فإنّه حينئذٍ يفسده الشي ء، فينزح حتّى لا يفسده الشي ء، و السرّ في ذلك أنّه له مادّة».

نعم، ظاهر النبويّ بناءً على ما اشتهر من قراءة كلمة

غَيّر

في المستثنىٰ معلوماً، هو أنّ التغيّر مستند إلى النجاسة، و أمّا علىٰ قراءتنا- و قد مضى وجه تعيّنها فالكلمة مجهولة، و الموصول كناية عن الماء، و لعلّ لفظة الموصول محرّف «ماء»؛ أي «إلّا ماء غُيِّر لونُه و ريحه و طعمه، فإنّه ينجّسه الشي ء» و عليه يكون مفاده متّحداً مع مفاد الصحيحة و غيرها.

و منها: كون المتغيّر متّحداً مع المغيِّر في الصفة
اشارة

و البحث هنا يتمّ في مراحل:

الاولىٰ: في أنحاء تغيّر الماء بنجس العين

إذا كان المغيِّر من الأعيان النجسة:

فتارة: يتّحد المتغيّر معه في الوصف.

و أُخرى: يخالفه فيه، و لكنّه متّحد معه في الجنس القريب، فيكون

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12، و 172، الباب 14، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 138

نتناً و متعفّناً و متنفّراً منه الطبع؛ بأن يكون وصفاً للنجس الآخر مثلًا.

و ثالثة: بأن يكون وصفاً ثالثاً، و لكنّه مورد النفرة.

و رابعة: بأن تغيّر الماء بزوال الوصف العرضي.

و خامسة: بأن تغيّر باكتساب الوصف الأحسن.

و سادسة: بأن تغيّر بقذارة بدن الكافر الذي لا وصف له بذاته حتّى يسري.

لا شبهة في نجاسته في الفرض الأوّل، و مقتضى الإطلاقات نجاسته في غيره أيضاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الظاهر من النصوص الخاصّة و الأسئلة، اعتبار الإنتان، و هذا هو المساعد لفهم العرف؛ لمناسبة الحكم و الموضوع.

و يمكن دعوى اختصاص النجاسة بالفرض الأوّل؛ لقوله (عليه السّلام)

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة «1»

الظاهر في لزوم الاتحاد في الوصف مع التعارف في ذلك.

و لكنّ الإنصاف: كفاية غلبة النتن على الماء من قِبل النجس في تنجّسه، بل الظاهر أنّ

الماء

المفروض في النبويّ و غيره، هو الماء الخالص، لا الماء المتغيّر في أوصافه بنفسه، و استعمال كلمة

الريح

و

اللّون

و

الطعم

إمّا لاشتماله عليها و إن لا يدركه نوع الناس، أو للمشاكلة.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، الإستبصار 1: 12/ 19، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 139

و لو فرضنا أنّ استعماله؛ لأجل تعارف اتصاف نوع مصاديقه بها من قبل نفسه، أو

الجسم الطاهر، خصوصاً في مناطق الروايات، و لكنّه لا يورث ظهورها في أنّ التغيّر بذهاب الوصف العرضيّ كافٍ.

كما أنّ دعوى: أنّ العرف يفهم منها، لزوم وجود الوصف في الماء بالمغيِّر، و هذا من زواله به، غير كافية؛ لإمكان دعوى أنّ عود الوصف الأصليّ عندهم، من قبيل حدوث الوصف الجديد، فلا تغفل.

الثانية: في حكم تغيّر الماء بالمتنجّس

إذا كان المغيِّر من الأعيان المتنجّسة الحاملة لوصف النجس، كما لو تغيّر مقدار من الماء بالدّم، ثمّ القي في الكرّ فتغيّر، فمقتضى الإطلاق النجاسة، و هكذا مقتضىٰ أنّ المياه الكثيرة، تتغيّر بالماء المتوسّط بين الجيفة و بينها، و لا يمكن الالتزام بعدم نجاستها.

و هذا مقتضىٰ عدم إدراك الخصوصيّة، بعد اقتضاء المناسبة الأعمّية. و يدلّ عليه ما ورد في البئر القريب من الكنيف «1»، كما لا يخفى.

و لو استشكل في الوجوه كلّها كما يمكن، و لكنّ الوجه الأخير ظاهر و متعارف فيما نحن فيه، فتأمّل.

و الذي هو التحقيق: أنّ كلمة

شي ء

في النبويّ، ليست كناية عن النجاسة، و لا يختصّ بالنجس من الأعيان، بل الظاهر منه هنا- كما في روايات الكرّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14، و 171 الباب 14، الحديث 4، و 197 200، الباب 24.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 140

كلّ ما يمكن أن يتنجّس منه الشي ء الآخر، و يحصل من قبله التغيّر، فلو انتقل وصف النجاسة إلى الماء، و لم يكن الناقل نجساً- كما إذا كان الجسم بالمجاورة حامله، فلاقى الكرّ من الماء و غيّره فإنّه لا ينجس.

نعم، لا يشترط كون المتنجّس المغيِّر، نجساً بالوصف الحاصل فيه، بل لو كان الماء فيه ريح الجيفة بالمجاورة، و تنجّس بأمر آخر، فإنّه شي ء نجس

غيّر وصف الماء، و لكنّه يأتي النظر فيه أيضاً.

نعم، إذا كان المتنجّس حاملَ وصفٍ غير النجاسة، فإنّه لا يورثها؛ لانصراف الدليل عنه؛ لأنّ من مناشئه في هذه المواقف، استقذارَ الطباع بعنوان النجس، و هو هنا ممنوع كما لا يخفىٰ.

عدم اختصاص الحكم بالمتنجّس المنجّس

ثمّ إنّه هل يختصّ الحكم بالمتنجّس المنجّس، أم لا؟ فيه وجهان.

لا يبعد الثاني؛ لأنّ عدم نجاسة الشي ء بملاقاته، لا ينافي نجاسته باستهلاكه فيه، و إيراثِه مثلَه في الوجود و الاعتبار؛ فإنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الماء المتغيّر اعتبر نجساً بالتغيّر، لا متنجّساً، فيكون من الأعيان النجسة.

و لذلك لا ينافي حصر القول بالنجس العين فيما نحن فيه، الالتزام بنجاسة الطرف الآخر من الماء الملقى فيه الجيفة؛ لأنّ الماء الملاقى معها يعدّ من الأعيان النجسة، و لا يقبل الطهارة إلّا كما يقبل سائر الأعيان النجسة، فما أفاده الأصحاب في المقام «1»، غير قابل للركون إليه.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26/ السطر 35، جواهر الكلام 1: 83 84، مستمسك العروة الوثقى 1: 120.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 141

فعلى هذا، لو القي مقدار من المتغيّر في الكرّ و غيّره، فإنّه ينجس؛ لكونه- في الاعتبار من النجاسات الذاتيّة، كالكافر.

فبالجملة: الأعيان النجسة الموجبة للتغيّر، مشمولة للمطلقات، و المتنجّسات بغير التغيّر خارجة عنها؛ لما يستظهر من المآثير أنّها بصدد اعتبار النجاسة العينيّة للماء المتغيّر، فإنّه لا يقبل الطهارة إلّا بزوال الوصف، فهو مثل الكافر في الأعيان النجسة؛ لخروجه موضوعاً عن عنوان النجس.

و لو القي في الكرّ، فإن عاد مع وصف التغيّر، فهو نجس أيضاً كما في البول، و إلّا فهو مثل الخروج الموضوعيّ عن تحت الدليل، فعلى هذا فيه اعتبار «العين النجس» قطعاً، فإذا القي في الكرّ و تغيّر به، فهو

ينجس.

و ممّا ذكرناه يظهر وجه القول بالطهارة في المرحلة الثالثة، كما أُشير إليه آنفاً، و لا حاجة إلى التكرار، كما يظهر مواقف الخلل في كلمات القوم رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و علىٰ هذا، يظهر أيضاً وجه ما نسب «1» إلىٰ السيّد في «الجمل» «2» و الشيخ في «المبسوط» «3» مع حكاية الإجماع عنه على التنجيس «4»، إلّا أنّ مصبّ كلامهم يحمل على الماء المتغيّر بالنجس، لا المتنجّسات الأُخر، فتدبّر.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26.

(2) رسائل الشريف المرتضى 3: 22.

(3) المبسوط 1: 8.

(4) مفتاح الكرامة 1: 62/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 142

إشكال و دفع

إن قلت: بناءً علىٰ هذا، يلزم طهارة الماء المتغيّر بزوال التغيّر؛ لاندراجه في الموضوع الآخر، كما لو أسلم الكافر.

قلت: نعم، و يشبه حينئذٍ العصير المغليّ، فإنّه نجس العين، و لكنّه إذا ذهب ثلثاه، يندرج تحت العنوان الآخر الطاهر العين.

و لكنّه لا يلزم ذلك؛ ضرورة أنّ عنوان «الماء المتغيّر» موضوع النجاسة، و إذا صدق في الخارج علىٰ موجود «أنّه الماء المتغيّر» صدق «أنّه نجس» و يكون التغيّر من عوارض الماء، فإذا زال التغيّر يقصر الدليل الاجتهاديّ عن اعتبار النجاسة له بعده، و هكذا الدليل الاجتهاديّ عن إدراجه في الماء الطاهر؛ لاحتمال كون التغيّر بعد العروض، موجباً لنجاسته بقاءً، أو حدوثِ الجهة الأُخرىٰ لبقائه على النجاسة.

و منها: كون التغيّر حسّياً لا تقديرياً

و تحقيق المسألة يظهر بالتدبّر في أنّ النجاسات مختلفة في الأثر؛ فإنّ منها ما لا يورث تغيّراً بنوعه، كالكلب و الخنزير و الكافر، فلا معنىٰ لكون تقديره بالجيفة موجباً لنجاسة الماء.

و منها: ما لا يورث بصنفه، كبعض الأبوال من بعض البلاد، فهو أيضاً مثل سابقه.

و منها: ما لا يورث لقصور في شخصه، فهو كذلك.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 143

و التغيّر تارة: يحصل في الماء؛ لتماميّة علّته من وجود المقتضي، و عدم المانع، بعد لحاظ أنّه تدريجيّ الوجود، و لكنّه لا يدرك بالحواسّ، فهذا لا معنىٰ لكونه موضوعاً للحكم إلّا على الوجه الآتي فساده.

و أُخرى: يحصل فيه و يدرك بالآلة، و يدركه القويّ من الناس أو الحيوانات، فهو أيضاً ليس موضوعاً للحكم؛ لأنّ المدار على المتعارف، فلا معنىٰ لإلحاق التقديريّ منه به.

و ثالثة: ما يدركه الناس، إلّا أنّه تغيّر في نهاية الضعف؛ بحيث يقال: «هو أخذ في التعفّن و التغيّر» فإن اعتبرنا الغلبة، فهذا محكوم بالطهارة بكلا المعنيين الآتيين

في الغلبة، و إلّا فهو محكوم بالنجاسة.

و التقديريّ منه أيضاً محكوم بالطهارة؛ لرجوعه إلىٰ تقدير الوجود و تقدير موضوع الحكم، و لو كان التقدير في هذه المواقف، موجباً لإلحاق الحكم بالمقدّر يلزم لغويّة أخذ الشي ء موضوعاً.

و رابعة: ما بلغ غايته في التغيّر، فإنّه حينئذٍ يلحق بالتقديريّ منه حكماً؛ لرجوعه إلىٰ أنّ عدم إدراكه لوجود المانع من الظلمة و الغيم، أو الشرط و هو النور .. و هكذا، أو لعدم البصر و الذوق.

أنحاء قصور شخص النجس

ثمّ إنّ قصور شخص النجس:

تارة: يكون لإشكال في الاقتضاء، كما مرّ.

و أُخرى: لعدم الشرط، مثل الحرارة، أو وجود المانع مثل البرودة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 144

و ثالثة: لاتحاد الماء معه في الصفة، فيكون هو الأبيض و هكذا النجس، أو هو الأحمر و الملقىٰ فيه الدّم .. و هكذا.

و الظاهر هو الحكم بالطهارة، إلّا إذا اشتدّ الوصف بالنجس، فإنّه نجس؛ لحصول التغيّر.

توهّم و دفع

إن قيل: ليس التغيّر من العناوين الذاتيّة، بل هو الطريق إلىٰ موضوع آخر؛ و هو استهلاك مقدار من النجس في الماء، و يختلف المقدار حسب اختلاف الماء، و هذا المقدار يعلم بالتقدير بالماء المتغيّر به.

قلنا: نعم، و لكنّه مجرّد إمكان، و لا يساعده ظواهر المآثير، و هكذا مفهوم «الغلبة» فإنّها لا تدرك إلّا بالحواسّ، فتوهّم أنّها تساعد الأمر التقديريّ، في غير محلّه و إن كان من بعض الأجلّاء «1».

و من عجيب البحث إطالة الكلام حول لزوم اجتماع المثلين و الضدّين «2»!! الذي هو الأجنبيّ عن المقام، كما لا يخفى علىٰ ذوي الأفهام.

فرع: في حكم تغيّر الماء عند طائفة دون اخرى

لو كان الماء متغيّراً عند طائفة، و غير متغيّر عند اخرىٰ؛ لاختلاف

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 182.

(2) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 30، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 122، دليل العروة الوثقىٰ 1: 42.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 145

مداركهم، و اختلاف عاداتهم و ملكاتهم، فهل يلحق الثاني بالأوّل، أو ينعكس، أو هو طاهر عند قوم، و نجس عند آخرين؟

و هذا يرجع إلى البحث حول أنّ موضوع النجاسة، هو التغيّر الواقعيّ، أو التغيّر جزء، و الإدراك جزؤه الآخر.

فإن قلنا بالأوّل، فعلى القوم الثاني تبعيّتهم للأوّل، و تصديقهم في حصول الموضوع، و هم في حكم البيّنة القائمة على الموضوع الشرعيّ.

و إن قلنا بالثاني، فيلزم اختلاف الحكم الواقعيّ حسب اختلاف نظريّاتهم.

و إن قلنا: بعدم لزوم تصديقهم في دعواهم التغيّر، فيلزم اختلاف الحكم الواقعيّ و الظاهريّ؛ حسب اختلاف إدراكاتهم.

وجوه.

و هنا وجه آخر؛ و هو أنّ موضوع النجاسة، هو التغيّر الواقعيّ البالغ مرتبة الإحساس، فلو اختلفت الطوائف في الحسّ، فكلّ يتّبع حسّه و عقيدته، و لازمه كون الماء الواحد طاهراً و نجساً واقعاً، و الالتزام

به مشكل جدّاً.

و دعوىٰ لحوق كلّ قوم خارج من المتعارف بالآخر، مسموعة، إلّا في مفروض البحث. و هو ما لا ثالث في البين، حتّى يكون هو المرجع في الخروج عن المتعارف و عدمه، و هذا أيضاً شبهة في المسألة، تؤيّد ما سلكناه فيها، فتأمّل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 146

بحث و تحقيق: في اشتراط غلبة النجس على الماء

قد عرفت: أنّ مقتضى الأدلّة، عدم لزوم الاتحاد في الوصف بين المغيِّر و المتغيِّر، و لكن قضيّة التدبّر في كلمات القوم و المآثير، شرطيّة كون النجس غالباً على الماء؛ و ذلك لما وقع في كلام الجعفيّ و ابنَي بابويه، من اعتبار أغلبيّة النجاسة على الماء «1».

و في كلام المحقّق: اعتبار استيلاء النجاسة علىٰ أحد أوصافه «2».

و في كلام العلّامة: «أنّ المدار علىٰ الغلبة» «3».

و في كثير من المآثير، اعتبار غلبة ريح الجيفة على الماء، و غلبة لون البول علىٰ لون الماء «4».

و حيث أنّ «الغلبة» لا تصدق إلّا فيما كان أثر النجس- الذي هو من مشخّصات النجاسة ثابتاً في الماء، فيلزم اتحادهما في الوصف، حتى يقال: «بغلبة النجاسة، و استيلائها عليه» و إلّا فهو غير صادق، كما لا يخفى.

و عليه، يحمل المطلقات في المآثير، علىٰ هذه المقيّدات و إن كانتا موجبتين؛ لتحقّق ملاك التقييد.

و من عجيب ما وقع في المقام، كلام «الجواهر» (قدّس سرّه) «5»!! و كأنّه

______________________________

(1) ذكرى الشيعة: 8/ السطر 11، مفتاح الكرامة 1: 61/ السطر 20.

(2) شرائع الإسلام 1: 4.

(3) منتهى المطلب 1: 8/ السطر 1.

(4) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(5) جواهر الكلام 1: 81.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 147

لا يبالي بتماميّة ما يذكره ردّاً على اعتبار الغلبة، و إلّا فعلى

مثله لا تخفىٰ هذه الأُمور الواضحة، بل علىٰ من دونه بمراتب.

و دعوى أنّ قضيّة القول بالغلبة، طهارة الماء المتغيّر بالجيفة في الريح «1»، ممنوعة؛ لأنّ الجيفة و الدم في تغيّر الماء، علىٰ حدّ سواء في انتشار الأجزاء في الماء.

و توهّم: أنّه في الدم يتغيّر بالنشر، و في الجيفة بأثرها و خاصّيتها «2»، في غاية السقوط، مع أنّ الجيفة لها الآثار المشخّصة، و منها ريحها، فإذا وجدت في الماء يصدق «غلبة النجاسة بريحها على الماء» كما يصدق «غلبة الدم بلونه على الماء» فما يظهر من المتأخّرين؛ من حمل «الغلبة» على التغيّر «3»، مع أنّ «الغلبة» لا تصدق إلّا حال التغيّر الخاصّ، ضعيف جدّاً.

و توهّم: أنّ الصفرة الحاصلة من الدم، غالبة على الماء، في محلّه، إلّا أنّه غير كافٍ؛ لما أنّ المدار علىٰ غلبة النجاسة بخصوصيّاتها الموجودة فيها؛ من الريح و الطعم و اللّون على الماء؛ قضاءً لحقّ النصوص.

و دعوىٰ: أنّ الصفرة ليست من آثار الجيفة، مع أنّها في النصّ مذكورة «4»، غير تامّة؛ لأنّ المتعارف انقلاب الماء بالجيفة في اللّون

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 3.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 36.

(3) جواهر الكلام 1: 81، مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 1، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 124.

(4) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 148

الأصفر، فكأنّه منها؛ بمعنى أنّ الجيفة عملها الصفرة، كما أنّ الدّم عمله الحمرة، و لتلك النكتة اتي بها في الرواية دون سائر الألوان، كما أنّ الإتيان بريحها في المآثير؛ لأنّ سراية الريح أسرع من اللّون، و لا يطّلع الناس نوعاً علىٰ طعمها حتّى

يشخّص ذلك.

تأييد اعتبار الغلبة برواية ابن سنان

و ممّا يؤيّد اعتبار الغلبة، رواية عبد اللّٰه بن سِنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر، عن غدير أتوه و فيه جيفة.

فقال

إن كان الماء قاهراً، و لا توجد منه الريح، فتوضّأ «1».

و أمّا ما في ذيل معتبر شهاب بن عبد ربّه

و كلّما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر «2»

فهو ظاهر في أنّ المراد هي الكثرة الموجبة للتغيّر و الغلبة.

فتوهّم: أنّه شاهد علىٰ أنّ العناوين الأُخر، مأخوذة طريقاً، فيتمّ القول بالتقدير، فاسد.

و قريب منه في الفاسد، دعوى أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فإذا تغيّر الماء مثلًا ينجس، و إذا غلبت النجاسة بكثرتها- أي كان مقدارها أكثر

______________________________

(1) الكافي 3: 4/ 4، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 11.

(2) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 149

من مقدار الماء نجس أيضاً «1»، فافهم و تدبّر جيّداً.

الجهة السابعة: في قابلية الماء للتطهير و كيفية تطهيره
اشارة

لو فرضنا نجاسة الماء المتغيّر، فهل هو قابل للطهارة أم لا؟.

ثمّ على فرض قبوله، فهل يكفي زوال التغيّر أم لا؟.

و على الثاني، فهل يكفي مجرّد الاتصال أم لا؟.

و على الثاني، فهل يشترط الامتزاج الخاصّ أم لا؟.

و علىٰ جميع التقادير، يشترط زوال التغيّر في حصول الطهارة، أم لا، أو يقال بالتفصيل بين المياه؟

ففيه أبحاث:

البحث الأوّل: في قابليّته للتطهير
اشارة

فقد يشكل ذلك؛ لأنّ الظاهر من النبويّ و العلويّ المتقدّم

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

أنّه إذا تنجّس لا يقبل التطهير من قبل نفسه؛ لأنّه من قِبَل غيره ممّا لا يتوهّم، حتّى يحتاج إلى الدفع، فيعلم منه أنّه غير قابل لذلك.

و أمّا تطهيره باستهلاكه، فهو تَسٰامح واضح؛ فإنّ المقصود هو التطهير الحقيقيّ الذي لا يفرض إلّا مع بقاء الموضوع، و إلّا فجميع الأنجاس تقبله.

و هذا ربّما يكون الظاهر من القائلين بالامتزاج، البالغ مزجه إلىٰ

______________________________

(1) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 150

حدّ الاستهلاك، فإنّه لو فُرض الكثير من البول كذا، لصار طاهراً، و لو عادت الأجزاء المستهلكة، فصدق عليها «البول» كما لو عادت الأجزاء من المتغيّر و صدق عليها «المتغيّر» فإنّهما في الفرضين نجس بالبداهة.

فهذا الاحتمال ليس بعيداً جدّاً، خصوصاً بعد ما إذا راجعنا العرف و العادة في طهارة الأشياء المتنجّسة؛ من أنّ الماء بملاقاته لها، و تحمّله قذارتها، و فراقه منها، يورث رجوعها إلى الطهارة الخلقيّة الأوّلية، و هذا في مطلق المائعات ممّا لا يتصوّر.

و قد مرّ منّا في مباحث المياه المضافة، ما يتعلّق بالمسألة «1»، و حول النبويّ هناك، و في ابتداء هذه المسألة أيضاً من الاحتمالات الكثيرة فيه، و لكنّه غير خفيّ أنّ أظهرها، ما يتعلّق بمرامنا هنا.

فبالجملة: بناءً علىٰ تماميّة هذه الشبهة، يلزم

القول بالاستهلاك في تطهير المياه النجسة، و لا يكفي الاتصال، و لا الامتزاج.

و هذا ليس خرقاً للإجماع بعد ما أُشير إليه، و يقتضيه إطلاق كلام القائلين باعتبار الامتزاج، و إذا اقتضى الدأب و الديدن في تطهير المتنجّسات، ذهابَ النجاسة بالماء مع بقاء الذات، فالتمسّك بعمومات مطهّرية المياه حتّى لنفسها، في غير محلّه؛ لأنّ العرف لا يجد طريقاً إلىٰ تطهير الماء النجس- كالبول إلّا بالإلقاء في الكثير الموجب لاستهلاكه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 107 109 و 118 119.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 151

عدم دلالة صحيحة ابن بزيع علىٰ كفاية الامتزاج

إن قلت: قضيّة صحيحة ابن بَزيع «1»، نجاسة ماء البئر، و تطهيره بالمادّة الموجودة فيه بالاتصال أو الامتزاج.

قلت: يمكن دعوى أنّ المتعارف، إخراج الماء الكثير المتغيّر، و بقاؤه يسيراً، و غلبة المادّة الموجودة البالغة إلىٰ حدّ استهلاكه فيها، فلو كان لها الإطلاق من تلك الجهة، فما هو المنصرف إليه عند العرف هو ما يساعدهم، و أنت خبير بأنّ العقلاء في كيفيّة تطهير المائعات، لا طريق لهم إلّا الاستهلاك و الإفناء، و لا طريق عندهم لتطهير الماء مع بقاء المتغيّر مع بقاء موضوعه، فإذا لا حظنا الصحيحة، نجد أنّها ليست في مقام إفادة الأمر التعبّدي الصرف في تطهير ماء البئر، و ليس مجرّد الاتصال و الامتزاج من التطهير عند العرف و العقلاء، بخلاف الاستهلاك المستلزم لفناء موضوعه.

ثمّ مقتضى الإطلاق فرضاً، هو التفصيل بين الماء الذي له المادّة، كالجاري و النابع و البئر، بل و الحمّام، و ما لا مادّة له كالراكد؛ لأنّ قضيّة النبويّ، عدم قابليّة الماء للتطهير إذا تنجّس، و قضيّة الصحيحة- بعد عموم التعليل قبول الماء المذكور للطهارة إذا تنجّس، و نتيجة الجمع هو التقييد، و الالتزام به غير ممنوع

شرعاً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 137.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 152

البحث الثاني: في كفاية مجرّد زوال التغيّر
اشارة

لو زال وصف التغيّر بنفسه أو بالجسم الطاهر غير المياه الغالبة، فهل يطهر المتغيّر أم لا؟ فيه قولان:

فعن الشافعيّ و أحمد من المخالفين «1»، و عن يحيىٰ بن سعيد و الشهيد «2» بل و العلّامةُ في بعض كتبه ك «النهاية» قد مال إليه «3»، و في «الحدائق»: «و قد صرّح جمع من الأصحاب: بأنّ القول بطهارة المتغيّر بزوال التغيّر، لازم لكلّ من قال بالطهارة بالإتمام» «4» فتأمّل- هو الأوّل، و عن الآخرين هو الثاني.

و أنت خبير: بأنّ هذا القول، لا ينافي القول بأنّ الماء المتنجّس لا يقبل الطهارة؛ لأنّه ليس من التطهير الحقيقيّ، بل هو من قبيل تبادل العناوين الكلّية المجعولة عليها النجاسة و الطهارة، فإذا خرج شي ء من عنوان، و دخل في الآخر، يكون نجساً أم طاهراً، كالكافر و المسلم، فكما لا يطهر الكافر، و لا المسلم ينجس، مع حفظ الموضوع، كذلك الماء المتغيّر لا يطهر، و لا غيره ينجس.

و إن شئت قلت: الطهارة في تبادل العناوين، ليست من الطهارة

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 11/ السطر 19، المغني، ابن قدامة 1: 35، المجموع 1: 132.

(2) الجامع للشرائع: 18، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 16.

(3) نهاية الإحكام 1: 258.

(4) الحدائق الناضرة 1: 246.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 153

الحاصلة من التطهير الحقيقيّ الذي هو بالماء، أو بالشمس، أو بالأرض مثلًا، بل هي الطهارة على التوسّع و المجاز، فلا تغفل.

هذا، و الذي يقرّب الأوّل؛ هو أنّ الطهارة ليست إلّا فيما كانت الأشياء موجودة علىٰ خلقتها الأوّلية و الأصليّة، فإذا تلوّثت بالأخباث و القذارات تعدّ نجسة، و إذا زالت

النجاسة، و رجعت إلىٰ ما كانت عليه، تصير طاهرة، و المزيل في بعض الأشياء يكون الماء، و في بعضها يكون التراب و الشمس، و في الثالثة نفس زوال العين .. و هكذا.

و هذا الاختلاف في المزيل، ممّا يوافقه ذوق أهل العرف أيضاً في الأشياء؛ لاختلافها في الجهة المحتاج إليها. و هذا بحسب النوع و الكلّي، لا العامّ الاستيعابيّ حتّى ينقض، فلا تختلط.

فإذا تغيّر الماء بالنجس، فهو من الأنجاس الشرعيّة و المستقذرات العرفيّة، و إذا زالت تلك الأوصاف السيّئة، و صار الماء صافياً أحسن في صفائه من الأوّل، فقد عاد إلى الطهارة الذاتيّة المجعولة له تكويناً و تشريعاً، فالقول بنجاسة الشي ء بعد ذلك، يحتاج إلى الدليل القويم الظاهر و الصريح، كما في الجامدات الوارد فيها الأمر بالغسل فيه.

ثمّ إنّ استفادة العنوانيّة من أخبار الباب «1»، غير ممكنة، فليس المتغيّر و غير المتغيّر كالمسلم و الكافر؛ في كونهما موضوعين للطهارة و النجاسة، فإذا تبدّل العنوان يتبادل الحكم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 428 429، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 154

علّية التغيّر حدوثاً و بقاء

نعم، لا ينحصر القول بطهارة المتغيّر إذا زال تغيّره بها، بل يمكن دعوى استفادة العلّية حدوثاً و بقاءً للتغيّر و لو اقتضت الصناعة العلميّة خلافها، كما هو الحقّ، و لكنّ المناسبات المعمولة في هذه الموضوعات العرفيّة- التي لا يُعمل الشرع فيها التعبّدَ الخاصّ الصرف تقضي بأنّ المتغيّر تمام الموضوع للنجاسة، و إذا لم تكن النجاسة بانتفاء علّتها، يكون الموضوع طاهراً قهراً و عرفاً.

فاحتمال كون النجاسة باقية تعبّداً محضاً، و احتمال كون نفس التلبّس في آنٍ ما كافياً لاعتبار بقائها، و احتمال حدوث العلّة الأُخرىٰ لبقائها، كلّها من المذمومات العقلائيّة، و لا

ينتقل العرف من أخبار الباب إلّا إلىٰ ما أشرنا إليه إنصافاً.

و أهون من المحتملات المزبورة، احتمال كون الملاقاة موجبة للنجاسة بشرط التغيّر، فإذا زال الشرط لا يرتفع الحكم؛ لبقاء الموجب و هي الملاقاة.

التمسّك بحديث عوالي اللآلي

و ممّا يستدلّ به الحديث النبويّ في «عوالي اللآلي» قال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إذا بلغ الماء كرّاً لم يحمل خبثاً «1».

______________________________

(1) عوالي اللآلي 1: 76/ 156، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 155

أو قال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثاً «1».

و فيه: أنّه غير تامّ سنداً، و ما عن «مبسوط» الشيخ (قدّس سرّه) من نسبته إليهم (عليهم السّلام) «2»، محمول علىٰ تفسيره أخبار الكرّ بذلك، غيرَ ملتفتٍ إلى اختلاف المعنيين ظاهراً.

و لو فرضنا اعتباره؛ لذهاب جمع إلىٰ مفاده فرضاً، و لكنّه معرض عنه؛ لأنّ عمل المتأخّرين لا يقاوم إعراض القدماء.

فالرواية غير معتبرة قطعاً، و لكنّها تدلّ على اعتصام الماء، و تضادّه مع القذارة إذا كان كثيراً، و أنّ كثرته تمنع عن تأثير الغير فيه، سواء كان الغير من الأعيان النجسة، أو المتنجّسات، أو وصف التغيّر القائم به، فإنّه إذا لاقاه النجس لا ينجس، و إذا تغيّر فهو ينجس؛ لما مضى، و إذا زال الوصف فبقاء النجاسة باعتبار تأثير ذلك الوصف فيه، و هو بكثرته يدافعها، و عليه تكون دلالته على المطلوب تامّة، من غير حاجة إلىٰ حمل مفاده على الأعمّ من الدفع و الرفع.

و عليه يمكن الاستدلال للمطلوب بالمآثير الواردة في الكرّ؛ و أنّه «لا ينجّسه شي ء» «3» فإنّه يشمل وصف التغيّر أيضاً، فتدبّر جيّداً.

و توهّم: أنّه يعتبر

نجاسته؛ لأجل بعض الاحتمالات السابقة، غير

______________________________

(1) عوالي اللآلي 1: 76/ 155، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 156

تامّ؛ لأنّ ما يمكن عرفاً أن يكون وجهاً لبقاء النجاسة، كونه متّصفاً بالوصف المذكور، فيكون الوجه تأثيره فيها دون غيره، فتأمّل.

و إن شئت قلت: إنّ مفاده أنّ الكرّ لا يتحمّل النجاسة، فيدفعها و يرفعها، و لا وجه لاختصاصه بالثاني؛ وهْماً أنّه مثل ما ورد في الكرّ، و لا لاختصاصه بالأوّل؛ ظنّاً أنّ نفي الحمل ظاهر في أنّه كان محمولًا عليه، و هو مقتضى القضيّة الشرطيّة الظاهرة في حصول الكرّ تدريجاً، فهو الأعمّ، و يكون مرجعاً بعد زوال التغيّر، و لا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

و في المسألة، و نسبة الرواية مع أخبارنا، و ما ورد في الكرّ، مباحث، و لكنّها غير راجعة إلى المحصّل بعد ضعف السند.

إمكان انجبار ضعف خبر العوالي

و قد يستظهر انجبار السند «1»؛ لدعوى ابن إدريس: «أنّها مجمع عليها بين المخالف و المؤالف» «2» و قد رواها الشيخ في «الخلاف» «3» و السيّد في بعض كتبه «4» علىٰ ما حكي، مع عمل مثل ابن إدريس بها في مسألة النجس القليل المتمّم كرّاً «5»، مع دعوى الإجماع علىٰ طهارته «6».

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 43.

(2) السرائر 1: 63.

(3) الخلاف 1: 174.

(4) الانتصار: 8.

(5) السرائر 1: 63 65.

(6) السرائر 1: 66.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 157

و يؤيّده دعوى «الجواهر» عليه الرحمة: «من أنّ إرسالها لا يمنع عن العمل بها؛ لأنّه قد رواها من لا طعن في روايته، كالمرتضىٰ و الشيخ،

مع عملهما بها، مع أنّ المرتضىٰ لا يعمل بالآحاد، و إذا ضمّ إليها ما في «المبسوط» من نسبتها إلى الأئمّة (عليهم السّلام)، يتمّ المقصود؛ و هو الوثوق بصدورها» «1».

أقول: الإجماعات المنقولة التي تكون المحصّلات علىٰ خلافها، لا ثمرة فيها، و احتمال كون الرواية مصطادة من أخبار الكرّ نقلًا بالمعنى؛ ظنا وحدة المؤدّىٰ، غير بعيد إنصافاً، كما عن الشهيد في بعض كتبه «2»، و خلوّ المجامع الأوّلية عنه يورث الوهن إجمالًا، و استبعاد العقل و العقلاء لطهارة النجس المتمّم كرّاً، توهين آخر عليه.

فدعوى الوثوق «3» مع ذهاب المشهور إلىٰ خلاف مؤدّاه، غير مسموعة جدّاً.

نعم، هي تامّة الدلالة مع قطع النظر عن فهم العرف، و عن المغروس في الأذهان في باب الطهارة، فلاحظ.

الاستدلال بصحيحة ابن بزيع على الطهارة

و ممّا استدلّ به علىٰ طهارة الكثير، إذا زال وصف تغيّره بنفسه،

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 152.

(2) لم نعثر عليه في هذه العجالة.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 157

(3) لاحظ جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 158

صحيحةُ ابن بَزيع، عن الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء قال (عليه السّلام)

ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح، و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «1».

وجه الاستدلال على المعروف بينهم، هو أنّ كلمة

حتّى

تعليليّة، فتفيد أنّ تمام الموضوع ذهاب الريح و حصول الطيب، و لا مدخليّة لشي ء آخر؛ قضاءً لحقّ العلّة في كونها تامّة.

و عليه يتعيّن كون التعليل الثاني، جواباً عن و هم السائل؛ و أنّه كيف تحصل الطهارة بمجرّد النزح

الموجب لزوال الوصف؟! فقال

لأنّه له مادّة

هي الدخيلة في زواله، فإذا زال فهو طاهر.

و توهّم: أنّ ذلك يختصّ بماء البئر «2» ممنوع؛ لأنّ كلمة حتّى تعليليّة، و هي تفيد أنّ العلّة ليست إلّا مدخولها، و هي سارية في جميع المياه، سواء كانت ذات مادّة، أم لم تكن؛ لأنّ المادّة لٰا دخالة لها في الحكم، بل هي الدخيلة في حدوث السبب التّامّ؛ و هو زوال الوصف، و عليه لا فرق بينها و بين ما أورث ذلك من الرياح الشديدة و غيرها.

أقول: قد يشكل ذلك؛ لما تقرّر من أنّ الأصل في تلك الكلمة، أن تكون للغاية، و لا سيّما فيما أمكن استمرار ما قبلها بدون ما بعدها، كما نحن فيه.

و فيه: أنّ مدخول «حتّى» قد يكون علّة غائيّة لما قبلها، و قد يكون

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 110.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 159

غير دخيل في الحكم السابق، كما في مثل: «سر من البصرة حتّى الكوفة» فإنّ «حتّى» هنا بمعنى «إلىٰ» و لا دخالة للكوفة في موضوع الحكم أصلًا؛ لأنّها خارجة عن المحدود.

و إذا علمت هذا تذكّرت، أنّ الأمر هنا ليس كما توهّمه الأصحاب؛ ضرورة أنّ مدخول

حتّى

علّة غائيّة للأمر بالنزح، و لكنّه يشكّ في أنّها علّة غائيّة تامّة، أم ناقصة؛ و يكون التعليل الثاني علّة أُخرى.

و يرفع الشكّ بلزوم حملها على التامّة؛ و أنّ ما هو تمام المطلوب من الأمر بالنزح تدريجاً، حصول مدخول هذه الكلمة، كما في قولنا: «ليكرم زيد حتّى يكرمك» فإنّه ظاهر في أنّ العلّة الغائيّة للأمر بالإكرام و إبقائه و

استمراره، حصول إكرامه إيّاك، فإذا أكرمك يتمّ المطلوب، و يعلم أنّ الأمر الآخر ليس دخيلًا.

و هذا بلا فرق بين أن يكون نفس حصول الطيب و ذهاب الريح- المستلزم لحصول الريح الأصليّ، و صيرورة الماء صافياً هي الطهارة الشرعيّة، بعد كونها طهارة عرفيّة قطعاً، أو كان ذلك مستلزماً للطهارة الشرعيّة قهراً، مع أنّ الظاهر هو الأوّل، فكون جملة «فيطهر الماء» بعد قوله

يطيب

محذوفةً، غير موجّه جدّاً.

هذا مع قطع النظر عن كلمة

لأنّ له مادّة.

الاستظهار من تعليل الصحيحة

و أمّا إذا نظرنا إليها، فالإنصاف أنّ الظهور المذكور باقٍ على انعقاده؛

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 160

و ذلك لا لأجل أنّ هذه الجملة تعليل لأمر عرفيّ، بل هي تعليل لأمر شرعيّ، و هو ثبوت الاعتصام لماء البئر الذي يكون قليلًا نوعاً. وجه الاستظهار معلوم بعد كون الجملة الابتدائيّة حكماً شرعيّاً، و الجملة الثانية من توابعها، و الثالثةِ الجملة الاستثنائيّة، و هي من متعلّقاتها، و الجملةِ الرابعة من متعلّقات الثالثة، فلا وجه لكون النظر في التعليل إلىٰ الأمر المذكور تبعاً.

فلو ورد: «أكرم زيداً يوم الجمعة، إمام الأمير في السوق، حتّى إذا أهانك؛ لأنّه صديقي» فإنّ التعليل ظاهر في إيجاب الإكرام، و لا سيّما بعد رجوع الضمائر من الأوّل إلى الآخر إلى البئر، و خصوصاً بعد تأبّي مدخول

حتّى

عن التعليل.

بل لو قلنا: بأنّ نفس صيرورة الماء صافياً، هي الطهارة العرفيّة الممضاة، فتكون شرعيّة، كما أُشير إليه، فحينئذٍ رجوع التعليل إليه يكون أبعد.

و في النتيجة يثبت الفرق بين ما كان الطهارة الشرعيّة لازمها، أو كانت هي هي، و قد علمت أنّ ما هو الأوفق بذوق العرف هو الثاني، فيتعيّن رجوع العلّة إلى الصدر، و يعلم أنّ المطلوب يتمّ و إن لم تكن

العلّة تعليلًا لأمر عرفيّ، خلافاً لما يظهر من القوم رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و ما قد يقال من: أنّ مفاد الصحيحة شرطيّة زوال الوصف، و علّية المادّة للطهارة معاً، و أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين كون مدخول حتّى علّة غائيّة من الأمر بالنزح، و كونِ المادّة دخيلة في حصول المطلوب، غير قابل للتصديق، و تطبيق فتوى المشهور على الصحيحة، غير كونها مقيّدة فتواهم حسب الفهم العرفيّ و الذوق و الاعتبار، فلا الاتصال شرط،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 161

و لا الامتزاج، بل الأمر دائر بين كون زوال الوصف كافياً، و بين الاستهلاك.

و توهّم أخصّية الصحيحة من المدّعىٰ، و عدمِ طهارة الماء الراكد بزوال وصف التغيّر- كما في تقريرات الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «1» غير تامّ؛ لأنّ خصوصيّة النزح ملغاة، و دخالةَ المادّة في حصول الطيب- بناءً علىٰ كونها علّة عرفيّة ممنوعة، بل المدار علىٰ رجوع الماء إلى الخلقة الأصليّة و الطينة الصافية و الطيب الأصليّ، و ذلك بأيّ شي ء حصل، فافهم و تأمّل.

استدلال الوالد المحقّق ببعض الأخبار و إيراده عليها

و ممّا استدلّ به الوالد المحقّق- مدّ ظلّه صحيحة حَريز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب .. «2».

و قضيّة هذا العموم، أنّ المدار علىٰ الغلبة، سواء كانت قبل التغيّر، أو بعده.

و أورد- مدّ ظلّه عليه: أنّ ظاهرها أنّ المدار علىٰ غلبة الماء بما هو الماء، لا الأمر الآخر كالرياح، و هذا يصدق في الصورة الأُولىٰ، دون الثانية «3».

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 46 (مخطوط).

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

(3) الطهارة

(تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 44 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 162

و مثلها رواية عبد اللّٰه بن سِنان الماضية قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة. فقال

إن كان الماء قاهراً و لا توجد منه الريح فتوضّأ «1»

استظهاراً و جواباً.

و هكذا رواية الفضيل عنه (عليه السّلام) قال

لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول «2».

و موثّقة أبي بصير عنه (عليه السّلام) قال

إذا كان النتن الغالب علىٰ الماء، فلا تتوضّأ، و لا تشرب «3».

و الأخير أصرح في وجه؛ لأنّه ظاهر في أنّ المدار علىٰ كون النتن غالباً، و إذا زال وصف الإنتان فيزول الحكم عرفاً؛ لظهوره في أنّه تمام المناط.

و أورد عليه: أنّه يحتمل قويّاً كونه كذلك حدوثاً، لا بقاءً «4».

دلالة الأخبار السابقة علىٰ كفاية التغيّر

أقول: الحقّ أنّ هذه الأخبار تدلّ علىٰ المطلوب؛ و ذلك لوجهين.

الأوّل: أنّ الماء إذا كان قابلًا لتأثير الجيفة فيه، و منع عنه الرياح فلم يغلب عليه ريح الجيفة، يكون طاهراً بلا شبهة؛ بمقتضىٰ فهم العرف

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 148، الهامش 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

(3) تهذيب الأحكام 1: 216/ 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 6.

(4) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 45 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 163

من هذه المآثير، مع أنّ لازم ما أفاده نجاسته إن أخذنا بالمفهوم، أو عدم شمولها له إن طرحناه.

الثاني: الظاهر أنّ المقصود من غلبة الريح علىٰ الجيفة، أن لا يكون الماء متعفّناً بها، و

يكون صافياً و خالصاً، و ليس مفهوم الغلبة فيه الخصوصيّة، و لو اشترط أن يكون الماء بما هو الماء غالباً، يلزم خروج جميع المياه عن مفاد الروايات؛ لأنّ الماء يغلب غالباً بضميمة بعض الخصوصيّات الموجودة فيه، كالغلظة و البرودة و اللّون و غيرها، و قلّما يتّفق غلبته بطبيعته الصافية و الخالصة.

و بالجملة: العرف يستفيد من هذه التعابير، أنّ تمام الملاك و المناط كون النتن غالباً، و قضيّة مفهوم الشرط و القيد طهارته، مع أنّه لا حاجة إليه؛ لفهم العرف ذلك من مناسبات الحكم و الموضوع.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ مقتضى النصوص و الاعتبار، كفاية زوال وصف التغيّر في الطهارة، وفاقاً لجمع مضى ذكرهم.

البحث الثالث: في كفاية مجرّد الاتصال
اشارة

لو سلّمنا قصور الأدلّة عن إثبات حكم الماء بعد زوال تغيّره، أو فرضنا تماميّة دلالة صحيحة ابن بَزيع علىٰ أنّه لا يطهر بمجرّد زوال الوصف، فهل يكفي مجرّد الاتصال، كما هو مختار جمع من الفقهاء «1»، أو لا بدّ من الامتزاج،

______________________________

(1) نهاية الإحكام 1: 232، جامع المقاصد 1: 135 136، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 15، مقابس الأنوار: 82/ السطر 12، العروة الوثقىٰ 1: 43، فصل ماء البئر، المسألة 2، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 310.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 164

كما اختاره جماعة من المتأخّرين «1»، تبعاً للمحقّق في «المعتبر» «2»؟

مقتضى الأصل العملي في المقام

و قبل الخوض في أدلّة الطرفين، لا بدّ من الإشارة إلىٰ مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ، و ذلك هو النجاسة للاستصحاب، فكما أنّ الاستصحاب يقضي بنجاسته بعد زوال الوصف و قبل الاتصال، كذلك قضيّته نجاسته إلىٰ حال الاتصال و بعده، بل و بعد الامتزاج إذا لم يكن مستلزماً لعدم موضوعه بالاستهلاك و نحوه.

و توهّم: أنّه من الشكّ في المقتضي أوّلًا، و يعارضه الأصل العدم الأزليّ ثانياً «3»، ممنوع صغرىً و كبرى، و التفصيل في الأُصول.

و دعوىٰ: أنّ موضوع الاستصحاب هو «الماء المتغيّر» و هو منتفٍ «4»، غير مسموعة، و لو سلّمنا ذلك فهو لا يضرّ بجريانه؛ لأنّه بعد الانطباق علىٰ

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 16، الطهارة، الشيخ الأنصاري: 1: 139، مصباح الفقيه، الطهارة: 20/ السطر 8، دليل العروة الوثقىٰ 1: 50، تحرير الوسيلة 1: 10.

(2) المعتبر 1: 50.

(3) مدارك الأحكام 1: 46 47، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 88.

(4) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 25/ السطر الأخير، دليل العروة الوثقىٰ 1: 54، دروس في فقه الشيعة، القسم

الثاني من المجلّد الأوّل: 88، مهذّب الأحكام 1: 150.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 165

الخارج، يتعلّق اليقين بالموضوع الخارجيّ، من غير لحاظ وصف التغيّر، و عندئذٍ يكون باقياً.

نعم، لو انحصر جريان الاستصحاب بمٰا إذا تعلّق اليقين بموضوع الدليل الاجتهاديّ، كان لمنعه وجه، و تكون قاعدة الطهارة حينئذٍ محكّمة.

أدلّة كفاية الاتصال
اشارة

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ ما يمكن أن يوجّه به القول بكفاية الاتصال أُمور:

أحدها: الإجماعات في كلمات جماعة، حتّى قيل: «بعدم الخلاف في المسألة إلىٰ زمان المعتبر» «1» و هي غير نافعة بعد كون مستندهم المآثير البالغة إلينا.

ثانيها: أنّ الماء بعد الاتصال يكون واحداً، و هو محكوم بالطهارة أو النجاسة، لا سبيل إلىٰ الثاني، فتعيّن الأوّل «2».

ثالثها: ما في المرسلة المرويّة عن «المختلف» عن ابن أبي عقيل (في كلام طويل قال في ذيله:) فأبصرني يوماً أبو جعفر (عليه السّلام) فقال

إنّ هذا لا يصيب شيئاً إلّا طهّره، فلا تعد منه غسلًا «3».

و المشار إليه علىٰ ما في كلام ابن أبي عقيل، ليس غدير الماء،

______________________________

(1) لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.

(2) مقابس الأنوار: 82/ السطر 14.

(3) لاحظ مختلف الشيعة: 3/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 166

و لعلّه الماء الموجود في الكوز كما في كلامه، فراجع.

فالاستدلال به كما عن بعض المعاصرين «1»؛ للغفلة عن حقيقة الحال، مع أنّ مجرّد الإصابة لو كان كافياً، لكان ذلك مجزياً في الجامدات.

و دعوىٰ اختلاف فهم العرف بين المائع و الجامد، غير مسموعة؛ لما عرفت أنّ العرف لا يجد طريقاً إلىٰ طهارة الماء إلّا بالوجه الماضي تفصيله و تحقيقه «2».

و منه يعلم ما في الاستدلال «3» بقوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «4».

رابعها: معتبر حنّان،

قال: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّي أدخل الحمّام في السحر، و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم.

قال

أ ليس هو جارٍ؟.

قلت: بلىٰ.

قال

لا بأس «5».

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 229.

(2) تقدّم في الصفحة 59 60.

(3) مهذّب الأحكام 1: 228.

(4) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(5) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 167

فإنّها بإطلاقها تشمل حالتي الدفع و الرفع.

و فيه: أنّها بإطلاقها تشمل حالة التغيّر أيضاً، فلا بدّ من التقييد بتلك المآثير، و ما فيه واضح؛ لبعد أفهام الناس من ذلك الإطلاق أوّلًا.

و لأنّ للحمّام خصوصيّة، حتّى قيل بالعفو في ماء الحمّام، لا الطهارة؛ لاحتياج الناس فيه إلىٰ التوسعة ثانياً.

و لأنّ فرض مسألتنا في الحياض الصغار، ممّا لا يمكن عادة، و كون المادّة في الحمّام موجبة لرفع نجاسة ما في الحياض، لا يلازم رافعيّتها للماء الزائل عنه وصف التغيّر ثالثاً.

و لأنّ قوله (عليه السّلام)

أ ليس هو جار؟

لا يفيد كونه إلّا كالجاري و بمنزلته، فهل هو جارٍ في جميع الأحكام، أو يختصّ بدفع النجاسة دون رفعها؟

فبالجملة: لا يستفاد- إنصافاً من المآثير في ماء الحمّام، أنّ الاتصال سبب الطهارة، سواء تمسّكوا بما مرّ، أو بقوله (عليه السّلام)

ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً «1»

فإنّ كيفيّة التطهير غير معلوم منها، كما لا يخفىٰ.

خامسها: النبويّ المزبور سابقاً

الماء إذا بلغ كرّاً لا يحمل خبثاً «2».

فإنّ المقدار من الزائل عنه وصف النجاسة، إذا اتصل بالكرّ، يصير منطبقاً عليه عنوان الحديث، فيكون

طاهراً، و بعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب في غير المفروض.

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) تقدّم في الصفحة 154.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 168

و فيه:- بعد الغضّ عن جهات عديدة أنّ الاتصال لا يستلزم الطهارة، بل هو محقّق عنوانٍ آخر و هو «الكرّ» فعليه لا وجه لإسراء الحكم منه إلىٰ موقف آخر، و لا سيّما بعد حكاية القول بالتفصيل بين الجاري و الحمّام و بين الكرّ؛ باعتبار الامتزاج في الأوّلين، دون الأخير، كما حكي عكسه عن «الجواهر» «1» فإنّه (قدّس سرّه) مال إلىٰ هذا التفصيل، و العلّامة في بعض كتبه و «الموجز» و «شرحه» مالوا إلىٰ الأوّل «2»، فلا بأس حينئذٍ بالالتزام بكفاية الاتصال في بعض المياه، دون البعض.

و لكنّه غير تامّ؛ لعدم تماميّة سند النبويّ، كما مضى تفصيله.

سادسها: صحيحة ابن بَزيع «3» مع كثرة المحتملات فيها ظاهرة في أنّها في مقام توسعة ماء البئر؛ و نفي الضيق عنه، و من آثاره عدم انفعاله و اعتصامه، و لكن يحصل فيه الضيق إذا تغيّر، و هذا الفساد يرتفع بعد زوال الوصف بالنزح بالمادّة، و تلك المادّة ليست أجنبيّة عنه، بل هي دخيلة فيه، و أوّل مراتب الدخالة هو الاتصال.

و توهّم: أنّ النزح له الخصوصيّة «4» فاسد؛ لأنّ العرف لا يجد إلّا دخالته في رفع الوصف، فلو ارتفع وصف التغيّر من قبل ذاته، أو غير ذلك، أو لوجود شي ء فيه كالعطر و نحوه، فقد حصل ما هو الشرط في حصول الطهارة و التوسعة الثابتة لماء البئر في صدر الحديث.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 103 و 149، مصباح الفقيه، الطهارة: 22/ السطر 30.

(2) منتهى

المطلب 1: 6/ السطر 30.

(3) تقدّمت في الصفحة 137.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 97.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 169

و دعوىٰ: أنّ المتعارف في ماء البئر هو المزج قهراً؛ لأنّ إخراج الماء و حصول المادّة فيه، يستلزم ذلك، فلا يكفي الاتصال «1»، غير مسموعة؛ لأنّ ظاهر الحديث عدم دخالة شي ء آخر وراء زوال وصف التغيّر و المادّة.

و هل المادّة الدخيلة التي هي العلّة، لا بدّ و أن تكون ممازجة مع ماء البئر، أو يكفي الاتصال؟

الظاهر هو الثاني؛ لأنّ من الممكن زوال وصف التغيّر بالنزح الأوّل، فلا يحصل المزج أصلًا، و لأنّ علّية المادّة لا تعقل إلّا بكونها مرتبطة مع ماء البئر، و أوّل مراتبها هو الاتصال، فدخالتها زائدة عليه ممنوعة.

فما أفاده الفقيه الهمدانيّ «2» و غيره «3»: «من إمكان اتكاء المتكلّم علىٰ القيد الحاصل قهراً و هو المزج» غير تامّ؛ لظهور الرواية في أنّ العلّة الوحيدة بعد حصول الغاية، هي المادّة الموجودة لماء البئر.

و ما قاله البهائيّ في «الحبل المتين»: «من إجمال الرواية» «4» غير قابل للتصديق؛ لظهورها في مقام التشريع، و إلّا يلزم كذب قوله (عليه السّلام)

ماء البئر واسع

لأنّ من البئر ما ليس كذلك.

نعم، دعوى قصور الفهم عن تعيين المعلول لقوله (عليه السّلام)

لأنّ له مادّة

ليست بعيدة، إلّا أنّ العرف بعد التوجّه إلىٰ أنّ الجملة الأخيرة سيقت لإرجاع الماء إلى التوسعة الأوّلية و الطهارة، يطمئنّ بأنّه علّة

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 12/ السطر 28.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 12/ السطر 32.

(3) لاحظ الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 16 (مخطوط).

(4) الحبل المتين: 118/ السطر 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 170

لحصول الطهارة و التوسعة، فيتمّ المطلوب.

الخدشة في صحيحة ابن بزيع و جوابها

أقول: هي العمدة في

الباب، و لكنّها غير كافية للخروج عن مفاد الاستصحاب؛ و ذلك لأنّ الأمر بالنزح و إن لم يكن نفسيّاً، إلّا أنّه إذا احتمل الخصوصيّة المتعارفة الغالبة- بل الكلّية الملازمة معه لا يرفع اليد عنه؛ و ذلك لأجل أنّ النزح لا خصوصيّة له، في مقابل ما لو أُخرج ماء البئر بغير النزح.

و أمّا حصول المزج قهراً معه نوعاً- بل كلّا فممّا لا يكاد ينكر، و لا معنىٰ لإلغاء النزح من تلك الجهة، بعد احتمال كون المتكلّم ناظراً إليه، فكما يستفاد دخالة زوال وصف التغيّر قبل التعليل من مدخول

حتّى

و نفسها، كذلك يستفاد دخالة المزج من «النزح» و لكنّه بعد ذلك يطهر لما فيه من المادّة، فتأمّل.

و فيه: أنّه بناءً عليه لا وجه للتعليل؛ لأنّه تكرار ما حصل، فلو كان المزج دخيلًا، و هو حاصل بالنزح، يصير التعليل بعد ذلك بشيعاً كما لا يخفىٰ، بخلاف ما لو كان المقصود زوال وصف التغيّر، فإنّه بعد ذلك يصحّ أن يعلل حصول الطهارة بالمادّة المتّصلة، فالمزج و إن يحصل قهراً، و لكنّه غير دخيل فقهاً.

فبالجملة: بعد ما مرّ منّا في مفاد مدخول

حتّى «1»

تبيّن أنّ التعليل

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 158 159.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 171

مربوط بصدر الرواية قطعاً.

أدلّة القول باعتبار الامتزاج

و ما يمكن أن يستدلّ به للقائلين بالامتزاج أيضاً أُمور:

الأوّل: إذا خلط بالنجس ماء طاهر، فتحصل الوحدة، و هي تستلزم وحدة الحكم، و هي الطهارة قطعاً؛ لما لا يصير الكرّ الملقى نجساً.

و فيه: أنّ ذلك بعينه يأتي في الاتصال كما مضى «1»؛ و أنّه إمّا يحصل المزج، أو لا يحصل، فعلى الثاني فهما ماءان ممتازان لهما حكمان، و إن حصل الامتزاج بورود الماء الطاهر في الماء النجس

و تفصله به، فإنّه حينئذٍ ينجس؛ لصيرورته أقلّ من الكرّ، مع ملاقاته للنجس الموجود في جوفه.

فعليه ينقلب الدليل عليهم، و يلزم عليهم اعتبار الأزيد من الكرّ، أو عدم كفاية المزج إلّا بماء له المادّة.

الثاني: ما ورد من أنّ «كلّ شي ء يراه المطر فقد طهر» و «ما أصاب هذا شيئاً إلّا و قد طهّره» «2».

و فيه: أنّ مقتضاهما إمّا كفاية الاتصال، و إمّا لزوم الاستهلاك، و هو الظاهر منه؛ لما مضى أنّ على الأوّل يلزم كفايته في الجامد أيضاً، فهما يدلّان علىٰ ما هو الأقرب عندنا؛ من عدم قبول الماء النجس الطهارة إلّا بانعدام الموضوع.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 165.

(2) وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 172

الثالث: ما ورد في «الوسائل»: «إنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهِّر بعضه بعضاً» «1».

و هذا كما يدلّ علىٰ قبول الماء الطهارة، يدلّ علىٰ كفاية الاتصال، و الامتزاجُ القهريّ لا يستلزم شرطيّته، كما لا يخفىٰ.

مع أنّ الظاهر جمعاً بين الأخبار كونه في مقام تقوّي بعض الماء بالبعض في الاعتصام و دفع النجاسة، لا رفعها.

الرابع: صحيحة ابن بَزيع، فإنّها إذا لم تكن مجملة كما عن البهائيّ (رحمه اللّٰه) «2»، و لا دالّة علىٰ كفاية الاتصال، تدلّ علىٰ شرطيّة الامتزاج؛ إمّا لأنّ اللّازم العاديّ من موردها ذلك، فلا إطلاق للتعليل؛ لصحّة اتكاء المتكلّم على القرينة الحاليّة.

و إمّا لاستلزام النزح المأمور به ذلك، فيكون كالقرينة اللفظيّة على التعليل المذكور.

هذا مع مراعاة موردها؛ من فرض البئر الموجود فيه الماء بمقدار إذا ينزح منه الماء المتغيّر، يبقى الماء بمقدار يصحّ أن يقال: «حتّى يطيب، و يذهب ريحه» و إلّا فلو كان الماء الخارج

جميع ماء البئر، فإنّه يكون خارجاً عن مفروضها.

و هكذا لو كان المقدار الباقي من المتغيّر، مستهلكاً في الماء الوارد أو الباقي الطاهر، فعندئذٍ يعلم قبول الماء النجس الطهارةَ، و يعلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) الحبل المتين: 118/ السطر 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 173

شرطيّة الامتزاج.

و قد حكي عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: «أنّه لولا هذه الصحيحة، كان نفي قابليّة المياه للطهارة متعيّناً» «1».

أقول: مع غمض النظر عمّا أسّسناه في مفاد مدخول

حتّى

و رجوع التعليل إلى الصدر «2»، لا يمكن الركون إلىٰ ما أفاده القوم لاعتبار المزج؛ ضرورة أنّ الاتكاء على القرينة الحاليّة، أو كون المزج لازماً كلّياً أو نوعيّاً، غير ممكن إلّا إذا ثبتت لنا تلك النوعيّة، و هي في مورد الشكّ؛ لصحّة دعوى أنّ مياه الآبار في زمن صدور الرواية ليست كثيرة؛ بحيث تبقىٰ إلىٰ حدّ المزج، لا الاستهلاك.

و دعوىٰ: أنّ صدق قوله (عليه السّلام): «حتّى يذهب ريحه، و يطيب طعمه» «3» يتوقّف علىٰ كون الماء الباقي بعد زوال تغيّره، بمقدار معتنى به؛ بحيث لا يحصل الاستهلاك له بعد ورود الماء الطاهر في البئر، غير مسموعة؛ لأنّ الوحدة الملحوظة هنا، ليست وحدة شخصيّة عقليّة، بل هي وحدة الماء عرفاً، و لا شبهة في أنّ العرف بعد النزح يقول: «بأنّ ماء البئر قد طاب طعمه» من غير أن يتفحّص عن حال الماء الباقي؛ و أنّه هل يكون بمقدار يصحّ أن يعبّر عنه بذلك التعبير أم لا؟ بل بلا رويّة و انتظار ينادي بأعلى صوته: «أنّه قد راح ريح ماء البئر، و طاب طعمه».

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 33

(مخطوط).

(2) تقدّم في الصفحة 158 159 و 170.

(3) تقدّم في الصفحة 158.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 174

فعليه يمكن أن يكون أكثر الآبار في الأراضي الفاقدة للمياه، و النائية عن البحور، و الواقعة في البوادي و الصحور، من هذا القبيل، فلا امتزاج بالمعنى المعروف في كلماتهم المتأخّرة نوعاً، حتّى يستكشف الحكم.

ثمّ إنّ هذه الصحيحة، قاصرة عن إثبات طهارة الماء النجس بالمزج مع الكرّ أو اتصاله به قطعاً، و التجاوزُ عنه إلىٰ ما هو المعتصم، كالتجاوز عن علّية الإسكار إلىٰ ما يزيل العقل.

و دعوىٰ إلغاء الخصوصيّة عرفاً؛ لفهم العرف أنّ تمام العلّة هي ذلك، في غاية الوهن «1».

هذا مع أنّ لنا في الصحيحة شبهةً؛ لأنّها مورد إعراض المشهور، لدلالتها و صراحتها في عدم تنجّس ماء البئر، و المشهور بينهم إلىٰ عصر ابن الجهم و العلّامة، هي النجاسة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ فتواهم للجمع بين المآثير، و لا أقلّ من احتماله، فيشكّ في الإعراض، و قضيّة الصناعة عند الشكّ في الإعراض، حجّية الصحيحة، كما لا يخفى «2».

فتحصّل: أنّ الماء المتغيّر، إمّا يطهر بزوال وصف تغيّره، أو بانعدام موضوعه بالاستهلاك؛ قضاءً لحق الاستصحاب.

و ما اشتهر: «أنّ المعروف بين القدماء إلىٰ عصر المحقّق في

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 127.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 287.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 175

«المعتبر» هو كفاية الاتصال» «1» في غير محلّه؛ لأنّ ظاهر «المبسوط» «2» و «السرائر» «3» و «الوسيلة» «4» و كلّ من عبّر في متنه ب «تكاثر الماء الوارد و تدافعه» «5» إمّا شرطيّة الامتزاج، أو لزوم الاستهلاك، و لعلّ الثاني أقرب، كما مضى بعض المؤيّدات عليه «6»، فإنكار كفاية الاتصال و الامتزاج

ليس مخالفاً للإجماع المركّب، إلّا على بعض المحتملات في كلمات الأصحاب و متونهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 165.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) السرائر 1: 62 63.

(4) الوسيلة: 73.

(5) لاحظ المقنعة: 66، المراسم: 36، إصباح الشيعة، ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة 2: 3.

(6) تقدّم في الصفحة 150 151.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 177

المبحث الرابع في الماء الجاري
اشارة

و الكلام حوله يقع في موقفين:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 179

الموقف الأوّل في موضوعه
اشارة

و قد ورد في السنّة «الماء الجاري» و يترتّب عليه الأحكام الخاصّة، من غير تعرّض منهم (عليهم السّلام) لمفهومه، و فيه الاحتمالات الكثيرة.

و لا شبهة في أنّ الجريان المطلق، الصادق علىٰ مثل ماء الإبريق، ليس مقصوداً، بل المشتقّ هنا مبدؤه الملكة و الصفة الثابتة المستقرّة، ك «التجارة» و «التاجر».

و كما أنّ «الجاري» لا يصدق بمجرّد تلبّس الماء بالجريان، كذلك يصدق و إن لم يكن الماء جارياً بالفعل؛ بشرط جريانه و سيلانه في برهة من الزمان، فهو مثل التاجر المحبوس الذي يصدق عليه العنوان المذكور، فالنابع غير السائل بنحو الإطلاق، ليس عرفاً جارياً قطعاً.

نعم، في الفرض المشار إليه، هو الجاري بلا شبهة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 180

فما أفاده القوم: «من الجريان الفعليّ» «1» شرط في الجملة، و ما نفاه الشهيد «2» و السبزواريّ «3» و غيرهما «4»، صحيح في الجملة، و لعلّهما أرادا إلحاق النابع غير السائل- بنحو كلّي بالجاري حكماً، أو استكشفا من الأدلّة اللفظيّة مناطاً أعم، فافهم.

و من العجيب، مراجعة جماعة من الأصحاب كالسيّد في «مفتاح الكرامة» إلى اللّغة في فهم المعنى المركّب «5»؛ و هو «الماء الجاري»!! مع أنّ المركّبات ليست ذات وضع علىٰ حِدة، و انصرافها إلىٰ موارد لا يورث الوضع التعيّني بلا شبهة، مع أنّ في بعض المآثير ورد: «أ ليس هو جارٍ؟» «6» من غير ذكر الموصوف.

فعليه يتعيّن الرجوع إلى العرف و اللّغة في فهم «الجاري» من غير إضافة إلى «الماء» ثمّ بعد الإضافة ربّما يستظهر منه المعنى الآخر، كما هو كذلك فيما نحن فيه؛ ضرورة أنّ «الجاري» ليس عنواناً مثل «التاجر» و

لكنّه بعد مراعاته مضافاً إلى «الماء» يعرف منه المعنى الأخصّ إنصافاً.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26/ السطر 25، جواهر الكلام 1: 72، العروة الوثقىٰ 1: 32، في المياه، فصل في الماء الجاري، وسيلة النجاة 1: 11.

(2) الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 6.

(3) ذخيرة المعاد: 116/ السطر 3.

(4) مستند الشيعة 1: 19.

(5) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 171، مفتاح الكرامة 1: 60/ السطر الأخير.

(6) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 181

فعلى ما تقرر إلىٰ هنا تبيّن: أنّ «الماء الجاري» ظاهر في الماء الذي فيه هذه الصفة علىٰ نعت الاستقرار في الجملة، فلا بدّ فيه من مبدأ و مادّة، تكون هي منشؤه و أساسه واصلة.

ما يتصوّر من أنحاء الجريان

و تلك المادّة و ذلك المبدأ التكويني بحسب التصوّر كثيرة؛ لأنّها:

تارة: تكون تحت الأرض.

و أُخرى: تكون علىٰ وجه الأرض.

و ثالثة: تكون في السماء.

فما كانت تحت الأرض:

تارة: تكون من قبيل النابع و الخارج بقوّة.

و أُخرى: تكون من قبيل الخزائن الموجودة فيه، و بعد حفر القنوات تجري و تظهر علىٰ وجه الأرض.

و ثالثة: تكون بنحو الرشح و التعرّق.

و رابعة: تكون من قبيل النضح، فيجمع الماء تحت الأرض يسيراً يسيراً، و يظهر بطريق القناة علىٰ وجه الأرض.

و ما كانت علىٰ وجه الأرض أيضاً، فيها بعض الاحتمالات الماضية، مثل كون المخزن في قُلَل الجبال، و الاحتمالات الأُخر مثل كونها الثلوج و (البروف) و أمثالهما.

و ما كانت في السماء كماء المطر، فإنّه كثيراً ما يكون مبدأ السيلان

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 182

و الجاري، إلّا أنّه غير دائم، ربّما لا يزداد على الساعتين، و لكنّه كلام آخر كما

لا يخفىٰ؛ ضرورة أنّ من الطائفة من اعتبر الدوام «1»، و منهم من لا يعتبره في حصول الماء الجاري «2».

الأقوال في موضوع الجاري

هذه عمدة المحتملات في المسألة، و فيها قولان، بل أقوال:

المنسوب إلى المشهور بل في «المدارك» و «الدلائل»: إجماع الأصحاب أنّ الجاري لا عن نبع، من أقسام الراكد «3».

و عن ابن أبي عقيل نفي اعتبار النبع «4»، و لعلّه يريد كفاية مطلق المادّة مع السيلان، و لكنّ في النسبة إشكالًا.

و ظاهر ما نسب إلى الوالد المحقّق- مدّ ظلّه كفاية الرشح، بل في كلامه كفاية تبدّل الأبخرة إلى الماء في صدق «الجاري» و لا حاجة إلىٰ وجود المخزن تحت الأرض في صدقه «5»، و إن كان ظاهر «النبع» الواقع في كلماتهم يوهمه، فتأمّل.

و الذي هو التحقيق: كفاية مطلق المادّة، و لا دليل على الخصوصيّة،

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة 1: 119، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 113.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 250.

(3) مدارك الأحكام 1: 28، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 61.

(4) لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 10، جامع المقاصد 1: 110، لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 91.

(5) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 4 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 183

كيف و أكثر الأنهار الكبيرة كالفرات و دجلة و نهر الأُردن و غيرها من الثلوج المتمركزة في قُلَل الجبال؟! بل العيون كلّها منها، و تزداد و تنقص بها، و ربّما تجفّ؛ لعدم نزول الأمطار و (البروف).

و لكن كفاية المادّة الحاصلة من غير الطريق الطبيعيّ كمخازن المياه في المدائن ممنوعة جدّاً، كما أنّ النبع الحاصل بحيلة الإنسان غير كافٍ؛ ضرورة أنّه لا يعدّ «جارياً» أو يكون

الجاري

في الأدلّة منصرفاً عن

هذه الفروض، و منصرفاً إلى الصور التي تجري المياه و من ورائها الموادّ التي هي أساسها، و تلك الموادّ تكون طبيعيّة، لا جعليّة و صناعيّة، فلو فرضنا أنّها «الماء الجاري» عرفاً، و لكنّها منصرف عنها المآثير و الأخبار، كما لا يخفى.

فتحصّل: شرطيّة السيلان في الجملة، دون النبعان، و يكفي مطلق المادّة، و ما أفاده المشهور: «من أنّه النابع السائل» غير تامّ؛ لنقضه بالنابع المصنوع غير الطبيعيّ، لعدم اطراد سائر الموادّ التي يصدق معها «الجاري» قطعاً.

و إن شئت قلت: «الجاري» في المآثير، عنوان يشير إلىٰ ما يرتكز عند العرف و العقلاء، و لا حاجة إلىٰ تحديد الفقهاء، بل في ذلك إغراء بالجهل، و إلقاء في التهلكة؛ لأنّه من الموضوعات العرفيّة الواضحة عندهم، فكما أنّهم (عليهم السّلام) لا يعرّفون الموضوعات العرفيّة؛ لأنّ العرف هو السند فيها، فكذلك على الفقهاء العظام ذلك.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 184

بعض شرائط صدق «الجاري» و اعتصامه
اشارة

بقي الكلام حول بعض القيود الأُخر الدخيلة في صدق «الجاري» أو في الموضوع المذكور في المآثير المحتمل دخالتها فيه.

و غير خفيّ: أنّ كثيراً ما لا تكون النسبة بين ما هو مفاد اللّغة، و ما هو الموضوع في الدليل التساوي؛ لأنّ من الممكن كون الانصراف إلىٰ صنف خاصّ مورد نظر المتكلّم في قانونه.

الشرط الأوّل دوام سيلان المادّة

فعليه يقال: إنّ من الشرائط و القيود، كونَ السيلان و مادّته علىٰ وصف الدوام؛ بمعنى أنّه لو حدثت العيون، و كانت مدّة عمرها ساعة أو ساعتين، و كان ذلك معلوماً من أوّل الأمر عند العرف و أهالي البلد، فإنّه ماء نابع سيّال، و لكنّه إمّا ليس ب «الماء الجاري» إلّا مسامحة أو لو كان يكون خارجاً عمّا هو الموضوع في الأدلّة؛ للانصراف عنها.

و إلى ذلك يرجع ما أفاده الشهيد «1»، و تبعه جملة من المتأخّرين «2»، و ما وقع من البحث حول كلامهم من اللّغو المنهيّ، بعد عدم لزومه، و وجوب الرجوع إلىٰ ما هو قابل للتصديق، فلا تغفل.

و ما عن «الحدائق»: «أنّ الدوام لو كان كذا فهو باطل، و لو كان كذا

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة 1: 119.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 34، فصل في الماء الجاري المسألة 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 185

فهو ممّا لا دليل عليه» «1» خالٍ عن التحصيل؛ فإنّه يراد به الدوام العرفيّ، قبال المثال المشار إليه، و دليله الاستظهار من الإطلاقات العرفيّة.

و لعمري، إنّه بلا شبهة، خارج عن مصبّ المآثير في المسألة، فالقيد المذكور لازم قطعاً.

الشرط الثاني اتصال الجاري بمادّته

ثمّ إنّ ظاهرهم اشتراط الاتصال بالمادّة في صدق «الجاري» أو في اعتصامه، مستدلّين ب «اقتضاء الفهم العرفيّ» و «الاغتراس الذهنيّ» و «المرتكز العقلائيّ» على اختلاف تعابيرهم، بل و هو قضيّة صحيحة ابن بَزيع.

و المراد من «الاتصال» هو الربط الخارجيّ، و الالتصاق في الوجود.

و فيه: أنّ جميع ما ذكر يقتضي خلافه؛ لأنّ العرف لا يجد خصوصيّة لهذا النحو من الوصل.

نعم، لا بدّ من وجود الربط بينهما، و أن تكون المادّة الخارجيّة، مبدأَ تكوّن الماء الساري و السائل؛ بمعنى كون اعتصامه منها، و هذا

لا يقتضي أكثر من عدم البينونة بين المادّة و الماء.

و بعبارة اخرىٰ: لا بدّ من كون الماء الجاري، ذا مبدءٍ مكوّنٍ طبيعيّ مثلًا، من غير الشرط الآخر.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 186

و توهّم اقتضاء مورد الصحيحة ذلك الاشتراط «1»، فاسد جدّاً؛ لأعمّيّته منه كما لا يخفى.

بل إعمال التعبّد في مباحث الطهارة و النجاسة، يحتاج إلىٰ دليل نصّ فيه، فما اشتهر بين المتأخّرين؛ من شرطيّة الاتصال الحقيقيّ «2»، غير مبرهن.

نعم، المياه مختلفة، فمنها: ما هي طبعها الاتصال بين المادّة و الماء، كالعيون و النوابع، و منها: ما ليس كذلك، فما كان من قبيل الأوّل فالانفعال ربّما يضرّ، بخلاف الثاني.

تنبيه: في أنّ المدار على المادّة لا «الجريان»

يمكن دعوى: أنّ عنوان «الماء الجاري» ليس له الموضوعيّة، بل المدار علىٰ كون الماء ذا مادّة؛ فإنّ ما له المادّة سواء كان جارياً، أو غير جارٍ معتصم بمقتضىٰ معتبرة ابن بَزيع «3»، و العلّة فيها مخصِّصة و معمِّمة؛ فالإطالة حول القيود المعتبرة في صدق «الجاري» من الأمر الباطل.

أقول: إذا كان التعليل الوارد في الصحيحة، مرتبطاً بالجملة

______________________________

(1) لاحظ مهذّب الأحكام 1: 159.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 33، المسألة 3، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 137، دليل العروة الوثقىٰ 1: 71، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 114، مهذّب الأحكام 1: 164.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 104.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 187

الأخيرة علىٰ ما عرفت تفصيله «1» فإنّه حينئذٍ يتمّ الكلام السابق؛ لأنّ كون الماء ذا مادّة إذا كان يَطهر، و تكون المادّة موجبة لرفع النجاسة، فهي علّة للاعتصام، و دفعُ النجاسة بالأولويّة القطعيّة و مساعدة العرف قطعاً.

و أمّا إذا كان علّة

لصدر الرواية، فهي لا تفيد كونه موجباً لرفع النجاسة إذا غسل فيه مرّة واحدة، فعليه لا بدّ من فهم معنى «الجاري» لاختصاصه بعدم الانفعال، و بكونه يورث طهارة ملاقيه بملاقاة واحدة، فافهم و تدبّر جيّداً.

ذنابة: في أنّ الجاري مقابل للراكد

يمكن استظهار أنّ «الماء الجاري» في الروايات، مقابل ما في «المِرْكَن» كما في صحيحة ابن مسلم «2».

و الوجه: أنّ الماء الراكد لما فيه الركود، كأنّه لا يقلع النجاسة الموجودة في الجسم، بخلاف السائل، فإنّه لمكان ما فيه من الحركة و السيلان، يقلع القذارة، و لتلك النكتة ربّما كان التعدّد معتبراً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 159 160.

(2) عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله في المركن مرّتين، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة.

تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 188

الموقف الثاني: في حكمه
اشارة

لا خلاف في أنّه لا ينجس إذا كان بمقدار الكرّ، و ما يمكن أن يعدّ وجهاً له غير وجيه، كما أنّ المشهور نجاسته بالتغيّر، حسب ما مرّ تفصيله «1».

و أمّا إذا كان أقلّ من الكرّ، فالذي هو المشهور، و عليه الإجماعات الكثيرة المدّعاة، اعتصامه و عدم انفعاله «2»، خلافاً للسيّد في «الجمل» «3» و العلّامةِ في كتبه «4»، إلّا فيما يظهر من «الإرشاد» «5» و لجماعة من الطبقة المتأخّرة «6».

و المسألة ذات الرواية، فلا كاشف عمّا عداها، خصوصاً بعد اقتضاء إطلاق كلمات جمع من القدماء عدمَ الشرطيّة «7»، و إن صرّح به مثل ابن البرّاج «8» و أمثاله «9».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 115 و ما بعدها.

(2) الخلاف 1: 195، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 29، المعتبر 1: 41، جامع المقاصد 1: 111، جواهر الكلام 1: 85.

(3) رسائل الشريف المرتضى 3: 22.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 3/ السطر 23، تحرير الأحكام: 4/ السطر 23، منتهى المطلب 1: 6/ السطر 12،

نهاية الإحكام 1: 228.

(5) إرشاد الأذهان 1: 235.

(6) التنقيح الرائع 1: 38، مسالك الأفهام 1: 1/ السطر 25، الحدائق الناضرة 1: 187.

(7) المراسم: 37، الوسيلة: 72.

(8) لاحظ جواهر الكلام 1: 85.

(9) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 28.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 189

أدلّة عدم اشتراط كرّية الجاري

و ما يمكن أن يوجّه به الرأي المشهور، طوائف من المآثير:

الطائفة الأُولىٰ: الروايات المتكفّلة لطهارة الماء

و أنّه لا ينجّسه شي ء إلّا غلبة النجاسة و التغيّر بها «1»؛ فإنّ قضيّة إطلاقها، و مفهومِ انحصار النجاسة بالغلبة و التغيّر، عدم اعتبار الكرّية في مطلق المياه، خرج منها القليل الراكد.

أقول: هي مع قطع النظر عمّا في سند بعضها، و اختصاصِ مورد جمع منها بالغدير و النقيع؛ و هما الراكد، و انصراف الآخر إلىٰ مثلها؛ لاختصاص محالّها بالمياه الراكدة، و صحّةِ الاتكاء علىٰ بعض القرائن الحاليّة في مقام تأدية الحكم، أنّ موضوعها ليس الماء بطبيعته الصادقة على القليل و الكثير، حتّى يشمل الجزء العقليّ بالضرورة، بل

الماء

فيها بمناسبة عروض التغيّر عليه؛ و أنّه من عوارض الماء الكثير متعارفاً هو الماء الكثير، فتكون هذه الطائفة مهملة بالنسبة إلى الكثرة و القلّة.

بل الأخبار هنا ليست في مقام بيان الماء نوعاً و صنفاً، بل هي ناظرة إلىٰ نجاسته و كيفيّة تأثير النجس في الماء، فالتمسّك بهذه الطائفة غير تامّ جدّاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 135 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9، و الباب 3، الحديث 1 و 3 و 4 و 6 و 7 و 11 و 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 190

فبالجملة: إثبات الإطلاق لهذه الطائفة في غاية الإشكال؛ لأنّ الملحوظ في موضوعها الماء الكثير مع كونه من حيث الكثرة مهملًا؛ و أنّها هي الكثرة البالغة كرّاً، أو غير البالغة.

و من هنا يعلم وجه النظر في استفادة نفي الشرطيّة من الحصر «1»؛ فإنّ موضوعه إذا كان على النحو المشار إليه، فالحصر تابع له بالضرورة، فما اشتهر «2» من التمسّك بمفهوم النبويّ: «الماء كلّه طاهر لا ينجّسه شي ء» «3» و

غيرِه «4»، غير ظاهر؛ لأنّ قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «إلّا ما غيّر ..» إلىٰ آخره، شاهد علىٰ أنّ الماء لوحظ مع الكثرة الإجماليّة، و ليس من قبيل قولنا: «الماء جسم سيّال بارد بالطبع» فافهم.

و من هذه الطائفة مضمرة سَماعة بن مِهْران، قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء.

قال: «يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «5».

و في ثبوت الإطلاق للماء نظر واضح.

______________________________

(1) روض الجنان: 134/ السطر 17.

(2) مدارك الأحكام 1: 31.

(3) عوالي اللآلي 3: 9/ 6، مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5 مع اختلاف يسير.

(4) لاحظ وسائل الشيعة 1: 138 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3 و 4.

(5) تهذيب الأحكام 1: 408/ 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 191

الطائفة الثانية: ما وردت في خصوص الماء الجاري

و هي بين ما لٰا سند له، و تكون دلالته تامّة، مثل روايات «فقه الرضا» «1» و السيّد فضل اللّٰه الراونديّ «2»، و «دعائم الإسلام» «3».

و مضمونها: «أنّ الماء الجاري لا ينجّسه شي ء».

و توهّم انجبار ضعف الإسناد بعمل الشهرة «4»، غير تامّ؛ لاشتراطها في الجبر بكونها عمليّة، و هي غير ثابتة.

و يقرب منها ما في «الجعفريّات» «5» فإنّ احتمال تماميّة سندها، أقوى من الكتب المشاركة معها، فتأمّل.

و بين ما هو المسند، و فيه بعض الأسانيد الصحيحة، و لكنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، مثل المآثير المذكورة في الباب الخامس في «الوسائل» فإنّها ناظرة إلىٰ نفي البأس عن البول في الماء الجاري «6»،

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91.

(2) نوادر الراوندي: 39، مستدرك الوسائل 1: 191،

كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 4.

(3) دعائم الإسلام 1: 111.

(4) مستند الشيعة 1: 21.

(5) الجعفريات: 11، مستدرك الوسائل 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 1.

(6) لاحظ وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 192

و من راجع أبواب التخلّي «1» يطمئنّ بما أُشير إليه.

و توهّم دلالتها الالتزاميّة العرفية علىٰ نفي البأس عن نفس الماء الجاري أيضاً «2»، في غير محلّه؛ لممنوعيّتها أوّلًا، و لعدم لزوم تعرّض الإمام (عليه السّلام) لجميع الجهات في المجلس الواحد ثانياً؛ فإنّ الأحكام تنشر تدريجاً، و ليس هذا من الإغراء بالجهل و الإلقاء في التهلكة، فلا تختلط.

نعم، فيها رواية واحدة ربّما تكون ظاهرة؛ في أنّ السؤال يكون عن الماء الجاري الذي يبال فيه، و هي موثّقة سَماعة بن مِهْران قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه.

قال: «لا بأس به» «3».

فإنّه مع قطع النظر عن الشبهات الممكنة فيها، يحتمل قويّاً كون جملة «يبال فيه» غيرَ مرتبطة بالأُولىٰ، فكأنّه حذفت همزة الاستفهام؛ لعدم الاحتياج إليها في كثير من المقامات.

هذا مع أنّها مضمرة، و دعوىٰ قطعيّة الإضمار عن المعصوم، غير معلومة جدّاً و إن لم يقل به الأصحاب رضيّ اللّٰه عنهم.

فما يظهر من الشيخ في «التهذيب» و جماعة من أتباعه؛ من التمسّك بها في هذه المسألة «4»، غير قابل للتصديق، كما أنّ ذكرها بعنوان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 324 و 340، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 15 و 24.

(2) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 96.

(3) تهذيب الأحكام 1: 34/ 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5،

الحديث 4.

(4) تهذيب الأحكام 1: 34.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 193

التأييد كما في «الجواهر» «1» غير صحيح أيضاً.

الطائفة الثالثة: المآثير الكثيرة في الأبواب المختلفة

فمنها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين، و في ماء جارٍ فمرّة واحدة» «2».

و توهّم: أنّها من الأدلّة الدالّة علىٰ عدم انفعال القليل؛ لأنّ المِرْكَن قليل، فلا يتمّ الاستدلال بها؛ لأقوائيّة الأدلّة المخالفة، و التفكيك بين الصدر و الذيل يضرّ بالحجّية عند العقلاء، غير بعيد جدّاً.

و لكنّه يمكن دعوى أنّ المقصود هو الماء الراكد، و التمثيل بالمركن لمراعاة التقيّد.

مع أنّ المركن له المصاديق المختلفة في الصغر و الكبر، و لا بأس بالتقييد في الجملة الأُولىٰ؛ لما ورد في الكرّ، كما سيأتي تفصيله «3».

فبالجملة: قد يستدلّ بها «4»؛ بتقريب أنّ نجاسة الثوب لو استلزمت نجاسة الماء إذا كان قليلًا، لكان عليه (عليه السّلام) بيانها؛ لأنّ العرف ينتقل ذهنه

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 86.

(2) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(3) يأتي في الصفحة 253 254 و مابعدها.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة: 8/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 194

من طهارة الثوب به إلىٰ عدم نجاسته قطعاً.

و لا يصحّ قياسه بالغُسالة «1»؛ فإنّها ليست مطهّرة أوّلًا، و ثانياً القذارة العرفيّة تساعد على نجاستها، دون نجاسته.

و فيه: أنّه لا يتمّ إلّا إذا كان المتعارف أقلّية الماء الجاري من الكرّ في المنطقة المعهودة، و إلّا فلا يقع المخاطب في الجهل و الخلاف، كما لا يخفى.

فما أفاده الفقيه الهمدانيّ «2» لا يرجع إلىٰ محصّل، هذا مع ما عرفت آنفاً، فراجع.

و له تقريب آخر؛ و

هو أنّ قضيّة إطلاقها عدم اشتراط الكرّيّة، إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس، كما هو الظاهر.

و لكنّه ربّما يشكل؛ بأنّ الكلام سيق لإفادة كيفيّة التطهير بالراكد و الجاري، من غير النظر إلىٰ إفادة أيّ قسم منهما.

نعم، دعوى ظهور الجملة الثانية في أنّ المناط هو الجريان، كما أنّ في المِرْكَن هو الركود، غير بعيدة، حتّى اشتهر «أنّ تعليق الحكم على الوصف، مشعر بالعلّية» «3».

فبالجملة: لو تمّ إمكان الالتزام بمفاد الصحيحة من التفصيل بين الكرّ و الجاري لكان التقريب المذكور نافياً لشرطيّة الكرّية.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 98.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 8/ السطر 5.

(3) فرائد الأُصول 2: 541، أجود التقريرات 1: 435، القواعد الفقهيّة 1: 286.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 195

و منها: صحيحة ابن بَزيع، فإنّها نافية لاشتراط الكرّية علىٰ ما اخترناه في المراد منها؛ من رجوع التعليل إلى الصدر فيعلم من عموم التعليل أنّ جميع المياه ذات المادّة، موسّع لا ضيق فيها، فيكون مطهّراً من الأحداث و الأخباث من غير شرط، و غير منفعل بملاقاة النجاسة.

و يمكن دعوى: أنّه لو رجع إلى الجملة المحذوفة كما هو المعروف بينهم، أو الجملة الأخيرة المذكورة كما هو المختار، بناءً علىٰ رجوعه إلى الأخير من غير لزوم إشكال يتمّ المطلوب؛ لأنّه إذا كانت المادّة سبباً لرفع النجاسة، فكونها سبباً لرفعها أولىٰ، و هذا هو المفهوم منها عرفاً.

و توهّم: أنّ الأولويّة القطعيّة في المسائل العباديّة ممنوعة، فاسد ضرورة أنّ مسألتنا هذه ليست منها؛ فإنّ للعرف قدماً راسخاً في هذه المسائل، و ليس للشرع إبداعات فيها كما لا يخفىٰ.

و إن شئت قلت: بعد ما تغيّر ماء البئر، و كان

ما لا يتغيّر منه أقلّ من الكرّ، فهو إمّا ينجس، أو لا ينجس.

فعلى الثاني: فهو المطلوب، لأنّ عدم تنجّسه مع كونه قليلًا للمادّة، فيكشف عموم الحكم.

و على الأوّل: فإمّا يقال: بأنّه إذا تنجّس، لا يطهر ما زال عنه وصف التغيّر، فهو خلاف الصحيحة.

و إمّا يقال: بأنّه ينجس بعد ما تغيّر، و إذا زال وصف التغيّر يطهر بنفسه، ثمّ يورث طهارة ما زال عنه الوصف، فهو بلا دليل، و إذا كان زوال النجاسة عنه بعد ذلك للاتصال بالمادّة، فكون الملاقاة موجباً لنجاسته بلا وجه.

و إمّا يقال: بأنّه يورث طهارة المتغيّر، الزائل عنه وصف التغيّر، مع

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 196

كونه نجساً بالملاقاة، و لا منع من الالتزام بذلك إذا اقتضت علّية الملاقاة للنجاسة، كما هي المفروضة، و به يجمع بين تلك و هذه الصحيحة، و لكنّه غير تامّ قطعاً.

و أنت خبير: بأنّ الصحيحة ظاهرة في أنّ الماء إذا زال وصف تغيّره، يطهر من غير الحاجة إلى الاتصال و الامتزاج و الاستهلاك، مع أنّ من الممكن كونَ موردها- غالباً من الاستهلاك، بوجه مضى سبيله «1»، من غير لزوم الخلاف، فاستكشاف عدم اعتبار الكرّية من الجملة الأخيرة ممنوع، و لكنّها تدلّ علىٰ عدم اعتبار الكرّية بوجه عرفت.

نعم، قد مضى كلام في صحّة الاتكاء علىٰ مثلها الصريحة في سعة ماء البئر «2»، مع أنّ المشهور بين القدماء القول: بأنّ ماء البئر ليس بواسع، فكأنّهم أعرضوا عنها، و لكن قضيّة الصناعة عند الشكّ في الإعراض، الرجوع إلىٰ أدلّة حجّية السند إلىٰ أن يثبت الموهن؛ و هو الإعراض، و التفصيل يطلب من مقامه «3».

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن جعفر، قال: سألت أبا الحسن

(عليه السّلام) عن البيت يبال علىٰ ظهره، و يغتسل فيه من الجنابة، ثمّ يصيبه الماء، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ للصلاة؟

فقال (عليه السّلام): «إذا جرىٰ فلا بأس به» «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 151.

(2) تقدّم في الصفحة 174.

(3) تحريرات في الأُصول 6: 400.

(4) تهذيب الأحكام 1: 411/ 1297.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 197

و مثلها صحيحة محمّد «1» و صحيحة ابن الحكم «2» في الميزابين سالا، أحدهما: بول، و الآخر: ماء، فإنّه يعلم من هذه الأخبار، أنّ نفس السيلان و الجريان، دخيل في عدم التنجّس، من غير دخالة الأمر الآخر، فتأمّل جدّاً.

الطائفة الرابعة: المآثير المختلفة الواردة في ماء الحمّام

مثل صحيحة داود بن سِرْحان الناطقة بأنّ «ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري» «3».

و توهّم إجمالها؛ لما في «الوافي» في ذيلها: «لما الزق بهما من التراب» «4» غير تامّ؛ لخلوّ كثير من نسخ «التهذيب» عنه «5»، و لقوّة احتمال نقل هذه الجملة من ذيل رواية محمّد بن مسلم «6» إلىٰ ذيلها خطأ.

و مثل رواية ابن أبي يعفور الناطقة ب «انّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 6.

(2) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الصلاة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(4) الوافي 6: 52/ 8.

(5) لاحظ تهذيب الأحكام (الطبعة الحجريّة) 1: 107/ السطر 24، تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170.

(6) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1172، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 198

بعضه بعضاً»

«1».

و مثل ما ورد: «أنّ سبيله سبيل الجاري» «2».

و الاستدلال بها يتمّ بعد وضوح أنّ المقصود من التنزيل، هو التوسعة في ماء الحمّام من جهة الاعتصام، كما شهدت به سائر المآثير و الأخبار الواردة في ماء الحمّام «3».

و بعد وضوح أنّ المراد من «ماء الحمّام» هو ما في الحياض الصغيرة؛ لأنّه يشبه الجاري في كونه ذا مادّة، و لذلك نزّل منزلة الجاري، فكما أنّ المادّة خارجة عنه، فهي خارجة عن ماء الحمّام، و لأنّه مورد السؤال و الابتلاء، و لأنّ من الممكن وجود مخازن الحمّام خارجة عنه، كما لا يخفى.

و بعد وضوح أنّ ما في الحياض أقلّ من الكرّ قطعاً، حسب ما يرىٰ في عصرنا، فضلًا عن عصرهم.

و عند ما تبيّن ذلك، يتّضح أنّ الجاري المنزّل عليه لو كان كرّاً، و كانت الكرّية دخلية فيه، لما كان وجه لهذا التنزيل.

و فيه: أنّه يلزم بناءً علىٰ هذه المقدّمات، عدم صحّة تنزيل ماء الحمّام

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 199

منزلة ماء الكرّ، و يكون قولنا: «ماء الحمّام بمنزلة الكرّ» غلطاً، مع فساد ذلك قطعاً، فيعلم عدم صحّة الكشف المزبور.

و بعبارة أُخرى: إذا قلنا: «زيد كالأسد» لا يلزم كون جميع مصاديق الأسد شجاعاً.

فبالجملة: لو سلّمنا جميع المقدّمات المشار إليها في تقريرات المحقّق الفقيه الوالد- مدّ ظلّه «1» لما كان وجه لتماميّة النتيجة، فتدبّر.

هذا مع أنّ تماميّة المقدّمة

الثالثة، غير واضحة، و سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللّٰه تعالىٰ «2».

ثمّ إنّه يمكن التقاريب الأُخر، إلّا أنّ الأدلّة السابقة كافية، و لا وجه لإطالة البحث حول مٰا لا يرجع إلىٰ محصّل.

في تأييد المختار ببعض المآثير
اشارة

ثمّ إنّه قد ورد في هذا الباب ما يؤيّد المطلوب، مثل قوله (عليه السّلام) في رواية بكر بن حبيب: «إذا كانت له مادّة» «3».

و قولِه (عليه السّلام) في موثّقة حنّان بن سَدير، قال: «أ ليس هو جارٍ؟».

قلت: بلىٰ.

______________________________

(1) الطهارة، (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 6 (مخطوط).

(2) يأتي في الجزء الثاني: 3 و ما بعدها.

(3) التهذيب 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 200

قال: «لا بأس به» «1».

فإنّه يعلم منهما، أنّ المناط هو الجريان، و كونُه ذا مادّة، التي هي الدخلية في كونه جارياً واقعاً أو تعبّداً.

فيعلم من جميع ما مرّ، أنّ للجريان الذي لا يصدق إلّا مع المادّة، دخالةً تامّة في عدم التنجّس كالكرّية، و ما ذهب إليه الشيخ الأعظم؛ من قصور الأدلّة اللفظيّة، و تماميّةِ الإجماعات المعتضدة بالشهرة «2»، غير تامّ، بل الأمر بالعكس.

و لو تمّ الإشكال في الأُولىٰ، فالثانية قاصرة بعد ما مر؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ هذه المسائل ليست ذات رواية غير واصلة، و لا تكون تلك الإجماعات كاشفة عن أمر وراء ما وصل إلينا، بعد قوّة احتمال كونها كافية، كما اختاره الأكثر، فتدبّر.

و ما يمكن أن يوجّه به الرأي الأخير، طوائف من الروايات:

الأولىٰ: الطائفة الأخيرة الواردة في ماء الحمّام

فإنّها «3» علىٰ ما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه)، تدلّ على اشتراط الكرّية «4»، و حيث

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75.

(3) وسائل الشيعة 1: 148 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 201

يظهر من القوم وقوع الشيخ في المقام في الاشتباه الواضح، حتّى لا يذكرون رأيه أو يردّونه «1»، فلا بأس بأن يقال:

إنّ الظاهر منه أنّ البحث في مسألة اشتراط الكرّية في الماء الجاري، ليس من الواضح مصبّه، و لا من الظاهر مورده؛ فإنّه هل المقصود من الكرّيّة المعتبرة، هو المقدار المعتبر في عدم انفعال الماء القليل، من غير شرط آخر و هو تساوي السطوح؟

أم المقصود منها هي الكرّية المخصوصة، فلو كان مقدار الماء الجاري أضعاف الكرّ، مع الاختلاف في السطح، ينجس بالملاقاة، فلا بدّ من الكرّيّة في السطح الواحد؟ و هذه المجملة غير واضحة من كتب العلّامة.

كما أنّ المقصود أيضاً مجمل؛ من جهة أنّ الماء الجاري يشترط فيه الكرّية، أو هو مع مادّته.

و توهّم: أنّ الماء الجاري هو السائل، لا مادّته، فاسد؛ لتفسيرهم «الجاري» ب «النابع السائل» «2» و النبع مادّته، فهي دخلية في صدق «الجاري» الذي هو المقصود في الشريعة.

و الكتب المتعرّضة لهذه الجهة، خالية عمّا يرفع به الإجمال، و لعلّ العلّامة كان يعتقد ذلك في المجموع، دون البعض منه.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 132.

(2) جواهر الكلام 1: 72، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33، العروة الوثقىٰ 1: 32، فصل في الماء الجاري، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 112 113.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 202

فعلى هذا، فقوله (عليه السّلام): «ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري» «1» أو «هو كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً» «2» لا يدلّ إلّا على اتحادهما في الحكم، و إذا كانت كرّية المادّة و ما في الحياض شرطاً، فيعلم شرطية ذلك في الجاري أيضاً؛ قضاءً لحقّ التنزيل.

أقول: بعد التأمّل و التدبّر، لا يظهر لي أنّ نافي

الكرّية ما يريد بها؛ فهل يريد بها نفي المقدار المطلق، أو نفي المقدار المخصوص بالتساوي في السطوح، الذي هو المراد من «الكرّية» في بحثنا؟

و هكذا لا يظهر أنّ مثبتها يريد شرطيّة كرّية المجموع، أو المخصوص بالسريان و الجريان.

ثمّ إنّه بعد ملاحظة ما أبدعناه، و ملاحظةِ الاختلاف الموجود بينهم في ماء الحمّام؛ من أنّه هو ما في الحياض، أو الأعمّ منه و من المادّة، يظهر أنّ استفادة الشيخ شرطيّة الكرّية من حديث المنزلة، ليس بعيداً.

نعم، مبانيه فيما استفاده منها فاسدة.

و يمكن دعوى ظهور التنزيل؛ في أنّ المقصود إسراء أحكام المشبّه به إلى المشبّه، لا العكس، فلا دلالة له علىٰ خلاف ما قصده المشهور منه، كما لا يخفىٰ.

فبالجملة: إذا كان رأيه الشريف في ماء الحمّام، أنّه الأعمّ، و كان يرىٰ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 387/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(2) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 203

اعتبار الكرّية عند العلّامة في المادّة و الماء الجاري، فيلزم كون الجاري كرّاً؛ لأنّ ما نزّل منزلته، هو المشابه معه في جميع الجهات التكوينيّة إلّا في مجعوليّة المادة، و أُريد من التنزيل ذلك، فهما يتّفقان في الكرّية و غيرها من الأحكام، فتأمّل جيّداً «1».

الطائفة الثانية: ما رواه الكلينيّ و الشيخ

عن عمّار بن موسى الساباطيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سئل عمّا يشرب منه الحمامة .. (إلىٰ أن قال:) فقال (عليه السّلام): «كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه، و لا تشرب» «2».

و

سئل عن ماء شربت منه الدجاجة.

______________________________

(1) ثمّ إنّه يظهر تقريب الاستدلال بمرسلة ابن أبي يعفور (أ).

و له تقريب آخر؛ و هو أنّ الظاهر منها اعتصام الجاري بعضه ببعض، و لا مدخليّة للمادّة فيه، فعليه هو بمنزلة الماء المحقون، و اشتراط الكرّية فيه قطعيّ (ب).

أقول: نعم، إلّا أنّ ماء النهر ليس ماء النهر إلّا حال كونه ذا مادّة، فاعتصام بعضه ببعض ممنوع إلّا في تلك الحال، و عندئذٍ ليس بمنزلة المحقون.

و في المقام تفصيل خارج عن الجهة المبحوث عنها [منه (قدّس سرّه)].

(أ) تقدّمت في الصفحة 198.

(ب) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 77.

(2) تهذيب الأحكام 1: 228/ 660، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 204

قال: «إن كان في منقارها قذراً، فلا تتوضّأ منه، و لا تشرب منه ..» «1».

و قد رواه الصدوق مرسلًا نقلًا بالمعنى «2»، كما هو دأبه كثيراً.

و قضيّة الإطلاق اللفظيّ و السكوتي في الأُولىٰ و الثانية، نجاسة جميع المياه إلّا الماء الكثير؛ حسب أدلّته.

و لكن الإطلاق السكوتيّ غير منعقد جزماً؛ لأنّ من شرائطه الحاجة إلى الاستفصال، حتّى يكون تركه دليلًا على الإطلاق، و هي ممنوعة؛ لوضوح أنّ مقصوده المياه القليلة في الظروف المتعارفة، و لا أقلّ من الشكّ.

و أمّا الإطلاق اللفظيّ في الأُولىٰ، فهو أيضاً بعد التأمّل ممنوع؛ لوضوح أنّ مصبّ السؤال و الحكم واحد، و توهّم ثبوت الإطلاق له بحيث يقتضي نجاسة الجاري من سوء السليقة و الفهم، كما لا يخفىٰ.

الطائفة الثالثة: المآثير الواردة في الكرّ

«3» فإنّها بمفهومها الشرطيّ و الوصفيّ و القيديّ، تدلّ على انفعال غير الكرّ و لو كان جارياً، بل ظاهر صحيحتي إسماعيل بن جابر، أنّهما سيقتا لإفادة المفهوم؛ لأنّه سُئل فيهما

عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء، فأُجيب ب «أنّه

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 64، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 3.

(2) الفقيه 1: 10/ 18.

(3) وسائل الشيعة 1: 158 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 205

الكرّ» «1» أو «أنّه ذراعان عمقه ..» «2»، فيعلم منهما أنّ ما وراءه ينجس.

و قد تقرّر في محلّه: أنّ مفهوم الحدّ و التحديد، خارج عن النزاع المعروف في حجّية المفاهيم «3»، فقولنا في تحديد الإنسان: «هو الحيوان الناطق» نافٍ لسائر الأُمور الأُخر المحتملة دخالتها في حدّه.

ثمّ إنّ قضيّة معتبرة أبي بصير: «و لا تشرب من سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه» «4» أيضاً نجاسة القليل و لو كان جارياً، و حجيّة مفهوم الحصر مفروغ عنها في محلّها عند الأصحاب رضي اللّٰه عنهم، إلّا من شذّ «5».

و مثلها صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، فيتوضّأ منه للصلاة؟

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من الماء» «6».

فإنّهما بمفهومهما، تدلّان على انحصار الماء المعتصم بالكرّ.

______________________________

(1) الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

(2) تهذيب الأحكام 1: 41/ 14، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

(3) تحريرات في الأُصول 5: 13.

(4) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

(5) انظر مطارح الأنظار: 187/ السطر 25.

(6) وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث

13، و الباب 9، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 206

النسبة بين مفهوم أدلّة الكرّ و أدلّة الجاري

و دعوىٰ: أنّ النسبة بين المفهوم و أدلّة الماء الجاري، عموم من وجه، فلا ينهض المفهوم لاعتبار الكرّية؛ إمّا لتقدّم تلك الأدلّة عليه لأقوائيّتها، أو لتكافئهما و تساقطهما، و يكون المرجع بعد ذلك، إطلاقَ الطائفة الأُولى التي النسبة بينها و بين المفهوم عموم مطلق، و لمكان سقوط المفهوم بالمعارضة، لا بدّ من الرجوع إلىٰ تلك المطلقات النافية لانفعال الماء القليل، جارياً كان أو راكداً «1»، مسموعة.

إلّا أنّ الشيخ قال: «تتقدّم أدلّة الكرّ على الجاري» «2» ظنّاً أنّ إخراج الفرد النادر من أدلّة الجاري بتقديم مفهوم الكرّ أولىٰ من إخراج جميع أفراد الجاري من أدلّة الكرّ، غافلًا عن أنّ تقديم أدلّة الجاري، لا يستلزم تقييد موضوع أدلّة الكرّ، حتّى يكون جميع الأفراد من الجاري خارجاً.

مع أنّ الندرة ممنوعة جدّاً، و أنّ ميزان الجمع ليس الإمكان العقليّ، و ليس هذا الجمع لتلك النكتة و الجهة من الجموع العقلائيّة.

و في مقابله صاحب «الجواهر» حيث قال بالعكس «3»، معلّلًا بوجوه لا تخفى، غيرَ ذاكر منها وجهاً، و هي معلومة، إلّا أنّها غير تامّة.

و قد يقال: بأنّ تقديم المفهوم، يستلزم لغويّة قيد «الجريان، و البئر،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 78.

(3) جواهر الكلام 1: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 207

و كونه ذا مادّة» و لا عكس «1».

و فيه: أنّ قضيّة العكس صرف النظر عن مفهوم الحصر، الدالّ على انحصار المعتصم بالكرّ، و لا ترجيح كما لا يخفىٰ.

و يمكن دعوى: أنّ المسألة فيما نحن فيه، من قبيل تعدّد الشرط و اتحاد الجزاء؛

ضرورة أنّ مفهوم الشرط هنا، كما يعارض بمنطوق أدلّة الجاري، كذلك منطوق أدلّة الكرّ، معارض بمفهوم الجاري؛ لأنّ هذا القيد في تلك الأدلّة، بمنزلة الوصف المورث للمفهوم، و مقتضى الجمع العرفيّ كون الجاري كالكرّ في الاعتصام.

و فيه: أنّ الأمر كذلك، إلّا أنّ حجّيّة مفهوم الشرط و الوصف ممنوعة، و يكون مقتضى الحكم العرفيّ ذلك؛ لعدم المعارضة لولا مفهوم الحصر في أدلّة الكرّ غير المعارض بمثله في أدلّة الجاري، فلا تغفل.

فبالجملة: كون هذه المسألة من صغريات تلك المسألة الأُصوليّة، منوط بفرض اعتبار المفهومين، و هو مجرّد فرض لا نفع له في الفقه، فعليه يثبت التهافت بين الأدلّة.

و أمّا الرجوع إلى الطائفة الأُولىٰ، فهو يتمّ إذا تمّ السند و الدلالة، و قد عرفت عدم الإطلاق فيها، و مضت الشبهةُ في ثبوت الإطلاق للنبويّ المنجبر تفصيلًا «2».

بل لو سلّمنا إطلاقها، فالنسبة بعد التقييد تنقلب؛ فإنّ النسبة بين

______________________________

(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 124 125.

(2) تقدّم في الصفحة 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 208

النبويّ و مفهوم أدلّة الكرّ، مطلق لا بدّ من التقييد، فيصير مفاده «أنّ اللّٰه تعالىٰ خلق الماء الكرّ طهوراً» و عندئذٍ تقع المعارضة بينه و بين دليل الماء الجاري، فعليه لا يمكن حلّ الإشكال.

و لا ترجيح لملاحظة النسبة الاولىٰ، بل الظاهر ينعكس الأمر، و يكون النبويّ دليلًا لمذهب العلّامة و أصحابه رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم، فافهم و تدبّر.

مقتضى الأصل العملي في المقام

فبالجملة: تسقط الطائفتان؛ لتكافئهما، و حيث لا يندرجان تحت الأدلّة العلاجيّة عندنا، فلنا دعوى كفاية استصحاب الطهارة و قاعدتها؛ لإثبات الطهارة و المطهّريّة:

أمّا الأُولىٰ: فهي معلومة.

و أمّا الثانية: التي هي المقصود بالأصالة في القليل الجاري دونها خلافاً لما يظهر من جلّهم، حيث

غفلوا عن ذلك، و تمسّكوا بقاعدة الطهارة فهو أنّ مقتضىٰ أدلّة المياه، أنّها مطهّرة بذاتها و طبعها، و لكنّها إذا كانت نجسة تكون النجاسة مانعة، و إذا تعبّدنا بطهارتها و عدم نجاستها، فتثبت مطهّريّتها، فتأمّل؛ فإنّه لا يخلو من إشكالات واضحة.

رجوع إلى النسبة بين أدلّة الكرّ و أدلّة الجاري

إن قلت: يمكن تقييد مفهوم الحصر بأدلّة الجاري، و يمكن دعوى

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 209

انصراف أدلّة الكرّ إلى الراكد.

قلت: لا ضرورة أنّ مفاد الحصر بالتبادر، معارض لجميع ما يدلّ علىٰ خلافه؛ أخصّ كان، أو أعمّ، أو مبايناً، و قد فصّلناه في محلّه «1»، و اخترنا أنّ مفهوم الشرط و الوصف و ما شابههما، غير قابل للتقييد؛ للزوم الخلف، و هذا مثله في وجه، و الانصراف المزبور ممنوع بعد المراجعة إلىٰ أحاديث المسألة.

نعم، يمكن دعوى أنّ العرف بعد المراجعة إلىٰ كثرة المآثير الدالّة علىٰ خصوصيّة المادّة و البئر و المطر و الجاري مع خروج المطر و الحمّام من مفهوم الحصر قطعاً، و تقدّم أدلّتهما عليه يفهم أنّ هذه الرواية الدالّة على الحصر، ليست في مقام إفادته، بل هي تفيد الفرد الكامل، و المتعارفَ بين الناس، و الأكثرَ وجوداً و ابتلاءً .. و غير ذلك، فإنّه بعد هذا الوجه تسقط دلالتها على الحصر، و تكون الطائفة الأُولىٰ بلا معارض، و يتمّ المقصود.

عدم اعتصام الجاري و مطهّريته مع الإفراط في القلّة

ثمّ إنّ مقتضىٰ إطلاق فتواهم، أنّ الماء الجاري القليل معتصم و مطهّر و لو كانت قلّته في نهايتها و غايتها، و هو عندي مشكل، بل ممنوع؛ لانصراف الأدلّة عنها، بل يمكن عدم صدق «الجاري» على النابع السائل الذي تمام مائه في يوم يبلغ كوزاً.

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 185 186.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 210

و لعلّ القائل بالكرّية، يريد اعتبار الكثرة الدخيلة في الاسم، أو في موضوع الأدلّة، فإنّه لو كان كذلك فهو التحقيق الحقيق بالتصديق، كما لا يخفىٰ.

بحث و تفصيل في المراد من كرّية الجاري

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 210

قد مضى إجمالًا «1»: أنّ الكرّية المشترطة في المقام، مجملة من جهتين:

من أنّ المقصود كون الجاري بمقدارها، فلو كان طول المجرىٰ فرسخاً، و كان بمقدار الكرّ، فهو يكفي، أم المقصود كونه في سطح واحد، على النحو المقرّر في الكرّ و مطهّريته.

فإن قلنا بالأوّل، فلا يكون تقديم مفهوم أدلّة الكرّ علىٰ أدلّة الجاري، موجباً لإلغاء قيد «الجريان» لأنّه من خصوصيّاته، و لعلّ مقصود العلّامة ذلك، و لا يستظهر من العبارات المحكيّة خلافه، فتأمّل.

و من أنّ المقصود كرّية ما في الخارج، أو كرّية الكلّ، أو كرّية المجموع، و القائل بعدم اعتبارها ينفي المجموع، أو الأوّل فقط.

فيه وجوه و احتمالات، فإن كان مفهوم الجاري مركّباً من الماء الخارج و الداخل المسمّى ب «المادّة» فيعلم أنّ المقصود هو المجموع، و لكنّ الظاهر أنّ الماء الجاري هو ما في الخارج و إن كانت المادّة دخيلة في صدقه عليه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 200 201.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1،

ص: 211

و أمّا كرّيّة المادّة، أو هي مع الخارج، فليست شرطاً عندهم؛ لأنّ صريح كلامهم في أنّ المادّة قد تكون راشحة، و عندئذٍ لا معنىٰ لشرطيّة الكرّية فيها.

بل الحقّ: أنّ الماء الراكد الواقع تحت الأرض، إذا لم يتخلّق فيه الماء بالرشح، فإنّه ليس مادّة، فلو كان البئر غير ذي مادّة راشحة، و كان فيه الماء الراكد القليل، فتغيّر سطحه، فإنّه ينجس؛ لأنّه القليل، و لا خصوصيّة لعنوان «البئر» بل المدار على الأمداد المتوجّه إليه بالتخلّق و الإيجاد.

و من هنا يعلم: أنّ استغراب بعض فضلاء العصر؛ من نفي كرّية المادّة «1»، في غير محلّه؛ لتوهّمه أنّ لازمه كون الماء تحت الأرض، له الخصوصيّة، غافلًا عن عدم كونه مادّة إذا لم يكن يتخلّق فيه بالتدريج المياه الجديدة، و لو كانت المادّة أعمّ، لكانت مادّة الحمّام مادّة حقيقيّة، لا تعبّدية.

فعليه لا يعتبر الكرّية مطلقاً، و لا يشترط عند القائلين بها إلّا في الماء الخارج، دون المادّة و المجموع، فلا تغفل.

فرع: في حكم العيون غير المتعدية

العيون غير المتعدّية، ليست بئراً، و لا جارياً، و لا راكداً قليلًا، و لا

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 104.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 212

كثيراً عرفاً، فهي أمر آخر، و حكمه عدم الانفعال؛ لمعتبرة ابن بَزيع «1».

و أمّا إجراء الأحكام الأُخر مثل حكم الجاري عليه، فهو غير معلوم، خلافاً لما يظهر من الفقيه اليزديّ حيث قال: «هي مثل الجاري» «2» و لم يقيّده، و قد قيّده بعض فضلاء العصر «3».

و الذي هو التحقيق: أنّ كلّ ماء ذي مادّة، فيه السعة، و ليس معناها الاعتصام كما توهّمه الجمهور، بل هو أحد آثار جعل السعة، و لو كان كذلك لما كان

يحتاج إلى التكرار، فيعلم من قوله: «لا يفسده شي ء» أنّه غير السعة المجعولة عليه.

نعم، هو من الآثار البارزة فجميع المضايق مرفوع عنه، و منه الاحتياج إلى التكرار، فلو كان المتنجّس لا يطهر بالمرّة الأُولىٰ، ففيه الضيق المنفيّ، و لعلّ إطلاق كلامه ناظر إلىٰ هذا التقريب، فتدبّر.

فرع آخر: في حكم الجاري بلا مادّة

الجاري على السطح بلا مادّة، إذا كان قليلًا ينجس، إلّا في موارد:

الأوّل: ما إذا كانت له المادّة و انقطعت، فإنّ ما هو الباقي و الجاري فعلًا في النهر، نجاسته غير معلومة بالملاقاة؛ لأنّ ما هو المقطوع به

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 32 فصل في المياه، الماء الجاري.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 105.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 213

خروجه من أدلّته ما لم يكن له المادّة، فلو كان المدار على المادّة في الاعتصام فهي منتفية.

و لكنّك عرفت: أنّ عنوان «الجاري» معتصم، و الخارج منه الفروض الأُخر غير هذه الصورة «1».

الثاني: ما إذا كان طول النهر، إلىٰ حدٍّ يعدّ الماء فيه ماءين، فتكون الملاقاة في طرف غير موجبة للنجاسة في الطرف الآخر، و لعلّ هذا هو مقتضىٰ إطلاق معتبرة شهاب بن عبد ربّه، فإنّه (عليه السّلام) أمر بالتوضّي من الجانب الآخر «2»، فتدبّر.

الثالث: ما إذا كان الجريان علىٰ وجه التسنيم، أو التسريح الشبيه به، فإنّه في هذه الفروض المتضاربة، أيضاً يشكل تنجّسه؛ لإمكان استفادة دخالة السريان العرفيّ في التنجّس؛ لما دلّ الدليل في اليابس على دخالة الرطوبة في ذلك فالقول: بعدم السريان رأساً، أو أنّه علىٰ وجه الإبداع، أو مثله، غير مقبول، بل الميزان هو السريان العرفيّ،

فتأمّل جدّاً.

و للمسألة وجوه و مباحث أُخر، لا بدّ من الخوض فيها إن شاء اللّٰه تعالىٰ في مباحث النجاسات.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 182 183.

(2) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 214

خاتمة:
اشارة

فيها مسائل

الاولىٰ: في الشك في أنّ للجاري القليل مادّة أم لا؟
اشارة

الماء الجاري القليل، إذا شكّ في أنّه ذو مادّة، فإن كان مسبوقاً بها، فمقتضى استصحاب اعتصامه و مطهّريته و عدم انفعاله، و أنّه كان إذا لاقاه النجس لا ينجس، و أنّه كان ذا مادّة؛ أنّه بحكم معلوم المادّة.

و الإشكال في جريان الأصل الأخير: بأنّ العلّة لا تكون قيد الموضوع، غير بعيد، و يكفينا الأُصول الأُخر الحكميّة.

و إن كان مسبوقاً بعدمها، فقضيّة الأُصول الوجوديّة و العدميّة التنجيزيّة و التعليقيّة انفعالها، و الإشكال في بعضها لا يضرّ بالمقصود، نظير إشكال تقدّم بعضها على البعض للسببيّة، فتدبّر.

و إذا لم يعلم حاله السابقة، أو كانت المادّة و الجريان متّحدي الزمان، أو احتملنا انقطاع المادّة في آن اتصافه بالجريان؛ بأن كانت المادة سابقة، و الجريان بعدها، و لكن نحتمل انعدامها حال اتّصافه به، فإنّه إن أُريد استصحاب كون الماء ذا مادّة، فهو في مورده.

و لكن إن أُريد استصحاب أنّ هذا الماء الجاري كان ذا مادّة، فإنّه غير جارٍ بالضرورة؛ لعدم الحالة السابقة للموضوع الموصوف.

فإذا لم يجر الأُصول الموضوعيّة، أو الحكميّة التي في حكمها كما تقدّم، فقضيّة استصحاب الطهارة و قاعدتها، طهارة الماء القليل الملاقى،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 215

و يكفي أحدهما، إلّا أنّ الأقوىٰ جريان الاستصحاب دون القاعدة.

وجوه القول بالنجاسة
الوجه الأوّل:

و لكنّه مع ذلك، ذهب جمع من فضلاء الأُمّة إلى النجاسة، و منهم الفقيه اليزديّ (رحمه اللّٰه) في «العروة» «1» و ما يمكن أن يكون وجهاً له جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و قد نسب إليه «2»، و لكنّه صرّح في كتاب النكاح بخلافه «3».

مع أنّه لو كان هذا مستنده، لكان عليه تنجيس الماء المردّد بين القلّة و الكثرة؛ لأنّ قضيّة العامّ نجاسة كلّ ماء إلّا الكرّ و

ذا المادّة، فعليه لا بدّ من التماس دليل آخر.

هذا مع أنّه لو سلّمنا جواز التمسّك، يتعيّن القول بطهارته؛ لأنّ العامّ المستفاد من الكتاب و السنّة، عدم انفعال الماء؛ و أنّه «خُلق طهوراً لا ينجّسه شي ء» «4» إلّا القليل بلا مادّة، و الكثير المتغيّر.

و كون العموم «انفعال كلّ ماء قليل إلّا ذا مادّة» يحتاج إلى الدليل اللفظيّ، و مفاهيم أدلّة الكرّ قاصرة عن ذلك، كما مضى «5»، و كفاية الاصطياد

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 33 فصل في المياه، المسألة 2.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 129.

(3) العروة الوثقىٰ 2: 805 فصل في أحكام النكاح، المسألة 50.

(4) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(5) تقدّم في الصفحة 204 207.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 216

ممنوعة، و إلّا يلزم عليه تنجيس المردّد بين المطلق و المضاف عند الملاقاة، مع أنّه قال بطهارته.

و دعوىٰ: أنّ قضيّة انفعال الماء في الجملة، قابليّته بالطبع للنجاسة، و إلّا يلزم كون القلّة و هي الأمر العدميّ سبباً لقابليّته، فالجهات الأُخر مانعة عنها، غير مسموعة؛ لأنّ إيجاب الاجتناب عن الماء بعد الملاقاة، لا يدلّ على القابليّة.

و لو سلّمنا ذلك، فالقابليّة هي الإمكان الاستعداديّ المتّصف ب «القرب» و «البعد» و في الماء الكثير قابليّته، و هكذا في القليل، و الشرع أخذ مرتبة منها موضوعاً لحكمه، و لذلك ينجس الكثير بالتغيّر أيضاً، فلا دخالة لعنوان القلّة فيها.

فبالجملة: العدول عن ظاهر النبويّ إلىٰ ضدّه، غير ممكن، إلّا بوجه عقليّ و طريقة برهانيّة، لا بهذه الوجوه و الاعتبارات، فلا تغفل.

الوجه الثاني:

يمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة؛ بجواز التمسّك بقاعدة المقتضي و المانع «1»، و قد مرّ شطر

من البحث حول قاعدة الانفعال حسب ما اختاره الشيخ الأعظم (رحمه اللّٰه) في مسائل الماء المضاف، فراجع «2».

و تماميّة هذه القاعدة عند العقلاء في بعض الأُمور، لا تورث تمام المدّعىٰ في المقام، كما لا يخفى.

الوجه الثالث:

و هنا وجه ثالث اختاره بعض فضلاء مقاربي عصرنا.

______________________________

(1) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 83 84.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 217

و مجمله: أنّ التخصيص من الأحكام الإلزاميّة إذا كان علىٰ عنوان وجوديّ- مثل قولك: «لا تدخل علينا أحداً» ثمّ قال: «إلّا أصدقائي» ظاهر في كون الإحراز قيداً في المستثنىٰ، فعند الشكّ يصحّ التمسّك بالعمومات «1».

و قد مرّ ما يتعلّق به أيضاً في الماء المضاف، و علمت أنّه لو كان تامّاً عرفاً، فهو في الأحكام التكليفيّة «2»، لا مثل المقام؛ للزوم كون الماء المحرزة مادّته بالملاقاة، غيرَ نجس إذا كان العلم تمام الموضوع، و كان الماء بلا مادّة.

و إذا كان الإحراز جزء الموضوع، يلزم تنجّس ذي المادّة بالملاقاة إذا لم يحرز ذلك.

و دعوىٰ: أنّه بعد الإحراز يؤثّر الملاقاة السابقة، أعجب من هذه المقالة، بل يلزم اتصاف الماء الواحد بالنجاسة و الطهارة الواقعيّتين؛ حسب اختلاف حالات الأشخاص، فلا تغفل.

ثمّ إنّ الوجهين الأخيرين، ليسا مستندين لمثل الفقيه اليزديّ، القائل بنجاسة الماء في هذه المسألة، و طهارته في الفرضين الأخيرين المشار إليهما سابقاً «3».

ثمّ إنّ في المثال المذكور خلطاً بين احتياط العقلاء في الإذن في

______________________________

(1) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 102 103.

(3) تقدّم في الصفحة 215 216.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 218

التصرّف في مال الغير، و بين كون المقتضي

عنوان المقيّد.

كما أنّ قضيّة الاستصحاب، عدم جواز الإذن، لإخراج المورد عن عنوان الخاصّ به، فلا تختلط.

الوجه الرابع:

ثمّ إنّ هاهنا وجهاً رابعاً موقوفة تماميّته علىٰ كبرىٰ شرعيّة؛ و هي «أنّ الماء القليل ينجس، إلّا إذا كان ذا مادّة» و علىٰ جريان الأصل في العدم الأزليّ المشار إليه أيضاً سابقاً.

و أنت خبير: بأنّا لو سلّمنا الثاني لا يتمّ الأوّل؛ ضرورة أنّ قضيّة الجمع بين الكتاب و السنّة، يفيد أنّ كلّ ماء «خلق طهوراً لا ينجّسه شي ء» إلّا الماء القليل الذي لا مادّة له، و الكثير المتغيّر، علىٰ إشكال فيه، و قد مضىٰ «1».

و أمّا كون الكبرى الشرعيّة: «أنّ كلّ ماء قليل ينجس إلّا ذا مادّة» غافلًا عن العمومات الأوّلية الواردة في مطلق الماء، فهو ممنوع؛ لعدم جواز الغفلة عن الأدلّة، بل لا بدّ من الجمع العرفيّ أوّلًا، ثمّ إجراء الأُصول الموضوعيّة المنقّحة المورثة جوازَ التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة؛ بمعنى إخراجها عن المشتبه تعبّداً.

فمفهوم أدلّة الكرّ و إن كان يفيد عموم تنجّس الماء القليل، و صحيحة ابن بزيع تخصّصه مثلًا، و لكنّه أيضاً مخصّص لعموم النبويّ «2»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 115 120.

(2) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 219

و لسائر ما ورد في عدم تنجّس جميع المياه على الإطلاق، فافهم و تدبّر جدّاً.

هذا، و في صحّة جريان الأُصول الموضوعيّة التي لا أثر لها و لا أثراً أُصوليّاً- و هو صحّة التمسّك بالعموم كما نحن فيه إشكال، بل منع، و قد منعنا عن جريان الأُصول في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً، و تفصيله في محلّه، فلاحظ و تأمّل جيّداً «1».

فالماء القليل المشكوك وجود

المادّة له، محكوم بالطهارة؛ لأجل الاستصحاب، و قاعدتها.

اشتراط ورود الماء المشكوكة مادته في التطهير به

و هل هذا إذا ورد على النجس يطهّره، أم لا؟ فيه وجهان:

من أنّ شرط المطهّرية هي الطهارة، و هي تحصل بالأصلين.

و من أنّ موضوع المطهّرية هو الماء الموصوف ب «الطاهر» و التوصيف لا يثبت بهما إلّا عقلًا.

و أمّا جريان استصحاب المطهّرية بنحو الإهمال، فغير كافٍ؛ لأنّه لا يطهر إذا ورد النجس عليه، فيكون المستصحب حكماً تعليقيّاً، فإن كان هذا مستفاداً من دليل شرعيّ، فلا بأس بجريانه، و إلّا ففيه إشكال.

فبالجملة: صارت الأقوال في المسألة ثلاثة: نجاسته، و طهارته دون مطهّريته، و معها.

و قد مضى الإيماء في بعض المقامات السابقة، إلى احتمال كون

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 8: 436.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 220

المشكوك كرّيته و اعتصامه بالمادّة، مطهّراً و لو بورود النجس عليه، و أنّ ما يتنجّس من المياه، هو القليل المحرز عدم وجود المادّة له، فلا تغفل.

الثانية: في تغيّر بعض الجاري
اشارة

لو تغيّر بعض الجاري؛ بحيث انفصل بين المادّة و بعض منه، الماءُ المتغيّر، فالذي هو المتّصل بها حكمه واضح؛ إمّا لكونه ذا مادّة، أو لكونه عالياً غير متغيّر كما توهّم «1».

و الذي هو المنفصل عنها بالمتغيّر و لو كان متّصلًا بمقدار يسير غايته، إن كان كرّاً فهو، و إلّا ففي كونه معتصماً إشكال، بل المتعرّضين منعوا عنه، و حكموا بانفعاله.

و فيه: أنّ «الجواهر» احتمل ذلك هنا «2» و في مسألة البئر «3»، و لعلّ نظره كان إلىٰ أنّ الفصل التكوينيّ، يورث عدم صدق «ذي المادّة» على المقدار المنفصل، أو عدم صدق «الجاري» عليه، و الفصل بالماء النجس لا يورث الانفصال إلّا بالدليل، و هو مفقود؛ لعدم ما ينهض في الأدلّة علىٰ لحوق الفصل به بالفصل بالجدار و نحوه تعبّداً، أو علىٰ أنّ الماء المتوسّط

بين القليل و المادّة، لا بدّ و أن يكون طاهراً.

بل لو كان الفصل بالنجاسة مضرّاً، فهو ليس لأجل الأمر

______________________________

(1) لاحظ جواهر الكلام 1: 89، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 140.

(2) جواهر الكلام 1: 89.

(3) جواهر الكلام 1: 270.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 221

الاعتباريّ، بل هو لأجل التغيّر الموجب لانقسام الماء عرفاً في الوهم، لا في الخارج، بل هو لأجل عروض الطعم أو اللّون، و هذا يستلزم عدم الفرق بين المتغيّر بالنجس و عدمه، و هم غير ملتزمين به قطعاً.

توهّم و دفع

و توهّم: أنّه لا بدّ من كون الماء ذي مادّة، مستمدّاً من المادّة؛ بمعنى أنّه إذا نقص منه شي ء، فيتمّ بالمادّة «1»، فهو مضافاً إلىٰ عدم تماميّة كبراه لعدم الدليل علىٰ هذه الشرطيّة يلزم نجاسة الماء القليل الواقع وراء الماء الطاهر المدسوم؛ فإنّ الدسوسة تمنع عن إتمام ما نقص، و لا يمكن الالتزام بالنجاسة.

مع أنّه في مفروض المسألة، يتمّ ما نقص بالنجس، و لا دليل علىٰ أنّه لا بدّ و أن يتمّ بالطاهر؛ فإنّه أوّل البحث، فلا تغفل.

فبالجملة: العرف يحكم «بأنّ هذا الماء ذو مادّة، و بعضاً منه مع كونه ذا مادّة نجس» و هذا لا يوجب انقطاع الماء عن المادّة بالضرورة.

مقتضى الأُصول العملية في المقام

ثمّ إنّ قضيّة الأُصول العمليّة اعتصامه؛ لأنّه كان قبل التغيّر ذا مادّة، و الآن كما كان، و منشأ الشبهة في أنّ هذا النحو من الفصل، يضرّ بالصدق أم لا.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 147.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 222

و أمّا توهّم: أنّ ذلك لأجل الشبهة المفهوميّة في الاتصال، الذي هو الشرط في اعتصام الجاري و ذي المادّة «1»، فهو فاسد؛ لعدم كونه داخلًا في الأدلّة اللفظيّة، و قد مرّ أنّ الاتصال ليس بالمعنى المعروف شرطاً، بل المناط صدق «ذي المادّة» و هذا يستلزم الاتصال؛ لعدم صدقه على المنقطع عنه، كما لا يخفى «2».

و في المسألة مباحث أُخر مربوطة بالمسائل العمليّة، يطول الكتاب بذكرها.

هذا، و ما أفاده «الجواهر»: «من إجمال المورد، و الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة» «3» مع أنّ قضيّة ما تحرّر عندهم، هو الرجوع إلىٰ عموم «الماء القليل ينجس» موافق لما تقرّر عندي؛ من سراية الإجمال إلى العامّ، و التفصيل في محلّه «4».

و ما قيل: «من أنّ التمسّك

بالاستصحاب في غير محلّه؛ لعدم جريانه في الشبهة المفهوميّة» «5» غير تامّ أيضاً؛ لما تحصل منّا جريانه إلّا في بعض الفروض.

و توهّم عدم جريانه؛ لأنّ المتيقّن هو مجموع الماء، و مجرى الاستصحاب بعضه، غير كافٍ؛ لأنّ تحليل اليقين إلى الأجزاء، بمكان من

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 121.

(2) تقدّم في الصفحة 185.

(3) جواهر الكلام 1: 89.

(4) تحريرات في الأُصول 5: 232.

(5) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 122.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 223

الإمكان، و هذا كافٍ في جريان الاستصحاب، كما لا يخفىٰ.

و مثله توهّم: أنّ المسألة من صغريات مسألة دوران الأمر بين عموم العامّ، و استصحابِ حكم المخصّص «1»؛ ضرورة أنّ تلك المسألة في مورد عدم وجود الإطلاق للدليل المخصّص، لا في موقف الشبهة المفهوميّة، فإنّه عند الأكثر غير جارٍ رأساً، و إذا قلنا بجريانه، فهو من الاستصحاب المنقّح حال الشبهة المصداقيّة، فلا تصل النوبة إلى العموم، فالبحث هناك في تعارض الاستصحاب الحكميّ و عموم العامّ، لا الموضوعيّ، فلا تغفل و تدبّر.

الثالثة: في حكم الراكد المتّصل بالجاري
اشارة

الراكد المتّصل بالجاري، كالجاري عند من تعرّض له «2»، فالحوض المتّصل بالنهر بساقية، يلحقه حكمه و هو الاعتصام، و أمّا سائر أحكام الجاري المترتّبة علىٰ عنوانه بناءً على اختصاصه بها فغير مترتّبة؛ لأنّه الواقف، و لا يعقل كونه واحداً مع الجاري موضوعاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف حال اتصاله به و وروده عليه، يراه جارياً، و يصفه به.

و قد يشكل: بأنّ قضيّة الصناعة عدم اعتصامه، و مثله أطراف النهر؛ لأنّ اعتصام هذا الماء ينحصر بكونه إمّا ملحقاً موضوعاً

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 121.

(2) العروة الوثقىٰ 1:

34 فصل في المياه، المسألة 6، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 139.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 224

بالجاري، أو حكماً:

أمّا موضوعاً؛ فإنّه غير ما في النهر بالضرورة، و العرف لا يعقل أن يحكم على الواقف الساكن «أنّه الجاري».

و أمّا حكماً، فكونه ذا مادّة ممنوع؛ لأنّ ما هو مادّته ليس في النهر عرفاً، و ما في المنبع و الجبال ليس مادّته؛ لفصله بالأجنبيّ؛ و هو الماء المتخالف معه في الوصف التكوينيّ، و هي الحركة و السكون، فما في أطراف النهر إذا كان واقفاً، ينجس بملاقاة النجس؛ لأنّه ليس بجارٍ، و لا بذي مادّة.

نعم، بناءً علىٰ كفاية مطلق المادّة حتّى مثله فهو، و لكنّه ممنوع حتّى عندنا.

و ما في الحوض لا يعتصم بالوارد؛ فإنّ تقوّي السافل بالعالي لو كان أمراً عرفيّاً كلّياً، لما كان يحتاج في ماء الحمّام إلى الدليل التعبّدي، فما في الحوض إذا كان قليلًا، و كان الماء الجاري الوارد عليه أيضاً قليلًا ذا مادّة، فهو مثل الحمّام الذي كانت خزانته كرّاً، فما حكم به الأصحاب لا يخلو من شائبة إشكال.

حكم الماء الموجود في أطراف النهر

ثمّ إنّ ما في أطراف النهر، تارة: يتبدّل فيه الماء بالأمواج، فله لإلحاقه به وجه، و لكنّه إذا كان واقفاً ينتن بعد مدّة، فإنّه كيف يتقوّىٰ بما في جواره إذا كان لا يحكم عليهما بالوحدة؟! و إلّا فهو معلوم الحكم.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 225

هذا، و لكن الوجدان في هذه المسألة على الاعتصام، و في المسألة السابقة علىٰ حكم العرف بعدمه.

و هل المتّبع هي الصناعة، أم حكم العرف و المغروسات الذهنيّة، خصوصاً في هذه المواقف؟ وجهان، لا يبعد الثاني، فتأمّل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 227

المبحث الخامس في الماء الراكد
اشارة

و البحث فيه يتمّ في ضمن أُمور:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 229

الأمر الأوّل في الماء القليل
اشارة

لا شبهة في أنّه إذا بلغ إلىٰ حدّ الكرّ، لا ينجس بالملاقاة، و الاختلافُ في حدّ الكرّ، ليس من الاختلاف في هذه المسألة، فالقائل بعدم انفعال ما دون حدٍّ، ليس من القائلين بانفعال القليل، بل القائل بأنّ الكثير لا ينفعل، لا يعدّ من القائل به؛ لأنّه أخذ عنوانه حدّا، و أوكل الأمر إلى العرف. و هذا هو المحكيّ «1» عن بعض العامّة؛ كابن سيرين، و مسروق «2».

و أمّا إذا لم يبلغه، و لم يكن ذا مادّة واقعيّة أو تعبّدية، فالمسلمون اختلفوا في حكمه، و الظاهر أنّ كل من اعتبر الحدّ، فلا بدّ أن يقول: إمّا بالنجاسة فيما دونه، أو ممنوعيّة الاستعمال في الجملة، أو التفصيل، فما قد يظهر من نسبة القول بالطهارة إلى القائل بالحدّ، قابل للجمع، فتأمّل.

______________________________

(1) المجموع 1: 113/ السطر الأوّل.

(2) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 230

أقوال العامة في الماء القليل

فبالجملة: فعن أبي حنيفة التفصيل بين القليل البالغ إلىٰ حدّ يتحرّك أحد الجانبين بملاقاة الجانب الآخر فينجس، و إلّا فلا «1».

و لا يخفىٰ سخافته، إلّا أنّ المقصود دفع ما قيل: «من نسبة النجاسة إليه على الإطلاق».

و قال مالك بالطهارة، و بها قال جمع منهم، كالحسن البصريّ، و إبراهيم النخعيّ، و داود «2»، و هم أقدم علىٰ أرباب المذاهب الأربعة، فأبو حنيفة تبعهم في الطهارة، إلّا أنّ إخراج القليل الساري فيه النجاسة، اجتهاد منه.

و أمّا نسبة اشتهار الطهارة إليهم كما في «مفتاح الكرامة» «3» فغير تامّ؛ لذهاب الأقدمين منهم إلى التحديد في الكرّ.

فعن ابن عباس و ابن عمر و أبي هريرة و سعيد بن جبير و مجاهد و أحمد و إسحاق و أبي عبيدة و أبي ثور، اعتبار القلّتين

«4»، فمنه يعلم أنّ المخالفين مختلفون في المسألة.

كما يعلم منه وقوع البحث في عصر الخلفاء، خلافاً لما يأتي عن

______________________________

(1) الخلاف 1: 192، المغني، ابن قدامة 1: 25/ السطر 17، المجموع 1: 113/ السطر 3.

(2) المجموع 1: 113/ السطر 7.

(3) مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 5.

(4) الخلاف 1: 191.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 231

الكاشانيّ (رحمه الهّٰى) «1».

و الذي هو المهمّ في المقام، الاطلاع على آرائهم؛ لاحتياجنا إليها في فهم المسألة من أخبارنا و ما وصل إلينا، فلا تغفل.

ثمّ وصلت النوبة إلى الشافعيّ، فهو مضطرب القول، و مفصّل في الفروع الكثيرة، و قيل: «المعروف منه هي النجاسة» «2» و هو غير بعيد، علىٰ ما يظهر من أقواله في تطهير الماء القليل «3»، و لكنّه حكي عنه القول بالطهارة أيضاً «4».

و هكذا ابن حنبل «5»، و لكنّه أيضاً يقرب منّا.

فتحصّل: أنّ من الممكن كونَ كثير من الروايات الواردة في الطهارة فرضاً، ناظرةً إلىٰ فتواهم تقيّة، خصوصاً فيما صدر من الصادقين (عليهما السّلام) بل و الكاظم و الرضا (عليهما السّلام).

اللّهمّ إلّا أن يقال: ذهاب جمع من القدماء و الأقدمين إلى النجاسة «6»، يمنع عن صدور الرواية تقيّة؛ لأنّ مخالفة المتّقىٰ منه معهم، كافية في خلاف المتّقي معه.

إلّا أن يقال: بأنّهم قائلون بالتحديد في الكرّ، و هو أعمّ من النجاسة، فتدبّر.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 259.

(2) مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.

(3) الخلاف 1: 194، كتاب الام (مختصر المزني): 9.

(4) لاحظ تذكرة الفقهاء 1: 22، فتح العزيز 1: 209.

(5) لاحظ المغني، ابن قدامة 1: 24/ السطر 14.

(6) مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 22 و 74/ السطر 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 232

أقوال أصحابنا في الماء القليل

ثمّ إنّ أصحابنا

أيضاً اختلفوا، فالذي هو المشهور، و عليه الإجماعات الكثيرة «1» البالغة إلىٰ ثلاثين «2» أو أكثر، هي النجاسة، من دون فرق بين النجاسة و المتنجّس.

و في قبالهم ما نسب إلى العمّاني «3»، و القاضي نعمان أبي حنيفة الشيعيّ «4»، بل و الكلينيّ و الصدوق من الطهارة «5»، و لكنّه غير تامّ في الأخيرين، و ظاهر الثاني أنّه من المفصّلين «6».

و قيل: «إنّ الأوّل ذهب إلىٰ تنجّس القليل مطلقاً، لا جواز استعماله كذلك و لو مع الامتزاج» انتهىٰ.

و لعلّه ظاهر جمع ممّن منع الاستعمال، و هو لا يستلزم النجاسة كما لا يخفى.

فما في «المقابيس» من نسبة الطهارة إلىٰ هؤلاء الأعاظم «7»، غير

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 38، الحدائق الناضرة 1: 280، جواهر الكلام 1: 105، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 141.

(2) مفتاح الكرامة 1: 72، مهذّب الأحكام 1: 168.

(3) مهذّب البارع 1: 79، لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 10.

(4) دعائم الإسلام 1: 111 112، مقابس الأنوار: 65/ السطر 35.

(5) مقابس الأنوار: 66/ السطر 22 و 26.

(6) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 15، الفقيه 1: 6.

(7) مقابس الأنوار: 65 66.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 233

موافق للتحقيق، نعم هو مختار جمع من المتأخّرين «1»، فتأمّل.

و عن الشيخ في «المبسوط» التفصيل بين النجاسة التي يدركها الطرف و غيرها «2».

و في «الاستبصار» التفصيل بين ما لا يدركه الطرف من الدم و غيره «3»، و هذا هو المنسوب إلىٰ كثير من الناس في «غاية المراد» «4» و منهم «المدارك» (رحمه اللّٰه) «5» بل هو المنسوب إلى المحقّق في «النافع» «6».

و عن الفاضل الخراسانيّ صاحب «الكفاية» التفصيل بين النجاسة و المتنجّس لولا الإجماع «7».

و أمّا جعل القول بطهارة الغسالة

من الأقوال في هذه المسألة، فغير مناسب؛ لما يظهر من عقد الباب، و لكنّه ممّا لا مشاحّة فيه، و عندئذٍ يلحق السيّد (رحمه اللّٰه) في «الناصريّات» بالمفصّلين بين الوارد و المورود «8»، و تبعه جماعة كالحلّي في «السرائر» «9» و وافقهم من العامّة الشافعيّ «10».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 73/ السطر 27.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) الاستبصار 1: 23، ذيل الحديث 57.

(4) مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 6.

(5) مدارك الأحكام 1: 139 140.

(6) مستند الشيعة 1: 35، المختصر النافع: 4.

(7) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(8) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215/ السطر 9.

(9) السرائر 1: 180 181.

(10) المجموع 1: 137 138.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 234

الأمر الثاني: في وجوه القول بعدم تنجّس القليل بالملاقاة
الوجهان الأوّل و الثاني:

حجّة القائلين بالطهارة مضافاً إلى اقتضاء الأصل، المطلقات الآبية عن التقييد، مثل النبويّ المسند و العلويّ: «الماء يطهِّر و لا يطهَّر» «1» فإنّ الظاهر من الجملة الثانية بعد مراعاة المناسبة بين الماء و صفته المطهّرية أنّه لا يتنجّس حتّى يحتاج إلى التطهير، فما هو بطبعه مطهّر لا يقبل النجاسة.

و يؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: «ليس ينجِّس الماءَ شي ءٌ» «2».

و عن الصادق (عليه السّلام) «فإنّ الماء لا ينجّسه شي ءٌ» «3».

و عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «الماء لا ينجِّسه شي ءٌ» «4».

هذا، و لكن في الرواية محتملات أُخر، ربّما تبلغ إلىٰ أكثر من عشرين،

______________________________

(1) المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135 كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

(2) دعائم الإسلام 1: 111، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 5.

(3) نفس المصدر، الحديث 6.

(4) عوالي اللآلي 1: 76/ 153، مستدرك الوسائل

1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 235

و استظهار المعنى الواحد مشكل جدّاً.

الوجه الثالث:

النبويّ المشهور بين الأصحاب المذكور سابقاً: «خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه أو ريحه أو طعمه» «1».

فإنّ الحصر يفيد طهارة القليل الملاقي مع النجس، و هو الآبي عن التقييد، بل الاستثناء يؤكّد العموم، و يورث نصوصيّة المستثنىٰ منه فيما عداه، و لا يكون الجمع بينه و بين ما هو الأخصّ منه من الجمع العرفيّ؛ و ذلك لأجل أنّ حجّية مفهوم الحصر مستندة إلى التبادر، و هو لا يكون إلّا في الموضوع له، فعليه تكون هيئة الاستثناء، ظاهرةً في نفي غير المستثنىٰ، و حصرِ المقصود في المستثنىٰ حصراً حقيقيّا لا إضافيّاً غيرَ قابل للتخصيص.

و جميع المآثير المشتملة علىٰ توصيف الماء ب «الطهور» «2» فإنّه ليس إلّا لأجل زيادة أمر فيه؛ إمّا عدم قابليّته للنجاسة، أو مطهّريته للغير، أو هما معاً.

و الظاهر من قوله: «لا ينجّسه شي ء» أنّه من الآثار المترتّبة علىٰ كونه

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة 1: 133 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 4 و 8 و 9 و 10، و الباب 2، الحديث 1 و 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 236

طهوراً، كما في قولك: «الخمر مسكر حرام» فإنّ الحرمة فيه معلول الإسكار، و نجاسةُ المتغيّر بالدليل المتّصل، لا تنافي إباءه عن التقييد بالمنفصل، فهذا التوصيف يأبىٰ عن إخراج القليل بإثبات انفعاله.

و إن شئت قلت: هذه الطائفة في مقام الامتنان، و أيّ امتنان

أعظم من عصمة الماء القليل الذي هو الأكثر ابتلاء؟! و إخراجه من تلك الأدلّة خلاف الامتنان الظاهر من تلك الأدلّة.

و دعوىٰ عدم إطلاقها؛ لأنّها في مقام إثبات التشريع، بحذاء ما ورد من قرض الأُمم السابقة لحومَهم، غير مسموعة؛ لأنّ المآثير مختلفة، و قصّة القرض ممنوعة عقلًا و إن وردت به المآثير الصحيحة، و مقتضى الامتنان هو الإطلاق الآبي عن التقييد، فتدبّر.

هذه هي الوجوه الثلاثة.

الوجه الرابع:
اشارة

و هو العمدة الطوائف المختلفة من الروايات:

الطائفة الأُولىٰ: الروايات المقسّمة للماء

و هي التي تكون ظاهرة في أنّ الماء قسمان: ماء متغيّر، و ماء غير متغيّر، أو ماء غالب، و ماء مغلوب، أو ماء قاهر، و ماء مقهور، بالنسبة إلىٰ أوصاف النجاسة و النجس هو الأوّل في الأوّل، و الثاني في الأخيرين.

و توهّم: أنّ الموضوع لهذا التقسيم، هو «الماء الكثير» فيكون

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 237

القليل خارجاً عنه؛ لأنّ المفروض فيها هي المياه الموجودة في الغدير، و الحياض الكبيرة في أوساط البلد، و النقيع الواقع أطراف الطريق و هكذا «1»، غير تامّ بعد التدبّر فيما أفاده المعصوم (عليه السّلام) بعد السؤال عن تلك المياه، ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ.

فقال: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ و لا تشرب ..» «2».

فإنّ إعادة كلمة «الماء» من غير توصيفه ب «النقيع» شاهد علىٰ أنّ الحكم لمطلق الماء، دون الماء الخاصّ. و مثلها غيرها.

و إسراء خصوصيّات المورد إلىٰ هذه الكلّيات في الجواب، غير جائز قطعاً، كما أنّ النظر إلىٰ خصوصيّات الأسئلة دون القيود الواردة في الأجوبة غير تامّ.

و لك دعوى: أنّ انصراف «النقيع» و «الغدير» و «الحياض» إلىٰ ما فوق الكرّ بحيث كان يصحّ اتّكاء المتكلّم عليه، و لا يكون ترك الاستفصال دليلًا على الإطلاق ممنوع جدّاً؛ لشهادة السؤال في الغدير عن عمقه في روايات الكرّ، فراجع «3».

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 129، مهذّب الأحكام 1: 173.

(2) تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة

1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 238

و العجب من المستشكلين علىٰ هذه الطائفة!! «1» و كأنّهم بنوا علىٰ عدم وجود إطلاق يقتضي عدم انفعال القليل، و لكنّه غير صحيح جدّاً.

الطائفة الثانية: الروايات المتفرّقة

فمنها: رواية زرارة، عن الباقر (عليه السّلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جُرَذ أو صَعْوَة ميّتة.

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ، فصبّها، و إذا كان غير متفسّخ فاشرب منه، و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القربة؛ و أشباه ذلك من أوعية المياه».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية، لم ينجّسه شي ء، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء» «2».

و هي لو سلم سندها من الإشكال في عليّ بن حديد من عدم التوثيق «3»، و تمّمت دلالتها من غير لزوم اضطراب؛ بدعوى التفكيك بين الجملة الأخيرة و الأولى و أنّهما في مجلسين إلّا أنّ زرارة أردف بينهما، و دعوىٰ أنّ «التفسّخ» إمّا التغيّر في الجملة الأُولىٰ، أو يكون المنهيّ عنه لاستلزامه شرب الأجزاء النجسة و ملاقاةَ الأعضاء في الوضوء معها كما لا

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 173.

(2) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

(3) معجم رجال الحديث 11: 302.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 239

يبعد، فهي تدلّ على انفعال القليل.

و لكنّه حسب هذه الرواية، إذا كان بمقدار الظروف العاديّة، دون الظروف و الأوعية المزبورة فيها، فقوله: «أشباه ذلك»

لا يشمل الصغار منها قطعاً، فتكون هذه الرواية من معارضات أخبار الكرّ، و من مؤيّدات القائلين بأنّ المراد من أخبار الكرّ، هي الكثرة العرفيّة قبال القلّة، و قد مضى أنّ من العامّة من يقول بذلك «1».

فبالجملة: لا تفي بتمام المقصود؛ و هو طهارة القليل أيَّ قليل كان بالضرورة، و سيأتي البحث حولها في محلّها «2».

و منها: مصحّحة «المستند» عن محمّد بن مروان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «لو أنّ ميزابين سالا، أحدهما: ميزاب بول، و الآخر ميزاب ماء، فاختلطا، ثمّ أصابك، ما كان به بأس» «3».

و حملها علىٰ ماء المطر؛ بقرينة صحيحة هشام بن الحكم «4»، غير تامّ، و التدبّر حول مفادهما و خصوصيّات المدينة، و أنّ السطوح كانت مبالًا و مَغْسِلًا، يورث الاطمئنان بأنّ المقصود ليس ماء المطر حال التقاطر، بل لا معنىٰ لذلك بعد فرض اختلاط ماء الميزاب و البول، فإنّه حينئذٍ كان يفرض

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229.

(2) يأتي في الصفحة 280.

(3) الكافي 3: 12/ 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 6.

(4) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 240

اختلاط ماء المطر و البول.

و لو لا ضعف السند الأوّل بمجهوليّة عدّة «الكافي» لأنّ أحمد بن محمّد على الظاهر ليس ابن خالد، و لا ابن عيسىٰ، و بغيره الواقع في أواخر السند، لكان دلالته تامّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بظهور الثاني في القليل مع انقطاع المطر أيضاً، كما عرفت.

و العجب من تصحيح النراقيّ (رحمه اللّٰه) الرواية الأُولىٰ «1»!! و هو غفلة قطعاً.

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر، عن

أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار ذلك الدم قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه، و لم يستبن ذلك في الماء، هل يصلح له الوضوء منه؟

فقال: «إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه».

قال: و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فتقطر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟

قال: «لا» «2».

و هي كما يستدلّ بها علىٰ نجاسة القليل على الإطلاق «3»، يستدلّ بها على

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 25.

(2) الكافي 3: 74/ 16، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 1، ليس فيهما جملة «و لم يستبن ذلك في الماء»، نعم وردت هذه الجملة في الوسائل الطبعة الحجرية 1: 79/ السطر 34 35.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 124.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 241

مرام الشيخ؛ من التفصيل المذكور سابقاً «1»، و يستدلّ بها علىٰ عدم الانفعال.

و غاية ما يمكن تقريبه: هو أنّ الظاهر إصابة الدّم بالماء، و الجواب نصّ في عدم انفعاله، و ظاهر الجملة الثانية هي نجاسة الماء.

و لكنّه ممنوع؛ لعدم الملازمة بين النهي و النجاسة، كما في الماء المستعمل في الحدث، و الذي استنجي به، بل لك حمل الهيئة على الكراهة؛ لأنّ الأمر في الاولىٰ ليس للوجوب، بل هو للرخصة.

و التفكيك بين الجملتين باختيار مذهب الشيخ مستلزم للفقه الجديد؛ لأنّ الأدلّة قاصرة عن نجاسة كلّ شي ء بكلّ نجس، و الالتزام بالتفكيك و إن يلازم الجمع العرفيّ بين الأدلّة، و لكنّه غير صحيح قطعاً.

فالنهي هنا كالنهي عن الصلاة في عرق الجنب «2»، فكيف حملوه هناك علىٰ

ممنوعيّته فيها، و لا يحملونه هنا علىٰ شرطيّة أمر في ماء يتوضّأ به؟! و من المحتمل أن يكون الأمر بالتوضّي؛ لأجل عدم نجاسة الأجزاء الصغار، فتكون الرواية خارجة عن محلّ البحث.

و لو كان المدار على الاستبانة في هذه الرواية، يستلزم بعض الإشكالات الأُخر، كما لا يخفىٰ. و تأتي زيادة تفصيل حولها عند ذكر مذهب الشيخ (قدّس سرّه) «3».

و دعوىٰ: أنّ إصابة الإناء، أعمّ من إصابة الظرف و المظروف «4»، غير

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 233.

(2) وسائل الشيعة 3: 447، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 12.

(3) يأتي في الصفحة 265 267.

(4) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 148.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 242

مسموعة؛ لأنّه كقوله في ذيله: «قطرة في إنائه».

و لكن الإنصاف: قصورها عمّا نحن بصدده؛ لقول السائل: «و لم يستبن ذلك في الماء» فإنّه عندئذٍ لا معنىٰ لتفصيل الإمام (عليه السّلام) في الجواب، و من استدلّ به لهم غفل عن هذه الجملة، و لذلك حكى الرواية بدونها، فيعلم منه أنّ الجهة المسئول عنها مبهمة؛ من حيث أنّ الملاقى بالفتح نفس الإناء، أو ما فيه، و لذلك اختلف التعبيران صدراً و ذيلًا، و الجملة الثالثة كأنّها زيادة من الراوي في هذه الرواية بعد سماعه عنه (عليه السّلام) في مجلس آخر، فتدبّر.

و لو سلّمنا أنّ النسخ الأصليّة غير مشتملة على قول السائل: «و لم يستبن ذلك في الماء» فتكون الرواية مجملة، فليتأمّل.

و منها: معتبر محمّد بن ميسرة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل الجنب، ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به، و يداه قذرتان.

قال: «يضع يده، ثمّ يتوضّأ، ثمّ يغتسل؛

هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1»» «2».

و هي بناءً علىٰ كون المراد من «الماء القليل» ما كان أقلّ من الكرّ، و أنّ المراد من «القذارة» هي الشرعيّة، و أنّ المقصود من قوله: «يضع

______________________________

(1) الحجّ (22): 78.

(2) الكافي 3: 4/ 2، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 243

يده» أي يدخل في الماء، و من قوله: «يتوضّأ» أي يتطهّر تدلّ علىٰ عدم الانفعال لولا قوله: «هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ ..» فإنّه بظاهره، دليل علىٰ مرفوعيّة شرطيّة طهارة الماء للتطهير به و الغسل به؛ لأنّه هو جَعْل اللّٰه تعالىٰ، و هو الموجب للحرج، فلا دلالة بعد ذلك على الطهارة المعقودة في المسألة.

و أمّا لزوم نجاسة البدن، فهو غير مضرّ بعد مرفوعيّة شرطيّة الطهارة، فإنّها أيضاً مرفوعة للاستلزام، فتكون الرواية حينئذٍ من المعارضات لما دلّ علىٰ شرطيّة الطهارة؛ من الأمر بالإراقة و نحوها «1».

و من القريب جدّاً كون المراد من «وضع اليد» صرف النظر عنه و استثناءه من الأعضاء الواجب غسلها، فتجب سائر الأعضاء؛ لقوله تعالىٰ، و عليه تحمل الرواية علىٰ صورة اختصاص القذارة الخبثيّة باليدين، و تكون سائر الأعضاء طاهرةً، و هو فرض بعيد، و لكنّه لا ينافيه ظاهر الحديث.

و يحتمل إفادتها إيجاب التيمّم؛ لأنّه يريد من الأمر ب «الوضع» صرف النظر عن الغسل، و من قوله تعالىٰ التيمّم، كما في رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التَّوْر، فيدخل إصبعه فيه.

قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها

قذر فليغتسل منه؛

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 151 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 4 و 10 و 11 و 14.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 244

هذا ممّا قال اللّٰه تعالىٰ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

فإنّ الآية تناسب قوله (عليه السّلام): «أهرقه» فهو بمنزلة قوله (عليه السّلام): «يضع يده».

و إرادة وضع اليد من الماء من هذه الجملة، بعيدة جدّاً؛ لبعدها عن المتعارف في المستعملات المأنوسة.

مع أنّه من المحتمل إرادة وضع اليد عن الماء؛ أي الإعراض عنه، لا فيه، فتكون الجملة مجملة.

و لا يبعد أن يراد من «القليل» هو الأقلّ من الكرّ، و كأنّه حكم معروف عند السائل، و كان يرىٰ نجاسة الماء بيده القذرة مع عدم تمكّنه من التطهير بالإناء، فوقع في حيص و بيص، فسأل عمّا سأل، فالرواية تشهد علىٰ معروفيّة نجاسة القليل، و تدلّ علىٰ أنّ الوظيفة هو التيمّم، ثمّ بعد ذلك يتطهّر و يغتسل، فالإتيان بكلمة «ثمّ» دليل على التراخي.

و أمّا ما ذكره القوم من: أنّها تدلّ علىٰ طهارة الماء حال الضرورة، فلا تفي بتمام مطلوب العمّاني و أصحابه «2»، فهو غير تامّ؛ لأنّه ربّما أُريد من الآية الشريفة، نفي تنجّس القليل؛ لأنّ نجاسته ضيق و حرج، و مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» و هذا القبيل من الاستدلال كثير في المآثير و الأخبار.

و منها: رواية أبي مريم الأنصاريّ، قال: كنت مع أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 37/ 100، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 11.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 31.

(3) الحجّ (22): 78.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1،

ص: 245

حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلواً للوضوء من رَكيّ له، فخرج عليه قطعة من عَذِرة يابسة، فاكفىٰ رأسه، و توضّأ بالباقي «1».

دلالتها منوطة بحمل «العَذِرة» علىٰ نوع النجس منها، و هو مشكل، و انصرافها إليه غير واضح بعد أعمّيّة الموضوع له.

مع أنّ السند مجهول «2» و مخلوط «3».

و الالتزام بمفاده بالنسبة إلىٰ حضرته عليه الصلاة و السلام، في غاية الإشكال في حدّ نفسه، مع أنّه لا يثبت عدم تنجيس النجس الماءَ القليل؛ لأنّ الملاقاة كانت في البئر، و هي لا تنجس، و بعد انقطاع الماء بالدلو لا ملاقاة حتّى تستلزم النجاسة، فلعلّ المعنى المصدريّ دخيل في ذلك شرعاً، فلا تغفل.

و منها: الطائفة الكثيرة التي مضمونها ما في «الفقيه» قال: سُئل الصادق (عليه السّلام) عن الماء الساكن يكون فيه الجيفة.

قال: «يتوضّأ من الجانب الآخر، و لا يتوضّأ من جانب الجيفة» «4».

قال: و أتى أهل البادية رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقالوا: يا رسول

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 416/ 1313، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 12.

(2) عبد الرحمن بن حمّاد الكوفي و أبو مريم الأنصاري لم يوثقا في كتب الرجال قال ابن الغضائري: عبد الرحمن بن حمّاد ضعيف.

معجم رجال الحديث 9: 293 و 322.

(3) لأنّه روى هذا الخبر بعينه، سعد عن موسى بن الحسن عن أبي القاسم عن عبد الرحمن بن حمّاد الكوفي في نسخة اخرىٰ، جامع الرواة 1: 449.

(4) الفقيه 1: 12/ 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 246

اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إنّ حياضنا هذه تردها السباع و الكلاب و البهائم.

فقال لهم رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه

و آله و سلّم): «لها ما أخذت أفواهها، و لكم سائر ذلك» «1».

و إطلاق هذه الطائفة، يورث طهارة القليل منها.

و يمكن دعوى ظهورها في الكثير البالغ أكراراً؛ لأنّه المتعارف في الحياض التي تردها هذه الحيوانات «2»، و في نفس هذه الأخبار ما يومئ إلىٰ خلاف مقصودهم؛ لأنّه في صحيحة صفوان بن مِهْران الجمّال قال: «و كم قدر الماء؟».

قال: إلىٰ نصف الساق، و إلى الركبة.

فقال: «توضّأ منه» «3».

فإنّه مضافاً إلىٰ دلالتها علىٰ تقسيم الماء إلى الماءين، تومئ إلىٰ أنّ الحياض كبيرة و ليست من قبيل حياضنا في دورنا، و لا أظنّ التزام القائل بطهارة القليل بدلالة مثلها علىٰ مقصوده.

و منها: ما رواه يونس عن بكّار بن أبي بكر، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحبّ في مكان قذر، ثمّ يدخله الحبّ.

قال: «يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ، ثمّ يدلك الكوز» «4».

______________________________

(1) الفقيه 1: 8/ 10.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 21.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

(4) الكافي 3: 12/ 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 247

و هي ربّما تدلّ على الانفعال؛ لأنّ الأمر بالصبّ على الكوز و الدلك، دليل علىٰ تنجّس ما في الحبّ به عرفاً، و تنجّسِ الكوز بالقذر الموجود في المحلّ، و لا معنىٰ للمراجعة إليهم (عليهم السّلام) في المسائل العاديّة.

و يمكن دعوى: أنّه ابتلي بذلك فأدخله، فقال (عليه السّلام) بلزوم الصبّ؛ لرفع الإشكال، و لزوم الدلك لئلّا يلزم بعد ذلك، فيعلم منه عدم تنجّس ماء الحبّ.

و يشهد لذلك

مضافاً إلىٰ قوله: «يدخله» قوله في نسخة اخرىٰ: «ثلاثة أكواز بذلك الكوز» «1» فإنّه عندئذٍ يتعيّن ظهوره في عدم تنجّسه، و لكن الرواية مجهولة السند و مختلطة، فليراجع.

و منها: معتبرة زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يُستقىٰ به الماء من البئر، هل يتوضّأ من ذلك الماء؟

قال: «لا بأس» «2».

و لا شبهة في ظهورها في حدّ ذاتها، في أنّ المشار إليه، الماء الخارج الممكن التوضّي به فعلًا، لا الداخل الخارج عن محلّ الابتلاء، و لا وجه لبناء الأصحاب علىٰ تخريب ما استدلّ به خصمهم على الطهارة «3»؛ فإنّه خالٍ عن الإنصاف، و لذلك الظهور التزم السيّد بطهارة شعر

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 6، جامع الأحاديث 2: 23، كتاب الطهارة، أبواب المياه، الباب 6، الحديث 13، الهامش 2.

(2) الكافي 3: 6/ 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 2.

(3) مستند الشيعة 1: 47.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 248

الخنزير، علىٰ ما نسب إليه «1».

و في بعض المآثير ما يدلّ علىٰ أنّ الفرض من السؤال، الانتفاع بماء البئر «2»، و لكنّه غير كافٍ لصرف هذا الظاهر؛ لإمكان الأسئلة الكثيرة جوانب الموضوع الواحد.

نعم، هي لا تدلّ علىٰ عدم تنجّس القليل بملاقاة عين النجس؛ لأنّ القطرة المتنجّسة بالشعر، ربّما لا تورث النجاسة، فلا دلالة لها علىٰ ما هو المقصود.

كما أنّ دعوى القطع بوقوع القطرة في كلّ دلو من الحبل، غير مسموعة، و العلم الإجماليّ في مثله لا ينفع، كما لا يخفى، فليس المفروض في السؤال وقوعها فيه حتّى ينتفع به الخصم، كما لا يخفى.

كما ليس المفروض اتصال الحبل بالماء في الدلو، بل المتعارف

خلافه.

و في الرواية احتمالات أُخر:

منها: أنّه سأل بقوله: «هل يتوضّأ من ذلك الماء» بما أنّه وقع في المقدّمات حرامٌ؛ و هو الانتفاع بالشعر، لا بما أنّه نجس «3».

و منها: أنّ في الإتيان بكلمة «ذلك» للبعيد، إشعاراً إلىٰ أنّ المشار

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 163، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 218، المسألة 19.

(2) الكافي 6: 258/ 3، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 3.

(3) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 162.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 249

إليه ما هو البعيد، و إلّا كان يقول: «هذا الماء».

و لا يخفىٰ ما فيهما.

و منها: مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد الهّٰ (عليه السّلام) في عجين عجن و خبز، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة.

قال: «لا بأس؛ أكلت النار ما فيه» «1».

و دعوىٰ: أنّها من أدلّة مطهّرية النار «2»، غير مسموعة، بل الذيل يفيد أنّ أجزاء الميتة قد احترقت بالنّار؛ أي أنّ النار أكلت ما في الماء من الميتة، لا أكلت ما في العجين من الماء.

و لكنّها مشكلة؛ لاحتمال كون الميتة طاهرة، مع إجمال «الماء» مع أنّ ما اشتهر في مرسلات ابن أبي عمير «3»، مورد البحث.

هذا مع أنّه لا يدلّ علىٰ عدم نجاسة الماء القليل بالميتة، بل غايته دلالته علىٰ عدم تنجّس المتنجّس العجين، و أجزاء المتنجّس الموجودة في العجين قد أكلتها النار، فلا تغفل.

و منها: الطائفة الواردة في المستعمل في الجنابة الناطقة بعدم الانفعال «4»، مع تعارف نجاسة بدن الجنب، خصوصاً مع ترك الاستفصال في جميع هذه الأخبار.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1304، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث

18.

(2) روضة المتقين 1: 70.

(3) اشتهر أنّه لا يروي و لا يرسل إلّا عمّن يوثق به، معجم رجال الحديث 1: 63.

(4) وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 250

و حملها علىٰ صورة عدم القذارة الخبثيّة «1»، في غاية الإشكال، و كذا حملها على استعماله في الحمّام «2»، فتكون من القليل المستثنىٰ بالأدلّة الخاصّة، فعليه يعلم عدم الانفعال، و هي تدلّ علىٰ تمام المقصود و المطلوب.

و منها: رواية الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في الرجل الجنب يغتسل، فينتضح من الماء في الإناء.

فقال: «لا بأس؛ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3».

و منها: رواية عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أغتسل في مغتسل يبال فيه، و يغتسل من الجنابة، فتقع في الإناء ما ينزو من الأرض.

فقال: «لا بأس به» «4».

و دعوىٰ: أنّه الحكم الحيثيّ، كدعوىٰ أنّ المتعارف التطهير قبل الاغتسال.

و مثلها دعوى: أنّ الأرض المبال عليها، غير الأرض التي ينزو منها الماء في الإناء «5».

و منها: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل هل

______________________________

(1) مرآة العقول 13: 46.

(2) نفس المصدر.

(3) الكافي 3: 13/ 7، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 5.

(4) الكافي 3: 14/ 8، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 7.

(5) مستند الشيعة 1: 47، جواهر الكلام 1: 129.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 251

يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب فيه، علىٰ أنّه يهوديّ؟

فقال: «نعم».

قلت: فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟

قال: «نعم» «1». و

الدلالة واضحة.

و توهّم: أنّها متعرّضة لصورة الشكّ، فاسد جدّاً؛ لأنّ قوله: «علىٰ أنّه يهوديّ» مرتبط بمفروض سؤاله؛ و هو «الرجل» و عندئذٍ يظهر أنّ مقصوده فرض كونه يهوديّاً، و قضيّة الجواب إمّا عدم نجاسة اليهوديّ، أو طهارة القليل، فلا يتمّ المطلوب، و تندرج الرواية في تلك المسألة.

و منها: الطائفة الواردة في ماء الحمّام «2»، فإنّها دالّة علىٰ عدم انفعال القليل، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة شمول الحكم لغير مورده، و لا سيّما بعد عدم اعتبار الكرّية في المادّة، و لا في المجموع.

و منها: الطائفة الواردة في ماء الاستنجاء «3»، الصريحة في عدم تنجّس الماء المستنجى به؛ لنفي البأس عن ملاقيه، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة عدم الانفعال مطلقاً.

و هكذا لا فرق بين ما كان الماء وارداً أو بالعكس؛ لعدم مساعدة فهم العرف لغير ذلك.

فبالجملة: لا بدّ من عدم الخلط بين الماء النجس، و بين ما لا يجوز

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(3) وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 252

استعماله في الشرب و بعض الاستعمالات، فلو كان الماء في الشريعة قابلًا للتنجّس، لكان هو ماء الاستنجاء؛ لأنّه لاقاه أنجس القذارات العرفيّة، بل خالطه أجزاؤه الصغيرة قهراً و قطعاً.

و منها: التعليل الوارد في ذيل ما رواه الصدوق في «العلل» عن الأحول، قال: دخلت علىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، فقال: «سل عمّا شئت» فارْتِجَت عليّ المسائل.

فقال: «سل، ما لك؟!».

فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي يستنجي به.

فقال: «لا بأس» فسكت،

فقال: «أ وَ تدري لم صار لا بأس به؟».

قلت: لا و اللّٰه جعلت فداك.

قال: «إنّ الماء أكثر من القذر» «1».

و هذا مضافاً إلىٰ كونه دليلًا علىٰ عدم تنجّسه واقعاً و ليس عفواً دليل علىٰ عدم انفعال الماء إلّا بالكثرة و الغلبة و القهر؛ و أشباهها الواردة في الطائفة الاولىٰ من المآثير، و لا يمكن تخصيصها بأدلّة الانفعال؛ لأنّ موردها داخل في هذه الكبرى، و هو أسوأ حالات اللّقاء مع النجس، و بذلك يثبت عموم دعوى الخصم في المسألة إذا تمّ سندها. و لكنّه مشكل من جهات شتّىٰ.

______________________________

(1) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2، مع اختلاف يسير.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 253

كما أنّه لو تمّ، يورث امتناع الجمع العرفيّ بين الطائفتين من الروايات؛ فإنّه لولاها يمكن الجمع العرفيّ بحمل المطلقات من هذه الطائفة على المقيّدات في الطائفة الآتية، و لكنّها تمنع من ذلك؛ لورودها في مورد القليل فالجمع المذكور يستلزم طرح هذه الرواية، فلا يكون جائزاً.

و منها: معتبرة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين، فإن غسلته في ماء جارٍ فمرّة واحدة» «1».

و «المِرْكَن»: «هي الإجَّانة التي تغسل فيها الثياب» قاله الجوهريّ «2».

و في «الأقرب»: «الإجَّانة إناء تغسل فيه الثياب، و ما حول الغراس شبه الأحواض» «3».

و في «المنجد»: «الإجّانة جرّة كبيرة» «4».

فكونها موضوعة للإناء الصغير، غير ثابت، مع ما قيل: «إنّ الظروف القديمة المهيّأة لحفظ المياه، كانت كبيرة؛ لما قد يتّفق الاحتياج إلى الماء، و ما كان من المطر أثر، و لا من غيره خبر» «5» فهو من المطلقات.

إلّا أنّ

انصرافها إلىٰ أنّه كان أقلّ من الكرّ، غير بعيد إنصافاً، و إن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(2) الصحاح 5: 2126.

(3) أقرب الموارد 1: 5.

(4) المنجد: 4.

(5) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 41.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 254

كان للمنع وجه.

و قد يشكل الرواية؛ لأجل عدم التزام الخصم بمفادها من التفصيل.

و منها: غير ذلك من المآثير المشابهة لها في السند و الدلالة «1»، و ما ذكرناها جلّها لولا كلّها.

التحقيق في تنجّس القليل بالملاقاة

أقول: لا شبهة في أنّ هذه المسألة، كانت من قديم الأيّام موردَ الكلام، و من كان يقول باعتبار حدٍّ في الماء، فلا بدّ أن يريد منه الأثر المخصوص، و لا أثر له- علىٰ ما استقصينا إلّا الطهارة و النجاسة، فإذن يعلم أنّ الجهة المبحوث عنها ليست حديثة، و ليست أمراً مغفولًا عنها، و لا غير مبتلى بها في كلّ يوم مرّات عديدة، خصوصاً في تلك الأمصار و الأعصار، فهل يعقل دعوى أنّ مثل هذه الجهة كانت كذلك، و مع هذا خفي علىٰ علماء الشيعة، و رواة الشريعة، و أرباب الفتوىٰ، و أصحاب الحديث و الآراء؟! فلو كان مذهب الإماميّة ذاهباً إلى الطهارة، لكانت القصّة معلومة، و هكذا النجاسة، فلا تمسّ الحاجة في مثلها إلى الرواية و الخبر، سواء كان مفادها الطهارة، أو النجاسة، بل لا بدّ من المراجعة إلىٰ تأريخ المسألة، و فتوى الصحابة في رسائلهم و كتبهم، و ما يستفاد من بنائهم و مرامهم.

و لا شبهة عند كلّ أحد، في أنّ الواصل إلينا منهم هي النجاسة، و لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب

الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 255

يعهد من أحد منّا إلّا من هو شاذّ من المتأخّرين و القدماء، كابن أبي عقيل، و قد مرّت الشبهة في النسبة «1».

و هذا أمر يصدّقه الاغتراس، و يجد كلّ عاقل أنّ معنى النجاسات هو الاحتراز عن المتنجّسات، و بناء العرف على الاستقذار من الملاقيات، من غير فرق بين الجامدات و المائعات، بل هو في الثواني أكثر.

و ذهاب المخالفين إلىٰ تنجّس القليل في الجملة إلّا بعضاً منهم يشهد علىٰ أنّ المسألة كانت من الصدر الأوّل معلومةً، و أنّ علماء العامّة يتمسّكون في آرائهم بالكتاب، و السنّة النبويّة، و بعض الأُمور المشابهة لها، و لا معنى لاختلافهم في حدّ الكرّ اختلافاً فاحشاً كثيراً مع عدم بلوغ شي ء إليهم من صاحب الشريعة.

و لعمري، إنّ التدبّر في المسألة و الفحص حولها، يمنع عن توهّم طهارة الماء القليل، و لا يجوز لأحد البحث حولها؛ فإنّه لا يكون عندي إلّا عن البناء علىٰ إيجاد الاشتباه، و الميل إلى التفرّد في الرأي و الفتوىٰ.

و لا يخفى الفرق بين الشبهات العلميّة المذكورة لتشحيذ الأذهان، و بين اختلاط الأباطيل بالحقّ العيان، و لا ينحلّ لي هذه المعضلة؛ و هي رضا شخص واحد بمخالفة الطوائف الكثيرة من الروايات البالغة علىٰ ما قيل إلىٰ مئات «2»، للعمل بخبر واحد أو أخبار، مع عدم وضوح الدلالة وجداناً و إنصافاً، و قصور الإسناد.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 232.

(2) مهذّب الأحكام 1: 168.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 256

و بناءً علىٰ ما ذكرناه إلىٰ هنا تبيّن: أنّ الأدلّة من حيث السند و الدلالة

قاصرة، و لا حاجة إلى الجمع و الترجيح.

توهّم دلالة المآثير علىٰ أنّ للطهارة مراتب و دفعه

و لو فرضنا تماميّة السند و الدلالة، فقد يقال: بأنّ قضيّة الجمع هو القول بمراتب الطهارة «1»؛ و ذلك كما في ماء البئر، فما يدلّ على الطهارة، مثل ما يدلّ هناك عليها، و ما يدلّ على النجاسة، مثل ما يدلّ على النجاسة هناك، فالأوامر الواردة في لزوم الغسل، كالأوامر الواردة في لزوم النزح، و الأخبار الواردة للحدّ الذي لا يتنجّس معه الماء، كالواردة لمقادير النزح لرفع القذارة العرفيّة في ماء البئر.

و أنت خبير: بأنّ المآثير الدالّة على الانفعال، لا تنحصر بتلك الأوامر؛ ضرورة أنّها لا تفي لإثبات النجاسة إلّا استظهاراً، فيمكن حملها على الطهارة لظهور أقوى، بخلاف ما دلّ علىٰ نجاسته؛ فإنّ مآثير الكرّ تدلّ على النجاسة.

و لو كان في مآثير البئر ما يدلّ على النجاسة، فهو معارض مع ما يدلّ علىٰ عدمها، و لا يمكن الجمع العرفيّ بين هذه الطوائف؛ بحمل الدالّ على النجاسة على القذارة العرفيّة، و الدالِّ علىٰ عدم النجاسة علىٰ عدم تلك المرتبة من القذارة، أو عدمها مطلقاً، فلا تغفل

.

______________________________

(1) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 106.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 257

الأمر الثالث: في أدلّة تنجّس القليل بالملاقاة
اشارة

حجّة المشهور مضافاً إلى الإجماعات الكثيرة «1»، و مفروغيّة المسألة في كلمات جمع «2»، و الشهرات المتحقّقة في كلّ عصر، و عدم احتياجهم إلى الأدلّة اللفظيّة كما أُشير إليه آنفاً الطوائفُ المختلفة من المآثير و الأخبار.

و قد استقصاها فقيه العصور المتأخّرة صاحب «الجواهر» عليه الرحمة «3»، و أنهاها الآخرون، إلىٰ أن ادّعي أنّها بلغت ثلاثمائة رواية «4».

و لو أمكن الخدشة في كثير منها سنداً و دلالة؛ لأجل أنّ الشهرة ليست جابرة، أو لا تكون جابرة في خصوص المسألة.

و لأنّ كثيراً منها لأجل النهي عن الشرب

و الاغتسال و التوضّي توهّم دلالتها على النجاسة، مع أنّها أعمّ كما هو الظاهر، بل الروايات الصريحة في الترخيص مع الضرورة بعد النهي عن التوضّي قرينة علىٰ أنّ النواهي في غيرها ليست كاشفة عن النجاسة.

و لأنّ حجّية مفهوم الشرط و القيد ممنوعة، كما تقرّر في الأُصول «5».

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 105، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 141.

(2) الوسيلة: 73، شرائع الإسلام 1: 4، الدروس الشرعيّة 1: 118.

(3) جواهر الكلام 1: 106 116.

(4) لاحظ مهذّب الأحكام 1: 168.

(5) تحريرات في الأُصول 5: 21 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 258

و لأنّ أخبار النجاسة، توافق مذهب جماعة من العامّة، كما مضى «1».

و لأنّ القذارة العرفيّة منهيّ عنها، و لكنّها غير النجاسة الشرعيّة، فربّما تكون الروايات متعرّضة للأُولىٰ، دون الثانية.

و لأنّ القول بالنجاسة، يستلزم الحرج و الضيق، و قد ورد في الأخبار «2» التمسّك بالآية لعدم تشريع الحكم الحرجيّ بالذات، و لا ينحصر دلالتها علىٰ تضييق المطلقات و تقييدها.

و لأنّه يستلزم طرح ما يدلّ علىٰ طهارة القليل، كما عرفت.

و يستلزم الابتلاء بأخبار الكرّ مع اضطرابها، فهي بذاتها تدلّ علىٰ أنّ مسألة الكرّ، مبنيّة على التنزّهات العرفيّة بمراتبها، أو علىٰ أنّ ما لا يتغيّر من الماء هو البالغ كرّاً.

و يستلزم التفصيل بين المياه القليلة، فيكون ماء الغسالة طاهراً، و هكذا ماء الاستنجاء و الحمّام.

و يستلزم الوسواس؛ لوقوع الناس فيما لا يرضى به الشريعة السهلة السمحة.

و يستلزم القول بخلاف إطلاقات الكتاب، الدالّة علىٰ أنّ كلّ ماء طاهر مطهّر؛ من غير فرق بين قليله و كثيره «3».

هذا مع أنّ التطهير بالماء الوارد على المتنجّس، غير ممكن،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 230 231.

(2) تقدّم في الصفحة 250.

(3) الأنفال (8): 11،

الفرقان (25): 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 259

و الالتزامَ بعدم لزوم طهارته على الإطلاق مشكل، و فرار عن الشبهة.

فلو أمكن جميع ذلك، لما يمكن المصير إلى القول بالطهارة؛ لأنّ سيرة المتشرّعة المتلقّاة يداً بيد من الأسلاف، ليست منشؤها المآثير و الروايات، فهي على النجاسة كهي علىٰ أنّ صلاة الصبح ركعتان و هكذا، و هذا أمر يعرفه كلّ صغير و كبير، و من البديهيّات الملحقة بالقطعيّات.

كلام المحدث الكاشاني و الجواب عنه

و العجب منه (قدّس سرّه)!! حيث قال في «الوافي»: «و ممّا لا شكّ فيه، أنّ ذلك لو كان شرطاً، لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة، مكّةَ و المدينةَ المشرّفتين؛ إذ لا يكثر فيها المياه الجارية، و لا الراكدة الكثيرة، و من أوّل عصر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ آخر الصحابة، لم ينقل واقعة في الطهارة، و لا سؤال عن كيفيّة حفظ الماء عن النجاسات، و كانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان و الإماء الذين لا يتحرّزون عن النجاسات، بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع» انتهىٰ «1».

و أنت خبير: بأنّ المشهور بين معاصري الصحابة و الخلفاء، القول بالتحديد في المياه، و هل هذا إلّا لذهابهم إلىٰ تنجّسه كما صرّح به أبناؤهم؟! و لو كان الأمر كما توهّمه، لمّا كان وجه لاختلاف فقهاء تلك العصور في هذه المسألة مع قرب عهدهم، و قد مضى أنّ عبد اللّٰه بن عبّاس المتوفّىٰ

______________________________

(1) الوافي 6: 20.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 260

سنة سبع و ثمانين، و عبد اللّٰه بن عمر المتوفّىٰ سنة أربع و سبعين، و أبا هريرة المتوفّىٰ سنة سبع و خمسين، و هكذا الفقهاء المعاصرين للسجّاد عليه الصلاة و السلام، ذهبوا إلىٰ نجاسة القليل

«1».

و توهّم أنّ ما ذكروه للتحديد في أمر آخر غير النجاسة، فاسد و إن احتملناه؛ لتنصيص الفخر في التفسير: «بأنّ ابن عمر قال: إذا كان الماء أربعين قلّة، لم ينجّسه شي ء» و عن سعيد بن جبير المتوفّىٰ سنة خمس و تسعين: «أنّ الراكد إذا كان قدر ثلاث قلال، لم ينجّسه شي ء» «2» .. و هكذا، فعليه يعلم خلاف ما توهّمه.

مع أنّ الأحكام الشرعيّة تدريجية الإبلاغ، فليكن القول بوجوب الاجتناب عن المياه القليلة في العصر المتأخّر عن العصر الأوّل، فعليه لا وجه لما ظنّه، فافهم و تبصّر.

تذنيب: في حكم التعارض بين روايات نجاسة القليل و طهارته

لو سلّمنا دلالة عدّة من الروايات على الطهارة، فلا شبهة في دلالة الأكثر منها على النجاسة، و لا يمكن إنكار ذلك بعد المراجعة إليها، فيلزم التعارض.

فإن قلنا: بأنّ الشهرة مورثة للوهن في سند الطائفة الأُولىٰ، فيتميّز الحجّة عن اللاحجّة.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 230.

(2) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 24.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 261

و إن قلنا: بأنّها لا تورث شيئاً، أو لأنّ المشهور من باب الجمع بين الأخبار قالوا بالنجاسة، فتستقرّ المعارضة، فتكون الشهرة الفتوائية مرجّحة.

مع أنّ المعروف في عصر هذه المآثير، عدم انفعال الماء القليل، فتكون تلك الطائفة موافقة للعامّة فتطرح؛ إمّا لأجل المعارضة كما هو المشهور، أو لتميّز الحجّة عن اللاحجّة، كما هو الحقّ عندي.

نعم، قضيّة إطلاق الكتاب مطهّرية كلّ ماء، و هذا يستلزم عرفاً عدم تنجّسه، و الالتزام به مع كونه مطهّراً مشكل، فيقع التهافت بين المرجّحات و المميّزات. و لكن قد عرفت عدم دلالة الكتاب على العموم المذكور «1»، فتأمّل.

و قد يشكل حملها على التقيّة؛ لأجل إمكان التوصّل إلى الحكم الواقعيّ، معلّلًا بذهاب جمع من قدمائهم إلىٰ ذلك، كما عرفت.

و لكنّه مدفوع:

بأنّ المناط في التقيّة، ليس فتوى فقيه العصر، بل المناط اشتهار الحكم بين الناس، و التزام الخلفاء به، و هذا هو الموجب للاتّقاء، و لا يشترط إمكان التفصي؛ لأنّ الخوف من الظالم، يوجد مع الاحتمال الضعيف، و لا سيّما في تلك المواقف الحرجة، و خصوصاً رعاية التقيّة في حقّهم (عليهم السّلام) ربّما كانت أوجب من غيرهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 22 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 262

الأمر الرابع: في التفصيل بين ملاقاة النجس للقليل و المتنجّس

حكي عن العلّامة الخراسانيّ (رحمه اللّٰه)، التفصيل في الماء القليل بين النجاسات و المتنجّسات؛ و قال بعدم الانفعال في الثواني، دون الأوائل «1». و هو الوحيد في هذا القول البعيد عن الأفهام.

و ما استدلّ به، قصور الأدلّة عن إفادة عموم الحكم؛ ضرورة أنّ مفهوم أدلّة الكرّ إيجاب جزئيّ، و القدر المتيقّن منه عين النجس، بل كلمة «شي ء» فيها ظاهرة في الأعيان النجسة، كما قال به المشهور في كلمة «وجوه النجس» «2» في رواية «تحف العقول» «3».

و دعوىٰ: أنّ المنطوق مفاده سلب العموم، لا العموم المسلوب، فيكون مفاد المفهوم أيضاً إيجاب العموم، لا الإيجاب الجزئيّ، غير مسموعة؛ لأنّه و إن كان كذلك في جانب المنطوق، و لكنّه علىٰ سبيل الإجمال، لا التفصيل؛ بمعنى أنّ مفاده منطوقاً «أنّ الماء القليل ينجّسه كلّ شي ء، و كلّ واحد من النجاسات» لا «أنّه ينجّسه هذا و ذاك ..» إلىٰ آخر النجاسات، فإنّه باطل قطعاً، فإذا كان مفاده في المنطوق ذلك، فالسلب المرتبط بالعامّ الاستغراقيّ، ظاهر عرفاً في الإيجاب الجزئيّ.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(2) جواهر الكلام 22: 8 9، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 2/ السطر 25، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 3/ السطر 9.

(3) تحف العقول: 333.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص:

263

هذا، و لكنّه لو تمّ ما ظنّه، يلزم القول بأنّ القدر المتيقّن هي النجاسات العرفيّة و القذارات الأصليّة، دون النجاسات الجعليّة الملتحقة بها في الاعتبار و الشرع.

هذا مع أنّ المفهوم هو «هذا الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ، ليس بأن لا ينجّسه شي ء» و لعلّ ظهورها في عموم السلب أقوى، كما لا يخفى.

و ربّما يدلّ عليه معتبر زرارة في مسألة الحبل من شعر الخنزير الماضية «1»؛ فإنّ المتعارف تقاطر الماء منه في الدلو، فعلى هذا يتعيّن التفصيل.

و لو توهّم دلالة جمع من المآثير، علىٰ عدم الفرق بين النجس و المتنجّس «2» كموثّقة سَماعة «3»، و معتبر شهاب بن عبد ربّه «4»، و صحيحة أبي بصير «5» .. و غير ذلك «6»؛ لاشتمالها علىٰ لزوم الاجتناب عن الماء

______________________________

(1) الكافي 3: 6/ 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 2.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 147.

(3) تهذيب الأحكام 1: 37/ 99، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 9.

(4) الكافي 3: 11/ 3، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 3.

(5) الكافي 3: 11/ 1، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 4.

(6) تهذيب الأحكام 1: 39/ 105، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 264

الملاقي مع القذر، و هو أعمّ من العين القذرة فلا بدّ من التقييد؛ لأنّها بالإطلاق، مع أنّ المنصرف منها هي الأعيان، فلا تغفل.

فبالجملة: القول بالتفصيل حسب الصناعة قويّ.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ

معقد إجماع المجمعين مطلق؛ لأنّ كثرة الابتلاء بالمسألة تلجئ الأُمّة إلى السؤال، و تورث وجوب التنبيه على العلماء و الفقهاء، فمن سكوتهم و عدم تصريحاتهم بالفرق، يعلم قطعاً عدم الفرق «1».

نعم لو قلنا: بعدم تماميّة الإجماع التعبّدي في المقام، فلك دعوى إعراضهم عن هذه الرواية؛ لظهورها في التفصيل.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ كفاية عمل السيّد (رحمه اللّٰه) بها في عدم توجّه الوهن إليها «2»، مع أنّ مجرّد عدم العمل لا يورث الوهن؛ ضرورة أنّ من المحتمل القويّ استظهارهم منها صورة الملاقاة مع العين، كما صرّح به الشيخ (رحمه اللّٰه) «3».

هذا، و قد عرفت عدم احتياج المسائل المبتلىٰ بها في كلّ ساعة مراراً إلى الرواية، بل تلك المسائل من المتلقّاة عن الآباء و الجدّات إلىٰ عصر الأئمّة الهداة عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام، فلا ينبغي الخلط بين المقام، و سائر المسائل و الأحكام.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 218، المسألة 19.

(3) تهذيب الأحكام 1: 409، ذيل الحديث 1289.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 265

الأمر الخامس: في تنجيس ما لا يدرك و لا يمكن التحرز عنه
اشارة

قال الشيخ في «الاستبصار» بعد ذكر صحيحة عليّ بن جعفر الماضية، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) «1»:

«فالوجه في هذا الخبر، أن نحمله علىٰ أنّه إذا كان الدم مثل رأس الإبرة التي لا تحسّ و لا تدرك، فإنّ مثل ذلك معفوّ عنه» «2».

و في «المبسوط» بعد اختيار تنجس القليل بالنجاسات، قال:

«إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه، مثل رؤوس الإبر من الدم و غيره، فإنّه معفوّ عنه؛ لأنّه لا يمكن التحرّز عنه» انتهىٰ «3».

و أنت خبير: بأنّ مصبّ البحث هنا، حول تنجّس الماء القليل بالنجس، فلا بدّ من كون الملاقي معه، مفروغَ النجاسة، لا المشكوك نجاسته بالشكّ

الحكميّ أو الموضوعيّ، و ظاهره (قدّس سرّه) معفويّة الدّم و غيره، لا الماء القليل، و هذا في الحقيقة يرجع إلىٰ بحث آخر في مباحث النجاسات.

و يشهد لذلك تجاوزه عن مورد النصّ، و تعدّيه إلىٰ غيره، و يؤيّده تعليله بأنّه الحرج و المشقّة، فكأنّه كان يرىٰ نجاسة كلّ شي ء

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 240.

(2) الاستبصار 1: 23/ 57.

(3) المبسوط 1: 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 266

بالأجزاء الصغيرة المتصاعدة من العَذِرات الموجودة في شوارع النجف و أزقّته.

فعلى هذا، لو تمّ دلالة الصحيحة علىٰ عدم التنجّس، فهي غير معمول بها، و الإجماع علىٰ خلافها، فتأمّل جدّاً.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 266

هذا مع أنّك قد عرفت حالها «1»، و المحتملات الكثيرة فيها، مع اختلاف نسخها، و الرواية التي شأنها استدلال المتخاصمين من الجوانب الثلاثة أو الأربعة بها، و كلّ يدّعي ظهورها في مرامه، ممّا يشكل الخروج عنها بدعوى الظهور المستقرّ لها، كما لا يخفىٰ.

ارادة العلم الإجمالي من الصحيحة لا التفصيلي

و لكنّه بعد التدبّر في تلك الصحيحة، يعلم أنّ السؤال ظاهر في العلم الإجماليّ بإصابة الأجزاء الصغار للإناء؛ لأنّه مع العلم التفصيليّ بإصابة نفس الإناء، لا معنىٰ لسؤال مثل ابن جعفر؛ لوضوح المسألة، و عدم الحاجة إلىٰ فرضها، مع عدم مناسبة الجواب من التفصيل لذلك، كما هو الظاهر.

و أمّا العلم التفصيليّ بإصابة الدم بما في الإناء، فهو غير تامّ؛ لعدم صحّة إطلاق الإناء بما فيه، و لذلك فرض السائل في ذيل الرواية فيما وقعت القطرة في الإناء صورةَ المسألة على الوجه الآخر، فعليه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة

240 241.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 267

يستظهر بعد المراجعة إلى اللّوازم العاديّة في تقطّر الأجزاء الصغار المنتشرة في الهواء و الأرض، العلمُ الإجمالي، كما أفاده الشيخ الأعظم في اشتغال «الرسائل» «1».

و أمّا إضافة الجملة الأُخرىٰ إلى السؤال كما في «الوسائل» الموجودة عندنا و هو قوله: «و لم يستبن ذلك في الماء» «2» فهي مخدوشة، مع أنّه لا يناسبها الجواب أيضاً عرفاً، فلو قيل بناءً عليه يلزم الاجتناب؛ للعلم الإجماليّ.

و توهّم: أنّه خارج عن محلّ الابتلاء، فاسد كما عن الشيخ «3»؛ ضرورة أنّه في محلّه؛ للعلم الإجماليّ بعدم صحّة السجدة على الإناء، أو الوضوء بما في الإناء. مع أنّ شرطيّة محلّ الابتلاء لتنجيز العلم، ممنوعة.

نعم، دعوى قيام السيرة العمليّة علىٰ عدم الاعتناء في هذه المواقف بهذه المشتبهات، قويّة جدّاً، فتكون الرواية مؤيّدة لها.

و يمكن دعوى دلالتها علىٰ عدم نجاسة الأجزاء غير المحسوسة من النجاسة، و أنّ الأمر بالتوضّي عند عدم الاستبانة، كاشف عن طهارة الماء؛ لعدم نجاسة تلك الأجزاء، فافهم و تدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم اختلاف المعنى مع اختلاف قراءة كلمة «شي ء» في الرواية نصباً و رفعاً «4»، و لكنّه غير تامّ.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 421.

(2) لاحظ ما تقدّم في الصفحة 240، الهامش 2.

(3) نفس المصدر.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 268

الأمر السادس: في التفصيل بين القليل المتصل بالكر و غيره

حكي عن صاحب «المعالم» التفصيل في الماء القليل بين ما كان متّصلًا بالكرّ، و ما كان بالغاً حدّ الكرّ، فإنّ الثاني لا يتنجّس، بخلاف الأوّل؛ ضرورة أنّه ليس من المياه المعتصمة، كالمطر و البئر و غيرهما «1».

و غاية ما يتوهّم لاعتصامه، توهّم أنّه بمجرّد الاتصال، يكون متّحداً في الاسم مع الكثير، و هذا

واضح البطلان عرفاً، بل و عقلًا؛ لأنّ المراد من «الماء البالغ كرّاً»، ليس طبيعته، و إلّا فلا ينجس ماء أصلًا، و لا صنفه، بل المقصود هو الشخص المورد للملاقاة، فلا بدّ من الوحدة العرفيّة حتّى يقال: «هذا ماء بالغ حد الكرّ» فلا ينجس.

و إذا فرضنا القليل المتّصل بالكثير، بعيداً عنه بفرسخ، أو أقلّ إلىٰ أن يكون في جنبه، و لكنّه في الإناء، و يجري الماء من المخزن فيه، فإنّه لا يعدّ واحداً قطعاً مع ما في المخزن، سواء كان عالياً، أو مساوياً، أو دانياً و يخرج الماء بقوّة كهربائيّة إلى الفوق، فعليه إذا لاقاه النجس ينجس؛ لعدم بلوغه كرّاً.

و لكنّه مع هذا التقريب الذي سمعته منّي، يمكن دعوى عدم انفعاله، لا لاتحاده مع الكثير؛ فإنّه واضح البطلان، بل لأنّ المستفاد من أدلّة ماء

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 149.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 269

الحمّام «1»، و قوله هناك: إذا كانت «له مادّة» أنّ المادّة أعمّ من مادّة البئر، و يتمّ حينئذٍ التمسّك بصحيحة ابن بَزيع «2»، فالقليل المتّصل بالكثير معتصم؛ لاتصاله بالمعتصم.

نعم، عندئذٍ لا بدّ من كون الماء الكثير كرّاً، للزوم سراية النجاسة إليه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المثال المفروض من تلك الجهة كالحمّام، فلو أمكن الالتزام هناك بعدم اعتبار الكرّية مطلقاً أمكن هناك. هذا فيما كان الماء يجري من المخزن في الإناء.

و إذا كان الماء راكداً، و موجوداً في الأواني المختلفة، المتّصلة بالثقُب الموجودة فيها، فالظاهر أنّه ينجس الماء بالملاقاة؛ لاختلاف المياه عنواناً، و عدم كون أحدها مادّة للآخر؛ ضرورة عدم صدق «هذا الماء كرّ» مشيراً إلىٰ ما في أحد الإناءين و الإناء الآخر في محلّ بعيد منه، و صدق «هذه

المياه كرّ» لا يكفي، و إلّا يلزم عدم وجود الماء القليل بالضرورة، فليتدبّر.

الأمر السابع: في نفي الفرق بين الوارد و المورود عليه
اشارة

قال السيّد (رحمه اللّٰه) في «الناصريّات» في المسألة الثالثة: «و لا فرق بين ورود الماء على النجاسة، و بين ورود النجاسة على الماء، و هذه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 270

المسألة لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً، و الشافعيّ يفرّق بين ورود الماء على النجاسة، و ورودها عليه، فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة.

و يقوى في نفسي عاجلًا إلىٰ أن يقع التأمّل لذلك، صحّةُ ما ذهب إليه الشافعيّ؛ و الوجه فيه أنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة، لأدّى ذلك إلىٰ أنّ الثوب لا يطهر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه، و ذلك يشقّ، فدلّ علىٰ أنّ الماء إذا ورد على النجاسة، لا يعتبر فيه القلّة و الكثرة، كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه» «1» انتهىٰ.

و حكي «2» موافقة الحلّي له، و قال في ذيل المسألة: «إنّه الموافق لأصل المذهب و فتاوى الأصحاب» «3» انتهىٰ.

و لكنّه غير ظاهر؛ لعدم إمكان اطلاع الحلّي (رحمه اللّٰه) علىٰ ما خفي على السيّد، بعد تصريحه بعدم عرفانه نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً.

فبالجملة: في المقام مسائل؛ مسألة طهارة الغسالة، و مسألة كيفيّة تطهير المتنجّس بالماء القليل، و سيأتي حكمهما «4»، و مسألة اعتصام السافل بالعالي،

و تقوّي العالي بالسافل، و قد مضى حكمها «5»، و مسألة

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118، السرائر 1: 181.

(3) السرائر 1: 181.

(4) يأتي في الجزء الثاني: 98 و ما بعدها.

(5) تقدّم في الصفحة 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 271

ورود الماء على النجس و بالعكس، و هو المقصود هنا بأن يقال: لو ورد النجس في الماء القليل فهو ينجس، دون عكسه؛ بأن ورد الماء على النجس.

و لكن هنا أيضاً مسألتان:

أُولاهما: ما إذا ورد الماء على النجس و انفصل عنه.

و ثانيتهما: ما إذا لم ينفصل.

فإنّه ربّما يمكن القول بالنجاسة في الثاني، و إن قيل بالطهارة في الفرض الأوّل؛ و ذلك لأنّ الملاقاة المورثة للنجاسة أعمّ من المعنى المصدريّ و حاصله، فليتدبّر.

و البحث حول عبارة السيّد (رحمه اللّٰه) لا يرجع إلىٰ محصّل، و ربّما تكون العبارة الواصلة منه، ظاهرةً في المسألة الأخيرة، و يكون ذيلها دليلًا علىٰ منع الكبرى؛ لأنّ الالتزام بتلك الكبرى يؤدّي إلى المشقّة.

و الذي يمكن أن يكون دليلًا للفرق، قصور أدلّة تنجيس النجاسات أوّلًا.

و ظهور الموارد الخاصّة في كون المدار على اللّقاء من قبل النجاسة، لا العكس، ثانياً.

و إطلاق النبويّ الشاهد على أنّ جميع المياه لا ينجّسه شي ء «1»، إلّا الماء القليل الثابت بمفهوم أخبار الكرّ «2»، و هو في حكم الموجبة الجزئيّة ثالثاً، و مجرّد الاستبعاد غير كافٍ؛ للزومه في الماء المستنجى

______________________________

(1) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 272

به و الحمّام أيضاً.

و أنت

خبير: بأنّ التفصيل المستبعد في أنظار المتشرّعة، يحتاج إلى النصوص الخاصّة، كالموردين المشار إليهما، و الالتزام هناك لا يورث قرب التفصيل هنا، كما هو الواضح.

مع أنّ الفرق بين الوارد و المورود، بعد أنّ العرف لا يدرك إلّا دخالة خصوصيّة اللّقاء فقط، في غاية المنع.

كلام الوالد المحقق و الجواب عنه

و عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: أنّ قضيّة الصناعة عدم الفرق؛ لأنّ العامّ الأُصوليّ و الإطلاق الأحواليّ الثابت في منطوق أخبار الكرّ، لا ينتفي في مفهومها بالمرّة، بل الاستيعاب المستفاد من النكرة في سياق النفي في المنطوق ينتفي، دون الإطلاق الأحواليّ، فيكون المفهوم دليلًا في مورد القدر المتيقّن علىٰ عدم الفرق بين الوارد و المورود «1».

و فيه: أنّه إن أُريد أنّ مقدّمات الحكمة في المنطوق، تكفي عن المقدّمات في المفهوم، فهو في محلّ المنع؛ لأنّ المفهوم قضيّة أُخرى.

و إن أُريد الملازمة العرفيّة بين المقدّمتين، أو تماميّة المقدّمات في المفهوم أيضاً، فهو يحتاج إلى الدليل، و بعد الإهمال في العامّ الأُصوليّ، يشكل ذلك في الأحواليّ، كما لا يخفى.

هذا خصوصاً علىٰ مذهبه؛ من عدم الاحتياج إلى المقدّمات في

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 19 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 273

العمومات اللفظيّة، و منها النكرة في سياق النفي، فإذن يلزم الالتزام بالإهمال؛ لأنّ انتفاء الأفراديّ يستتبع الانتفاء الأحواليّ قهراً، فلا تغفل.

نعم، إطلاق معقد الإجماع لما عرفت، دليل علىٰ بطلان التفصيل، إلّا أنّ تماميّة أصل الإجماع في المسألة، ممنوعة كما عرفت «1».

الأمر الثامن: في المراد من «القليل» و «الكثير» و حدّهما
اشارة

قد مضى: أنّ الذي عليه المسلمون إلّا من شذّ، انفعال الماء القليل في الجملة «2». و الذي هو المهمّ بالبحث؛ هو أنّ المراد من «القليل» و «الكثير» ما هو، و أنّ حدّ القلّة و الكثرة بالكمّ المتّصل، أو المنفصل، و أيّ شي ء هو؟

أقول: لا شبهة في أنّ الماء، ذو الوحدة العرفيّة الاتصاليّة القابلة للانقسام إلى القسمة بالوزن، و المساحة و هي الكيل، و إنّما البحث حول أنّ الشرع المقدّس، عيّن بالتعيين الشرعيّ اللّازم رعايته حدّا، أو لم يعيّن، بل أوكل

الأمر إلى العرف، فيكون المدار على القلّة و الكثرة بنظرهم، و تكون تصرّفات الشريعة من باب ذكر المصاديق للمعنى الكلّي المعتبر؛ و هو أصل الحدّ، و أنّه يعتبر كثرةٌ ما، و مقدارٌ ما في عدم الانفعال، قبال من ينكر أصل اعتبار الحدّ، كمالك و داود و أمثالهم ممّن مضى «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 232 233.

(2) تقدّم في الصفحة 254.

(3) تقدّم في الصفحة 230.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 274

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك، و استكشاف الحدّ الشرعيّ فرضاً، يقع البحث في الجهات الأُخر من التحديدات المرويّة في الأخبار، الواصلة إلينا من حملة الدين، و أُولي الأمر صلوات اللّٰه تعالىٰ عليهم.

الجهة الاولىٰ: في أنّ المدار في تحديد الكثير هو العرف
اشارة

قد مضى: أنّ ابن سيرين و مسروق، ذهبا إلىٰ أنّ الذي ينفعل هو القليل، و الذي لا ينفعل هو الكثير، و لم يعيّنا حدّا «1».

و هذا هو الحكم الذي يصدّقه الوجدان و العرف بالضرورة؛ لأنّ التحديدات في المسائل الاغتراسيّة، ترجع إلى الإشكالات الكثيرة، بخلاف ما إذا كان الأمر بيد العرف فإنّه تارة يرىٰ أنّ القطرة من البول في الأقلّ من الكرّ بمثقال لا تورث النجاسة، و العَذِرة الواقعة في الأكثر منه تورث القذارة، و هكذا.

و أبواب النجاسات و الطهارات، مبنيّة على الاتساعات الشرعيّة و العفو في كثير من المواقف الموجبة لوقوع الناس في المشقّات، و الحرج، و اختلال النظام.

فعلى هذا، الذي يعرفه العرف و يصدّقه الذوق، أنّ المياه مختلفة في الاستقذار بالملاقيات، و أنّ الملاقيات متفاوتة في التأثير، إلّا أنّه ليس حسبما مرّ المدار علىٰ عدم حصول القذارة العرفيّة من الماء الملاقي للعين القذرة؛ لأنّه يرجع إلى التفصيل في المياه و النجاسات،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 275

و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به؛ حسب ما يؤدي إليه النظر، و يدلّ عليه الأثر.

بل المدار على الكثرة العرفيّة القريبة من المصاديق المعيّنة في المآثير و الروايات حسب الأوزان و الأكيال. و تلك الحدود المشار إليها في الأخبار، متسامح فيها؛ لأنّ المناط هي الكثرة الجامعة لها، و المشتركة فيها.

و غير خفيّ: أنّ هذا المطلب لو تمّ، يرتفع به تعارض المآثير، و اختلاف التحديدات، و الإشكالات غير القابلة للانحلال، حسب ما يؤدّي إليه نظر العرف في الجمع بين الروايات، و كأنّه حدّ وسط بين القول بانفعال الماء القليل، و بين نفي الماء الكثير الشرعيّ، و لا يكون خرقاً للإجماع، إلّا أنّه ليس من الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم بالضرورة، بعد الاختلاف الكثير الناشئ عن المآثير الواصلة، فالمناط هو ما يؤدّي إليه النظر في الجمع بين شتات المآثير و الروايات.

فتحصّل: أنّ دعوى حكم العقل بإيجاب التحديد الشرعيّ لئلّا يلزم الحيرة على المكلّفين في معنى «القلّة» و «الكثرة» فاسدة جدّاً.

و تعيين الحدّ في مفهوم «الإقامة» في السفر بالعشرة أيّام، لا يورث شيئاً؛ ضرورة أنّ كثيراً من العناوين المأخوذة في الأدلّة، مختلفة الصدق حسب الأنظار، و أيّ عنوان أعظم تشتّتاً فيه مثل عنوان «الخبيث» الذي حرم حسب ما قيل في الشريعة؟! مع أنّ الخبائث و الرذائل، كثيراً ما تختلف باختلاف العادات في الملل و الأقوال، بل و الأشخاص، و عناوين «المكيل» و «الموزون» تختلف في العصور و الأمصار، بل أفتى المشهور بأنّ كثير السفر يتمّ، و أحالوا ذلك إلى العرف.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 276

مع أنّه يمكن دعوى: أنّ ما هو الأقلّ هو الأقلّ؛ من مجموع ما ورد في الشرع، فبعد المراجعة إلى المآثير يظهر

لك ذلك إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

أقسام العناوين المأخوذة في الأخبار و منها «الكثير»

فنقول: العناوين المأخوذة في المآثير علىٰ أنحاء:

فتارة: تكون هي العناوين الاسميّة المطلوبة بالنظر المستقلّ، ك «الأكثر».

و أُخرى: تكون في الأدلّة عناوين كثيرة، إلّا أنّ بعضاً منها إرشاد و أمارة و طريق إلى الآخر، كعنوان «البلوغ» و «الاحتلام» و «نبات الشعر» و «الخمس عشرة سنة» فإنّها عناوين، إلّا أنّ الكلّ ربّما تكون طريقاً إلى الاحتلام، و العناوينِ المذكورة في الرضاع، فإنّ بعضاً منها طريق إلى الآخر.

و ثالثة: تختلف العناوين في المآثير، إلّا أنّ من الممكن رجوع المجموع إلى العنوان الآخر المشترك بين الكلّ غير المذكور مثلًا في الأخبار، و لكن العرف يجد ذلك بعد الدقّة في أطراف المسألة، كما ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة، و قوّينا هناك أنّ عنوان «خفاء الأذان و الجدران» من العناوين المترشّحة عن الأمر الآخر؛ و هو عنوان «البعد عن المنزل، و انقطاع المسافر عن البلد» بحيث يكون مسافراً بالإطلاق الصحيح و منقطعاً «1»، و بذلك تنحلّ الشبهة الواردة في تلك المسألة، و إلّا فالشبهة غير قابلة للحلّ حسب النظر العلميّ، فليراجع.

______________________________

(1) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 277

و من ذلك ما نحن فيه، فإنّه بعد التأمّل الشديد في المآثير، و التدبّر التامّ في الأخبار، ربّما يظهر أنّ المقصود ليس عنواناً خاصّاً و تحديداً إلزاميّاً شرعيّاً، بل المقصود من المجموع بيان الحدّ العرفيّ المتسامح فيه ل «الكثير» و أنّ ما هو القليل هو القليل حسب نظر العرف، كالمياه في الأواني و الظروف و القدور، و شدّة الاختلاف في الأخبار تشهد علىٰ ذلك.

كما أنّ بعض الأُمور الأُخر، يبعّد هذا المرام، إلّا أنّ الفقيه كلّ

الفقيه لا بدّ له من مراعاة جميع المقرّبات و المبعّدات، حتّى يتوجّه إلىٰ ما هو المقصود الأصلي بين الروايات.

فإذا تمكّنت من تصوير مصبّ البحث، و عرفت أنّه ليس بحثاً إبداعيّاً بعيداً عن الأذهان، و علمت أنّ بعض المسلمين ذهبوا إلىٰ ذلك، كما صرح به الرازي في كتابه «الكبير» نقلًا عن ابن سيرين و مسروق «1»، قائلين: باعتبار الكثرة و القلّة، من غير التحديد لهما، فإنّه يعلم من ذلك، أنّ المناط في الانفعال هو القلّة العرفيّة، و المناط في عدمه هي الكثرة العرفيّة، و يستظهر من المآثير الحدود المتعارفة من الكثرة و القلّة، فيسهل لك تصديق ما أبدعناه إذا ساعدته الروايات، و إلّا فلا بدّ من الغور في المباحث الأُخر.

الأخبار الدالّة أو المؤيدة لإرادة الكثرة العرفيّة

فإليك أخبار تدلّ أو تؤيّد من النصوص و الإطلاقات ذلك الأصل الذي يصعب الآن عليك تصديقه

______________________________

(1) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 278

فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده الصحيح في «التهذيب» «1» و «الاستبصار» «2» عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن الحسين و الظاهر أنّه ابن [أبي] الخطّاب الثقة عن عليّ بن حديد، عن حمّاد بن عيسىٰ (عثمان) عن حَريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة، أو جُرَذ، أو صَعْوَة ميّتة.

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ منها، و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه، و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القربة؛ و أشباه ذلك من أوعية الماء».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم

ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء».

و ربّما يستظهر من ذكر «الكافي» الذيلَ بطريق آخر، كونُه رواية مستقلّة جمعها معها زرارة، و حكاها حَريز، قال فيه محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن حمّاد بن عيسىٰ، عن حَريز، عن زرارة، قال: «إذا كان الماء أكثر من ..» «3».

البحث السندي في الرواية السابقة

و هذه الرواية لأجل عليّ بن حديد و محمّد بن إسماعيل في السند

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298.

(2) الإستبصار 1: 7/ 7.

(3) الكافي 3: 2/ 3، وسائل الشيعة 1: 140، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 279

الثاني، مورد الإشكال، و لكن الذي قوّاه النوريّ في «الخاتمة» وثاقتَه «1»، و من تدبّر في كلمات القوم، و توجّه إلىٰ خلوّ نصوص أرباب الرجال من تضعيفه، يطمئنّ بأنّ منشأ الوهن كان اعتقاده بالفطحيّة، علىٰ إشكال في تماميّة النسبة «2»، و قد وردت روايات تدلّ علىٰ مكانته العالية عند المعصوم (عليه السّلام) زائداً على العدالة و الوثاقة «3»، و التفصيل يؤدّي إلى الملال، فما عن الشيخ في بعض كتبه «4» محلّ منع.

و أمّا محمّد بن إسماعيل، المشترك بين الجماعة الكثيرة البالغة إلىٰ ثلاثة عشر نفراً، فهو و إن كان غير ممكن فعلًا تعيينه، و لكنّه غير لازم؛ لظهور قول الكلينيّ: «جميعاً» في أنّ ابن أبي عمير الموجود في «التهذيب» «5» مطابق نسخة «الكافي» فيصحّ السند، و يعتبر عندنا.

البحث الدلالي للرواية السابقة

ثمّ إنّ الأصحاب أطالوا الكلام في فقه الحديث، و الذي نتعرّض له

______________________________

(1) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 689 690.

(2) معجم رجال الحديث 11: 304.

(3) عن أبي علي بن راشد، عن أبي جعفر الثاني (عليه السّلام) قال: قلت جعلت فداك قد اختلف أصحابنا فأُصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال: عليك بعلي بن حديد، قلت: فآخذ بقوله؟ قال: نعم، فلقيت علي بن حديد، فقلت: نصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال: لا. رجال الكشّي 2: 563.

(4) تهذيب الأحكام 7: 101/ 435، الإستبصار 3: 95/ 325.

(5) انظر تهذيب الأحكام 1: 42/ 117،

جامع أحاديث الشيعة 2: 22، كتاب الطهارة، أبواب المياه، الباب 6، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 280

- و قد ذكرنا بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة «1» هو أنّ الظاهر من الرواية ما هي الأقلّ من الكرّ، و الظاهر من «التفسّخ» هو الانفجار، دون التغيّر، و حمله عليه باطل في حدّ نفسه، و يشهد له الذيل أيضاً، كما لا يخفى.

و المقصود علىٰ ما يظهر، ليس نجاسة الماء المتفسّخ فيه، بل النهي لأجل الملازمة العرفيّة بين استعمال الماء، و لصوق أجزاء الميتة المتفسّخة في الماء بالبدن، أو شربها ضمن شرب الماء، فالنهي كأنّه تنزيهيّ، أو تحريميّ، و لا أقلّ من احتمال الملازمة، فيصحّ النهي حينئذٍ.

فيعلم من الحديث: أنّ الأوعية الكبيرة البالغة إلى الحدود المعيّنة في الرواية، لا تنجس بالملاقاة، كما نصّ به في قوله حينما أمر بالشرب و الوضوء مع وجود الملاقاة، و تدلّ على أنّ الأواني الصغيرة، هي ليست من الأشباه المقصودة في الرواية، فما كان أشباه تلك الظروف في الكبر، لا ينجس، دون الأواني غير المشابهة معها فيه. هذا حكم المسألة بعد النظر إلى الصدر.

و أمّا قضيّة النظر إلى الذيل، فهو أنّ المفهوم من القضيّة الشرعيّة، أنّ الماء البالغ حدّ الراوية ينجس، دون الأكثر، مع أنّ الصدر يقول بعدم تنجّسه، و عندئذ يمكن تقييد المفهوم، فيكون ما ينجس ما كان الأقلّ من راوية. هذا بناءً على القول بالمفهوم و إمكان تقييده.

و أمّا علىٰ ما تقرّر؛ من امتناع تقييد مفهوم الشرط، للزوم الخلف «2»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 238 239.

(2) تحريرات في الأُصول 5: 47 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 281

فيقال: بأنّ في هذه الرواية لا يثبت المفهوم؛

لعدم ثبوت الاستقلال للذيل، فربّما يكون الصدر قرينةً علىٰ أنّ المراد من قوله: «أكثر» البالغ حدّ الراوية، و «الأكثر» قبال «الأقلّ» و هذا إطلاق عرفيّ بعيد عن مساق المستعملات العقلائيّة، فلو فرضنا استقلال الذيل فيحمل علىٰ ذلك؛ لاقتضاء الفهم العرفي.

و دعوىٰ ظهور الرواية في تنجّس الماء البالغ إلىٰ حدّ الراوية بالتفسّخ، و عدم تنجّسه بالملاقاة، و عدم تنجّس البالغ إلى الأكثر منها بالتفسّخ و عدمه، و تنجّس غير البالغ إلى الراوية بالتفسّخ و الملاقاة، و تنجّس الأكثر من الراوية بالغلبة و التغيّر، قريبة، إلّا أنّ عدم إمكان الالتزام بتمام المراد، لا يورث سقوط الرواية، إلّا إذا قلنا: بأنّ التفكيك في المقام لأجل الإعراض، لا عدم العمل للجمع بين المآثير، و لكنّه غير معلوم، فليراجع، و تدبّر.

و ممّا يشهد علىٰ صحّة الاستعمال المذكور آنفاً، قوله في «فقه الرضا (عليه السّلام)»: «كلّ غدير فيه من الماء أكثر من الكرّ، لا ينجّسه شي ء ..» «1».

و منها: معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، أ يتوضّأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 282

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من الماء» «1».

فإنّه يشهد علىٰ أنّ الميزان هي الكثرة، و تعيين الكرّ بعد الاختلاف مع سائر المعيّنات في الروايات، من باب تعيين أحد المصاديق الواضحة من الكثير.

و توهّم لزوم حمل المجمل على المبيّن، غير تامّ، لعدم الإطلاق في دليله، بل المدار علىٰ مساعدة العقلاء، فربّما يساعد العكس،

فيحمل المبيّن على المجمل؛ لقيام القرينة علىٰ عدم خصوصيّة شرعيّة في المبيّن.

و منها: رواية عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن حبّ (جرّة) ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أُوقِيّة بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟

قال: «لا يصلح» «2».

و هي بعد كون السائل مثله، تشهد علىٰ أنّ مسألة الكرّ، ليست من المسائل الشرعيّة، و إلّا فهي علىٰ خلاف ما نطقت به كافّة المآثير في باب الأوزان، و لا ينبغي خفاؤه علىٰ مثله؛ فيَفرض مثلَ هذا السؤال، فكأنّه كان الأمر عنده مبنيّاً علىٰ مرتكزاتهم، فسأل فيما شكّ في مرتكزه العقلائيّ، و إلّا فلا معنىٰ للسؤال عن الشبهة الموضوعيّة للتغيّر في المثال المذكور،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 419/ 1326، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 197/ 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 283

أو عمّا يقرب منها كما لا يخفىٰ.

و منها: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا تشرب من سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه» «1».

فإنّها أيضاً من أحسن الشواهد علىٰ ما أبدعناه في المسألة.

و منها: «الكافي» عن عليّ بن محمّد، عن سهل، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن صفوان الجمّال، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الحياض التي ما بين مكّة إلى المدينة، تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها، و يغتسل منها الجنب، و يتوضّأ منه.

فقال: «و كم قدر الماء؟».

قلت: إلىٰ نصف الساق،

و إلى الركبة و أقلّ.

قال: «توضّأ منه» «2».

و مثلها «التهذيب» «3» و «الاستبصار» «4» مع الاختلاف اليسير.

فإنّ الظاهر منها، أنّ المقصود ليس الاطلاع على الحدّ الشرعيّ؛ فإنّه غير وافٍ بذلك، و لو كان المتعارف كافياً لما كان وجه للسؤال؛ لأنّ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

(2) الكافي 3: 4/ 7، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317.

(4) الاستبصار 1: 22/ 54.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 284

المتعارف في مثلها ذلك، و لأجل حمل المشهور المطلقات في المسألة السابقة علىٰ ذلك.

فعليه يعلم: أنّ الرواية تدلّ علىٰ أنّ المناط، حصول الكثرة العرفيّة، التي هي حاصلة بعد كون العمق إلى الركبة.

و منها: رواية بكّار بن أبي بكر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «1» .. المستدلّ بها علىٰ أنّ المناط هو الحبّ، و هو ممّا ورد في الرواية الأُولىٰ، و يكون من أشباه الراوية.

و منها: «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء نحو حبّي هذا» و أشار إلىٰ حبّ من تلك الحباب التي تكون بالمدينة «2».

فما أحسن دلالته علىٰ ما ذكرناه؛ فإنّه مضافاً إلىٰ دلالته على انفعال القليل يدلّ على الحدّ العرفيّ.

فإنّ الضرورة قاضية باختلاف الحباب في القلّة و الكثرة، و المتعارف حاكم بعدم بلوغ نوع منها إلىٰ حدّ الكرّ؛ على الوجه المعروف بين الأصحاب رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و الإشكال في الإرسال، مرفوع بعبد اللّٰه الحاكي عن بعض أصحابنا، فإنّه ظاهر في كونه من

المعتبرين، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 17.

(2) الكافي 3: 3/ 8، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 285

و منها: «التهذيب» «1» و «الاستبصار» «2» محمّد بن عليّ بن محبوب، عن العبّاس- و الظاهر أنّه ابن المعروف الثقة عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: «إذا كان الماء قدر قُلَّتين لم ينجّسه شي ء».

و «القُلَّتان»: الجرّتان.

و كون القلّة نصف الكرّ ممنوع قطعاً، فيكون دليلًا علىٰ أنّ المناط أمر آخر يتسامح في حدوده.

و في حديث الأعرج: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجرّة تسع مائة رطل، يقع فيها أُوقِيَّة من دم، أشرب منه و أتوضّأ؟

قال: «لا» «3».

و في هذه شهادة علىٰ أنّ الحدود كثيرة الاختلاف، و ربّما يختلف الحكم باختلاف مقدار النجاسة الملاقية، و الالتزام بأنّ القلّتين أكثر من الكرّ كثيراً ممّا لا بأس به، إلّا أنّه شاهد علىٰ ما ذكرناه، و سنذكر تفصيله إن شاء اللّٰه تعالىٰ «4».

و منها: معتبر محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309.

(2) الاستبصار 1: 7/ 6.

(3) تهذيب الأحكام 1: 418/ 1320، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 8.

(4) يأتي في الصفحة 287 289.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 286

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين ..» «1» إلىٰ آخره.

فإنّ «المِرْكَن» كما مضى، من الظروف الكبيرة غير البالغة حد الكرّ بالضرورة، و يكون من أشباه الحبّ و

الجرّة «2».

و منها: المطلقات الكثيرة التي استدلّ بها القائل بعدم الانفعال، و قد مضى حالها «3»، إلّا أنّها تدلّ على الإطلاق بالنسبة إلىٰ خصوصيّة الحدّ الشرعيّ، فهي منفيّة بها قطعاً؛ ضرورة أنّ الالتزام بكون جميع تلك الموارد تزداد على الكرّ، غير صحيح، و يشهد له سؤاله (عليه السّلام) في الرواية السابقة، و ترك الاستفصال دليل علىٰ أنّ الحكم موضوعه الأعمّ، فافهم.

و منها: نفس روايات الأوزان «4» و المساحات «5»، فإنّها شاهدة علىٰ أنّ الحدّ الذي لا ينجّسه شي ء، لا يتسامح فيه كثيراً، فالمدار علىٰ أن لا يكون الأقلّ ممّا ورد في الأخبار و المآثير، و لا نبالي بالالتزام بعدم لزوم ذلك أيضاً، بل الميزان هي الكثرة العرفية المعبّر عنها بكلمة «الأشباه» في الرواية، و بكلمة «الكبير» بل و «الكثير» فيها كما عرفت، و حدود ذلك ممّا يعرفه العرف، و ربّما تختلف مصاديقها حسب النجاسات و مقدارها الواردة عليه؛ لشهادة بعض الأخبار بذلك، كما أُشير إليه.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(2) تقدّم في الصفحة 253.

(3) تقدّم في الصفحة 238 253.

(4) وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11.

(5) وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 287

و منها: التقييد الوارد في بعض المآثير، كقوله (عليه السّلام) في مرسلة حَريز: «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه» «1» فإنّ كلمة «في الإناء» ليست واردة مورد الغالب؛ بعد ما ترى في المآثير من الحكم بعدم لزوم الصبّ في الظروف الكبيرة.

شواهد على إرادة الكثير العرفي

ثمّ إنّ الشواهد الكثيرة قائمة علىٰ ما ذكرناه:

فمنها: استعمال كلمة «الإناء» في نوع مآثير

المسألة فليراجع؛ فإنّ ذلك دليل علىٰ أنّ المتشرّعة كانت أذهانهم حول انفعال الماء البالغ إلىٰ هذه الحدود، لا الحدود الأُخرى التي تكون أكثر.

و منها: التحديدات الشرعيّة مع قطع النظر عن القرائن الخاصّة، منزّلة على الدقّة العرفيّة، و معها يتسامح في حدودها، و التدبّر في معاني «الكرّ» لغةً و إطلاقاً، يعطي أنّ الشرع المقدّس لا يكون مراده من «الكرّ» معناه الحديث، و لا حقيقة شرعيّة له، فعليه كيف يمكن الجمع بين المعنى الواصل من اللّغوي للكرّ، و المعنى الوارد في المآثير من الشرع؟! و الالتزام بأنّ «الكرّ» في الأخبار، مطلق على المعنى الآخر المتعارف في تلك العصور؛ و هو أصل المقدار، و التعيينُ في خصوص منه لا ينافي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 225/ 645، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 288

الاستعمال الحقيقيّ، أو الالتزام بأنّ للشرع استعمالًا خاصّاً و إطلاقاً قبال العرف، كما قيل به؛ لعدم الملائمة بين قول اللغويّين و ما في المآثير، أو الالتزام بأنّه للحدّ الكثير، و الشرع أراد منه الحدّ الخاصّ منه، كلّها غير مبرهن و بعيد جدّاً.

و هذه الشبهة و العويصة غير قابلة للانحلال إنصافاً؛ ضرورة أنّ المراجعة إلى الكتب المدوّنة في اللغة، تعطي أنّ المراد من «الكرّ» في الأخبار، لا ينطبق على المراد من «الكرّ» في اللّغات، فعلى هذا يمكن دعوى أنّ المقصود ليس الحدّ الخاصّ، بل المقصود بيان ما لا ينفعل من الماء؛ و هو البالغ إلىٰ هذه المقادير على الوجه المتسامح فيه.

و العجب أنّ أصحابنا الإماميّة في مسألة كثير السفر، اختاروا من بين العناوين المستثناة عنوانَ «كثرة السفر»!! و لا دليل لهم إلّا الاستظهار الخالي

من الشاهد؛ ضرورة عدم اضطراب المآثير هناك، و عدمِ قيام الشاهد اللفظيّ على المعنى الأعمّ الشامل لتلك الخصوصيّات، بخلاف ما نحن فيه كما عرفت.

ثمّ إنّ المحكيّ عن ابن طاوس «1»، هو العمل بكلّ ما روي، و هذا لا يستقيم إلّا علىٰ ما أبدعناه، و لعلّ في نفسه الشريفة كان الأمر كذلك، فنعم الوفاق.

هذا، فعلى طلّاب الفقه التدبّر فيما هو المتفاهم، و التفكّر في المسألة بين الإنصاف و البصيرة، و التتبّع حول ما ورد عن المعصومين

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 70/ السطر 14.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 289

- صلوات اللّٰه تعالىٰ عليهم فلعلّهم يقفون علىٰ ما لا وقفنا عليه و بذلك تنحلّ المعضلات الكثيرة المبتلىٰ بها في المقام، التي لا يمكن الخروج عن حدودها بالوجه الصحيح الشرعيّ، فإنّ فهم معنى «الرِّطل» و «الكرّ» و سائر اللّغات الموضوعة في شرح هذه الكلمات، من أصعب الأُمور، كيف و المشهور في الرطل هو أنّه الوزن، و ظاهر اللغويّين كما يأتي أنّه الكيل؟! كما عرفت الأمر في الكرّ أيضاً، و سيتّضح زيادة توضيح من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

الجهة الثانية: في تحديد الكرّ وزناً و حجماً
اشارة

لو سلّمنا التحديد الشرعيّ، و أنّ الحدود المذكورة في المآثير محمولة على المقدّرات الدقيقة غير المتسامح فيها إلّا بتسامح يسير فرضاً، فالبحث يتمّ في مقامين؛ لأنّ الحدود الواصلة إلينا منه تارة: تكون من قبيل الكم المنفصل، و أُخرى: تكون من قبيل الكم المتّصل؛ و هي المساحة.

المقام الأوّل: في مقدار الكرّ حسب الأوزان و الأرطال
اشارة

فالمشهور بينهم المدّعىٰ عليه الإجماع في «الناصريّات» و «الانتصار» و «الغنية» و «المعتبر» و «المفاتيح» «2» و عن الصدوق: «أنّه

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 295 297.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 214، المسألة الثانية، الانتصار: 8، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 33، المعتبر 1: 47، مفاتيح الشرائع 1: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 290

من دين الإماميّة» «1» و في «التنقيح»: «أنّه المشهور بين الأصحاب» «2» و يظهر من «المدارك» دعوى الإجماع عليه «3»؛ هو أنّه ألف و مائتا رِطل.

و اختلفت كلماتهم في المراد من «الرِّطل» فالذي نسب إلى المشهور «4»، و عليه دعوى الإجماع عن الشيخ «5»؛ أنّه الرِّطل العراقيّ.

و ذهب الصدوقان «6» و المرتضىٰ «7» إلىٰ أنّه مدنيّ، و نقل في «الانتصار» عليه الإجماع «8»، و قال: «إنّه الذي دلّت عليه الآثار المعروفة المرويّة» و جعله الصدوق من دين الإماميّة «9».

و في «مفتاح الكرامة» «10»: «و قد يلوح من «الخلاف» و «النافع» و «المعتبر» و «المنتهىٰ» و «التذكرة» و «الذكرى» التردّد «11»، فليلاحظ» انتهىٰ.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 69/ السطر الأخير، الأمالي: 514، المجلس 93.

(2) التنقيح الرائع 1: 41.

(3) مدارك الأحكام 1: 47.

(4) مستند الشيعة 1: 57.

(5) لاحظ كشف الرموز 1: 48، مفتاح الكرامة 1: 70/ السطر 8.

(6) مفتاح الكرامة 1: 70.

(7) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 214، المسألة الثانية.

(8) الانتصار: 8.

(9) الأمالي، الصدوق: 514.

(10) مفتاح الكرامة

1: 70/ السطر 10.

(11) الخلاف 1: 190، المختصر النافع: 2، المعتبر 1: 47، منتهى المطلب 1: 7/ السطر 17، تذكرة الفقهاء 1: 19، ذكرى الشيعة: 8/ السطر 33.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 291

و هذا يستظهر من ابن حمزة؛ لجعله هذا أحوط «1».

و المعروف بين العامّة: أنّه خمسمائة رطل.

و عن الحسن بن صالح بن حيّ: أنّه ثلاثة آلاف رطل بالعراقيّ «2».

و الذي يظهر: أنّ الدعوات المذكورة غير واضحة؛ ضرورة أنّ المحكيّ عن جميع القمّيين في «الخلاف» قبال الأرطال، هو الأشبار «3»، فكيف تصحّ الإجماعات، أ و ليسوا هؤلاء الأعاظم من الفقهاء منهم؟! و مخالفة الصدوقين بذكر «الرطل» في بعض كتبهم، و عدم ذكره في «المقنع» و إن يضرّ بما عن «الخلاف» في نقل الاتفاق عنهم، إلّا أنّ المجموع من هذه المحكيّات، عدم وجود الشهرة الكاشفة عن النصّ في المسألة، أو الرأي المنسوب إلى الحجّة (عليه السّلام).

و أيضاً يظهر: أنّ المآثير في هذا المقام، غير قابلة للحمل على التقيّة؛ لعدم موافقتها لمذهب العامّة، اللّهمّ إلّا أن يستكشف من اضطراب الروايات وجود الفتاوى عنهم، و لكنّه في غاية الإشكال و إن يورث الوهن في بعض الفروض، فليتدبّر.

نعم، مرسلة ابن المغيرة و «الفقيه» الآتية تحمل على التقيّة، إلّا أنّ «القُلّة» فيها مفسّرة ب «الجرّة» و هي مفسّرة في موثّقة سعيد الأعرج بتسعمائة رطل، فتكون مخالفة لجميع فتاوى العامّة أيضاً.

______________________________

(1) الوسيلة: 73.

(2) الانتصار: 8، أحكام القرآن، للجصّاص 3: 341/ السطر 3.

(3) الخلاف 1: 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 292

نعم، في تفسير «القُلّة» عن الشافعيّ خلاف، و الأمر سهل.

المآثير المحددة لوزن الكرّ

ثمّ إنّ المآثير في هذه المسألة، علىٰ طوائف:

أوّلها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه

(عليه السّلام) قال: قلت له: الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب قال: «إذا كان قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء، و الكرّ ستمائة رطل» «1».

و ما في «التهذيب» و «الاستبصار» محمّد بن أبي عمير، قال: روي لي عن عبد اللّٰه يعني ابن المغيرة يرفعه إلىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): «إنّ الكرّ ستمائة رطل» «2».

و قد يستظهر اتحاد الخبرين.

و قد يشكل سندهما؛ لقول الشيخ: «إنّ ذلك لم يعتبره أحد من أصحابنا فهو متروك بالإجماع» «3»، و لأنّ مراسيل ابن أبي عمير علىٰ ما هو المشهور فيها من الاعتبار، و صحّة الاعتماد غير معتبرة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: باعتبار تلك المراسيل خصوصاً؛ لتصريح النجاشي في ترجمته بسكون الأصحاب إلىٰ مرسلاته «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1308، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 5.

(2) تهذيب الأحكام 1: 43/ 119، الاستبصار 1: 11/ 16.

(3) الاستبصار 1: 11 ذيل الحديث 17.

(4) رجال النجاشي: 326/ الرقم 887.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 293

نعم، كون المراد من «المراسيل» في عبارته ما هو المصطلح عليه، غير واضح، فلعلّه يريد المقطوعة، و هي ما يكون مسنداً إلى الراوي الأخير، دون ما لا يكون مسنداً أصلًا.

هذا مع أنّ هذه الرواية من مراسيل ابن المغيرة و ابن أبي عمير، فربّما يكون ما هو الحجّة هي الصورة الأخيرة، لا مطلق الصور، فليتدبّر.

و يمكن دعوى عدم ثبوت الإعراض الموهن؛ لما عرفت منّا مراراً: أنّ الرواية إذا كانت صريحة أو ظاهرة في أمر، و كانت بمرأىٰ و منظر من المجمعين، و أعرضوا عنها، فهي الموهونة، و لكنّها إذا كانت قابلة للجمع مع سائر

ما ورد، فلا يثبت الوهن؛ لجمعهم بينها و بين غيرها في المدلول، و فيما نحن فيه الأمر كذلك.

ثانيها: مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شي ء ألف و مائتا رطل» «1».

و في «المقنع» مرسلًا نحوه، قال: «و روى ..» إلىٰ آخره «2».

و الإشكال في السند بما مضى قد اتّضح.

و هنا خصوصيّة أُخرى قد تعرّض لها المتضلّع النوريّ في الخاتمة، و هو قوله: «عن بعض أصحابنا» أو «أصحابه» «3» فإنّه ظاهر في أنّه من الذين في رتبته فقهاً و حديثاً، ديناً و مذهباً و عملًا، أو أدنىٰ منه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 41/ 113، وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11، الحديث 1.

(2) المقنع: 31.

(3) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 541/ السطر 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 294

برتبة، و تكون المرسلة المذكورة مقطوعة، فلا تغفل.

ثالثها: مرسلة ابن المغيرة و هو من أصحاب الإجماع عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي ء، و القلّتان: جرّتان» «1».

و مقتضى الإطلاق في التفسير، و ظهور خبر سعيد الأعرج أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجرّة تسع مائة رطل، يقع فيها أُوقِيّة من دم، أشرب منه و أتوضّأ؟ قال: «لا» «2» في أنّ الجرّة المسئول عنها كانت تسع المقدار المذكور، هو أنّ الكرّ ألف و ثمانمائة رطل، و قد عرفت وجه إمكان الاعتماد عليها.

رابعها: عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن جرّة (حبّ) ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أُوقِيّة بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟

قال:

«لا يصلح» «3».

إن قلت: قضيّة هذه الرواية و سابقتها، فساد الماء بالملاقاة و لو كان كثيراً عرفاً، و هذه «الجرّة» قد وقعت في الرواية الأُولىٰ التي كانت عمدة ما استدلّ بها على ذلك.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 8.

(2) تهذيب الأحكام 1: 418/ 1320، وسائل الشيعة 1: 169، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 13، الحديث 2.

(3) مسائل علي بن جعفر: 197/ 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 295

قلت: فيه نظر؛ لعدم تماميّة سندهما فتأمّل، و لعدم تماميّة دلالتهما؛ لما عرفت من أنّ المفروض وقوع الأُوقِيّة من الدم و البول، و هذا ربّما يورث المنع التنزيهيّ؛ لاستلزام استعمال ما لا ينبغي و هو أكل تلك الأجزاء، أو للزوم المنافرة، بل في السؤال المزبور قرينة علىٰ أنّ الماء البالغ إلىٰ هذه الحدود، ما كان ينجس، إلّا أنّ كثرة النجاسة ألجأتهم إلى السؤال، فلا تختلط.

فبالجملة: هذه الطوائف متكاذبة، و اتفاق الطوائف الثلاث علىٰ كذب الاولىٰ، لا يورث الوهن، و هذا من خواصّ الموضوع المتنازع فيه؛ لأنّه من الأمر الدائر بين الأقلّ و الأكثر.

كلام المحقّق الشيخ حسين الحلّي في المقام

و قد يقال: بعدم إمكان رفع الإجمال المتراءىٰ في موضوعها؛ لاختلاف اللغويّين في معنى «الرِّطل» و أنّه هو الكيل، أو الوزن، أو هما معاً، و تكون الروايات ناظرة إلى الوزن، أو الكيل، أو هما معاً، على الاختلاف أو الوفاق، فإليك نصّهم إجمالًا:

ففي «الجمهرة» فسّر «الرطل» بالكيل و الوزن، على حدّ سواء «1».

و في «المخصّص» بالكيل؛ باعتبار تشبيهه بالمنّ الذي هو الكيل كما في «الصحاح» «2».

______________________________

(1) لاحظ دليل

العروة الوثقىٰ 1: 77.

(2) الصحاح 4: 1709.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 296

و عن «التهذيب»: «ما يوزن به» «1».

و في «تاج العروس»: اعتبره كيلًا «2».

و عن الليث: «الرطل مقدار منٍّ» «3».

و في «المصباح» جمع بينهما، إلّا أنّه جعل معناه الأصليّ الشائع الوزنَ، ثمّ الكيل «4».

و عن كتب اللّغة الفارسيّة أيضاً ربّما يستظهر ذلك «5»، علىٰ إشكال فيه.

نعم، في «ترجمان اللّغة»: «رطل پيمانه نيم من است» «6».

و عن «تأريخ الطبريّ»: «شرب المأمون رطلًا آخر، و قال: اسقوه رطلًا، فأخذه في يده اليمنىٰ» «7» فإنّه ظاهر في كونه كأساً يشرب فيه أحياناً.

فكون هذه المآثير في مقام إفادة الوزن و الكم المنفصل في الكرّ ممنوع، أو قابل للمنع، و لا ظهور قطعيّ حسب اللّغة، فالنظر الأساسيّ حول المساحات، فتكون هذه الطوائف مورثة للخلاف مع ما ورد في المساحات، بناءً علىٰ ظهورها في الكيل، إلّا أنّه مشكل، فيشكل الاعتماد عليها.

ثمّ إنّ هذا الذي أفاده الفاضل الخبير على إشكال في بعض ما

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 78.

(2) تاج العروس 7: 346/ السطر 4.

(3) نفس المصدر/ السطر 9.

(4) المصباح المنير: 273.

(5) فرهنگ فارسي معين 2: 1660.

(6) لاحظ دليل العروة الوثقىٰ 1: 78.

(7) تأريخ الطبري 8: 578.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 297

أفاده الشيخ الفقير، و الذي يشار إليه بالبنان فضلًا، و لا يشار إليه بالعنوان فقراً؛ الحسين الحلّي مدّ ظلّه العالي، يؤيَّد بروايات ذكرها «الحدائق» في آخر المسألة العاشرة من الربا «1»، و منها صحيحة محمّد بن مسلم «2»، و رواية عمر بن يزيد «3»، و رواية الكلبيّ النسّابة في باب الأنبذة، عن الصادق (عليه السّلام) .. (إلىٰ أن قال:) فقلت: بأيّ الأرطال؟

فقال (عليه السّلام): «أرطال

مكيال العراق» «4».

و منه يعلم: أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى الكيل، كما كان ينصرف إلى العراقيّ، فتأمّل.

و الاستشكال في الروايات فرضاً من الجهة الأُخرىٰ، لا يورث خللًا في ظهورها في أنّ «الرطل» أُطلق فيها على الكيل، فتأمّل.

دعوى رفع إجمال الوزن بروايات المساحة و جوابها

هذا، و دعوىٰ رفع الإجمال بحسب الوزن بروايات المساحة «5»؛ فإنّها

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 19: 275.

(2) الكافي 5: 189/ 11، وسائل الشيعة 18: 141، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 9، الحديث 3.

(3) تهذيب الأحكام 7: 18/ 78، وسائل الشيعة 18: 133، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 2.

(4) الكافي 1: 283/ 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

(5) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 194.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 298

إذا كانت دالّة علىٰ أنّ العبرة بسبعة و عشرين شبراً، يلزم كون المراد من «الرطل» هو العراقيّ، و الرطل العراقيّ بحسب المساحة كان، أو الوزن يساويهما؛ ضرورة أنّ الرطل بحسب الوزن و المساحة واحد؛ أي أنّه كما يكون كيلًا متعارفاً، يكون المقدار المكيل به مائة و ثلاثين درهماً، و الدرهم بحسب المثقال الصيرفيّ، نصف المثقال و ربع عشره، و بحسب المثقال الشرعيّ الذي هو ثلاثة أرباع الصيرفيّ، نصف المثقال و خمسه، و هذا هو المدّعىٰ عليه الاتفاق و الإجماع، فكون الرطل وزناً أو كيلًا لا يضرّ بالمقصود.

نعم، الشبهة و العويصة في مسألة التطبيق بين المحدّدين- و هي مسألة أُخرى يأتي تفصيلها من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1» غير نافعة؛ لأنّ الروايات في تلك المسألة أيضاً مختلفة كثيراً، و المشهور هناك علىٰ خلاف ذلك، و رفع إجمال تلك المآثير بهذه المسألة، يستلزم الدور الصريح، فما ذهب إليه

الشيخ المذكور (رحمه اللّٰه): من عدم معلوميّة الموضوع له، لا يضرّ بشي ء في المسألة، بعد كون مقدار الرطل معلوماً.

فبالجملة: كما يكون الكرّ كيلًا، فلا منع من كون الرطل أيضاً كيلًا صغيراً، و هما معلومان حسب الوزن بعد المراجعة إلىٰ أهله، فلا بدّ من رفع الإجمال في هذه الطوائف و الاختلاف في نفس المآثير.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 339.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 299

وجه لرفع الإجمال عن روايات الوزن

و غاية ما يمكن دعواه: هو أنّ المراجعة إلىٰ وضع المدينة و وضع العراق، و ارتباط البلدين معاً، و ذهاب جماعة من العراقيّين بعناوين كثيرة إلىٰ تلك الناحية المقدّسة، بعد كون العراق مركز السلطنة الإسلامية، فيكون له النفوذ علىٰ سائر الممالك كما في عصرنا، يعطي الاطمئنان باشتهار الوزن العراقيّ في تلك البلاد النائية، فيكون المقصود من المرسلة العراقيّ، و يعرب عنه إطلاق رواية الكلبيّ و انصرافها في كلامه (عليه السّلام) علىٰ ما فيها إليه، و قضيّة الجمع العرفيّ بعد كون المكّي ضعف العراقيّ حملُ الصحيحة على المرسلة، و هذا هو الجمع العرفيّ قطعاً و بلا شبهة.

و أمّا رفع إجمال أحدهما بالنصّ الآخر، فهو و إن كان من بعض الفضلاء السابقين «1»، إلّا أنّه ليس من الجمع العرفيّ، و الأمر سهل.

هذا مع أنّ ابن مسلم ربّما كان مكّياً كما قيل «2»، أو كان في البين قرينة عليه.

الإشكال على الوجه السابق

و لكن الذي يورث الإشكال: أنّ ما اشتهر أنّ «الرطل» في المرسلة

______________________________

(1) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 100.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 191.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 300

و الصحيحة عراقيّ و مكّي، غير قابل للتصديق؛ لاشتهار الرطل المدنيّ حسب المآثير في عصر الأئمّة أيضاً، ففي المآثير: «الفطرة عليك و على الناس كلّهم و من تعول؛ ذكراً كان أو أُنثى، صغيراً كان أو كبيراً، حرّا كان أو عبداً، عظيماً كان أو رضيعاً، تدفعه وزناً ستّة أرطال برطل المدنيّ، و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهماً» «1».

و في رواية عليّ بن بلال: في الفطرة، و كم تدفع؟

قال: فكتب: «ستّة أرطال من تمر بالمدنيّ، و ذلك تسعة أرطال بالبغداديّ» «2».

و في معتبر زرارة،

عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يتوضّأ بمدّ و يغتسل بصاع، و المدّ رِطل و نصف، و الصاع ستّة أرطال» «3» و هكذا.

فإنّه يعلم منه اشتهار هذا الرِّطل أيضاً، و لذلك حمل جماعة «الرطل» في المرسلة على المدنيّ، كما عرفت سابقاً، فالحمل المذكور غير مبرهن جدّاً.

بطلان ملاحظة بلاد الرواة لرفع إجمال روايات الوزن

و أمّا ما اشتهر: من ملاحظة بلاد الرواة في الحمل على المكّي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 4: 79/ 226، وسائل الشيعة 9: 342، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 4.

(2) الكافي 4: 172/ 8، وسائل الشيعة 9: 341، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 136/ 379، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 50، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 301

و المدنيّ و العراقيّ، فهو غير تامّ، بل ربّما ينعكس الأمر؛ ضرورة أنّ جميع رواة الصحيحة كوفيّون، فإنّ ابن أبي عمير كوفيّ، و هكذا ابن المغيرة و إبراهيم بن عثمان؛ أبو أيّوب. و أمّا محمّد بن مسلم، فقد قال النجاشي: «إنّه كان وجه الأصحاب بالكوفة» «1».

و أمّا المرسلة فمرسلها الكوفيّ، إلّا أنّ المرسل عنه غير معلوم، فلا يبقىٰ وجه لما توهّمه الأصحاب؛ من ملاحظة حال المخاطبين، و الاشتهار المتوهّم ضعيف بما ذكرناه.

المراد من الدرهم و الصاع

ثمّ إنّ الدرهم الذي جعل معرّفاً للأرطال، فيه خلاف أيضاً، و هكذا الصاع؛ فإنّ في الأعصار المتقدّمة كانت تختلف أوزان الدراهم، و يشهد لذلك بعض المآثير:

ففي «الكافي» عن سعد بن سعد الأشعريّ قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن أقلّ ما تجب فيه الزكاة من البُرّ و الشعير و التمر و الزبيب.

فقال: «خمسة أوساق بوَسْق النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)».

فقلت: فكم الوَسْق؟

فقال: «ستّون صاعاً» «2».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 323.

(2) الكافي 3: 514/ 5، وسائل الشيعة 9: 175، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 302

و في موثّقة زرارة و بكير، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «أنبتت الأرض ..» إلىٰ

أن قال: «و الوَسْق ستّون صاعاً، و هو ثلاثمائة صاع بصاع النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)» «1».

و مثلها المرسلة عن أحدهما (عليهما السّلام) «2».

و في المجمع: «و في مكاتبة جعفر بن إبراهيم إلىٰ أبي الحسن (عليه السّلام): و أخبرني أنّه (يعني الصاع) يكون بالوزن ألفاً و مائتين و سبعين وزنة «3» .. إلىٰ أن قال: و في الحديث: «كان صاع النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) خمسة أمداد» «4»، و لعلّه كان مخصوصاً به، و إلّا فالمشهور أنّ الصاع الذي كان في عهده (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أربعة أمداد» «5» انتهىٰ.

و «الوزنة» تفسّر ب «الدرهم» حسب ما في المآثير، إلّا أنّه أيضاً يحتاج إلى الشاهد، مع اختلاف الدراهم حسب الأمصار و الأعصار؛ فإنّي قد رأيت في بعض المتاحف اختلاف الدراهم بكثير، و الأصغر منها يقرب رأس السبّابة، و هذا الاختلاف ليس في المساحة، بل الظاهر منها اختلافها في الوزن أيضاً.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 4: 19/ 50، وسائل الشيعة 9: 177، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 8.

(2) تهذيب الأحكام 4: 14/ 35، وسائل الشيعة 9: 179، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 12.

(3) الكافي 4: 172/ 9، وسائل الشيعة 9: 340، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 1.

(4) مستدرك الوسائل 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 43، الحديث 3.

(5) مجمع البحرين 4: 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 303

فذلكة الموقف

فتحصّل إلىٰ هنا: عدم إمكان الخروج عن هذه المجملات المترائية في الكلمات و الروايات مع شدّة الاختلاف، خصوصاً مسألة اشتهار الرطل في المدنيّ، ففي مكاتبة الهمدانيّ بعد أن يقول: اختلف

أصحابنا في الصاع، فبعضهم يقول: الفطرة بصاع المدنيّ، و بعضهم يقول: الفطرة بصاع العراقيّ قال في ذيله: فأخبرني بالوزن فقال: «يكون ألفاً و مائة و سبعين درهماً».

هذا بحسب نقل «العيون» «1» فانظر كيف فسّر الصاع المدنيّ وزناً، و لم يفسّر غيره، مع أنّهما في السؤال مذكوران؟! و في الرواية السابقة قال: «و الرطل مائة و خمسة و تسعون» و هذا هو الرطل المدنيّ أيضاً.

و قد يتوهّم إمكان حمل الصحيحة على التقيّة «2»، و قد مضى فساده «3».

و مثله توهّم ضعف المرسلة بالإرسال «4»، و قد عرفت وجهه «5»، خصوصاً في مثلها المعمول بها، و المدّعىٰ علىٰ مضمونها الإجماع، فيكون الخبران مختلفين، فإن كانا ظاهرين «فبأيّهما أخذتم جائز».

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 1: 309/ 73.

(2) مستند الشيعة 1: 57.

(3) تقدّم في الصفحة 291.

(4) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 190.

(5) تقدّم في الصفحة 292 293.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 304

إلّا أنّه هنا غير ممكن، فلا بدّ من إثبات الإجمال، أو إرجاع المسألة إلىٰ ما قوّيناه؛ و هو أنّ الماء غير المنفعل، هو الكثير عرفاً المتسامح فيه جدّاً، فيكون المراد من الصحيحة الرطل المدنيّ الذي هو الشائع كما عرفت، و من المرسلة العراقيّ الذي هو أيضاً شائع، فيتقارب المضمونان في إفادة الكثير الموضوع في بعض المآثير السابقة لعدم التنجّس.

و مثل هذا التقارب في الوزن التقارب في المساحة بين فتوى المشهور و ما اشتهر في العصر.

إشكال في الجمع بين الأخبار المتعارضة

و ممّا يورث الإشكال في الجمع بين المآثير و الأخبار، ما عن «النهاية» و «المنتهىٰ»: «أنّ الرطل مائة و ثمانية و عشرون درهماً و أربعة أسباع» «1».

و عن «المقنع»: «أنّه مائة و أربعة و عشرون درهماً و

أربعة أتساع» «2».

و لعلّه للعمل برواية المروزيّ المتضمّنة كون المدّ مائتين و ثمانين درهماً «3».

و عن «المصباح» ما في «منتهى» العلّامة، و لكنّه ليس في «المصباح» منه أثر فتدبّر، و لعلّ العلّامة استند إلىٰ ما فيه من النسخ

______________________________

(1) لم نعثر عليه في النهاية، و لكن ذكره في التحرير كما في مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 1، تحرير الأحكام: 64/ السطر الأخير، منتهى المطلب 1: 497/ السطر 18.

(2) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 4، المقنع: 156.

(3) تهذيب الأحكام 1: 135/ 374، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 50، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 305

الموجودة عنده، و اللّٰه العالم.

المراد من الكرّ هو المكيال المعروف

ثمّ إنّ الظاهر في «الكرّ» أنّه الكيل المعروف، و يشهد له نفس رواياته؛ فإنّ قولهم (عليهم السّلام): «قدر كرّ» «1» ظاهر في أنّه الكيل، مع صراحة اللغويّين في ذلك:

ففي «المصباح»: «الكرّ كيل معروف، و هو ستّون قفيزاً، و القفيز ثمانية مكاكيك، و المكوك صاع و نصف» «2».

و في «النهاية»: «الكرّ بالبصرة ستّة أوقار، و قال الأزهريّ: الكرّ ستّون قفيزاً، و القفيز ثمانية مكاكيك، و المكوك صاع و نصف، فهو علىٰ هذا الحساب اثنا عشر وَسْقاً، و كلّ وَسْق ستّون صاعاً» «3» انتهىٰ.

فيعلم أمران: أنّه الكيل، و أنّه المختلف في البلاد.

و في «القاموس»: «الكُرّ بالضمّ مكيال للعراق، و ستّة أوقار حمار، و هو ستّون قفيزاً، أو أربعون أردباً» «4» انتهىٰ.

و لعلّ «الأوقار» هو (خروار) بالفارسيّة، حتّى يتوافق مع قول صاحب «ترجمة القاموس» حيث قال

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

(2) المصباح المنير: 640.

(3) النهاية، ابن الأثير 4: 162.

(4) القاموس المحيط 2: 130.

كتاب الطهارة (للسيد

مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 306

«كرّ پيمانه است براى اهل عراق، و بار شش خر است» «1».

فإنّ الظاهر أنّ كلمة (خروار) أصله (خربار) أي (بار خر) فصار (خروار).

و لكن المتعارف في حمل الحمير خلاف ذلك؛ لأنّ المراد منها في عصرنا، أكثر من حمل الحمير بغير يسير، كما لا يخفىٰ، فما ورد في المآثير ليس هو المراد من الإطلاقات العرفيّة.

إلّا أنّه يعلم من تلك الإطلاقات الخالية عن القرائن: اشتهار الكرّ في عصر المآثير، و لا شبهة في اختلاف الأكيال في بلدة واحدة، فضلًا عن البلاد، مع أنّ مآثير الكرّ كثيرة، و الرواة فيها مختلفون بلداً و منطقة، فيعلم علىٰ هذا أنّ الأمر على التسامح، فكان الكرّ في مختلف البلاد متقارب المساحة، كما هو كذلك قطعاً في بلدة واحدة؛ لاختلاف سائر الأكيال المستعملة في الحوائج أيضاً اختلافاً يسيراً، فما ذهب إليه المحقّقون في المسألة من الدّقة «2»، خلاف التحقيق قطعاً، كما أنّ ما أفدناه من التسامح الكثير، قريب من التحقيق جدّاً.

مع أنّ من الممكن استظهار ذلك من الشيخ، حيث قال في أوّل «الاستبصار»: بأنّه لا يروي فيه إلّا ما يعتمد عليه «3»، و قد تعرّض لشتات المآثير في المساحة «4»، و ما يمكن ذلك إلّا بالوجه الذي ذكرناه في

______________________________

(1) منتهى الإرب 4: 1089، باب الكاف.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 35، فصل في المياه، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 162.

(3) الاستبصار 1: 5.

(4) الإستبصار 1: 10، باب كميّة الكرّ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 307

الجهة الاولىٰ من البحث «1»، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في تحديد الكرّ حسب المساحة
اشارة

و حيث إنّ المسألة غامضة، لا بأس بصرف عنان الكلام فيها.

فنقول: اختلفت أرباب الرأي و الفتوى في ذلك إلىٰ أقوال:

أحدها: ما ذهب إليه

المشهور؛ و هو أنّه ثلاثة أشبار و نصف طولًا و عرضاً و عمقاً، و قد ادّعى عليه الإجماع في «الغنية» «2».

و في «الخلاف» نسبته إلىٰ جميع القميّين و أصحاب الحديث «3»، و لعلّ المراد من الأصحاب هنا هم الأخباريّون من العامّة، لا المحدّثين من الخاصّة، فإنّهم هم القميّون.

و قد يظهر المناقشة في الإجماع و الشهرة من «المعتبر» «4» و الشيخ البهائيّ «5».

ثانيها: ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب، كالصدوق في «الفقيه» «6» و في بعض نسخ «الهداية» «7» و هو أنّه ثلاثة أشبار عرضاً

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 274.

(2) لاحظ الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(3) الخلاف 1: 190.

(4) المعتبر 1: 46.

(5) الحبل المتين: 108.

(6) الفقيه 1: 6.

(7) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 308

و طولًا و عمقاً، و إليه ذهب «المختلف» «1» و «الروض» «2» و «المجمع» «3» و من العجب نسبته في «السرائر» إلى القميّين «4»!! و هو مختار «نهاية الإحكام» «5» و «الدلائل» «6» و بعض أساتيذ «مفتاح الكرامة» «7» و لعلّه المعروف بين المعاصرين، كما أنّ «مجمع البحرين» نسب القول الأوّل إلىٰ جمهور متأخّر الأصحاب (رحمهم اللّٰه) «8».

ثالثها: ما عن ابن الجنيد؛ و هو أنّه ما بلغ تكسيره مائة شبر «9»، و لا أعرف له وفاقاً.

رابعها: ما عن القطب الراونديّ؛ و هو أنّه ما بلغ تكسيره إلىٰ عشرة أشبار و نصف «10»، و هذا القولان بينهما غاية الخلاف.

خامسها: ما عن جماعة من المعاصرين تبعاً «للمدارك» «11» و هو أنّه

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 4/ السطر 6.

(2) روض الجنان: 140/ السطر 24.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 1: 260.

(4) السرائر 1: 60.

(5) مفتاح الكرامة

1: 71 و انظر نهاية الإحكام 1: 232.

(6) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71.

(7) مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 14.

(8) مجمع البحرين 3: 472.

(9) لاحظ مختلف الشيعة: 3/ السطر الأخير.

(10) لاحظ مستند الشيعة 1: 61.

(11) مدارك الأحكام 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 309

ستّة و ثلاثون شبراً «1».

سادسها: ما في «مفتاح الكرامة» أنّه قال: «قال الأُستاذ في «حاشية المدارك»: الظاهر من الرواية الشكل المدوّر ..» إلىٰ أن قال: «و علىٰ هذا يصير مجموع مكسّرها ثلاثة و ثلاثين شبراً تقريباً» «2» انتهىٰ.

و قد اختاره الشيخ المعاصر الحلّي- مدّ ظلّه فقال: «و الظاهر هو ما بلغ مجموعة ثلاثة و ثلاثين شبراً و نصفاً و ثمناً و نصف الثمن» «3».

سابعها: ما عن ابن طاوس من تجويزه العمل بجميع ما روي «4»، كما يستظهر من «استبصار» الشيخ «5»، و لكنّه يرجع إلى ما أسّسناه، و ليس قولًا في مسألة المساحة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ أبناء العامّة، لا يقولون بهذا التحديد في الكرّ «6»، و علىٰ هذا لا معنى لرفع الاختلاف بين المآثير؛ بحملها على التقيّة، فتدبّر جيّداً.

و أيضاً ليست المسألة إجماعيّة، حتّى يستكشف به أو بالشهرة القريبة منه رأي المعصوم (عليه السّلام) لما تعرف أنّ الاختلاف الشديد منشؤه

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 35، فصل في الماء الراكد، المسألة 2، الهامش 5.

(2) مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 6.

(3) دليل العروة الوثقىٰ 1: 83.

(4) مدارك الأحكام 1: 52.

(5) لاحظ الاستبصار 1: 10 11.

(6) المغني، ابن قدامة 1: 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 310

الأخبار، فما يظهر من الاتكاء على الإجماع «1»، ساقط جدّاً.

مقتضى الروايات في تحديد حجم الكرّ
اشارة

فعليه يتعيّن الغور في الروايات، و تعيين مفادها إن أمكن، و إلّا فلا بدّ من

الطرح و الرجوع إلىٰ مقتضى الأصل، أو الذي اخترناه جمعاً بين جميع المآثير في الكرّ وزناً و مساحة، و تلك المآثير مختلفة و متشتّتة، و يبلغ مجموعها إلى طوائف:

الطائفة الأُولىٰ: ما تدلّ بظاهرها على أنّه ستّة و ثلاثون شبراً
اشارة

و هي صحيحة إسماعيل بن جابر التي قال في حقّها «المدارك»: «أنّها أصحّ ما وقفت عليها» «2» و قد رواها «التهذيب» و «الاستبصار» قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الماء الذي لا ينجّسه شي ء.

قال

ذراعان عمقه، في ذراع و شبر سعته

[1] «3».

و الإشكال في «الجواهر»: «بأنّها رواية قد أعرض عنها الأصحاب» «4» في

______________________________

[1] في نسخة: وسعه (منه (قدّس سرّه)).

______________________________

(1) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(2) مدارك الأحكام 1: 51.

(3) تهذيب الأحكام 1: 41/ 114، الإستبصار 1: 10/ 12، وسائل الشيعة 1: 164 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

(4) جواهر الكلام 1: 178.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 311

غير محلّه؛ لما عرفت أنّ الاختلاف المذكور، يوهن الركون إليهم في ذلك، و كون الإجماع المركّب كاسراً، ممنوع جدّاً. مع أنّ من المحتمل عدم وصول جمع منهم إليها، أو حملها علىٰ ما فهموا من غيرها، كما يأتي الإيماء إليه، و كيف أعرضوا عنها و قد اعتمد عليها ابن طاوس، بل و الشيخ كما مرّ البحث عنه «1»؟! و لعلّها مورد عمل الصدوق في «المقنع» حيث حكاها فيه مرسلًا «2».

و قد يشكل سندها بإسماعيل بن جابر، الذي روىٰ في هذه المسألة رواية أُخرى مخالفة معها «3»، فإنّ ذلك يورث القصور في جريان قاعدة عدم السهو و الغفلة في حقّه عند العقلاء، اللّهمّ إلّا على الجمع العرفي الذي أبدعناه، فتأمّل.

المراد من السعة

ثمّ إنّ المتفاهم العرفيّ منه، كون المراد من «السعة» هو الطول و العرض، و التعبير عنهما بذلك؛ لعدم الخصوصيّة لأحد الضلعين على الآخر، و ذكر «العمق» بخصوصه لعدم تماميّة المقصود إلّا به على

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 309.

(2) المقنع: 31.

(3) عن

إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) .. قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.

الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 312

الوجه السهل، و دعوى الخصوصيّة في ذلك «1»، غير قابلة للتصديق.

فعليه يلزم كون كلّ طرف منه ذراعاً و نصفاً، و عمقه ذراعين، و إذا كان كلّ ذراع شبرين، يلزم كون المجموع بعد ضرب أحد الضلعين في الآخر، و ضرب المجموع في العمق ستّة و ثلاثين شبراً، و لا حاجة إلى شاهد في ذلك بعد مساعدة الوجدان، و المناط في هذه التحديدات هي الأوساط العرفيّة.

و توهّم أنّ الحدّ الشرعيّ للذراع و هو القدمان «2» ممّا ورد في مآثير المواقيت «3»، في غير محلّه؛ لعدم دلالتها علىٰ أنّه المراد منه في جميع الأبواب، كما لا يخفى.

توهّم دلالة السعة على الشكل الاسطواني

و قد يشكل: بأنّ المتفاهم العرفيّ من قوله

سعته

هو الشكل الدوريّ «4»، فإنّه المتعارف في الكرّ أوّلًا مع عدم ذكر من الطول و العرض، مع أنّه لا يكون جميع الأطراف أشباراً ثلاثة؛ لأنّ بين النقطتين الذي هو قطر المربّع، أكثر من الأضلاع، فعندئذٍ لا بدّ من كون سطح الدائرة ثلاثة أشبار، و عمقها أربعة.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 199.

(2) جواهر الكلام 1: 178.

(3) وسائل الشيعة 4: 136 140، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 7.

(4) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 199.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 313

و إذا أردت معرفة المجموع، فعليك أوّلًا معرفة مساحة سطح الدائرة، ثمّ الضرب في العمق، و تلك المساحة تحصل من ضرب الشعاع و هو نصف القطر في نفسه، ثمّ ضرب

الحاصل في العدد «پي»، و هو 14/ 3، فإذا حصل منه 065/ 7 فاضربه في الأربعة أشبار، فيحصل منه الثمانية و العشرون شبراً و ستّة و عشرون في المائة؛ أي 26/ 28، فلا تدلّ الرواية علىٰ ما هو المعروف منها.

و أمّا توهّم دلالتها علىٰ أنّه السبعة و العشرون تسامحاً «1»، فهو فاسد؛ لعدم المعنى للتسامح في التحديدات إلّا على الوجه الذي ذكرناه، فعلى هذا تكون الرواية ظاهرة في غير ما ذهب إليه الأُمّة، و مفادها أمر وراء ما اختاره الأصحاب إلّا من شذّ.

إبطال التوهّم السابق

و في كون الظاهر منه الشكل الدوريّ إشكال، بل منع؛ ضرورة أنّ العرف لا يجد خصوصيّة للشكل، بل يجد أنّ هذه الرواية و أمثالها في جميع المقامات، ظاهرة في إفادة المقدار الذي يتسع به هذه المساحة، سواء كانت دوريّة أو مكعّبة، و اختيار الدور لكون بعض الظروف دوريّاً غير صحيح؛ للزوم توهّم خصوصيّة من بين الأشكال، فالمراد إفادة المقدار المذكور، و سواء فيه جميع الأشكال، و لا نظر إلى الشكل الخاصّ.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 201.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 314

توهّم إجمال الرواية و جوابه

و توهّم: أنّ الرواية مجملة «1»، في غير محلّه؛ لأنّ عدم إمكان الالتزام بمفادها، غير الإجمال في دلالتها.

و دعوىٰ: أنّ «الذراعين» مجمل حسب حمله على الأقدام أو الأشبار «2»، غير مسموعة بعد اتفاقه مع الشبر، و إرادة القدم منه في مورد أو موردين لا يورث الإجمال، فلا معنى لرفع اليد ما دام لم يكن في الكلام قرينة خاصّة، أو لم يكن الاستعمال شائعاً إلىٰ حدّ الحقيقة الشرعيّة؛ بحيث يكون «الذراع» ظاهراً في القدمين في محيط المتشرّعة و الشريعة، فعليه تكون الرواية ظاهرة في أنّ الكرّ ستّة و ثلاثون شبراً.

و لو سلّمنا الإجمال، و لكنّها في جميع محتملاتها نافية لما يستفاد من غيرها، فيدور الأمر بين كونها ظاهرة في الأكثر من ثمانية و عشرين قدماً أو شبراً، أو ظاهرة في ستّة و ثلاثين قدماً أو شبراً، أو تكون مجملة من الجهتين، و نافية لسبعة و عشرين و ثلاثة و أربعين، و هذا كافٍ.

و دعوىٰ رفع الإجمال في ناحية القدم؛ لأنّه زائد على الشبر بمقدار يسير و هو السدس «3»، فاسدة؛ لأنّه كذلك إذا كان «القدم» و «الشبر» موضوعين، دون الأقدام

و الأشبار، فإنّه إذا بلغت إلى كثير تزداد القلّة، و ربّما

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 65.

(2) دليل العروة الوثقىٰ 1: 87.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 155.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 315

يصير الاختلاف بين الأقدام و الأشبار في الرواية إلى أكثر من ثلاثة أشبار، كما لا يخفى.

بعد المحتملات الأُخر

ثمّ إنّ الاحتمالات الأُخر الكثيرة في الرواية، بعيدة في الغاية: بأن تكون الرواية ناظرة إلى العمق و الطول، و ساكتة عن العرض، فمن هذا الضلع يكون الأمر بالخيار.

أو تكون ناظرة إلى العرض، فلا بدّ من كون الضلع الآخر أزيد من الذراع و الشبر.

أو تكون ناظرة إلى الأبعاد الثلاثة، فيكون الطول ذراعاً، و العرض الذي أُريد من كلمة

سعته

يكون شبراً، فلا بدّ حينئذٍ من قراءة «الشبر» بالرفع «1».

فبالجملة: قد مضى أنّ المحقّق في «المعتبر» أفتىٰ بمضمونها علىٰ ما يظهر منه، حيث قال بعد الإشكالات في سائر الأخبار: «فهذه» مشيراً إليها «حسنة، و يحتمل أن يكون قدر ذلك كرّاً» «2» انتهىٰ.

و مراده من «الحسنة» هي الموافقة للتحقيق، لا مقابل الصحّة و الضعف.

و هذه مورد فتوى «المدارك» أيضاً حيث قال في ذيله: «و هو متّجه» «3»

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 178.

(2) المعتبر 1: 46.

(3) مدارك الأحكام 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 316

فما في «الحبل المتين» من نفي عمل واحد من الأصحاب بها «1»، غير موافق للصواب.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علىٰ أنّه ثلاثة أشبار و نصف، في ثلاثة أشبار و نصف، في ذلك أيضاً
اشارة

فمنها: رواية أبي بصير، ففي «التهذيب» و «الاستبصار»: أخبرني الشيخ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد «2»، عن عثمان بن عيسىٰ، عن ابن مُسْكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكرّ من الماء، كم يكون قدره؟

قال (عليه السّلام)

إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفاً «3»، في مثله ثلاثة أشبار و نصف، في عمقه في الأرض، فذلك الكرّ من الماء «4».

و مثله في «الكافي» «5».

و منها: ما رواه «الكافي» عن محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن

صالح الثوريّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

إذا

______________________________

(1) الحبل المتين: 108/ السطر الأخير.

(2) في التهذيب إضافة «ابن يحيى» (منه (قدّس سرّه)).

(3) في الاستبصار: «و نصف» (منه (قدّس سرّه)).

(4) تهذيب الأحكام 1: 42/ 116، الإستبصار 1: 10/ 14، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 6.

(5) الكافي 3: 3/ 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 317

كان الماء في الرَّكيّ كرّاً لم ينجّسه شي ء.

قلت: و كم الكرّ؟

قال

ثلاثة أشبار و نصف عمقها، في ثلاثة أشبار و نصف عرضها «1».

البحث الدلالي

و دلالتها عليه واضحة، و يصير المجموع عشرة أشبار و نصفاً، و إليه ناظر كلام الراونديّ «2»، و النظر إلى الضرب غير موافق للأنظار السطحيّة؛ لعدم الحاجة إلى الاطلاع عليه، بل الاطلاع على الأضلاع، كافٍ في حصول المطلوب.

و توهّم قصور دلالة الرواية الأُولىٰ علىٰ مقالة المشهور؛ لعدم ذكر البعد الثالث فيها «3»، في غير محلّه؛ إمّا لعدم الحاجة إليه، أو لظهور قوله

في مثله

في البعد الثاني، و الجملة الثالثة في البعد الثالث.

و إن شئت قلت: استفادة الأبعاد الثلاثة، لا يمكن إلّا من العبارة الشاملة للجمل الثلاث و الرواية مشتملة عليها؛ فإنّ قوله

في مثله

الجملة الثانية، و إلّا يلزم التكرار، فيحصل البعدان من هذه الكلمة، و الجملة الثالثة صريحة في العمق، و لا يتصوّر العمق إلّا فيما كان

______________________________

(1) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

(2) تقدّم في الصفحة 308، الهامش 10.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 208.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 318

للشي ء جنبان آخران، فإنكار دلالة هذه الطائفة علىٰ ما هو المشهور بل المدّعىٰ عليه

الإجماع «1»، في غاية المكابرة، فلا حاجة إلى الجملة الأُولىٰ الزائدة في «الإستبصار» في الرواية الثانية «2».

مع أنّ تقديم أصالة عدم النقيصة علىٰ عدم الزيادة، قريب من حكم العقلاء.

و الذي يخطر بالبال: إبدال كلمة

في الأرض

إلىٰ: «في العرض» في الرواية الأُولىٰ؛ فإنّه يناسب المقام، و لا يناسبه تلك الجملة جدّاً.

نعم، في التركيب الواصل إلينا، لا يمكن تغيّر كلمة «في العرض» بوجه عرفيّ، فلعلّ الراوي قدّم و أخّر في العبارة، و كان غرضه إفادة الأبعاد الثلاثة، و اللّٰه العالم.

البحث السنديّ

ثمّ إنّ الذي هو المهمّ في المقام، تصحيح سند هاتين الروايتين، و لقد تصدّى الأصحاب رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم في كتبهم الاستدلاليّة لذلك «3»، و أطالوا المقال في المقام، و الذي يمكن المصير إليه في هذه المرحلة وجوه

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 318

______________________________

(1) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(2) الاستبصار 1: 33/ 88.

(3) الحدائق الناضرة 1: 268، جواهر الكلام 1: 173، مهذّب الأحكام 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 319

أحدها: انجبار الضعف بعمل المشهور «1»، و توهّم أنّه الشهرة غير العمليّة، في غير محلّه؛ لتمسّكهم بها في كتبهم، و لظهور أنّ مستندهم ليس إلّا ذاك.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بعدم تماميّة الشهرة؛ لذهاب القمّيين إلىٰ خلافهم «2»، و فيهم الصدوق في بعض كتبه «3»، و والده (رحمه اللّٰه)، بل في عدم اعتمادهم على مثلهما وهن عليهما، بل هو ظاهر كلّ من ألغى التحديد بالمساحة، و اكتفىٰ بذكر حدّ الكرّ بالوزن.

ثانيها: وجود ابن محبوب في الرواية الثانية، فإنّه من

أصحاب الإجماع، و السند إليه معتبر؛ لأنّ المراد بابن يحيىٰ هو العطّار، و بأحمد بن محمّد إمّا ابن عيسىٰ، أو ابن خالد، و كلاهما جليلان ثقتان «4»، و من بعده و إن كان محلّ الخلاف، إلّا أنّ رواية ابن محبوب عنه كثيراً، تكفي لوثاقته و حسنه.

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25، مستند الشيعة 1: 62، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 152.

(2) لاحظ الخلاف 1: 190.

(3) لاحظ الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 17.

(4) أحمد بن محمّد بن عيسىٰ بن عبد اللّٰه بن سعد بن مالك بن الأحوص بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري، من بني ذخران بن عوف بن الجماهر بن الأشعر، يكنّى أبا جعفر و أوّل من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص.

ثقة له كتب، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا (عليه السّلام).

رجال الطوسي: 366، رجال النّجاشي: 81/ 198، معجم رجال الحديث 2: 296.

أحمد بن محمّد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمّد بن علي البرقي أبو جعفر، أصله كوفي و كان جدّه محمّد بن علي .. كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء و اعتمد المراسيل و صنّف كتباً ..

رجال النجاشي: 76/ 182، معجم رجال الحديث 2: 261.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 320

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ حديث أصحاب الإجماع، غير راجع إلىٰ محصّل «1»، فعليه لا بدّ من استفادة الوثاقة له من كلمات القوم.

و الّذي يظهر لي: أنّ طعن الشيخ (رحمه اللّٰه) في «التهذيب» محصور بالنسبة إلىٰ ما يختصّ بروايته، و ظاهره ترخيص العمل بجميع رواياته التي لا يختصّ بها، و مثلها هذه الرواية.

هذا، مع أنّ ظاهر الوحيد حسنه «2»؛ لأنّ

عدم استثنائه و إن لم يستلزم الوثاقة، و لكنّه دليل عدم المجروحيّة، و هو يلازم مرتبة من الحسن، فما في «التنقيح» «3» في غير محلّه من وثاقته.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ أيضاً، عدم ثبوت حسنة إلّا بتصريح أرباب الرجال الأقدمين، و هم ساكتون عنه، فتدبّر جيّداً.

ثالثها: تصحيح سند الرواية الأُولىٰ ذاتاً؛ و ذلك بدعوىٰ أنّ أحمد بن محمّد هو ابن عيسىٰ، أو هو ابن خالد، و كونه ابن يحيىٰ كما في «التهذيب» غير تامّ، أو أنّه معتبر في نفسه أيضاً.

و بدعوىٰ: أنّ ابن عيسىٰ موثوق به.

و بدعوىٰ: أنّ أبا بصير أمّا أحد الثلاثة الذين هم كلّهم ثقات، كما عن

______________________________

(1) قال الشيخ في تهذيب الأحكام 1: 408، ذيل الحديث 1282: و الراوي له الحسن بن صالح و هو زيدي بتري، متروك العمل بما يختصّ بروايته.

تنقيح المقال 1: 285/ 2579، معجم رجال الحديث 4: 361.

(2) تعليقة الوحيد البهبهاني علىٰ منهج المقال (الطبعة الحجريّة): 101.

(3) تنقيح المقال 1: 285/ 2581.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 321

الوحيد «1»، أو هو الليث المراديّ كما استظهره «الجواهر» «2» أو يكفي رواية عبد اللّٰه بن مُسْكان عنه في الوثوق «3»؛ لأنّه من أصحاب الإجماع.

فعليه لا بدّ من إثبات هذه الدعاوي الثلاث حتّى يتبيّن الحقّ.

المراد من أحمد بن محمّد في المقام

أمّا الدعوى الأُولىٰ، فإثباتها قليل المئونة؛ لأنّ ابن يحيىٰ في هذه الطبقة، ليس الذي يروي عنه الصدوق بلا واسطة، و لا الفارسيّ الذي يروي عنه التلعُكْبريّ سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة، فينحصر بكونه ابن العطّار، و لزوم رواية الأب من الابن ممّا لا بأس به جدّاً و قطعاً، و هو ثقة و معتبر على الأصحّ.

إلّا أنّ الالتزام به أيضاً غير صحيح؛ لرواية التلعُكْبريّ المتوفّىٰ سنة

385 عنه أجازه في سنة ستّ و خمسين و ثلاثمائة، فهذا ابن يحيىٰ من المهملين، لا الضعفاء و المجاهيل.

و من المحتمل كونه ابن يحيى الكوفيّ، أخا كامل بن محمّد، من أصحاب الكاظم (عليه السّلام) إلّا أنّه لا يفيد شيئاً.

و لأجل ذلك التجأ الأصحاب (رحمهم اللّٰه) إلى إثبات أنّه ابن عيسىٰ، و قد وقع

______________________________

(1) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9، جواهر الكلام 1: 174.

(2) جواهر الكلام 1: 174.

(3) مهذّب الأحكام 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 322

التصحيف أو اشتبه الأمر على بعض النسّاخ «1»؛ ذاكرين: «أنّه هو الذي يروي عنه العطّار كثيراً، و يروي عن عثمان بن عيسىٰ مراراً» و قد ادّعى «الحدائق» القطع بذلك «2»، و استوجهه الآخرون «3» حتّى الوالدُ «4»، مؤيّدين ذلك بتفرّد نسخة «التهذيب» بذكر ابن يحيىٰ و عدم طعن جملة من المتأخّرين كالعلّامة «5» و غيره «6» في سند الرواية إلّا بعثمان بن عيسىٰ و أبي بصير، و إلّا كان هو الأولىٰ؛ لتقدّمه و مجهوليّته المطلقة.

و لك دعوى: أنّ الرواية مرويّة مرّتين؛ مرّة بابن عيسىٰ، و مرّة بابن يحيىٰ، فما في «الكافي» «7» و «الاستبصار» «8» هو ابن عيسىٰ علىٰ ما قيل: «بأنّ أحمد بن محمّد عند الإطلاق في أوائل السند هو ذاك» أو هو و ابن خالد البرقيّ؛ لكونهما في الطبقة الواحدة، و قد روىٰ عنهما الكلينيّ بالعدّة المذكورين في محلّه، و ما في «التهذيب» هو ابن يحيىٰ «9»؛ للتصريح به، فتكون الرواية من هذه الجهة نقيّة كما هو الواضح. و لكنّه بعيد في حدّ ذاته، كما لا يخفى.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 173.

(2) الحدائق الناضرة 1: 268.

(3) الحدائق الناضرة 1: 268، مستند الشيعة 1:

62، جواهر الكلام 1: 173.

(4) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) اللنكراني (مخطوط).

(5) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25.

(6) كشف الرموز 1: 47، روض الجنان: 140/ السطر 15.

(7) الكافي 3: 3/ 5.

(8) الإستبصار 1: 10/ 14.

(9) تهذيب الأحكام 1: 42/ 116.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 323

وثاقة أحمد بن محمّد بن عيسىٰ

و أمّا الدعوى الثانية، فإثباتها حسب ما يؤدّي إليه النظر الدقيق ممكن؛ و ذلك لأنّ اجتماع الوجوه الكثيرة، كافٍ في حصول الوثوق و إدراج مثل ابن عيسىٰ في المعتبرين؛ ضرورة أنّ أمره دائر بين كونه من الثقات الأجلّاء، أو الموثّقين، أو من الذين عثروا في برهة، ثمّ تابوا و رجعوا.

و أمّا احتمال كونه متروك الرواية كما يظهر من العلّامة، فقال: «الوجه عندي التوقّف فيما ينفرد» «1» و في كتب الاستدلال جزم بضعفه «2» فهو غير تامّ، مع احتمال كونه راجعاً إلىٰ غيره، و لو كان الأمر كما قيل، لكانت الرواية في هذه المسألة معتبرة؛ لافتائه بها في كتبه الكثيرة «3».

و لقد تصدّى المتضلّع النحرير، و الخبير البصير، شيخ إجازتنا النوريّ في «الخاتمة» لوثاقته، فأتىٰ بما هو حقّ النظر إلّا ما شذّ «4».

و لكنّ الذي يسهّل الخطب: أنّ إمعان الأنظار الدقيقة، و إعمال القوى الفكريّة، في إخراج الرجالات العلميّة من المطاعن المحكيّة، إلىٰ معالي و مدارج المحاسن الجليّة، خارج عن الطرق العقلائيّة في حجّية أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة الأطهار صلوات اللّٰه تعالىٰ

______________________________

(1) رجال العلّامة الحلّي: 244.

(2) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25.

(3) إرشاد الأذهان 1: 236، قواعد الأحكام: 4، تذكرة الفقهاء 1: 19.

(4) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 602/ السطر 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 324

عليهم أجمعين.

و الذي هو المهمّ في المقام، أنّه

لم يضعّفه أرباب الرجال، و الالتزام بالفسق و الفجور و الشرك و الكفر في رواة الأحاديث، إذا كانوا متحرّزين عن الأكاذيب، ممّا لا بأس به، و ابن عيسىٰ منهم؛ أي ممّن لم يضعّف. و لو فرضنا اندراجه في القسم الثاني، و لكنّه معتبر ظاهراً؛ لعدم الحاجة إلىٰ تلك النظرة العلميّة بعد الغور فيما وصل إلينا في حقّه، فراجع و تدبّر.

وثاقة أبي بصير

و أمّا الدعوى الثالثة، فيمكن إثباتها:

تارة: برواية ابن مُسْكان الذي هو من أصحاب الإجماع، و فيه ما قد أُشير إليه «1».

و أُخرى: بأنّ «أبا بصير» كنية المكفوفين؛ و هم ليث بن البختريّ المراديّ أبو يحيىٰ، و أبو بصير الأصغر الذي عدّ من أصحاب الباقرين و الكاظم (عليهم السّلام) و يحيى بن القاسم الأسديّ أبو محمّد، و هو أبو بصير الأكبر الذي عدّ من أصحاب الصادق و الكاظم (عليهما السّلام) و يحيى بن أبي القاسم الحذّاء المكفوف، الذي عدّ من أصحاب الباقر (عليه السّلام).

و لا شبهة في وثاقه الثاني؛ لتصريح أربابه «2»، و قد مات سنة خمسين و مائة، التي مات فيها جمع من الأقدمين من الأصحاب رضي اللّٰه عنهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 320.

(2) رجال النجاشي: 441.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 325

و الظاهر وثاقة الأوّل أيضاً؛ لشهادة المآثير الكثيرة المرويّة في «الكشّي» و عدم طعن أحد منهم فيه «1»، و صريح كلام ابن الغضائريّ في وثاقته «2» كافٍ و إن جرح في دينه، و هو لا يتمّ و لا يضرّ، و التفصيل في محلّه، و ما ورد من المآثير الذامّة لا يعارض المادحة؛ لمحموليّتها علىٰ ما حمل عليه ما ورد في حقّ زرارة و ابن مسلم «3»، مع أنّها لو كانت ساقطة بالتعارض،

يكفي لحسن حاله الشواهد و القرائن الأُخر، فتدبّر.

و لقد تعرّض لتفصيل البحث، العالم المعاصر صاحب «قاموس الرجال» حفظه اللّٰه تعالىٰ في رسالة علىٰ حدة «4»، فإن شئت فعليك بالمراجعة إليها.

و أمّا ابن أبي القاسم، فالذي يظهر لي هو أنّه السابق آنفاً، و ما في «التنقيح» تبعاً لجماعة من الأصحاب أنّه الثالث «5»، غير ثابت، بل الثابت أنّه أبو بصير الأكبر حذاء الأصغر، و لو كان الثالث غير الثاني ليلزم التوصيف على عكسه؛ لأنّ الأصغر عدّ من أصحاب الثلاثة، و الأكبر عدّ من أصحاب الاثنين، فهو و الثاني واحد، فيكون أبو بصير اثنين، و هما من أصحاب الثلاثة، إلّا أنّ أحدهما أكثر علماً و ورعاً و عنواناً؛ و هو الذي لم

______________________________

(1) رجال الكشي 1: 398.

(2) جامع الرواة 2: 34.

(3) معجم رجال الحديث 7: 226، و 17: 255.

(4) الرسالة المبصرة في أحوال أبي بصير، المطبوع في ملحق الجزء الحادي عشر من قاموس الرجال.

(5) تنقيح المقال 3: 309/ 12975.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 326

يصرّح الأصحاب بوثاقته إلّا «جامع الرواة» في ذيل كلامه «1»، و الآخر في الرتبة المتأخّرة مع كونه واقفيّاً، و قد صرّح النجاشي فقط بوثاقته و وجاهته «2»، و اللّٰه العالم.

هذا، و أمّا دعوى وثاقة الكلّ، فهي غير مبرهنة، و مجرّد توثيق الآقا (رحمه اللّٰه) «3» غير كافٍ، و لكن حسب ما يؤدّي إليه نظرنا في الطريقة العقلائيّة في حجّية أخبار الآحاد، وثاقة الكلّ.

و أمّا دعوى: أنّ أبا بصير في الرواية أحدهم المعيّن؛ و هو الليث المراديّ؛ لرواية ابن مُسْكان عنه، كما في «الجواهر» «4» فغير ناهضة عليها الحجّة الشرعيّة.

نعم دعوى: أنّه إمّا الليث أو الأسديّ، و احتمال كونه الثالث «5» بعيد؛

لعدم كونه من أصحاب الصادق (عليه السّلام) فتكون الرواية لأحد الأوّلين، قريبة، و ربّما تقوم عليها الحجّة؛ لما أُشير إليه كما لا يخفى.

و غير خفيّ: أنّ الليث المراديّ هو أبو بصير الذي لم يصرّح الأقدمون بوثاقته، فكان على «الجواهر» استظهار أنّه الأسديّ، فتكون الرواية لأجله موثّقة، فلا تغفل.

فبالجملة: بعد اللّتيّا و التي، دعوى الوثوق بالصدور بعد اعتضادها

______________________________

(1) جامع الرواة 2: 338.

(2) رجال النجاشي: 441.

(3) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.

(4) جواهر الكلام 1: 174.

(5) ذخيرة المعاد: 122/ السطر 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 327

بالشهرة القويّة «1» مسموعة جدّاً، و بعد ما عرفت وضوح دلالتها على الأبعاد الثلاثة، و أنّ معناها هو أنّ الكرّ هو أن يكون الماء ثلاثة أشبار و نصفاً، في نفسها ثلاثة أشبار و نصفاً، في العمق في الأرض، و التركيب واضح؛ فإنّ الخبر بعد الخبر في الأدب معروف و جائز، و هناك هو الأقرب إلىٰ أُسلوب الكلام من غيره؛ لأنّ المراد بيان أمر واحد متعدّد الجهة و الأبعاد، فلا بدّ من عدّ هذه الطائفة معارضة مع سائر الطوائف.

بطلان إرادة الشكل الاسطواني

فما ترى في بعض الكتب الحديثة؛ من دلالتها على الدوريّة، فيكون المجموع ثلاثة و ثلاثين شبراً، و نصفاً، و ثمناً، و نصف الثمن «2»، لا يرجع إلى المحصّل، و خروج عن الأفهام السوقيّة في فهم الأحاديث المرويّة.

و أمّا الشبهة تارة: في رواية ابن يحيىٰ «3»؛ بأنّها في الدوريّة، لأنّ موضوعها

الرَّكي

و هو دوريّ «4».

و أُخرى: بأنّ صدرها متضمّن لاشتراط الكرّية في عدم انفعال ماء

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 152.

(2) مهذّب الأحكام 1: 183.

(3) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب

9، الحديث 8.

(4) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 328

البئر، و هو غير مقبول «1».

و ثالثة: بأنّ النسخة الصحيحة الأصليّة و هي «الكافي» و «التهذيب» بل و النسخة المصحّحة من «الإستبصار» خالية عن الجملة الأُولىٰ، فتكون هي مشتملة للبعدين: العمق، و العرض «2».

فكلّها واهية واضحة:

أمّا الأُولىٰ فتدفع: بأنّ الأخذ بخصوصيّات الحدّ، يورث شرطيّة الدوريّة في عدم انفعال الماء، و هو واضح المنع، فعليه يعلم أنّ جميع المآثير بصدد بيان المقدار الذي لا ينفعل، و هو الذي يملأ هذه المساحة، من غير النظر إلى الدوريّة أو المكعّبية، مربّعية أو مستطيليّة أو غير ذلك، سواء كان أحد البعدين أكثر من الآخر، أو البعدان أزيد من الثالث، أو يكون أحد الأبعاد نصف شبر، و الآخران إلىٰ حدّ ينجبر نقصان البعد الناقص و هكذا، فحمل هذه التحديدات على الشكل الخاصّ من الهندسيّ، من سوء الدرك.

و أمّا الثانية: فلأنّ من الأصحاب من يقول بذلك «3»، فلا يلزم التفكيك بحسب الصدور، بل هو قضيّة الجمع بين المآثير، و هذا ممّا لا يورث الوهن في ذيلها، كما لا يخفى.

و أمّا الثالثة فتدفع: بعدم الحاجة إلى تلك الجملة؛ لما عرفت من

______________________________

(1) مرآة العقول 13: 11، مصباح الفقيه، الطهارة: 29/ السطر 12.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 205.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 329

أنّ العمق لا يتصوّر إلّا مع البعدين، و أمّا كون البعدين شخصين بعنوان «العرض» و «الطول» فهو غير لازم، بل يستلزم توهّم خصوصيّة الدوريّة في عدم الانفعال، كما مضى.

مع أنّ العرض في مقابل العمق بدون ذكر الطول، ظاهر في السعة، بل أُريد منه

ذلك في قوله تعالىٰ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ «1» و هكذا في قوله عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ «2» فليتدبّر.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على أنّه ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار ضرباً
اشاره

فيكون المجموع سبعة و عشرين.

فمنها: ما رواه المشايخ الثلاثة بالأسانيد الأربعة، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد ابن خالد البرقيّ، عن ابن سِنان، عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء.

فقال

كرّ.

قلت: و ما الكرّ؟

قال

ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار «3».

و في كون ما في «المجالس» من أنّه قال: «و روى: أنّ الكرّ هو ما

______________________________

(1) الحديد (57): 21.

(2) آل عمران (3): 133.

(3) الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 330

يكون ثلاثة أشبار طولًا، في ثلاثة أشبار عرضاً، في ثلاثة أشبار عمقاً» «1» روايةً غيرَ ما مرّ «2» إشكال، و لعلّه نقل بالمعنى مضمونها، مع أنّها لا فائدة فيها لإرسالها، فتبقى الاولىٰ وحيدة مستند الصدوقين على ما حكي «3» و سائر القمّيين، علىٰ ما نسبه إليهم «السرائر» «4» و جماعة من المتأخّرين «5».

البحث الدلاليّ لرواية إسماعيل بن جابر

و الكلام فيها بحسب الدلالة واضح؛ لأنّها حسب المتفاهم العرفيّ ظاهرة في الضرب، و احتمال تعرّضها للبعدين، و عدم ذكر العمق؛ لعدم لزوم كونه مثلهما، بل هو علىٰ حسب المتعارف في مثله، غير مضرّ؛ لعدم مساعدة العرف معه. و هكذا لو كان العمق مورد التعرّض دون أحد الضلعين الآخرين.

و أمّا تتميم الضلع الآخر بالإجماع «6»، فهو لا يخلو من غرابة. هذا كلّه حول دلالتها.

______________________________

(1) الأمالي، الصدوق: 514.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 157، مهذّب الأحكام 1: 185.

(3) حبل المتين: 108/ السطر 10.

(4) السرائر 1: 60.

(5) حبل المتين: 108/ السطر 10، مدارك الأحكام 1: 49.

(6) الحدائق الناضرة 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 331

البحث السندي للرواية السابقة

و الذي هو المهمّ تصحيح سندها، ففي «التهذيب»: «أخبرني الشيخ أيّده اللّٰه تعالىٰ، عن أحمد بن محمّد بن الحسن» و هو ابن الوليد الثقة «عن أبيه» و هو الجليل الثقة المتوفّىٰ سنة 343 «عن محمّد بن يحيىٰ» و هو العطّار الثقة «عن محمّد بن أحمد بن يحيىٰ» و هو الثقة المعتمد «1».

و في «الاستبصار»: «أخبرني الحسين بن عبد اللّٰه، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار» و هو الثقة و إن لم يصرّح الأقدمون به «عن أبيه، عن محمّد بن أحمد بن يحيىٰ» و هو الماضي آنفاً «عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ» و هما الثقتان «عن عبد اللّٰه بن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «2».

و في «التهذيب»: «أخبرني الشيخ أيّده اللّٰه تعالىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد، عن عبد اللّٰه، عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ، عن محمّد بن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «3».

و في «الكافي»: «محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ،

عن ابن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 41/ 115.

(2) الاستبصار 1: 10/ 13.

(3) تهذيب الأحكام 1: 37/ 101.

(4) الكافي 3: 3/ 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 332

الإشكال في صحّة السند لأجل محمّد بن سنان

و قضيّة ما أُشير إليه في أثناء السند، اعتبار جميع الإسناد إلى ابن سِنان، و حيث أنّه سواء كان عبد اللّٰه، أو محمّداً ثقة علىٰ ما تقرّر، فلا تبقىٰ شبهة فيه، فتصير هذه الطائفة أيضاً قابلة ذاتاً للمعارضة مع ما سبق.

و لو سلّمنا أنّ محمّداً ليس ثقة؛ لتصريح كثير من أرباب الرجال و العلم بضعفه، و لكنّه في هذه الرواية موثوق به، مقبولة روايته لدى القمّيين، الذين هم معلومو الحال في الدقّة الخاصّة بهم في السند و الرواية، بل ذلك إمّا دليل وثاقته، أو دليل أنّه عبد اللّٰه الذي صرّح الأصحاب بوثاقته.

و قد يشكل ذلك كلّه: بأنّ محمّداً ضعيف، و من في السند هو محمّد، أو يحتمل قويّاً كونه هو، فيسقط الخبر عن الاستدلال به، و لا شهرة علىٰ طبقها حتّى تكون جابرة «1»، و ما ترى من تصحيح السند من زمن العلّامة إلى العصور المتأخّرة، للغفلة عن حقيقة الحال؛ و ذلك أنّ محمّداً المتوفّىٰ سنة العشرين و المائتين بحسب الطبقة معاصر للبرقيّ، و لم يعهد في الإسناد رواية البرقيّ إلّا عن محمّد، فإمكان روايته عنه غير كافٍ، بل لا بدّ من القرينة علىٰ وقوعها، و إذا كان الواقع منحصراً بهذه الرواية المختلفة أيضاً في الإسناد كما عرفت، فلا يمكن دعوى أنّه عبد اللّٰه جدّاً.

______________________________

(1) لاحظ منتقى الجمان 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 333

فبالجملة: إشكال صاحب «المعالم» على الرواية سنداً «1» و إن كان مدفوعاً بجوانبه بما

عن البهائيّ «2»، إلّا أنّ ما هو الحجر الأساس أمران:

عدم رواية البرقيّ عن عبد اللّٰه بحسب ما في الأسانيد «3»، و إن أمكن ذلك بحسب الطبقات.

و عدم رواية عبد اللّٰه عن جابر بن إسماعيل أيضاً بحسب ما حكي في الأسانيد الموجودة «4».

و أمّا دعوى روايتهما معاً، فهي بذاتها ممكنة، و لكنّها بعيدة جدّاً، فعليه لا يمكن حلّ المشكلة إلّا بما أُشير إليه؛ و هو وثاقة ابن سِنان، و لقد تصدّى لها الشيخ المعظّم النوريّ (قدّس سرّه) في «الخاتمة» «5»، و السيّد بحر العلوم في «رجاله» «6».

و الذي هو المشكل، قصور أدلّة حجّية خبر الواحد عن شمول هذه المآثير، التي بالاجتهادات العلميّة و القواعد الفكريّة يمكن توثيق رواتها، فلاحظ و تدبّر.

نعم، في خصوص هذه الرواية، يمكن دعوى الوثوق بالصدور بما مرّ من الشواهد.

______________________________

(1) منتقى الجمان 1: 36.

(2) مشرق الشمسين: 387.

(3) انظر جامع الرواة 1: 487.

(4) انظر جامع الرواة 1: 93.

(5) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 558.

(6) رجال السيّد بحر العلوم 3: 278.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 334

توهّم الفقيه الهمداني و الجواب عنه

و أمّا توهّم حذف كلمة «نصف» من هذه الرواية، كتوهّم زيادة «نصف» علىٰ رواية أبي بصير، فكلاهما ممّا لا يصغى إليه، و لا ينبغي للفقيه- و هو الهمدانيّ (رحمه اللّٰه) «1» و غيره «2» التدخّل في هذه المجالات؛ لاستلزامه الملاعبة في الطرق الاجتهاديّة، و لا معنىٰ للجمع بين المآثير بمثل ذلك و أمثاله.

الطائفة الرابعة: ما يكون ظاهرها أنّه ذراعان و شبر، في ذراعين

و هو مفاد ما روي عن «المقنع» «3» و النسخ مختلفة:

ففي «الوسائل»

في ذراعين و شبر «4».

و في بعض النسخ

ذراع و شبر، في ذراع و شبر «5».

فما أفاده «الوسائل» من الحمل «6» لا يصحّ على النسخ الأُخر، فعليه يلزم الإشكال، و الأمر سهل؛ لعدم تماميّة السند أيضاً.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 29/ السطر 27.

(2) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 102.

(3) المقنع: 31.

(4) وسائل الشيعة 1: 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 3.

(5) وسائل الشيعة (الطبعة الحجريّة) 1: 81/ السطر 19.

(6) لاحظ وسائل الشيعة 1: 164 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 335

تعارض الطوائف السابقة و علاجه

فبالجملة: هذه الطوائف الأربع متكاذبة.

و من العجب، كلّ من ذهب إلىٰ جانب، خدش سند الطوائف الأُخر!! و حيث هم أرباب الفضل و الرجال، يلزم الوهن في جميع الأسانيد.

أو يقال: لعدم تدبّرهم في المسألة حقّه، وقعوا في حيص و بيص، و كلّ يجرّ النار إلى قرصه، و الاستظهار بالقرائن الكلّية و الجزئيّة، يختلف حسب اختلاف الأفهام و الأذواق و النفوس، فلا خير في ذلك كما هو واضح.

و من بنائهم على الخدشات السنديّة، يعلم أنّ الجمع الدلاليّ العقلائيّ في محيط التقنين و التشريع، غير ممكن بين هذه الشتات.

و حمل الأقلّ على الإلزام، و الأكثرِ علىٰ مراتب الندب و الاستحباب كما يلوح من بعض الأعلام «1» ليس من الحمل العرفيّ في هذه المواقف، خصوصاً في هذه الطوائف التي هي في مقام التحديد و الحصر، كما هو الواضح.

فعلى ما تقرّر، كما لا يمكن الجمع العقلائيّ بينها، لا يمكن ترجيح طائفة على أُخرى؛ لأنّ ما ورد في الترجيح بالشهرة، ناظر إلى الشهرة الفتوائيّة،

دون الروائيّة، و لا بدّ من كونها شهرة بحيث كان الغيّ في الطرف

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 52.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 336

الآخر بيّناً، و ليس الأمر في هذه المسألة كذلك.

و أمّا الترجيح بالكتاب و بمخالفة العامّة أيضاً فغير ممكن هنا؛ لما عرفت أنّ العامّة بين قائل بعدم الانفعال، و بين قائل بالانفعال في القليل العرفيّ، و بين قائل بالوزن «1»، و لا خبر من المساحة بينهم حتّى يكون بعض الطوائف ناظراً إليه.

هذا، و في شمول أخبار التعارض لهذه المسألة إشكال؛ ضرورة أنّ مفادها الأقلّ و الأكثر، و الأخذ بالأكثر أخذ بالأقلّ، و ظاهر المآثير في باب التعارض هو ما يكون الخبران مختلفين؛ بحيث لا يلزم من الأخذ بأحدهما الأخذ بالآخر، فليتدبّر.

فعلى هذا، تصبح المسألة مشكلة، فلا بدّ من الطرح و ردّ علمها إلى أهلها. و العملُ علىٰ طبق القواعد و الأُصول العمليّة و الالتزام بذلك، أيضاً في غاية الإشكال.

و توهّم الجمع الدلاليّ؛ بدعوىٰ أنّ الكرّ كيل، و البلاد مختلفة بحسب الكيل، كما قد مضى شطر من الكلام حول ذلك «2»، فلا بدّ من حمل الأخبار علىٰ مختلف البلاد، فما كان من البلاد كيله و كرّه المتعارف فيه ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار، فذلك المقدار من الماء عاصم، و هكذا سائر البلاد، فتصبح الطوائف المتكاذبة متوافقة، فهو و إن كان غير بعيد في ذاته، إلّا أنّه يحتاج إلى الشاهد القطعيّ و العرفيّ، و هو غير ناهض، بل

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229 231 و 291.

(2) تقدّم في الصفحة 305 306.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 337

الظاهر من السؤال عن الكرّ، عدم معلوميّة ذلك في عصر صدور الأخبار.

دفع التعارض بإرادة القليل و الكثير العرفيّين

فعند ذلك ترى:

أنّ ما سلكناه في هذا المضمار متعيّن، و أنّ جميع هذه الطوائف متوافقة في الإفادة، و أنّ المدار على القليل و الكثير العرفيّين، و ما ورد في الأخبار مصاديق الكثير العرفيّ، و هذا أمر يساعده الذوق السليم، و يناسبه الارتكاز و الوجدان، و تؤيّده الشواهد النقليّة المزبورة سابقاً؛ من الأخبار و الآثار، من غير لزوم التسامح؛ لأنّ الكلّ مصداق الكثير واقعاً، و بذلك يجمع بين هذه المآثير طرّاً، و ما ورد في الكرّ وزناً أيضاً، فلا تغفل، و لا تخلط جدّاً.

الجمع باختلاف المياه حسب الخلط و الصفاء و جوابه

و أمّا الجمع الدلاليّ بين المآثير؛ بدعوى اختلاف المياه حسب الخلط و الصفاء «1»، فغير جائز؛ للخروج عمّا هو الطريق الصحيح في الجمع، مع أنّه لو كان ذلك هو مراد المتكلّم، لكان عليه أن يجعل الطريق المتوسّط بين السبعة و العشرين و الثلاثة و الأربعين، ما هو المتوسّط بين المقدارين، و ليس الأمر كما توهّم.

و بعبارة اخرىٰ: و إن يمكن أن يجعل هذه المساحات الثلاث أمارة الكرّية، فإذا كان الماء صافياً خالصاً عن جميع الشوائب و الزيادات،

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 183 184.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 338

فالكرّ كذا، و إن كان خليطاً بمقدار متوسّط عرفي كالمياه المتعارفة في المدينة و العراق فالكرّ كذا، و إن كان خليطاً كثيراً جدّاً فالكرّ كذا، و لكنّه بلا شاهد، بل الشواهد كلّها علىٰ خلافه كما لا يخفى.

و أمّا ترجيح الطائفة الأُولىٰ على غيرها بالأصحّية، فقد أُشير إلىٰ ما فيه: من قصور شمول أخبار العلاج لما نحن فيه.

الجمع بالأماريّة و ما فيه

و ممّا ذكرنا مراراً يظهر: أنّ دعوى الجمع الدلاليّ بين شتات المآثير؛ بجعل الأقلّ كرّاً واقعاً، و جعل الأكثر أمارة و علامة لتحقّق ذلك قبله «1»، غير قابلة للتصديق؛ لإباء المآثير عن ذلك، و عدم المناسبة لاختلاف الأمارة عن ذي الإمارة بهذه المثابة.

و جعل الوزن أصلًا، و المساحة أمارة، أو بالعكس، أو جعل بعض الأوزان أمارة لبعض المساحات، و بعض المساحة علامة لبعض الأوزان، أو غير ذلك، فكلّه من التوهّم البارد الذي لا يجوز الإصغاء إليه، فما يظهر من بعض أفاضل العصر «2» و غيره «3» في المقام، غير مستقيم جدّاً.

و قد مضى: أنّ من القمّيين من يقول في الأوزان بالأزيد، و في

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 213.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 339

المساحة بالأنقص «1»، و المشهور علىٰ عكسه، فكيف التوفيق بين الفتاوي التي هي المأخوذة من المآثير و الأخبار بالأفهام العرفيّة؟! فعليه يتقرّر لك أنّ الأمر كما حقّقناه.

الجهة الثالثة: فيما يتوجّه إلى القوم و الأصحاب صدراً و ذيلًا فيما اختاروا في حدّ الكرّ وزناً و مساحة

فالمشهور القائلون: «بأنّه بحسب الوزن مائتان و ألف رطل عراقيّ» كيف ارتضوا أن يقولوا: «هو بحسب المساحة ثلاثة و أربعون إلّا ثمن شبر» مع أنّ الحدّ الأوّل دائم السبق على الثاني، و يكون الاختلاف بينه و بين المساحة كثيراً؟! فعن الأسترآباديّ: «أنّ ماء المدينة يساوي ستّة و ثلاثين شبراً» «2».

و عن المجلسيّ: «أنّه يساوي ثلاثة و ثلاثين» «3».

و قيل: «يساوي سبعة و عشرين» «4».

و قيل: «ثمانية و عشرون تقريباً» «5».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 290 291 و 307.

(2) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 276، جواهر الكلام 1: 178.

(3) مرآة العقول 13: 15، و انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(5) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 340

و القمّيون القائلون: «بأنّه مائتان و ألف بالرطل المدنيّ» «1» كيف ارتضوا في المساحة بأنّه سبعة و عشرون؟! و القائلون: «بأنّه في الوزن مثل الأوّل» كيف ارتضوا في المساحة بستّة و ثلاثين؟! مع أنّهم متوجّهون إلى اختلاف المياه خفّة و ثقلًا حسب الخلط و الصفاء، و ربّما يختلف ذلك حسب الجواذب ضعفاً و قوّة؛ فإنّ من الممكن اختلاف البلدان في ذلك، فيكون الشي ء الواحد في منطقة، أخفّ منه في المنطقة الأُخرىٰ.

و الذي يقول بالوزن مثل المشهور، كيف ارتضىٰ بأنّه بحسب المساحة، سبعة و عشرون، مع الاختلاف الشديد المرئي في المياه خفّة و

ثقلًا؟! فقد يتصدّى جمع لحلّ المعضلة المتوجّهة إلىٰ مقالة المشهور بما عرفت و مرّ؛ بحمل المساحة علىٰ أنّها علامة الكرّ، و أنّ ما هو الكرّ المضبوط هو الموزون «2»، و أمّا الأشبار فهي مختلفة جدّاً، فلا بدّ من صرف النظر عن الظهور في هذه الطائفة، و هذا ما يساعده العرف أيضاً.

و أنت خبير: بأنّه غير مقبول؛ لعدم الوجه الصحيح لذلك، مع أنّ جعل الأشبار الكثيرة علامة المقدار القليل، غير موافق للذوق السليم، خصوصاً إذا كان المتعارف في المياه بين الثلاثين و الأربعين، و لا يتّفق أن يصل الموزون إلىٰ أربعين، كما عليه الكلّ ظاهراً.

و تصدّى الآخرون لحلّ الإشكال على الآخرين: بأنّ النسبة بين

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 47.

(2) تقدّم في الصفحة 337 338.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 341

الحدّين عموم من وجه، فمن يأخذ بالرطل العراقيّ، فلا بدّ و أن يأخذ بسبعة و عشرين، و من يأخذ بالرطل المدنيّ، لا بدّ و أن يأخذ بستّة و ثلاثين.

و هذا من الغريب؛ للزوم طرح الظاهر جمعاً بين الآثار بطريق غير عقلائيّ.

و أمّا دعوى: أنّ الصناعة في المساحة قاضية بسبعة و عشرين، و هذا يوافق المشهور في الأرطال، الذي هو أيضاً يوافق الصناعة «1»، فهي غير مرضيّة من الجوانب الثلاثة.

و هي عدم موافقة الصناعة للطرفين؛ لما مضى في ذيل الطوائف الماضية، و لما مضى في مسألة الرطل.

و عدم تماميّتها في نفسها؛ ضرورة أنّ النسبة بين الحدّين و لو كانت من وجه، و لكنّه يستلزم صرف النظر عن ظاهر كلّ واحد من الحدّين في نفي الأمر الآخر في الحدّية، و هذا بلا وجه، غير جائز.

مع أنّ أقلّية الموزون عن المساحة، ممنوع حسب ما قيل في التوزين؛ فإنّه

كما يتوجّه إلى المشهور تقدّم الوزن على المساحة دائماً، يتوجّه إلى القائل بسبعة و عشرين، تقدّم المساحة على الوزن دائماً إلّا ما شذّ، فيكون المدار على المساحة، فيلزم لغويّة الوزن أيضاً.

مع أنّ التطابق مجرّد ادعاء لا يثبت؛ لبعده عن الأفهام جدّاً، فلا تخلط.

فتحصّل: أنّ هذه الشبهات واردة علىٰ جميع الأعلام في ذكر الحدّين للكرّ، من غير فرق بين المشهور و غيره.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 182 183.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 342

نعم، بناءً علىٰ ما أسّسناه و اخترناه، لا يلزم شبهة حتّى يحتاج إلى الدفاع، كما هو الظاهر البارز.

الجهة الرابعة: في قضيّة الأدلّة و الأُصول العمليّة
اشارة

إذا سقطت الأدلّة اللّفظيّة عن الاستدلال سنداً أو دلالة، فهل عند ذلك لا بدّ من القول: بأنّ القدر المتيقّن من المنفعل، ما كان أقلّ من سبعة و عشرين؛ لأنّ الأصل الأوّلي عدم انفعال الماء مطلقاً؟

أو القول: بأنّ القدر المتيقّن من اللّاانفعال هو الثلاثة و الأربعون، فلو نقص منه شي ء ينفعل؛ لأنّ الأصل انفعال الماء إلّا إذا كان كرّاً؟

و قد مضى شطر من البحث حول ما هو الحقّ في المسألة؛ حسب الأدلّة اللفظيّة «1».

و الذي هو الأقرب: أنّ الماء إذا ثبت قابليّته للنجاسة في الجملة، فلا بدّ فيه من العاصم، و هو البالغ إلى الحدّ الأكثر لدى الشكّ؛ لرجوعه إلى الشكّ فيما يعصمه.

و توهّم: أنّ القلّة مقتضية للانفعال، في غير محلّه؛ لأنّها ليست أمراً خارجيّاً حتّى يكون مقتضياً لشي ء.

اللّهمّ إلّا أن يقال: ظاهر النبويّ «2»، هو أنّ الماء لا ينجّسه شي ء إلّا إذا

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 274 277.

(2) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 343

كان متغيّراً بالاستثناء، أو قليلًا بالتخصيص المنفصل، و إذا كان مفهوم «القليل» و «الكرّ» و «الكثير» مجملًا، فلا بدّ من المراجعة إلى العامّ؛ و هو عدم تنجّس الماء، و القدر المتيقّن منه الذي ينجس، هو غير البالغ إلى الحدّ الأقلّ.

فبالجملة: قضيّة ما حرّر في الأُصول، هو الرجوع إلى العمومات في الشبهة المصداقيّة المفهوميّة للمخصّص «1»، و أمّا النظر إلى المقتضيات؛ و أنّ الكثير فيه الاقتضاء دون القليل، فغير جائز؛ للزوم الاجتهاد في مقابل النصّ كما لا يخفى.

نعم، في ثبوت النبويّ سنداً، و في وضوحه دلالة، مباحث هامّة مضت «2».

و لو فرغنا عن جميع تلك المباحث، و فرضنا الإطلاق له من هذه الجهة أيضاً، فالذي هو المحرّر عندي: عدم جواز الرجوع إلى العمومات في المفروض من الكلام أيضاً، لما تقرّر من رجوع الشبهة المصداقيّة إلى الموضوعيّة في محيط التقنين و التشريع مطلقاً «3».

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 237 238.

(2) تقدّم في الصفحة 118 121.

(3) لاحظ تحريرات في الأُصول 5: 236 و 251 و 254 255.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 344

فروع
الأوّل: في عدم تحقّق العصمة بالاتصال بالثلوج

إذا جمد بعض ماء الحوض، و كان الباقي قليلًا غير كرّ، أو ذابت الثلوج و (البروف) الموجودة في الشوارع و الجوادّ، و لم يكن الذائب قدر كرّ، أو كان قليلًا عرفاً، فهو عند الكلّ ماء قليل، و الوجه واضح.

و توهّم اعتصامه بالثلوج؛ لأنّها المياه، بل هي أولىٰ بكونها ماء من السائل الجاري كما عن «منتهى» العلّامة «1»، في غير محلّه، و هكذا توقّف «التحرير» «2» و «القواعد» «3».

نعم، يمكن دعوى اندراجه في عموم تعليل صحيحة ابن بَزيع «4»؛ لعدم الفرق بين المياه المعنونة في الكتب الفقهيّة، و هذا الماء السائل

في الزقاق و الشارع المستند إلىٰ ملايين الأطنان من (البروف) النازلة الموجودة أطراف الشارع، فالمناط صدق التعليل المذكور، و لعلّه قريب في بعض الفروض و الصور.

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 29/ السطر 34.

(2) تحرير الأحكام: 6/ السطر 18.

(3) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 163.

(4) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 345

ثمّ إنّه قد يشكل: بأنّ الماء بعد الجمود يخرج عن عنوان المائيّة، و يكون الجامد منه غير ذاك عرفاً «1»، فعليه إذا جمد القليل المتنجّس فهو كالكلب الصائر ملحاً، فيلزم طهارته حال جموده، بل بعد الذوبان؛ لامتناع إعادة المعدوم العرفيّ، إلّا إذا كان الإعادة عرفيّة أيضاً، فليتدبّر جيّداً.

الثاني: في حكم الشكّ في الكريّة
اشارة

الماء المشكوك كرّيته، إن كان معلوم الحال في السابق من القلّة و الكثرة، فبمقتضى الاستصحاب الموضوعيّ و الحكميّ، يترتّب عليه جميع الأحكام السابقة، إلّا إذا تعدّد الموضوع، كما لو كان في الحوض أكراراً، ثمّ وضع عنه جميع الماء دفعة، فبقي المشكوك، فإنّه لا يمكن الإشارة إليه فيقال: «هذا كان كرّاً» كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على كون «الكرّ» موضوعاً للأحكام.

و أمّا بناءً علىٰ ما قوّيناه؛ من أنّ موضوعه «الكثير العرفيّ» «2» فالشكّ عندئذٍ يرجع إلى الشبهة المفهوميّة، و في جريان الأصل فيها بحث مضى تفصيله في الماء الجاري «3».

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 187.

(2) تقدّم في الصفحة 274 و ما بعدها.

(3) تقدّم في الصفحة 222.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 346

حكم الماء مجهول الحال

و إن كان مجهول الحال، فقد يقال: بأنّه مجرّد فرض؛ لأنّ المياه كلّها- حسب الخلقة الأوّلية تكون مسبوقة بالقلّة «1».

و فيه منع واضح؛ لأنّ مياه البحار ليست كذلك، لأنّ السحاب منها، و لو كانت هي منها يلزم الدور أو التسلسل، و الالتزام بصحّة التسلسل هنا كما هو المحقّق في محلّه «2» لا يورث رفع الشبهة هنا كما هو الظاهر؛ لتقدّم الأصل و هو الماء على البخار و هو الفرع عند خلق الأرض.

هذا، و لا تحتاج المسألة إلى هذا البحث المضحك بعد صيرورة القليل كثيراً؛ فإنّه يزول عنه وصف «القلّة» فإذا أُخذ من البحر مقدار مشكوك الكرّية، فلا يمكن إجراء العدم النعتيّ؛ لعدم إمكان الإشارة إليه ب «أنّ هذا كان قليلًا و غير كرّ» كما هو الواضح.

و لا ينبغي التعرّض لمثل هذه المسائل، إلّا أنّ في عصرنا الطلّاب في النجف الأشرف، بلغوا و لم يدركوا، و إنّي بعد

ما جئت من تركيا إلى هذه البلدة، و بقيت فيها مدّة، وجدت أنّ أهل العلم هنا في سطح دانٍ جدّاً، و محتاجون إلىٰ عالم قويّ الدرك، راقية أفكاره، و لعلّ اللّٰه بعد ذلك يحدث أمراً.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 223.

(2) الشفاء، الإلهيات، المقالة الثالثة، الفصل الأوّل: 330، و شرح المنظومة، قسم الحكمة: 132 135.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 347

فبالجملة: في هذه الصورة قضيّة التحقيق، عدم نجاسة الماء الملاقى كما مرّ تفصيله في مباحث الماء الجاري «1»، فلا نعيده.

حكم مطهّرية مشكوك الكرّية بالملاقاة

و أمّا مطهّريته بالملاقاة، فهي عند الأكثر مفروغة العدم، و لكنّه يمكن توهّم الإشكال؛ لأنّ كلّ ماء طاهر و مطهّر، خرج منه القليل حسب الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة؛ فإنّه طاهر و ليس مطهّراً بالملاقاة، و أمّا هذا الماء فهو طهور و مطهّر حسب العمومات، و إخراج القليل إذا كان حسب فهم العرف، ظاهراً في كون الحكم منوطاً بالإحراز كما قيل في أمثاله لا يضرّ بالعموم المزبور، و لكنّه مجرّد و هم مضى فساده «2».

و يمكن دعوى الملازمة بين ماء لا ينفعل، و ماء يطهّر بالملاقاة عرفاً و شرعاً، و لكنّها تحتاج إلى الاستدلال. هذا كلّه في مطهّريته بالملاقاة.

و أمّا مطهّريته بإلقائه على المتنجّس، فإن كان قبل ملاقاته مع النجس، فهو الواضح.

و أمّا بعد ملاقاته، ففي استكشاف الموضوع الشرعيّ المقيّد و هو «الماء الطاهر» بقاعدة الطهارة، إشكال مضى البحث حول ذلك في الماء القليل و الجاري، فراجع «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 214.

(2) تقدّم في الصفحة 217.

(3) تقدّم في الصفحة 219.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 348

الثالث: في حكم الكرّ المسبوق بالقلّة
اشاره

الكرّ المسبوق بالقلّة، إذا علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم السابق من الملاقاة و الكرّية، فإن جهل تأريخهما، أو علم تأريخ الكرّية، فالمعروف الحكم بطهارته «1»، و عن بعض الأفاضل الحكم بالنجاسة «2»، و احتاط بعض آخر «3».

و إن علم تأريخ الملاقاة، حكم بنجاسته، و قيل: بطهارته.

و النظر في هذه المسألة يقع في جهتين:

الجهة الاولىٰ: في مفاد الأدلّة الاجتهادية.

و الجهة الثانية: في مقتضى الأُصول العمليّة.

مفاد الأدلّة الاجتهادية

أمّا الأُولىٰ: ففيما هو المستفاد منها ثبوتاً احتمالات:

الأوّل: كون القلّة و الكثرة أمرين وجوديّين، و يكون الماء نوعين: نوع منه- و هو القليل ينجس، و النوع الآخر و هو الكرّ لا ينجّس.

أو لو سلّمنا أنّ «القلّة» هي عدم الكثرة، و لكنّ المعتبر في الدليل

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 166، مهذّب الأحكام 1: 191.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 195.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، التعليقة 4، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 194.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 349

يكون علىٰ وجه التنويع، لا التخصيص، فكلّ واحد من القلّة و الكثرة شرط الانفعال و اللّاانفعال.

و هذا ممّا يشكل استفادته من الأدلّة إثباتاً؛ لعدم ظهور فيها يساعد ذلك، فتأمّل.

الثاني: كون الماء بطبعه قابلًا للنجاسة، و معتبراً عدم عصمته، و أمّا عصمته فهي من خصوصيّات بعض أصنافه، كالكرّ و الجاري، و هذا هو الظاهر من الشيخ (قدّس سرّه) «1»، و عليه مبنى قاعدة المقتضي و المانع. و قد فرغنا عن ذلك في السابق «2»؛ و أنّ التقريب و الاستحسانات العقليّة، لا تقاوم ظواهر الأدلّة.

الثالث: عكس الثاني، فتكون قضيّة العمومات طهوريّة الماء كتاباً و سنّة، و قد خرج منه الماء

المتغيّر و القليل.

و توهّم: أنّ ظاهر أدلّة الكرّ هو التنويع؛ و أنّ الماء ماءان: ماء بالغ كرّاً فلا ينجّسه شي ء، و ماء غير بالغ إليه فينجّسه الشي ء، في غير محلّه؛ لأنّ الظاهر منها نظارتها إلى الأدلّة المتعرّضة لطهوريّة الماء؛ و أنّه ليس علىٰ إطلاقه، بل لا بدّ من شرط فيه، و هو الكرّية، فالأصل و العموم الأوّلي هو «أنّ اللّٰه تعالىٰ خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء» «3» و الإشكال في سنده واضح الدفع، و في دلالته من جهات أُخر لا يضرّ بالمقصود هنا،

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 162.

(2) تقدّم في الصفحة 83 84.

(3) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 350

و يستظهر لك بعض المحتملات الأُخر.

مقتضى الأُصول العمليّة في مجهولي التأريخ

و أمّا الثانية: فقضيّة الأُصول العمليّة في مجهولي التأريخ هي الطهارة؛ لتساقط الاستصحابين، أو لعدم جريانهما؛ لأجل فقد شرط اتصال زمان الشكّ باليقين، كما في «الكفاية» «1» أو لأجل انصراف أدلّة الاستصحاب عنهما، أو لكون كلّ واحد منهما مثبتاً.

و ربّما يخطر بالبال دعوى نجاسته؛ لما عرفت أنّ من المحتملات، عدمَ كون الاعتصام مجعولًا للماء، بل المجعول عدم الاعتصام للماء القليل، فإذا أُحرز بالاستصحاب القلّة أو عدم الكرّية إلىٰ زمان الملاقاة، فالتنجّس من الآثار الشرعيّة، بخلاف استصحاب تأخّر الملاقاة عن الكرّية، فإنّه لا أثر له؛ لعدم جعل من الشرع على الكرّ الملاقي للنجس.

و أمّا مع فرض جعل العصمة للكرّ الملاقي للنجس، فاستصحاب عدم الملاقاة إلىٰ زمان حصول الكرّية، مثل الاستصحاب الأوّل، فإن كان هذا مثبتاً فهو مثله، فما توهّمه بعض الأفاضل في المقام من مثبتيّة هذا دون ذاك «2» غفلة و ذهول.

كما أنّ

توهّم: أنّ عدم مثبتيّة الأصل الأوّل؛ لأجل أنّ الموضوع مركّب

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 480.

(2) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 196.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 351

من جزءين؛ أحدهما: يثبت بالاستصحاب، و الآخر: بالوجدان «1»، في غير محلّه؛ لامتناع كون موضوع الحكم الواحد متعدّداً، فإنّ المركّب من جزءين، إن كان بين جزءيه ربط و توصيف، فلا يمكن إثبات الكلّ بإجراء الأصل في جزء، و ضمِّ الوجدان إليه في الجزء الآخر.

و إن لم يكن ربط بينهما، فلا يعقل تعلّق الحكم الواحد بالمتباينين بالضرورة و الوجدان.

فتحصّل: أنّ قضيّة الأُصول العمليّة، تابعة لما يستفاد من الأدلّة الاجتهاديّة، و حيث إنّ الظاهر من الأدلّة، أنّ طهوريّة الماء علىٰ أصل خلقته، و ليست من المجعولات الشرعيّة، و يوافقه العرف في ذلك، فتكون المآثير في الباب، إخباراً عن الأمر العرفيّ المعلوم عند العقلاء، فلا يجري إلّا الأصل الواحد؛ و هو ما يقتضي نجاسته.

إن قلت: إذا لم يكن الموضوع في المقام مركّباً و مقيّداً، فلا بدّ من تصويره علىٰ وجه معقول.

قلت: ما هو المستفاد هو القضيّة الشرطيّة، و هي «أنّ الماء إذا كان قليلًا ينجس بالملاقاة» و هذا الماء قليل بالاستصحاب، فينجس بالملاقاة الوجدانيّة، فما توهّم من أنّ الموضوع مركّب و مقيّد، و يكون الأصل مثبتاً، في غير مقامه.

فتحصّل: أنّ الموافق للذوق و ظواهر الأدلّة، عدم جعل الطهارة أو عدم النجاسة للماء الكرّ، بل المجعول شرعاً هي النجاسة للقليل، و إذا

______________________________

(1) نفس المصدر: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 352

كانت القضيّة المتكفّلة لهذا الجعل، علىٰ نعت القضيّة الشرطيّة، فلا يلزم كون الأصل الجاري في المسألة من الأصل المثبت.

و ما قيل: «من رجوع القضايا

الشرطيّة إلى القضيّة البتّية؛ برجوع الشرط إلىٰ وصف الموضوع» في غاية الوهن و السقوط.

ثمّ إنّ العلّامة النائينيّ أخذاً عن نكاح «الجواهر» بنىٰ علىٰ أمر واضح المنع «1»، علىٰ ما مرّ تفصيله «2»، و هو نجاسة الماء هنا؛ لأجل ما قال به في المشكوك كرّيته مع الجهل بحالته السابقة، و لا نعيده؛ حذراً عن اللغو المنهيّ، فتدبّر.

مختار صاحب الكفاية و نقده

و أمّا إطالة البحث حول المسائل الأُصوليّة المتعلّقة بالمسألة من جهات عديدة، فهي مزعجة جدّاً.

و إجمالها: أنّ حديث اعتبار اتصال زمان الشكّ باليقين، أجنبيّ عن هذه المواضيع، و إن توهّمه صاحب «الكفاية» «3» و ثلاثة من أتباعه «4»، و مثبتيّة الأصلين معاً ممنوعة، فجريانه ذاتاً غير ممنوع.

إلّا أن يقال: بأنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب، كون الشكّ في الأمر السابق فعليّاً في الزمان الحال، دون الماضي و الاستقبال، فإذا شكّ في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 217.

(3) كفاية الأُصول: 480.

(4) فوائد الأُصول 4: 515، نهاية الدراية: 211 212، نهاية الأفكار 4: 213 214.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 353

عدالة زيد في الحال، فهو مجرى الاستصحاب، بخلاف ما إذا شكّ في بقائها إلىٰ يوم الجمعة مع القطع بفسقه يوم السبت.

و هكذا إذا شكّ في بقائها إلى يوم كذا مع القطع بوجودها فعلًا، كما مثّلوا لذلك بالشكّ في بقاء رمضان إلىٰ يوم الاثنين مثلًا، و هو فعلًا في أثناء رمضان؛ فإنّ جريانه فيهما محلّ الكلام، و لكن النظر إلىٰ قضيّة عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، يعطي عدم الفرق بين الصور الثلاث، فتدبّر.

عدم الفرق بين احتمال مقارنة الحادثين و عدمه

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق فيما أسلفناه، بين كون المفروض عدم احتمال المقارنة بين الحادثين الكرّية و المُلاقاة و بين احتمالها؛ فإنّ استصحاب بقاء القلّة إلى الملاقاة، إذا كان أثره موقوفاً على إجرائه إلىٰ ما بعد الملاقاة، فهو يجري؛ لتماميّة أركانه كما لا يخفى.

نعم، إذا كان أمر الملاقاة، دائراً بين تقدّمها على الكرّية، أو مقارنتها معها، و لا يحتمل تأخّرها عنها، فعند ذلك يلزم كون أمر الكرّية أيضاً، دائراً بين المقارنة مع الملاقاة، و التأخّر

عنها كما هو الظاهر، فعلى هذا يشكل جريان الاستصحاب.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الحكم في صورة تقارن الكرّية و الملاقاة هو النجاسة، و سيأتي تحقيقه في بعض الفروع الآتية، فإنّه عند ذلك يحكم بنجاسة الماء المفروض في المسألة؛ و هو الكرّ المسبوق بالقلّة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 354

بيان للمعارضة بين الأصلين

و ربّما يخطر بالبال أن يقال: بمعارضة الأصل الجاري في ناحية إبقاء القلّة إلى الملاقاة، بالجاري في الطرف الآخر بوجه آخر؛ و هو أنّ المقصود من تأخّر الملاقاة إلى الكرّية، إن كان إثبات أنّ اللقاء كان على الكرّ، أو أنّ الكرّ لاقى النجس، فهو من المثبت بالمعنى الذي ذكرناه، لا بالمعنى الذي أفاده القوم رضي اللّٰه عنهم.

و إن كان المقصود نفس التعبّد بعدم الملاقاة إلى الكرّية، فهو ليس مثبتاً بالضرورة، فعليه يرجع إلىٰ قاعدة الطهارة أو استصحابها.

و لو صحّ ما قيل: «من أنّ الأصل الجاري في الطرف الأوّل كان مثبتاً» يلزم جريان هذا الأصل بلا معارض.

هذا كلّه فيما كان تأريخ الحادثين مجهولًا.

مقتضى الأُصول العمليّة في معلوم الكرّية تأريخاً

و أمّا لو كان تأريخ الكرّية معلوماً، فإن قلنا: بعدم جريان الأصل في معلوم التأريخ؛ لقصور الأدلّة عن شموله، فالقول بالطهارة متعيّن؛ لأنّ نفس التعبّد بعدم الملاقاة إلىٰ زمن الكرّية، كافٍ في ترتيب آثار الطهارة.

و لو أشكل الأمر في جريانه و هو أنّ نفي السبب، لا يستلزم نفي المسبّب إلّا عقلًا، فنفي الملاقاة لا يكفي لترتيب آثار الطهارة فلا محيص عن قاعدة الطهارة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 355

و إن قلنا: بجريانه؛ و إنّ معلوميّة تأريخ الكرّية، لا تورث معلوميّة نسبتها إلىٰ زمان حدوث الملاقاة؛ فإنّ معلوميّة الشي ء بحسب أصل الوجود، لا تنافي مجهوليّته بحسب بعض الخصوصيّات، فإذا كانت الكرّية معلومة العدم، فهي بجميع خصوصيّاتها معلومة العدم، و إذا تحقّق وجودها يشكّ في وجود بعض خصوصيّاتها، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلىٰ تلك الخصوصيّة؛ و هي هنا المقارنة مع الملاقاة، و هكذا تقدّمها عليها، فيتعارض الأصلان: أصل عدم ملاقاة هذا الماء مع النجس إلى الكرّية، و أصل عدم تقدّم كرّية هذا الماء على

الملاقاة.

و أنت خبير بما فيه، لا من أجل كونه من الأصل الجاري في العدم الأزليّ، فإنّه عندنا في خصوص بعض الصور جارٍ، بل لأجل مثبتيّته الظاهرة، فلا تغفل.

ثمّ إنّ حكم الفرض الأخير و هو ما إذا كان تأريخ الملاقاة معلوماً يظهر ممّا سبق، و القائل بنجاسته تشبّث بتعارض الأصلين أوّلًا، و إجراء الأصل في الطرف المقتضي للنجاسة فقط ثانياً؛ بدعوىٰ مثبتيّة الأصل الآخر، فتدبّر.

الرابع: في حكم القليل المسبوق بالكرّية الملاقي للنجاسة
اشارة

القليل المسبوق بالكرّية الملاقي لها، إن جهل التأريخان، أو علم تأريخ الملاقاة، فالمعروف فيه هي الطهارة «1»، و قيل

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 167، مهذّب الأحكام 1: 193.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 356

بالنجاسة «1».

و إن علم تأريخ القلّة، فالأكثر علىٰ نجاسته، و عن جماعة طهارته «2».

أقول: قضيّة الأدلّة الاجتهاديّة ما عرفت، و مقتضى الأُصول العمليّة هنا في مجهولي التأريخ على المشهور بين الأصحاب تعارضها و التساقط، و علىٰ قولٍ عدم جريانهما ذاتاً، و قد مرّ ما يتعلّق بذلك «3».

الكلام حول أصالتي عدم القلّة و عدم الملاقاة

يبقى الكلام: في أنّ أصالة عدم القلّة إلىٰ حال الملاقاة، ليست ذات أثر شرعيّ على ما احتملناه؛ من أنّ عدم النجاسة ليس من الأحكام المجعولة على الكرّ الملاقي للنجس.

و أمّا أصالة عدم الملاقاة إلى القلّة، فإن أُريد بها إثبات وقوع الملاقاة على القليل، فهو من المثبت.

و إن أُريد بها نفس التعبّد بعدم الملاقاة، فلا يكون مثبتاً؛ لأنّه يحرز به موضوع القضيّة الشرعيّة، و هو «أنّ الماء القليل إذا لم يلاقه النجس لا ينجس» و هذه القضيّة مفهومة من منطوق القضيّة الواردة و هي «أنّ القليل إذا لاقاه النجس ينجس».

و أمّا دعوى: أنّ استصحاب بقاء الكرّية إلىٰ حال الملاقاة، يورث

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 199.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 200، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 167.

(3) تقدّم في الصفحة 350 351.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 357

سقوط أثر الملاقاة، و أمّا أصالة عدم الملاقاة إلى القلّة، فليست ذات أثر شرعيّ؛ لأنّ نفي سبب النجاسة إلىٰ حال حدوث القابليّة لها و هي القلّة

لا يورث تأثير السبب فيها إلّا بالأصل المثبت؛ لعدم دليل علىٰ جعل القضيّة المذكورة بنحو القضيّة الشرطيّة.

و بعبارة اخرىٰ: الواصل إلينا من الشرع، إن كان هكذا: «الكرّية علّة عدم الانفعال، و القلّة علّة الانفعال» فإنّ التعبّد بعدم العلّة لا يستلزم شرعاً التعبّد بعدم المعلول؛ لعدم تكفّله بجعل الحكم الشرعيّ.

و إن كان هكذا: «إذا كان الماء قليلًا ينجس بالملاقاة» فإذا أُحرز عدم قلّته بالأصل، فهو من قبيل إحراز الموضوع بالنسبة إلى الحكم، فيصحّ التمسّك به «1».

فغير مسموعة؛ لما يمكن أن يقال: بأنّ الأمر لو سلّمنا يكون كذلك، فظاهر الأدلّة هو الثاني؛ فإنّ مفهوم أخبار الكرّ هو «أنّه إذا لم يبلغ كرّاً ينجّسه الشي ء بالملاقاة» و إذا أُحرز عدم الملاقاة إلى القلّة فيترتّب عليه الطهارة؛ لأنّ المفهوم من القضيّة المذكورة هو «أنّ القليل إذا لم يلاقه النجس لا ينجس» فليتدبّر جدّاً.

و من هنا يعلم وجه القول بالنجاسة في جميع صور المسألة، و لا نحتاج إلى التفصيل؛ لخروج المسألة عن طور الكتاب.

كما ظهر وجه القول بالطهارة في جميعها؛ فإنّ أصالة بقاء الكرّية ليست مثبتة، بخلاف أصالة عدم الملاقاة إلىٰ حدوث القلّة، ففي المجهولين يجري الأصل الأوّل دون الثاني، و فيما كانت القلّة معلومة

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 200.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 358

لا يجري الأصل الأوّل ذاتاً، أو يجري و لا يعارضه الثاني، و فيما كانت الملاقاة معلومة إمّا لا تجري ذاتاً، أو تجري و لا تعارض الأوّل أيضاً.

الوجه في تفصيل الفقيه اليزدي

و أيضاً انقدح ممّا مرّ وجه القول بالتفصيل، كما هو مختار الفقيه اليزدي (رحمه اللّٰه) «1» و جماعة «2»، فإنّه (قدّس سرّه) بنىٰ علىٰ طهارة الماء في المجهولين و معلوم

الملاقاة، و على النجاسة في الصورة الثالثة، و احتاط في الأوّلين؛ و ذلك لتعارض الأصلين، و عدم جريان الأصل في معلوم التأريخ.

و وجه الاحتياط، قوّة جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أو قوّة موافقة العرف علىٰ أنّ المستثنىٰ في مثل المسألة، هو محرز الكرّية، ففي الماء المشكوك كرّيته غير الجاري فيه الأصل المحرز به قلّته، يرجع إلى العامّ المخصّص.

و من العجب، أنّ بعض شرّاح كلامه غفل عن وجه احتياطه «3»!! فلا تخلط.

الخامس: في حكم المسبوق بالكرّية و القلّة

المسبوق بالكرّية و القلّة، المجهول حالته السابقة و الفعليّة،

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 37، المسألة 8.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 199.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 359

الملاقي للنجس، محكوم بالطهارة؛ لتعارض الأصلين، و لا أصل يحرز به كون الملاقاة حال القلّة، فيرجع إلىٰ قاعدتها أو استصحابها.

أو هو محكوم بالنجاسة؛ لما مضى أنّ استصحاب الكرّية لا أثر شرعيّ لها «1»؛ لأنّ عدم انفعال الكرّ ليس من المجعولات الشرعيّة، بل المجعول الشرعيّ هو انفعال ما دون الكرّ؛ و ذلك لعدم الحاجة إلى جعله، و لذلك كان الأقوىٰ في أخبار الكرّ كونها مسوقة لبيان المفهوم، و لذلك صار حجّة عند أرباب الفقه و الأُصول مع عدم قولهم بحجّيته، فليتدبّر.

و أمّا عدم مثبتيّة استصحاب القلّة، فقد مضى وجهه «2».

و على القول بمثبتيّة هذا و ذاك، فلا يجري الأصلان.

أو هو محكوم بالطهارة؛ لعدم مثبتيّة الأصل في جانب الكرّية، دون العكس، كما هو رأي الأكثر في أمثال المقام.

أو أنّ استصحاب القلّة، معارض باستصحاب تأخّر الملاقاة عن الكرّية؛ لمجهوليّة تأريخ الحوادث الثلاثة الواقعة على الماء الشخصيّ الموجود.

و دعوىٰ: أنّ تأخّر الملاقاة لا أثر له شرعاً،

مدفوعة بأنّ نفس التعبّد به، كافية في عدم إمكان الحكم بالنجاسة، فتدبّر.

فبالجملة: تتعارض الأُصول و تتساقط، فيرجع إلى الأصلين الآخرين،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 350.

(2) تقدّم في الصفحة 351 352.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 360

و المسألة بعدُ تحتاج إلى التأمّل.

و أمّا القول بنجاسته بعد السقوط؛ وهماً أنّ المستثنىٰ من أدلّة انفعال محرز الكرّية «1»، فقد فرغنا عن ضعفه مراراً.

السادس: في حكم تتميم القليل المتنجّس
اشارة

القليل النجس المتمّم كرّاً بطاهر، أو نجس، أو متنجّس بتلك النجاسة، أو غيرها، لا يطهر على المشهور بين الأصحاب «2».

و عن المرتضىٰ و سلّار و ابن البرّاج و ابن سعيد بل و ابن إدريس، طهارته «3»، و عن «السرائر» نسبته إلى المحقّقين «4».

و حكي عن ابن حمزة في «الوسيلة» «5» بل و عن «مبسوط» الشيخ «6»، التفصيلُ بين الإتمام بالطاهر و النجس، فيطهر بالأوّل، دون الثاني.

و حيث إنّ المسألة ليست إجماعيّة فلا خير في نقل الأقوال فيها، و المتّبع هو البرهان.

و هذه المسألة كانت معنونة في العامّة، و قال الشافعيّ كما في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 192.

(2) الخلاف 1: 194، شرائع الإسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 150.

(3) جواهر الكلام 1: 150، رسائل الشريف المرتضى 2: 361، المراسم: 36، المهذّب، ابن البرّاج 1: 23، الجامع للشرائع: 18، السرائر 1: 63.

(4) جواهر الكلام 1: 150، السرائر 1: 63.

(5) مستند الشيعة 1: 50، الوسيلة: 73.

(6) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 170، المبسوط 1: 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 361

«الخلاف» بالطهارة «1»، و هو المحكيّ عن ابن حيّ «2». و لها صور كثيرة:

لأنّه تارة: يتمّ النجس بالنجس.

و أُخرى: يتمّ الطاهر بالنجس.

و ثالثة: يتمّ النجس بالطاهر.

و علىٰ كلّ تقدير: تارة:

يكون التتميم باستهلاك الطاهر في النجس، أو امتزاجه به؛ بحيث لا يبقى عرفاً.

و أُخرى: يكون التتميم بالاتصال.

و أيضاً تارة: يتمّ بالماء المتنجّس.

و أُخرى: يتمّ بالمضاف المتنجّس.

و ثالثة: يتمّ بالبول و الخمر.

و حيث أنّ البحث في بعض الصور، يغني عن الآخر، فلا نطيل الكلام. مع أنّ دعوى الضرورة على بطلان هذه الآراء في المسألة، غير خالية عن الإنصاف؛ ضرورة تأبّي النفوس الشرعيّة عن قبول ذلك، فلو كان في المسألة رواية صحيحة و ظاهرة في ذلك، فلا يصار إليها؛ لقصور بناء العقلاء على الاعتماد عليها في مثلها.

و علىٰ كلّ تقدير: يتمّ البحث في مقامين

______________________________

(1) الخلاف 1: 194، الام 1: 5.

(2) المعتبر 1: 53، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 171 172.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 362

المقام الأوّل: في قضيّة الأدلّة الاجتهادية
اشارة

و هي مختلفة، فإنّ منها ما يستدلّ بها على الطهارة في جميع الصور، و منها ما يستدلّ بها عليها في بعض منها.

فمن الأُولىٰ: المشهورة المعروفة الصحيحة

الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء «1».

فإنّ إطلاق الموضوع يشمل الماء المتنجّس، و إذا بلغ بأيّ شي ء كان إلىٰ كرٍّ- بحيث يصدق عليه «الكرّ من الماء» لا ينجّسه شي ء، و حيث لا معنىٰ لعدم تنجيسه الشي ء بعد تنجّسه، فلا بدّ من زوال النجاسة ببلوغ الكرّية، حتّى تصحّ الدعوىٰ على الإطلاق.

و دعوى الإهمال، و الأخذ بالقدر المتيقّن منه و هو الماء الطاهر كدعوى الانصراف في عدم تماميّة الوجه الصحيح له.

و هذا التقريب لعدم ظهوره بذهن أحد، بعيد عن المتفاهم العرفيّ، و لكن بعد المراجعة إلى فهم الأصحاب رضي اللّٰه عنهم في صحيحة ابن بزيع «2»؛ و أنّ التعليل الوارد في ذيلها راجع إلى جملة محذوفة، و إلّا لا يستقيم التعليل، يسهل عليهم

قرب ذلك هنا؛ لأنّ الإطلاق لا يستقيم إلّا بزوال

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 363

النجاسة عن الكرّ المتنجّس المتمّم بالبول، فضلًا عن غيره.

و منها: النبويّ الذي قال في حقّه ابن إدريس: «إنّه مجمع عليه بين المخالف و المؤالف» «1» و هو: أنّ

الماء إذا بلغ كرّاً لم يحمل خبثاً «2».

و قد مرّ شطر من الكلام حوله «3»، و أنّ النسخ مختلفة، و لكنّها متقاربة، و بمضمونه أفتى الشافعيّ و ابن حيّ من المخالفين كما مرّ، و لعلّه منشأ ذهاب بعض الأصحاب، فليس متروكاً بنحو كلّي، و قد أرسلها السيّد «4» و الشيخ (رحمهما اللّٰه) «5».

و من الإجماع المزبور، و عدم وجوده في الكتب المأثورة و الجوامع الأوّلية، يعلم أنّ نظر ابن إدريس كان إلى أنّ هذه المرسلة كالمآثير الواردة في الكرّ دلالة، و كان لا يرى اختلافاً في المفاد بينهما، و اللّٰه العالم.

و في موضع من «الخلاف» نسبته إليهم (عليهم السّلام) «6» و قد أذعن بانجباره «الجواهر» «7».

فبالجملة: هي إمّا مختصّة بالماء المتنجّس، أو بالطاهر، أو لها الإطلاق، فعلى الأوّل و الثالث يتمّ المطلوب، و لا سبيل إلىٰ تعيين الثاني؛

______________________________

(1) السرائر 1: 63.

(2) عوالي اللآلي 1: 76، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.

(3) تقدّم في الصفحة 154 157.

(4) الانتصار: 8.

(5) المبسوط 1: 7.

(6) الخلاف 1: 174.

(7) جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 364

لظهور قوله

لم

يحمل خبثاً

في أنّ الخبث كان محمولًا عليه، فإذا بلغ إلىٰ حدّ كذائيّ، لا يتمكّن من الحمل.

و لو أُخذ بإطلاق

الماء

كما سبق، فلا بدّ من تصوير الجامع بين كون الكرّية دافعاً و رافعاً، و قد فرضناه في المسائل السابقة، و هذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد تأمّل، كما لا يخفى.

و لو سلّمنا استبعاده عرفاً، فحمل إطلاق الصدر على الماء النجس، ليس أهون من حمل إطلاق صدر الرواية السابقة على الماء الطاهر، كما صنعه الأصحاب حسب ارتكازهم، فتكون هذه المرسلة مسوقة لبيان رافعيّة الكرّ فقط، فليتدبّر.

فبالجملة: آراء الأعلام في هذه المرسلة أربعة:

فذهب جمع إلىٰ قوّة سندها، و تماميّة دلالتها «1».

و جمع إلىٰ ضعفهما «2».

و بعض إلىٰ ضعف السند، و قوّة الدلالة «3».

و بعض عَكَس الأمرَ «4»، و اللّٰه العالم.

و قد مرّ في موضع من كتابنا عن أبي حنيفة ظاهراً-: أنّ هذه المرسلة تدلّ على انفعال الكرّ بالملاقاة، كما لا يخفى.

و منها: قصور الأدلّة من اعتبار النجاسة في الكرّ المزبور؛ لأنّ

______________________________

(1) السرائر 1: 63.

(2) المعتبر 1: 53، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 155.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 212 213.

(4) جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 365

المياه النجسة هي الكثيرة المتغيّرة، و القليل الملاقي للنجس، و أمّا هذا الكرّ فشمول الأدلّة له- طهارة و نجاسة مخدوش، فيرجع إلى العمومات الأوّلية الفوقانيّة؛ و هو «أنّ كلّ ماء خلق طهوراً» «1» فإنّ التمسّك بها بعد إجمال المخصّص جائز عندهم.

فبالجملة: الاستدلال السابق إن تمّ فهو، و إلّا فلا يتمّ دلالتها على نجاسة الكثير الملاقي، فيرجع إلى العامّ السابق.

بل يمكن دعوى: أنّ مقتضىٰ عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، هو الطهارة في جميع

الصور «2»، فإن استشكل في المراجعة إلى العامّ، أو استشكل في سنده، أو في غير ذلك، فلا يلزم التفصيل بين الصور.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة علىٰ ما قرّبناه في سالف الزمان في كتاب الصلاة تفصيلًا «3» مخصوص بالحكميّة التكليفيّة، دون الوضعيّة، كما هو الظاهر.

ثمّ إنّه غير خفيّ: بأنّ المراجعة إلى العامّ الفوقانيّ أو قاعدة الطهارة، لا تنحصر بصورة دعوى قصور الأدلّة، بل الأمر كذلك حتّى لو تمّ الاستدلال من الطرفين؛ لأنّ النسبة بين الأدلّة عموم من وجه، و المرجع بعد التساقط إلى الدليل الفوقانيّ أو قاعدة الطهارة، فتثبت الطهارة

______________________________

(1) المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 254.

(3) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 366

الواقعيّة على الأوّل، و الظاهريّة على الثاني.

و توهّم عدم جواز المراجعة إلى القاعدة لو كان مفاد العامّ؛ قابليّة كلّ ماء للنجاسة «1»، كما هو المعروف عنهم، في غير محلّه؛ لأنّه غير نافع، و ما هو النافع غير ثابت؛ و هو كون العامّ الأوّل هكذا: «كلّ ماء نجس» و أمّا ثبوت القابليّة بنحو العموم، فلا يورث رفع الشكّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

أدلّة الطهارة في بعض الصور

و من الثانية: أنّ النجس المتمّم بالطاهر، خارج عن مصبّ أدلّة انفعال القليل؛ لظهورها فيما كان القليل الطاهر ملاقياً للنجس، و غيرَ بالغ بالملاقاة إلىٰ حدّ الكرّ، و إذا كان القليل المتمّم بالفتح طاهراً، و متّحداً مع النجس، و لا يكون للماء الواحد حكمان، فيحكم على الثاني بالطهارة.

و هذا التقريب واضح الفساد؛ لأنّ الماء

المتغيّر المتّحد مع غير المتغيّر، نجس بمقدار تغيّره، و طاهر قسمه الآخر، و لو كان فيه الامتزاج العرفيّ كما مرّ، و لو كان المفروض الامتزاج بالنجس إلىٰ حدّ الاستهلاك، فلا يحكم عليه بشي ء من الطهارة و النجاسة إلّا تبعاً للكلّ.

هذا، مع أنّ تعيين طهارة المجموع بلا مرجّح؛ لأنّ الإجماع قائم علىٰ عدم التعدّد، لا الطهارة.

و قد يقال في تقريبه، كما عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: «بأنّه إذا

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 171.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 367

كان طاهراً مع ملاقاته للنجس، فيكون معتصماً، و إذا كان معتصماً فيطهر الباقي بالاتصال به أو الامتزاج معه؛ لأنّه في حكم المادّة له «1»، و عموم التعليل في صحيحة ابن بَزيع «2» يشمل المقام، و لا يتوجّه إليه حديث الترجيح بلا مرجّح».

و منها: إذا حصلت الكرّية و الملاقاة في زمان واحد، فقد حكم الأصحاب إلّا من شذّ بطهارته، و قضيّة إطلاق هذه الفتوىٰ، طهارة المجموع في هذه المسألة.

و منها: قصور أدلّة تنجيس النجاسات عن شمول هذه المسألة؛ فإنّ القليل الطاهر ينجس بملاقاة النجس، إذا كان الملاقي باقياً بعد الملاقاة عرفاً، و إذا كان يستهلك بالملاقاة كما إذا القي قطرة بول في ماء أقلّ من الكرّ بمقدارها فإنّ في تنجّسه به إشكالًا.

فبالجملة: الطاهر المتمّم بالنجس و لو كان من غير المياه المطلقة أو المضافة، لا ينجس بصِرْف الملاقاة له؛ لأنّ الاستهلاك و الملاقاة في زمان واحد عرفاً.

و غير خفيّ: أنّ هذا الوجه يستلزم طهارة غير المتمّم أيضاً، كما هو الظاهر.

هذا غاية ما يمكن تقريب الاستدلال به في جميع صور المسألة، أو في بعضها، و هو تشحيذاً للأذهان يذكر، و لذلك نحوّل أجوبتها إليهم

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات

الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 23 24 (مخطوط).

(2) تقدّم في الصفحة 362، الهامش 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 368

- حفظهم اللّٰه تعالىٰ.

المقام الثاني: في مقتضى الأُصول العمليّة

لو سلّمنا قصور الأدلّة الاجتهاديّة، و قصورَ إطلاق معقد الإجماع عن شمول بعض صور المسألة، ففيما كان التتميم بالاتصال أو الامتزاج المحفوظ معه الموضوعان، فلا شبهة في لزوم الالتزام بالحكم السابق على الاتصال؛ من النجاسة و الطهارة، و لا منع من كون الماء الواحد من جهة، متعدّداً و ذا حكمين من جهة أُخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ استصحاب النجاسة، حاكم على استصحاب الطهارة بعد وجدان الملاقاة، من غير النظر إلى أدلّة الكرّ، و أدلّةِ انفعال الماء القليل، بل النظر مقصور على أنّ هذا الطاهر جسم لاقى النجس الاستصحابيّ.

و فيه: أنّه غير كافٍ للحكومة؛ لتقوّمها بكون أحد الشكّين مسبّباً عن الشكّ الآخر، و فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ فإنّ الشكّ في طهارة الماء مسبّب عن الشبهة الحكميّة؛ و هي أنّ الملاقاة مع هذا الماء النجس، تورث النجاسة أم لا، و الحكومة تكون في مورد كان الشكّ المزبور، مسبّباً عن نجاسة الملاقى بالفتح و لذلك ينعكس و يقال: بأنّ الشكّ في نجاسة الماء، مسبّب عن كفاية الماء الآخر في تطهيره أم لا، فما عن «المصباح» «1» خالٍ عن التحصيل.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 24/ السطر 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 369

و ما اشتهر: «من تعارض الأصلين؛ للإجماع علىٰ وحدة الحكم» في غير محلّه في بعض الصور المزبورة، و أمّا في صورة الامتزاج فلعلّ معنى الإجماع، يرجع إلىٰ أنّ الموضوعين غير باقيين، فلا يعقل تعدّد الحكم مع وحدة الموضوع، كما في صورة الاستهلاك.

فبالجملة: فيما بقي الموضوع الواحد فيلتزم بحكمه

فقط، دون الموضوع الآخر؛ لانتفائه.

مثلًا: إذا القي مثقال من الطاهر في المتنجّس المتمّم به، فإنّ استصحاب نجاسته غير معارض، و هكذا في عكسه، فإنّ استصحاب طهارته غير معارض.

و إذا كانا نجسين، و استهلك كلّ منهما بحيث لا يمكن الإشارة إلى الموضوع لإجراء الاستصحاب فاستصحابهما يسقط، و إجراء الاستصحاب في الموجود المؤلّف منهما محلّ إشكال؛ لأنّه لائقين بنجاسته قبل ذلك، فما كان متيقّن النجاسة معدوم حال الشكّ، و ما هو حال الشكّ موجود غير متيقّن النجاسة، فتصير النتيجة قاعدة الطهارة في هذه الصورة.

بل فيما إذا كان تتميم النجس بالاتصال بنجس آخر، يمكن دعوى تعارض الاستصحابين، كما ادّعاه الأصحاب في المتمّم بالطاهر؛ و ذلك لأنّ الإجماع القائم علىٰ وحدة الحكم، ليس ناظراً إلىٰ وحدة الحكم بحسب الطهارة و النجاسة، بل هو ناظر إلى وحدته على الإطلاق، فلا يكون الماء الواحد محكوماً بنجاستين، فعليه يتعارض الأصلان، و يرجع إلىٰ قاعدة الطهارة.

و بناءً عليه، يلزم في النجس المتمّم بالنجس، اختيار الطهارة، سواء

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 370

كان التتميم بالاستهلاك حتّى لا يجري الأصلان، أو كان بالاتصال حتّى يتعارضا.

و مثلها التتميم بالامتزاج، و هكذا في النجس المتمّم بالطاهر المستهلك فيه، بل و الممتزج به؛ للشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب عرفاً. و ليعذرني إخواني لو خرجت عن طور المسألة و الكتاب.

تذنيب: في تتميم القليل المتنجّس بغير الماء

القليل المتمّم بالطاهر من سائر المائعات، بل و مثل التراب إذا لم يصر مضافاً بها، و سلب الاسم عن المتمّم به معتصم أم لا، فيه وجهان:

من أنّه الكرّ من الماء، و المراد من «الماء» أعمّ ممّا كان صافياً غير خليط بشي ء، أو كان مخلوطاً بمقدار من التراب، أو ماء الورد، أو النفط، أو غير ذلك.

و من

أنّ المدار على الدقّة العرفيّة في المقادير و المساحات، و لا يجوز الاتكال على الإطلاقات المسامحيّة إلّا مع الدليل، و فيما كان الماء خليطاً بمقدار من الأشياء الأُخر طبعاً، فالسيرة القطعيّة قائمة علىٰ كفايته و عصمته؛ لأنّ المياه المتعارفة في عصر المآثير، كانت غير صافية، كما في الزكاة المخلوط بها مقدار من الأحجار و التراب و غيرهما، فإنّ الجابي الدائر في المزارع، الآخذ من الغلّات بعنوان الزكوات، من قبل أمير المؤمنين عليه الصلوات، لا يأخذ الحنطة الصافية قطعاً، فعليه لو خلطها بعد صفائها بمقدار من الحنطة، فلا دليل على الاجتزاء به و لو كان

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 371

أقلّ من المقدار الذي فيها بالطبع و العادة.

فلو كان كرّ من الماء، فيه منٌّ من التراب على العادة، فهو معتصم، بخلاف ما إذا كان أقلّ بمثقال، فخلط بالتراب حتّى صار بحسب الوزن كرّاً، فإنّه ليس بمعتصم.

و لك التفصيل بين ما يخالطه بالاستهلاك فإنّه و إن لم يكن كرّاً، و ليس الآن أيضاً كرّاً من الماء؛ لعدم الاستهلاك الحقيقيّ، بل و امتناعه، إلّا أنّه خلاف المرتكز العرفيّ، و لا سيّما بعد كونه أصفىٰ من المياه الأُخر بعد ذلك أيضاً و بين ما يخالطه لا بالاستهلاك.

مثلًا: المتعارف في المياه، وجود بعض الجوامد المرئيّة بالبصر، فإنّ الماء إذا بلغ كرّاً بها فهو معتصم؛ للملازمة النوعيّة بينها و بين الكرّ، خصوصاً في المدينة المشرّفة، و مكّة المكرّمة، و إذا كان تتميم الكرّ بإلقاء شي ء فيه، فهو غير موجب لكونه معتصماً، بخلاف الفرض الأوّل، و اللّٰه العالم.

مسألة: في تقارن الكرية و الملاقاة و زوال الكرّية بالملاقاة

حدوث الكرّية و الملاقاة في آن واحد، كزوالها و الملاقاة في آنٍ واحد. و لو زالت الكريّة بالملاقاة كما لو شرب

الكلب منه فالظاهر نجاسته.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ قصور شمول أدلّة الانفعال لمثله، أو دعوى ظهور الملاقاة في اللقاء المصدريّ، و لا يكفي اللقاء بقاءً.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 372

ذنابة: في أنّ العبرة بالاستهلاك لا التتميم

قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه: أنّ المياه النجسة بالملاقاة، لا تطهر و لو تمّمت بألف كرّ، فإنّ طريق تطهيرها الاستهلاك العرفيّ، دون الامتزاج، و لا الاتصال «1».

نعم، لو كان الاستهلاك و التتميم في آنٍ واحد، فللقول بطهارة الكلّ وجه، كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 372

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 150 151.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 373

المبحث السادس في ماء الغيث
اشارة

و البحث حوله يتمّ ضمن جهات:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 375

الجهة الاولىٰ في موضوع المسألة
اشاره

و هو «ماء المطر» و «المطر» و هو بحسب اللغة: عبارة عن ماء السحاب، و الماء المنسكب من السحاب، و قضية إطلاقه بعد اعتراف جمع، مع التأييد ببعض الآثار كون جميع المياه ماء المطر، كما مضى تفصيله «1».

و ضعف هذه المقالة، لا يحتاج إلىٰ مزيد تدبّر، و لا سيّما أنّ المدار على الصدق العرفيّ و مساعدة أهل اللغة، فما هو المراد منه، هو الماء النازل من السحاب، طبيعيّاً كان، أو مصنوعيّاً، كما تعارف في اليوم من إرسال الأبخرة إلى السماء، فإذا وصلت إلى الحدّ الخاصّ يتقاطر و ينزل، فإنّه أيضاً مطر قطعاً، و لا يشترط في صدق العنوان المذكور شي ء آخر.

نعم، كون الماء النازل بحدّ خاصّ في القوّة و الكثرة و الكبر، حتّى

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 25 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 376

يوصف بعنوان «المطر» أمر آخر خارج عن وظيفة الفقيه.

و دعوى انصراف الأدلّة عن النادرة القليلة و الضعيفة في المطهّرية، غير بعيدة، و لكنّها غير داخلة في الصدق اللغويّ، فإنّ المتفاهم منه أعمّ من كونه ذا قوّة، أو ذا جثّة، أو ذا كثرة، و لذلك كثيراً ما يستعمل كلمة «القطرة» في المطر، فيقال: «نزلت قطرة مطر» أو «قطرات» كما في المآثير و الروايات «1»، و هذا يؤيّد ما ذكرناه.

فبالجملة: في كونه ماء مطر اتفاق، و عليه الضرورة و الوجدان.

حول بعض المصاديق التي يشكّ في صدق المطر عليها

بقي الكلام في المصاديق الأُخر:

منها: المياه المجتمعة من المطر المتقاطر عليها فعلًا من السماء، فهل هي أيضاً مطر؟

لا شبهة في كونها منطبقاً عليها عنوان «المطر» و ما عن العلّامة بحر العلوم: من أنّها ليست منه، و جعلها من الراكد المعتصم بالمطر «2»، غير موافق للذوق، و الاستعمال، و لظاهر اللغة؛ لأنّ

«المطر» هو المنسكب من السحاب، و ليس في كلامهم تقييد بحال نزوله و تقاطره، و سيتّضح لك ما ألجأه إلى الالتزام المزبور.

و منها: المياه المجتمعة من غير المطر المتقاطر عليها من السماء،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(2) مهذّب الأحكام 1: 208.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 377

فإنّها ليست منه لغة و عرفاً، و يشهد للأوّل أنّ النازل عليه إذا كثر على المجتمع من ماء البئر مثلًا- بحيث غلب عليه ربّما يؤدّي إلى انسلاب اسمه، و يصدق عليه بعد الغلبة «ماء المطر و الغيث» و ما هذا إلّا لأجل أنّ العرف يجد الموجود المجتمع ماء المطر.

و منها: المجتمع من ماء المطر المتقاطر عليه من السماء قطرات خفيفة، فإنّه علىٰ ما عرفت منّا يعدّ «ماء الغيث و المطر» لصدقه على النازل.

و قد يقال: بأنّ عدم صدق «المطر» على القليل و القطرة، يورث عدم صدق «المطر» على المجتمع المزبور «1».

و أنت خبير: بممنوعيّة هذا. نعم دعوى انصراف الأدلّة هنا ممكنة، إلّا أنّها غير مرضيّة، فما يظهر من القوم، بل و المشهور؛ من إخراج مثله عن موضوع المسألة، غير قابل للتصديق جدّاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المشهور اعتبروا في صدق «المطر» القوّة و الاشتداد إذا أُريد زوال النجاسة به. و أمّا إذا أُريد زوالها بالمجتمع حال التقاطر عليه، فلا يعتبر عندهم شدّة تلك القطرة و ذلك المطر.

و منها: الفرض السابق مع انقطاع المطر ثمّ اتّصاله؛ بأن تكون السماء ذات فيض و إمساك، و ذات إضافة و بسط طبعاً في منطقة، فإنّ هذا الانقطاع المعلوم اتصال المطر بعده بساعة أو ساعتين، يورث انسلاب اسم «المطر و ماء الغيث» عن المجتمع المزبور

ظاهراً عندهم.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 378

نعم، و لكنّه لا يخلو من مناقشة؛ ضرورة أنّه ماء من السحاب موضوعاً، و إخراجه حكماً يحتاج إلى الدليل، بعد ثبوت الإطلاقات، و قصور الأدلّة المقتضية لانفعال القليل عن شموله، كما سنشير إليه، و من الممكن دعوى أنّ هذه الفترة ليست مضرّة؛ لأنّ بناء ماء المطر على الفترة و الانفعال.

و منها: الفروض الأُخر، مثل كون النزول علىٰ قطعة من المجتمع دون تمامه، و يتصوّر ذلك في الطست، فإنّه إذا كان جانب منه تحت السماء، و جانبه الآخر تحت السقف، فهل هو كافٍ في صدق «ماء المطر»؟ الظاهر نعم.

الجهة الثانية: في اعتصامه و مطهّريته

أمّا الثانية بل و الأولى فهي في الجملة مورد الاتفاق، و عليها دعاوي الإجماعات المنقولة و المحصّلة «1». و لا نحتاج إليها؛ لأنّها القدر المتيقّن من الكتاب، و قد مرّ ممنوعيّة شموله لغيرها «2».

نعم، استفادة العصمة منه مشكل؛ ضرورة أنّ المطهّرية المستفادة من الكتاب، أعمّ منها، و غاية ما يستفاد من توصيفه ب «الطهور» زيادته علىٰ أصل الطهارة المشترك معه سائر الأشياء، و لكن تلك الزيادة هي التي تتصوّر في التراب و الأرض، و هي المطهّرية دون العصمة.

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 26، جواهر الكلام 6: 312.

(2) تقدّم في الصفحة 25 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 379

و قد مرّ شطر من البحث حول ذلك في بدو الكتاب «1».

نعم، قضيّة انفعال ماء المطر حين التقاطر، اعتبار العسر و الشدّة، و هو كذلك، إلّا أنّه ليس من الاستدلال بالكتاب.

فبالجملة: اعتصام ماء المطر و مطهّريته في الجملة، أمر قطعيّ لا غبار عليه، و لا شبهة تعتريه، و سيظهر لك في ضمن بعض

الجهات الأُخر بعد نقل مآثير المسألة، إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و ممّا يشهد على ذلك، مفروغيّة المسألة في عصر الأخبار؛ لأنّها سيقت لبيان أمر آخر زائد على أصل العصمة، و تدلّ عليها السيرة القطعيّة العمليّة من الجاهل و العالم.

و يشهد لها: أنّ اعتبار نجاسة غسالته، يستلزم لغويّة اعتبار مطهّريته نوعاً؛ لأنّ الغسالة من كلّ شي ء في الأرض، تلاقي الشي ء الآخر قهراً، و إذا صارت طاهرة بالمطر بعد الانفصال، فاعتبار نجاسته لغو نوعاً.

الجهة الثالثة: في حكم الشكّ في العصمة و المطهريّة
اشارة

إذا شكّ في شرطيّة شي ء في عصمته و مطهّريته، فقضيّة الإطلاقات في أصل الماء و بعض المطلقات هنا عدمه؛ لعدم رجوع الشكّ المزبور إلى الشكّ في الموضوع؛ و هو مطهّرية المطر.

مثلًا: إذا شكّ في شرطيّة كون المطر بحيث إذا كان على الأرض المتعارفة صلابة و رخوة يجري، فإنّه شكّ في شرط شرعيّ، و إلّا فصدق

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 18 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 380

«المطر» غير موقوف عليه قطعاً، كما عرفت توضيحه سابقاً.

و هكذا لو شكّ في شرطيّة جريانه من الميزاب، كما عن «التهذيب» و «المبسوط» و «الوسيلة» و «الجامع» «1» و نسب الأوّل إلى ابن حمزة في «الوسيلة» خاصّاً أيضاً «2».

و مثلهما الشكّ في اعتبار كرّيته، كما نسب إلى العلّامة «3»، أو الشكّ في اعتبار كون الماء أكثر من النجاسة، كما قال به الأردبيليّ «4» و «المعالم» «5» فإنّه لو تمّ العموم و الإطلاق فالمرجع واضح، و إنّما الإشكال في تماميّتهما؛ و ذلك لعدم قيام دليل كما مضى علىٰ عصمة المياه على الإطلاق «6».

نعم، النبويّ الوارد في محلّه «7» تامّ الدلالة، غير ظاهر انجباره، و إن اشتهر شهرة كافية جدّاً بين المخالف و المؤالف.

و توهّم إطلاق مآثير تغيّر الماء،

مندفع بما مضى تفصيله «8»، فبقي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296، المبسوط 1: 6، الوسيلة: 73، الجامع للشرائع: 20.

(2) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 176، الوسيلة: 73.

(3) مفتاح الكرامة 1: 63، جواهر الكلام 6: 314.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 1: 256.

(5) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63.

(6) تقدّم في الصفحة 20 و ما بعدها.

(7) المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(8) تقدّم في الصفحة 131 132.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 381

احتمال وجود الإطلاق في خصوص روايات المسألة، فلنشر إليها:

الإطلاقات النافية للشرطيّة

فمنها: ما رواه «الكافي» معلّقاً، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن الكاهليّ، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال قلت: أمرّ في الطريق، فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّأون.

قال: قال

ليس به بأس، لا تسأل عنه.

قلت: و يسيل عليّ من ماء المطر، أرىٰ فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر، فتقطر القطرات عليّ، و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضّأ علىٰ سطحه، فيكفّ علىٰ ثيابنا.

قال

ما بذا بأس، و لا تغسله؛ كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «1».

و قد يقال: بانجبار الإرسال بعمل الأصحاب «2»، و فيه ما لا يخفى.

و غاية ما يمكن أن يقال تقريباً للاستدلال: إنّ هذه الرواية مشتملة علىٰ ثلاثة أسئلة:

اشتملت الفقرة الاولىٰ إلىٰ قوله (عليه السّلام) مثلًا

لا تسأل عنه

و مفادها واضح، و ظاهر قوله: «فيسيل عليّ الميزاب» وقوع ماء الميزاب عليه، و ظاهر قوله: «في أوقات» هو أنّه ليس ماء المطر؛ لعدم تعارف التوضّؤ

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،

الباب 6، الحديث 5.

(2) جواهر الكلام 6: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 382

حين نزول المطر.

و اشتملت الفقرة الثانية إلىٰ قوله: «و ينتضح عليّ منه» على السؤال الآخر من غير جواب، و ظاهر قوله: «يسيل عليّ» وقوعه علىٰ بدنه و ثيابه، و لكن قضيّة قوله: «أرىٰ فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر» أنّ السيل كان على الطريق، حتّى يمكن الرؤية المزبورة، و ظاهر قوله: «فتقطر» وقوع القطرات عليه؛ أي علىٰ بدنه و ثيابه، و لكن قضيّة قوله: «و ينتضح عليّ منه» وقوع هذه القطرات إلىٰ جانبه و طرفه، و من تلك القطرات ينتضح عليه؛ أي علىٰ بدنه و ثيابه، كما هو المتعارف، فلا تهافت بين الفقرات.

و اشتملت الفقرة الثالثة على السؤال الثالث، و ظاهر قوله: «يتوضّأ علىٰ سطحه» و قوله: «و يكفّ» أي و يتقطّر على الثياب أنّه كان في أوقات لا ينزل المطر فيها.

فأُجيب بجواب للمسألتين؛ فإنّ قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر

جواب للمسألة الثانية حقيقة، و جواب للثالثة أيضاً؛ لأنّه بذلك يلزم الشكّ في كونه نجساً، لاحتمال زوال النجاسة بالمطر المطهّر، و تكون المسألة حسب المتعارف عن مجهولي التأريخ، فلا تغفل.

فعلم ممّا مرّ: أنّ ماء المطر لا يتنجّس بملاقاة النجس، و إلّا كان يجب الاجتناب عن القطرات الناضحة علىٰ ثيابه، و يجب تغسيله، و هذا هو المقصود من عصمة المطر و مطهّريته.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 383

توهّم ظهور الرواية في عدم تنجّس ماء المطر و سكوتها عن العصمة

إن قيل: ظاهرها عدم تنجّس ماء المطر بالتغيّر، و هو ضروريّ البطلان.

و أيضاً: ظاهر قوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء ..» أنّ ماء المطر مطهّر، و أمّا عصمته فهو ساكت عنها.

قلنا: أوّلًا: قد التزمنا في محلّه؛ قصور الأدلّة

عن إثبات تنجّس الماء المتغيّر «1».

و ثانياً: ظاهر قوله: «أرىٰ فيه التغيّر و آثار القذارة» عدم تغيّر الماء حقيقة، بل فيه مرتبة من التغيّر بالنسبة إلىٰ بعض قطعات الماء.

و ثالثاً: ظهور الذيل فيما أُشير إليه ممّا لا يكاد ينكر، إلّا أنّ تطبيقه على المورد المسئول عنه، شاهد علىٰ أنّ كلّ ماء إذا كان مطهّراً لشي ء، فهو لا ينفعل بذلك الشي ء، فتدلّ الرواية علىٰ طهارة غسالة كلّ المياه.

و ممّا ذكرناه يظهر تماميّة الاستدلال، من غير فرق بين اشتمال الرواية علىٰ قوله: «و يسيل عليّ ماء المطر» و عدم اشتمالها كما هو الظاهر، و اختلاف النسخ لا يضرّ بالمطلوب.

دعوى عدم إطلاق ذيل الرواية السابقة و جوابها

إن قلت: إطلاق الذيل ممنوع؛ لظهور الصدر في أنّ المراد من

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 120.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 384

«المطر المطهّر» هو السائل الجاري، أو ظهوره في أنّ المراد من «ماء المطر» هو السائل من الميزاب، أو ظهوره في أنّه هو السائل على وجه الأرض؛ لعدم وجود كلمة «الميزاب» في الفقرة الثانية.

قلت: قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه؛ أنّ خصوصيّة السؤال إذا كانت في الجواب ملغاة، تورث تأكيد الإطلاق؛ لأنّ ذلك يرجع إلىٰ إعراض المجيب عنها؛ بإعطاء القانون الكلّي المفيد في كلّ مقام.

و منها: ما رواه «الفقيه» في الصحيح، عن هشام بن سالم: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب.

فقال

لا بأس به؛ ما أصابه من الماء أكثر منه «1».

وجه الاستدلال: أنّ ما أصابه غسالة المتنجّس، و هي إذا كانت طاهرة يكون المطر مطهّراً و معتصماً.

نعم، يعلم منه لزوم إحاطة المطر بالمتنجّس، و غلبته عليه، و لا تكفي الأمطار القليلة جدّاً التي لا تحيط بالجسم،

و لا تكون أكثر.

بل يستفاد من الجواب، أنّ كلّ ماء إذا كان أكثر من النجس و وارداً عليه، يكون مطهّراً و معتصماً، فتكون الغسالة من كلّ المياه طاهرة.

و توهّم: أنّ الوكوف من الكنيف يلازم الجريان و كثرةً معتنى بها، فيورث الخلل في الإطلاق «2»، فاسد كما مرّ.

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 175.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 385

ثمّ إنّ المراد من «الأكثريّة» هي الأكثريّة في الإصابة؛ أي أنّ السطح الذي أصابه البول، ما أصابه من المطر، أكثر ممّا أصابه من البول، و هذا أمر فعليّ لا يلاحظ فيه القوّة، فما قد يتوهّم من قصور دلالته «1»، من قلّة التدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ أكثريّة الماء نوعيّة لا دائميّة، و ليس الشرط إلّا نوعيّته؛ لظهور الجملة في كونه حكمة لجعل الماء مطهّراً معتصماً، لا علّة كما لا يخفى.

فبالجملة: إذا كان ما أصابه من الماء، أكثر ممّا أصابه من النجس فهو الكافي. و يعلم الأكثريّة بالوكوف؛ لأنّه لا يمكن إلّا بعد إصابة السطح، فما أصاب السطح من البول، يصير أقلّ قهراً.

و منها: معتبر عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر، و قد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟

فقال

لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلّي فيه، و لا بأس به «2».

و دلالتها علىٰ أصل العصمة واضحة، و لكنّها لا إطلاق لها بالنسبة إلىٰ مطلق المطر.

و في نفسي أنّ «المطر» اصطلاحاً في المآثير و في المرتكز العرفيّ،

______________________________

(1) ذخيرة المعاد: 121/ السطر 38.

(2) مسائل

عليّ بن جعفر: 220/ 490، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 386

غير ماء المطر؛ فإنّه هو الماء النازل حين نزوله و إصابته للأرض، و أمّا إذا اجتمع في حفرة فهو «ماء المطر» و هذه الرواية ناظرة إليه كما لا يخفى.

و منها: معتبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

في ميزابين سالا، أحدهما بول، و الآخر ماء المطر، فاختلطا، فأصاب ثوب رجل، لم يضرّه ذلك «1».

و قد مرّ تفصيل البحث حولها في أوائل الكتاب «2»، و لا إطلاق لها، بل هي تشهد- علىٰ حسب التعارف أنّ ماء المطر بعد الانقطاع محكوم بالعصمة؛ لأنّ لازم المفروض في السؤال ذلك، فليتدبّر.

و منها: ما رواه «التهذيب» بإسناده عن أحمد بن محمّد و لعلّه المردّد بين المعتبرين عن جعفر بن بشير الثقة الجليل «3» عن عمر بن الوليد- المهمل «4» عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكنيف يكون خارجاً، فتمطر السماء، فتقطر عليّ القطرة.

قال

ليس به بأس «5».

و ظاهرها أنّ القطرة المصيبة هي النازلة على السطح، ثمّ أصابته،

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(2) تقدّم في الصفحة 197.

(3) رجال النجاشي: 119/ 304، الفهرست، الشيخ الطوسي: 43، معجم رجال الحديث 4: 55.

(4) تنقيح المقال 2: 348/ 9055، معجم رجال الحديث 13: 59.

(5) تهذيب الأحكام 1: 424/ 1348، وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 387

فيكون طاهراً، و المطر معتصماً، و ظاهره خفّة المطر، لا شدّته كما

توهّم، و لا أقلّ من الإطلاق السكوتيّ.

و أمّا سندها، فالظاهر جواز الاتكاء عليه؛ لأنّه قد نصّ النجاشي في ترجمة جعفر بن بشير بأنّه «روىٰ عن الثقات، و رووا عنه» «1» و قد مرّ حال أبي بصير «2»، فالرواية قويّة سنداً و دلالة جدّاً، فليتدبّر.

فتحصّل: أنّ جميع الشروط المحتملة دخالتها في مطهّرية المطر و عصمته، مدفوعة بمثلها.

فما قد يقال: بأنّ قصور الأدلّة المقيّدة الآتية، لا يورث تماميّة المطلوب؛ للزوم الأخذ بالقدر المتيقّن، في غير محلّه «3»

المآثير الدالّة على اشتراط جريان ماء المطر

إن قلت: قضيّة طائفة من المآثير، اشتراط الجريان.

فمنها: معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن

______________________________

(1) جعفر بن بشير أبو محمّد البجلي الوشّاء من زهّاد أصحابنا، و عبّادهم و نسّاكهم، و كان ثقة .. كان أبو العبّاس بن نوح يقول: كان يلقّب «فقحة» العلم، روى عن الثقات و رووا عنه، رجال النجاشي: 119/ 304.

(2) تقدّم في الصفحة 321.

(3) و في أبواب النجاسات باب 27 روايتان تدلّان على مطهّرية المطر و لو كان بالبَلّ (أ) (منه (قدّس سرّه)).

(أ) وسائل الشيعة 3: 445 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 3 و 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 388

البيت يبال علىٰ ظهره و يغتسل من الجنابة، ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟

فقال

إذا جرىٰ فلا بأس به «1».

و منها: ما رواه «قرب الإسناد» عنه قال: و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكفّ فيصيب الثياب، أ يصلّىٰ فيها قبل أن تغسل؟

قال

إذا جرىٰ من ماء المطر لا بأس «2».

و منها: معتبر عليّ بن جعفر، عنه (عليه السّلام) قال: سألته عن المطر يجري في المكان فيه العَذِرة، فيصيب الثوب،

أ يصلّىٰ فيه قبل أن يغسل؟

قال

إذا جرىٰ فيه المطر فلا بأس «3».

و توهّم إمكان حملها على الجريان التقديريّ، كما عن الأردبيليّ «4».

أو إمكان إرادة الجريان؛ بمعنى تقاطره من السماء قبال وقوفه.

أو جريانه الفعليّ الذي هو ملزوم غالبيّ لكونه حال التقاطر، كما

______________________________

(1) مسائل عليّ بن جعفر: 204/ 433، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

(2) قرب الإسناد: 192/ 724، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 3.

(3) مسائل عليّ بن جعفر: 130/ 115، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 9.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 176، مجمع الفائدة و البرهان 1: 256.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 389

عن الفقيه الهمدانيّ (قدّس سرّه) «1».

أو إمكان حملها علىٰ خصوصيّة المورد من النجاسة الخاصّة، أو كونه للصلاة «2».

أو إمكان حملها على القيد غير الاحترازيّ «3».

كلّها غير صحيح، فيتعيّن قول «الوسيلة» «4».

و لعلّ إليه يرجع مقالة الشيخ؛ من اشتراط الجريان من الميزاب «5»، و إن لم يساعده عبارته المحكيّة عن «المبسوط» «6» فتدبّر.

قلت: قد عرفت أنّ مطهّرية المطر و اعتصامه، غير مشروطتين بشي ء «7»، و مطهّريةَ ماء المطر و هو المجتمع في المكان و اعتصامَه، مشروطتان حسب هذه المآثير بالجريان، فلو أصاب المطر، و كان هو بحيث أحاط بالشي ء المتنجّس و غلب عليه بأن يكفّ منه شي ء من القطرات، كما في صحيحة هشام «8» فهو يطهّر، و ماء غسالته طاهر.

و إذا وقف ماء المطر في موقف، و كان راكداً، فإن تقاطر عليه من

______________________________

(1) مصباح الفقيه: 646/ السطر 4، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 261.

(2) التنقيح في شرح العروة

الوثقىٰ 1: 261.

(3) مهذّب الأحكام 1: 204.

(4) الوسيلة: 73.

(5) تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296.

(6) المبسوط 1: 6.

(7) تقدّم في الصفحة 379 380.

(8) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 390

السماء فهو لا يطهّر شيئاً، إلّا إذا كان بحيث يجري، أو كان جارياً بالفعل.

و علىٰ هذا، لا تهافت بين مفاد صحيحة هشام كما توهّمه الأكثر «1»، و مفاد روايات عليّ بن جعفر (عليهما السّلام) لاختلاف مصبّهما.

و أمّا إمكان الالتزام باشتراط الجريان حال التقاطر على المجتمع في الأرض، فإن أُريد منه الجريان الفعليّ، فهو في غاية البعد؛ للزوم كون الماء الراكد لمانع، نجساً و منجِّساً و لو كان أكراراً، فتأمّل، و الجاري القليل لاقتضاء الأرض جريانه، كما في الأراضي (الإسفالتيّة) طاهراً و مطهّراً.

فيعلم منه: أنّ المراد هو الجريان الملازم لكثرته العرفيّة، التي تجري نوعاً لولا الموانع الموجودة غالباً.

و قد يشكل ذلك؛ لظهور معتبرة الأوّل في أنّ المقصود هو الجريان الفعليّ، لأنّ مفروض السائل هو الماء الموجود القابل لأن يؤخذ منه للوضوء، فعليه يمكن دعوى أنّ هذه المآثير، بصدد إخراج هذا الماء من ماء المطر، و إدراجِه في الماء الجاري الذي له المادّة؛ و هي السماء، و ليس هو ماء بئر، حتّى يكفي مجرّد الاتصال بالمادّة، بل هو من قبيل الجاري، فيعتبر فيه الجريان، و عند ذلك يلزم تهافتها مع صحيحة ابن بَزيع «2»، الظاهرة في أنّ مجرّد الاتصال بالمادّة، كافٍ.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 646/ السطر 12، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 177.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب

الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 391

عود إلى أقسام الماء النازل من السماء

فتحصّل: أنّ هنا ثلاثةَ مياه:

المطر، و هو حال نزوله، فإنّه في هذه الحال إذا أصاب شيئاً يطهر، و يكون معتصماً.

و ماؤه الواقف في الأرض.

و ماؤه الجاري على الأرض، و هذا أيضاً مورد الاتّفاق، و ما هو مورد الخلاف هو الثاني.

و توهّم الاختلاف في الأوّل أيضاً، غير تامّ؛ لأنّ ظاهر الروايات المشار إليها، اشتراط الجريان في الماء الواقف على الأرض، و المصيب للسطوح النجسة، الداخلة فيها غسالتها، فالإطلاق الدالّ علىٰ مطهّرية المطر و اعتصامه، محفوظ، و ما يتراءىٰ من كلمات القائلين بالشرطين كما مرّ «1»، في غير محلّه.

نعم، الخروج عن هذه المآثير بوجه مقبول عرفيّ بحيث يلزم منه سقوط شرطيّة الجريان مشكل.

فبالجملة: الإطلاقات المقتضية لاعتصام المطر في جميع الصور، و إن كانت تشمل الفرض السابق، إلّا أنّ قضيّة هذه الأخبار تقييدها بها في صورة خاصّة، و فيما عداها و فيما عدا هذا الشرط، يرجع إلى الإطلاق، فما

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 389.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 392

قيل في المقام من بعض القيود في مطهّريته و عصمته «1»، لا يرجع إلى محصّل.

الجهة الرابعة: في الشكّ في مطهّرية بعض أقسام المطر

لو فرضنا قصور الطائفة الأُولىٰ عن المرجعيّة عند الشكّ سنداً أو دلالة، و سلمنا أنّ الطائفة الثانية قابلة للحمل علىٰ إحدى المحامل المشار إليها، فهل يجب الأخذ بالقدر المتيقّن؛ فيما إذا شكّ في مطهّرية ماءٍ بعد ما كانت واضحة عند العرف؟

أم يمكن التمسّك بالسيرة العمليّة و البناء العقلائيّ؛ فإنّ العرف بناؤه علىٰ ترتيب النظافة و الطهارة علىٰ ما يغسل بالمطر من غير قيد و شرط، و هذا مستمرّ من الآن إلى العصر الأوّل، و قضيّة الأُصول العمليّة طهارة غسالته؟

أو يمكن الرجوع إلى الأُصول الرافعة للشرط الشرعيّ، كما قيل به في غير مقام

«2»؟

و الإنصاف: أنّ الثاني غير تامّ، و الأوّل مقبول الأعلام، و لقد تعرّضنا لجريان البراءة الشرعيّة في مثل المسألة ملتزماً حجّيةَ الأصل المثبت بالأدلّة اللفظيّة فيها، و لكنّ المسألة عندي بعدُ لا تخلو من نوع غموض، فليتدبّر.

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 208.

(2) كفاية الأُصول: 110.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 393

هذا، و تختلف الآراء حسب اختلافهم في حقيقة النجاسة و الطهارة، و المطهّرات الشرعيّة و العرفيّة، فلا تغفل.

الجهة الخامسة: اعتصام ماء المطر الجاري بعد انقطاع التقاطر
اشارة

المشهور بل هو المتّفق عليه، اشتراط التقاطر الفعليّ علىٰ ماء المطر؛ في كونه مطهِّراً و عاصماً «1».

و قضيّة ما سلف صدق «ماء المطر» على المجتمع في الأرض، فإذا كان جارياً عليها ففي الشرط المذكور إشكال؛ لخلوّ المآثير عنه، و كونُه مفروغاً عنه عند السائل و المجيب غير ظاهر، بل إطلاق معتبر ابن جعفر (عليه السّلام) يقتضي عدمه.

مع أنّ من المحتمل قويّاً، كون المراد من «ماء المطر» هو المجتمع بعد انقطاعه، و أمّا إذا تقاطر عليه فهو مطر؛ لاختلاف المآثير في التعبير المذكور «2»، فتأمّل.

و التدبّر التامّ في صحيحة ابن الحكم «3»، يعطي أنّ المفروض فيها حال انقطاعه؛ لأنّ ميزاب البول حال التقاطر بعيد.

مع أنّه لا يحتاج في الفرض إلى الميزاب الآخر، بل هو مختلط مع المطر

______________________________

(1) جواهر الكلام 6: 312، مهذّب الأحكام 1: 207.

(2) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(3) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 394

المتقاطر عليه كما لا يخفى.

و يؤيّد ما ذكرنا صدر مرسلة الكاهليّ «1».

نعم، في كونه مسؤولًا عن ماء المطر إشكال.

و لعلّ لذلك مال «الجواهر» إلىٰ إسقاط

شرطيّة التقاطر عليه، دون أصل التقاطر «2».

و هذا التفصيل في غاية البعد؛ لأنّ المجتمع في الأرض، إن صدق عليه «ماء المطر» فيترتّب عليه حكمه، من غير لزوم التقاطر من السماء علىٰ أمر آخر.

و إن لم يصدق عليه، فلا بدّ من التقاطر عليه، حتّى يكون معتصماً لأمر آخر.

و ما ذهب إليه الفضلاء: من أنّ صدق «ماء المطر» على المجتمع في الأرض ممنوع؛ للزوم كون جميع المياه ماء المطر.

أو أنّ الصدق المزبور، يستلزم عدم انفعال الماء القليل؛ لأنّه يصدق عليه «ماء بئر» أو «بحر» أو «مطر» أو «جارٍ» و أمثاله، و هذا يشهد علىٰ أنّ الإضافة المذكورة بيانيّة «3».

غير قابل للتصديق؛ ضرورة أوّلًا: أنّ اعتصام المجتمع في الأرض، يكون عند الأصحاب لأجل صدق «ماء المطر» عليه، لا لأجل النصوص

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(2) لاحظ جواهر الكلام 6: 323.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 395

الخاصّة، أو لكونه وارداً في الماء ذي المادّة.

و ثانياً: لو كانت الإضافة بيانيّة، يلزم صدق «المطر» على الموجود المجتمع، مع أنّه واضح المنع.

و الالتزام بأنّ «ماء المطر» يصدق حقيقةً و لغةً حال التقاطر فقط، سواء كان التقاطر عليه، كما هو مختار الأكثر، أو كان على الأرض الأُخرىٰ، كما عليه «الجواهر» (رحمه اللّٰه)، في غاية الوهن؛ لعدم الشاهد عليه.

التفصيل في ماء المطر المنقطع عنه التقاطر

نعم، يمكن دعوى: أنّ مجرّد الصدق المذكور، غير كافٍ لإثبات المطهّرية و العصمة؛ لأقوائيّة أدلّة انفعال الماء القليل، بل و يكون بعض رواياته، واردة في الحياض و الغدران الموجودة في الصحاري التي ليست إلّا من الغيث «1».

و لكنّها

تتمّ لو سلّمنا عدم ظهور بعض روايات المسألة في خصوص حال انقطاع المطر.

فعليه، يمكن التفصيل بين ماء المطر الذي مرّ عليه الزمان الطويل، و بين ما لم يكن كذلك؛ فإنّ العرف ربّما يجد الفرق بين الصورتين في الصدق و عدمه، كما يجد الفرق بين ما إذا كان الماء المجتمع متّصلًا بالماء المتقاطر عليه، و بين ما لم يكن متّصلًا؛ ضرورة أنّ العرف يجد عصمة الأوّل لأجل كونه ماء المطر، و ليس هذا إلّا لقرب عهده بالمطر، فتدبّر.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 396

مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ في اعتصام ماء المطر

هذا، و قضيّة الأُصول العمليّة لدى الشكّ، أيضاً اعتصامه بعد الانقطاع؛ لأنّ العصمة و المطهّرية من الأحكام المجعولة التنجيزيّة، و الشكّ في بقاء نجاسة الملاقي، مسبّب عن الشكّ في مطهّريته و عصمته.

و لو قيل: بأنّ الأصل الجاري هو التعليقيّ، مع تعارضه باستصحاب النجاسة «1»، فهو لا يخلو من تأسّف، مع أنّ الأصل التعليقيّ، جارٍ و حاكم على استصحاب النجاسة في الملاقي، و لا ينبغي الخلط بين الاستصحاب التعليقيّ، و بين استصحاب أمر مفهومه المعلّق، كاستصحاب ضمان زيد، فإنّه إذا كان ضامناً، ثمّ شكّ في ضمانه، فالاستصحاب يورث فعليّة ضمانه، و معنى «الضمان» هو أنّه إذا تلف المال مثلًا عنده، فعليه مثله أو قيمته، و العصمة و المطهّرية و إن كان معناهما معلّقاً، و لكنّها قابلة للجعل المنجّز، و ليس استصحابه من الاستصحاب التعليقيّ، فليتدبّر، و اغتنم.

الجهة السادسة: في طهارة الأشياء بمجرّد رؤية المطر لها
اشارة

قضيّة ما ورد في خصوص المطر، أنّ الأشياء المتنجّسة تطهر به، من غير اشتراط عنوان «الغسل» و «التعدّد» و عنوان «العصر» و «التعفير» بل الحكم أُنيط بالرؤية و الإصابة في المرسلة «2»

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179 180.

(2) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 397

و الصحيحة «1».

و مقتضى هذه الإطلاقات، عدم الفرق بين الجوامد و المائعات، فلو أصاب ماء متنجّساً فقد طهر، من غير اشتراط الامتزاج و الاستهلاك، و إن قلنا: باعتبار هذه الأُمور في التطهير بالمياه الأُخر.

و ظاهر أصحابنا الاتكاء عليها إلّا في مسألة التعفير، حيث استشكل الأمر هناك، و إن احتمله السيّد اليزديّ (قدّس سرّه) «2».

تعارض إطلاقات المطر مع إطلاقات التعفير و نحوه

و ربّما يخطر بالبال: أنّه لو فرضنا الإطلاق هنا، فلتلك العناوين الأُخر أيضاً إطلاقات، و تكون النسبة عموماً من وجه.

و ما اشتهر بين أبناء العصر: من تقديم أدلّة المسألة علىٰ تلك الإطلاقات، معلّلين بأنّ من وجوه تقديم أحد العامّين من وجه على الآخر، لزوم لغويّة أحدهما علىٰ فرض تقديم الآخر، و لا عكس، و الأمر فيما نحن فيه كذلك؛ لأنّ المفروض في الأدلّة خصوصيّته للمطر، و لو كان لتلك الأدلّة تقديم عليها، يلزم سقوط تلك الخصوصيّة، و اشتراكه مع سائر المياه «3».

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 41، فصل في المياه، ماء المطر، المسألة 11.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 224.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 398

لا يخلو من تأسّف؛ ضرورة أنّ تقديم أحد الدليلين على الآخر، ليس

من الواجبات الشرعيّة، و لا العرفيّة، حتّى يقال بما قيل، بل الجمع بين الدليلين لا بدّ و أن يكون عرفيّاً، و مجرّد الإمكان لا يصحّح ذلك، فعليه تبقى المعارضة بين الأدلّة باقية.

و لك منع اللغويّة؛ لأنّ من آثاره عدم الاحتياج إلى التعدّد و العصر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ نسبة جميع تلك الأدلّة معها، عموم من وجه، كما أشرنا إليه. مع أنّ تقديم روايات هذه المسألة على تلك الأدلّة بعد الالتزام بعدم اعتبار العصر و التعدّد في مطلق المياه المعتصمة يستلزم التخصيص المستهجن، و يلزم التعارض بالعرض بين أخبار المسألة، و أخبار المياه الأُخر التي تكون عاصمة، كما لا يخفى.

نعم، إذا كان الأمر كما أُشير إليه آنفاً، فالظاهر الذي عليه بنينا في محلّه، هو سقوط المطلقات، و يكشف من التخصيصات المنفصلة الكثيرة، وجود قيد في تلك المطلقات غير واصل إلينا، كما اشتهر ذلك في أخبار القرعة «1»، و عند ذلك يتعيّن الأخذ بإطلاقات المسألة في خصوص التعدّد و العصر، لو لم نقل: بأنّ اعتبار العصر ناشئ من اعتبار الغسل.

و أمّا شرطيّة الغسل، فلا دليل يقتضي لزوم ذلك على الإطلاق.

و أمّا شرطيّة التعفير، فهي مشكوكة السقوط، و قضيّة الاستصحاب اعتباره. و هكذا في المائعات النجسة، بناءً على اعتبار الامتزاج أو الاستهلاك.

هذا، و في خصوص أخبار المسألة، شهادة علىٰ عدم اعتبار التعدّد

______________________________

(1) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 384.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 399

فيما يعتبر فيه التعدّد؛ و هي النجاسة البوليّة و الخمريّة، فلا تغفل.

وجه لعلاج التعارض بين المطلقات و جوابه

و قد يقال: بأنّ إطلاقات المسألة، ظاهرة في قيام المطر مقام الغسل بغيره من المياه، و أمّا التطهير بالتراب فهو أجنبيّ عنها «1»، و ما فيه لا يحتاج إلى الإبانة؛

لعدم ظهور فيها للنيابة و القيام، و إطلاق قوله محكّم.

و لنا السؤال عنه و عن أخيه الذي أخذه منه أنّه لا يجوز التمسّك بها؛ إذ الشكّ في اعتبار التعفير بالتراب، شبهة حكميّة في أصل تلك المسألة، أم يرجع إلى استصحاب النجاسة؟ و لا أظنّ من الالتزام بذلك، كما هو الظاهر.

و لو كانت المياه الأُخر، نائبة عن ماء المطر في المطهّرية، كان هو الأولىٰ، مع أنّهم مصرّون علىٰ أنّ جميع المياه من المطر؛ اتكالًا علىٰ بعض الظواهر المخفيّ معناها علىٰ هؤلاء الفضلاء المبتدئين في العلوم، فلا تخلط.

توهّم آخر لتقديم عمومات المطر على مطلقات التعفير و جوابه

و ربّما يقال: بأنّ قضيّة تعارض العموم في المسألة مع إطلاقات مسألة التعفير، تقديمه عليها؛ لأنّ ظهور الإطلاق تعليقيّ، و ظهورَ العموم

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 233.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 400

تنجيزيّ «1».

و بعبارة اخرىٰ: يمكن أن يكون العامّ بياناً للمطلق.

و هذا غير مبرهن عندي؛ لأنّ من القويّ احتياج العمومات إلىٰ مقدّمات الإطلاق، مع أنّ مقدّمات الإطلاق، توجب ظهور فعل المتكلّم المختار في أنّ ما أخذه موضوعاً للحكم، تمام الموضوع، و هذا ظهور تنجيزيّ، و إلّا يلزم عدم جواز التمسّك بالمطلقات في كلمات الأوّلين، بعد بنائهم علىٰ ذكر القيود و القرائن في كلمات الآخرين؛ لعدم استقرار الظهور قبله، و الالتزام بذلك غير مقبول لدى أبناء التحقيق، فلا تخلط.

و أمّا تمسّكهم باستصحاب النجاسة بعد سقوط الإطلاقين «2»، فهو لا يخلو من غرابة؛ للزوم التمسّك به في جميع الشبهات الحكميّة.

مثلًا: لو شكّ في احتياج ولوغ الخنزير أو الكلب البحريّ و هكذا كلّ حيوان إلى التعفير، فقضيّة استصحاب النجاسة لزومه، و هذا ضروريّ البطلان؛ لحكومة إطلاقات مطهّرية الماء عليه، فليتدبّر.

الوجه في رفع التعارض بين عمومات المطر و التعفير

و من الممكن دعوى: أنّ التشديد في حكم النجاسة، كاشف عن شدّتها، فإذا شكّ في حكم كالتعدّد، و التعفير يرجع إلى الشكّ في شدّتها، و هي محكومة بالعدم إذا كانت جعليّة، فتأمّل.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 224.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 185.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 401

و حيث إنّ ظاهرهم في محلّه إرسالهم المسألة؛ و أنّ التعفير لازم، يعلم أنّ المتفاهم العرفيّ تقدّم تلك الأدلّة علىٰ أدلّة المسألة، بل يظهر قوّة احتمال لزوم التعدّد فيما يحتاج إليه أيضاً؛ و ذلك لأنّ

إطلاقات المسألة ناظرة إلىٰ أصل حصول الطهارة بالمطر، في مقابل توهّم عدم تطهّر النجس به، أو اشتراط الأمر الآخر زائداً علىٰ المطريّة، و أمّا التعدّد و التعفير فهما لا ينافيان الإطلاق المزبور.

أو يقال بأنّ العموم في المرسلة غير حجّة سنداً، و ذيل صحيحة هشام غير تامّة دلالة؛ لأنّه ظاهر في ذكر الحكم بالنسبة إلى المورد فلا حجّة في المسألة تقاوم أدلّة اعتبار التعفير و التعدّد.

و المسألة بعد تحتاج إلى مزيد تدبّر في أخبار تلك المسألة، و سيوافيك تفصيلها في محلّه إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

تنافي مفهوم الإصابة مع مفهوم الغسل

ثمّ إنّه غير خفيّ تعارض أخبار المسألة مع قوله (عليه السّلام)

اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه «2»

فإنّ الظاهر لزوم الغسل من غير فرق بين المياه، فتكون النتيجة هي التعارض بالعموم من وجه، علىٰ وجه عرفت

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 406 407.

(2) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 402

تفصيله «1».

فما قيل: «بأنّ الموضوع هنا هو الإصابة و الرؤية، و في غير ما نحن فيه هو الغسل» «2» خالٍ عن التحصيل، كما لا يخفى.

و إذا كان مفهوم «الغسل» متقوّماً بالعصر، فيلزم حسب إطلاق هذه الرواية عصر الثوب المغسول بالمطر، و حيث يشكل كون أخبار المسألة الواردة في الثوب المتنجّس «3»، مرتبطة بتلك المسألة، فلا يستفاد منها مٰا يضادّها.

و بعبارة اخرىٰ: ما ورد في الغسل و التعدّد، راجع إلى الثوب المبتلىٰ بالبول، و ما ورد في هذه المسألة، راجع إلى الثوب المبتلىٰ بالماء المتنجّس بالبول، أو السطح المتنجّس بالبول، فيمكن عدم الحاجة حينئذٍ إلى العصر و التعدّد، كما قيل به في محلّه، فما يظهر

من الأعلام المعاصرين شرّاح «العروة الوثقىٰ» في هذه المسألة، صدراً و ذيلًا، فقهاً و أُصولًا «4»، كلّه المطعون، عصمنا اللّٰه تعالىٰ من الزلل، و نرجو منه العفو و التجاوز عن الخطأ.

و ربّما يخطر بالبال: أنّ الأمر بالتعفير، كاشف عرفيّ عن وجود العين النجسة في الإناء، و لا معنى لكون الماء مطهّراً لها إلّا بعد زوالها، فعليه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 397.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 223 224.

(3) وسائل الشيعة 3: 395 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2 و 3 و 4.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 180، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 223.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 403

يمكن اختصاص التزامهم بالتعفير و لو كان في الغسل بالمطر، و لا يلتزمون بالعصر و التعدّد. هذا تمام الكلام في سقوط الغسل و التعدّد و التعفير.

كفاية إصابة المطر عن الامتزاج و الاستهلاك

و أمّا سقوط الامتزاج و الاستهلاك، فهو غير بعيد بدواً؛ لعدم الدليل عليهما إلّا الأدلّة التي لها الإهمال، فلا بدّ من المراجعة إلى إطلاقات المسألة «1».

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المائع المتنجّس كالجامد المتنجّس، فكما لا يكفي إصابة المطر في جانب عن جانب آخر في الجوامد، فكذلك في المياه، و الصدق العرفيّ مشترك بينهما، فإذا طهر سطح الماء المتنجّس بغلبة المطر عليه، فهو ينجس بملاقاة بقيّة الماء بعد انقطاع المطر، فيكون تطهيره باستهلاكه فيه، أو امتزاجه معه «2»، علىٰ ما مرّ في محلّه «3».

و ربّما يتخيّل سقوط الامتزاج هنا و إن كان شرطاً في غيره؛ لتلك الإطلاقات «4» و قد عرفت وجه منعه.

و لأجل أنّ ظاهر الأصحاب في التطهير بالكرّ، اعتبار إلقائه دفعة للزوم انفعال القليل الوارد عليه

فعليه لا يعقل تطهير المياه المتنجّسة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 225 226.

(3) تقدّم في الصفحة 173 174.

(4) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 227.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 404

بالمطر؛ لانقطاع القطرات، و تصير منفعلة في الرتبة المتقدّمة، فيدور الأمر بين إنكار تطهيره به، و هو خلاف الإطلاقات الماضية، و بين القول بكفاية الاتصال و هو المتعيّن.

مع أنّ التفكيك بين السطح و الباطن في الماء الواحد، خلاف الإجماع المدّعىٰ علىٰ وحدة حكم الماء الواحد «1».

و يؤيّد ذلك الإجماعات المستفيضة المحكيّة، علىٰ أنّه كالجاري «2»، و قد تقرّر في محلّه كفاية الاتصال به «3».

و أمّا التمسّك بروايتي الميزابين صحيحة ابن الحكم «4»، و خبر ابن مروان «5» لكفاية الاتصال «6»، فهو من الغفلة عن ظاهرهما؛ لأنّ المصيب هي القطرة من الماء المختلط من البول و المطر، و الاختلاط إمّا هو الامتزاج، أو هو الاستهلاك، فلا تكون هي إلّا دالّة علىٰ خلاف المقصود؛ لتقرير الإمام (عليه السّلام) أنّ الحكم دائر مدار الاختلاط، و بإلغاء الخصوصيّة عن البول، يسري الحكم إلى المائعات المتنجّسة؛ لأنّها بعد التنجّس تصير كالعين النجسة، علىٰ ما تقرّر منّا في محلّه، فلا تخلط.

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 255، مستند الشيعة 1: 26.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 43، فصل في المياه، ماء البئر، المسألة 2.

(4) وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(5) تقدّم في الصفحة 239.

(6) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 227.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 405

تفصيل الجواهر بين إصابة المطر للجامد و المانع

ثمّ إنّ ظاهر «الجواهر» «1» و غيره «2»، دعوى أنّ العرف يساعد على التفرقة بين الجامد و المائع، فإنّ الجوامد لا تطهر بمجرّد إحاطة المطر بجانب منها، بخلاف المائعات.

و هي غير مسموعة، مع انتقاضها بالماء المضاف الذي لا يمكن الالتزام بطهارته بمجرّد الاتصال، و لا يساعده العرف، فليتأمّل جيّداً.

أقول: هذا غاية ما يمكن أن يستند إليه في المسألة، و أنت خبير بما فيه صدراً و ذيلًا؛ و ذلك لأنّ صحيحة ابن بَزيع الواردة في طهارة الماء المتنجّس بالمادّة «3»، صريحة أو ظاهرة في أنّ المناط في التطهير، كون الماء الوارد ذا مادّة، و ليست المادّة هي المياه الكثيرة، بل هي تختلف حسب اختلاف الآبار، و من الآبار ما يتقاطر من جدارها على الماء الموجود فيها، و هي كثيرة، أو تكون تلك القطرات جوف الماء الموجود، فلو كان ذلك مورثاً لنجاسة تلك القطرات، يلزم امتناع تطهيره بها؛ للزوم تكثّر الماء المتنجّس دائماً، و لا يمكن تقليله، فضلًا عن تحصيل طهارته.

هذا مع أنّ ظاهر أخبار المطر، أنّ القطرات معتصمة «4»، و إذا كثرت

______________________________

(1) جواهر الكلام 6: 319.

(2) مهذّب الأحكام 1: 210.

(3) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(4) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 406

و امتزجت يطهر القليل بها، فالقول باعتبار الدفعة في الكرّ، لا يستلزم ذلك في غيره.

فالمناط في المسألة مختلف، و منه وقوع المياه الطاهرة في المتنجّس تدريجاً، إلىٰ أن يصير أكثر منه، و غالباً عليه، كما في صحيحة هشام بن سالم «1»، فما ظنّه أصحاب القول بكفاية الاتصال ناشئ عن

سوء الحال.

و إذا تبيّن فساد ذلك، فسائر الوجوه التي أُشير إليها في أثناء الصفحات الماضية كلّها ساقطة؛ لأنّها من متفرّعات هذا الوجه الظاهر فساده.

هذا، و قد مرّ منّا: أنّ المياه النجسة، كالمضاف في عدم قبوله الطهارة، إلّا بانعدام موضوعه و هو الاستهلاك «2»؛ لما تقرّر في محلّه أنّ معنىٰ تطهير الشي ء، ليس إلّا إزالة النجاسة عنه بالماء، و هو لا يتصوّر في المائعات «3»، فالعمومات و الإطلاقات منصرفة عنها، و لا نصّ علىٰ أنّ المائعات بخصوصها، تطهر بالاتصال أو الامتزاج.

و أمّا خبر الميزابين «4»، فإمّا يراد من الاختلاط المفروض فيه بين البول و الماء، الامتزاج، أو الاستهلاك

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) تقدّم في الصفحة 108.

(3) نفس المصدر.

(4) تقدّم في الصفحة 404.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 407

فإن أُريد الأوّل، فلا دليل على أنّ نفي البأس لأجل طهارة البول بالامتزاج، بل ربّما كان لاحتمال إصابة الماء المعتصم.

و إن أُريد الثاني كما حمله عليه بعض الأفاضل «1» فهو لا يدلّ علىٰ شي ء، فلا تخلط.

و أمّا مرسلة الكاهليّ «2» علىٰ نسخة «الوافي» «3» التي صدّقها شيخ الشريعة الأصفهانيّ (رحمه اللّٰه) «4»، و هو تعويض قوله: «و يسيل عليّ ماء المطر» بقوله: «و يسيل على الماء المطرُ» بأن يكون «المطر» فاعله، فإنّه و إن لا موجب لتعيّنها إلّا بعض ما لا يصغى إليه، و لكنّه لو سلّمنا ذلك، فلا دلالة لها على أنّ الماء المرئيّ فيه التغيّر و القذارة، كان متغيّراً بالنجس، حتّى يقال: بأنّ مجرّد تقاطر المطر عليه يورث طهارته، كما في المرسلة.

مع أنّ إرسالها غير ظاهر انجباره؛ لوجود الصحاح الكثيرة في

المسألة.

و أمّا إجماع الشهيد (رحمه اللّٰه) في «الروضة» «5» فهو كالإجماعات الكثيرة التي تكون مؤيّدة للمسائل الشرعيّة، و ليست دليلًا لها.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 226.

(2) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(3) الوافي 6: 46/ 3.

(4) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 182.

(5) روض الجنان: 139/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 408

و أمّا صحيحة ابن بزيع، فقد فرغنا عنها في محلّها «1»؛ و أنّها تدلّ علىٰ أنّ زوال التغيّر من المطهّرات، من غير الحاجة فيه إلى الاتصال أو الامتزاج. و لو تنزّلنا عنه، فلا دلالة لها علىٰ كفاية الاتصال أو الامتزاج، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و أمّا الإجماع علىٰ وحدة الماء الواحد حكماً، فهو مضافاً إلىٰ عدم إطلاق لمعقده مثل ما مرّ في عدم تماميّة شرائط اعتباره.

فتحصّل: أنّ تطهير المائعات النجسة و منها المياه المتنجّسة بالمطر، غير ممكن، و ما هو المطهّر لها هو الاستهلاك فقط.

تذنيب: في الآثار المترتّبة على كفاية أصابه ماء المطر

قضيّة ما تحرّر منّا في أثناء البحث: أنّ المطر غير ماء المطر؛ فإنّه هو الماء النازل المتقاطر المنفصل بعضه من بعض، و الثاني هو الجاري و الموجود على الأرض، المجتمع و المتّصل بعضه ببعض.

و كما أنّ ذاك مطهّر و عاصم لكلّ شي ء بشرط الغلبة فإنّه بدونها مشكل مطهّريته؛ لأنّ شرطيّة الجريان في الثاني، يستلزم ذلك عرفاً في الأوّل كذلك ماء المطر مطهّر للأراضي و السطوح؛ بشرط الجريان عليها.

و هذا من غير فرق بين كونه مصيباً لها بلا واسطة، أو مع الواسطة؛ لأنّ صدق «المطر» غير لازم، و صدق «إصابة ماء المطر» قطعيّ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 159 161.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 409

و توهّم: أنّ اعتبار الغلبة و الأكثرية، غير قابل للجمع «1»، في غير محلّه؛ لأنّ الماء إذا كان أكثر، فقهراً يجري، و أمّا جريانه من الميزاب، فهو غير قابل للتصديق.

فما اشتهر بين المتأخّرين في الفروع الكثيرة كما في «العروة الوثقىٰ» «2» من الإشكال في كفاية وصول ماء المطر إلى النجس في التطهير به غير مرضيّ؛ لأنّ إصابة المطر ليست شرطاً، بل إصابة ماء المطر و رؤية ماء المطر لازمة، و هو واضح حتّى بالنسبة إلى المتنجّسات تحت السقوف، كما لا يخفى.

تنبيه: في حكم الأراضي النجسة التي لا يصيبها المطر

لا شبهة في أنّ اعتبار المطهّرية لماء المطر و المطر؛ تسهيلًا على الناس، و إذا كان جميع أراضي البلد كما هو المتعارف غير واصل إليه المطر للموانع، فيلزم تكثير النجاسة برطوبته كما نشاهدها، خصوصاً في مثل العراق التي هي مرحاض الشرق، فعليه هل يمكن الالتزام بطهارة تلك الأراضي تبعاً، أم لا؟ وجهان.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 177.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 39، فصل في المياه، المسألة 3 و 5.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

الجزء الثاني

[تتمة كتاب الطهارة]

[تتمة المقصد الأول في المياه و أحكامها]

المبحث السابع في ماء الحمّام
اشارة

و الكلام في المقام يتمّ في مواقف:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 3

الموقف الأوّل في المراد من «ماء الحمّام»

فالذي هو المعروف و عليه الشواهد، أنّه ما في الحياض الصغار.

و أمّا احتمال كون ما في الخزانة مستقلا من ماء الحمّام، أو كون ما في الحياض مع ما فيها ماء الحمّام، فهو في حد نفسه غير بعيد، إلّا أنّ الاستعمالات في السنّة تورث تعيّن ما أرسله المشهور؛ ضرورة أنّ رواية ابن حبيب «ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة» «1» و غيرها مثل ما في «فقه الرضا» «2» كالصريح في ذلك.

و قد يشكل: أنّ تنزيله منزلة الجاري، يعطي أنّ المجموع ماء الحمّام؛ لأنّ مادّة الجاري من الجاري، فكما أنّ الماء الموجود بعنوان «المادّة» و «السائل على الأرض» هما هو الجاري، كذلك ما نحن فيه.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 86/ 4، مستدرك الوسائل 1: 194 195، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 4

و يدفعه: ما في «التهذيب» عن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) في الحمّام أنّه قال: «إذا علم أنّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمّام، إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله، ثمّ يغتسل» «1».

فإنّ المتفاهم منه، أنّه هو الموجود في الحوض.

هذا مع أنّ الخزائن البعيدة عن الحمّام، ليست من تبعات الحمّام، و لا يكون مياهها من ماء الحمّام أيضاً.

و أمّا ما في البالوعة، فهو و إن يصدق عليه «أنّه ماء الحمّام» و لكنّه خارج عن مصبّ المآثير و الأخبار.

بل لو كان المنصرف من «ماء الحمّام» ما يستحمّ به في

الحمّام، فهو ينحصر بما في الحياض الصغار، فالمراد من «ماء الحمّام» هو الموجود في محيطة المهيّأ للاستحمام به، و هو المراد في الروايات قطعاً.

و أمّا الماء المنبسط في أرض الحمّام المتّصل بالحوض المتّصل بالمادّة، فهو أيضاً من ماء الحمّام عرفاً، و به قال الأُستاذ في «مفتاح الكرامة» «2».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 223/ 640.

(2) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 5

الموقف الثاني: فيما كان المتعارف من بناء الحمّامات في القديم و لدى عصر المآثير و الأخبار

و هذا علىٰ ما يظهر من الأخبار و من الأمر المفروغ عنه، أنّ بناءها لمّا كانت علىٰ وجود المخازن الثلاثة:

أحدها: الكبير الموجود فيه الماء الكثير، و كان الحمّامي يهتمّ بحفظ المياه فيه، و يحتاج الحمّام في تلك العصور إليه؛ لقلّة المياه و صعوبة الوصول له، و ربّما كان في بلد حمّام واحد، كما هو الآن كذلك في القرى و كثير من القصبات.

و ثانيهما: الصغير الموجود في داخل المحيط المتّصل بطريق خاصّ إلى الحياض الكبيرة، من غير لزوم كونه في السطح الأدنى منه؛ فإنّ الثقُب الموجودة بينها و بين تلك الحياض الكبيرة، كافية في إيصال الماء إليها، من غير الاحتياج إلى اختلاف السطوح، مع أنّ ذلك ممّا يحتاج إلى إعمال المصارف الكثيرة في بناء الحمّام، فلعلّ الأظهر أنّ سطوح هذه الحياض و المخازن، كانت واحدة.

و احتمال كون المخازن على سطوح الحمّام؛ لأنّها كانت من الأواني الكبيرة المنصوبة عليها، بعيد جدّاً.

و توهّم تقريبه بالاحتياج إليها في تسخين المياه في الشتاء، مدفوع بإمكان ذلك في الخزائن المساوية سطحها معها أيضاً، كما لا يخفى.

و أمّا الانبوب المتوسّط بين الخزائن الكبار و الحياض الصغار،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 6

فليس سعته و ضيقه معلومين إلّا بالحدس؛ و أنّ تلك الطرق كانت

مثل ما هو الآن موجود، أو قريبة منه؛ فإنّ من المحتمل قويّاً كونها ضيّقة؛ للاحتياج إلىٰ تقليل المصارف، لقلّة المياه في مدينة الأخبار و بلاد المآثير؛ فإنّ رواياتها كلّها إلّا نادرة منها عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السّلام) «1» فاحتمال سعة تلك الطرق بعيد جدّاً، مع الحاجة إلىٰ سدّها مراراً في أثناء الاستحمام، و لا يمكن ذلك إلّا في الثقب الضيّقة.

و أمّا الحياض الموجودة في محيط الحمّام، فلا يبعد كون بعضها أحياناً بالغاً إلى الكرّ، و لكن الظاهر انتفاء الكرّية في الأثناء، و لذلك كانت مورد السؤال و جعلت معتصمة مثلًا كما يأتي.

و أمّا الخزائن، فلا دليل علىٰ وحدتها في كلّ حمّام، فإنّ من المحتمل تعدّدها، و اتصالَ قسم من الحياض الصغار ببعض منها؛ لاختلاف جوانب الحمّام مع وجود الحياض الصغار في أكثر الجوانب، فالاحتمال المزبور قويّ جدّاً، و لا شاهد علىٰ كون تلك الخزينة تسع الأكرار من الماء، و تكون دائماً مملوءة من الكرّ.

فكون حمّام المدينة في السابق، مثلَ بعض حمّامات المنازل في اليوم، قويّ جدّاً؛ و ذلك لعدم تمكّن الحمّامي من المياه الكثيرة، حتّى يحتاج إلى الخزينة الكبيرة، بل احتياج الناس إلى الاستحمام كان كثيراً، و إذا يوجد ماء في الحمّام يشدّ إليه الرحال، و كثيراً ما يتّفق مراجعتهم إلى

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 148 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 7

الحمّامات الفارغة عن المياه و عمّا يحتاجون إليه، و كلّ ذلك يعلم من التدبّر في حمّامات البلدان النائية عن العواصم في اليوم، و من النظر إلى حمّامات القرى، و كثير من القصبات، فلاحظ و تدبّر.

فتحصّل: أنّ تعيين

بعض الخصوصيّات كما يتراءىٰ من كلمات جمع من الأعلام «1» غير قابل للتصديق جدّاً.

ثمّ إنّ المحكيّ من بعض المشايخ المعاصرين أنّه يقول: «بناء الحمّام في تلك الأعصار، كان ما يسمّىٰ ب «الدوش» في هذا العصر» «2» انتهىٰ.

أقول: هذا في حدّ نفسه ممّا لا بأس به، إلّا أنّه دعوى بلا بيّنة و برهان، و يشهد لذلك اختلاف الفقهاء من العصر القديم في الشرائط الآتية، و هو لا يمكن في هذه الصورة، فتدبّر.

الموقف الثالث: في نقل الأقوال في المسألة

ففي «المعتبر» عن أصحاب أبي حنيفة، عنه أنّه قال: «هو بمنزلة الجاري؛ لأنّ النجاسة لا تستقرّ مع اتصال الأجزاء» «3».

و عن أحمد بن حنبل أنّه قال: «قد قيل: إنّه بمنزلة الجاري» «4».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 280، مهذّب الأحكام 1: 219.

(2) لم نعثر عليه.

(3) المعتبر 1: 42، بدائع الصنائع 1: 72، شرح فتح القدير 1: 69.

(4) المعتبر 1: 42، المغني، ابن قدامة 1: 31/ السطر 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 8

و في «المنتهىٰ» مثل ذلك عن الأوّل و الثاني «1»، و ما وجدنا في «الخلاف» تعرّضاً لماء الحمّام.

و أمّا أصحابنا، فقد انهيت أقوالهم إلىٰ خمسة أو ستّة؛ فالذي هو المشهور المعروف، و عليه دعاوي الإجماعات، بل يعدّ من الضروريّ؛ أنّه بمنزلة الجاري إذا كانت له المادّة «2»، فما يظهر من «المقنعة» من عدم تعرّضها للاتصال بها «3»، محمول على إهمال القيد الواضح.

و في اشتراط كرّية ما في المخازن قولان؛ المعروف و هو المشهور اعتبارها، كما في «الذخيرة» و هو ظاهر «المجمع» «4» و في «المدارك»: «أنّه مذهب أكثر المتأخّرين» «5».

و في «المعتبر» و تبعه جماعة ك «الدلائل» و «الذخيرة» و «حاشية المدارك» عدم اعتبارها «6»، و لعلّه يظهر كما

قيل من إطلاق «الوسيلة» و «المراسم» و «الشرائع» «7».

و في اشتراط كرّية مجموع ما في الخزائن و الحياض قولان؛

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 6/ السطر 24.

(2) لاحظ جواهر الكلام 1: 95.

(3) لم نعثر علىٰ مباحث ماء الحمّام في المقنعة، انظر مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 14.

(4) ذخيرة المعاد: 120/ السطر 17، مجمع الفائدة و البرهان 1: 258.

(5) مدارك الأحكام 1: 34.

(6) المعتبر 1: 42، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 20، ذخيرة المعاد: 120/ السطر 21.

(7) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 19، الوسيلة: 72/ السطر الأخير، المراسم: 37، شرائع الإسلام 1: 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 9

المحكيّ عن بعض المتأخّرين، الإجماع على اعتبارها «1»، و هو المحكي عن «فوائد القواعد» للشهيد الثاني «2»، و هو مختار «الروض» و «الكفاية» «3».

و في تقريرات درس المحقّق الوالد مدّ ظلّه نفي اعتبارها فيه أيضاً «4».

و عن أُستاذه في «مفتاح الكرامة» أنّه قال: «يشترط بلوغ المجموع كرّاً في عدم قبول النجاسة» أي الدفع «و كون المادّة كرّاً في التطهير إذا تنجّس ما في الحياض» أي الرفع الخاصّ «5».

و قيل: باعتبار كرّية المادّة في رفع النجاسة على الإطلاق، من غير فرق بين نجاسة ما في الحياض و عدمه، و عدم اعتبارها في الدفع، بل يكفي كرّية المجموع.

و هذا التفصيل هو الظاهر بين المتأخّرين إلّا بعضهم «6»، و به صرّح الفقيه اليزديّ في «العروة» «7».

و قد حكي تفصيل آخر؛ و هو ما إذا تساوى سطوح المجموع أو اختلفت، ففي الأوّل يكفي بلوغ المجموع كرّاً، و في الثاني يعتبر كرّية المادّة

______________________________

(1) ذخيرة المعاد: 120/ السطر 31.

(2) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 20.

(3) روض الجنان: 137/ السطر 15، كفاية الأحكام:

10/ السطر 2.

(4) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 14 (مخطوط).

(5) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 24.

(6) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 27.

(7) العروة الوثقىٰ 1: 41، فصل في ماء الحمّام.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 10

وحدها «1».

و عن «تحرير» العلّامة اعتبار زيادة المادّة على الكرّية، و لم يعيّن مقدارها، و لكن لا يبعد عدم كفاية الزيادة اليسيرة «2»، كما لا يخفى.

و في المسألة احتمالات أُخر، ربّما كانت أقرب إلى الأدلّة و الاعتبار من المذكورات، و من تلك الاحتمالات سقوط خصوصيّة الحمّام و لزوم العمل بالأدلّة المقتضية لانفعال الماء القليل.

أو إدراج المسألة في عمومات الماء الجاري واقعاً، لا تنزيلًا و ادعاءً، و لعلّه الأقرب.

الموقف الرابع: فيما ورد عن العترة الطاهرة في المسألة
اشاره

و هي روايات و طوائف

الطائفة الأُولىٰ: ما تدلّ على أنّ ماء الحمّام بمنزلة الجاري، من غير قيد و شرط:
اشارة

فمنها: ما في «التهذيب»: أحمد بن محمّد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن داود بن سرحان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما تقول في ماء الحمّام؟

قال: «هو بمنزلة الماء الجاري» «3».

______________________________

(1) جامع المقاصد 1: 112، مفتاح الكرامة 1: 65/ السطر 4.

(2) تحرير الأحكام: 4/ السطر 23، مفتاح الكرامة 1: 67/ السطر 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 11

و توهّم إضافة «الوافي» شيئاً إلىٰ هذه الرواية غفلة.

نعم، في «الوافي» و «الوسائل» أنّ أحمد بن محمّد هو ابن عيسىٰ «1»، و لكنّ «التهذيب» خالٍ عن الإشعار به.

نعم، في القديم كنّا نقوّي، أنّ المراد من «أحمد بن محمّد» في «الكافي» و «التهذيبين» دائر بين الثقات، و لعلّه كذلك في «الكافي» و لكنّه في «التهذيبين» مشكل؛ لتعرّض الشيخ في مشيخة الكتابين لسنده إلىٰ أحمد بن محمّد بن خالد، و أحمد بن محمّد بن عيسىٰ، و لجماعة اخرىٰ من المسمّين بذلك «2»، من غير قرينة علىٰ واحد منهما، و كونه أحدهما- كما هو المتّفق عليه ظاهراً غير واضح؛ لوجود أحمد بن محمّد الكوفيّ المجهول في هذه الطبقة، و قد روىٰ بتوسّط العدّة عنه في «الكافي» كما في ذيل ترجمة محمّد بن الحسن بن جمهور القمي [العمّي] «3»، فراجع و تدبّر.

فصحّة الرواية اصطلاحاً، محلّ إشكال. نعم لا يبعد اعتبارها.

و منها: ما في «قرب الإسناد» بسنده عن إسماعيل بن جابر، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام) قال: ابتدأني فقال: «ماء الحمّام لا ينجّسه شي ء» «4».

و لا يخفىٰ ما قد يشكل في أصل الكتاب.

______________________________

(1) الوافي 6: 52/ 7، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،

الباب 7، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 10: 5 44، من المشيخة، الاستبصار 4: 297 306.

(3) جامع الرواة 2: 90.

(4) قرب الإسناد: 309/ 1205، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 12

و أمّا أيّوب بن نوح أخو جميل، فهو ثقة.

و أمّا صالح بن عبد اللّٰه، فقد يشكل كونه الخَثْعَميّ الكوفيّ، حتّى يقال: بدلالة رواية ابن أبي عمير عنه على اعتباره أو حسنه، مع أنّ ذلك أيضاً غير واضح.

فالاتكال علىٰ مثلها غير جائز، إلّا علىٰ مذهب في حجّية خبر الواحد.

و منها: ما رواه «الكافي» عن بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن محمّد بن القاسم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال قال: «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام؛ فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ..».

إلى أن قال: قلت: أخبرني عن ماء الحمّام، يغتسل منه الجنب و الصبيّ و اليهوديّ و النصرانيّ و المجوسيّ.

فقال: «إنّ ماء الحمّام كماء النهر، يطهّر بعضه بعضاً» «1».

و ابن جمهور هذا، هو الحسن بن محمّد بن جمهور، أو أبوه محمّد بن الحسن بن جمهور البصريّ، و قضيّة ما في «النجاشي» من «أنّه كان أوثق من أبيه» وثاقتهما، و مجرّد كونه يروي عن الضعفاء، و يعتمد المراسيل، لا يضرّ بذلك، خصوصاً بعد قوله: «ذكره أصحابنا بذلك، و قالوا: كان أوثق من أبيه و أصلح» «2» انتهىٰ.

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) رجال النجاشي: 62/ 144.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 13

و لعلّه هو الابن؛ لروايته عنه عن أبيه، و قد عبّر

عنه ب «ابن جمهور».

و يشكل دركه بواسطة واحدة؛ لما في ذيل ترجمة محمّد بن الحسن في «جامع الرواة» قال: «محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد الكوفيّ، عن ابن جمهور، عن أبيه» «1» و إن كان في رواية الكلينيّ عن أحمد بن محمّد بلا وساطة العدّة «2» كما في ذيل ابن جمهور شهادة علىٰ إمكانه و قربه، فليتدبّر جيّداً، و المسألة لا تخلو من غموض.

و أمّا محمّد بن القاسم، فهو في هذه الطبقة ينحصر بابن الفضيل من أصحاب الرضا (عليه السّلام) الثقة الفاضل.

فالسند علىٰ ما بنينا عليه من أنّ تعبير الكلينيّ عن رجل بقوله: «بعض أصحابنا» يدرجه في المعتبرين معتبر، خصوصاً بعد كون الرواية مشهورة، موافقة لفتوى الأصحاب، و مورد الاستدلال، فإنّ كلّ ذلك يستلزم كون الرواة بعد ما عرفتهم من المعتبرين.

بحث دلالي للطائفة الأُولىٰ

و بالجملة: هذه الطائفة ظاهرة في أنّ ماء الحمّام من غير شرطيّة شي ء آخر مطهّر و معتصم.

نعم، في نفس التنزيل دلالة علىٰ أنّ المادّة المتّصل بها ماء الحمّام

______________________________

(1) جامع الرواة 2: 90.

(2) الكافي 3: 147/ 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 14

لازمة، و لا سيّما بعد كون المتعارف وجودها كما عرفت «1»، فكما أنّ الماء الجاري معتصم من غير شرط، كذا إطلاق التنزيل و التشبيه يقتضي ذلك.

و أمّا التمسّك بخصوصيّات الحمّامات في عصر الصدور «2»، فمع عدم إمكان الاطلاع علىٰ جميع الجوانب و الجهات، لا يليق بالفاضل، فضلًا عن الفقيه العامل.

و توهّم: أنّ التنزيل من جهة، أو بعض الجهات، دون مطلقها، فلعلّه كان لأجل توهّم الناس، عدمَ تقوّم السافل بالعالي «3»، لا يخلو من تأسّف؛ لأنّ الاحتمال لا يورث قصوراً في الإطلاق، خصوصاً مثل هذا التنزيل

و التشبيه، و لا سيّما بعد كون الحكم في موقف التسهيل.

و دعوى الخزينة الواحدة المملوءة من المياه البالغة نوعاً إلى الأكرار «4»، بلا بيّنة و برهان، كما عرفت منّا من الاحتمالات في المخازن، و عدم قيام الشواهد علىٰ أحدها، بل الاستظهار يناسب تعدّد المخازن، و تكون هي غير كبيرة.

فجميع ما سمعت من الأقوال حسب هذه الطائفة ساقط جدّاً، إلّا ما عن الوالد المحقّق مدّ ظلّه- «5»، تبعاً «للحدائق» «6» بل

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 5.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 238 و 239.

(3) نفس المصدر: 237.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة: 13/ السطر 25، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 239، مهذّب الأحكام 1: 218.

(5) تقدّم في الصفحة 9.

(6) الحدائق الناضرة 1: 204 205.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 15

و «الكفاية» «1» و في المحكيّ عنه: «أنّه مختار جملة من المتأخّرين و متأخّريهم» «2».

ماء الحمّام هو تمام الموضوع للحكم بالمطهّرية و الاعتصام

و ممّا مرّ يظهر: أنّ ما هو تمام الموضوع للحكم بالمطهّرية و الاعتصام، هو عنوان «ماء الحمّام» سواء كان في الحياض الصغار على المتعارف المذكور في الكتب الفقهيّة، و يستفاد أحياناً من حواشي الأخبار أو كان في الدوشات المتعارفة في العصر؛ فإنّ مخازن الحمّامات إذا كانت عاليات و في السطوح، فالاستفادة منها بالدوش ممكنة، من غير الحاجة إلى الحوض الصغير، و هذا هو أولىٰ بالمطهّرية و الاعتصام من غيره؛ لمساعدة العرف على عدم انفعال هذا الماء، لكونه كالمطر تكويناً و حقيقةً.

و دعوىٰ: أنّ ما هو كالجاري طبعاً و تكويناً، معتصم حكماً، دون ما هو كالمطر، غير مسموعة بعد الإطلاق المذكور.

و ما في كتب بعض فضلاء العصر؛ من الإطالة حول القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة و

غير ذلك «3»، فهو من اللّغو المنهيّ جدّاً؛ لعدم الحاجة في فهم المسألة إلىٰ تلك الإطالة الفاسدة، كما لا يخفى.

______________________________

(1) كفاية الأحكام: 10/ السطر 2.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 187، الحدائق الناضرة 1: 205.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 188.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 16

فلا ينبغي الخلط بين الحقائق و المجازات، فلو كان المتعارف في البيوع أمراً خاصّاً، فهو غير موجب لصرف الإطلاقات إليها، أو إلى المبيعات المعيّنة و الأثمان المخصوصة، فالمدار علىٰ ما صدق عليه «ماء الحمّام» بشرط كونه متّصلًا بالمادّة، و لو كان من قبيل الدوشات في اليوم، و إن كانت المادّة قليلة.

و لو كان الأمر كما توهّم، لزم العسر و الحرج في حمّامات البلاد، و في حمّامات المنازل، فيما كانت الأواني الفوقانيّة غير متصلة بالمياه الكبار، كالفرات و نحوه، و يلزم اختصاص الحكم بحمّام البلد، دون القرى، أو بحمّام البلدان و القرىٰ، دون المنازل.

و لو لم يكن إطلاق، و كان الشرع يرىٰ ما يصنع في الحمّامات، و أمضاه بالسكوت، فيعلم منه أنّ الأمر أوسع؛ لإلغاء الخصوصيّة عرفاً عمّا اشتملت عليه الحمّامات، لاختلاف حالات مياه الحمّام حسب الأيّام و أوقاتها قطعاً، بعد النظر إلىٰ وهنها في تلك الأدوار و الأعصار، فلا تخلط.

أجنبيّة حديث تقوّي السافل بالعالي و غيره

و أمّا حديث تقوّي السافل بالعالي، و بالعكس، و عدمه مطلقاً، أو أصلًا دون عكس، كما قيل بكلّ ذلك «1»، فهو الأجنبيّ عمّا نحن فيه؛ لأنّ ذاك في الماء الراكد المتّصل بالانبوب مثلًا، دون الماء الجاري من الفوق إلى التحت، و منه إلى البالوعة؛ ضرورة أنّ العرف يجد مطهّريته، لأنّ

______________________________

(1) لاحظ الرسائل الفشاركيّة: 201، مهذّب الأحكام 1: 221.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 17

حقيقة التطهير ليست

إلّا تعانق الماء مع النجس، و حمله إلىٰ خارج محلّ النجاسة و موضعها.

و إذا كان ما في الحياض غير جارٍ إلى البالوعة، فهو أيضاً عندهم طاهر و معتصم؛ لما فيه من الجريان و التلاطم، كماء النهر، و اختلاف المادّة الطبيعيّة و الصناعيّة، لا يورث اختلافاً في الحكم عندهم بالضرورة، كما سيأتي تفصيله من ذي قبل «1».

ثمّ إنّ تفصيل البحث حول دلالة بعض هذه المآثير على اعتبار الكرّية في الماء الجاري فضلًا عن دلالتها علىٰ عدم اعتبار الكرّية في ماء الحمّام قد مضى، و قد نقلنا هناك ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ (قدّس سرّه) في المسألة، و ذكرنا ما حوله من الخلط، فليراجع «2».

و منها: ما رواه «التهذيب» بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن فَضَالة، عن جميل بن درّاج، عن محمّد بن مسلم، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السّلام) جائياً من الحمّام، و بينه و بين داره قذر.

فقال: «لولا ما بيني و بين داري ما غسلت رجلي، و لا يخبث ماء الحمّام» «3».

و في نسخة: «لا يجنب».

و في ثالثة: «لا تجنّبت».

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 31.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 198 201.

(3) تهذيب الأحكام 1: 379/ 1173، وسائل الشيعة 1: 148 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 18

و في رابعة: «نحّيت» و الكلّ قريب.

و الظاهر منه: أنّه بصدد إفادة طهارة ماء الحمّام، و الذي هو الأظهر- و هو المناسب للصدر أن يكون قوله (عليه السّلام): «لا يخبث» أو «لا يجنب» دفاعاً عن توهّم ابن مسلم، و مناسباً للابتداء به بعد تماميّة الجملة السابقة، كما لا يخفى، و سندها معتبر، فما يظهر من

الأصحاب؛ من اختصاص الاعتبار في أخبار المسألة بالأُولىٰ، و هي معتبر ابن سرحان «1»، في غير محلّه.

و لعلّه يدلّ علىٰ أنّ مجرّد الاتّصال، يورث رفع خباثته؛ لأنّه بالاتصال يصير ماء الحمّام المقصود في الأخبار، و ظاهر قوله: «لا يخبث» ينافي بقاء خباثته بعد الاتصال، فتأمّل.

و منها: ما في «التهذيب» عن أحمد بن محمّد، عن أبي يحيى الواسطيّ، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الهاشميّ، قال: سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمّام، لا أعرف اليهوديّ من النصرانيّ، و لا الجنب من غير الجنب.

قال: «يغتسل منه، و لا يغتسل من ماء آخر؛ فإنّه طهور» «2».

و أمّا أبو يحيىٰ؛ سهيل بن زياد، فلا يبعد اعتباره؛ لقول النجاشي: «شيخنا المتكلّم» و لقول بعض الأصحاب في «النجاشي»: «إنّه ليس بكل

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 204، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 13 (مخطوط)، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 235.

(2) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1171، وسائل الشيعة 1: 149 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 19

الثبت في الحديث» «1» فإنّه يورث ثباته، إلّا أنّه لمكان تكلّمه كان يحكي بعض ما لا يقبله أرباب الخبر. هكذا ظنّي فيه.

و بعد التدبّر في كلام الغضائريّ: «أنّ حديثه نعرفه تارة، و ننكره اخرىٰ، و يجوز أن يخرّج شاهداً» «2» انتهىٰ، يعلم حسن حاله جدّاً، و لا سيّما أنّه سبط مؤمن الطاق، فلاحظ.

و قال في «جامع الرواة»: «لا يبعد كون بعض أصحابنا في المواضع المذكورة، هو هشام بن سالم، أو حمّاد بن عثمان» «3» انتهىٰ.

و لو فرضنا عدم صحّة ما أفاده، و لكنّ الظاهر أنّه من المعتبرين؛

لإصراره علىٰ إخفائه، و ذلك لإكثاره في الروايات هذه الكلمة، و في ذلك شهادة علىٰ حسن حاله، كما يشهد علىٰ حسن حال المرويّ عنه بتعبيره: «عن بعض أصحابنا».

و في قول النجاشي: «لقي أبا الحسن العسكريّ (عليه السّلام)» مع روايته بواسطة واحدة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في «التهذيب» دلالة علىٰ أنّه عمّر، و اللّٰه العالم.

و أمّا أبو الحسن الهاشميّ، فهو من المهملين، و يحتمل كونه كناية عن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) لأنّ ظاهر حال الراوي ابتلاؤه بالتقيّة شديداً.

و دلالتها واضحة؛ لما عرفت من أنّ التوصيف ب «الطهور» يدلّ علىٰ

______________________________

(1) رجال النجاشي: 192/ 513.

(2) لاحظ مجمع الرجال 3: 181.

(3) جامع الرواة 2: 425.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 20

زيادة على أصل الطهارة؛ و هي صفة المطهّرية «1»، و أمّا عدم انفعاله فيعلم بقرينة المقام؛ لأنّ النجاسة ترد عليه كما لا يخفى.

الطائفة الثانية ما دلّت علىٰ أنّ ماء الحمّام، معتصم إذا كان له المادّة

فمنها: ما رواه «الكافي» عن العدّة، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيىٰ، عن منصور بن حازم، عن بكر بن حبيب، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة» «2».

و مثله ما في «الفقه الرضويّ»: «ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادّة» «3».

و دلالتها علىٰ كفاية وجود المادّة من غير الشرط الآخر من الكرّية و غيرها أوضح؛ ضرورة أنّ تنوين التنكير يقتضي ذلك.

و قد عرفت: أنّ الطائفة الأُولىٰ، تدلّ على اعتبار المادّة و الاتصال بها، فلا حاجة إلىٰ تنقيح سند هذه الرواية: إمّا بالالتزام بأنّ منصور بن حازم، قد عمّر حتّى تمكّن من الرواية عن بكر بن حبيب المازنيّ، المتوفّى سنة

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل:

24.

(2) الكافي 3: 14/ 2، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

(3) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194 195، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 21

248 ه. أو الالتزام بأنّ بكراً كان من المعمّرين.

فيكون المراد من «أبي جعفر» على الأوّل هو محمّد بن عليّ التقيّ.

و على الثاني، محمّد بن عليّ الباقر عليهم الصلاة و السلام.

و الظاهر تعدّدهما، فما يظهر من الشيخ الأنصاريّ (رحمه اللّٰه) «1» لا يخلو من تأسّف.

و أمّا الاكتفاء برواية صفوان في الوثوق بالرواية لكونه مورد الإجماعين «2»؛ إجماع الكشّي «3»، و إجماع الشيخ في «العدّة» «4» فهو غير واضح، بل الذي حقّقناه أنّ إجماع الشيخ في «العدّة» ليس إجماعاً علىٰ حدة، بل هو نفس إجماع الكشّي «5»، فراجع.

الطائفة الثالثة ما يظهر منها أنّ ماء الحمّام من المياه الجارية موضوعاً

و يشهد لذلك قوله: «كماء النهر، يطهّر بعضه بعضاً» «6».

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 100.

(2) جواهر الكلام 1: 96.

(3) رجال الكشي 2: 830.

(4) عدّة الأُصول: 63.

(5) لعلّه في قواعده الرجاليّة و هي مفقودة.

(6) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 22

و قوله: «سبيله سبيل الجاري» «1».

و يدلّ عليه قوله: «فإنّه طهور» «2».

فإنّ الحمل ظاهر في أنّه طهور حقيقة، لا بالتنزيل و الادعاء.

و يدلّ عليه فهم العرف و بناء العقلاء في المطهّرات؛ ضرورة عدم الفرق عندهم بين ماء النهر و هذا الماء، فإنّ كون المخزن في الأوّل طبيعيّاً، و في الثاني صناعيّاً، لا يورث الفارق بينهما حكماً بالضرورة و الوجدان، و مياه الدوشات مثل مياه المطر في

ذلك الأمر واقعاً.

و قد عرفت في الماء الجاري: أنّ المراد من «المادّة» في صحيحة ابن بَزيع أعمّ من المادّة الخاصّة، أو الموادّ المعيّنة و المشهورة عند العرف «3»، فعلى هذا تسقط خصوصيّة الحمّام، و تندرج المسألة في البحث السابق؛ و هو الماء الجاري.

و يدلّ عليه ما رواه «الكافي» «4» و «التهذيب» «5» عن محمّد بن إسماعيل، عن حنّان «6»، قال: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّي أدخل الحمّام في السحر، و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فأغتسل، فينتضح عليّ

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194 195، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

(2) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1171، وسائل الشيعة 1: 149 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 6.

(3) انظر ما تقدّم في الجزء الأوّل: 183 و 195.

(4) الكافي 3: 14/ 3.

(5) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1169.

(6) كذا في نسخة (منه (قدّس سرّه)).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 23

بعد ما أفرغ من مائهم.

قال: «أ ليس هو جارٍ؟».

قلت: بلىٰ.

قال: «لا بأس».

فإنّه كالنصّ في أنّه لمكان كونه جارياً موضوعاً، نفي عنه البأس، و قد مرّ ما يتعلّق بها سنداً و دلالة في الماء الجاري، فراجع «1».

و توهّم دلالة صحيحة ابن سِرحان «2» على التنزيل «3»، في محلّه، لأمر فتوى أبي حنيفة و أصحابه بأنّه بمنزلة الماء الجاري كما عرفت «4».

و في قوله: «إذا كانت له مادّة» «5» دلالة علىٰ أنّ المراد من «المادّة» في الشرع ليس مادّة خاصّة، فالمدار علىٰ كون الماء ذا مادّة، و إذا كان سائلًا فهو الجاري موضوعاً، فيدلّ على اعتصام ماء الحمّام، جميعُ ما دلّ على

اعتصام الماء الجاري، و يشترك معه في الأحكام الآتية في محلّها إن شاء اللّٰه تعالىٰ «6».

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 199 200.

(2) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(3) الحدائق الناضرة 1: 204.

(4) تقدّم في الصفحة 7.

(5) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

(6) يأتي في الصفحة 31 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 24

الموقف الخامس: في علاج المعارضة بين أخبار الكرّ مفهوماً و روايات المسألة

أمّا أصل التكاذب، فهو معلوم علىٰ ما بنىٰ عليه الأصحاب؛ من أنّ ماء الحمّام قليل لا ينفعل، و خارج عن أدلّة انفعال الماء القليل بالنصّ الخاصّ «1».

و يورد عليهم: بأنّ النسبة بين الأدلّة عموم من وجه؛ و ذلك لأنّ من الممكن قويّاً، اتحاد سطوح المخازن و الحياض الصغار، و كونُها في سطح أعلىٰ ليس من الأمر الواضح، حتّى يقال: بأنّ أدلّة ماء الحمّام واردة على الماء القليل غير المتقوّى بشي ء، ففيما كان ما في الحياض و المخازن كرّاً يتّفق الطائفتان، و فيما كان أقلّ تقع المعارضة بين الطائفتين.

و علاجها بإنكار كون النسبة عموماً من وجه، كما يظهر منهم؛ ظنّاً أنّ ماء الحياض و المخازن متعدّد عرفاً، فيكون خارجاً عن أدلّة الكرّ منطوقاً و مفهوماً، و الوحدةُ في الحقيقة أو تسامحاً غير كافية كما لا يخفى «2»، مدفوع بما مرّ.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 96.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 13/ السطر 31.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 25

و هكذا علاجها بأنّ ترجيح أخبار الحمّام متعيّن؛ للزوم لغويّتها في العكس، لما عرفت في ماء المطر «1».

و قد يتوهّم حكومة هذه المآثير علىٰ تلك الطائفة؛ لأنّ المراد من التنزيل

هو الإدراج في الكثير ادعاءً، لأنّ الجاري و كلّ ما لا ينفعل يكون من الكثير، فيخرج عن مفهوم أخبار الكرّ بالحكومة.

و ما فيه غير خفيّ؛ لأنّ اطلاع الكثير على الماء المعتصم، ممنوع لغة، و غير ثابت في الشرع، فكون الجاري و ماء المطر كرّاً حقيقة أو في مصطلح الشرع، واضح المنع، فلا حكومة.

و دعوىٰ: أنّ ترجيح أخبار الكرّ، يستلزم التخصيص المستهجن، و لا عكس؛ للزوم خروج نوع الحمّامات، لاختلاف سطوح مياه الحياض الصغار مع ما في المخزن «2»، غير مسموعة؛ لعدم اطلاعنا علىٰ وضع الحمّامات في العصر الأوّل، و قد مرّ أنّ الأوفق بوضع الأسبق اتحاد السطوح «3»، فلا تغفل.

فعلى هذا، إن تمّ ما ذكرناه: من أنّ ماء الحمّام من الماء الجاري موضوعاً، و اختلاف مآثير الماء الجاري و الكرّ مرفوع، و قد مرّ تفصيله في محلّه «4»، فهو، و إلّا فتصل النوبة إلى العمل بأخبار العلاج، و حيث أنّ أخبار ماء الحمّام مورد الشهرة و موافقة لمذهب العامّة، يشكل الأمر

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 397 398.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 13/ السطر 34.

(3) تقدّم في الصفحة 5.

(4) تقدّم في الجزء الأوّل: 206 210.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 26

حولها.

فإن قلنا: بأنّ الشهرة في الأخبار العلاجيّة هي الشهرة الروائيّة، فلا ترجيح؛ لاشتهار الطائفتين، فتصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة، فيتعيّن العمل علىٰ طبق مآثير انفعال القليل.

و إن قلنا: بأنّ المراد منها هي الشهرة الفتوائيّة، كما هو الأظهر، ففي كون المسألة من مصاديق الخبرين المتعارضين إشكال، بل منع جدّاً.

و مقتضى القاعدة سقوط الإطلاقين، و الرجوع إلى العامّ الفوقانيّ أو الأُصول العمليّة.

و قد مضى التحقيق في هذه المواقف في المسائل السابقة كراراً.

الموقف السادس: هل يختصّ ماء الحمّام بالتقوي بالمادّة

ظاهر الأكثر عدم

اختصاص الحكم بالحمّام، معلّلين: «بأنّ العرف لا يجد خصوصيّة في ذلك» «1».

و ظاهر الوالد المحقّق مدّ ظلّه، عدم جواز التعدّي؛ لاحتمال كون الأمر مبنيّاً على المساهلة، للزوم الهرج و المرج و المشقّة و الكلفة، و مع هذا الاحتمال القويّ وجداناً، لا يمكن إلغاء الخصوصيّة «2».

و قضيّة ما سلف منّا، عدم اختصاص الحمّام بحكم، إلّا من باب أنّه

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 41، فصل في ماء الحمّام، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 192، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 240.

(2) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 14 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 27

أحد مصاديق الماء الجاري موضوعاً «1»، و لو ثبت هذا فهو، و إلّا فالتجاوز ممنوع.

و توهّم: أنّ الاحتمال المذكور يورث كون ماء الحمّام من باب العفو، لا الطهارة، في غير محلّه؛ لأنّ الطهارة العرفيّة في ماء الحمّام حاصلة، و العفو ينحصر بوضع لا يساعده العرف، كما في ماء الاستنجاء، فعليه لا بأس بالالتزام بطهارة ماء الحمّام؛ و اختصاص الحكم به.

ثمّ إنّه دام ظلّه بنىٰ على التجاوز؛ ظنّاً أنّ نصوص الحمّام تدلّ علىٰ إناطة الحكم بالمادّة المتّصلة، فلو كان الماء القليل متّصلًا بمادّة مشابهة لمادّة الحمّام، فهو أيضاً بمنزلة الجاري.

و أنت خبير بما فيه:

فأوّلًا: لعدم وجود التعليل في مآثير الحمّام، و مجرّد قوله: «إذا كانت له مادّة» لا يدلّ عليه، بل هو قيد مأخوذ لطهارة الماء في الحمّام؛ لأنّه لا يورث المشقّة و الكلفة الخارجة عن المتعارف.

و ثانياً: التصريح ب «المادّة» ليس في الأخبار المعتبرة عندهم.

نعم، بناءً علىٰ ما سلكناه، تكون هذه الأخبار شواهد على أنّ «المادّة» في صحيحة ابن بَزيع، أعمّ من المادّة الطبيعيّة و الصناعيّة.

و قد

يقال: بأنّ كلمة «ماء الحمّام» من العناوين المشيرة إلىٰ أنّ الماء الذي مثله و هو ما كان له المادّة الكذائيّة بمنزلة الجاري،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 28

و تكون لفظة «الحمّام» من باب أخذ المعرّف «1».

و فيه ما لا يخفى بعد ما عرفت: من احتياج ذلك إلى التوسعة و الإغماض حفظاً علىٰ أصل المذهب؛ و هي كونه على السهلة السمحة، فليتدبّر.

الموقف السابع: هل أنّ ماء الحمّام مطهّر عامّ أو خاصّ؟
اشارة

الظاهر من الأعلام، و إرسالهم كالمسلّمات، و عدم تعرّضهم للمسألة، أنّ ماء الحمّام مطهّر و معتصم كالماء الجاري علىٰ إطلاقه «2».

و من المحتمل قويّاً كونه كالشّمس مطهّراً خاصّاً، فكما أنّ الشمس لا تطهّر النواقل، كذلك الحمّام لا يطهّر إلّا المتنجّسات الآتية من قبل الاستحمام؛ ضرورة أنّ ذلك منصرف الأدلّة و المفهوم العرفيّ منها، فمطهّريته لغير المستحمّ ممنوعة جدّاً، إلّا علىٰ ما سلكناه من أنّه الماء الجاري موضوعاً.

و أمّا علىٰ ما سلكه القوم؛ من الإلحاق و التنزيل، و هو الظاهر من الكلّ «3»، فلا يبعد صحّة دعوى الانصراف.

بل المراجعة إلى الأخبار الخاصّة الكثيرة في المسألة، تعطي

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 4، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 240.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 41، فصل في المياه، ماء الحمّام.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 4، العروة الوثقىٰ 1: 36، فصل في الماء الراكد، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 192، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 240.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 29

ذلك، كما بنىٰ عليه الأصحاب في كثير من المواقف، و قضيّة الأخذ بالخصوصيّات في الحمّامات و منها كون المادّة كرّاً، أو كون مجموع المادّة و ما في الحياض كُرّاً، و غير

ذلك عدم جواز التعدّي عن تلك الخصوصيّات، و منها ذلك بلا شبهة، فلا يمكن الجمع بين هذين الرأيين المشهورين بين الفقهاء قديماً و حديثاً؛ و هو لزوم كرّية المادّة «1»، و مطهّريته لكلّ متنجّس «2».

هذا مع أنّ «ماء الحمّام» ربّما كان بنحو الإضافة البيانيّة؛ أي الماء الذي يستحمّ به، و لو شكّ في ذلك فالمرجع العامّ الفوقانيّ، أو الأُصول العمليّة، كما أُشير إليه «3».

مسألة: في كيفيّة تطهير ما في الحياض و نحوها

لو تنجّس ما في الحياض، فهل يطهر بمجرّد الاتصال بالمادّة، أو لا بدّ من الامتزاج؟

كلّ إلى مسلكه في تلك المسألة.

و قضيّة ما سلف منّا في محلّه، أنّ الماء المتنجّس إذا كان تنجّسه من قبل تغيّره، فيطهر بزوال وصف التغيّر، و إن تنجّس بالملاقاة فلا يطهر إلّا

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 1: 258، ذخيرة المعاد: 120/ السطر 17، مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 17.

(2) تقدّم في الصفحة 28.

(3) تقدّم في الصفحة 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 30

بالاستهلاك «1»، و يدلّ علىٰ كلّ ذلك صحيحة ابن بَزيع «2».

و ربّما يخطر بالبال، دعوى اختصاص المسألة بأنّ ماء الحمّام لا يخبث، فلا يتنجّس ما في الحياض؛ لوجود المادّة و إن كانت منقطعة في بعض الأحيان، ضرورة عدم الدليل على اشتراط الاتصال في جميع الساعات و الأحوال.

و لك دعوى انصراف أدلّة انفعال القليل عن مياه الحياض الصغار فيما نحن فيه.

و الإنصاف: أنّ الالتزام بذلك، أقرب إلى الصواب من الالتزام بتنجّسه، ثمّ طهارته بمجرّد الاتصال، الذي لا يقول به و لا يفهمه أحد من العقلاء، الذين هم المرجع في هذه المسائل؛ لعدم كونها من المسائل ذات الأسرار و الخفيّات كالعبادات.

ثمّ إنّ ظاهر «العروة الوثقىٰ» حيث قال: «و إذا تنجّس ما فيها يطهر بالاتصال

بالخزانة، بشرط كونها كرّاً و إن كانت أعلىٰ و كان الاتصال بمثل المزمّلة» «3» انتهىٰ، اختصاص ذلك بما في الحياض.

و أنت قد أحطت خبراً، بقصور الأدلّة عن إثبات الشرطيّة المزبورة؛ و أنّ قضيّة ما سلف منهم عدم اختصاص ذلك بما في الحياض، بل المياه الواقفة في سطح الحمّام، إذا اتّصلت بما في الحياض بعد اتصالها

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 149 153.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 41 42، فصل في المياه، ماء الحمّام.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 31

بالمادّة تطهر «1».

بل الأمر كذلك في مطلق المياه المتنجّسة و لو كانت من غير الحمّام، فلو تنجّس ما في حوض الدار، ثمّ اتصل بمادّة الحمّام، فإنّه علىٰ ما يظهر منهم يطهر.

و أنت خبير بما فيه بعداً، و هذا شاهد علىٰ ما سلكناه؛ من أنّ روايات الحمّام، ناظرة إلى اختصاص الحكم بمواقف معيّنة، و أمّا علىٰ ما اخترناه فمادّة الحمّام بالاتصال بكلّ ماء كان، لا تورث الطهارة.

و ربّما يشهد لما هو الحقّ، بناء الأصحاب علىٰ تخلية ما في الحياض أوّلًا، ثمّ فتح الانبوب ثانياً، أو يفتحونه أوّلًا، و يصبّون الماء الموجود في الحياض في البالوعة، ثمّ يستحمّون، و ما ذلك إلّا لارتكازهم علىٰ عدم طهارة تلك المياه بمجرّد الاتصال، و الخروج عن المرتكز العرفيّ بإطلاق أو استظهار، غير ممكن جدّاً.

بحث حول عدم اشتراط كرّية مجموع ما في الحياض و المادّة

قضيّة ما سلف منّا، عدم اشتراط كرّية ما في المادّة، و لا المجموع «2».

و أيضاً: مقتضىٰ ما مرّ منّا في الماء الجاري، أنّ «المادّة» في صحيحة ابن بَزيع، أعمّ من المادّة الطبيعيّة و الصناعيّة «3»، فعليه تكون جميع المياه

______________________________

(1)

تقدّم في الصفحة 26.

(2) تقدّم في الصفحة 13 14.

(3) انظر ما تقدّم في الجزء الأوّل: 183 و 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 32

الصغار المتّصلة بالمادّة الجعليّة، معتصمة بتلك المادّة و لو كانت أقلّ من الكرّ.

و أيضاً: يلزم ذلك و لو كانت سطوح المخازن و الحياض متساوية.

و الالتزام بذلك مشكل؛ ضرورة أنّه في صورة اختلاف السطوح، يمكن اعتبار كون ما في الحوض ذا مادّة، و يكون ما في المخزن الأعلى مادّته، فيخرج عن أدلّة انفعال القليل، و أمّا في صورة وحدة السطوح فلا يعتبر المادّة، و ذو المادّة، و عند ذلك لا بدّ من الالتزام بكرّية المجموع في الاعتصام، كما لا يخفى.

و يندفع الإشكال علىٰ ما تقرّر منّا أيضاً سابقاً: بأنّ الوحدة العرفيّة ليست دائرة مدار اتحاد السطوح، بل هي دائرة مدار الاتصال العرفيّ الذي يختلف ذلك باختلافه «1».

مثلًا: إذا كان العالي و الداني متّصلًا بالانبوب الوسيع و الطريق الواسع، فإنّهما يعدّان واحداً، بخلاف ما إذا كان بين الماءين في الإناءين المتساويين في السطح، اتصال قصير بانبوب ضيّق غايته، فإنّه لا يحكم عليهما بالوحدة.

فإذن لا بأس بإمكان اعتبار المادّة و ذي المادّة، بين ما في الخزانة و ما في الحياض، فيندرج تحت صحيحة ابن بَزيع و أخبار المسألة «2»، و من هنا يظهر ما يتوجّه إلى الإعلام المتأخّرين في ماء الحمّام.

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 268.

(2) وسائل الشيعة 1: 148 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 33

المبحث الثامن في ماء البئر
اشارة

و الكلام يتمّ حوله في ضمن أُمور:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 35

الأمر الأوّل في تعريف البئر

قد عُرِّفت في «غاية المراد»: «بأنّها مجمع ماء نابع من الأرض، لا يتعدّاها غالباً، و لا يخرج عن مسمّاها عرفاً» «1».

و تبعه «كشف الالتباس» و «الروضة» «2».

و وجه الحاجة إلى التعريف بعد اختصاص البئر بالأحكام الخاصّة الاستحبابيّة أو الوجوبيّة واضح، فلا وجه لتوهّم سقوط التقاسيم في المياه؛ ظنّاً أنّ المدار فيها علىٰ كونها ذا مادّة في عدم الانفعال، أو كثيرةً.

و يلحق المطر بها أيضاً، فلا خصوصيّة لعنوان «الحمّام» و «البئر» و «الجاري».

______________________________

(1) غاية المراد 1: 65.

(2) مفتاح الكرامة 1: 77/ السطر 7، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 36

ثمّ إنّ المفهوم العرفيّ منها واضح لا شبهة فيه، و قضيّة القواعد كون المطلقات ناظرة إليه.

و لكنّ الظاهر: أنّ المقصود من «البئر» في المآثير، ما كان له مادّة، فلو كان كثيراً بلا مادّة فإنّه لا ينفعل، و لا ينزح شي ء منه؛ استحباباً كان، أو وجوباً، و هذا لا يرجع إلى القول بالحقيقة الشرعيّة، كما لا يخفى.

و توهّم اختصاص المفهوم عرفاً بما كان لها النبع و المادّة، منقوض بالبئر التي كانت لها المادّة، و لكنّها تمّت، و لا ينبع فيها الماء، فإنّها تعدّ بئراً عرفاً بلا خفاء.

ثمّ إنّ أخذ النبعان قيداً، أو شرطاً غير صحيح؛ لعدم شرطيّته قطعاً، بل المدار على المادّة، فإنّها أعمّ منه كما لا يخفى، فما صنعه «العروة الوثقىٰ» «1» تبعاً للآخرين «2»، غير مقبول.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ الماء النابع الخارج ليس بئراً، فقوله: «غالباً» غير سديد، مع أنّه لا معنى للأمر بالنزح بالنسبة إلى الماء النابع بطبعه؛ أي الماء الذي خرج

من البئر، و جرىٰ علىٰ وجه الأرض، المسمّى ب «ماء العين».

و قضيّة ما سلف منّا في عدم اعتبار اتصال المادّة و دوامها، بل المناط صدق كون الماء ذا مادّة عدم شرطيّة دوام النبعان، بل قد مضى

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 42، فصل في ماء البئر.

(2) غاية المراد 1: 65، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 23، جواهر الكلام 1: 188.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 37

عدم شرطيّة عنوانه، فمٰا في «الجواهر» في المقام «1» لا يخلو عن مسامحات، و الأمر سهل.

الأمر الثاني: حول أقوال العلماء قديماً و حديثاً في حكم البئر
اشارة

كانت الآبار قبل الإسلام، فإذا طلع فهل تعامل معها معاملة الطهارة، بعد وقوع النجاسات الكثيرة فيها؟ و كونها في معرض الحوادث و القذارات ممّا لا يكاد ينكر.

أو تعامل معها معاملة النجاسة؛ فأمر بالاجتناب عنها؟

و الذي يمكن أن يتوهّم: أنّ الأمر لو كان على الاجتناب لتبيّن من الأوّل؛ لشدّة الابتلاء بها.

نعم، يمكن أن يدّعىٰ: أنّ الحكم بالانفعال كان صعباً، فجاء به الإسلام بعد مضيّ مدّة، أو هو كالقليل إذا كان قليلًا، و كالكثير إذا كان كثيراً، و لأجله لا يكون عند الأصحاب و التابعين ذا حكم خاصّ.

و لكنّها غير مسموعة؛ لما قال السيّد في «الانتصار»: «و ممّا انفردت به الإماميّة القول: بأنّ ماء البئر ينجس بما يقع فيها من النجاسة، و يطهر عندنا ماؤها بنزح بعضه.

و هذا ليس بقول لأحد من الفقهاء؛ لأنّ من لم يراعِ في الماء حدّا إذا بلغ إليه لم ينجس بما يحلّه من النجاسات و هو أبو حنيفة لا يفصّل في هذا الحكم بين الماء و غيره، كما فصّلت الإماميّة.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 188 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 38

و من راعى حدّا في الماء إذا بلغه

لم يقبل النجاسة و هو الشافعيّ في اعتبار القُلّتين لم يفصّل بين البئر و غيرها، و فصّلت الإماميّة، و انفردت بذلك من الجماعة».

ثمّ قال: «و يفيد ذلك: أنّه لٰا خلاف بين الصحابة و التابعين، في أنّ إخراج بعض ماء البئر يطهّرها، و إنّما اختلفوا في مقدار ما ينزح، و هذا يدلّ علىٰ حكمهم بنجاستها من غير اعتبار لمقدار مائها، و أنّ حكمها في أنّ إخراج بعض مائها يطهّرها» «1» انتهىٰ.

و قال الفقيه في «الأمالي»: «إنّه من دين الإماميّة» «2».

و عليه فتوى الفقهاء من زمن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ يومنا هذا «3».

و عن «كشف الرموز»: «أنّه لو لم ينجس لكان اتفاقهم من زمن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) على إلزام المشاقّ من غير فائدة» «4».

و في «المعتبر» نقله عن جماعة من الصحابة و التابعين «5».

و هو المشهور، بل كاد يكون إجماعاً «6».

______________________________

(1) الانتصار: 11.

(2) الأمالي: 514.

(3) مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 15.

(4) مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 16، كشف الرموز 1: 49.

(5) المعتبر 1: 55.

(6) مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 39

ذهاب العامّة إلى نجاسة البئر

فبالجملة: يعلم من هذه التعابير: أنّ المسألة كانت معنونة من الزمن الأوّل، و كان المعروف في الطبقة المتأخّرة القول بالنجاسة، و لكنّه أخصّ ممّا هو المعروف عن الصحابة و التابعين؛ لأنّ وجوب النزح لا يستلزم نجاستها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بظهور الجمل السابقة و نصّ بعضهم في النجاسة «1»، كما هو غير خفيّ، فما نسب إلى الفقهاء من اختيارهم طهارة ماء البئر «2»، غير صحيح؛ لما مرّ منّا «3» أنّ أبا حنيفة كان يقول في الماء القليل بالحدّ، و قضيّة

ما حكىٰ عنه «الخلاف» «4» و غيره «5»، نجاسة البئر عنده و لو بلغ ما بلغ، فهو و الصحابة و التابعون على النجاسة، و هكذا الشافعيّ فيما إذا كان قليلًا «6»، فما في «المعتبر» من نسبة النجاسة إلى الجمهور في محلّه.

إلّا أنّ ظاهر تحديد أبي حنيفة، عدم اختصاص النجاسة بالقليل، فلا يكون العامّة مقابل الخاصّة في هذه المسألة، فليكن ذلك في ذكرك.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 193 194.

(2) الانتصار: 11.

(3) تقدّم في الصفحة 230.

(4) الخلاف 1: 192.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 19.

(6) تذكرة الفقهاء 1: 27، المغني، ابن قدامة 1: 24/ السطر 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 40

و لنعم ما قال الأُستاذ كما في «مفتاح الكرامة»: «إنّ التنجّس مذهب العامّة؛ بقرينة جواب الإمام (عليه السّلام) لابن يقطين «1» و ابن بَزيع: «فإنّ ذلك يطهّرها» و هما وزيران، فتأمّل» «2» انتهىٰ.

نعم، الشافعيّة و الحنابلة قالٰا به حال القلّة «3»، و عن الشافعيّة تفصيل آخر «4»، و الأمر سهل.

مختار فقهائنا في حكم البئر

ثمّ إنّ اشتهار النجاسة و وجوب النزح لأجلها، كان إلى زمن المؤلّفين و المحقّقين من المذهب، كالصدوق و المفيد و السيّد و الشيخ و أضرابهم «5» إلى العصور المتأخّرة، حتّى وصلت النوبة إلى المتوسّطين، فأخذوا من زمان مفيد الدين محمّد بن الجهم جانبَ الطهارة «6»، فأفتىٰ العلّامة في كتبه بها تبعاً لشيخه «7»، فاشتهر ذلك إلىٰ أن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 237/ 686، وسائل الشيعة 1: 182 183، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 2.

(2) مفتاح الكرامة 1: 79/ السطر 8.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 27، المغني، ابن قدامة 1: 24/ السطر 12 13.

(4) المغني، ابن قدامة 1: 25/ السطر 4.

(5) الأمالي، الصدوق: 514، المقنعة:

64، الانتصار: 11، المبسوط 1: 11، المراسم: 34، المهذّب 1: 21.

(6) غاية المراد 1: 71، مفتاح الكرامة 1: 79/ السطر 16.

(7) تذكرة الفقهاء 1: 25، قواعد الأحكام: 5/ السطر 6، منتهى المطلب 1: 10/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 41

قيل: «إنّ القول بالنجاسة بعد ذلك صار عزيزاً» و لا حكاية إلّا عن الشهيد الثاني في «الروضة» و «اللّمعة» «1».

و في «شرح الإرشاد» له: «أنّ المسألة من أشكل أبواب الفقه، غير أنّ المعتبر في المصير إلىٰ مثل هذه الأحكام رجحان ما لأحدهما علىٰ ضدّه، و كأنّه هنا موجود في جانب النجاسة» «2» انتهىٰ.

هذا، و في كون المسألة اتفاقيّة و إجماعية في العصر الأوّل إشكال؛ لما نسب إلى العمّاني القول بالطهارة «3»، و هكذا ابن الغضائريّ علىٰ ما حكىٰ عنه أبو يعلى الجعفريّ «4»، و قد نسبه «المختلف» إلى الشيخ «5»، بل ربّما يستظهر من «الهداية» لعدم تصريحه بالنجاسة «6»، و عن «تهذيب» الشيخ عبارة ظاهرة في مصيره إلى الطهارة «7»، فتكون النسبة في غير محلّها.

فتوهّم «8»: أنّ هذا القول من مبدعات العلّامة و شيخه ابن الجهم- علىٰ ما حكىٰ عنه الشهيد في «غاية المراد» بتوسّط أُستاذه عميد الدين

______________________________

(1) الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 23.

(2) روض الجنان: 147/ السطر 7.

(3) مختلف الشيعة: 4/ السطر 26.

(4) غاية المراد 1: 71.

(5) مختلف الشيعة: 4/ السطر 26.

(6) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 18.

(7) مستند الشيعة 1: 67، تهذيب الأحكام 1: 232.

(8) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 33 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 42

عن مجلس درسه «1» غير صواب.

و ظاهرهم و صريح المتأخّرين، عدم الفرق بين كونه قليلًا أو

كثيراً «2».

و قد حكي عن الشيخ أبي الحسن محمّد بن محمّد البصروي، التفصيل بين القليل و الكثير «3»، و استظهر ذلك من العلّامة؛ حيث اعتبر الكرّية في الجاري «4»، فهذا أولىٰ به، و عن «حاشية المدارك» ما يقرب من ذلك «5».

و أمّا القول الرابع، فهو التفصيل المحكيّ عن الجعفيّ قال في «الذكرى»: «إنّه يعتبر فيها ذراعان في الأبعاد الثلاثة، فلا تنجس» «6».

و لكنّك تعلم: أنّه أخْذٌ ببعض أخبار الكرّ، و ليس قولًا في هذه المسألة، فلا تخلط.

و أمّا القول الخامس و هو الطهارة و وجوب النزح «7»، فهو أيضاً ليس من الأقوال في المسألة، كما لا يخفى.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ الاستدلال لطهارة ماء البئر بالسيرة القطعيّة،

______________________________

(1) غاية المراد 1: 71.

(2) الأمالي، الصدوق: 514، لاحظ المقنعة: 64، المهذّب 1: 21، السرائر 1: 69، الوسيلة: 74.

(3) غاية المراد 1: 72، مدارك الأحكام 1: 54.

(4) مدارك الأحكام 1: 55، تذكرة الفقهاء 1: 16 17.

(5) مفتاح الكرامة 1: 80/ السطر 8.

(6) ذكرى الشيعة: 9/ السطر 37.

(7) منتهى المطلب 1: 12/ السطر 9، مدارك الأحكام 1: 54.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 43

و بأنّ الأمر لو كان على النجاسة لما خفي على الفقهاء «1»، ليس في مقامه، بل الظاهر أنّ اشتهار النجاسة و الطهارة في المسألة تابعة لآراء أهل النظر.

و دعوىٰ: أنّ انقلاب السيرة السابقة إلى اللّاحقة في غير محلّه، قريبة؛ لعدم صحّة الاستناد إلى الرواية في مقابل هذه الشهرة العظيمة من المخالف و المؤالف.

الأمر الثالث: في تحقيق حكم البئر
اشارة

قد تبيّن ممّا مضى في مباحث الكرّ: أنّ القليل ينفعل، دون الكثير، من غير فرق بين أنحاء الكرّ «2»؛ فماء البئر إذا كان كرّاً، يكون مشمول تلك الأدلّة بالضرورة، و احتمال عدم شمولها

له غير جائز، فلا حاجة إلىٰ ذكر الأدلّة الخاصّة علىٰ عدم تنجّسه حال كرّيته.

و حيث أنّ الملازمة قطعيّة، و التفكيكَ غير صحيح، فيعلم عدم انفعاله في حال القلّة أيضاً.

و ما مرّ من القول بالتفصيل، لا يرجع إلىٰ محصّل؛ لأنّ أخبار المسألة بين طائفتين، و الأصحابَ علىٰ رأيين: أمّا الطهارة مطلقاً، أو النجاسة مطلقاً.

و توهّم انصراف أدلّة الكرّ عمّا نحن فيه؛ لزيادة المادّة عليه،

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 35/ السطر 31.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 255.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 44

و لاستلزامه كونه ماءً ذا مادّة، و هو مقابل الكرّ، غير سديد؛ لأنّ موضوعها الماء البالغ كذا.

إن قلت: قضيّة ما سلف نجاسة القليل أيضاً، فيلزم نجاسة البئر القليل.

قلت: كلّا؛ لما مرّ في ماء الحمّام: أنّ الماء القليل الذي له المادّة- أصليّة كانت، أو جعليّة و صناعيّة غير منفعل «1»، بل ماء الحمّام لكونه بمنزلة الماء الجاري، لا يصير منفعلًا، و الجاري لكونه ذا مادّة، لا ينفعل بحكم العرف القطعيّ.

توهّم دلالة موثّقة عمّار على اعتبار كرّية البئر و جوابه

إن قيل: التفكيك بين القليل و الكثير فيما نحن فيه، مفاد بعض المآثير، و منها موثّق عمّار، قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن البئر يقع فيها زبيل عَذِرة يابسة أو رطبة.

فقال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير» «2».

قلنا: لا وجه للتفكيك؛ لأنّ هذه الرواية قاصرة دلالة: إمّا لأجل أنّ الظاهر منها هي الكثرة العرفيّة؛ لمكان قوله: «ماء كثير» و لا يقول: «الماء الكثير» أو لأجل أنّ الكثرة الشرعيّة أعمّ من الكثير الراكد، فيكون البئر لمكان المادّة، من الكثير أيضاً. و أمّا المآثير الأُخر الواردة في

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 27.

(2) تهذيب الأحكام 1: 416/ 1312، وسائل الشيعة 1: 174 175، كتاب

الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 45

البئر، فأمرها دائر بين ترجيح جانب النجاسة، أو الطهارة، أو القول بسقوطهما للتعارض، فتصل النوبة إلى الإطلاقات التي ذهبنا إليها في ماء الحمّام «1»، و ذكرنا أنّ المستفاد من أخبارها؛ أنّ ما هو تمام الموضوع، هو كونه ذا مادّة شبيهة بالجاري «2»، و ماء البئر أولىٰ بذلك بالقطع، فتدبّر جيّداً.

هذا مع إمكان المراجعة إلىٰ ما ورد من الكتاب «3» و السنّة النبويّة و العلويّة «4» في عدم انفعال مطلق الماء، علىٰ إشكال مضى تفصيله «5».

كفاية صحيحة ابن بزيع على اعتصام البئر مطلقاً

فتحصّل: عدم الحاجة إلىٰ ذكر الروايات الخاصّة في هذه المسألة على الطهارة، مع أنّ في كثير منها إشكالًا سنداً و دلالة، و لكن يكفي صحيحة ابن بَزيع «6»، خصوصاً بناءً علىٰ ما حرّرناه حولها في المسائل السابقة؛ و بيّنّا أنّ التعليل فيها، مخصوص بالصدر، و أجنبيّ عن الذيل «7».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 23 27.

(2) تقدّم في الصفحة 22 23.

(3) الأنفال (8): 11، الفرقان (25): 48.

(4) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9، المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

(5) تقدّم في الجزء الأوّل: 118 119.

(6) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(7) تقدّم في الجزء الأوّل: 158 161.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 46

و الإشكال في حجّيتها و حجّية جميع ما يوافقها في المضمون، بدعوىٰ إعراض الأصحاب عنها، قد مضى أيضاً، و ذكرنا أنّ المسألة ليست من صغريات تلك القاعدة؛ لعدم ثبوت الشهرة المعرضة صغرى

في خصوص هذه المسألة «1»، مع الإشكال في إمكان تحقّق الصغرىٰ لمثل هذه القاعدة رأساً، و لعدم ثبوت الإعراض؛ ضرورة أنّ الجمع بين الأدلّة، كالجمع بين العامّ و الخاصّ ليس من الإعراض عن العامّ، و الترجيح بالمرجّحات أيضاً لا يعدّ من ذلك، فليتأمّل.

هذا، و سيجي ء زيادة توضيح حول التفصيل المزبور إن شاء اللّٰه تعالىٰ «2».

المآثير المستدلّ بها على النجاسة
اشارة

إذا عرفت ذلك، فالذي لا بدّ من الغور فيه؛ ذكر الروايات التي استدلّ بها على النجاسة، أو يمكن الاستدلال بها عليها، و هي كثيرة، نذكر مهمّاتها طيّ طوائف، فإن لم يتمّ دلالتها على النجاسة فهو، و إلّا فتمسّ الحاجة إلىٰ نقل المآثير المستدلّ بها على الطهارة، كما لا يخفى.

الطائفة الأُولىٰ: ما تدلّ على النجاسة نصّاً أو كالنصّ
اشارة

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 174.

(2) يأتي في الصفحة 56 57.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 47

فمنها: معتبر ابن بَزيع في «الكافي» قال: كتبت إلىٰ رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه الصّلاة و السّلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فتقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي ء من عَذِرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟

فوقّع (عليه السّلام) في كتابي بخطّه: «ينزح دلاء منها» «1».

فإنّها لتقريره (عليه السّلام) كالنصّ في أنّها تنجس، و يطهّرها النزح مثلًا، و لأجل اشتمالها على النزح، تندرج في بعض الطوائف الآتية.

و منها: صحيحة ابن يقطين في «التهذيبين» عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن البئر، تقع فيها الحمامة أو الدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة.

فقال: «يجزيك أن تنزح منها دلاء؛ فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّٰه تعالىٰ» «2».

و هذا نصّ في النجاسة.

و قريب منها ما في ذيل خبر عمّار الساباطيّ قال: «ينزفون يوماً إلى الليل و قد طهرت».

و منها: معتبر عبد اللّٰه بن يعفور و عنبسة بن مصعب، عن أبي

______________________________

(1) الكافي 3: 5/ 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 21.

(2) تهذيب الأحكام 1: 237/ 686، وسائل الشيعة 1: 182، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17،

الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 48

عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «إذا أتيت البئر و أنت جنب، و لم تجد دلواً، و لا شيئاً تغترف به، فتيمّم بالصعيد؛ فإنّ ربّ الماء و ربّ الصعيد واحد، و لا تقع في البئر، و لا تفسد على القوم ماءهم» «1».

و هي مثلها في الظهور في النجاسة؛ ضرورة أنّ الماء لا يفسد بدخول الجنب مع احتمال كونه نظيفاً عرفيّاً، فيعلم من ترك التفصيل، أنّ المقصود هو الفساد الشرعيّ، كما هو الظاهر في غيرها كصحيحة ابن بَزيع.

و أمّا ما اشتهر بين المتأخّرين: من أنّ هذه الطائفة إمّا مجملة؛ لقيام الشواهد علىٰ أنّ المراد من «الطهارة» و «النجاسة» و المقصود من «الفساد» ليس الأمر الشرعيّ و الطهارة الشرعيّة، فإن تمّت هي فهو، و إلّا فتصير مجملة.

أو ظاهرة في الدلالة على الطهارة؛ لتماميّة تلك الشواهد، و ظهورِ بعض العبائر فيها علىٰ أنّ البئر لا ينجس «2».

فهو غير سديد؛ لأنّ المستفاد من طريقتهم كأنّهم بنوا علىٰ تأويل أخبار تدلّ على النجاسة، و هذا كيف يمكن تصديقه مع ذهاب أرباب الفهم و النظر إليها؟! و لو كان الأمر كما تخيّلوه، يلزم كون اتّفاقهم كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام) و يكون الحكم ممّا تلقّاه عن الواقفين و المطّلعين عليه.

فما في تقريراتهم: «من أنّ الأمر بنزح الدلاء من غير تعيين، شاهد

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 149/ 426، وسائل الشيعة 1: 177، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 22.

(2) الحدائق الناضرة 1: 358 360، مستند الشيعة 1: 73، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 49

علىٰ أنّ الطهارة فيها هي الطهارة العرفيّة» «1» في غاية الوهن؛

لأنّ ما هو المطهّر واضح، و هو مقدار عرفيّ كسائر العناوين المذكورة في الأخبار الموكول فهمها إلى العرف، و ما ورد في سائر الأخبار من التعيين، فهو محمول على الاستحباب.

و ما في كتبهم: «من أنّ كلمة «البعرة و نحوها» في الأُولىٰ، و كلمة «لا تقع في البئر» في الثانية، تشهد علىٰ ما مرّ؛ و ذلك لأنّ «البعرة» ليست من النجاسات، و الدخولَ في البئر لا يفيد تنجّس الماء بالجنابة» «2» غير قابل للشهادة؛ ضرورة أنّ قيام الدليل علىٰ عدم نجاسة البعرة، لا يضرّ بظهورها الإطلاقيّ حسب الصناعة القطعيّة، و أحسنيّة استناده (عليه السّلام) إلىٰ عدم تمكّنه من الغسل، لا يورث الإشكال فيما هو ظاهر الرواية، و لو فرضنا عدم تنجّس البئر بها لكان يتعيّن عليه الغسل؛ لأنّه واجد للماء بالضرورة، فمنه يعلم النجاسة الشرعيّة.

الإشكال على معتبرة ابن يعفور و جوابه

و أمّا الإشكال على الأخيرة: بترك الاستفصال عن حال الجنب، مع كثرة اتفاق كون أبدانهم طاهرة، فتكون هي ظاهرة في النظافة العرفيّة «3»، فهو

______________________________

(1) الحبل المتين: 118/ السطر 16، جواهر الكلام 1: 200، شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 111، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 32 (مخطوط).

(2) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 111، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 32 (مخطوط).

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 34/ السطر 18، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 32 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 50

واضح الدفع؛ لما مضى أنّ مع النظافة العرفيّة لا يفسد الماء بوقوعه فيه، فيعلم من ذلك أنّ المفروض هو الابتلاء بالنجاسة الخبثيّة، و هو المتعارف في تلك الأعصار و الأمصار.

هذا مع أنّ الجهة الأخيرة، ليست علّة للنهي عن الوقوع في

البئر، بل الظاهر أنّه يتعيّن عليه التيمّم، فلا يجب عليه الوقوع، و لا يجوز عليه إفساد مائهم شرعاً أو إرشاداً، و لمكان ترتّبه على الاغتسال نوعاً، جي ء به للإرشاد إلىٰ أمر يصدّقه الارتكاز.

هذا كلّه إذا نظرنا إليها مع قطع النظر عمّا ورد في سائر المآثير، و مع عدم التوجّه إلىٰ سائر الخصوصيّات المحفوفة بها.

و أمّا مع النظر إلىٰ سائر الروايات الواردة في المسألة، و لا سيّما مع إباء ما ورد من التعليل في أخبار الحمّام «1» و في خصوص صحيحة ابن بَزيع الماضية عن التقييد و التخصيص، فلا محيص إلّا من دعوى أنّها ليست دالّة علىٰ نجاسة البئر.

هذا و ظهور التطهير في الطهارة الشرعيّة، غير ثابت في عصر الأئمّة (عليهم السّلام) فتصير الرواية مجملة، أو ظاهرة في الطهارة العرفيّة.

هذا مع أنّ قياس هذه الصحيحة الأخيرة «2» بصحيحة ابن بَزيع، في غير محلّه؛ ضرورة أنّ تلك تدلّ علىٰ أنّ البئر لا يفسد بشي ء، و لو كان المراد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 148 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1 و 4 و 7.

(2) تقدّم في الصفحة 47، الهامش 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 51

من «الفساد» فساداً عرفيّاً فهو كذب، و هذه تدلّ علىٰ أنّ البئر يفسد، فيعلم منه أنّه الفساد العرفيّ.

فبالجملة: لو أمكن الالتزام بأنّ من مسوّغات التيمّم، لزوم المحافظة علىٰ ماء القوم من النجاسة العرفيّة فهو، و إلّا فهي تشهد على النجاسة، فليتأمّل.

الطائفة الثانية: المآثير الواردة في فصل البئر عن البالوعة
اشارة

فإنّها بجملتها تدلّ علىٰ أنّ الأمر بالفصل، كان بالنظر إلىٰ حفظ البئر عن القذارة.

و لكنّ الكلام في أنّ النظر إلى انحفاظها عن القذارة العرفيّة، أو الشرعيّة، و لو لم يكن فيها بعض المآثير كان الأقرب هو

الأوّل، و لكن لتلك الروايات ربّما يتوهّم تعيّن الثاني.

فمنها: ما في الكتب المعتبرة، عن الفضلاء: زرارة، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير و هي معتبرة قالوا: قلنا له: بئر يتوضّأ منها، يجري البول قريباً منها، أ ينجّسها؟

قال فقال: «إن كانت البئر في أعلى الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها، و كان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع، لم ينجّس ذلك شي ء، و إن كان أقلّ من ذلك ينجّسها ..» «1».

______________________________

(1) الكافي 3: 7/ 2، وسائل الشيعة 1: 197، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 24، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 52

فإنّها ظاهرة بل صريحة، في تنجّس البئر بالبول الوارد عليها، و الحدود المأخوذة من الأمارات الشرعيّة عند الشكّ في الملاقاة.

و ما قيل في المقام حول دلالتها: من أنّ التقارب من المنجّسات «1»، لا يخلو عن التأسّف جدّاً.

و خلوّ غير «الكافي» من قوله: «و إن كان أقلّ من ذلك ينجّسها» «2» لا يضرّ.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ في بقيّة هذه الرواية، شهادة علىٰ توجّه المعصوم (عليه السّلام) إلىٰ سدّ باب الاستدلال بها على النجاسة الشرعيّة؛ لأنّه قال بعد ما ذكرنا صدره: «و إن كانت البئر في أسفل الوادي، و يمرّ الماء عليها، و كان بين البئر و بينه تسعة أذرع، لم ينجّسها، و ما كان أقلّ من ذلك فلا يتوضّأ منه ..».

فإنّ النهي عن الوضوء، لا يستلزم النجاسة الشرعيّة، كما لا يخفى.

هذا مع أنّ ظهور النجاسة في الشرعيّة بدون القرينة، ممنوعة في عصر المآثير، خصوصاً في رواية الصادقين (عليهما السّلام).

و لا يخفىٰ: أنّ الرواية مضمرة، إلّا أنّ الإضمار من هؤلاء لا يورث وهناً.

روايات الفصل إرشاد إلى أمر تكويني لا تشريعيّ

و الذي يظهر لي: أنّ

هذه المآثير بأجمعها، ليست أخبار الفقه

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 301.

(2) تهذيب الأحكام 1: 410/ 1293، الاستبصار 1: 46/ 128.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 53

و روايات التشريع الإسلاميّ، بل هي أخبار ترشد إلىٰ مصالح الأُمّة، و لأجل أنّهم (عليهم السّلام) ملجأ الأنام و ملاذ المسلمين و الإسلام، يرجع إليهم كلّ أحد فيما يحتاج؛ من السياسة، مدنيّة كانت أو منزليّة، إلى المقاصد الأُخر العالية، فلا ينبغي الخلط، و لا يصحّ إدراجها في كتاب «الوسائل» فلا تغفل.

و من هذا القبيل، المآثير الواردة في مسألتنا هذه، فإنّ من تأمّل في صدرها و ذيلها، و جميع الخصوصيّات الواردة فيها مع تخالفها في الحدود، و تشتّت مضامينها يجد أنّ المراجعة إليهم فيها، ليس لأجل الاطّلاع علىٰ مسألة شرعيّة، و لو كانت المراجعة إليهم لذلك لما عن العامّة القول بنجاستها و لكن جوابهم (عليهم السّلام) عن هذه الأسئلة المختلفة بالسنة مختلفة، ليس جواب المفتي و الفقيه، بل الظاهر أنّهم (عليهم السّلام) بصدد ذكر مصالح العباد و تحفّظهم عن الوقوع في المهالك المحتملة، و لقد تقرّر في محلّه، أنّ الماء الراكد مجمع المفاسد، و كان النظر في النزح و الإخراج إلىٰ تلك الجهة.

و ممّا يشهد علىٰ ذلك، الاكتفاء في بعض الأخبار عن النزح بتحرّك الماء بدخول الدلو فيه، ففي «الوسائل» عن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن السامّ أبرص يقع في البئر.

فقال: «ليس بشي ء، حرّك الماء بالدلو في البئر» «1» و مثله في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 245/ 708، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 54

«الكافي» «1».

فعلى

ما عرفت منّا، تقدر علىٰ حلّ معضلة البئر و مشكلة المسألة.

الطائفة الثالثة: المآثير الآمرة بنزح البئر كلّه

فإنّه لولا النجاسة لما كان وجه لذلك.

فمنها: معتبر عبد اللّٰه بن سِنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «إن سقط في البئر دابّة صغيرة، أو نزل فيها جنب، نزح منها سبع دلاء، فإن مات فيها ثور، أو صبّ فيها خمر، نزح الماء كلّه» «2».

و مثلها موثّقة معاوية بن عمّار «3».

و هكذا رواية أبي خديجة، إلّا أنّ المفروض فيها أنّه «إذا انتفخت فيه أو نتنت نزح الماء كلّه» «4».

و بمثابتها جميع المآثير المشتملة على الأمر بالنزح بمقدار قلّما يتّفق احتواء البئر عليه كالسبعين دلواً «5»، أو المائة دلو، كما في بعض

______________________________

(1) الكافي 3: 5/ 5.

(2) الإستبصار 1: 34/ 93، وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 241/ 696، وسائل الشيعة 1: 179 180، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 4.

(4) تهذيب الأحكام 1: 239/ 692، وسائل الشيعة 1: 188، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 4.

(5) تهذيب الأحكام 1: 234/ 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 21، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 55

الأخبار «1»، فإنّ المستظهر من الكلّ نجاسة البئر، و إلّا فلا بدّ من كفاية بعضه، أو كفاية ذهاب الريح.

الطائفة الرابعة: الروايات الكثيرة الآمرة بالنزح

الظاهرة في أنّ تلك الأوامر لتطهير الماء المتنجّس، و الآبية عن قبول حملها على الإرشاد إلى النظافة العرفيّة، أو على الوجوب التعبّدي النفسيّ، أو الشرطيّ لجواز الاستعمال الخاصّ، كالوضوء و الغسل و الشرب، أو على الاستحباب؛ لما فيها من الشواهد المختلفة:

فمنها: ما مرّ في الطائفة الاولىٰ؛ من أنّ الأمر بالنزح لحصول الطهارة «2»، و مثلها ما ورد في رواية عمّار الساباطيّ

من قوله (عليه السّلام): «فينزفون يوماً إلى الليل و قد طهرت» «3».

و منها: ظهور الطائفة الثانية في نجاستها «4».

و منها: ارتكاز المتشرّعة في غير المقام، فلقد ذهب الأصحاب (رحمهم اللّٰه) إلىٰ نجاسة كثير من الأشياء؛ للنهي عن الآثار المخصوصة بالطاهر،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 231/ 667، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 22، الحديث 7.

(2) تقدّم في الصفحة 47.

(3) تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 23، الحديث 1.

(4) تقدّم في الصفحة 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 56

كالشرب و الوضوء و الاغتسال، من غير احتياجهم هناك إلىٰ تصريح بالنجاسة بالضرورة.

و منها: ما اشتملت علىٰ ترخيص الوضوء بعد النزح، كما في رواية العمركيّ «1» و غيرها «2».

إبطال التمسّك بالطائفة الثالثة و الرابعة على النجاسة

أقول: لو سلّمنا دلالة هٰاتين الطائفتين على النجاسة، فهي دلالة اقتضائيّة؛ أي ليست مستندة إلى المدلول المطابقيّ، و الدلالة الاقتضائيّة ترفع بالقرائن المضادّة، أو تصير المآثير من هذه الجهة غير قابلة للاستظهار.

و أنت خبير: بأنّ الروايات العامّة و الخاصّة على الطهارة صريحة، فلا وجه للاستدلال بمثلها كما لا يخفى.

بل قد عرفت عدم الحاجة إلى الأدلّة الخاصّة؛ لإباء الأدلّة العامّة عن تخصيصها بماء البئر «3»، ضرورة أنّ الماء إذا كان ذا مادّة لا ينجس، و لا يتمكّن العرف من قبول التعبّد الشرعيّ في هذه الأخبار، حتّى يجمع بينها و بين عموم التعليل بالتخصيص، فلا تغفل.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 409/ 1288، وسائل الشيعة 1: 193، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 21، الحديث 1.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 198/ 422، وسائل الشيعة 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 14.

(3) تقدّم في الصفحة 45

46.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 57

إن قلت: ليس هذا إلّا الجمع المعروف بين أهله؛ و هو الجمع العقلائيّ المدّعىٰ بين النصّ و الظاهر، أو الظاهر و الأظهر، و في كونه هنا عقلائيّاً إشكال؛ و ذلك لأنّ كثيراً من موارد أخبار النزح، شاملة لصورة التغيّر، التي لا شبهة في لزوم النزح لحصول الطهارة، و في بعض الموارد فصّل بين صورة التغيّر و غيرها؛ بحيث يكون مساق الصورتين واحداً من حيث الحكم، فهل تجد من نفسك الحمل على الاستحباب، مع عدم الاستفصال من حيث التغيّر و عدمه، و في مورد التفصيل حملَ أحد الحكمين على اللّزوم الشرطيّ، لحصول الطهارة المعهودة بين المتشرّعة، دون الآخر، مع وحدة السياق؟! قلت: نعم، هكذا أُفيد، و لكن من العجيب غفلته عن عدم اشتراط النزح لحصول الطهارة حتّى في صورة التغيّر!! نعم، المستعجل لتحصيل الطهارة، لا بدّ له من النزح، و إلّا إذا زال تغيّره بنفسه مع اتصاله بالمادّة، يكفي في طهارته، فليتدبّر.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 57

عدم استحباب نزح البئر حتّى في صورة التغيّر

و ممّا ذكرناه إلىٰ هنا يظهر، عدم تماميّة استحباب النزح حتّى في صورة التغيّر، بل هو مأمور به بعنوان المقدّمة لأمر آخر هو المطلوب، و لو حصل زوال التغيّر بنفسه فلا ينزح شي ء، و لا يستحبّ، و كذلك إذا لاقاها النجاسات؛ ضرورة أنّ قضيّة الجمع بين المآثير المختلفة في الحكم علىٰ موضوع واحد بشهادة ما ورد من كفاية التحريك الحاصل من وقوع

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 58

الدلو «1» هو أنّ المقصود الأصلي

عدم استعمال الماء بعد وقوع النجاسة فيه إلّا بذلك، و إلّا إذا مضت مدّة و زمن طويل، و ورد علىٰ ماء البئر المياه الطيّبة من الخارج، فلا ينزح شي ء.

و هذا عندي قطعيّ، و لا تعبّد في هذه المسألة، و لا يناسب المقام إعمال التعبّدات و الإلزامات الشرعيّة، فلا تخلط.

تذييل: في أنّ تعارض الطائفتين تعارض الحجّة مع اللّاحجّة

لو سلّمنا دلالة طائفة من الأخبار على النجاسة، فلا شبهة في دلالة كثير منها على الطهارة، و قد عدّها «الوسائل» في بابها قائلًا: «باب عدم نجاسة البئر بمجرّد الملاقاة من غير تغيّر» و قد أنهىٰ رواياتها إلى الاثنين و العشرين رواية «2»، و لا قصور في بعضها من جهة الدلالة و السند على الحكم المزبور.

و علىٰ هذا، يبقى الكلام في أنّ المسألة من باب تعارض الحجّة مع اللاحجّة، لإعراض المشهور عن الثانية، أو من باب تعارض الحجّتين.

و الذي يقوىٰ في بادئ النظر هو الأوّل؛ لصراحة أخبار الطهارة، و كثرتها، و عدم صراحة أخبار النجاسة، مع كونها بالنسبة إليها في غاية القلّة.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 53.

(2) وسائل الشيعة 1: 170 177، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 221.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 59

و توهّم دلالة أخبار النزح عندهم على النجاسة «1»، في غاية الوهن؛ لأنّهم كيف ذهلوا عن الجمع بحملها على الاستحباب، مع توغّلهم في الجموع العجيبة بين الأخبار؟! فمن راجع كتب القدماء و لا سيّما «الاستبصار» يطمئنّ بذلك قطعاً، فدعوى أكثريّة الطائفة الأُولىٰ على الثانية «2»، غير مسموعة.

و احتمال الجموع الأُخر غير صحيح؛ لأنّ أحسن الجموع العقلائيّة ما صنعه المتأخّرون، و ليس هذا من الجمع المغفول عنه عادة، حتّى يقال: بغفلة هؤلاء الأعلام و الأعاظم عنه في العصور الكثيرة، مع نهاية

دقّتهم في هذا الأمر، و مع تمام توجّههم إلىٰ أنّ هذا أمر مشكل صعب، يورث الالتزام بالمشقّة المخالفة لأصل الدين.

فما أفاده «كشف الغطاء»: «أنّ المسألة واضحة، و لا تحتاج إلى الرواية بعد التوجّه إلىٰ أنّ البئر لا تبقى على الطهارة» «3» في غير محلّه؛ لأنّ هذا أمر في زمن السابقين كان أوضح، و مع ذلك التزموا بالنجاسة، فيعلم من ذلك قوّة مدركهم، كما أنّ ضعف الطائفة الاولىٰ في الدلالة يقوّي مدركهم.

فلا يمكن الالتزام على الوجه الصحيح، بأنّ الأصحاب رضي اللّٰه عنهم ما أعرضوا عنها، و قد عملوا بها جمعاً أو ترجيحاً، لعدم الوجه له،

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري: 26/ السطر 5.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 194.

(3) كشف الغطاء: 193/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 60

فعليه يلزم سقوط تلك الأدلّة عن الحجّيّة، و لا أقلّ من الشكّ المستند؛ أي الشكّ الذي له المنشأ العقلائيّ.

و لعمري، أنّ طهارة البئر بحسب الأخبار، غير قابلة للإنكار، و غير مخفيّة علىٰ أحد، فكيف التزموا بالنجاسة، فهل هذا إلّا لأمر آخر وصل إليهم؛ من البناء العمليّ للسالفين، المنتهى إلىٰ رأي المعصوم صلوات اللّٰه تعالىٰ عليه، و كان لا يقاومه الرواية و الروايات، و لو كانت صريحة كما ترى؟! فما ذكرناه في مطاوي الكلمات سابقاً مماشاةً مع الأعلام غير راجع إلى التحصيل، حسب ما يؤدّي إليه النظر البدويّ.

وجه لالتزام الأصحاب قديماً بالنجاسة و إعراضهم عن أخبار الطهارة

نعم، و الذي يخطر بالبال، و لعلّ به ينحلّ الإشكال، أن يقال: إنّ فتوى الجمهور- كما عرفت على النجاسة، و هذا هو الرأي المعروف بينهم من العصور السابقة إلىٰ عصر الأئمّة المتأخّرين، سلام اللّٰه تعالىٰ عليهم، و قد نفذ في المسلمين و أعلامهم هذا الرأي السخيف، و كانت فتوى المعصوم (عليه

السّلام) علىٰ خلافه، و لكن عملهم و عمل أتباعهم على التحرّز عند التنجّس تقيّةً، و هذا العمل الخارجيّ من الأئمّة (عليهم السّلام) و أتباعهم، قد حكي للمتأخّرين، من غير التوجّه إلىٰ جهة ذلك و سرّه، فاشتهر بين العصور المتأخّرة هذا، حتّى ظنّوا ذلك، و اعتقدوا بها، و عند ذلك لم يمكن لهم التجاوز عنه بالرواية الظاهرة في الطهارة؛ لكونها خلاف عملهم

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 61

المحكيّ لهم، و لا معنىٰ للجمع بين العمل و الرواية بحمل العمل على التقيّة لعدم تحقّق التعارض الذي هو موضوع في الأدلّة العلاجيّة.

فبالجملة: مع الاطمئنان بخطإ المعرضين، لا يمكن ترك العمل بالطائفة الدالّة على الطهارة، بل مع الاحتمال العقلائيّ لا يصحّ ذلك، فما سلكه الفضلاء في هذه المسألة من زمن العلّامة و شيخه ابن الجهم إلىٰ زماننا هذا لا يوافقه النظر الدقيق.

و الذي هو التحقيق الحقيق بالتصديق: تماميّة إعراضهم عنها، و الفرار عن ذلك:

إمّا بإنكار كاسريّة الإعراض، و إن قلنا: بجابريّته.

أو إنكار تحقّق إعراض المشهور مطلقاً؛ لعدم إمكان نيل ذلك علىٰ ما قرّرناه «1».

أو إنكار تحقّقه في خصوص هذه المسألة؛ لذهاب بعض إلى الطهارة «2».

أو إثبات خطأ المعرضين.

لا سبيل إلّا إلى الأخير. هذا كلّه ما هو الظاهر في المسألة.

وجوه الجمع العرفي بين أخبار النجاسة و الطهارة

و لو فرضنا التعارض بين الطائفتين اللتين فرغنا عن اعتبارهما فرضاً،

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 6: 402.

(2) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 34 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 62

فالجمع بينهما ممكن عرفاً؛ و ذلك بوجوه:

فتارة: بدعوىٰ قصور الطائفة الأُولىٰ و الثانية دلالة، فيتعيّن حمل أخبار سائر الطوائف على الندب، فتصير النتيجة الطهارة.

و أُخرى: بدعوىٰ قصور ما يدلّ بالخصوص على الطهارة؛ لوجوه مذكورة،

فيحمل غيرها علىٰ ترخيص الاستعمال بعد النزح «1».

و ثالثة: بدعوى المراتب في الطهارة و النجاسة، فيؤخذ بالكلّ.

و إلى ذلك يرجع كلام الشيخ في بعض كتبه: «إنّ ما يدلّ علىٰ عدم نجاسة البئر، يدلّ علىٰ أنّها لا تنجس بنجاسة لا يمكن رفعها و لو بالنزح» «2».

مع أنّ مفهوم صحيحة ابن بَزيع «3» و غيرها «4» ممّا يدلّ علىٰ حصر تنجّس البئر بالتغيّر قابل للتقيّد بما يدلّ علىٰ نجاسته بالملاقاة، كما قيّد مفهوم النبويّ «5» بمفهوم أخبار الكرّ «6»، فتصير النتيجة هي النجاسة.

و لعمري، إنّ هذا الجمع أقرب إلىٰ أُفق التحقيق و الصناعة، و لكنّه ليس جمعاً عرفيّاً، فتصير المسألة مندرجة تحت عمومات الأخبار العلاجيّة.

______________________________

(1) لاحظ المهذّب البارع 1: 85.

(2) الاستبصار 1: 33 ذيل الحديث 8.

(3) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(4) الكافي 3: 8/ 4، وسائل الشيعة 1: 171، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 4.

(5) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(6) وسائل الشيعة 1: 158 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 63

و رابعة: بما يأتي من ذي قبل، إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

و عند ذلك يتعيّن القول بالطهارة؛ لموافقتها مع الكتاب، و مخالفتها مع العامّة، و لو استشكل في الأوّل يكفينا الثاني.

و هذا من غير فرق بين القول: بأنّ الموافقة مع الكتاب و المخالفة مع العامّة، من المرجّحات «2»، أو قلنا: بأنّهما أيضاً من المميّزات «3»، كما هو الأظهر عندنا.

و مع فرض التعارض و التساقط، يتعيّن الطهارة أيضاً؛ لما مرّ في أوّل البحث

«4»، فتدبّر جيّداً.

تنبيه: حول التفصيل بين قلّة ماء البئر و كثرته

من هنا يعلم وجه التفصيل بين القلّة و الكثرة «5»؛ فإنّ هاتين الطائفتين إذا تساقطتا، فلا يبقى في خصوص ماء البئر نصّ و لا تعليل، و حيث أنّ في أخبار الحمّام إشكالًا من جهة أنّ استفادة العلّية قابلة للخدشة كما مضى «6» يتعيّن المراجعة إلىٰ أخبار الكرّ، فما في كتب الأصحاب من

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 67 68.

(2) فرائد الأُصول 2: 804 و 818.

(3) كفاية الأُصول: 505 506.

(4) تقدّم في الصفحة 44 45.

(5) لاحظ غاية المراد 1: 72.

(6) تقدّم في الصفحة 26 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 64

التوهين الصريح لصاحب هذا الرأي «1»، في محلّه إذا أراد التمسّك بأخبار البئر؛ بالجمع بينها بذلك.

و أمّا إذا كان نظره إلىٰ ما ذكر فلا يستبعد، و لكنّه غير صحيح؛ لما عرفت.

و أمّا إذا كان نظرهم إلىٰ أنّ قضيّة الجمع بين أخبار البئر، هو التفصيل؛ بحمل ما يدلّ على النجاسة على القليل، و ما يدلّ على الطهارة على الكثير؛ بشهادة بعض المآثير التي أشرنا إليها، و لاقتضاء أخبار الكرّ ذلك، فهو غير سديد؛ ضرورة أنّ الشهادة بعد ما مضى ساقطة، و مفروضيّة النزح في الآبار، دليل كثرة مياهها، فلا معنىٰ لحمل تلك الطائفة الكثيرة على القلّة.

بل لا يعقل؛ لأنّ الأمر بالنزح سبعين دلواً «2»، أو أربعين دلواً «3»، أو ثلاثين دلواً «4»، لا يساعد علىٰ كونها قليلة، بعد كون «الدلو» ما هو المكيال المعروف، و لو كان الأمر بالنزح لتطهير تلك المياه به، لكان ذلك غير مختصّ بالبئر، فيعلم من ذلك أنّ المطهّر ليس هو النزح، بل هو مقدّمة

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 196، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 284، مهذّب

الأحكام 1: 224.

(2) تهذيب الأحكام 1: 234/ 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 21، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 244/ 702، وسائل الشيعة 1: 191، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 20، الحديث 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 413/ 1300، وسائل الشيعة 1: 181، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 16، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 65

لتطهير الآبار بالمادّة التي توجد فيها تدريجاً، و توجب زوال تغيّرها، أو حصول طهارتها بالماء الخارج.

هذا مع أنّ صحيحة ابن بَزيع، لا تساعد ذلك الجمع، من غير فرق بين كون القليل علّة للحكم في الصدر، كما هو المختار «1»، أو علّة لما في الذيل، كما عليه الأكثر.

و ممّا يدلّ علىٰ فساده، الأوامر الصادرة بالنزح في غير النجاسات، كالعقرب «2» و البعرة «3» و الحيّة «4» و غير ذلك «5».

التمسّك برواية الثوري على التفصيل السابق و إبطاله

إن قلت: صريح رواية الحسن بن صالح الثوريّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) التي ذكرناها في أخبار الكرّ، أنّه (عليه السّلام) علىٰ ما فيها قال: «إذا كان الماء في الرَّكيّ كرّاً لم ينجّسه شي ء».

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 159 160.

(2) تهذيب الأحكام 1: 238/ 690، وسائل الشيعة 1: 188، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 5.

(3) الكافي 3: 5/ 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 21.

(4) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 94، مستدرك الوسائل 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 18، الحديث 2.

(5) الكافي 3: 6/ 9، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 66

قلت: و

كم الكرّ؟ .. «1».

و توهّم إعراض القدماء و المتأخّرين عنها، غير تامّ؛ لذهاب المشهور إلى الإفتاء بها في اعتبار حدّ الكرّ، الصريحة في الأبعاد الثلاثة، و الالتزام بالتفكيك بين الصدر و الذيل، غير مساعد مع بناء العقلاء، فكون الحسن بتريّاً زيديّاً متروك الحديث «2»، لا يضرّ به هنا.

قلت: أوّلًا: يشترط في الانجبار الشهرة العمليّة، و مجرّد الوفاق في المضمون غير كافٍ، و تلك الشهرة غير ثابتة، بعد وجود الروايات الأُخر موافقةً لفتوى المشهور في تلك المسألة.

و ثانياً: كون «الركيّ» و «الركيّة» مرادفي «البئر» غير واضح، و بعد المراجعة إلىٰ قلّة استعمالهما، و كثرة استعمال «البئر» مع التوجّه إلىٰ أنّ الحفرة لحفظ الماء في ذلك الزمن، كانت مورد الحاجة اتفاقاً لعدم وجود الآبار ذات المادّة في جميع المحالّ يحصل الاحتمال العقلائيّ دفعاً للترادف البعيد في نفسه.

علىٰ أنّ «الركيّ» هو البئر بدون المادّة، و يشهد لذلك المراجعة إلى المشتقّات الأُخر من هذه المادّة، ففي «أقرب الموارد» قال: «ركا الأرض حَفرها، و المركوّ الحوض الكبير» «3» انتهىٰ.

______________________________

(1) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

(2) تهذيب الأحكام 1: 408، ذيل الحديث 1282.

(3) أقرب الموارد 1: 430.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 67

فما في كتب اللّغة: من تفسير «الركيّة» بالبئر «1»، لا يستلزم كونها البئر المقصودة في المآثير، و استعمالها في رواية الحسين بن أبي العلاء في أبواب التيمّم «2»، لا يضرّ بالاحتمال المزبور، كما لا يخفى.

بحث و تحقيق: في أوامر نزح البئر

نسب إلى الشيخ، القول بالطهارة و وجوب النزح تعبّداً «3»، و المحكيّ عن «المنتهىٰ» «4» و «الموجز» و غيرهما «5» اتباعه.

و المشهور هو الاستحباب «6»، و ظاهرهم الاستحباب النفسيّ.

و الذي هو

الأقرب: أنّ تلك الأوامر إرشاديّة إلىٰ أمر يحصل أحياناً بطول المدّة، و ورود الماء على البئر، و قد مضى منّا الإيماء إليه «7».

و ضعف القول الأوّل لا يحتاج إلىٰ مزيد تأمّل؛ لما ورد في المآثير الكثيرة ما يكون قرينة قطعيّة عليه: من الاكتفاء بالحركة الحاصلة من الدلو «8».

______________________________

(1) الصحاح 6: 2361، القاموس المحيط 4: 338، مجمع البحرين 1: 195.

(2) الكافي 3: 64/ 7، وسائل الشيعة 3: 345، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 4.

(3) المهذّب البارع 1: 85، تهذيب الأحكام 1: 232.

(4) مفتاح الكرامة 1: 79/ السطر 25، منتهى المطلب 1: 11/ السطر 2.

(5) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 195.

(6) الحدائق الناضرة 1: 350، جواهر الكلام 1: 203، مهذّب الأحكام 1: 224.

(7) تقدّم في الصفحة 58.

(8) تهذيب الأحكام 1: 245/ 708، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 19، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 68

و من الاختلاف الشديد في تلك المآثير بأنفسها.

و من أنّه أمر بعيد قطعاً، لا يمكن الالتزام به جدّاً.

و من ذهاب الكلّ إلىٰ خلافه.

و من التعابير المشتملة على الخطاب المخصوص بالمكلّفين، التي هي ظاهرة في عدم الوجوب، و لا يناسب ذلك مع الوجوب الشرعيّ، كقولهم (عليهم السّلام): «يكفيك خمس دلاء» «1».

أو «يجزيك أن تنزح منها دلاء» «2».

أو «يكفيك» كذا و كذا، علىٰ ما في المآثير المختلفة.

بل قضيّة رواية أبي بصير حيث قال: «فإن سقط فيها كلب فقدرت أن تنزح ماءها فافعل» «3» عدم النجاسة، و عدم الوجوب، فليتدبّر.

و أمّا ضعف الاستحباب، فهو مضافاً إلى بعض الاستبعادات المشار إليها يخصّ بأمر آخر؛ و هو سقوط هذه الطائفة بالمعارضة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأحد الأمرين؛ عدم سقوطها إلّا

من جهة دلالتها على النجاسة، أو عدم كونها من الأخبار المعارضة لأخبار الطهارة، و الأوّل غير

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 237/ 684، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 7.

(2) تهذيب الأحكام 1: 237/ 686، وسائل الشيعة 1: 182 183، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 2.

(3) الكافي 3: 6/ 6، وسائل الشيعة 1: 185، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 69

صحيح، و الالتزام بالثاني قريب، لولا الذي مرّ منّا تفصيله «1».

وجه التقريب: أنّ النزح يلازم سراية النجاسة إلى النازحين و أطراف البئر، و هذا يستلزم السؤال منهم (عليهم السّلام) فيعلم من ذلك عدم الملازمة بينه و بين النجاسة، و هذا التقريب ممّا يشهد في نفسه علىٰ طهارة مياه الآبار، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

عدم إرادة التحديد الشرعي من الدلاء المذكورة في الأخبار

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المقادير المعيّنة في المآثير من المائة، و السبعين .. إلى السبع، و دلو واحد «2» ليست على التحديد الشرعيّ، بل قضيّة اختلافها من تلك الجهة، أنّ الأمر فيها بني على النظر إلى الكثرة المناسبة للنجس الواقع في البئر، و لذلك ورد بنحو كلّي للإنسان الذي هو الأكبر سبعون، و للعصفور واحدة «3»، و لما بينهما ما يناسبه.

و أنت خبير: بأنّ كلمة «المائة» و «السبعين» و «الأربعين» و «السبع» كلّها كلمات جي ء بها في شتّى الأخبار؛ كناية عن الكثرة العرفيّة، من غير النظر إلى الحدّ الخاصّ.

و يؤيّد ذلك، الأمر بنزح دلاء غير معيّنة «4»، و حملها علىٰ جمع القلّة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 60 61.

(2) وسائل الشيعة 1: 179 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15 23.

(3) تهذيب الأحكام 1:

234/ 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 21، الحديث 2.

(4) الكافي 3: 5/ 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 70

- و هي العشرة «1» لا يورث قصورها عن الشهادة علىٰ ما هو المطلوب.

و يدلّ عليه، اختلاف الأمر بالنزح في الموضوع الواحد «2»، فلا تغفل جدّاً.

و لعمري، إنّ اللّازم علىٰ علماء الإسلام و فقهاء المذهب، حذف هذه المباحث عن الكتب الفقهيّة، و إيكالها إلىٰ بعض الكتب الأُخر، كيف؟! و الديانة العظمىٰ أعظم شأناً من ذلك، و الواجب عليّ تهذيب الفقه، و لكنّ المجال غير واسع.

تنبيه: في استحباب كون ماء الوضوء أو الشرب طيّباً

بعد ما أحطت خبراً بما في روايات البئر، فاعلم: أنّ المتفاهم من بعضها استحباب كون ماء الوضوء و الشرب طيّباً غير متنفّرة عنه الطباع، ففي صحيحة الفضلاء زرارة، و محمّد بن مسلم، و يزيد بن معاوية عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي جعفر (عليه السّلام): في البئر يقع فيها الدابّة و الفأرة و الكلب و الخنزير و الطير فيموت.

قال: «يخرج، ثمّ ينزح من البئر دلاء، ثمّ اشرب و توضّأ» «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 245، ذيل الحديث 705.

(2) وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 2 و 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 236/ 682، وسائل الشيعة 1: 183 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 71

و مثلها غيرها «1».

و توهّم حرمة الاستعمال الخاصّ، كالشرب و التوضّي و الاغتسال؛ لما في بعض الأخبار، ممنوع بالنصوص المرخّصة.

و دعوى الجمع بينهما؛ بحمل الثانية علىٰ ما بعد النزح، غير قابلة

للإصغاء إليها.

مسألة: في كيفيّة تطهير ماء البئر عند تغيّره

لو تغيّر ماء البئر بالنجس الواقع فيه، فهل يطهر بالنزح المؤدّي إلىٰ زواله «2»؟

أو لا بدّ من نزح مائه كلّه «3»؟

أو لا يشترط النزح، بل يكفي زواله من قبل نفسه مع الاتصال بالمادّة «4»؟

أو يكفي ذاك، و يعتبر الامتزاج «5»؟

وجوه و أقوال. و من الممكن دعوى: أنّ النزح المخصوص غير كافٍ، بل لا بدّ من نزح مائه كلّه؛ لما ورد في كثير من الروايات التي ذكرناها في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 237/ 685، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 6.

(2) مستند الشيعة 1: 84.

(3) المبسوط 1: 11.

(4) مدارك الأحكام 1: 102، العروة الوثقىٰ 1: 42، فصل في ماء الحمّام.

(5) العروة الوثقىٰ 1: 42، فصل في ماء الحمّام، الهامش 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 72

الطائفة الثالثة «1».

و لكنّها لا تنهض لذلك؛ لأنّها إذا كانت دلالتها تامّة علىٰ نجاسة البئر؛ و أنّ المفروض مثلًا فيها تغيّر الماء، و نجاسة الباقي بالملاقاة مع الماء المتغيّر، فهو، و إلّا فلا يستفاد منها إلّا مثل ما يستفاد من غيرها، و لا سيّما مع ورود النصوص الصحيحة علىٰ عدم لزوم نزح كلّه، بل فيها: «ينزح حتّى يذهب النتن» «2» و «يؤخذ منه حتّى يذهب الريح» كما في صحيحة الشحّام، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «3».

و أمّا لزوم النزح و عدمه، فقد مضى تفصيله في المباحث السابقة، و أنكرنا رأساً بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره و لو لم يكن اتصال بالمادّة، فضلًا عن اعتبار الامتزاج، و ذكرنا هناك: أنّ التعليل في صحيحة ابن بَزيع راجع إلى الصدر، و لا يحتاج إليه في الذيل، بل لا معنىٰ لرجوعه إليه،

فلا تخلط «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 54.

(2) تهذيب الأحكام 1: 236/ 681، وسائل الشيعة 1: 183، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 237/ 684، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 7.

(4) تقدّم في الصفحة 45 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 73

دلالة أخبار النزح على كفاية زوال التغيّر

و أمّا دلالة أخبار النزح علىٰ كفاية زوال التغيّر؛ لعدم تذيّلها بذيل التعليل، و لظهورها في أنّ المدار و الغاية هو زوال تلك الحالة، فهي ممّا لا مجال للخدشة فيها.

و دعوىٰ: أنّ موردها البئر، و النزح يستلزم الامتزاج بالمادّة، أو أنّ الاتصال مفروغ عنه، غير مانعةٍ عن الرجوع إلىٰ ما هو الظاهر في الأخبار، بعد مساعدة الاعتبار؛ ضرورة أنّ النجاسة معلول التغيّر، و لا معنىٰ لبقائها بدون علّتها.

مع أنّك أحطت خبراً: بأنّ قوله (عليه السّلام) في صحيحة ابن بَزيع: «حتّى يذهب ريحه، و يطيب طعمه» ناظر إلىٰ أنّ تمام الطهارة هو حصول الطيب، و ليس وراء الطيب العرفيّ طهارة أُخرى شرعيّة، فنحتاج في حصولها إلى الاتصال أو الامتزاج، بل الطهارة المقصودة الممضاة في الشريعة هي هذه، فلا ينبغي الإشكال بعد ذلك الوضوح في هذا المقال.

رجوع التعليل في صحيحة ابن بَزيع إلى الصدر

و من العجيب، ما التزموا به في صحيحة ابن بَزيع؛ من أنّ التعليل في الذيل، راجع إلىٰ جملة محذوفة، و هي هذه: «فإذا ذهبت ريحه، و طاب طعمه يطهر؛ لأنّه له مادّة»!! و هل هذا إلّا الجزاف، و هل هي إلّا الغفلة عن المرام؟! و ليس سبب هذا الالتزام، إلّا أنّهم رأوا أنّه لا يناسب قوله: «حتى

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 74

يطيب طعمه» فإذن لا بدّ من ذلك.

و لكنّك إذا راجعت ما شرحناه حولها سابقاً «1»، و تأمّلت في الصحيحة صدرها و ذيلها، تجد أنّ رجوع التعليل إلىٰ حلّية الصدر التي هي محطّ نظر المتكلّم في الرواية قطعاً من الضروريّات الأوّلية، فلا تغترّ بما في الكتب المطبوعة.

مسألة: في الشكّ في صدق «البئر»

لو شكّ في صدق «البئر» فعلى القول بسقوط الأحكام الخاصّة، فلا ثمرة عمليّة؛ لأنّ اعتصامه من أحكام كونه ذا مادّة، سواء كان بئراً، أو لم يكن، و سقوط تلك الأحكام، لا يكون لأجل العمل بصحيحة ابن بَزيع، كما توهّم «2».

مع أنّ المستفاد من أخبار الحمّام «3» أيضاً، هو علّية المادّة للاعتصام، فلا حاجة إليها كما لا يخفىٰ.

و على القول بثبوتها من وجوب النزح أو استحبابه، فإن كان منشأ الشبهة أمراً خارجيّاً، فلا مانع من التمسّك بالاستصحاب الموضوعيّ إذا كانت لها الحالة السابقة.

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 159 160.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 126.

(3) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 75

و إذا لم تكن لها الحالة السابقة، أو كانت الشبهة مفهوميّة، و قلنا: بعدم جريان الاستصحاب الموضوعيّ في الشبهة المفهوميّة، و أنّه لا تجري

الاستصحابات التعليقيّة الاختراعيّة الحكميّة، فلا يترتّب الآثار الخاصّة.

و أمّا انفعاله بالملاقاة، فهو أيضاً بلا وجه؛ لما ذكرناه، فما في بعض كتب أهل العصر من تقوية القول بالانفعال «1»، في غاية الضعف؛ لأنّ مفروضيّة انفعال البئر بالأدلّة الخاصّة، لا تستلزم انفعال كلّ ذي مادّة و إن لم يكن بئراً.

و توهّم اختصاص دليل عدم انفعال ذي المادّة بالصحيحة، في غاية الوهن و السخافة فلا تخلط.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 122.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 77

المبحث التاسع في الماء المستعمل في الأحداث و الأخباث
اشاره

و الكلام حوله يتمّ ضمن فصول:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 79

فصل في طهارة المستعمل و مطهّريته حسب القواعد
حكم المستعمل في الحدث

قضيّة ما مرّ في أوّل الكتاب من الكتاب و السنّة، طهارة جميع المياه و مطهّريّتها «1».

و مقتضى إطلاق تلك الأدلّة، عدم الفرق بين الحالات الطارئة عليها، ما دام لم يدلّ دليل علىٰ خروجها عن الحكم المزبور، فالماء المستعمل في الحدث؛ صغيراً كان أو كبيراً، أو المستعمل لتحصيل الطهارة المعنويّة مثلًا كما في الأغسال المندوبة، و الوضوء التجديديّ طاهر و مطهّر، من غير فرق بين كونه مستعملًا في جميع الأعضاء أو بعضها، مرّة أو مرّات، ما دام صدق «الماء» عليه، و لم ينجس بملاقاة النجس، و من غير فرق

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 20 38.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 80

بين القليل و المعتصم، و كونه وارداً أو موروداً.

و توهّم: أنّ اعتبار المستعمل في الحدث، كاعتبار المستعمل في الخبث، فكما أنّ الثاني يحمل النجاسة مثلًا، و يكون متنجّساً، كذلك الأوّل، فإنّه يذهب بالجنابة و الحدث، فتكون هذه الحالة قائمة به بعد ذلك، فيعدّ ماء خبيثاً غير نظيف، و غير طيّب، و لا يكون عند ذلك مطهّراً، و لا طاهراً، في غير محلّه كما لا يخفى.

هذا بناءً علىٰ تصديق الكبرى المزبورة.

و أمّا على الإشكال فيها فيشكل الأمر هنا؛ لأنّ الشكّ في زوال الحدث به، يقتضي البناء علىٰ بقائه، فلا بدّ من التماس الدليل الخاصّ في المسألة.

نعم، قد مرّ منّا إمكان التمسّك باستصحاب الطهارة و المطهّرية المنجّزة، لا المعلّقة؛ فإنّ المطهّرية من الأوصاف التنجيزيّة للماء «1».

أو يقال: بأنّ الطهارة الشرعيّة في الماء، تلازم المطهّرية عرفاً.

و أيضاً: مرّ منّا في بعض المواقف، الإشكال بأنّ الطهارة الشرعيّة تثبت بالاستصحاب أو قاعدتها، و المطهّرية

تثبت بالاستصحاب، و لكن ذلك غير وافٍ؛ لأنّ المطلوب إثبات أنّ هذا الماء الطاهر مطهّر، و هو لا يثبت بذلك «2».

اللّهمّ إلّا أن يقال: «كان هذا الماء طهوراً، و هو الآن كذلك» و رجوع

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 104 106.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 81

«الطهور» إلى الأمرين، لا يستلزم الانحلال في موضوع الدليل الاجتهاديّ، فلا تخلط.

حكم المستعمل في الخبث

و من هنا يظهر النظر في مقتضى القاعدة في المستعمل في الأخباث؛ شرعيّة كانت، أو عرفيّة، و هي الطهارة و المطهّرية.

نعم، بناءً علىٰ عدم الفرق في انفعال القليل بين النجس الوارد و المورود، تكون الغسالة نجسة.

ثمّ إنّ في جريان استصحاب النجاسة بعد الاغتسال بالماء المستعمل، إشكالًا ينشأ من المباني في حقيقة النجاسة و الطهارة.

فصل في طهارة المستعمل في الوضوء الرافع دون مطهّريته

المستعمل في الوضوء طاهر و مطهّر للحدث و الخبث، بلا خلاف بين الإماميّة «1»، و هو المحكيّ عن أكثر العامّة «2»، و قد نطقت به الآثار

______________________________

(1) المعتبر 1: 85، تذكرة الفقهاء 1: 34، مدارك الأحكام 1: 126، جواهر الكلام 1: 358.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 34.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 82

المرويّة خصوصاً «1»، و ضعف سندها غير مضرّ. و في جبرانه بالعمل إشكال؛ لعدم قيام الشهرة العمليّة عليها.

بل في كفاية الشهرة العمليّة لجبران ضعفها في خصوص المقام شبهة: و هي أنّ الحكم المتلقّىٰ من القواعد العامّة، لا يحتاج إلى النصّ، و التمسّك بالنصّ لا يدلّ علىٰ حصر السند به، و هذا و هو الانحصار شرط في الجبر «2»، فما ظنّه كثير من الأصحاب في المقام، لا يرجع إلىٰ محصّل.

كما أنّ توهّم ذهاب أبي حنيفة «3» و غيره إلىٰ نجاسته نجاسة مغلّظة، غير موافق لما وصل إلينا منه في الكتب المفصّلة «4».

نعم، عندي في المسألة شبهة: و هي أنّ من المحتمل شرطيّة النظافة العرفيّة في مطهّرية الماء للأحداث، و يشهد لذلك النواهي المشار إليها في البئر، الظاهرة في لزوم كون ماء الوضوء نظيفاً، و لا أقلّ من استحبابه و كراهة التوضّي، بناءً علىٰ ما مرّ من ورود الترخيص بالتوضّي قبل النزح «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 209 210، كتاب الطهارة،

أبواب الماء المضاف، الباب 8.

(2) تحريرات في الأُصول 6: 388 و ما بعدها.

(3) المجموع 1: 151/ السطر 6، مدارك الأحكام 1: 126، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 219.

(4) اللباب في شرح الكتاب 1: 23.

(5) تهذيب الأحكام 1: 246/ 709، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 83

و يدلّ عليه ما مرّ في الماء إذا تغيّر لونه و ريحه و طعمه، بناءً علىٰ ما أسّسناه هناك؛ من أنّ النهي عن الشرب و التوضّي و الغسل، لا يستلزم النجاسة «1»، و غايته شرطيّة نظافته في ذلك، و هذا هو رأي الأوزاعيّ و أحمد و محمّد، و هو القول الثاني للشافعيّ، و الرواية الأُخرىٰ عن مالك، و هو المشهور عن أبي حنيفة «2».

فبالجملة: لا منع من الالتزام بالتفكيك بين طهارته و مطهّريته، فنلتزم بالأُولىٰ دون الثانية، و هذا هو الموافق لذوق العقلاء و روح الشريعة.

أو الالتزام بعدم مطهّريته مع وجود المياه النظيفة، و لعلّ إليه يرجع ما عن المفيد، فقال: «الأفضل تحرّي المياه الطاهرة التي لم تستعمل في أداء فريضة، و لا سنّة» «3» انتهىٰ.

فصل في حكم المستعمل في الغسل الندبيّ و الوضوء التجديديّ

المستعمل في الأغسال المندوبة و الوضوءات التجديديّة، كالمستعمل في الأشياء النظيفة العرفيّة، بل و كالمستعمل لغسل اليد في

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 116 117.

(2) المغني، ابن قدامة 1: 18/ السطر 16 17، المجموع 1: 151/ السطر 4، و 153/ السطر 4، تذكرة الفقهاء 1: 34.

(3) مفتاح الكرامة 1: 87/ السطر 29، المقنعة: 64.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 84

الأكل قبله و بعده، و غير ذلك من السنن و الآداب، و لا ينسب إلىٰ أحد إشكال فيه «1»، و

ما ربّما يمكن تخيّله في المستعمل في الأحداث، غير لازم هنا كما لا يخفى.

و لا فرق بينما صار واجباً بالعرض كالمنذور و شبهه، و بين غيره.

و قال الصدوق في «المقنع» و «الفقيه»: «لا بأس أن تغتسل المرأة و زوجها من إناء واحد، لكن تغتسل بفضله، و لا يغتسل بفضلها» «2».

و عن أحمد في تطهير الرجل بفاضل طهارة المرأة روايتان: المنع، و الكراهة «3».

و حكي عن المفيد أفضليّة التحرّي كما عرفت «4»، و أمّا استحباب التنزّه عن المستعمل في الأغسال المندوبة و الوضوء، فهو غير ثابت نسبته إليه، و الأمر علىٰ كلّ تقدير سهل.

و سند الصدوق في التفصيل غير معلوم لي، و مستند المفيد واضح؛ لأنّ هذا خلاف النظافة التي هي «من الإيمان».

و من العجب تمسّك «الحبل المتين» «5» بفتوى المفيد برواية ابن جعفر، عن الرضا (عليه السّلام) في حديث، قال كما في «الوسائل»: «من اغتَسَل

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 36، الحدائق الناضرة 1: 438، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 219.

(2) المقنع: 40، الفقيه 1: 12، ذيل الحديث 22.

(3) المغني، ابن قدامة 1: 214/ السطر 8، تذكرة الفقهاء 1: 38.

(4) تقدّم في الصفحة 83.

(5) الحبل المتين: 116/ السطر 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 85

من الماء الذي اغتُسِل فيه فأصابه الجُذام، فلا يلومنّ إلّا نفسه» «1»!! و أعجب منه قول «الحدائق»: «بأنّ هذا الحديث مقتضىٰ ذيله مربوط بماء الحمّام» «2»!! ضرورة أنّ رأي المفيد كما مرّ، أعمّ من الحديث مفاداً، و ذيل الحديث و إن يورث اختصاص المورد بالحمّام، و لكن العرف لا يجد خصوصيّة في ذلك، فما هو المحكيّ عن الشيخ المذكور المحقّق الواقف على أسرار المذهب و روح الشرائع في غاية المتانة؛ لما

عرفت منّا، و لا حاجة إلى الفحص عن مستنده، كما لا يخفى.

و غير خفيّ أيضاً: أنّ ما ذكرناه في الفصل السابق من الشبهة في المطهّرية «3»، يأتي هنا أيضاً.

فصل في طهارة المستعمل في رفع الحدث الأكبر
اشارة

المستعمل في الحدث الأكبر، كالجنابة و الحيض و النفاس، و هكذا المستعمل في الاستحاضة و مسّ الميّت، و هكذا المستعمل في الوضوء

______________________________

(1) الكافي 6: 503/ 38، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 2.

(2) الحدائق الناضرة 1: 437.

(3) تقدّم في الصفحة 82 83.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 86

المرفوع به الحدث الأكبر مع دخالته جزءً في ذلك، طاهر بلا خلاف أيضاً، و عليه الإجماعات المنقولة «2». و من قال من العامّة بنجاسته في المسألة السابقة كأبي يوسف «3» قال به هنا، كما في «مفتاح الكرامة» «1».

و ربّما ينسب إلى ابن حمزة نجاسته «2»، و هو في غير محلّه؛ قال في «الوسيلة» بعد أن قسّم المياه إلىٰ عشرة:

«و أمّا المستعمل فثلاثة أضرب: مستعمل في الطهارة الصغرىٰ، و مستعمل في الطهارة الكبرى، و مستعمل في إزالة النجاسة:

فالأوّل: يجوز استعماله ثانياً في رفع الحدث و في إزالة النجاسة.

و الثاني و الثالث: لا يجوز ذلك فيهما، إلّا أن يبلغ كرّاً فصاعداً بالماء الطاهر» «3» انتهىٰ.

و أنت خبير: بقصور عبارته عن اختياره نجاسته.

الاستدلال على نجاسة المستعمل في رفع الحدث الأكبر

و كيف كان: يمكن دعوى النجاسة؛ لطائفة من المآثير التي استدلّ بها علىٰ ممنوعيّة مطهّريته؛ بدعوى أنّ نفي الجواز يرشد إلى النجاسة

______________________________

(2) المعتبر 1: 86، قواعد الأحكام 1: 5/ السطر 17، كشف الرموز 1: 58.

(3) الخلاف 1: 172، المبسوط، السرخسي 1: 46/ السطر 16.

(1) مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 10.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 219.

(3) الوسيلة: 74.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 87

عرفاً، فمن منَع مطهّريته فعليه منع طهارته، كما أنّ من منَع صحّة الصلاة في عرق الجنب من الحرام منع طهارته؛ للملازمة العاديّة و العرفيّة،

و لو سلّم الالتزام بالتفكيك في المثال المزبور- كما التزم به جمع من الأعلام «1»؛ لوقوعه في الشريعة في أوبار ما لا يؤكل لحمه مع طهارتها فلا يسلّم ذلك هنا.

فما في رواية ابن سِنان الآتية من قوله: «الماء الذي يغسل به الثوب، و يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز يتوضّأ منه و أشباهه» «2»، و في رواية حمزة بن أحمد: «و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام؛ فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب» «3» و في غيرهما، دليل على النجاسة؛ للتلازم العقلائيّ المركوز عليه.

نعم، بناءً علىٰ ما يأتي في الفصل الآتي حولها من الإشكالات السنديّة و الدلاليّة، فلا يتمّ القول بالنجاسة هنا.

و يمكن دعوى: أنّ نفي الوضوء غير الأمر بالغسل؛ فإنّ الثاني يشهد على اعتبار النجاسة، بخلاف الأوّل؛ لأنّ ذلك أعمّ عرفاً، كما في الماء المغصوب، و لا سيّما مع قوّة احتمال شرطيّة النظافة أو استحبابها فيما

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 71، الحادي عشر من النجاسات.

(2) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

(3) تهذيب الأحكام 1: 373/ 1143، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 88

يتوضّأ به، فلا منع من التفكيك، كما عن جمع من الأقدمين «1».

المستعمل في الحدث الأكبر على الوجه الذي مرّ، مطهّر من الأخباث، و لعلّ هذا هو الأمر المفروغ عنه في معاقد الإجماعات المحكيّة عن جماعة من الأصحاب «2».

و عن «الذكرى» بعد أن نقل عن الشيخ الجواز، قال: «و قيل: لا» «3» و ظاهره وجود المخالف، و هو ابن حمزة الطوسي علىٰ

ما عرفت من العبارة المحكيّة عن «وسيلته» سابقاً «4»، الظاهرة في نفي جواز استعماله في الحدث و الخبث، و عن «المقنع» ما هو القريب منه «5».

و ربّما يشكل استفادة نفي المطهّرية من عبارتهما؛ لأنّ نفي جواز الاستعمال، غير ملازم لذلك، كما في المغصوب.

و بالجملة: على القول بنجاسته فهذا الحكم واضح، و أمّا على القول بطهارته فيحتاج إلى الدليل، و ما يأتي من الأدلّة علىٰ نفي مطهّريته من الحدث، غير وافية لذلك كما ترى.

نعم، بناءً علىٰ ما أشرنا إليه: من أنّ القذارات الشرعيّة و العرفيّة، ليست مختلفة في الحقيقة، و أنّ مطهّرية المياه ليست شرعيّة، بل هي

______________________________

(1) الفقيه 1: 10، المقنعة: 64، المبسوط 1: 11.

(2) إيضاح الفوائد 1: 19، مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 15، مستند الشيعة 1: 100، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 220.

(3) لاحظ ذكرى الشيعة: 12/ السطر 15.

(4) تقدّم في الصفحة 84.

(5) مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 18، المقنع: 41.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 89

طبيعيّة عقليّة «1»، و لا حقيقة شرعيّة في معنىٰ مطهّرية المياه و إن قلنا بها في النجاسة و الطهارة، فإذا راجعنا العرف في مطهّرية الماء المستعمل في رفع الحدث، الملازم قهراً لبعض الأقذار العرفيّة، فلا نجد إلّا تنفّرهم و استقذارهم، فتكون الأدلّة منصرفة عنه.

بل في شمولها لها إشكال؛ للشكّ في مطهّريّته، مع انصراف أدلّة الاستصحاب عند العرف عن شمول هذه المواقف.

أو يقال: إنّ الأماكن و الأمصار و الأعصار، مختلفة في ذلك، ففي بعض منها لا يجد فيه القذارة، و يراه مطهّراً من كلّ شي ء، و في بعض منها ينعكس الأمر، فيكون الحكم تابع موضوعه حسب تشخيص المكلّفين، كما في سائر الموارد و المواضيع، فلا تخلط، و

لا تغفل.

و لعمري، إنّ ذهاب المشهور إلى المطهّرية، منشؤه الغفلة عن أنّ المطهّرية غير الطهارة و النجاسة، فإنّ فيهما اختلافاً من القديم: في كونهما من الحقائق المنكشفة بالشرع، أو من المجعولات الشرعيّة، أو هي عرفيّة إمضائيّة إلّا في مواضع خاصّة، و أمّا عنوان «المطهّرية» فليس فيه خلاف؛ و أنّه من قبيل سائر العناوين العرفيّة، موكول إلى العرف سعةً و ضيقاً، و محوّل إليهم مفهوماً و صدقاً، علىٰ ما تقرّر في محلّه «2»، و فيما نحن فيه لا يعدّ الماء المزبور مطهّراً.

و لو سلّمنا أنّ الشرع تصرّف في المطهّرات، فلا نسلّم تصرّفه في

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 21 و 23.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 90

مطهّرية الماء، فإنّها بيد العرف و العقلاء، و لا دليل شرعيّ لفظيّ علىٰ أنّ كلّ ماء طاهر شرعاً مطهّر، حتّى يتمسّك به، فتدبّر جيّداً.

فصل في مطهّرية المستعمل في الحدث الأكبر
اشاره

المستعمل في الحدث الأكبر مطهّر من الأحداث الصغيرة و الكبيرة.

و المراد من «الحدث الأكبر» كلّ ما يوجب الغسل، سواء أوجب الوضوء، أم لم يوجب.

أو يقال: سواء كان غسله كافياً عن الوضوء كالجنابة، أو لا.

و إن شئت قلت: المراد من «الحدث الأكبر» ما يقابل الأصغر، فيشمل الحدث الكبير، فإنّ الأحداث ثلاثة: حدث صغير و هو ما يوجب الوضوء، و كبير و هو ما يوجب الغسل، و أكبر و هو ما يوجبهما، فتكون الجنابة كبيرة.

و هنا بيان آخر لأكبريّتها، ليس هنا محلّه.

حول الأقوال في المقام

و علىٰ كلّ تقدير: مطهّرية الماء المستعمل فيه، هي المشهورة بين الفقهاء حديثاً، و في «الروض» و «الدلائل»: «أنّه المشهور» «1» و إليه

______________________________

(1) روض الجنان: 158/ السطر 8، مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 91

ذهب طائفة من القدماء، كالسيّد و أبي يعلى، و السيّد حمزة ابن زهرة «1».

و خالفهم في ذلك جمع، كالصدوقين و الشيخين و القاضي و الطوسيّ «2»، و جماعة من أتباعهم المتوسّطين كالمحقّق «3»، و عن «الخلاف»: «هو مذهب أكثر أصحابنا» «4».

و ظاهر ما نسب إلىٰ أهل الخلاف في «الخلاف» أنّهم قائلون: «بأنّ الماء المستعمل طاهر و مطهّر» «5» و لا يستفاد منه التفصيل بين أنحاء المستعملات. و عن «حاشية المدارك»: «أنّه المشهور بين القدماء» «6».

و هنا قول ثالث ظاهر من «المبسوط» حيث قال: «ما استعمل في غسل الجنابة و الحيض، فلا يجوز استعماله في رفع الأحداث و إن كان طاهراً، فإن بلغ ذلك كرّاً زال حكم المنع من رفع الحدث؛ لأنّه قد بلغ حدّا لا يحتمل النجاسة» «7» انتهىٰ.

و قضيّة هذه العبارة جواز التطهير بالمتمّم كرّاً.

و أمّا توهّم التفصيل بين الكرّ و الجاري

مثلًا، فهو في غير محلّه، و لا يظهر من أحد من الأصحاب منع استعمال هذه المياه.

______________________________

(1) رسائل الشريف المرتضىٰ 3: 22، مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 19، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 490/ السطر 20.

(2) الفقيه 1: 10، المقنعة: 64، المبسوط 1: 11، جواهر الفقه: 8، الوسيلة: 74.

(3) شرائع الإسلام 1: 8.

(4) الخلاف 1: 172.

(5) الخلاف 1: 172، المحلّىٰ بالآثار 1: 182.

(6) مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 25.

(7) المبسوط 1: 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 92

فالذي هو محلّ الكلام، هو القليل المستعمل، و القليل المتمّم، فظاهر إطلاق المانعين المنع مطلقاً، و صريح الشيخ الجواز.

و لعمري، إنّه لا إطلاق في كلماتهم من هذه الجهة، فلا يرجع هذا القول إلىٰ أمر ثالث في المسألة، فتأمّل.

و في قوله: «لا يحتمل النجاسة» شهادة علىٰ أنّه في مسألة القليل المتمّم يقول بالطهارة، و يريد هنا إثبات جواز الاستعمال بالأولويّة.

فما عن «المعتبر» و «الذخيرة» و «الدلائل» من الحكم ببقاء المنع بعد بلوغه كرّاً «1»، لا يورث ظهور كلمات القدماء في الإطلاق، فتأمّل.

هذا، و قد نسب هذا القول إلىٰ «الوسيلة» «2» و تردّد فيه «الخلاف» و «الذكرى» «3».

هذه هي الأقوال المعروفة في المقام و قد حكي تفاصيل أُخر:

كالتفصيل بين الجنابة و غيرها «4».

و كالتفصيل بين غسل الأموات و غيره «5»، و هذا هو في «المهذّب البارع» إلّا أنّه قال بنجاسته بها، و منعه الفاضل العجليّ «6».

______________________________

(1) المعتبر 1: 89، ذخيرة المعاد: 143/ السطر 1، مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 30.

(2) الوسيلة: 74.

(3) الخلاف 1: 173، ذكرى الشيعة: 12/ السطر 9.

(4) مستند الشيعة 1: 105.

(5) المهذّب البارع 1: 117.

(6) لاحظ المهذّب البارع 1: 117، السرائر 1: 61.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 2، ص: 93

و كالتفصيل بين الأغسال الواجبة و المندوبة «1».

مقتضى الصناعة و مفاد الأخبار في المطهّرية من الحدث
اشارة

و حيث أنّ المسألة ذات آراء لا يركن إليها، فلا بدّ من النظر إلىٰ أخبارها، و قضيّة ما مضى أوّلًا المطهّرية حسب الصناعة الأوّلية، و مقتضى ما شرحناه ثانياً عدمها، من غير الحاجة في الأُولىٰ و الثانية إلى الأدلّة الخاصّة، و لكن لمّا كان المعوّل النصوص الخاصّة، فلا بدّ من ذكرها، و هي علىٰ طوائف:

الطائفة الأُولىٰ: ما يستدلّ بها على المنع
اشارة

و هي كثيرة:

فمنها: و هي عمدتها، ما رواه «التهذيبان» بإسناده عن عبد اللّٰه بن سِنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل».

و قال: «الماء الذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز أن يتوضّأ به و أشباهه، و أمّا الماء الذي يتوضّأ الرجل به، فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به» «2».

و في سنده أحمد بن هلال الضعيف المطعون المنسوب إلى الجعل

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 438، جواهر الكلام 1: 364.

(2) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 94

و الوضع «1»، و لا ريب في أنّ مورده الماء القليل لكلمة «باء».

و منها: معتبر ابن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن ماء الحمّام.

فقال: «ادخله بإزار، و لا تغتسل من ماء آخر، إلّا أن يكون فيهم جنب، أو يكثر أهله، فلا يدرى فيهم جنب أم لا» «2».

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن حمزة بن أحمد، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام) قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام.

قال: «ادخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء

الحمّام؛ فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم» «3».

و منها: معتبر ابن مُسْكان، قال: حدّثني صاحب لي ثقة، أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل، و ليس معه إناء، و الماء في وَهْدة «4»، فإن هو اغتسل رجع غُسْله في الماء، كيف يصنع؟

قال: «ينضح بكفّ بين يديه، و كفّاً من خلفه، و كفّاً عن يمينه، و كفّاً عن

______________________________

(1) الفهرست، الشيخ الطوسي: 36/ 97.

(2) تهذيب الأحكام 1: 379/ 1175، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 5.

(3) تهذيب الأحكام 1: 373/ 1143، وسائل الشيعة 1: 218 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 1.

(4) الوهدة: المنخفض من الأرض (منه قدّس سرّه).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 95

شماله، ثمّ يغتسل» «1».

و منها: ما رواه الكليني بإسناده عن محمّد بن إسماعيل، عن حنان «2»، قال: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّي أدخل الحمّام في السحر، و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم.

قال: «أ ليس هو جارٍ؟».

قلت: بلىٰ.

قال: «لا بأس» «3».

فإنّه يعلم من ارتكاز ذلك ممنوعيّته كما في الرواية الأُولىٰ.

و منها: غير ذلك من الروايات المستدلّ بها في الكتب المفصّلة «4».

عدم دلالة الطائفة الأُولىٰ على الجواز

و لعمري، إنّ الناظر فيها لا يحتمل دلالتها على المطلوب؛ فإنّ المنصف الخبير و المتوجّه البصير لأطراف القضايا، لا يجد منها رائحة

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1318، وسائل الشيعة 1: 217 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 2.

(2) كذا في نسخة

(منه (قدّس سرّه)).

(3) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

(4) تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 96

الدلالة، و لا ينقضي تعجّبي من المطنبين في هذه المسألة، و لا أجد ذلك صحيحاً.

هذا مع أنّ كثيراً منها ضعيف السند، غير قابل لدعوى الانجبار؛ لما عرفت من الاختلاف.

و الذي يقوىٰ في النظر: أنّ هذه المسألة ليست من المسائل التي تتدخّل فيها الشريعة بعنوان الديانة و التقنين؛ لأنّ النفوس البشريّة تأبىٰ عن استعمال تلك المياه طبعاً، و لا يحتاج إلىٰ إعمال التعبّد زائداً علىٰ ما ذكرناه، و هذه الأخبار كلّها راجعة إلى المستعمل في القذارات الشرعيّة و العرفيّة، من غير احتمال الإطلاق فيها، كما لا يخفى، و لقد تقرّر في محلّه: أنّ ترك الاستفصال يدلّ على الإطلاق، فيما إذا لم يكن انصراف و غلبة إلى الصورة الخاصّة، فما في كتب القوم من التمسّك بهذه المآثير، غير راجع إلىٰ محصّل.

الطائفة الثانية: الروايات المستدلّ بها علىٰ مطهّرية الماء المستعمل في الجنابة

و ذلك لأجل نفي البأس فيها عن وقوعها في الإناء.

و هذه الطائفة أجنبيّة بالمرّة عمّا نحن فيه؛ ضرورة أنّ البحث في المطهّرية، لا ينافي الالتزام بطهارته، و الذي هو محلّ الكلام؛ هو القليل المجتمع من غسالة الجنب مثلًا في إناء أو مكان؛ و أنّه هل يجوز رفع الحدث به أم لا؟ و مثل ذلك القليل الذي يدخل فيه الجنب، و يتطهّر به،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 97

مع عدم نجاسة بدنه، و المراجع إلى المآثير و الأخبار، لا يجد نصّاً يدلّ علىٰ جواز ذلك، و سيأتي أنّ هذه الطائفة

تدلّ علىٰ طهارة الغسالة إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

الطائفة الثالثة: و هي التي تدلّ علىٰ ترخيص ذلك إذا كان كرّاً

منها: صحيحة ابن مسلم الماضية في أخبار الكرّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): و سُئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب.

قال: «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي ء» «1».

و هذه الطائفة تدلّ على النجاسة، و حيث قد عرفت فساده، فهي لا تشهد علىٰ شي ء هنا، كما لا يخفى.

فتحصّل إلى هنا: أنّ القاعدة الأوّلية الصناعية هي المطهّرية، و لكنّ النظر الثانويّ إلى الجهات المشار إليها، يُؤدّي إلىٰ ترك ذلك جدّاً.

و لا يخفىٰ: أنّ مقتضىٰ ما احتملناه في المسألة من الإشكال في مطهّرية المياه المستعملة القليلة عدم اختصاص الشبهة بالقليل، و عدم سريانها في جميع المياه القليلة، فيكون هذا رأياً جديداً في المسألة.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 98

فصل في المستعمل في رفع الخبث
اشارة

و المراد من «الماء المستعمل فيه» ليس القليل الوارد عليه النجس؛ فإنّه خارج عن هذا النزاع، ضرورة أنّ نجاسته واضحة على القول بانفعال الماء القليل، فما في بعض كتب الأصحاب من الاستدلال ببعض الأخبار الخاصّة «1» في تلك المسألة «2»، غفلة و ذهول.

و هكذا ليس المراد منه و لا ينبغي أن يكون، الماء الذي يزول به عين النجاسة الموجودة في المحلّ، و الباقية بعد الزوال في الماء المستعمل؛ لأنّ معناه التفصيل في انفعال القليل بين الوارد و المورود، و قد مرّ أنّه منسوب إلى السيّد في «الناصريّات» «3» و عرفت ضعفه «4»، فهذا القول أيضاً خارج عن محطّ البحث هنا.

و الذي هو محلّ الكلام و يساعده الاعتبار؛ هو الماء المستعمل في إزالة الخبث و النجاسة التي لا عين منها

في المحلّ، و لا أثر لها في المغسول،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 152 و 154 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 3 و 4 و 11 و 14.

(2) مستند الشيعة 1: 90.

(3) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة.

(4) تقدّم في الجزء الأوّل: 269 271.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 99

فما يظهر من جمع في المقام «1» غير صحيح.

و هكذا ليس المراد منه الماء المعتصم المستعمل الوارد على المغسول؛ فإنّه لاعتصامه لا يتنجّس قطعاً، فالقطرات المنقطعة من المغسول لا تنجس، إلّا إذا انقطعت قبل الملاقاة، و أمّا ما هو المتعارف من الرشح فهو طاهر قطعاً، فيكون البحث هنا حول الماء الوارد على المتنجّس، غير الملاقي مع النجس الباقي بعد الزوال في الغسالة، و يكون غير معتصم، كماء الإبريق المستعمل لرفع نجاسة دمويّة، و زالت عينها قبل الغسل، أو كان بحيث ينعدم بجريان الماء على المغسول، و لا يبقىٰ منه أثر فيه بعد الغسل، كالمتنجّس بالبول عادة.

فما يظهر أيضاً من الأصحاب من النزاع في الغسلة الاولىٰ، في محلّه إذا أرادوا الغسلة التي ليست النجاسة باقية.

و لعلّ إلىٰ ما ذكرناه يرجع ما في «المنتهىٰ» من تقصير النزاع على الغسلة الثانية «2»؛ لأنّه بالغسلة الأُولىٰ لا تفنى النجاسة الزائلة إلّا في بعض الصور.

و ممّا شرحناه ينقدح: أنّ «الغسلة المزيلة» التي وقعت في كلمات القوم و منهم «العروة الوثقىٰ» «3» و أتباعه «4»، داخلة في محلّ النزاع في

______________________________

(1) العروة الوثقى 1: 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2، مستمسك العروة الوثقى 1: 229.

(2) منتهى المطلب: 24/ السطر 16.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 46 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء.

(4) مستمسك

العروة الوثقى 1: 229، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 369 370، مهذّب الأحكام 1: 262.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 100

فرض، و خارجة في فرض.

حول الأقوال في غسالة الخبث

إذا عرفت ذلك، فالأقوال في نجاستها و طهارتها كثيرة:

منها: أنّها نجسة مطلقاً، و هو الأشهر، و المشهور بين المتأخّرين «1»، و إليه «المبسوط» و «الخلاف» «2» بل و هو ظاهر «المقنع» و «الوسيلة» «3».

و منها: أنّها طاهرة مطلقاً، و هو المنسوب إلىٰ أكثر المتقدّمين «4»، و قد نسب إلىٰ شيوخ المذهب، كالسيّد، و الشيخ في مسألة الولوغ من «المبسوط» «5» و إلى أبناء إدريس و حمزة و أبي عقيل «6».

و منها: التفصيل بين الغسلة الأُولىٰ و الثانية، فتكون نجسة في الأُولىٰ، و طاهرة في الثانية، و هذا هو المنسوب إلى «السرائر» و «مبسوط» الشيخ و «خلافه» في موضع آخر «7».

______________________________

(1) جامع المقاصد 1: 128 129، مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 4، مستند الشيعة 1: 89 90.

(2) المبسوط 1: 11، الخلاف 1: 179، المسألة 135.

(3) المقنع: 18، الوسيلة: 74.

(4) مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 21.

(5) جامع المقاصد 1: 128، مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 22، المبسوط 1: 15.

(6) السرائر 1: 61، مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 19 و 23، لاحظ الوسيلة: 74.

(7) مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 8 9، السرائر 1: 180، المبسوط 1: 36، الخلاف 1: 179، المسألة 135.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 101

و منها: ما حكي عن الأُستاذ الشريف في «مفتاح الكرامة» بأنّ الغسالة كالمحلّ بعدها؛ فإن كان المحلّ ممّا يطهر بالأُولىٰ كان المستعمل طاهراً، و إن كان ممّا يطهر بالثانية، كان المستعمل في الأُولىٰ نجساً «1»، و هو المحكيّ في «الدروس» عن

بعض «2»، و قد احتمله «نهاية الإحكام» «3».

و في كونه قولًا آخر إشكال؛ لأنّ القائل بالتفصيل يكون محلّ كلامه النجاسة المحتاجة إلى التكرار في التطهير، فلعلّه يقول بطهارة الغسالة الأُولىٰ فيما لا يحتاج إلى التكرار، فتدبّر.

و في المسألة احتمال آخر: و هو نجاسة غسالة المتنجّس بالنجس، كالبول و عرق الجنب مثلًا و هكذا، و طهارة غسالة المتنجّس مع الواسطة، فلو أصاب قطرة من غسالة النجاسة البوليّة، فغسالته طاهرة.

إن قيل: هذه المسألة من صغريات المسألة الآتية؛ و هي تنجيس المتنجّس، فإن قلنا به يستلزم نجاسة الغسالة، و إن لم نقل بذلك فهي طاهرة.

قلنا: نعم، هذا بحسب الموضوع، و لكن لا منع من التفكيك حسب اقتضاء الأدلّة، فيقال: «بأنّ المتنجّس نجس في غير الغسالة».

نعم، مع الالتزام بعدم تنجيسه يشكل الالتزام بنجاسة الغسالة، كما

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 14 16.

(2) الدروس الشرعيّة 1: 122، و لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 14.

(3) نهاية الإحكام 1: 244.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 102

هو الظاهر.

إن قلت: ما الفرق بين هذه المسألة و المسألة السابقة، التي نفينا فيها عدم الفرق بين الوارد و المورود؟

قلت: قد مرّ منّا أنّ المراد في تلك المسألة من «الماء الوارد» هو الماء الوارد علىٰ عين النجس، أو الماء المزيل للنجاسة الباقية في الغسالة «1»، و المراد من «الماء الوارد» هنا هو المستعمل لتطهير المحلّ، من غير كون عين النجاسة مورودة و باقية بعد الورود، و إلى هذا يرجع ما في «ناصريّات» السيّد «2»، و إلّا فهو سخيف جدّاً.

مفاد الأدلّة الشرعيّة في غسالة الخبث
اشارة

ثمّ إنّ المهمّ في المقام المراجعة إلى الأدلّة الشرعيّة؛ لعدم إجماع صحيح في المسألة، و لا شهرة كافية، و لمّا كان قضيّة القواعد بقاءها

على الطهارة الشرعيّة، فلا بدّ من التماس دليل علىٰ نجاستها، و هو وجوه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 98 99.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 103

الوجه الأوّل: ارتكاز العرف
اشارة

فإنّ المغروس في الأذهان أنّ الماء الوارد يحمل نجاسة المحلّ و قذارته، لا أنّه ينفيه و يعدمه، و بعد المراجعة إلى تنفّر الطباع عن مثله، يظهر أنّ بناء العرف و العقلاء على التجنّب، و ليس النجس إلّا ما كان قذراً عند العرف، و لم يدلّ دليل علىٰ طهارته الشرعيّة؛ لأنّ هذه المفاهيم موكولة إلى العرف.

فقوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» «1» دليل علىٰ أنّ كلّ قذر يجب الاجتناب عنه بحسب الحكم الواقعيّ، و أمّا القذارات العرفيّة القائمة علىٰ طهارتها النصوص الخاصّة، فهي كالقذارات الشرعيّة الملحقة بها شرعاً للنصّ.

فبالجملة: مقتضىٰ هذا التقرير، أنّ كلّ قذر عرفيّ نجس شرعاً إلّا ما خرج بالدليل.

و أمّا ما اشتهر «أنّ كلّ نجس لا بدّ فيه من الدليل الشرعي، و إلّا فليس بنجس شرعاً، فهو غير تامّ.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا الدليل غير وافٍ بتمام المطلوب؛ لأنّ من الغسالة ما ليس بقذر عرفاً، كغسالة النجس الشرعيّ، و مجرّد كون بعض الغسالات

______________________________

(1) المقنع: 15، مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 104

من الأقذار العرفيّة، غير كافٍ لما هو المقصود.

و ثانياً: لا تدلّ قاعدة الطهارة علىٰ أنّ كلّ قذر، نجس و يجب الاجتناب عنه، بل من المحتمل قويّاً كونها ناظرة إلى الأقذار الشرعيّة؛ ضرورة أنّ في الشرع أقذاراً شرعيّة، و أنّ النسبة بين القذر الشرعيّ و العرفيّ عموم من وجه حسب الأدلّة،

فيكون هذا سبباً لانصراف القانون إليها، و قد تقرّر منّا وجود الحقائق الشرعيّة في كثير من اللّغات «1»، و الالتزام بذلك هنا لا يستلزم الالتزام بها في مثل البيع و الإجارة، كما لا يخفى.

و ثالثاً: لو كان المراد من «القذر» في القاعدة القذر العرفيّ، فلا معنىٰ لفرض الشكّ و الجهل؛ لأنّ المستقذرات العرفيّة واضحة، و لا معنىٰ لفرض الجهل فيها.

و رابعاً: قد استدلّ بالنصوص الكثيرة علىٰ طهارة الغسالة، و إن كانت دلالتها محلّ إشكال؛ لأنّ أحسنها ما رواه في «العلل» عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل، عن العنزا، عن الأحول محمّد بن نعمان: أنّه قال لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث: الرجل يستنجي ..

إلى أن قال: «أ وَ تدري لم صار لا بأس به؟».

قال قلت: لا و اللّٰه.

فقال: «إنّ الماء أكثر من القذر» «2».

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 1: 184 185.

(2) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 105

و هذه غير نقيّة السند، و كون ابن عبد الرحمن من أصحاب الإجماع غير مفيد؛ لأنّ ذلك في مثلها لا يورث الوثوق، لأنّ لازم الأخذ بعموم العلّة خروج موردها، و هذا لأجل أنّ مجرّد الأكثريّة في الوزن غير صحيح، و الأكثريّة بحسب الغلبة و أنّ الماء الغالب على النجس، لا ينجس حسب ما تقرّر منّا في أخبار الكرّ «1» يستلزم كون الماء المستنجى به خارجاً؛ لعدم بقاء عصمة الماء بهذه الملاقاة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الاستنجاء المسئول عنه فيها، هو الاستنجاء من البول، و الماء المستعمل يكون أكثر بالمعنى المزبور، فيكون دليلًا على المطلوب، فما في كتب المتأخّرين «من

أنّ هذه الرواية مطروحة؛ للزوم القول بعدم الانفعال» «2» في غير محلّه؛ لما عرفت في محلّه أنّ الماء القليل منفعل، و لكن ليس المراد من «القليل» ما بنوا عليه، فراجع «3».

فبالجملة: الرواية بناءً علىٰ تماميّتها سنداً و دلالة، لا تفي بتمام المقصود و هو طهارة غسالة النجس على الإطلاق، بل المناط كون الماء المغسول به النجس أكثر و أغلب على المتنجّس؛ بحيث يعتبر عند العرف فناؤه في جنسه، فلا تخلط.

ثمّ إنّه لا يبعد دعوى: أنّ ترك الاستفصال يورث الإطلاق، فيكون موردها الاستنجاء الأكبر أيضاً، فيشكل تماميّة الدلالة.

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 277 286.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 362.

(3) تقدّم في الجزء الأوّل: 273 278.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 106

و لكنّه ممنوع؛ لأنّ كون أكثر المائع السيّال من الجامد، غير صحيح؛ لعدم الجامع بينهما، فلا بدّ من كون استنجائه للأصغر و هو البول، فإنّه سيّال يقاس فيه الأكثريّة و الأغلبيّة، فتأمّل.

و غير خفيّ: أنّ «الوسائل» ذكر في الباب الثالث عشر هذه الرواية ثلاث مرّات «1»، و الظاهر اتّحاد الكلّ؛ لأنّ الأحول هو محمّد بن نعمان مؤمن الطاق، و سيأتي تفصيله في ماء الاستنجاء «2».

بعض النصوص الأُخر المستدلّ بها على طهارة الغسالة

و من تلك النصوص مرسلة الواسطيّ، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن (عليه السّلام): أنّه سُئل عن مجمع الماء في الحمّام من غسالة الناس.

قال (عليه السّلام): «لا بأس به» «3».

و منها: رواية صبّ الماء على الثوب من بول الصبيّ «4».

و منها: ما ورد من أمر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بتطهير المسجد من بول الأعرابيّ بصبّ ذَنوب عليه «5»، و هو ماء قليل عند الأصحاب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 221 223، كتاب الطهارة، أبواب

الماء المضاف، الباب 13.

(2) يأتي في الصفحة 124 125.

(3) الكافي 3: 15/ 4، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 9.

(4) الكافي 3: 55/ 1، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 1.

(5) عوالي اللآلي 1: 62، مستدرك الوسائل 2: 610، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 54، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 107

و منها: غير ذلك من الأدلّة التي لا أساس لها سنداً «1»، و لا تفي بتمام المطلوب دلالة.

و من العجيب تمسّكهم بصحيحة ابن مسلم التي فيها الأمر بالغسل في المِرْكَن «2»، فتكون النجاسة واردة عليه، و تخرج عن المسألة بالمرّة!! فتحصّل إلى هنا: أنّ الدليل المزبور غير كافٍ لإثبات النجاسة، و إن كانت أخبار الطهارة غير ناهضة لإثباتها أيضاً.

الوجه الثاني: ما أفاده الوالد المحقّق- مدّ ظلّه

علىٰ ما في تقريراته غير المطبوعة.

و إجماله: أنّ العرف يلغي خصوصية الملاقاة، فإذا كان الماء القليل منفعلًا، فلا يجد فرقاً بين أنحاء الملاقاة و أطوارها، و لا يتوهّم متوهّم ذلك في الدهن الواقع فيه الفأرة؛ بأن يقول بنجاسته إذا وقعت الفأرة فيه، و بطهارته في عكسها، و لا يتبادر إلىٰ ذهن أحد التفكيك، بل المتفاهم العرفيّ أنّ ما هو السبب للانفعال، هو الملاقاة فقط، و لا عبرة بأمر آخر وراءها «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 5، الحديث 2.

(2) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(3) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 51 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 108

و أنت خبير بما فيه؛ لما مرّ منّا أنّ القليل الوارد عليه النجس، ساكن

يغلبه النجاسة في الاعتبار، بخلاف القليل الوارد عليها، فإنّه متحرّك ذو قوّة، لعلّها تمنع عن انفعاله، و يكون الاعتبار هنا بإفنائه النجاسة، و كأنّه معتصم، كيف لا، و أيّ مدخليّة في اعتصام الماء المباشر مع المفصول عنه المتّصل بالمادّة؟! مع أنّ ذلك لا يورث فرقاً حال التطهير به «1».

و بعبارة اخرىٰ: النجس الذي يغسل بالإبريق، لا يطهّره إلّا الماء الخارج منه، فأيّ فرق بينه و بين ما إذا كان الإبريق متّصلًا بالمادّة؟! ضرورة أنّ الماء الذي يطهّره، ليس إلّا القليل الخارج من أُنبوب الإبريق، فعلى هذا لا بدّ من القول بالطهارة؛ لأنّه كالمغسول بالكرّ و الجاري، و لا أقلّ من أنّه يورث احتمال الفرق، فلا يمكن إلغاء الخصوصيّة.

مع أنّ الخصوصيّات الأُخر موجودة، مثل عدم إمكان التطهير بالوارد إذا تنجّس، و مثل لزوم العسر و الحرج، و مثل لزوم كون الماء الواحد ذا حكمين، و هو خلاف الإجماع، و الإشكال في كلّ ذلك، لا يستلزم صحّة دعوى إلغاء الخصوصيّة، فلا منع على هذا من الالتزام بانفعال القليل، دون الغسالة.

______________________________

(1) لاحظ ما تقدّم في الصفحة 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 109

الوجه الثالث: التمسّك بالإطلاق الأحوالي في أخبار الكرّ

قضيّة الإطلاق الأحواليّ لمفهوم أخبار الكرّ هي النجاسة.

و توهّم اختصاص المنطوق بالأعيان النجسة، في غير محلّه؛ لظهوره في أنّ الماء إذا بلغ كرّاً، لا ينجّسه ما يمكن أن يكون منجّساً، من غير فرق بين الأعيان النجسة، أو المتنجّسات الملحقة بها حكماً.

و قد مرّ في المقامات الكثيرة، البحث و التحقيق حول مفاد هذه المآثير منطوقاً و مفهوماً «1»، و لا نطيل الكلام حولها.

و الذي لا ريب فيه: أنّ الإطلاق الأحواليّ فرع العموم الأفراديّ، و حيث لا سبيل إلى الثاني، لا يتمّ التمسّك به.

و ربّما

يمكن دعوى: أنّ المهملة التي في حكم الجزئيّة، معناها ثبوت المنجّسية لبعض الأشياء، و إذا ثبتت لبعضها، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق الأحواليّ بالنسبة إلى الفرد المندرج في المفهوم، و حيث لا تعيّن لذلك الفرد، فيلزم لغويّة الحكم الإجماليّ الثابت بالمفهوم، و قضيّة الفرار منها إسراء الحكم إلىٰ جميع الأفراد، فيكون كلّ شي ء لا ينجّس الكثير منجّساً للقليل؛ بدلالة الاقتضاء.

أقول: أوّلًا: إثبات المفهوم للقضايا الشرطيّة ممنوع.

و ثانياً: قد تقرّر منّا في محلّه، أنّ المفهوم المتّخذ من إثبات العلّية

______________________________

(1) منها ما تقدّم في الجزء الأوّل: 204 207 و 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 110

التامّة المنحصرة، حجّيته ذاتيّة، و غير قابلة للتخصيص و التقييد «1»، و لا ريب أنّ كثيراً من المياه لا ينجّسه شي ء و إن لم يبلغ كرّاً؛ للنصوص، و هذا لا يمكن إلّا بانكشاف عدم العلّية التامّة المنحصرة، و عند ذلك لا يبقى مفهوم حتّى يتمسّك به، فمفهوم الشرط يكون معارضاً لما يدلّ علىٰ عدم انفعال القليل، و غير قابل للتخصيص و التقييد.

و ثالثاً: إنّ الظاهر من المنطوق، هو أنّ الماء البالغ كرّاً، لا يمكن أن ينجّسه إحدى الأشياء التي تنجّس غيره؛ و ذلك لأنّ المراد من «شي ء» ليس عنواناً قابلًا للانطباق علىٰ غير الأنجاس العينيّة و الحكميّة.

و أيضاً: ليس عنوانَ المنجّس الفعليّ؛ لعدم إمكان الجمع بين سلب التنجيس من المنجّس الفعليّ، فيكون المراد قوّة التنجيس، فتصير النتيجة ما ذكرناه؛ أي لا ينجّسه ما يمكن أن ينجّس غيره، لا أنّه لا ينجّسه المنجّس؛ فإنّ «المنجّس» عنوان اشتقاقيّ ظاهر في الفعليّة.

مع أنّ المتفاهم العرفيّ، هو أنّ المقصود أنّه لا ينجّسه ما يمكن أن ينجّس غيره، فإذن يصير المفهوم إثبات إمكان تنجيسه

بإحدى المنجّسات، و هذا أعمّ من كونه يتنجّس بها إذا لاقته؛ ضرورة أنّ إمكان جعل المنجّس للماء القليل، لا يستلزم ذلك، فليتدبّر.

و لا تلزم اللغويّة التي لا بدّ من الاحتراز عنها؛ لأنّه بالمفهوم يثبت القابليّة و الإمكان، و هذه هي غير كافية حسب ما مرّ: من أنّ التأثير

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 4: 139.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 111

و المؤثّرية، شرط في اعتبار نجاسة الملاقي «1»، فلا تخلط.

و في المقام نكتة و هي أنّ قضيّة التحرير الذي سمعت منّا و لا تسمع من غيرنا أنّ المفهوم داخل في المنطوق؛ بمعنى أنّ مفاد كلمة «غيره» في البيان المشار إليه، أعمّ من سائر الأشياء و الماء القليل، فكأنّه قال: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه ما يمكن أن ينجّس غيره» أي غير الماء البالغ كرّاً، و منه القليل.

و الذي يتوجّه إلينا بعد ذلك: أنّ الإمكان مستفاد من كلمة «شي ء» لكونه كناية عن عنوان النجس، فلا وجه لإسرائه إلى مفاد قوله: «لا ينجّسه» فهذا حكم بتّي؛ أي لا ينجّسه ما يمكن أن ينجّس غيره، فإذا ثبت إمكان منجّسيته للغير في الجملة، فلا بدّ من إسرائها إلىٰ جميع الأشياء، و منها القليل، و إلّا تلزم اللغويّة.

نعم، يمكن الفرار عنها؛ بدعوىٰ وجود القدر المتيقّن لها، و هو ما إذا كانت النجاسة بعضها واردة عليه.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ التقريب الأوّل قابل للخدشة، و لكنّ التقريب الأخير الذي أشرنا إليه بعنوان النكتة، الراجع إلى استفادة انفعال القليل من المنطوق، يشكل هدمه؛ لأنّ معنى الحديث على الوجه الأخير، يرجع إلىٰ أنّ الماء البالغ كرّاً، لا ينجّسه ما ينجّس غيره، و المراد

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 94 و 213.

كتاب

الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 112

من مرجع الضمير هو الماء بقيده، فيكون القليل مندرجاً تحت عنوان كلمة «غيره» فإن كان له الإطلاق فهو، و إلّا فالقدر المتيقّن منه بمقتضى الصدر هو القليل؛ أي أنّ الماء الكرّ لا ينجّسه ما ينجّس غير الماء الكرّ، فيكون المفروض في المستثنىٰ نجاسة القليل بالملاقاة، و قضيّة الإطلاق الأحواليّ عدم الفرق بين الحالتين.

أقول: بعد اللّتيّا و التي، لا يمكن تتميم الاستدلال؛ ضرورة أنّ كلمة «شي ء» و إن كانت كناية عن عنوان النجس، و مفهوم النجس و إن كان يقتضي مفهوم الغير، و مقتضى لزوم الربط بين المستثنىٰ منه و المستثنىٰ و إن كان هو الضمير العائد إلى المستثنىٰ منه، و لكنّ الكلام سيق لإفادة أنّ ما ينجّس غير الكرّ لا ينجّس الكرّ و أمّا أنّ ما ينجّس غير الكرّ أيّ شي ء هو، و أنّ غير الكرّ الذي يتنجّس به ما هو؟ فهي ساكتة عنه، و لا بدّ من المراجعة إلى الدليل الآخر، فكما لا يستفاد منها عناوين النجاسات، كذلك لا يستفاد منها ما يتنجّس بها من سائر الأشياء، و التي ثبتت بالنصوص غير القليل، و أمّا هو فهو أوّل الكلام.

الوجه الرابع: النصوص المستدلّ بها عليها
اشارة

و هي كثيرة:

فمنها: و هي عمدتها ما رواه الشيخ في «الخلاف»، و الصدوق في «المقنع» «1» على عادته، و الشهيد في «الذكرى»، و المحقّق في

______________________________

(1) الخلاف 1: 179، المسألة 135، المقنع: 18.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 113

«المعتبر» «1» عن العِيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وَضوء.

فقال: «إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه».

و في «الخلاف»: «و إن كان من وَضوء الصلاة فلا بأس» «2».

و قد استظهر

الوالد مدّ ظلّه، صحّةَ سنده «3»؛ لظهور رواية الشيخ عن كتابه، و طريقه إليه حسن، بل صحيح كما يظهر من «الفهرست» و صرّح بحسنه «الحدائق» «4» و غيره «5»، و يؤيّده وجود مضمونها في «المقنع» جدّاً، فلا يضرّ إضماره.

و الذي هو الأقوىٰ: أنّ الرواية مطعونة؛ و ذلك لأنّ الشيخ مع نقلها في «الخلاف» و هو الكتاب الذي ألّفه في شبابه أعرض عنها في «المبسوط» و أفتى بالطهارة كما عرفت «6»، أو فصّل بين الاولىٰ و الثانية في موضع آخر منه «7»، و لأنّه مع عثوره عليها تركها في «التهذيبين» و هذا شاهد علىٰ عدم وجود الكتاب عنده، بل هو من مسموعاته عن مشايخه، فظاهر النسبة و إن كان يقتضي كون الرواية من كتابه، و لكنّه يضعّف بما أُشير إليه.

______________________________

(1) ذكرى الشيعة: 9/ السطر 17، المعتبر 1: 90.

(2) وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.

(3) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 53 (مخطوط).

(4) الحدائق الناضرة 1: 479.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة: 61/ السطر 19.

(6) تقدّم في الصفحة 100.

(7) مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 9، المبسوط 1: 36.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 114

هذا، و في طريقه إلى العِيص، ابن أبي جيد، و هو عليّ بن أحمد القمّي غير المذكور بمدح و لا ذمّ صريحاً، هكذا أفاده النوريّ (رحمه اللّٰه) في «الخاتمة» و الأردبيليّ (رحمه اللّٰه) في «جامعه» «1».

و في فتوى الصدوق بمضمونها قوّة، و لكنّها غير كافية.

مع أنّ كثيراً من الأعلام، حملوها على الغُسالة التي فيها عين النجاسة «2»، و لكنّها خارجة عن الإنصاف؛ لأنّ البول إذا يبس ينقلب بالبخار، و لا يبقىٰ منه الأثر العينيّ إلّا

أحياناً، و مقتضى الإطلاق عدم الفرق.

و منها: معتبر عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً، كيف يغسل، و كم مرّة يغسل؟

قال: «ثلاث مرّات: يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ منه ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ منه، و قد طهر ..» «3».

و قد يشكل في سندها؛ لأجل أحمد بن يحيىٰ، و في دلالتها بأنّ الأمر بالإفراغ في المرّة الثالثة، لا يدلّ على النجاسة؛ لعدم التزام الأصحاب كثيراً بوجوب الكيفيّة المذكورة في غسل الإناء، فلعلّه للتنزيه غايته، و التنظيف نهايته.

و لو سلّمنا بأنّ أحمد بن يحيىٰ هو ابن الحكيم الثقة؛ لإمكان ذلك،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 509/ السطر 2، جامع الرواة 2: 509.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 375، مهذّب الأحكام 1: 261.

(3) تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 3: 496 497، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 115

أو المقرئ؛ لرواية البَزَنْطيّ عنه «1»، أو قلنا: بأنّه محمّد بن يحيىٰ، كما في بعض نسخ «التهذيب» فلا نسلّم تماميّة دلالتها؛ لما مرّ، مع أنّ صدق «الغسل» في نظر الشرع، ربّما كان متوقّفاً على الإفراغ، فتدبّر.

و منها: ما في «التهذيب» بسند معتبر، عن سَماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل، فليفرغ علىٰ كفّيه فليغسلهما دون المرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، ثمّ ليصبّ علىٰ رأسه ثلاث مرّات مل كفّيه، ثمّ يضرب بكفّيه من ماء علىٰ صدره، و كفّ بين كتفيه، ثمّ

يفيض الماء علىٰ جسده كلّه، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس» «2».

تقريب الاستدلال واضح، و الجواب أوضح؛ ضرورة أنّه لو كان يأمر بغسل الفرج وحده، كان لاستفادة النجاسة وجه، و أمّا الضمائم المزبورة فتضرّ بها، كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 115

و منها: ما مرّ عن عبد اللّٰه بن سِنان، من الحديث المستدلّ به علىٰ ممنوعيّة استعمال المستعمَل في الغسل «3»، على التقريب الذي أشرنا إليه هناك، و ذكرنا أنّ نفي جواز استعماله في الوضوء، و إن كان ظاهراً في نجاسة غُسالة الثوب المفروض فيها، أو غُسالة غسل الجنابة؛ لابتلاء

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 348/ 1251.

(2) تهذيب الأحكام 1: 132/ 364، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 116

الجنب بالنجاسة غالباً، و لكن ذلك ظهور معلّق علىٰ عدم وجود القرائن المتّصلة أو المنفصلة، كما في نفي جواز الصلاة في عرق الجنب من الحرام «1»، فلا تخلط.

و منها: المآثير الواردة في غُسالة الحمّام الناهية عن الاغتسال منها «2»، و لو لا نجاستها لما كان وجه للنهي.

و أنت خبير: بأنّ المراد من تلك «الغسالة» هي الغسالة المجتمعة في بئر و بالوعة، كما في موثّق ابن أبي يعفور، قال: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام» «3» لعدم معهوديّة الاغتسال بغسالة الحمّام

حال جريانها على سطحه، و تلك الغسالة من المياه الكثيرة التي أمرها دائر بين تغيّرها بالنجاسة، أو كونها غير نظيفة جدّاً، فلا يكون النهي عنها مولويّاً، و لا إرشاداً إلى النجاسة لأجل كونها غسالة، فراجع الباب الحادي عشر من أبواب الماء المضاف، حتّى تكون علىٰ بصيرة.

هذا مع أنّ الغسالة المزبورة لو كانت قليلة، ففيها من أعيان النجاسة لتعارفها، فلا تفي بالمقصود.

نعم، بناءً علىٰ كونها هي الماء الجاري علىٰ سطوح الحمّامات، فإنّ من الناس من يأخذها و يغتسل بها، فربّما يستظهر منها النجاسة، و لكنّها غير تامّة؛ لأنّ عدم المطهّرية أعمّ من النجاسة كما عرفت، فلا تغفل.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 85.

(2) وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11.

(3) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 117

تذنيب: في أدلّة أُخرى علىٰ طهارة الغسالة

تحصّل إلى هنا: أنّ الغسالة طاهرة، من غير فرق بين الاولى و الثانية.

و الذي يؤيّد ذلك، بل و تدل عليه، الروايات الكثيرة المذكورة في الباب التاسع من أبواب المضاف و المستعمل، الظاهرة في أنّ إصابة الماء لما في الإناء، لا تورث وجوب الاجتناب، مع أنّ بدن الجنب نجس غالباً جدّاً «1».

و ممّا يشهد لذلك، أنّ المسألة ممّا يكثر الابتلاء بها، و لا معنىٰ لخفائها على الأصحاب الأقدمين، و لا وجه لإثبات مثلها بالروايات النادرة الضعيفة، فإنّه كان ينبغي اشتهارها من الزمن الأوّل، فهذا شهادة قويّة علىٰ طهارتها.

مع أنّ الالتزام بنجاسة الغسالة، يستلزم بعض ما لا ينبغي، مثلًا في الإناء المذكور إذا كانت غسالتها نجسة، فهي ليست نجسة، و هذا خلاف القاعدة.

أو هي نجسة، و لكنّها مطهِّرة، و هي خلاف

القاعدة.

أو هي إذا خرجت تكون نجسة، و الباقي في أطراف الإناء طاهراً.

و من العجيب التزامهم بأنّ الغسالة الموجودة في الثوب نجسة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 118

فإذا عصر الثوب يخرج النجس من خلاله، و يورث نجاسة المحلّ، و لا تورث نجاسة الثوب!! و لا مانع من أن يقال: بأنّ الماء يحمل النجاسة من الثوب إلى المحلّ، و نتيجة ذلك طهارته، و نجاسة ذاك، و لكنّ الموضوعات المستبعدة العرفيّة، لا تثبت بالمآثير النادرة المزبورة.

نعم، قياس النجاسة الشرعيّة بالعرفيّة، يؤدّي إلى الالتزام بنجاسة الغسالة، و لكنّه قياس مع الفارق؛ لأنّ تنفّر الطباع عنها، لا يستلزم وجوب غسل العباء مثلًا من قطرتها المصيبة لها، كما لا يخفى، و ليس عند العقلاء في القذارات ما يجتنبون عنه من جميع الجهات على الوجه المعتبر في الشرع، و لا دليل شرعيّ يقتضي كون القذر العرفيّ نجساً شرعيّاً؛ أي كونه موضوعاً لجميع الأحكام الإلزاميّة الشرعيّة.

هذا، و يؤيّد الطهارة، أنّ تطهير أعلى البدن بالماء القليل غير ممكن؛ لسرايتها إلىٰ أدناه، و من الأدنى إلى الأدنى، فلا بدّ من تطهير جميع البدن، و لا سيّما في النجاسة البوليّة مكرّراً، حتّى يطهر نقطة من أعلاه، و هذا شاهد علىٰ ما ذكرناه.

التمسّك ببعض أخبار الاستنجاء على طهارة الغسالة

و في أخبار الاستنجاء ما يدلّ عليها على التقريب الذي مضى منّا «1»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 104 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 119

و فيها أيضاً معتبر محمّد بن النعمان الأحول، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: أستنجي، ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب؟

فقال: «لا بأس به» «1».

و مع المراجعة إلىٰ حال أبي

جعفر (شاه) الطاق؛ محمّد بن نعمان الأحول، الذي يعدّه المخالفون شيطان الطاق، و الشيعة تلقّبه ب «مؤمن الطاق» و أنّه كان متكلّماً حاذقاً، حاضر الجواب، صاحب التأليف «2»، تطمئنّ النفس بأنّ المراد من سؤاله، الاستنجاء من المنيّ، و إلّا فلا معنىٰ لقوله: «و أنا جنب» لعدم وجه لتوهّم مدخليّة حالته النفسانيّة في ذلك، فكأنّه كان جنباً، و فرجه ملوّثاً بالمنيّ فبال، فسأل عن ذلك، فأُجيب: بنفي البأس، و لو كان الحكم مخصوصاً بالاستنجاء، لما كان وجه لذلك كما لا يخفى.

فالقول بالطهارة في مفروض المسألة هو الأقوىٰ، و الإشكال في كلّ واحد من المؤيّدات و المذكورات و إن كان ممكناً خصوصاً في روايات الاستنجاء و لكن قصور أدلّة النجاسة كافٍ لما هو المختار تبعاً «للجواهر» (قدّس سرّه) «3»، و كفانا فضلًا ذهابه إليها، فلا تغفل.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 86/ 227، وسائل الشيعة 1: 222 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

(2) جامع الرواة 2: 208.

(3) جواهر الكلام 1: 344.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 120

الوجه الخامس: دعوى الإجماع و الاتفاق

و هي ساقطة لما عرفت، مع أنّ القدر المتيقّن منه، ما إذا كانت العين القذرة موجودة في الغسالة، و تكون الغسلة المزيلة باقية فيها العين.

هذا، و مدّعيه العلّامة (رحمه اللّٰه) «1»، و الإجماع في كتبهم في غير هذه المسألة غير نافع، فضلًا عن هذه المسألة، مع أنّه قوّى نجاستها في «التذكرة» «2» و هو ينافي الإجماع.

و توهّم: أنّ استثناء الاستنجاء في كلامهم، شاهد على أنّ الغسالة من غيره نجسة، في محلّه، و لكنّه ليس في كلام القائلين بالطهارة، مع أنّ خصوصيّة المستثنىٰ، تدلّ علىٰ أنّ مفروض كلامهم وجود العين النجسة في الغسالة، فما استشهد به الهمدانيّ

(رحمه اللّٰه) في المقام «3»، لا يخلو عن غرابة.

تنبيه: في تقديم أخبار طهارة الغسالة على غيرها عند التعارض

لو سلّمنا دلالة الأخبار في المسألة على النجاسة و الطهارة، فلا يمكن الجمع بينهما بحمل بعضها على الغسلة الأُولىٰ، و الآخر على الثانية؛ لعدم الشاهد عليه، فتصل النوبة إلى علاجها، و يتعيّن

______________________________

(1) تحرير الأحكام: 6/ السطر 9.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 36.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 61/ السطر 11 و ما بعده.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 121

المراجعة إلىٰ ما يدلّ على الطهارة؛ لموافقتها للكتاب، و مخالفتها للعامّة؛ فإنّ النجاسة قول أبي حنيفة و بعض الشافعيّة «1»، بل و هو قول الشافعيّ؛ لذهابه إلى النجاسة في الأُولىٰ «2»، و هذا يقتضي نجاستها فيما لا يحتاج إلى التكرّر.

فصل في ماء الاستنجاء
اشاره

و المراد منه يأتي تفصيلًا في طيّ المباحث الآتية إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و الذي ينبغي أن يشار إليه: هو أنّ القائل بطهارة الغسالة، لا يكون في مخلص هنا؛ لأنّ ماء الاستنجاء الذي هو مورد البحث، الماء الذي يكون فيه عين النجاسة و القذارة، و قد مرّ أنّه نجس في تلك المسألة «3».

نعم، ربّما يخطر بالبال دعوى: أنّ المراد من «ماء الاستنجاء» هو المستعمل لرفع خباثة البول أو الغائط الذي استنجي منه بالأحجار قبله، حتّى لا يبقى عين العَذِرة في الماء، فتكون هذه الغسالة كغسالة سائر النجاسات طاهرة شرعاً.

______________________________

(1) لاحظ المغني، ابن قدامة 1: 21/ السطر 12، المجموع 1: 158/ السطر 15.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 37.

(3) تقدّم في الصفحة 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 122

و لكنّه مشكل إثباته حسب ما يتراءىٰ من الأدلّة كما سيأتي ذكرها، فما في «العروة الوثقىٰ» من اشتراط الأمر الخامس في طهارة ماء الاستنجاء «1» و هو عدم وجود الأجزاء المرئيّة في غير محلّه، و إلّا فنحن في مخلص.

محتملات حكم ماء الاستنجاء

فبالجملة: بناءً على الأعمّ كما هو الأظهر، فهل هو نجس؟ قضاءً لحقّ القواعد الأوّلية، و وفاقاً لجماعة ك «المعتبر» و الشهيد «2»، و إليه كان يميل الوالد المحقّق- مدّ ظلّه و إن أيّد القول بالطهارة في تقريراته «3».

و قضيّتها ترتيب جميع آثار النجاسة الشرعيّة حسب أدلّتها، إلّا ما خرج بالدليل، كجواز الصلاة في الثوب الملاقي، و أمّا طهارة الثوب بحيث كان يجوز شرب الماء الملاقي معه فهي ممنوعة، إلّا بدعوى اقتضاء الأدلّة إيّاها، و هذا هو معنى «العفو» المزبور في كلماتهم.

و أمّا الاحتمالات الأُخر في المراد من «العفو» ككونه معفوّاً عنه من جميع الجهات «4»، فهو لا يساعد مع اعتبار

النجاسة في الشرع كما لا يخفى.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 47 48، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.

(2) المعتبر 1: 90، ذكرى الشيعة: 9/ السطر 9.

(3) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 55 (مخطوط).

(4) مفتاح الكرامة 1: 94/ السطر 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 123

أو كونه معفوّاً عنه في جميع الجهات، إلّا رفع الحدث و الخبث «1»، فهو أيضاً غير موافق للاعتبار.

أو هي طاهرة شرعاً و نتيجتها جواز ترتيب جميع آثار الطهارة و أحكامها الغيريّة و النفسيّة إلّا ما خرج بدليل خاصّ، كلّ ذلك بناءً علىٰ ثبوت الإطلاق في أدلّة أحكام النجاسات، و هذا هو رأي الأكثر، و عليه الفتاوىٰ بظاهرها من القديم و الجديد «2»، و هو المستفاد من كلمات المخالفين «3».

أو يفصّل بين المستعمل في البول فينجس، و المستعمل في الغائط فيعفو، أو يكون طاهراً على الخلاف في المراد من «الاستنجاء» في الأخبار و بحسب كتب اللغة و آراء اللغويّين.

أو يقال: بالتفصيل الذي احتملناه؛ و هو أنّ ماء الاستنجاء إن كان من قبيل الغسالة فهو طاهر، و إن كان مندرجاً في أدلّة انفعال القليل بأن تكون العين النجسة موجودة فيه فهو نجس «4»، فلا يكون مخصوصاً بحكم إلّا على القول بنجاسة الغسالة.

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 125.

(2) شرائع الإسلام 1: 8، تذكرة الفقهاء 1: 37، مجمع الفائدة و البرهان 1: 288 289، مستند الشيعة 1: 96.

(3) المغني، ابن قدامه 1: 21.

(4) تقدّم في الصفحة 121.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 124

مفاد المآثير الواردة في ماء الاستنجاء

إذا عرفت ذلك، فلا بدّ من النظر إلى روايات المسألة، حتّى يتبيّن الحقّ من بين تلك المحتملات.

فمنها: ما رواه «الكافي» و «التهذيب» بسند معتبر

عن الأحول، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أخرج من الخلاء، فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به.

فقال: «لا بأس به» «1».

و رواه «الفقيه» و زاد: «و ليس عليك شي ء» «2».

و في دلالتها على الطهارة إشكال؛ لأنّ الظاهر رجوع الضمير في قوله: «لا بأس به» إلى الثوب، و يؤيّده ما في «الفقيه» من قوله: «و ليس عليك شي ء» بل ربّما يؤيّد هذا التعبير نجاستها، كما لا يخفى.

و في خروجه من الخلاء و استنجائه خارجه، دلالة علىٰ أنّ العين القذرة ليست في الماء، و احتمال كونها في الموضع و بقائها بعد الزوال في الماء بعيد؛ لأنّ المتعارف في منطقة السائل خلافه، و بالرجوع إلىٰ وضع حال تلك المنطقة، يظهر أنّ المحلّ و المقعد ليس ملوّثاً بعين النجس و العَذِرة، بل من المحتمل قويّاً بناؤهم على الاستنجاء بالأحجار

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 5، تهذيب الأحكام 1: 85/ 223، وسائل الشيعة 1: 221 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1.

(2) الفقيه 1: 41/ 162.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 125

أوّلًا؛ لئلّا تتلوّث ثيابهم، ثمّ التطهير بالماء، فلا يستفاد من ترك الاستفصال في خصوص هذه الرواية شي ء.

و منها: «العلل» بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل من أهل المشرق عن العنز، عن الأحول «1» و في «الوسائل»: عن الغير أو عن الأحول قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال: «سَل ما شئت» فارْتجت عليّ المسائل.

فقال: «سَل، ما بدا لك».

فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي، فيقع ثوبه في الماء الذي يستنجي به.

فقال: «لا بأس».

فسكت فقال: «أ وَ تدري لِمَ صار لا بأس به؟».

قلت: لا و اللّٰه جعلت فداك.

قال: «إنّ

الماء أكثر من القذر» «2».

و في سنده مضافاً إلى القطع، اختلاط، و لو كفانا رواية يونس بن عبد الرحمن- لكونه من أصحاب الإجماع، مع إشكال فيه خصوصاً «3» فهو، و إلّا فالرواية ساقطة، مضافاً إلى اشتمالها على التعليل المعرض عنه. هذا بحسب فهم الأصحاب.

______________________________

(1) علل الشرائع: 287/ 1.

(2) وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.

(3) لاحظ تنقيح المقال 3: 338/ 13357، معجم رجال الحديث 20: 209.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 126

و أمّا علىٰ ما شرحناه «1»، فإنّ هذه الرواية تبعد تعدّد سؤال الأحول منه (عليه السّلام) فتكون واحدة، و هو تارة: نقلها بتمامها، و أُخرى: نقلها مختصراً مع حذف بعض الخصوصيّات؛ لرعاية حالات الراوي و السائل عنه، أي الأحول. فهي معتبرة.

و لكنّها قاصرة عن الدلالة على الطهارة؛ لأنّ مفروض السؤال خروجه من الخلاء، و قضيّة التعليل أنّه استنجىٰ من البول؛ لما مرّ من أنّ أكثريّة الماء وزناً و مقداراً، لا تورث رفع النجاسة، فهي الأكثريّة بمعنى الغلبة «2»، و هي لا تتصوّر إلّا في الاستنجاء بالبول، و تكون إشارة إلىٰ قوله (عليه السّلام): «مثلَي ما على الحشفة» «3» فإنّه كما يشير إلىٰ قاهرية الماء علىٰ ما على الحشفة، فهذه أيضاً مثلها، أو تكون الأجزاء الملتصقة بمحلّ الغائط، فانية في الماء المستنجى به، فلا يكون الماء الوارد عليه متنجّساً به، كما عرفت في الغسالة «4».

هذا، و نفي البأس الظاهر في نفيه عن المسئول عنه و هو الثوب أعمّ من الطهارة.

و منها: ما رواه «التهذيب» بسند معتبر، عن محمّد بن نعمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال قلت له: أستنجي، ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب.

______________________________

(1)

تقدّم في الصفحة 105 106.

(2) تقدّم في الصفحة 105.

(3) تهذيب الأحكام 1: 35/ 93، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 26، الحديث 5.

(4) تقدّم في الصفحة 105.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 127

فقال: «لا بأس به» «1».

و هذا هو الأحول أيضاً، كما عرفت تفصيله.

و في كونها رواية ثالثة إشكال؛ لاتّحاد الموضوع و السائل و المسؤول منه، و الظاهر وحدتها، و في قوله: «و أنا جنب» أيضاً شهادة علىٰ أنّ الاستنجاء كان من البول؛ لما مرّ تفصيله، مع ما عرفت من قصور دلالتها على الطهارة «2».

و منها: ما رواه «التهذيب» بسند معتبر، عن عبد الكريم بن عُتْبة الهاشميّ، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجىٰ به، أ ينجّس ذلك ثوبه؟

فقال: «لا» «3».

و هي ظاهرة بدواً، في أنّ الاستنجاء كان من الغائط، و قضيّة ترك الاستفصال عدم الفرق بين حالين: حال وجوده في الماء، و عدمه، و ظاهر الذيل طهارة الماء؛ لأنّ المتفاهم العرفيّ أنّ المنجَّس ينجِّس، و إذا قيل: «هو لا ينجس» فهو كاشف عن انسلاب موضوعه، فيكون طاهراً في نظر الشرع.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 86/ 227، وسائل الشيعة 1: 222 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

(2) تقدّم في الصفحة 105.

(3) تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 128

توهّم اختصاص الاستنجاء بغسل موضع الغائط و جوابه

إن قلت: الاستنجاء من النجو؛ و هو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط، فلا وجه لإرادة البول منه، و لذلك ألحقوه به حكماً؛ للغلبة و أمثالها.

قلت: قال في «الأقرب»:

«استنجىٰ منه استنجاءً خلص، و الشجرةَ قطعها من أُصولها، و حاجته منه استخلصها، و الرجلُ غسل موضع النجو، أو مسحه بالحجر أو المَدَر «1».

و الأوّل: مأخوذ من استنجاء الشجرة؛ لأنّه يزيل الأثر.

و الثاني: من استنجاء النخلة؛ لالتقاط رطبها، لأنّ المسح لا يقطع النجاسة، بل يبقي أثرها، انتهىٰ ما في «المصباح» انتهىٰ «2».

و بعد المراجعة إلىٰ موارد الاستعمال في الأخبار، يعلم أنّ الاستنجاء المستعمل في المآثير، ليس مأخوذاً من النجو، أو يكون استعماله في الأعمّ إلىٰ حدّ صار متعارفاً، فعن عمّار الساباطيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء، يبدأ بالمقعدة أو الإحليل؟

قال: «بالمقعدة، ثمّ الإحليل» «3».

و عنه أيضاً يقول: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: «لو أنّ رجلًا أراد أن

______________________________

(1) أقرب الموارد 2: 1276.

(2) المصباح المنير: 72.

(3) الكافي 3: 17/ 4، وسائل الشيعة 1: 323، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 14، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 129

يستنجي من الغائط ..» «1».

و هكذا ممّا يشهد على الأعمّية في محيط الروايات، فتأمّل «2».

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ الروايات الثلاث واحدة، و لا ظهور لها في أنّ موردها كان من ماء الاستنجاء بالمعنى الأخصّ الذي هو المقصود هنا من إثبات طهارته.

عدم شمول معتبر الهاشمي لصورة وجود أجزاء الغائط في الماء

و يبقى المعتبر الأخير، و في إطلاقه نظر؛ لأنّ ترك الاستفصال المؤدّي إلى الإطلاق، مشروط بعدم انصراف، و هذا هنا غير معلوم؛ لأنّ احتمال تعارف كون محلّ الغائط و الاستنجاء متعدّداً قريب، و قضيّة التعليل في الرواية السابقة «3»، ظهور هذه الرواية في الاستنجاء البوليّ، أو الغائط الذي غلب عليه الماء، و يكون أكثر منه.

فبالجملة: الذي هو الأوفق بالقواعد، أنّ غسالة الاستنجاء كغسالة

سائر النجاسات تكون طاهرة، بشرط عدم وجود عين النجس في الماء و الغسالة، و إلّا فهو نجس، فلا خصوصيّة لماء الاستنجاء.

و أمّا اختصاصه بالسؤال، فهو لأجل شدّة الابتلاء به و وقوع الثوب

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 201/ 789، وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 10، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 209/ 606، وسائل الشيعة 1: 357 358، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 35، الحديث 2.

(3) تقدّم في الصفحة 125.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 130

فيه؛ لعدم الوسائل المتعارفة في اليوم.

تذييل: في أنّ العفو عن ماء الاستنجاء خاصّ لا عامّ

قضيّة ما تقرّر هي النجاسة، و عدم العفو عن الملاقي فيما يشترط فيه الطهارة، و مع قطع النظر عمّا أبدعناه، فهل في مفروض المسألة يكون طاهراً، أو نجساً؟

لا يبعد قوّة القول الثاني، مع العفو في خصوص الملاقيات علىٰ وجه خاصّ؛ و هو عفوها فيما يشترط فيه الطهارة شرعاً كالعبادات.

و أمّا جواز شرب الماء الملاقي له، أو الملاقي للثوب الملاقي، فهو أيضاً ممنوع؛ و ذلك لأنّ مقتضى الروايات الثلاث ليس إلّا العفو، و قضيّة الرواية الأخيرة و إن كانت الطهارة، و لكنّها إذا قيست على الأدلّة الناطقة بالنجاسة في القليل، و إذا لوحظت الطريقة العقلائيّة في القذارات، لا يستظهر منها إلّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع؛ ضرورة أنّ الشرع لا يتّخذ سبيلًا خاصّاً في التنجيس، و إذا كانت المياه القليلة- حسب الأدلّة الأوّلية نجسة، فلا يستفاد من هذه المآثير الخروج التخصيصيّ؛ لقصورها، بل غاية ما يستفاد منها جواز ترتيب آثار الطهارة، كما لا يستفاد منها تصرّف الشرع في منجّسية الأنجاس.

فإذا كانت المسألة علىٰ مبنى العفو، فلا يجوز سائر الاستعمالات، من غير فرق بين نفس الماء، و بين ملاقياته، إلّا

جواز الاستفادة من ملاقياته فيما يشترط فيه الطهارة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 131

بل في إلغاء الخصوصيّة بالنسبة إلى استعمال ملاقيه في رفع الخبث و الحدث إشكال، فضلًا عن نفسه.

و الظاهر أنّ هذا العفو مخصوص بالمستنجي، فلا عفو بالنسبة إلىٰ غيره؛ لأنّ المتفاهم العرفيّ كون الحكم تسهيليّاً علىٰ مبنىٰ قاعدة نفي الحرج، و هذا مخصوص به، و لا يشمل غيره، فلو أصاب ثوب غيره بماء استنجىٰ به الآخر، فلا يجوز فيه الصلاة حسب القواعد و الصناعة العلميّة بالقطع و اليقين.

توهّم عموم رواية الكاهلي و الجواب عنه

و أمّا توهّم دلالة الرواية التي نقلها «الوسائل» بسند معتبر عن الكاهليّ، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت: أمرّ في الطريق، فيصبّ عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّأون.

قال: «لا بأس، لا تسأل عنه» «1».

بناءً علىٰ كون المراد من «الوضوء» الاستنجاء كناية، كما أفاده (قدّس سرّه) «2»، فهو في غاية الوهن؛ لعدم معلوميّة وجه نفي البأس، و قد مرّ أنّ ذلك كما يحتمل كونه لأجل طهارته، أو معفويّته بالنسبة إلى الكلّ، يمكن أن يكون لأجل اشتباهه في الموضوع، فإنّ المراد من الموضوع ليس الاستنجاء، بل المراد أنّه يلازمه طبعاً و استظهاراً، فنفى البأس عنه، و نهى

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 3.

(2) نفس المصدر، ذيل الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 132

عن السؤال؛ لإلقائه في الشبهة، و اللّٰه العالم.

فما تسلّمه الأصحاب (رحمهم اللّٰه) على العفو: بأنّه معفوّ مطلقاً، أو معفوّ في غير استعماله في رفع الحدث، أو هو و الخبث «1»، غير متين، بل قضيّة العفو هو الجمود علىٰ مقدار الدليل، و هو قاصر عن شمول أزيد

ممّا شرحناه، فتدبّر تعرف.

تنبيه: حول مسلك الشيخ الأعظم في نجاسة الماء دون تنجيسه

قد سلك الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) مسلكاً، صار نتيجته نجاسة الماء، و عدمَ تنجيسه الثوب، و نتيجة ذلك طهارة الثوب، فيجوز شرب ما يلاقيه «2»، و أمّا على العفو فلا يجوز ذلك أيضاً عندنا، كما عرفت.

و غاية ما أفاد: «أنّ في المسألة عمومات ثلاثة:

أوّلها: أنّ النجس منجّس.

و ثانيها: المتنجّس منجّس.

و ثالثها: الماء القليل يتنجّس بملاقاة النجاسة.

و مورد النزاع هو ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء، فإن قلنا: بطهارة ماء الاستنجاء، لزمنا رفع اليد عن العموم الأوّل، و إن قلنا: بنجاسة الماء و طهارة الثوب، لزمنا رفع اليد عن العموم الثاني.

______________________________

(1) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 94/ السطر 29، مدارك الأحكام 1: 125، العروة الوثقىٰ 1: 46 47 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، الهامش 4 و 5.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري، 1: 346.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 133

و بعد العلم بلزوم رفع اليد عن أحدهما، يقع التعارض بين هذين العمومين، و بعد التساقط يرجع إلى العموم الثالث؛ و هو نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة.

و معنى هذا أنّ ماء الاستنجاء نجس، و لكنّه للأدلّة الخاصّة في المسألة لا ينجِّس شيئاً» انتهىٰ علىٰ ما في تقريرات بعض المعاصرين «1».

مناقشة ما أفاده الشيخ الأعظم (قدّس سرّه)

أقول: ليس الأمر كما أفاده؛ فإنّ العموم الثالث لا أصل له، ضرورة أنّ معنىٰ عموم منجِّسية النجس أو المتنجّس، هو انفعال الماء القليل بالملاقاة؛ لأنّه أحد الأشياء التي ينجّسها، فهاهنا عمومان طوليّان:

أحدهما: أنّ النجس منجّس.

و الثاني: أنّ المتنجّس منجّس.

و لا ريب: أنّ تخصيص الأوّل، لا يستلزم تخصيص الثاني، بل يلزم التخصّص و الخروج الموضوعيّ، فيدور الأمر بين تخصيص كلّ واحد بأدلّة المسألة بعد العلم بالخروج، و قد تقرّر عدم قيام الدليل العقلائيّ علىٰ تعيين أحد التخصيصين «2».

هذا، بل

التحقيق: أنّه لا عموم في المسألة إلّا واحد؛ و هو «أنّ النجس منجّس» و القول بتنجيس المتنجّس، يتمّ على القول: بأنّ

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 174 175.

(2) تقدّم في الصفحة 130.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 134

المتنجّس هو النجس لغةً و عرفاً، فيشمله العموم الأوّل، فينحصر العموم في المقام بواحد؛ و هو «أنّ النجس منجّس» فإن ثبتت نجاسة الماء المستنجى به، فيشمله العموم المزبور، و إلّا فلا بدّ حينئذٍ من المراجعة إلى الأدلّة المتكفّلة لصغرى الكبرى المزبورة.

و تلك الأدلّة بين ما يقتضي انفعاله، كأدلّة انفعال الماء القليل، و بين ما يقتضي لا انفعاله؛ و هي أدلّة المسألة، و حيث هي أخصّ من الاولىٰ، تصير النتيجة عدم ثبوت الصغرىٰ للعموم المذكور.

نعم، بناءً على ما عرفت منّا: من أنّ قضيّة الجمع بين أدلّة انفعال الماء القليل و ما ورد هنا، هو العفو «1»، فيثبت نجاسة الماء المستنجى به، و يكون منجّساً؛ لاندراجه تحت الكلّي المزبور، إلّا أنّ الشرع ألغىٰ شرطيّة الطهارة في الثوب و نحوه في الصلاة و نحوها، فيبقىٰ حكم نجاسته و منجّسية النجس، باقياً علىٰ حاله، فالعمومات الثلاثة رجعت إلى العموم الواحد غير المخصّص، و الذي هو المخصّص عموم شرطيّة طهارة الثوب و اللباس؛ فيما يشترط فيه طهارته، فافهم و اغتنم.

فما أفاده (رحمه اللّٰه) هنا و عقّبه أتباعه في كتبهم، كلّه خالٍ عن التحصيل، و الأمر سهل.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 130.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 135

بحث: هل يجوز رفع الحدث و الخبث بماء الاستنجاء بناءً على طهارته؟

بناءً علىٰ نجاسة ماء الاستنجاء، فعدم نفوذ استعماله في الخبث و الحدث واضح؛ لأنّ الطهارة شرط في مطهّرية المياه، كيف؟! و معطي الشي ء لا يكون فاقده.

و أمّا بناءً علىٰ طهارته، فهل يترتّب عليه

جميع أحكامها من الشرب و غيره كما قوّاه «الحدائق» و «المستند» «1» و احتمله الأردبيليّ (رحمه اللّٰه) و بعض آخر «2»؟

أو لا يترتّب عليه إلّا أحكام خاصّة، فلا يجوز رفع الحدث و الخبث به، و لا يجوز استعماله في الوضوء و الغسل المندوبين. نعم، لا يجب الاجتناب عن ملاقياته.

و لا أظنّ التزام أحد بعدم جواز استعماله في الخبث ثانياً، بل الظاهر أنّ ذلك من ثمرات الخلاف في طهارته و نجاسته، كما في «المدارك» و «المعالم» و «الذخيرة» «3».

أو يفصّل بين رفع الخبث و الحدث، و يلحق بالثاني الوضوء و الغسل المندوبين؟

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 469 و 477، مستند الشيعة 1: 97.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 289، جامع المقاصد 1: 129 130، مدارك الأحكام 1: 124.

(3) مدارك الأحكام 1: 126، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 95/ السطر 2، ذخيرة المعاد: 144/ السطر 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 136

و إليه ذهب الأصحاب «1»، و إن كان في الإلحاق المزبور خلاف، و قال «الجواهر» بجواز ذلك «2»، و منعه الشيخ «3»، و هو الظاهر من «المدارك» و غيره؛ لما عرفت أنّ ثمرة الخلاف عندهم استعماله ثانياً في رفع الخبث، فيعلم منه ممنوعيّة ذلك في الطهارة المعنويّة مطلقاً.

و الذي هو الأوفق بالقواعد الصناعيّة: ما أفاده «الحدائق» «4» لعدم رجوع الإجماعات المحكيّة إلىٰ محصّل، و ما استدلّ به الفقيه الهمدانيّ «5» من رواية ابن سِنان «6»، لا يرجع إلىٰ ما يركن إليه، مع ضعف سندها.

و أمّا الذي هو الأقرب إلىٰ فهم العرف و الذوق السليم: أنّ النظافة و الطهارة المعنويّة غير حاصلة بمثله «7» و لنعم ما أفاده الوالد المحقّق- مدّ ظلّه هنا فيما نسب إليه من

التقرير «و هو دعوى انصراف أدلّة الوضوء و الغسل المشروعين لحصول التنظيف مقدّمة لعبادة المعبود جلّ اسمه عن الوضوء و الغسل بماء الاستنجاء، بل ينكرون المتشرّعة على القائل به؛ بحيث

______________________________

(1) لاحظ العروة الوثقىٰ 1: 47 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 228، مهذّب الأحكام 1: 255.

(2) جواهر الكلام 1: 357.

(3) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 350.

(4) الحدائق الناضرة 1: 477.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة: 67/ السطر 2.

(6) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630.

(7) و الآن هو الليلة التاسعة عشرة من رمضان سنة 1388 (منه (قدّس سرّه)).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 137

يجعلونه كالأحكام المبتدعة. كما أنّه لا يبعد انصراف الأدلّة الواردة في التطهير من النجاسات عن التطهير بهذا الماء و أمثاله» «1» انتهىٰ.

و لقد مضى منّا بعض الجهات الأُخر المورثة لمنع طهوريّة الماء المستعمل في الأحداث، فضلًا عن هذا الماء «2».

و أمّا جواز شربه فهو مشكل؛ لأنّه يعدّ من الخَبائِث.

نعم، في حرمة كلّ خبيث عرفيّ إشكال أيضاً، فلا تغفل.

فصل هل يجوز رفع الحدث و الخبث بالغسالة بناء على طهارتها؟

بناءً علىٰ نجاسة الغسالة، فلا ريب في سقوط أحكامها؛ من رافعيّتها للحدث و الخبث.

و أمّا على القول بطهارتها كما هو الأقرب، فهل هي كغسالة الاستنجاء على القول بطهارتها، أم هي تختصّ بدليل؟

الظاهر هو الأوّل، فتأتي الوجوه المزبورة و الأدلّة المذكورة هنا من غير فرق.

نعم، قد يتوهّم: أنّ الإجماعات المحكيّة عن أساطين الفقهاء علىٰ

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني قدس سره) الفاضل اللنكراني: 58 (مخطوط).

(2) تقدّم في الصفحة 93.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 138

عدم رافعيّتها للحدث مصبّها هذا الماء، فهو القدر المتيقّن الذي لا بدّ من الالتزام به.

و أنت خبير: بأنّ هذا التقريب يستلزم وهن الإجماعات المنقولة؛ لاحتمال كون

ذلك من صغريات الإجماعات علىٰ عدم مطهّرية المنجّس، و لا يكون مخصوصاً بهذه المسألة، و هذا الاحتمال قويّ جدّاً، فلا يقتضي شي ء منها.

و من العجب، توهّم بعض المعاصرين كفاية رواية عبد اللّٰه بن سِنان الماضية عنها «1»؛ لدلالتها علىٰ ممنوعيّة الاستعمال في الحدث سواء كانت طاهرة أو نجسة بإلغاء خصوصيّة الوضوء «2»!! و أنت خبير: بأنّها مضافاً إلىٰ ضعف سندها بأحمد بن هلال «3»، و عدم انجبارها بالشهرة العمليّة غير تامّة دلالة؛ ضرورة أنّ ذيلها: «و أمّا الماء الذي يتوضّأ الرجل به، فيغسل وجهه و يده في شي ء نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به» قرينة على أنّ النظر إلى اعتبار النظافة العرفيّة في ماء الوضوء، من دون النظر إلى الاستعمال في الخبث أو الحدث.

مع أنّ المفروض في صدره أنّه قال: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 220 و 228.

(2) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

(3) أحمد بن هلال العبرتائي، كان غالياً، متهماً في دينه، و قد روىٰ أكثر أُصول أصحابنا.

لاحظ رجال النجاشي: 83/ 199، الفهرست، الشيخ الطوسي: 36/ 97.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 139

و قال: «الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز أن يتوضّأ منه و أشباهه» فإنّه ليس ظاهراً في الثوب المفروض نجاسته، و لا في مفروضيّة نجاسة البدن.

مع أنّ كلمة: «أشباهه» ظاهرة في رجوع الضمير إلى «الماء» أي أشباهه في الكثافة العرفيّة، فتسقط الرواية عن الاستدلال المقصود في هذه المواقف جدّاً.

نعم، هي شاهدة علىٰ ما أبدعناه: من قصور أدلّة مطهّرية المياه عن إثبات طهوريّة هذه

المياه؛ بعد كون الموضوعات عرفيّة.

مع أنّ دعوى الانصراف التي سمعت من الوالد المحقّق قريبة «1»، فلا ينبغي توهّم الملازمة بين الطهارة الشرعيّة و الطهورية العرفيّة، و لا يصحّ نسبة هذا إلى الشريعة المقدّسة المنزّهة عن جميع الأوساخ و الأنجاس، الظاهريّة و الباطنيّة.

فصل في شروط طهارة ماء الاستنجاء
اشارة

قد اعتبروا في طهارة ماء الاستنجاء شروطاً، نشير إليها إجمالًا و إن قد مضى أنّ ماء الاستنجاء لا يكون عندنا مخصوصاً بحكم «2»؛ لأنّ عين القذارة إن

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 136.

(2) تقدّم في الصفحة 123.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 140

كانت موجودة فهو نجس؛ قضاء لحقّ أدلّة انفعال القليل.

و احتمال كونه طاهراً؛ بدعوى التعارف الخارجيّ بين محلّ الغائط و الاستنجاء، أو التعارف الخارجيّ علىٰ بقاء عين الغائط في المحلّ، و بقائه في الماء، غير بعيد بدواً، و لكن الروايات الثلاث «1» التي عرفتها- بعد رجوعها إلىٰ واحدة اشتملت علىٰ فرض الخروج عن الخلاء، و هذا يورث قوّة احتمال كون المتعارف في زمن المآثير خلاف ذلك، أو كان كلا الأمرين متعارفاً، فلا يتمّ التمسّك بالإطلاق السكوتيّ في غيرها لترك الاستفصال، فتدبّر.

و إن كانت غير موجودة، فهو كالغسالة في الأحكام، و عليه تسقط المباحث الكثيرة التي أُشير إليها في الكتب المفصّلة و الفروع المختلفة، التي أشار إليها «العروة» و غيره «2». و لكن مع ذلك كلّه، لا بأس بالإشارة إلىٰ بعض الجهات اللّازمة.

فبالجملة: قد اشترط الأعلام شروطاً في المسألة:

فمنها: عدم تغيّره بالنجاسة

فإنّه مع التغيّر يصير نجساً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 221 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1 و 2 و 4.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 47 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء المسألة 2، مستند الشيعة 1: 96 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 141

و قد يشكل ذلك:

تارة: لأجل ما مرّ من الإشكال في نجاسة المتغيّر بالنجس؛ بمعنى أنّ الماء إذا لاقىٰ نجساً ثمّ تغيّر، و كان زمان التغيّر غير زمان الملاقاة، فهل هو ينجس أم لا؟

ظاهر جماعة نجاسته مع

فرض الاستناد «1»، و قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه طهارته «2»؛ لأنّ الماء المتغيّر بالنجس يتنجّس؛ لأجل تغيّره به و ملاقاته، و أمّا نفس التغيّر المستند إليه مع عدم الملاقاة حين التغيّر و بعده فلا يورث النجاسة، و الملاقاة السابقة غير كافية.

ففي المسألة إذا لاقىٰ ماء الاستنجاء مع نجاسة المحلّ، ثمّ بعد ذلك تغيّر، فنجاسته ممنوعة؛ لما عرفت.

و أمّا توهّم: أنّ المفروض في الشرط هنا، هو كون النجاسة موجودة فيه حال تغيّره، فهو فاسد؛ لأنّ ماء الاستنجاء عندهم نجس حينئذٍ و إن لم يتغيّر، كما يأتي في الشرط الخامس «3»، فهذا الشرط لا يكون مفيداً إلّا في الصورة السابقة.

و أمّا إذا تغيّر في المحلّ، و كان ذلك أي زمان التغيّر و الاتصال بالنجس واحداً، فإن كان ذلك متعارفاً في الأغلب، فلا بدّ من الالتزام

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 31 32 فصل في المياه، المسألة 14، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 103، مهذّب الأحكام 1: 152.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 115 و ما بعدها.

(3) يأتي في الصفحة 146 147.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 142

بطهارته؛ فراراً عن حمل الأدلّة على الأفراد النادرة.

و إن كان ذلك غير متعارف كما هو الظاهر، ففي هذه الصورة يمكن الالتزام بنجاسته.

و أُخرى: لأجل دعوى الإطلاق السكوتيّ في أخبار المسألة «1».

و توهّم دلالة التعليل علىٰ عدم تغيّره بها، في محلّه، و لكنّه في محلّ المنع سنداً و دلالةً «2».

و ثالثةً: لأجل عدم ثبوت نجاسة الماء المتغيّر بكلّ نجس، إلّا على القول باعتبار النبويّ «3»، و قد مضى سبيله سنداً و دلالة «4»، أو القول بإلغاء الخصوصيّة، و هو هنا ممنوع؛ فإنّ إطلاقات هذه المسألة مانعة عن إلغاء الخصوصيّة

في تلك المسألة.

فلو سلّمنا التعارض بين أدلّة نجاسة المتغيّر، و أدلّة طهارة ماء الاستنجاء، أو سلّمنا تقدّم تلك الأدلّة علىٰ هذه الأدلّة لجهات مذكورة في المفصّلات، و منها: تقدّم العموم على الإطلاق، علىٰ إشكال فيه أيضاً فلا نسلّم صغرى المعارضة بينهما، فتصير النتيجة العمل بهذه المآثير، فيكون الماء المتغيّر في الفرض المزبور طاهراً.

______________________________

(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 381.

(2) تقدّم في الصفحة 125.

(3) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(4) تقدّم في الجزء الأوّل: 116 و 137 و 189 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 143

و لكن بعد اللّتيّا و الّتي، ما هو الأظهر هي النجاسة؛ لأنّ الإطلاق السكوتيّ في مآثير هذه المسألة محلّ منع؛ و ذلك لما تقرّر أنّ من شرائطه عدم الغلبة و الانصراف «1»، و هو هنا ممنوع؛ ضرورة ندرة اتفاق تغيّر الماء بمجرّد الملاقاة مع نجاسة المحلّ، فيتعيّن المراجعة إلىٰ أدلّة نجاسة المتغيّر، و يتمّ إلغاء الخصوصيّة في تلك الأدلّة.

و منها: ما أفاده الشهيد (رحمه اللّٰه) في «الذكرى»

و هو ازدياد وزن الماء علىٰ وزن النجاسة «2»، و حكاه «المعالم» عن «نهاية» العلّامة «3»، و قرّبه الشيخ «4»؛ و ذلك لقوله (عليه السّلام): «لأنّ الماء أكثر من القذر» «5» و لا يتصوّر الأكثريّة إلّا بحسب الوزن، فلا بدّ منها في عدم الانفعال، و لا يكفي عدم زيادة وزنها عليه، و هذا هو الأنسب بكونه شرطاً، لا الفرض الأخير و إن نسب الثاني إليهم (قدّس سرّهم).

و أنت خبير: بأنّ التعليل إمّا ساقط كما عليه المتأخّرون «6»، أو يكون

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 288 289، تحريرات في الأُصول 5: 433.

(2) ذكرى الشيعة: 9/ السطر 11.

(3) لم نعثر على الحاكي،

انظر مفتاح الكرامة 1: 95/ السطر 19، نهاية الإحكام 1: 244.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 351 352.

(5) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.

(6) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 225 226، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 144

ناظراً إلى الأكثر في الغلبة، كما هو الأقرب عندنا، و قد مضى وجهه «1».

و هنا وجه آخر: و هو أنّ التعليل ناظر إلىٰ أنّ علّة عدم تنجّسه، عدم غلبة ريح العَذِرة على الماء، بل الماء غالب علىٰ ريح الجيفة، فلا يتنجّس، فكأنّ عدم تنجّسه بالملاقاة كان مفروضاً، و عدم تنجّسه بالتغيّر معلل بذلك.

فبالجملة: إنّ الأكثريّة لا تتصوّر بين المتباينين إلّا في الوزن، و لكن مورد التعليل هو الاستنجاء بالبول؛ لما عرفت «2»، فهذا تعليل لإفادة عدم انفعال الغسالة، من غير فرق بين الاستنجاء و غيره؛ لأنّ الماء غالب على النجاسة الزائلة به.

و منها: عدم وصول نجاسة إليه من خارج

و ذلك قضاءً لحقّ أدلّة انفعال القليل، و عدم ثبوت إطلاق في أدلّة المسألة.

و بعبارة اخرىٰ: روايات المقام متعرّضة لحكم حيثيّ، و لا ينبغي الخلط بين الحيثيّات.

نعم، علىٰ فرض الملازمة النوعيّة الخارجيّة بين محلّ الاستنجاء، و بعض النجاسات الأُخر، فلا بدّ من القول بطهارته، كما في صلاة الجماعة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 105.

(2) تقدّم في الصفحة 105 106.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 145

الذين كانوا يصلّون خلف يهوديّ من المدينة إلى خراسان، فإنّ تصحيح تلك الصلاة يلازم صحّتها جماعة؛ للزوم زيادة الركن في تلك المدّة الطويلة، أو غيره من الوظائف المتخلّف عنها المأموم، فإنّه لا معنىٰ إلىٰ أنّه حكم حيثيّ؛ ضرورة أنّ المستفتي يريد إعادة صلاته عند

التخلّف، و ترك الاستفصال يؤدّي إلىٰ تركها، كما لا يخفى.

و منها: عدم التعدّي الفاحش علىٰ وجه لا يصدق معه «الاستنجاء»

و هذا ليس من الشروط كما هو الواضح، و حكمه واضح. هذا على القول بنجاسة الغسالة.

و أمّا على القول بطهارتها، فلا حاجة إلىٰ رعاية هذا الشرط؛ لاشتراك ماء الاستنجاء و الغسالة في هذه الجهة، بعد لزوم مراعاة الشرط الآتي.

و لو شكّ في موضع أنّه تجاوز عن المحلّ أم لا، فإن قلنا: بإطلاق أدلّة الاستنجاء فهو، و إلّا فيرجع إلىٰ عموم أدلّة الانفعال، و قضيّة ما سلف منّا، أنّه لا إطلاق في أدلّة الاستنجاء إلّا إطلاقاً سكوتيّاً ناشئاً من ترك الاستفصال «1»، و قد تقرّر أنّ من شرائطه عدم الغلبة و الانصراف «2»، و هذا فيما نحن فيه ممنوع؛ ضرورة أنّ الغالب عدم التجاوز إلىٰ حدّ يشكّ في ذلك.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 129 و 140.

(2) تقدّم في الصفحة 143، الهامش 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 146

فما قد يقال: «من المراجعة إلى إطلاقات أدلّة الاستنجاء» ناشئ عن توهّم الإطلاقات اللفظيّة لها، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

و منها: أن لا يخرج مع البول و الغائط نجاسة أُخرى مثل الدم

و في كونه شرطاً وراء الشرط الأسبق منع.

و يدلّ عليه: أنّ أدلّة المسألة قاصرة، فأدلّة انفعال القليل محكّمة.

و قد يشكل: بأنّ قضيّة رواية محمّد بن نعمان الأحول الماضية «1»، أنّ النجاسة الخارجة ليست مورثة للمنع؛ لقوله فيها: «و أنا جنب» فإنّ المتفاهم العرفيّ كما مرّ وجهه «2» أنّه كان حين البول جنباً، و كان رأس إحليله ملوّثاً بالمنيّ، فعند ذلك و مع إلغاء الخصوصيّة، يكون طاهراً و لو كان الخارج دماً.

نعم، إذا كانت النجاسة من الخارج على الوجه الماضي في الشرط الأسبق «3»، فلا يمكن إلغاؤها؛ لأنّ خصوصيّة التسهيل في اعتبار طهارة ماء الاستنجاء، ملحوظة ظاهراً.

و قد يقال: بأنّ الدم الخارج إذا كان يعدّ من البول و الغائط

أي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 86/ 227، وسائل الشيعة 1: 222 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

(2) تقدّم في الصفحة 119.

(3) تقدّم في الصفحة 144.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 147

يقال: «إنّ بوله فيه الدم» أو «في غائطه الدم» فإنّه يكون طاهراً «1»؛ لإطلاق أدلّته، و ترك استفصاله عند السؤال، مع أنّه لو كان مورثاً لنجاسته، كان عليه ذلك.

و فيه ما عرفت: من أنّ التعارف شرط في لزوم السؤال «2»، و هو ممنوع في المثال المزبور، و هكذا إذا كان غائطه دماً؛ لخروجه عن المتعارف، و عدم ثبوت الإطلاق اللّفظيّ.

و منها: أن لا يكون فيه أجزاء من الغائط

و في عدّه شرطاً آخر إشكال، بل منع.

و يدلّ عليه: أنّ أدلّة المسألة، ناظرة إلىٰ ملاقاة الماء مع النجاسة في المحلّ، دون الغائط الخارجيّ و البول الخارجيّ، و أدلّة انفعال الماء القليل محكّمة، كما عرفت «3».

و قد يشكل: بأنّ المتعارف وحدة مكان الخلاء و الاستنجاء، فلو كان الماء المزبور نجساً، تلزم لغويّة اعتبار طهارته، أو العفو عن ملاقيه، و كيف ارتضوا بإلحاق ماء الاستنجاء من البول للغلبة و التلازم الخارجيّ بماء الاستنجاء من الغائط، و لا يكونون راضين بذلك؟! و إليه أشار

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 47 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.

(2) تقدّم في الصفحة 129.

(3) تقدّم في الصفحة 140.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 148

المحقّق الوالد- مدّ ظلّه «1».

و يمكن دعوى: أنّ ما هو اليوم متعارف هي وحدة المكان، و لكن المتفاهم من قول الأحول: «أخرج من الخلاء فأستنجي» «2» هو أنّ عادته كانت على الخروج، و لعلّ في تلك الأزمنة كانت الحفر المعدّة لذلك، غير مستعدّة للاستنجاء عليها بالماء، أو

لم تكن حفرة، بل كان يضع على المفازة، و لا يتمكّن من التطهير متعارفاً إلّا بالخروج عن محيط الخلاء، فعليه لا يمكن التمسّك بالإطلاق السكوتيّ، و لذلك قلنا: بعدم التفاوت بين الغسالة و ماء الاستنجاء، و قلنا: باشتراكهما في الحكم، و سقوط جميع ما أفاده القوم من رأسه هنا «3».

و منها: عدم خروج شي ء متنجّس معه

سواء كان متنجّساً بالعَذِرة، أو كان متنجّساً قبل البلع فخرج معها. و هذا أيضاً ليس شرطاً علىٰ حدة، إلّا أنّ الإشارة التفصيليّة إليه لإيضاحه لأرباب الفضل و طلّاب العلوم.

و استقواه «الجواهر» و أيّده الشيخ (قدّس سرّهما) «4» و منعه الآخرون، فقالوا

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 57 (مخطوط).

(2) الكافي 3: 13/ 5، وسائل الشيعة 1: 221 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1.

(3) تقدّم في الصفحة 129.

(4) جواهر الكلام 1: 357 358، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 352.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 149

بالطهارة في الفرض الأوّل، قائلين: «أنّ المتنجّس و إن كان كالمنجّس الأجنبيّ الذي عرفت نجاسة الماء به، و لكن قصور الأدلّة ممنوع عن شموله:

للغلبة أوّلًا.

و لكونه مغفولًا عنه ثانياً.

و لأنّ النجاسة الآتية من قبل الغائط، ليست أشدّ منه، فكيف يمكن الالتزام بأنّ ملاقاته مع العَذِرة لا تورث نجاسته، و لكنّ ملاقاته مع المتنجّس به تورثها؟!» «1».

و أنت خبير: بأنّ الإطلاق السكوتيّ، لا يكون سنداً إلّا في صورة الملازمة النوعيّة، و هي ممنوعة جدّاً كما هو المفروض؛ و هو كون الخارج غير ملوّث بالعين، بحيث كان هو في الماء، دون الأجزاء العينيّة من القذارة، لأنّه مع تلاصق تلك الأجزاء بتلك الأجسام الطاهرة الخارجة، لا يكون الماء عندهم طاهراً؛ لما مرّ من الشرط السابق، فعلى ما

تقرّر يقوىٰ ما سلكه العلمان في النظر.

و أمّا كونه مغفولًا عنه، فلا يفيد شيئاً.

و أمّا الوجه الثالث الذي استظهرناه من كلام والدي المحقّق- مدّ ظلّه ففيما كان مفروض المسألة ما ذكرناه، فلا معنىٰ للاستبعاد، و فيما كان مفروض المسألة ملاقاة الماء مع الجسم المتنجّس عند التطهير

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 238، مهذّب الأحكام 1: 265.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 150

و الإزالة؛ بحيث كان مع الجسم أجزاء القذر، حتّى يصدق «الاستنجاء» و إلّا فمجرّد ملاقاته معه في الباطن، لا يورث عندهم قذارته الشرعيّة.

فبالجملة: مفروض المسألة هو كون ماء الاستنجاء ملاقياً في المحلّ للجسم، و لا يبقىٰ فيه من أجزاء العَذِرة شي ء، بل تستهلك فيه، و هذا فرض غير قابل للاتفاق، و عند ذلك لا معنى للتمسّك بتلك الإطلاقات السكوتيّة، فلا تغفل.

و منها: سبق الماء على اليد

فلو انعكس فالأدلّة قاصرة، و أدلّة انفعال القليل محكّمة. و وجه القصور تعارف السبق.

و هذا شرط محكيّ عن العلّامة علىٰ ما قيل «1»، و لكنّ المتأخّرين غير راضين به «2»؛ لعدم التعارف المزبور إلّا بمقدار تعارف عكسه.

و الإنصاف: خلافه؛ ضرورة أنّ المراجعة إلى الوجدان، قاضية بأنّ استقذار الطبع، يؤدي إلى الاستباق إلى الماء، و قلّما يتّفق عكسه، فاليد المتنجّسة بالعَذِرة تؤثّر في نجاسة الماء؛ لكونها من النجاسة غير القائم علىٰ عفوها دليل.

و هنا وجه آخر لنجاسته: و هو أنّ اليد السابقة تتلوّث بعين

______________________________

(1) حكي هذا القول عن بعضٍ و لم نعثر على من عزاه إلى العلّامة و لا يوجد في كتبه، لاحظ مشارق الشموس: 254/ السطر 4، الحدائق الناضرة 1: 476، جواهر الكلام 1: 358.

(2) العروة الوثقىٰ

1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 3، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 384.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 151

العَذِرة، فلا تكون إزالتها عنها من الاستنجاء و إن كان يستنجىٰ بها أيضاً، فكأنّ هذه النجاسة من الخارج، فلا يكون هذا الشرط أيضاً شرطاً مستقلا.

نعم، يخطر بالبال دعوى: أنّ العرف لا يجد الخصوصيّة بين السبقين، و ينسب التوهّم إلى الوسوسة.

فتحصّل: أنّ قضيّة الإطلاق السكوتيّ، هو الأخذ بالقدر المتيقّن، إلّا في القيود الغالبيّة و المتعارفة، و إلّا في الموارد التي يصحّ فيها إلغاء الخصوصيّة. و مقتضى القواعد عند الشكّ في المتعارف، هو الأخذ بالقدر المتيقّن أيضاً.

و ممّا ذكرناه يظهر وجه النظر في صورة تقارن الصبّ و الملاقاة إشكالًا و جواباً، كما أنّ تمسّك الأصحاب (رحمهم اللّٰه) طرّاً بإطلاقات الأدلّة «1»، ساقط و غفلة كلّاً.

و منها: قصد الاستنجاء

فلو لاقت يده نجاسة المحلّ لأجل أمر آخر، ثمّ طرأ عليه قصد الاستنجاء، فلا يكون طاهراً؛ لما مرّ مراراً.

مع أنّ هذا ليس شرطاً؛ لأنّ معنى «الاستنجاء» هو القصد إلى الخلاص من النجو أو معنى أعمّ كما مرّ «2».

______________________________

(1) لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 385، مهذّب الأحكام 1: 265.

(2) تقدّم في الصفحة 128.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 152

و دعوىٰ: أنّ استباق اليد إلى المحلّ لأمر آخر في أثناء التخلية أو بعدها متعارف؛ لإمساس الحاجة كثيراً إليه، أقرب من دعوى استباق اليد إلى المحلّ من صبّ الماء بلا جهة تصفية، مع تنفّر الطباع عنه.

فالشرط المزبور الذي صدّقه الأعلام كلّهم «1»، ممكن إسقاطه إذا تعقّبه قصد الاستنجاء على الفوريّة العرفيّة.

بل الأمزجة اليبوسيّة كثيراً ما تحتاج إلى استعمال اليد في الفراغ،

و المعروف أنّ أمزجة الحجازيّين من أيبس الأمزجة، فعليه يشكل تصديق الشرط المزبور، و لكنّه أحوط جدّاً.

نعم، الملاقاة بغير التعقّب بالاستنجاء، أو مع التعقّب المتأخّر جدّاً، تورث نجاسة الماء، سواء أزال نجاسة يده بماء آخر، أو أزالها بماء الاستنجاء.

نعم، على القول بطهارة الغسالة، فلا عبرة بهذه الشروط، كما أُشير مراراً «2».

و منها: عدم الإعراض عن القصد المزبور

فلو أخلّ باستدامته، فإن رجع فوراً فهو، و إلّا ففي طهارته و نجاسته

______________________________

(1) لاحظ جواهر الكلام 1: 358، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353، العروة الوثقىٰ 1: 48، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 4.

(2) تقدّم في الصفحة 140 و 148.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 153

وجهان، بل قولان: ظاهر الشيخ في كتابه هو الأوّل «1»، و صريحه في «حاشية النجاة» الإشكال فيها، خلافاً للمعروف بين المتأخّرين «2». و الوجه طهارةً و نجاسةً واضح؛ لما عرفت «3».

و لو شكّ في ذلك، فمقتضىٰ ما تقرّر هو الأخذ بالقدر المتيقّن، إلّا على القول بسراية إجمال المخصّص و المقيّد إلى العامّ و المطلق، كما هو الأقوىٰ.

و لكن ربّما يتوهّم هنا، جريان استصحاب العفو عن النجاسة؛ لأنّه إذا قصد الاستنجاء، و لاقت يده نجاسة المحلّ، فهي نجاسة معفوّة غير مؤثّرة في الماء، و إذا أعرض يشكّ في ارتفاع عفوه «4»، فتأمّل.

و غير خفيّ: أنّ مقتضيات المباني في معفويّة هذه النجاسة أو غيرها مختلفة، و في النتيجة يشكل جريانه، كما لا يخفى.

و ممّا يؤيّد طهارته و إن عاد بتأخير إلغاء الخصوصيّة عرفاً، على الوجه الذي أُشير إليه «5»، و يتقوّى ذلك بالنظر إلىٰ أنّ مبنىٰ هذا الحكم، تسهيل الأمر على العباد، فليتدبّر.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 48، فصل في المياه، الماء

المستعمل في الوضوء، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 239، و لاحظ مهذّب الأحكام 1: 265.

(3) تقدّم في الصفحة 151 152.

(4) مهذّب الأحكام 1: 265.

(5) تقدّم في الصفحة 151.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 154

و منها: أن يكون المخرج طبيعيّاً بالذات أو بالعرض

و الدليل ما أشرنا إليه كراراً؛ من تماميّة أدلّة انفعال القليل، و قصور أدلّة المسألة عن شمول المخرج غير المعتاد.

و هذا الشرط هو المصرّح به في كلمات جملة من الأساطين، مع نفيهم الفرق بين الطبيعيّ و بين غير الطبيعيّ الذي صار عاديّاً «1».

و قد يقال: بأنّ «الاستنجاء» من «النجو» و هو ما يخرج من البطن؛ ريحاً كان، أو قذراً، فإن كان معناه هو كون المخرج متعارفاً «2»، فلا يشمل العارض غير الطبيعيّ، و إن كان بالنسبة إلىٰ شخص المستنجي طبيعيّاً.

و إن كان معناه الأعمّ أي الخارج من البطن من غير دخالة المخرج الخاصّ في ذلك «3» فلا فرق بين الطبيعيّ بالعرض، و الحادث في ساعة لأجل قصّه.

أقول: أوّلًا: إنّ اشتقاق «الاستنجاء» من «النجو» و هو جامد خلاف الأصل، و سيأتي توضيحه في الفصل الآتي «4»، و مضى الإيماء إليه «5».

و ثانياً: مجرّد صدق «الاستنجاء» غير كافٍ؛ لعدم الإطلاق اللفظيّ في

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 357، العروة الوثقىٰ 1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 6، مهذّب الأحكام 1: 266.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 386.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 239.

(4) يأتي في الصفحة 156 157.

(5) تقدّم في الصفحة 128.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 155

المسألة، و الإطلاق السكوتيّ مشروط بشرط مضى كراراً «1»، و هو هنا مفقود، فما صنعه المتأخّرون من التمسّك بالإطلاق «2» ذهول و غفلة، فلا تغترّ بما في صحفهم.

و

الذي هو الدليل الوحيد، إمكان دعوى إلغاء الخصوصيّة عرفاً، أو الإشكال في صحّة التمسّك بأدلّة انفعال الماء القليل؛ لما مرّ «3» و تقرّر منّا في محله: من أنّ القوانين الكلّية، تصير معنونة بالقيود اللّاحقة، و تصير قانوناً وحدانيّاً، و يسري من الكلّ إلى الآخر خصوصيّات الكلام؛ من الإجمال و غيره، و عند ذلك يتعيّن القول بالطهارة، إلّا في مورد علم بأنّه خارج عن أدلّة الاستنجاء، فافهم و اغتنم.

و قضيّة ما ذكرناه إشكالًا عليهم، عدم الفرق بين كون المخرج غير عاديّ خلقةً، أو صار غير عاديّ بعداً، و هكذا سواء كان منسدّاً المخرج الطبيعيّ، أو كان مفتوحاً، و الجواب عن الكلّ أيضاً واحد، كما لا يخفى.

و منها: كون الماء وارداً على المحلّ و المخرج

فإذا وضع مقعده في ماء قليل، ففي كونه طاهراً إشكال و إن صدق عليه «ماء الاستنجاء» و ذلك لأنّ في المآثير كلّاً وردت كلمة «باء» الظاهرة في أنّ

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 143.

(2) جواهر الكلام 1: 357، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 351، مصباح الفقيه، الطهارة: 66/ السطر 13.

(3) تقدّم في الصفحة 129 130 و 134.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 156

الماء يصبّ على المخرج، مع أنّه المتعارف، فمجرّد صدق «الماء المستعمل في الاستنجاء» غير كافٍ لطهارته.

و من العجيب، عدم تعرّض الأصحاب (رحمهم اللّٰه) لمثله!! مع أنّه شرط اصطلاحاً في المقام، دون المذكورات، و معتبر حسب الأدلّة، و قد مضى أنّه أيضاً خارج عن بحث الغسالة موضوعاً «1»، فلا ينبغي الخلط.

فصل في حكم ماء الاستنجاء من البول
اشارة

لا شبهة في ماء الاستنجاء من الغائط، و أمّا الاستنجاء من البول فهو حسب نصّ الأصحاب «2» أيضاً مثله، و لكن حسب الدليل مشكل؛ و ذلك لأنّ «الاستنجاء» من «النجو» و لا نصّ في خصوص البول.

و غاية ما قيل في المقام دليلًا: «إنّ الغلبة و التلازم الخارجيّ، تستلزم طهارته، و إلّا يلزم لغويّة طهارة ماء الاستنجاء» «3».

و فيه: أوّلًا: أنّ ذلك لا يستلزم طهارة الاستنجاء من البول، إذا كان غير مصحوب مع الآخر، مع أنّ الفتوى علىٰ عدم الفرق بين الحالتين: حالة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 98.

(2) مدارك الأحكام 1: 124، مستند الشيعة 1: 98، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 350 351، العروة الوثقىٰ 1: 46 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 224، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 383 384.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 157

الانضمام، و حالة الانفراد.

و توهّم إمكان التجاوز من ذلك إلىٰ

حالة الانفراد، في غاية الوهن؛ لأنّ الفرار من لغويّة طهارة ماء الاستنجاء أو معفويّته، لا يقتضي أزيد من طهارته حال الانضمام.

و ثانياً: الغلبة في عصر صدور المآثير ممنوعة جدّاً؛ لأنّ المتعارف- كما يظهر هو تعدّد مكان الاستنجاء و الخلاء، فلا يسري ماء الأوّل إلى الثاني، و لا سيّما مع قلّة الماء المستعمل في البول، و خصوصاً إذا كانت الأرض رخوة، فإنّه عندئذٍ يمنع السراية، فلا ملزم بطهارته.

فالذي هو الأقرب: أنّ «النجو» و إن كان بمعنى العَذِرة، أو ما يخرج من البطن، و لكن كون «الاستنجاء» مشتقّاً من كلمة «نجو» ممنوع، بل الظاهر أنّ المراجعة إلى «المصباح» و غيره كما مرّت عين عبارته «1» يعطي أنّ «الاستنجاء» بمعنى الاستخلاص، و لمشابهة المادّة مع مادّة «النجو» صار ظاهراً في ذلك، و إلّا ففي المآثير كثيراً ما يستعمل في الأعمّ.

أو يقال: إنّ «الاستنجاء» في محيط الأخبار مستعمل في الأعمّ، و صار ذلك حقيقة ثانويّة لهذه الكلمة «2»، كما قيل بذلك في كلمة «السهو» التي كثيراً ما استعملت في معنى الشكّ، حتّى صار ظاهراً فيه، و منسلخاً و مهجوراً عن المعنى الأوّل «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 128.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 66/ السطر 9 10.

(3) مرآة العقول 15: 227، الحدائق الناضرة 9: 293، جواهر الكلام 12: 418، الخلل في الصلاة، الشيخ الأنصاري: 116.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 158

بعض الشواهد من المآثير على استعمال «الاستنجاء» في الأعمّ

و قد مرّت شواهد من المآثير على الدعوى المزبورة «1»، و منها: ما في رواية نشيط بن صالح التي هي مورد العمل عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال: .. «2».

و مثلها ما عن حَريز، عن زرارة قال: «كان

يستنجي من البول ثلاث مرّات» «3» و في ذلك غنى و كفاية.

و في أحاديث البلل المشتبه المذكورة في الباب الثالث عشر من أبواب نواقض الوضوء روايتان تدلّان علىٰ أعمّية الاستنجاء: ففي رواية عبد الملك بن عمرو، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يبول، ثمّ يستنجي، ثمّ يجد بعد ذلك بللًا «4».

و في رواية سَماعة في حديث قال: «فإن كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد غسله، و لكن يتوضّأ و يستنجي» «5» و لعلّ المتتبّع يجد أكثر من ذلك.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 128 129.

(2) تهذيب الأحكام 1: 35/ 93، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 26، الحديث 5.

(3) تهذيب الأحكام 1: 209/ 606، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 26، الحديث 6.

(4) تهذيب الأحكام 1: 20/ 50، وسائل الشيعة 1: 282 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 2.

(5) تهذيب الأحكام 1: 144/ 406، وسائل الشيعة 1: 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 159

فتحصّل: أنّ «الاستنجاء» و إن قيل: «في اللّغة بمعنى غسل موضع النجو أو مسحه» «1»، و لكن في الروايات استعمل في الأعمّ؛ بحيث صار حقيقة فيه، أو مراداً منه.

أو يقال: بأنّه ليس بمعنى الغسل من النجو، بل هو بمعنى الاستخلاص من البول أو الغائط، و قد مضى شطر من البحث حوله «2»، فلا نعيده.

هذا مع أنّ قضيّة ما مضىٰ منّا، أنّ المتبادر من مورد بعض روايات المسألة، هو الاستنجاء من البول، كما ذكرنا وجهه «3»، فعليه يكون طاهراً. مع أنّ مقتضىٰ ما تحرّر منّا في الغسالة «4» تأكّد طهارته،

و هذا من غير فرق بين الغسالة الأُولىٰ و الثانية، و لعلّ ما نسب إلى الشيخ من الفرق «5»، محمول علىٰ صورة وجود الأجزاء العينيّة فيها.

ثمّ إنّ هنا فروعاً لا نحتاج إلىٰ ذكرها؛ لوضوحها عند القائلين بطهارة الغسالة، كما أنّ إطالة البحث فيما سبق أيضاً، غير مناسب على الرأي المتصوّر، و اللّٰه الهادي إلى سواء السبيل.

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 254.

(2) تقدّم في الصفحة 128.

(3) تقدّم في الصفحة 129.

(4) تقدّم في الصفحة 117.

(5) مفتاح الكرامة 1: 93/ السطر 30، انظر الخلاف 1: 179.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 160

فصل في حكم ملاقي الغسالة
اشارة

بناءً علىٰ طهارة الغسالة، يسقط البحث المشهور بين الأعلام حول حكم ملاقيها.

و أمّا بناءً علىٰ نجاستها، فهل حكم الملاقي حكم المحلّ قبل الغسل «1»، أو حكم المحلّ بعده «2»، أو يفصّل فملاقي الغسالة الاولىٰ في مثل البول مثلًا يحتاج إلى التعدّد، و ملاقي الثانية لا يحتاج اليه «3»؟ فيه وجوه، بل أقوال لا وجه لنا للغور فيها.

و الذي ينبغي: هو الإشارة إلى المسألة و وجوهها، فاعلم: أنّ هذه المسألة أيضاً تسقط على القول بعدم منجّسية المتنجّس.

و أيضاً لا بدّ من أن تعلم: أنّ البحث ليس حول كيفيّة تطهير المتنجّس بعين النجس، حتّى يتمسّك بإطلاق صحيحة زرارة في دم رعاف «4» لا ربط له بهذه المسألة، و العجب من بعض الفضلاء و إن لا تعجّب منه

______________________________

(1) لاحظ الدروس الشرعيّة 1: 122، روض الجنان: 158/ السطر 28.

(2) مفتاح الكرامة 1: 92/ السطر 12.

(3) لاحظ روض الجنان: 159/ السطر 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 421/ 1335، وسائل الشيعة 3: 479، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 42، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 161

تمسّكه هنا بمثلها

«1»!! بل البحث حول ملاقي الغسالة، و العلمُ بعدم الفرق بين الموضوعات، منشؤه التمسّك بالقياس، أو الأولويّة التي يأتي الإيماء إليها «2».

مقتضى الأصل العملي في المقام

فإذا عرفت ذلك، فالذي هو المشهور أنّ قضيّة الاستصحاب، هو بقاء النجاسة إلىٰ أن يعلم المزيل، و بناءً على تماميّة الشبهة المعروفة عن النراقي من معارضة الاستصحابات الحكميّة باستصحاب العدم الأزليّ «3» يشكل جريانه، كما اعتقده الفاضل المزبور «4».

و هذا أيضاً من العجائب! و ذلك لعدم تماميّة الشبهة، كما تقرّر في محلّها «5»، و لأنّ النجاسة ليست من الأحكام الشرعيّة؛ وضعيّة و غير وضعيّة، بل هي من الموضوعات العرفيّة كالبيع، فتارة: أمضاها الشرع، و أُخرى: لم يمضها، و قد مرّ تفصيل ذلك و خصوص هذه المسألة في المباحث الماضية «6».

نعم، قد يشكل جريان الاستصحاب؛ لأجل أنّ النجاسة و الطهارة،

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 396.

(2) يأتي في الصفحة 164.

(3) مناهج الأحكام و الأُصول: 237 238.

(4) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 395، مصباح الأُصول 3: 36.

(5) تحريرات في الأُصول 8: 525 529.

(6) تقدّم في الجزء الأوّل: 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 162

ذات تشكيك اعتباريّ عرفاً و شرعاً؛ حسب اختلاف أحكامهما في الشرع المقدّس، و اختلافِ العرف في الاهتمام بالتطهير، و الذي هو المقطوع به هي المرتبة التي تزول بالغسلة الأُولىٰ، و المرتبة الثانية مشكوكة الوجود، فيكون من قبيل الأقلّ و الأكثر، و قضيّة استصحاب العدم النعتيّ، عدم تنجّس الملاقي إلّا بالمرتبة الأُولىٰ المعلومة من دليل منجّسية كلّ متنجّس، فالثوب الملاقي للغسالة، مسبوق بعدم تنجّسه بنجاسة ضعيفة و شديدة، و المقدار المنتقض هو تنجّسه بالأُولىٰ، دون الثانية فليتدبّر، فعلى هذا يشكل ما أفاده القوم هنا.

و أمّا علىٰ تقدير جريان استصحاب

النجاسة، فمقتضى الاعتبار أنّ الغسالة حاملة للنجس، فإن كانت حاملة للبول فيجب التعدّد؛ بناءً علىٰ لزوم تعدّده فيه، و إن كانت حاملة لغيره فلا، و عليه لا يجب التعدّد في الملاقي للغسلة الثانية؛ لأنّ البول قد زال بالأُولىٰ.

نعم، يجب مرّة قضاءً لحقّ تنجّسه به، كما هو المفروض، و لا يجب التعفير في ملاقي الغسلة الاولىٰ في ولوغ الكلب؛ لأنّ النجاسة زالت بالتراب.

نعم، إذا لاقى التراب شيئاً و نجّسه، فلا يبعد كون الاعتبار مساعداً علىٰ وجوب التعفير.

و لكنّ الأدلّة في تلك المسألة، ربّما تكون ناهضة لرفع الشكّ؛ لإطلاقها السكوتيّ، و أمّا في الغسالة فلا دليل يعتمد عليه إلّا رواية

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 163

العِيص بن القاسم «1»، التي قد مضى حالها «2».

مع أنّ في دلالتها إشكالًا؛ لأجل أنّ مجرّد الأمر بالغسل، غير كافٍ لتماميّة المطلوب؛ لإمكان إهماله، ضرورة أنّ المقصود تارة: يكون ذكر كيفيّة التطهير، و أُخرى: يكون ذكر عدم نجاسة أمر آخر تَعرّضه، كما في تلك الرواية، فإنّ المتفاهم منها، إفادة عدم نجاسة غسالة الوضوء، دون نجاسة ملاقي غسالة البول، فلا تذهل، فما أفاده القوم من تماميّة الدلالة، غير مقبول جدّاً «3».

التمسّك بالنبويّ لنفي تعدّد الغسل و جوابه

و قد يتوهّم: أنّ إطلاق النبويّ المشهور المثبت لطهوريّة الماء «4»، يكون رافعاً للشكّ؛ لأنّ كيفيّة التطهير و التنجّس ليست من المخترعات الشرعيّة، و لا تصرّف للشارع فيهما، فيرجع إلى العرف، و هو القاضي بالمرّة «5».

و فيه: بعد الغضّ عن السند أنّ المراد من «الطهوريّة» فيه غير

______________________________

(1) ذكرى الشيعة: 9/ السطر 17، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.

(2) تقدّم في الصفحة 113.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 61/ السطر 17 21، مستمسك العروة

الوثقىٰ 1: 230.

(4) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(5) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 243.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 164

واضح، و القدر المتيقّن منه هو اعتصام الماء؛ لقوله: «لا ينجّسه شي ء» و لو سلّمنا أنّه في مقام أفاده أنّه إذا كان لا ينجّسه شي ء فتطهّر به عند الملاقاة، و لكن لانسلّم كونه من هذه الجهة ذا إطلاق رافع لهذه الشكوك، و مجرّد عدم ابتكار الشرع شيئاً في كيفيّة التطهير غير كافٍ؛ لأنّه ممّا يصحّ إذا كان الأمر كذلك في جميع التطهيرات، و لكنّ العرف إذا توجّه إلىٰ تصرّفه في مواضع غير عديدة في كيفيّة التطهير، فلا يجد بين تلك الإطلاق و النبويّ تعارضاً بدويّاً، فيجمع بينهما بالإطلاق و التقييد. بل من هنا يتنبّه إلىٰ عدم الإطلاق له من هذه الجهة، كما لا يخفى.

فتحصّل إلىٰ هنا، قصور الأدلّة عن التعرّض لحال ملاقي الغسالة، و أنّ الوجوه و الاعتبارات الذوقيّة و إن كانت تقتضي التفصيل، و لكن ذلك مشكل جدّاً، كما أنّ الالتزام بتعدّد الغسل في ملاقي غسالة ما لا تعدّد فيه، أو في ملاقي الغسالة الثانية في البول بل الالتزام بالمرّات في ملاقي الغسلة الأخيرة في ولوغ الكلب أشدّ إشكالًا.

فدعوى حصول الطهارة في الملاقي للغسالة في المرّة الأُولىٰ قريبة؛ لعدم مساعدة العرف إلّا علىٰ ذلك، لا للقياس و الاستحسان، عدا ملاقي الغسلة الأُولىٰ فيما تحتاج التعدّد.

دعوى وضوح حكم الغسالة بين المعاصرين للأئمّة (عليهم السّلام)

و يمكن دعوى: أنّ المسألة لو كانت غير واضحة لأرباب الروايات و لعلماء المذهب، لكانت مورد السؤال، فيعلم منه وضوح حكمها من الأوّل

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 165

من غير الحاجة إلى الرواية.

و قد يتمسّك

«1» بما رواه «الوسائل» عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه سُئل عن رجل ليس معه إلّا ثوب، و لا تحلّ الصلاة فيه، و ليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟

قال: «يتيمّم و يصلّي، فإذا أصاب ماء غسله، و أعاد الصلاة» «2».

ضرورة أنّ عدم الحلّ، أعمّ من كونه متنجّساً بالغسالة أو بغيرها.

و ما رواه الكلينيّ (رحمه اللّٰه) مرسلًا، عن أبي الحسن (عليه السّلام) في طين المطر: «أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام، إلّا أن يعلم أنّه قد نجّسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله، و إن كان الطريق نظيفاً لم تغسله» «3».

و قضيّة الإطلاق أعمّ ممّا نجّسه البول مثلًا أو غسالته. و الظاهر أنّهما معتبران.

الجواب عن مستندي الدعوى السابقة

و لكن قد تشكل الأُولىٰ: بأنّ كون حكم الغسالة معلوماً عند الساباطيّ، غير معلوم، فالإطلاق الناشئ من ترك الاستفصال، غير تامّ. مع أنّ من شرائطه كما مرّ عدم الانصراف «4».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 396.

(2) وسائل الشيعة 1: 485، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 45، الحديث 8.

(3) الكافي 3: 13/ 4.

(4) تقدّم في الصفحة 143.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 166

و لو ثبت الإطلاق، يلزم التعارض بينها و بين ما دلّ على التعدّد في البول. مع أنّ الذهن العرفيّ لا يرىٰ خلافاً بدويّاً بينهما جدّاً.

و تشكل الثانية: بعدم إمكان العمل بجميع مضمونها.

إثبات نجاسة ملاقي الغسالة و كفاية المرة

و لكن الذي يسهّل الخطب: أنّ المراجعة إلى الأدلّة في باب غسل النجاسات، تورث القطع بعدم الخصوصيّة بين ملاقيها و ملاقي غسالتها، لو لم يحصل الظنّ بخفّة النجاسة.

و يدلّ علىٰ كفاية المرّة، ما في «المختلف» عن ابن أبي عقيل، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: «إنّ هذا» مشيراً إلىٰ كوز فيه الماء «لا يصيب شيئاً إلّا طهّره، و لا تعدّ منه غسلًا» «1».

______________________________

(1) جامع الأحاديث أبواب المياه، الباب 1، الحديث 4، [2: 5] و في هذا الباب ما يكفي الفقيه قطعاً لرفع شبهته؛ و أنّ مجرّد الغسل و غلبة الماء، كافٍ في حصول الطهارة (منه (قدّس سرّه)). مختلف الشيعة: 3/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 167

المبحث العاشر في الماء المشتبه من حيث الطهارة و النجاسة
اشارة

و يتمّ مباحثه في فصول:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 169

فصل هل يجوز استعمال الماء المشتبهة نجاسته؟
اشارة

لا شبهة في أنّ الماء المتنجّس لا يزيل الحدث و الخبث، و لو سلّم إمكان إشكال في المسألة؛ من حيث الأدلّة عموماً أو إطلاقاً، و لكنّه أمر مفروغ عنه، و عليه الإجماع و الاتفاق بين الفِرق، و يساعده الاعتبار.

فإذا كانت النجاسة معلومة، أو قامت الحجّة الشرعيّة العقلائيّة أو التأسيسيّة كالاستصحاب عليها، فلا يجوز استعماله، و إلّا ففي جواز استعماله و عدمه وجهان:

من أنّ الطهارة المشروطة غير محرزة، مع لزوم ذلك قطعاً، و إلّا فقضيّة الاستصحاب عدم إزالة النجاسة عن المحلّ.

و من أنّ مقتضى الاستصحاب هي الطهارة؛ ضرورة أنّ الماء بل كلّ شي ء حسب الخلقة طاهر؛ لشهادة الوجدان، و لمراجعة الشرع بعد تحديد النجاسات في عدد معيّن.

و فيما إذا احتمل اقتران النجاسة مع وجوده بمعنى أنّه وُجد

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 170

متنجّساً يرجع إلى قاعدة الطهارة الناطقة بها الروايات:

ففي موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: «كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «1».

و في «الفقيه» قال: قال الصادق (عليه السّلام): «كلّ ماء طاهر إلّا ما علمت أنّه قذر» «2».

و في «الكافي» و غيره، عن حمّاد بن عيسىٰ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» «3».

و إرسال الصدوق كإسناده عند جماعة من المحقّقين «4»، خلافاً للتحقيق.

و رواية ابن عيسىٰ غير معتبرة؛ لما في سندها الحسن بن الحسين اللؤلؤيّ «5»، و رواها في موضع آخر أخذ منه «6» «الفقيه» و في سنده أبو داود المنشد الذي لم يثبت اعتباره،

و جعفر بن محمّد المجهول، فهي علىٰ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.

(2) الفقيه 1: 6/ 1.

(3) الكافي 3: 1/ 3، تهذيب الأحكام 1: 216/ 621، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5.

(4) الحبل المتين: 11/ السطور الأخيرة، لاحظ مقباس الهداية 1: 357، البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 2: 468.

(5) رجال النجاشي: 348/ 939، رجال الطوسي: 469/ 45، معجم رجال الحديث 4: 308.

(6) الكافي 3: 1/ 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 171

المشهور غير معتبرة «1».

الاعتراض على التمسّك بقاعدة الطهارة و استصحابها في المقام

و قد يشكل: بأنّ مفاد قاعدة الطهارة، قاصر عن إحراز الشرط المعتبر في مطهّرية الماء؛ و هي الطهارة الواقعيّة حسب الأدلّة الأوّلية، و استصحاب طهارة الماء لا يحرز قيد الموضوع المركّب، إلّا على الأصل المثبت؛ ضرورة أنّ موضوع الدليل الاجتهاديّ هو «أنّ الماء الطاهر يزيل الحدث و الخبث» و إحراز القيد بالأصل، و المقيّدِ بالوجدان، لا يستلزم إحراز التقيّد، كما مرّ مراراً «2»، فيتعيّن الوجه الأوّل.

و توهّم: أنّ ذلك يستلزم عدم جريان الاستصحاب فيما كانت حالته السابقة النجاسة، لا يفيد شيئاً؛ لأنّ عدم جريانه لا يورث جواز الاستعمال، ضرورة أنّ إحراز الطهارة شرط كما هو المتسالم عليه، و لعلّ لذلك الإشكال سكت «العروة الوثقىٰ» عن حكم طهوريّة الماء المشتبه، و قال: «الماء المشكوك نجاسته طاهر، إلّا مع العلم بنجاسته سابقاً» «3» مع أنّ اللّازم التعرّض لحكم مطهّريته؛ لأنّه مورد البحث، و إلّا فكلّ مشكوك طاهر، من غير الاحتياج إلىٰ عقد بحث له.

و العجب من شرّاح كلامه؛ حيث غفلوا عن الجهة المبحوث عنها

______________________________

(1) لاحظ روضة المتّقين 1: 32، و

مرآة العقول 13: 6.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 219.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 49 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 172

في المياه، و بنوا كلامهم علىٰ إثبات طهارته عند الشكّ «1»!! و علىٰ كلّ تقدير يسهل الأمر.

تصحيح التمسّك بالاستصحاب لإحراز طهارة ما تعلم حالته السابقة

أقول: قد مرّ منّا، أنّ المطهّرية بنفسها قابلة للاستصحاب «2»، ففيما كانت له الحالة السابقة، فلا حاجة إلى استصحاب القيد و هو الطهارة، حتّى يقال: بأنّ الموضوع المركّب لا يحرز بإحراز بعض أجزائه بالأصل، و بعضه بالوجدان، بل الماء المشكوك طهارته مشكوك طهوريّته، و الطهوريّة كانت مسبوقة باليقين، فتستصحب.

و لو قيل: إنّ المطهّرية ليست من الأحكام الجعليّة.

قلنا: يكفي في ذلك كونُها من الأحكام الانجعاليّة و الإمضائيّة، فكما أنّ الشرع منع مطهّرية الماء المتنجّس بنجاسة شرعيّة، كذلك عليه إمضاء المطهّرية العرفيّة، فهي تصير قابلة للاستصحاب.

الاستشكال فيما لم تعلم حالته السابقة و جوابه

و فيما لم تكن له الحالة السابقة، فقد يشكل الفرار من الإشكال، لا لأجل توهّم قصور الحاكميّة لقاعدة الطهارة على الأدلّة الأوّليّة؛ فإنّا قد

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 244، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 397.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 173

بيّنا القول بالإجزاء حتّى في الأمارات، بل في القطع «1»؛ لأنّه منها و مثلها في كونه حجّة انجعاليّة، و ليست حجّيته ذاتيّة علىٰ ما هو المشهور بين أبناء العصر «2»، و التفصيل موكول إلىٰ محلّه «3».

بل لأجل أنّ موضوع الدليل مركّب؛ و هو «الماء الطاهر» إجماعاً، و قاعدة الطهارة لا تكون متعرّضةً إلّا لكون الماء طاهراً بنحو النسبة التامّة، و أمّا إرجاع النسبة التامّة إلى النسبة الناقصة، فهو بحكم العقل، فلا يحرز موضوع الأدلّة الاجتهاديّة، فما توهّمه القوم و أبناء التدقيق من كفايتها، في غير محلّه.

نعم، السيرة القطعيّة علىٰ عدم الاعتناء بمثل هذه الشبهة؛ ضرورة أنّ بناء المتشرّعة على التطهير بالمياه. مع أنّ العلم بطهارتها من الأمر المعلوم عدمه، فيتعيّن الوجه الثاني.

التمسّك بالنبويّ لإثبات طهارة المياه في الشبهات الموضوعيّة

ثمّ إنّ ممّا خفي عليهم، إمكان التمسّك بالنبويّ «4» في موارد الشكّ في طهارة المياه؛ معتقدين أنّ الأدلّة الاجتهاديّة ليست رافعة للشكّ في

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 2: 301.

(2) فرائد الأُصول 1: 4، كفاية الأُصول: 297، فوائد الأُصول 3: 6، نهاية الأفكار 3: 6.

(3) تحريرات في الأُصول 6: 20 و ما بعدها.

(4) خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه».

المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه

تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 174

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 174

الشبهات الموضوعيّة، غافلين عن أنّ الأمر هنا ليس كما توهّموه؛ و ذلك لأنّ ما هو موضوع النبويّ هو «الماء» و هو معلوم، و ما هو حكمه هو الطهوريّة، و هي مشكوكة؛ ضرورة أنّ الشكّ في طهارته يستلزم الشبهة في طهوريّته، و إذا حكم النبويّ بطهوريّة كلّ ماء، يلزم منه ارتفاع الشكّ في طهارته؛ للملازمة القطعيّة.

نعم، بناءً علىٰ كون موضوعه هو «الماء الطاهر» فلا يمكن التمسّك كما لا يخفى.

و هذا نظير تمسّكهم ب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» لصحّة بعض العقود المستحدثة، قائلين: «إنّ اللّزوم يلازم الصحّة عقلًا».

هذا كلّه حكم الماء المشتبه بالشبهة الموضوعيّة، و أمّا الحكميّة فقد مضت أحكامها في أوّل الكتاب، فراجع «2».

فصل في حكم الشبهتين المحصورة و غيرها
اشاره

إذا علم إجمالًا: بنجاسة ماء في إحدى الإناءات، و لم يكن لها الحالة السابقة، أو لو كانت لإحداها الحالة السابقة لم تكن معيّنة،

______________________________

(1) المائدة (5): 1.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 15 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 175

فهل يجب الاجتناب عن الكلّ، أو لا يجب؟

أو يفصّل بين الشبهة المحصورة و غير المحصورة؟

أو يقال: بالتفصيل بين الأحكام؛ فيجوز شرب الجميع أو واحد منها، و لا يجوز التطهير به، بل يجب إراقته و يتيمّم؟

وجوه، بل و أقوال، تفصيلها في الكتب الأُصوليّة.

و الذي ينبغي الإيماء إليه: أنّ النظر هنا إلى مطهّرية مثله، دون الأحكام الأُخر المشتركة معه سائر الأشياء، و قد مرّ ذهول «العروة» عن ذلك «1»، و لذا فرّع عليه المسائل المشتركة فيها جميع الأشياء، و منها المياه.

جريان الأُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ

أقول: قضيّة ما تحرّر في الأُصول، لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة، و عدم لزومه في غير المحصورة «2»، و مقتضى ما تحرّر منّا في محلّه: أنّ أدلّة الأُصول إذا كانت جارية في أطراف العلم الإجماليّ، فلا مانع من الأخذ بها، و تكون مقدّمة على الأدلّة الواقعيّة؛ بملاك تقدّم الأدلّة المتكفّلة للأحكام الظاهريّة على الواقعيّة «3».

و توهّم عدم جريانها؛ لحصول غاياتها، كتوهّم تعارضها في أطرافها «4»؛

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 171.

(2) فرائد الأُصول 2: 407 و 430.

(3) تحريرات في الأُصول 7: 331.

(4) مصباح الأُصول 2: 346.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 176

لأنّ حصول الغاية ممنوع بالوجدان، و السقوط بالمعارضة، فرع مقاومة الأدلّة الواقعيّة معها.

على أنّ المدّعىٰ، هو تقدّم ملاك الترخيص علىٰ ملاك الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال؛ ضرورة أنّ هذا هو مقتضى الجريان، و إلّا فالأنسب منع جريانها في أطرافها، فكما أنّ في الشبهات البدويّة، لا

يعقل الترخيص إلّا بعد مضيّ الشرع عن الواقع، و إلّا فلو كان ملتزماً بحكمه الواقعيّ، فلا يعقل منه إرادة الترخيص، كذلك في المقرون بالعلم الإجماليّ، فإنّ له المضيّ عن الواقع، و جريانُ الأُصول كاشف عن ذلك، فلا تصل النوبة إلى الأخذ بالإطلاقات و العمومات؛ لأنّها متوقّفة علىٰ كونها منجرّة إلى الصغرى المعلومة، و العلم الإجماليّ بصغراها، كافٍ لولا الأُصول المرخّصة النافية لأثر تلك الكبريات.

فبالجملة: في المسألة (إن قلت قلتات) تعرّضنا لها في كتابنا المحرّر في الأُصول، و من شاء فليأخذ منه، فإنّ الباب مفتوح «1».

نعم، إذا علمنا إجمالًا بروح الحكم، فالترخيص في أحد الطرفين ممتنع، فلا يجري الأصل. و توهّم مضيّه هنا منافٍ و خلف للمفروض؛ و هو العلم بروح الحكم و القطع بإرادة المولى.

فلا منع من مضيّه عن حكمه في الشبهات البدويّة؛ لأنّها القدر المتيقّن من أدلّة الأُصول، فلا بدّ من ذلك قهراً.

و إن شئت قلت: مع قطع النظر عن أدلّة الأُصول، يجب الاجتناب في

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 7: 320 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 177

الشبهات المقرونة دون البدويّة عقلًا؛ لتماميّة البيان، و مع النظر إليها فلا بدّ من الالتزام بمفادها، و نتيجة ذلك مضيّ المولى عن حكمه لو كان في البدويّات، و أمّا في المقرونة بالعلم فلا يعلم مضيّه، و بعد وجود المطلقات الواقعيّة لا بدّ من الأخذ بها.

فعلى هذا، يتمّ ما أفاده الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: من جواز جريانها في الشبهات البدويّة، دون المقرونة «1»، و يتمّ ما استدركناه من فرض العلم بروح التكليف، أو احتمال التكليف الذي لا يتجاوز عنه. و أمّا قضيّة ما سلف، فهو أنّ جريان الأُصول في الأطراف، يستلزم سقوط الاحتمال المزبور،

فافهم و تدبّر جيّداً.

الروايات الظاهرة في عدم تنجيز العلم الإجمالي

ثمّ إنّ ما ذكرنا مؤيّد بروايات كثيرة متفرّقة:

منها: ما في «الوسائل» عن «المحاسن» عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة.

فقال (عليه السّلام): «أ مِن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشترِ و بع و كلْ، و اللّٰه، إنّي لأعترض السوق فأشتري اللّحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظنّ كلّهم يسمّون؛ هذه البربر، و هذه السودان» «2».

______________________________

(1) تهذيب الأُصول 2: 264.

(2) المحاسن: 495/ 597، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 178

و منها: معتبر حنان بن سَدير قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عنده، عن جدْي رضع من لبن خنزيرة، حتّى شبّ و كبر و اشتدّ عظمه، ثمّ إنّ رجلًا استفحله في غنمه، فخرج له نسل.

فقال: «ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنّه، و أمّا ما لا تعرفه فكلهُ، فهو بمنزلة الجبن، و لا تسأل عنه» «1».

و منها: معتبر بشير بن سلمة، عن أبي الحسن (عليه السّلام) المرويّة في «الوسائل» في باب تحريم الجدي الذي يرتضع من لبن الخنزيرة قال (عليه السّلام): «هو بمنزلة الجبن، فما عرفت أنّه ضربه فلا تأكل، و ما لم تعرفه فكُلْ» «2».

و منها: معتبر ضُريْس قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن السمن و الجبن في أرض المشركين بالروم، أ نأكله؟

فقال (عليه السّلام): «أمّا علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكله، و أمّا ما لم تعلم فكله؛ حتّى تعلم

أنّه حرام» «3».

و غير ذلك من المذكورات في «الحدائق» و غيرها «4».

______________________________

(1) الكافي 6: 249/ 1، وسائل الشيعة 24: 161، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 25، الحديث 1.

(2) الكافي 6: 250/ 3، وسائل الشيعة 24: 162، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 25، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 9: 79/ 336، وسائل الشيعة 24: 235، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 64، الحديث 1.

(4) الحدائق الناضرة 1: 507 511، جواهر الكلام 1: 295.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 179

و لا ريب في أنّها ظاهرة في المحصورة، بل و كلمة «العين» و الضمير في قوله: «أنّه ضربه» و في قوله: «أنّه قد خلطه» يفيد أنّ الواجب الاجتناب هو المعلوم التفصيليّ، دون غيره. و ترك الاستفصال بعد قوله: «في غنمه» شاهد على الأعمّ، مع أنّ غنمه ليس خارجاً عن الشبهة المحصورة متعارفاً.

و أمّا ما ورد من الأمر بالقرعة في الموطوء المشتبه «1»، فهو مضافاً إلىٰ أنّ فيه وهناً؛ لأجل خروجه عن مصبّ القرعة عند العقلاء لا يدلّ إلّا علىٰ أهمّية حرمة الموطوء، فلا تخلط.

تنجيز العلم الإجمالي موجب للهرج و المرج في الأسواق و التجارات

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ ما أفاده العلمان المحقّقان؛ الخونساريّ و القمّي (صلّى اللّٰه عليه و سلّم): من جواز الاقتحام في جميع الأطراف، في نهاية المتانة «2».

مع أنّه يلزم الهرج و المرج في الأسواق و التجارات؛ ضرورة أنّه قلّما يتّفق أن لا يعلم إجمالًا بوجود حرام في مال التجار، مع عدم قيامهم بالوظائف الشرعيّة؛ من إعطاء الزكوات و الأخماس. و كونُها من الشبهة غير المحصورة، أو من الخارج عن محلّ الابتلاء، أو أنّ من شرائط التأثير عدم لزوم الحرج و الضرر، كلّه خالٍ عن التحصيل من

جهات عديدة.

و الذي هو حكم العقل، لزوم الاجتناب من غير فرق بين المحصورة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 24: 169، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 30، الحديث 1 و 4.

(2) مشارق الشموس: 281/ السطر 30، قوانين الأُصول 2: 25 و 36.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 180

و غير المحصورة، و الخارج عن الابتلاء و غيره. و أمّا إذا استلزم الضرر و الحرج، فما هو اللّازم منه مرفوع، دون غيره.

و هذا خلاف النصوص في المسألة المتفرّقة في الأبواب المختلفة. و اختصاص ما ورد بعنوان «كلّ شي ء فيه حلال و حرام» «1» في الأموال المختلطة بالربا و أمثال ذلك كما قيل «2»، في غير محلّه. و الأمر بعد ذلك صار كالشمس و ضحاها فلا تكن غافلًا.

تنبيه: في الموارد الخاصّة التي يجب فيها الاحتياط

هذا كلّه حكم كلّي، و قد خرجنا عنه في مواضع؛ لأجل النصوص الخاصّة، أو لأجل أهمّية وجدناها من الشرع حتّى في الشبهات البدويّة، كالأعراض و النفوس.

و من تلك المواقف: جواز البدار إلى الطهارة الترابيّة؛ فيما إذا كانت أحد الإناءين معلوم النجاسة إجمالًا، فإنّه بمقتضى النصّ «3» يجب الإهراق، ثمّ التيمّم، و هذا علىٰ خلاف القاعدة من غير جهة واحدة؛ ضرورة إمكان التوضّي بالماءين من غير لزوم نجاسة البدن، إلّا احتمالًا غير مسبوق باليقين، كما لا يخفى في بعض صور المسألة.

______________________________

(1) الفقيه 3: 216/ 1002، وسائل الشيعة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 1.

(2) حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 33، تهذيب الأُصول 2: 175.

(3) الكافي 3: 10/ 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 181

مع أنّ إطلاق الأمر قاضٍ بوجوب التيمّم

مطلقاً. و سيأتي زيادة توضيح حول خصوص المسألة في بعض الفصول الآتية «1».

و ربّما يخطر بالبال علىٰ ما تقرّر: أنّ الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ، إذا كانت ذات طرفين، أو أطراف ثلاثة، أو أربعة، يجب فيها الاحتياط؛ و ذلك لخصوص ما في بعض النصوص: من ترتيب آثار العلم، كما في الإناءين المزبورين، و في القبلة المشتبهة التي يجب الصلاة فيها إلى الجوانب الأربعة «2»؛ فإنّ من ذلك يعلم أهمّية الحكم الواقعيّ من الترخيص الظاهريّ.

و لأنّ نفوس المتشرّعة تجد لزوم الاجتناب في هذه الفروض، و أمّا إذا بلغت إلى العشرة و أزيد، فلا تجد لزوم الاجتناب عن الواحد المحتاج إليه. و ليس ذلك لما قيل أو يقال في الشبهة غير المحصورة «3»؛ لما ذكرنا في محلّه: أنّ قضيّة القواعد هو الاجتناب من غير فرق بين الصور؛ حتّى صورة الخروج عن محلّ الابتلاء «4».

فالسيرة كما هي قائمة علىٰ عدم الاعتناء بالخارج عن محلّ الابتلاء، كذلك هي قائمة علىٰ عدم الاعتناء بالخارج عن مورد الحاجة فعلًا، و إن كان يمكن اتفاق الاحتياج إليه في الزمان المتأخّر، فتجويز شرب الإناءين المعلوم أحدهما نجس أو خمر، غير ممكن حسب المرتكز الإسلاميّ

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 193 194.

(2) وسائل الشيعة 4: 310، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 8.

(3) فرائد الأُصول 2: 430، مصباح الأُصول 2: 376.

(4) تحريرات في الأُصول 7: 503.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 182

و المغروس في أذهان المؤمنين، و يعدّ هذا من المنكر القطعيّ، فعليه يجب الاحتياط في كلّ موضع يكون كذلك، علىٰ خلاف الأصل الأوّلي.

و الإشكال في استفادة الأهمّية للحكم الواقعيّ من الأمر بالصلاة إلى الجوانب الأربعة: بأنّ ذلك قضيّة حكم العقل بلزوم الامتثال، مع عدم

قيام دليل مرخّص يورث كفاية المأتيّ به عن المأمور به الواقعيّ؛ ضرورة أنّ قاعدة الحلّ، لا تقتضي أزيد من حلّية الصلاة إلىٰ طرف، و أمّا أنّها الصلاة الواجدة للشرط، فلا تدلّ هي عليها، مثلُ الإشكال في صحّة الصلاة في الثوب المشتبه؛ فإنّ قاعدة الحلّية، لا تورث كون الصلاة مع الشرط المعتبر فيها، مع أنّ كثيراً من الأصحاب تمسّكوا بها عند الشكّ. و لكنّه عندنا غير تامّ، فلتكن علىٰ ذكر حتّى يأتيك بعض ما ينفعك، إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

فذلكة الكلام:

إنّ قضيّة العقل تنجّز التكليف بالعلم الإجماليّ، و مقتضى الجمع بين الأُصول و أدلّة الأحكام في موارد العلم الإجماليّ، هو الترخيص في جميع الأطراف، بلا فرق بين المحصورة و غير المحصورة، و قضيّةَ السيرة العمليّة و مقتضى الأذهان الشرعيّة و بعض الأدلّة الخاصّة، هو الاحتياط في مواقف معيّنة أُشير إليها، فيسقط بحثُ الشبهة المحصورة و غير المحصورة، و التفحّصُ عن المراد من الثانية موضوعاً، و قد بلغت الأقوال فيها إلىٰ ستّة.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 188 189.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 183

فصل في ملاقي الشبهة المحصورة
اشارة

إذا لاقىٰ أحدَ أطراف الشبهة المحصورة شي ءٌ، فهل ينجس؛ و يجب الاجتناب عنه مطلقاً «1»، أو لا ينجس مطلقاً «2»؟

أو يفصّل بين صورة تقدّم العلم على الملاقاة، فلا ينجس، و بين صورة تقدّم الملاقاة على العلم، فينجس «3»؟

أو يقال: بالتفصيل بينما إذا كانا مستصحبي النجاسة فينجس، و ما إذا كان أحدهما مستصحب النجاسة، فلاقى الطرف، أو لم يكن لكلّ واحد منهما حالة سابقة، فلا ينجس؟

و يلحق بالصورة الاولىٰ في التفصيل الأخير، ما إذا لاقى الطرف الذي يجري فيه الاستصحاب.

أو التفصيل بين الطهارة و الحلّية، فيحكم عليه بالطهارة دون الحلّية، فيجوز استعماله في التطهير دون الشرب؟

أو غير ذلك من المحتملات، كعكس التفصيل الأخير؟

______________________________

(1) منتهى المطلب: 30/ السطر 31.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 52 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 6.

(3) كفاية الأُصول: 411 412.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 184

تحديد محلّ النزاع

و الذي هو محلّ النزاع، و مقصود بالكلام هنا: هو ما إذا لم يكن لأحد الإناءين مثلًا، حالة سابقة من النجاسة، حتّى إذا قيل بانحلال العلم بذلك لجريان الأصل في طرف معيّن، و قاعدةِ الطهارة في الآخر يلزم القول بطهارة الملاقي علىٰ تقدير، و نجاسته علىٰ تقدير ملاقاته للطرف المحكوم بالنجاسة استصحاباً.

بل المنظور في هذه المسألة؛ ما إذا كان الإناءان غير مسبوقين بالنجاسة معيّناً أو غير معيّن؛ لأنّ تمام النظر حول حكم الملاقي الذي هو خارج عن الأطراف، فلا يكون صورة تقدّم الملاقاة على العلم، داخلة في محطّ الكلام، علىٰ ما يتراءىٰ من كلمات الأعلام، فازدياد الصور و تكثيرها و إن كان في نفسه حسناً، و لكنّه لا يصحّ هنا كما لا يخفى، فالتفاصيل المشار إليها، كلّها خارجة عن محطّ النزاع و مصبّ البحث.

لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة

فإذا علمت ذلك، فاعلم: أنّ التحقيق حسب ما يؤدّي إليه النظر الدقيق، هو الاجتناب؛ و ذلك لأنّا لو سلّمنا أنّ الأُصول ساقطة، أو ليست هي جارية، و أنّ الأصل في الملاقى و إن كان مقدّماً على الأصل في الملاقي فلا يعارضه؛ لسقوطه بالمعارضة.

و أنّ الأصل في الطرف و إن كان غير مقدّم على الأصل في الملاقي، إلّا

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 185

أنّ ما مع المتقدّم متقدّم، فلا يكون له المعارض فرضاً.

و أنّ العلم الإجماليّ بالتكليف في الأطراف، لا يعقل تنجيزه التكليف الأوّل في الملاقي، و لا علم إجماليّ آخر بالتكليف الثاني؛ ضرورة أنّ من شرائط تأثيره العلم بحدوث التكليف، مع أنّ العلم الثاني ليس متعلّقاً بتكليف ثانٍ، و أنّ المتنجّز لا يتنجّز.

و لكن مع ذلك كلّه، في المسألة بعض شبهات تورث لزوم الاجتناب؛ ضرورة أنّ نظر العقل

الدقيق فيما إذا علمنا إجمالًا: بوجوب أحد الشيئين، ثمّ توجّهنا إلىٰ أنّ الواجب أحد الثلاثة، هو سقوط الصورة العلميّة الأوّلية، و حدوث الصورة العلميّة الأُخرىٰ.

فإذا علمنا: بنجاسة أحد الإناءين، و علمنا بحرمة شرب واحد غير معيّن منهما، ثمّ حصلت الملاقاة، فيسقط العلم الأوّل، و يصير ثلاثيّاً؛ بمعنى أنّا بعد ذلك نعلم: بأنّه إمّا يكون المبغوض هذا الإناء، أو المبغوض هذا و ذاك معاً، فلا ينبغي الخلط بين نظر العقل و العرف.

هذا مع أنّ فيما سلّمناه نظراً، بل أنظاراً تأتي تدريجاً: و هو أنّ الحكم بنجاسة الملاقي غير ممكن، و لا بنجاسة الملاقى، و هذا واضح لا غبار عليه، و لكن إدراك الملازمة بين الملاقي و الملاقىٰ، يستلزم لزوم الاجتناب، و التفكيك لا يمكن إلّا بالأصل التعبّدي، فإن ثبت أنّ الأصل في الطرف، لا يعارض الأصلين في الملاقي و الملاقىٰ معاً فهو، و إلّا فلا بدّ من الاحتياط.

و غاية ما قيل هنا: أنّ الأصل الجاري في الطرف، مقدّم على الأصل الجاري في الملاقي؛ لأنّ الأصل الجاري في الملاقى مقدّم عليه، و هو في

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 186

عَرْض الأصل الجاري في الطرف، و ما هو مع المقدّم مقدّم «1».

و أنت خبير: بفساد ذلك جدّاً؛ لأنّ ملاك التقدّم مفقود هنا، و ليس في الملاكات المذكورة في محلّها هذا الملاك التوهّمي، فإذن لا وجه لجريان الأصل المسبّبي في الملاقي؛ بعد سقوط الأصل السببيّ بمعارضته مع الطرف، لأنّ الطرف كما هو يعارض الأصل السببيّ، يعارض الأصل المسبّبي في عَرْض واحد.

فتحصّل: أنّ أصل الملازمة عقلًا بين الملاقي و الملاقىٰ، واضح رخصةً و عزيمةً، فلا بدّ من التفكيك بالدليل، و هو مفقود كما عرفت.

دعوى سقوط الأُصول و التفكيك بين طهارة الملاقي و حلّيته

و من هنا

يظهر فساد ما قيل: «إنّ الأُصول في الأطراف متساقطة، موضوعيّة كانت أم حكميّة، سببيّة كانت أم مسبّبية، طوليّة كانت أم عرضيّةً «2»؛ ضرورة أنّ استصحاب عدم الملاقاة مع النجس، معارض بمثله، و استصحابَ طهارة كلّ واحد معارض بمثله، و قاعدةَ الطهارة كذلك، و قاعدةَ الحلّ مثلها.

و لكن في الملاقي تسقط الأُصول الموضوعيّة؛ لأنّها في عَرْض الأُصول الحكميّة في الملاقى و الطرف.

و هكذا تسقط قاعدة الطهارة؛ لأنّ الشكّ في طهارة الملاقي، مسبّب

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 424.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 415.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 187

عن الشكّ في طهارة الملاقى، فيكون في طول قاعدة الطهارة في الملاقى أو الطرف، و في عَرْض قاعدة الحلّ الجارية فيهما. و لكن قاعدة الحلّ في الملاقي تبقىٰ بلا معارض، فيلزم التفكيك بين الطهارة و الحلّية في الملاقي».

و أنت خبير: بأنّه أقرب إلى الاحْجيّة من الصواب؛ ضرورة أنّ العرضيّة و الطوليّة ليست ذوقيّة، بل لهما الملاك العقليّ، و قد عرفت ذلك منّا، فلا تخلط.

و قضيّة ما مرّ منّا سابقاً: هو أنّ القواعد بالنسبة إلى الأحكام النفسيّة في المسألة كحرمة الشرب تؤدّي فرضاً إلىٰ جواز شرب الملاقي، و أمّا بالنسبة إلى الأحكام الغيريّة مثل جواز التطهّر به فلا تؤدّي إلىٰ صحّة الوضوء و الغسل؛ لما عرفت منّا: من قصور قاعدة الطهارة عن إثبات ذلك حسب الصناعة، فيلزم التفكيك علىٰ عكس ما مرّ آنفاً «1».

وجه آخر لتساقط الأُصول في الأطراف

و هنا شبهة ثالثة عقلائيّة: و هي إنّا إذا راجعنا وجداننا، نجد أنّ كلّ واحد من الطرف و الملاقىٰ و الملاقي مبغوض المولى إجمالًا؛ أي كما نرىٰ أنّ الطرف أو الملاقى مبغوضه، كذلك نجد أنّ الطرف أو الملاقي

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة

171.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 188

مبغوضه، و هذا علم لا نشكّ فيه قطعاً. و عدم تنجّز المتنجّز ثانياً و ثالثاً، لا ينافي ذلك بعد ملاحظة الأطراف، و عليه تصير الأُصول متساقطة، أو غير جارية، على الخلاف المعروف بين الأفاضل «1».

لا أقول: بأنّا نعلم بالمبغوضيّة في الملاقي مع قطع النظر عن الملاقاة، بل المقصود أنّ العلم بالمبغوضيّة، يصير ذا أطراف ثلاثة: واحد منها في طرف، و اثنان في طرف، و لا يلاحظ العرف ما يلاحظه العقل الدقيق هنا.

إيقاظ: في معنى تنجيز التكليف

قد يتوهّم: «أنّ معنىٰ تنجيز التكليف، ليس إلّا العلم بالتكليف مع عدم جريان الأصل المؤمِّن؛ بمعنى أنّ نفس العلم ليس منجّزاً، بل العلم مع عدم جريان الأُصول المؤمِّنة، و لذلك يجوز شرب الماء إذا كان طرفاً للثوب في العلم بالنجاسة؛ فإنّه لمكان سقوط الأُصول الموضوعيّة و الحكميّة، لا يجوز التوضّي بالماء، و لا الصلاة في الثوب، و لكن يجوز شرب الماء؛ لاختصاصه بقاعدة الحلّ، دون الثوب؛ لأنّ المفروض أنّه ثوب غير مغصوب.

و يترتّب علىٰ ذلك: أنّ ملاقي الثوب واجب الاجتناب؛ لمعارضة الأصل فيه مع الأصل في الطرف، فلا يبقى الأصل المؤمِّن فيه» انتهىٰ ما

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 7: 380.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 189

أردنا ذكره «1».

و فيه أوّلًا: أنّ معنىٰ تنجيز الحكم لو كان ما ذكره، لما كان الأصل المزبور مؤمّناً من العقاب؛ لأنّ لازمه تقيّد التكليف الواقعيّ بعدم المؤمّن، و هذا واضح البطلان، بل هو الدور الصريح؛ ضرورة أنّ معنى «المؤمِّن» هو أنّ العقاب مع قطع النظر عنه قطعيّ، و إذا كان كذلك فالتنجّز يحصل بنفس العلم، كما هو الواضح، و الأُصول الشرعيّة أعذار عند المحقّقين «2»، و حاكمة

على الأدلّة الواقعيّة؛ بالتوسعة عند بعض منهم «3»، فالحكم الواقعيّ الأوّلي، تنجّز بنفس الالتفات إليه و التصديق به؛ سواء كان أصل، أو لم يكن.

نعم، لا يمنع العقل من جعل الشارع عذراً، أو من تصرّفه في حكمه الأوّلى، فإن كان عذراً فهو مؤمّن، و إلّا فليس إلّا تقييداً، لا تأميناً كما لا يخفى.

فأذن في صورة العلم بالنجاسة، تتنجّز جميع أحكام النجس، سواء كانت واحدة، أو كثيرة، و سواء كانت الأطراف متّفقة، أو مختلفة، فإذا علم بنجاسة الماء إجمالًا، يحرم عليه كلّ شي ء مشروط بالطهارة احتمالًا منجّزاً، و يصحّ عقوبته علىٰ جميع الأحكام؛ لأنّه موضوعها. فلو كان يجعل ما يترتّب علىٰ تلك المقالة من الآثار من التوالي الفاسدة، كان أولىٰ.

و ثانياً: لا يختصّ الماء في المثال المذكور بأصالة الحلّ؛ لأنّ

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 415.

(2) كفاية الأُصول: 319.

(3) كفاية الأُصول: 110.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 190

الشكّ في حلّيته إن كان ناشئاً من الطهارة و النجاسة، فقاعدة الطهارة كافية، و إلّا ففي الثوب أيضاً تجري قاعدة الحلّ.

نعم، لا بدّ من فرض آخر: و هو كون أحد الطرفين مشتبه النجاسة و الغصبيّة، و الطرفِ الآخر مشتبه النجاسة، دون الغصبيّة، و العلم الإجماليّ بالنجاسة لا ينجّز حكم الغصب، فتجري في الطرف الأوّل قاعدة الحلّ، و تعارض قاعدة الطهارة في الملاقى، فتأمّل جيّداً.

إعادة و إفادة

ملخّص ما ذكرناه: تعارض الأُصول في جميع الأطراف، و لا يكون الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض.

و يتوجّه إليه: أنّ ذلك فرع تنجّز الحكم، و التنجّز فرع كون العلم الثاني كافياً فيه، و إذا انتفىٰ ذلك ينتفي ذاك، فلا معارض لذلك الأصل.

و مجرّد كونه أحد الطرفين، أو ملازماً للطرف الملاقى، غير كافٍ

كما لا يخفى.

و محصّل ما ذكرناه: أنّ الصورة العلميّة المتعلّقة بنحو الإجمال: بأنّ هذا إمّا نجس أو ذاك، إمّا تكون باقية بعد الملاقاة بشخصها، أو تزول و تحدث صورة أُخرى:

فإن كانت باقية، فلا قصور فيها من حيث تنجّز التكليف به في الملاقي.

و إن كانت تزول، كما هو كذلك عقلًا، فتصير كالعلم بعد الملاقاة الذي

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 191

عليه الأكثر؛ من كونه منجّزاً للثلاثة.

فما هو المعروف: من حدوث العلم الآخر بين الطرف و الملاقي، غير تامّ، بل العلم الحادث متعلّق: بأنّ هذا نجس، أو هذا و ذاك؛ للملازمة القطعيّة بينهما في الحكم. فما اشتهر بين المتأخّرين: من الحكم بطهارة الملاقي «1» في غاية الإشكال.

و بعبارة اخرىٰ: لو كان الشكّ بعد الملاقاة، من الشكّ البدويّ واقعاً، كان للقول المشار إليه وجه واضح معلوم، و أمّا إذا صار أحدَ الأطراف، فلا يعقل بقاء الصورة العلميّة السابقة.

إن قلت: فيما إذا تأخّر العلم عن الملاقاة، لا يجب الاحتياط عند الشيخ «2» و بعض تابعيه، كالفاضل النائينيّ «3»، و تلميذه الشيخ الحلّي «4»؛ و ذلك لأنّ العلم الإجماليّ و إن تعلّق بالثلاثة في عَرْض واحد، و لكنّ الترتّب العلميّ بين الملاقي و الملاقىٰ محفوظ، و قضيّة هذا الترتّب تقدّم الأصل الجاري فيه على الجاري في الملاقي، و تساقطه بالمعارضة مع الجاري في الطرف، فيبقى الجاري في الملاقي بلا معارض.

قلت: هذا ممنوع؛ لأنّ المفروض تنجّز الحكم بالعلم بالنجاسة، ضرورة أنّ كبرى المسألة و هي «وجوب الاجتناب عن النجس» كانت معلومة، و لا بدّ من ضمّ الصغرىٰ إليها حتّى يتنجّز الحكم، و تلك الصغرىٰ

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 412، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 257.

(2) فرائد الأُصول 2: 424.

(3) فوائد

الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 81 82.

(4) دليل العروة الوثقىٰ 1: 239 240.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 192

كما تتنجّز بالعلم التفصيليّ، تتنجّز بالعلم الإجماليّ.

و فيما نحن فيه، تعلّق الإجماليّ بالثلاثة دفعة واحدة، فلو سلّمنا جميع ما أُفيد، فلا نسلّم سقوط المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي و الطرف؛ لما عرفت من أنّ ملاكات التقدّم مضبوطة في محلّها «1»، و ليس المعيّة مع المتقدّم منها، فعليه يلزم الاحتياط في جميع صور المسألة؛ من غير فرق بين هذه الصور المذكورة بالتفصيل في الكتب المفصّلة، و ليطلب تمام الكلام في المقام من «تحريراتنا الأُصوليّة» «2».

هذا كلّه حسب الصناعة الأوّلية.

قيام السيرة علىٰ عدم الاعتناء بملاقيات الأطراف

و لكن بناء المتشرّعة و السيرة العمليّة، قائمة علىٰ عدم الاعتناء بملاقيات الأطراف، خصوصاً فيما كانت الأطراف خارجة عن مورد الاحتياج إليه فعلًا و إن كانت قابلة لتصوير الحاجة. و هذا غير الخروج عن محلّ الابتلاء.

مثلًا: إذا وقعت قطرة، و تردّد أمرها بين وقوعها علىٰ ثوبه، أو الأرض، أو ثوب صديقه، لا يعتني بذلك، مع أنّ العلم الإجماليّ بوجوب الاجتناب عنه، و عنها بترك السجدة عليها، أو التيمّم بها، موجود، أو العلم الإجماليّ بوجوب ترك الصلاة فيه و في ثوب صديقه الذي قد يتّفق أن يصلّي فيه-

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 185 186.

(2) تحريرات في الأُصول 7: 349.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 193

لأنّه محشور معه موجود، و لكن مع ذلك كلّه لا يعتنى بمثله، و ليس هذا إلّا لأجل ما أسمعناكم في أصل الأطراف في أصل المسألة، فلا تغفل «1».

فصل في تعيّن التيمّم عند انحصار الماء في مشتبهين
اشارة

إذا كان عنده إناءان مشتبهان فالمعروف المدّعىٰ عليه الإجماع «2» و يدلّ عليه النصّ جواز التيمّم، بل الظاهر منه تعيّن ذلك بعد الإهراق، ففي «الوسائل» بسند معتبر عن سَماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيّهما هو، و ليس يقدر علىٰ ماء غيره.

قال: «يهريقهما جميعاً و يتيمّم» «3».

و مثلها في المفاد رواية عمّار «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 175 180.

(2) مدارك الأحكام 1: 107، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 261 262، مهذّب الأحكام 1: 274.

(3) الكافي 3: 10/ 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2.

(4) تهذيب الأحكام 1: 248/ 712، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 14.

كتاب الطهارة (للسيد

مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 194

و يتمّ البحث هنا ضمن جهات:

الاولىٰ: حول إطلاق الرواية الواردة في المقام

هل أنّ الرواية لها الإطلاق الذي يرجع إليه في شقوق المسألة، أم لا؟ ظاهر جماعة هو الأوّل «1».

و ربّما يشكل: بأنّ المتفاهم العرفي، هو كون الماء الموجود قليلًا؛ بحيث لا يتمكّن من الغسل و الوضوء، و ذلك لأنّ الإناء المفروض صغير، و ليس ممتلئاً من الماء حسب المتعارف، و لقوله: «فيهما ماءٌ» الظاهر في أنّه قليل جدّاً.

و هل لها الإطلاق السكوتيّ من جهة حالات أعضاء السائل من حيث نجاستها الفعليّة و طهارتها؟ فإنّ الحكم ربّما يختلف حسب اختلاف الأنظار مثلًا، بناءً علىٰ لزوم الأخذ في توارد الحالتين بنقيض الحالة السابقة، فالأمر بالتوضّي بعد الغسل، كان يؤدّي إلىٰ صحّة الوضوء مع طهارة البدن، و لو كانت هي طاهرة فيمكن ذلك أيضاً؛ بناءً على الأخذ بالحالة السابقة، دون نقيضها.

فعليه يمكن دعوى الإطلاق السكوتيّ لها، و نتيجته لزوم الأخذ تعبّداً بالنجاسة في توارد الحالتين؛ لأنّ الأمر بالتيمّم، لا يمكن إلّا لأجل عدم تمكّن المكلّف من التوضّي الصحيح مع العلم بطهارة بدنه.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 51/ السطر 11، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 263، مهذّب الأحكام 1: 274.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 195

و الإنصاف: عدم الإطلاق الثاني؛ ضرورة تعارف نجاسة بدنه، و عليه يتعيّن الأخذ بها؛ لموافقتها لما هو الأظهر في مسألة توارد الحالتين.

و لكنّ الكلام في تماميّة الإطلاق الأوّل؛ و أنّ المقصود من السؤال كلّ ماءين قليلين مشتبهين و لو كان كثيراً؛ بحيث يمكن الغسل و التوضّي، أو أنّ مورده القليلان غير الكافيين لذلك، و قد عرفت ذلك آنفاً. و توهّم إلغاء الخصوصيّة، أو قطع العرف بعدم الخصوصيّة، في غاية الوهن.

فعلى هذا يعلم: أنّ مفاد

الرواية مطابق للقاعدة؛ لأنّ مجرّد إمكان الوضوء مع الابتلاء بالخباثة في الأعضاء، ليس كافياً لجواز المبادرة في مفروض المسألة، فلا بدّ من التيمّم حسب المآثير الشاهدة في خصوص الطهارة الترابيّة؛ و أنّ المدار في الانتقال، هو العجز عن استعمال الماء بوجه صحيح شرعيّ، غير ملازم لمعنىً آخر غير شرعيّ.

فبالجملة: لو كان الماء المفروض قليلًا؛ بحيث لا يمكن غسل المواضع بعد التوضّي، فالأمر بالتيمّم مطابق للقواعد، و إلّا فيشكل الأمر من جهتين علىٰ سبيل منع الخلوّ:

الاولىٰ: إمكان تحصيل الطهارة المائيّة مع طهارة الأعضاء.

و ثانيتهما: لزوم نجاسة البدن، سواء كانت الحالة السابقة طهارتها أو نجاستها.

مع أنّ الأمر ليس كذلك اتفاقاً، و أمّا علىٰ ما استظهرناه، فلا يأتي إشكال.

ثمّ من المحتمل، كون الأمر بالتيمّم ناشئاً من ترجيح جانب الطهارة الترابيّة على النجاسة؛ فإنّ الأمر دائر بين كونه ذا طهارة مائيّة مع نجاسة بدنه، و كونه ذا طهارة ترابيّة مع طهارة بدنه، فعيّن الاولىٰ لأقوائيّتها،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 196

فلا يستفاد من الرواية أنّ سبب الانتقال، تماميّة موضوع التيمّم؛ لأنّ المناط عجزه عنه، شرعاً كان، أو عقلًا. فما اتفق عليه الأصحاب هنا: من أنّ وجه الانتقال عجزه الأعمّ «1»، غير سديد، و التفصيل في مباحث التيمّم.

فعلى ما حصّلناه يعلم: أنّ الرواية ليست علىٰ خلاف القاعدة عند الكلّ.

الثانية: في بعض صور الماءين المشتبهين و أحكامها
اشارة

لو فرضنا شمول الرواية للماءين الكثيرين القابلين للتطهير بهما و التوضّي؛ بأن يتوضّأ أوّلًا، ثمّ يغسل ثانياً بالماء الثاني، ثمّ يتوضّأ به ثالثاً، فإن كان الماء النجس هو الثاني، فقد تحصل الطهارة، و يكون بدنه نجساً، و إن كان هو الأوّل، فقد تحصل الطهارة، و يكون بدنه طاهراً، فهو حينئذٍ علىٰ طهارة مائيّة، و مشكوكة نجاسة بدنه.

فهل يبني على

الطهارة، أو النجاسة، أو يأخذ بنقيض حالته السابقة؟ فيه خلاف بين المحقّقين.

و قد مرّ منّا تفصيل البحث في المسائل السابقة «2»، و ذكرنا هناك قصور شمول أدلّة الاستصحاب لمثل هذا الشكّ و اليقين، لا لأجل فقد الشرط؛ و هو اتّصال زمان الشكّ و اليقين، كما تخيّله صاحب

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 216، لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 263 265.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 350.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 197

«الكفاية» «1» أو للمعارضة بين الاستصحابين، كما توهّمه جمع آخر «2»، فعليه يتعيّن المراجعة إلىٰ قاعدة الطهارة مطلقاً.

و هنا صور اخرىٰ، و فيها ما يقطع بوقوع صلاته مع الطهارة المائيّة و طهارة البدن، و هو بأن يكرّر الصلاة عقيب الوضوءين. و التكرار هنا ليس بأهون من التكرار إلى أربع جهات؛ لتحصيل القبلة المأمور به في الروايات.

و غير خفيّ: أنّ في صورة كون أحد الماءين كثيراً، يتعيّن التوضّي به ثانياً؛ حتّى يحصل القطع بفراغ ذمّته.

حكم صورة ما لو كان أحد الماءين كثيراً

إذا عرفت ذلك، فهل يتعيّن عليه التوضّي في صورة كون أحد الماءين كثيراً؛ لما يظهر من الرواية من اختصاصه بالقليل غير القابل لاستعماله مرّتين، خصوصاً إذا كان مشتبهاً بنجاسة بوليّة، و قلنا: بتعدّد الغسل في ملاقي غسالته؟

أو يتعيّن عليه التيمّم؛ لأجل ظاهر الرواية؟

أو هو بالخيار بين الطهارتين: المائيّة، و الترابيّة.

فقد يقال: بتعيّن الترابيّة، و عليه الأكثر «3»، و هو مقتضىٰ إطلاق فتاوى

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 480.

(2) فرائد الأُصول 2: 667، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 427.

(3) شرائع الإسلام 1: 7، مدارك الأحكام 1: 107، العروة الوثقىٰ 1: 52 53 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 7، مهذّب الأحكام 1: 274.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 198

الأصحاب، و

عن بعض الفضلاء تعليل ذلك: بلزوم الجمع بين المتناقضين في صورة الرخصة؛ لأنّ موضوع الترابيّة هو «العجز عن المائيّة» و موضوع المائيّة هي «القدرة على استعمال الماء» و هما غير قابلين للجمع «1».

و أورد عليه: بأنّ الأمر كذلك، إلّا أنّ الالتزام بالتخصيص لأجل الدليل، غير ممنوع عقلًا، و متعارف عرفاً، كما في مواقف رخصة الإفطار في شهر رمضان، مع أنّ المستثنىٰ هو المريض، و المستثنىٰ منه هو الصحيح، و هما غير قابلين للجمع «2».

و الذي يخطر بالبال: أنّ مبنىٰ هذه المسألة، هو أنّ الأمر بالإهراق كان لأيّة جهة؟

فإن كان فيه جهة لازمة مراعاتها في الانتقال من المائيّة إلى الترابيّة، فهو يشهد علىٰ ممنوعيّة الترابيّة بدون الإهراق.

و إن كان الأمر لمجرّد عدم الابتلاء بالنجس، أو لكونه كالدرهم المغشوش اللّازم إعدامه، فلا يستفاد منه تعيّن الترابيّة.

و الإنصاف: أنّ الأمر بالإهراق؛ لأجل حدوث موضوع الانتقال و هو «فقدان الماء الموجود عنده» فإذا لاحظ الشرع أنّ الترابيّة حسب الآية الشريفة موقوفة علىٰ فقد الماء، و الماء الموجود بين يديه و إن كان بحسب الواقع كافياً، و لكنّه لجهله يشكل عليه تحصيلها؛ لابتلائه بنجاسة البدن، فراعى عند ذلك أهمّية طهارة البدن مع مراعاة تحصيل

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 429.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 199

موضوع المسألة، فأُمر بالإهراق؛ تحفّظاً على الواقع اللّازم مراعاته- و لأجل مثله اختار المحقّق في «المعتبر» جواز إراقة الماء «1»، و رخّص في الانتقال إلىٰ موضوع التيمّم اختياراً فعلى هذا لا يجوز البدار إلى الترابيّة مع وجود الماء المشتبه؛ لأنّ موضوع أدلّة التيمّم ليس «العجز» بل له مسوّغات مختلفة، و منها: عدم وجدانه الماء، و لكنّه هنا واجد للماء

بالضرورة، فليتأمّل جيّداً.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ مع فرض شمول الرواية لما إذا كان أحدهما كثيراً أو كلاهما، لا يجوز الوضوء إلّا بعد الإهراق.

توهّم عدم وجوب الإهراق و دفعه

و من هنا يعلم، ضعف توهّم عدم وجوب الإهراق، معلّلًا: «بأنّه من الأمر عقيب الحظر» «2» غفلةً عن أنّ ذلك في جملة واحدة، لا في الجمل المتعدّدة، مع بعض القرائن الأُخر، كما فيما نحن فيه؛ فإنّ ذلك بعد ما عرفت منّا و لو احتمالًا متعيّن، فلا سبيل إلى القول بالتخيير بين الوضوء و التيمّم، و لا سيّما بعد قوله: «و يتيمّم» الظاهر في تعيّنه، فلو كان مفاد «يهريقهما» هو الترخيص بدواً، و لكن مفاد الهيئة الثانية هو العزيمة، و لا وجه لصرف النظر عن الثاني بالأوّل؛ لإمكان العكس. بل الظاهر سراية تعيين التيمّم إلىٰ تعيين الإهراق؛ لعدم إمكان مقاومة العزيمة للرخصة، فلا تغفل.

______________________________

(1) المعتبر 1: 103.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 265.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 200

هذا مع أنّ الالتزام بالتخصيص في خصوص هذه المسألة، من الغفلة و الذهول؛ و ذلك لأنّ همّ الفقيه في مباحث مسوّغات التيمّم، الجمع بين المسوّغات المختلفة؛ و إرجاعها إلىٰ أمر واحد: و هو عدم تمكّنه من المائيّة عقلًا أو شرعاً، فلو كان في مورد يجوز التيمّم مع إمكان المائيّة شرعاً و عقلًا، يلزم النقض علىٰ ما توهّموه جامعاً، لا التخصيص؛ لعدم وجود عامّ أو مطلق يفيد ذلك، فلا تخلط.

الثالثة: في أجوبة استصحاب نجاسة بعض الأعضاء غير المعيّن
اشارة

بناءً علىٰ جواز التوضّي بالكيفيّة المزبورة، فلا يشترط عدم وجود ماء ثالث معلوم الحال؛ لأنّ وجه الاشتراط ليس إلّا الوجوه المذكورة في منع تكرار العبادة، أو لزوم تقديم الامتثال التفصيليّ على الإجماليّ، و تلك الوجوه خالية عن التحقيق؛ حسب ما يؤدّي إليه النظر الدقيق.

و قد يشكل الامتثال بالكيفيّة المزبورة التي بنينا فيها علىٰ جريان قاعدة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحابين: بأنّ الاغتسال بالماء الثاني لا يمكن إلّا تدريجاً؛

ضرورة أنّ الجسم لا يعقل تطهيره إلّا بالارتماس، أو إيراد الماء عليه، و الكلّ يستلزم التدريج عرفاً و عقلًا، فإذا وقعت يده في الماء الثاني، أو ورد الماء عليها، يعلم إجمالًا: بأنّ بعض أجزائه و أعضائه نجس؛ إمّا بنجاسة هذا الماء، أو بنجاسة الماء الأوّل، و التطهير بالماء الثاني لا يستلزم قصوراً في جريان استصحاب نجاسة بعض أعضائه غير المعيّن «1».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 428.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 201

و علىٰ هذا، لا فرق بين كون الماء الثاني كثيراً؛ بحيث يحيط بالجسم دفعة، أو تدريجاً.

و العجب من الأصحاب رضي اللّٰه عنهم-، حيث توهّم جمع منهم الفرق بين كون الثاني كثيراً أو قليلًا! و أعجب من ذلك فرض كون الماء الثاني كرّاً أو جارياً «1»!! فإنّه خروج عن مفروض البحث؛ و هو كون الماءين مشتبهين، و هذا مخصوص بالقليلين الشرعيّين.

تارة يجاب: بأنّ جريان الاستصحابين في العضوين ممنوع؛ لأنّه من الأصل المحرز، و إحراز نجاسة العضوين مع القطع بطهارة أحدهما، خلاف ماهيّة الاستصحاب، فلا يجريان هنا، كما لا يجريان في أمثاله و إن لم يلزم منه المخالفة العمليّة.

و فيه: مضافاً إلىٰ فساد المبنىٰ؛ و أنّ الإحراز المزبور لا ينافي التعبّدين أنّ فيما نحن فيه يمكن إجراء استصحابٍ واحد في بدنه؛ بأن يجعل مصبّه نفسه، حتّى لا يجوز له الصلاة في تلك الحال.

و أُخرى يجاب: بأنّه من الاستصحاب في الفرد المردّد؛ لأنّ النجاسة إن كانت من الماء الأوّل، فقد زالت بالماء الثاني، و إن كانت من الماء الثاني، فهي باقية قطعاً «2».

و فيه: أنّ اليد المتنجّسة باقية بالشخص، و معلوم تنجّسها،

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 53 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة

10، الهامش 5 و 6.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 263، لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 425 427.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 202

و مشكوك زوال نجاستها، فالمصبّ للاستصحاب هي اليد.

و ثالثة يجاب: بأنّ له التطهير بعد الوضوء بالماء الثاني بالماء الأوّل، فعند ذلك يعلم قطعاً بزوال نجاسة بدنه؛ لأنّ العلم الإجماليّ الحاصل من ملاقاته مع الماء الثاني، أمره دائر بين عدم انعقاده من أوّل الأمر، أو انتفاء معلومه بعد ذلك؛ بداهة أنّ الماء الثاني إن كان نجساً، فالماء الأوّل يزيله، و إن كان طاهراً فلا علم له بتلك النجاسة، فلا يعلم بعد الاستعمال المزبور بنجاسة فعليّة، و لا سابقة.

نعم، يحتمل حدوث النجاسة بالماء الأوّل، المرفوع بقاعدة الطهارة.

و بعبارة اخرىٰ: الماء الأوّل إمّا نجس، أو طاهر:

فإن كان نجساً، فلا علم له بالنجاسة قبل ذلك؛ لارتفاع نجاسة بدنه بالماء الأوّل.

و إن كان طاهراً، فلا بقاء لتلك النجاسة فعلًا، فهو عالم بزوال النجاسة المعلومة بدواً.

و فيه ما عرفت: من حدوث العلم بالنجاسة بمجرّد وقوع الماء الأوّل أيضاً، كما لا يخفى.

و يمكن دعوى القطع التفصيليّ بنجاسة العضو المعيّن؛ لأنّ من شرائط التطهير، إحاطة الماء و انفصاله، فإذا لاقاه الماء الثاني يعلم قطعاً بنجاسة يده بالأوّل أو بالثاني، و يشكّ في زوالها به، فيستصحب في العضو

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 203

الشخصيّ نجاسته «1».

نعم، هذا أمر عجيب؛ لأنّ ما يورث القطع بالنجاسة هو الملاقاة، التي هي مقدّمة للشكّ في بقائها، و هذا ممّا لا ضير فيه عقلًا.

و رابعة يجاب: بأنّ الاستصحاب الجاري في العضو المعلوم تأريخه، معارض باستصحاب الطهارة المجهول تأريخها؛ لعدم تقوّم التعارض بالجهل بالتأريخين، كما عليه العلّامة النائينيّ (رحمه اللّٰه) فيرجع

حينئذٍ إلىٰ قاعدة الطهارة «2».

و لكنّك تعلم: أنّه و إن أمكن استصحاب مجهول التأريخ في بعض الأحيان؛ بوجه يعارض معلوم التأريخ كما عرفت تفصيله في الماء الموصوف بالحالتين: القلّة، و الكثرة «3» و لكنّه هنا غير قابل لفرضه؛ للزوم جواز الصلاة مع أنّه عالم بنجاسته الشخصيّة، و شاكّ في رفعها، و لا يعقل استصحاب عدم تقدّم حالة طهارته علىٰ تلك الحالة؛ لأنّه إن شئت قلت: يصير معلوم التأريخ من جهة عدم تأخّره عنها، لا من جهة زمان حدوثه.

ففي مثل حدوث الكرّية في أوّل الزوال، يمكن استصحاب عدم تقدّم القلّة عليها، فيلزم احتمال تأخّر القلّة عن الكثرة؛ لمجهوليّة القلّة من جهتين: جهة زمانها الشخصيّ، و جهة تقدّمها على الكرّية و تأخّرها. و لكنّ الأمر هنا ليس كما توهّم؛ ضرورة أنّه بعد إيراد الماء الثاني يعلم بنجاسة

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 219.

(2) فوائد الأُصول 4: 522 528، و لاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 220.

(3) تقدّم في الجزء الأوّل: 350.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 204

يده الشخصيّة، و يشكّ بعد الغسل في زوالها، و لا يحتمل تأخّر الطهارة إلىٰ تلك الحالة.

و العجب من صاحب «الكفاية» و جماعة، من توهّم: أنّ الإشكال مخصوص بما إذا كان الماء الثاني قليلًا «1»!! و قد عرفت عموميّته «2»؛ و أنّ فرض كرّية الماء الثاني خارج عن مفروض المسألة؛ لأنّ الكرّية المشتبهة من حيث النجاسة، غير متصوّرة إلّا في الكرّ المتمّم بالطاهر؛ بأن تكون الشبهة حكميّة، أو الكرّ المشتبه من حيث تغيّره بالنجس، و الأمر سهل.

خاتمة فيها فائدة

قضيّة ما مرّ إلىٰ هنا: أنّ الانتقال إلى التيمّم مطابق للقاعدة، و يكون التيمّم متعيّناً، و يكون الإهراق لانتفاء موضوع التيمّم؛ علىٰ

حسب المتفاهم من الكتاب، و إن كان موضوعه حسب الأخبار منتفياً، و لكن ربّما لاحظ الشرع المتحفّظ على الأُمّة بالسماحة و الراحة، مع مراعاة بعض الجوانب الأُخر، فعند ذلك أوجب الإهراق؛ لما فيه الجمع بين الحقوق.

فما اشتهر: «من أنّ الإهراق إمّا واجب تعبّدي، أو واجب إرشاديّ» «3»

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 216، دليل العروة الوثقىٰ 1: 246، دروس في فقه الشيعة 2: 218.

(2) لاحظ ما تقدّم في الصفحة 201.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 262، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 430، مهذّب الأحكام 1: 274.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 205

غير سديد، بل هو واجب احتياطيّ، لا بمعنى «الوجوب الاحتياطيّ» في كلمات الفقهاء، كما لا يخفى.

توجيه المحقّق الهمداني لكون التيمّم موافقاً للقاعدة

و لصاحب «المصباح» الهمدانيّ (رحمه اللّٰه) كلام حول إثبات أنّ التيمّم مطابق للقاعدة، لا يخلو عن غرابة: و هو «أنّ التطهير بالماء النجس، إذا كان محرّماً ذاتيّاً، فلا بدّ من الطهارة الترابيّة، فربّما يدلّ علىٰ تلك الحرمة هذه الرواية، فلا وجه لصحّة الوضوء بالمردّد المشتبه، و إن أمكن عقلًا بالكيفيّة المذكورة» «1».

و أُجيب عنه فيما وصل إلينا من الوالد المحقّق مدّ ظلّه: «بأنّ الحرمة الذاتيّة لا تستلزم حرمة جميع الأطراف، بل هو محرّم من باب المقدّمة العلميّة، فيلزم التزاحم بين ملاكين: الطهارة المائيّة، و الابتلاء بحرمة استعمال النجس في الوضوء، و قضيّة ما ورد في أنّ «التراب أحد الطهورين» و قوله: «يكفيك عشر سنين» أهمّية ترك الابتلاء بتلك الحرمة الذاتيّة» «2».

و أنت خبير أوّلًا: بأنّ توهّم الحرمة الذاتيّة في مثل المقام، من الأمر المستنكر القبيح، فضلًا عن تصديقه، و فضلًا عن كون هذه الرواية «3»

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 51/ السطر 10.

(2) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني:

44 (مخطوط).

(3) الكافي 3: 10/ 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 206

دالّة عليه؛ لعدم دليل آخر علىٰ ذلك. فغاية ما يمكن توهّمه هي الحرمة التشريعيّة، و هي خلاف ظاهرها، و لذلك أمر بالإهراق، و إلّا فلا معنىٰ لذلك.

و حمل الأمر بالإهراق علىٰ ما هو المتعارف في كلام متعارف الناس، أو كلام العلماء من بعض الكلمات الزائدة في جواب الفتوىٰ في غير محلّه، خصوصاً بعد تكراره في الروايتين، و مع مساعدة الاعتبار. فعليه يعلم أنّ الحرمة الذاتيّة واضحة المنع جدّاً.

و ثانياً: لا يمكن الفراغ من نجاسة البدن مع تحصيل المائيّة، فيدور الأمر بين أن يصلّي بالترابيّة، أو المائيّة مع نجاسة خبثيّة مستصحبة، فيتعيّن الأوّل حسب هذه الرواية، و إلّا فلا قاعدة من دونها تقتضي تعيّن الأوّل؛ لاحتمال أهمّية المائيّة على الترابيّة الكذائيّة، و لا سيّما بعد كون الاستصحاب دليلًا شرعيّاً، فإنّه مع النظر إلىٰ تلك الجهة، لا معنىٰ لدعوىٰ أنّ الانتقال مطابق للقاعدة «1»؛ ضرورة أنّ معنىٰ «كون شي ء مطابقاً للقاعدة» أنّ هذا الأمر مع قطع النظر عن النصّ الوارد فيه ممّا يمكن الإفتاء به.

و هذا فيما نحن فيه غير ممكن؛ لأنّه إن كان الماءان كثيرين على الوجه المزبور سابقاً، أو كان أحدهما كثيراً، فعليه الوضوء و الصلاة، ثمّ الوضوء الآخر بعد الغسل بالماء الثاني، ثمّ الصلاة، كما في مشتبه القبلة، و في مشتبه المضاف و المطلق، فإنّه قد أفتى الأصحاب بتعدّد

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 276.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 207

الوضوء في الثاني «1»، و تعدّدِ الصلاة في الأوّل «2» فإذا اتفق هذان الأمران معاً فعليه تكرار

الوضوء و الصلاة، و هذا ممّا أفتىٰ به الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم، فكيف يمكن الالتزام بأنّ الرواية مطابقة للقاعدة؛ سواء جرت قاعدة الطهارة، أو لم تجرِ؟! نعم، بناءً علىٰ جريان قاعدة الطهارة، فعدم كونها مطابقة للقاعدة أوضح.

و توهّم القطع بعدم وجوب التكرار في خصوص المقام، من المجازفة، و دون إثباته خرط القَتاد.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ البحث حول قضيّة الأُصول العمليّة أمر، و كونَ الرواية مطابقة للقاعدة أو غيرَ مطابقة، أمر آخر، و الثاني علىٰ هذه التقادير، خلاف القاعدة.

و أيضاً: لا يتمكّن الفقيه من ترخيص إراقة الماء و الاقتناء بالترابيّة؛ لما مرّ أنّ من الممكن كون المسألة، من قبيل المتزاحمين، و عند ذلك لا وجه لترجيح أحد الجانبين على الآخر؛ لعدم إمكان كشف الأهمّية من دليل الترابيّة كما سمعته من الوالد- مدّ ظلّه «3» لأنّ هذا بعد الفراغ عن تحقّق موضوعه، و هو الآن أوّل الكلام، فهذه الرواية مخالفة للقاعدة علىٰ جميع الشقوق، و لا سيّما علىٰ فرض دلالتها على التخيير بين المائيّة

______________________________

(1) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 128/ السطر 15.

(2) لاحظ مفتاح الكرامة 2: 119/ السطر 27.

(3) تقدّم في الصفحة 205.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 208

و الترابيّة، فتأمّل.

نعم، بناءً علىٰ ما استظهرناه، تكون موافقة للقاعدة أيضاً؛ أي لو فرضنا كون المورد المفروض فيها القليلين؛ بحيث لا يتمكّن من تطهير الأعضاء بعد التوضّؤ بالماء الثاني، فلا يتمكّن من تحصيل الطهارة المائيّة، و يلزم نجاسة بدنه بالعلم التفصيليّ، و حيث قد عرفت عدم ثبوت الإطلاق لها حتّى تشمل الكثير و القليل «1»، فينحصر العمل بها في القليلين، و في غير هذه الصورة يجب التكرار؛ بإتيان الصلاتين عقيب الوضوءين.

إن قلت: لا بدّ من الالتزام بأنّ

موردها أعمّ من القليل و الكثير؛ لأعمّيتها من الوضوء و الغسل. و حملها على القليل غير الكافي لتحصيل الطهارة المائيّة الوضوئيّة؛ إذا كان محتاجاً إلى الوضوء، و علىٰ غير الكافي لتحصيل الطهارة الغُسْليّة؛ إذا كان الرجل المفروض جُنباً، في غاية البعد، فيعلم من ذلك أعمّيتها من تلك الجهة، فمع إمكان القطع بفراغ ذمّته بالتكرار، أمر بالتيمّم علىٰ خلاف القاعدة.

قلت: الأمر كما حرّر، و لكن ملاحظة صدرها ربّما يورث الوثوق؛ بأنّ المفروض هو احتياجه إلى الوضوء، ففي «الكافي» عن عثمان بن عيسىٰ، عن سَماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن جرّة وجد فيها خنفساء قد مات.

قال: «ألقه و توضّأ منه، و إن كان عقرباً فألقه فأرق الماء، و توضّأ من ماءٍ غيره».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 194.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 209

و عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر .. «1».

مع أنّ هذا الفرض هو المتعارف، و الالتزام بالفرض المزبور غير بعيد في ذاته.

و هنا شبهة أُخرى في الرواية: و هي أنّ كون المراد من «القذر» هو النجس الشرعيّ، غير واضح؛ لما عرفت من الأمر بإراقته فيما إذا وقع فيه العقرب، فربّما يجوز حسب النظر البدويّ فيها جواز التيمّم فيما إذا كان الماء مستقذراً عرفاً، فتكون الرواية مورد الإعراض، و ساقطة عن الحجّية، فتأمّل.

الرابعة: في جواز التطهير بهما لرفع الخبث و كيفيّته
اشارة

فعن «نهاية العلّامة»: جوازه و صحّة الاكتفاء بالمرّة «2».

و هذا يتمّ علىٰ ما بنينا عليه في أطراف العلم الإجماليّ: من جريان الأُصول المرخّصة، و تقدّمها علىٰ إطلاق دليل الحكم الواقعيّ «3».

و لعلّ إليه يرجع ما حكي عنه: من الاستدلال بإطلاقات دليل مطهّرية المياه؛ و أنّ ما هو الخارج عنها ما علم بنجاسته تفصيلًا. فما في

بعض كتب العصر؛ من الإشكال علىٰ هذا الاستدلال: بأنّ الطهارة شرط في مطهّرية

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 6.

(2) مفتاح الكرامة 1: 127/ السطر 24، نهاية الإحكام 1: 249.

(3) تقدّم في الصفحة 175.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 210

الماء، فلا بدّ من إحرازها «1»، لا يخلو عن غرابة؛ لأنّ ما هو الشرط هي الطهارة المعلومة بالتفصيل.

مع أنّ الشرط لو كان واجب الإحراز، لما صحّ له التمسّك بقاعدة الطهارة في صحّة التطهير؛ لعدم كونها من الأُصول المحرزة عند الكلّ. و الالتزام بحكومتها على الدليل الأولي غير هذا، كما لا يخفى. و قد مضى تفصيل المسألة بشقوقها سابقاً، و ذكرنا: أنّ في مثل المفروض في المقام لا بدّ من الاحتياط «2».

مختار السيّد بحر العلوم و صاحب الجواهر (قدّس سرّهما)

و عن «منظومة الطباطبائيّ» و صاحب «الجواهر» «3» بل و جملة من المحقّقين «4»، جواز الاكتفاء، و لكن يكرّر التطهير بعدد رؤوس الأواني إلّا في الشبهة غير المحصورة، فإنّه عند ذلك يعلم بالطهارة؛ و ذلك لأنّ النجاسة السابقة مقطوعة الزوال، و النجاسة الأُخرىٰ مشكوكة الحدوث، فيجري استصحاب الطهارة بعد التطهير، و لذلك اشتهر القول بالأخذ بضدّ الحالة السابقة «5». و العلم الإجماليّ بطروّ الحالتين بلا أثر؛ لأنّ النجس لا يتنجّس.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 288.

(2) تقدّم في الصفحة 180.

(3) الدرّة النجفيّة: 8، جواهر الكلام 1: 305.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 288، مصباح الفقيه، الطهارة: 51/ السطر 29.

(5) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 264.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 211

نعم، إذا كان أحد الإناءين المشتبهين بولًا، و قلنا بلزوم التعدّد في ملاقيه، و كان الثوب المفروض غير متنجّس به، فللعلم الإجماليّ حينئذٍ أثر، فالاستصحاب غير جارٍ هنا، فتجري القاعدة.

إشكال علىٰ جريان قاعدة الطهارة في المقام

نعم، قد يشكل جريانها؛ لأجل أنّ المتفاهم منها صورة عدم العلم بحالة سابقة للشي ء، أو أنّ قضيّة الجمع بين دليل الاستصحاب و قاعدة الطهارة، سراية قيد إلىٰ مصبّها، و فيما إذا سقط الاستصحاب لأجل المزاحمة، أو المعارضة، أو غير ذلك يلزم الإجمال في مجرى القاعدة؛ لما تقرّر منّا: من أنّ القوانين الكلّية بعد المقيّدات و المخصّصات، تجعل في كيس واحد، و يصير كلّ من العامّ و المخصّص قيداً للآخر، و تسري جميع الخصوصيّات من أحدهما إلى الآخر. و لذلك ربّما يصير قرينة على انصراف معنى العامّ إلىٰ معنى آخر بالمرّة؛ بحيث لو لم يكن له مخصّص، كان له معنىً آخر حسب المتبادر من ألفاظه.

و هذا الذي ذكرناه يجري في جميع القوانين؛ سواء كانت بينها التقييد و

التخصيص، أو بينها الحكومة و الورود، فليتدبّر.

توهّم رجوع الاستصحاب في المقام إلى استصحاب الفرد المردّد

و أمّا الإشكالات المتداولة علىٰ جريان استصحاب الطهارة في مفروض المسألة لا في الفرض الذي ذكرناه أخيراً و آنفاً فتفصيلها

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 212

في محلّها.

و من المعروف من بينها: أنّ استصحاب الطهارة من استصحاب الفرد المردّد.

و فيه: أنّ في مسألة الفيل و البقّة، إن أُريد استصحاب الفيل أو البقّة فلا يجرِي، و إن أُريد استصحاب الجامع فلا بأس به من هذه الجهة. ففيما نحن فيه لا أُريد إلّا استصحاب عنوان طهارة الثوب، فإنّه لا تردّد فيها، و إلّا فجميع الاستصحابات من الفرد المردّد؛ لأنّه مقتضى الشكّ في البقاء، ضرورة أنّ كلّ شكّ في بقاء شي ء يرجع إلى الأمرين المردّدين، فإن أحدث فهو ليس علىٰ طهارة قطعاً، و إن لم يحدث فهو طاهر قطعاً و هكذا، فلا تغفل.

هذا مع أنّ في مفروض البحث، لو أشكل جريان الاستصحابين، تجري القاعدة عند الأصحاب، فتصير النتيجة هو جواز الاكتفاء بالتطهير مراراً.

و الذي يتوجّه إليهم ما مرّ: من أنّ التطهير بالإناء الثاني، يستلزم القطع بتنجّس الجسم المتطهّر به؛ لأنّ التطهير تدريجيّ الوجود، فلا يجري استصحاب الطهارة، و لا قاعدتها «1».

قولان آخران في المسألة

و عن جماعة من الأصحاب: صحّة الاكتفاء إذا كان الماء الثاني كرّاً، و قد مرّ ما يتعلّق به «2».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 200 201.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 213

و القول الأخير: عدم إمكان الفراغ من النجاسة و إن يتمكّن من النجاسة الاولىٰ، فلو كانت هي النجاسة البوليّة المحتاجة إلى التعدّد، فعليه التطهير، ثمّ الصلاة في الثوب المتطهّر به فيما إذا كان منحصراً به؛ بناءً علىٰ وجوب تخفيف النجاسة الخبثيّة حين الابتلاء بصرف وجودها في الصلاة؛ لأجل مرخّص شرعيّ، فافهم و

اغتنم.

ثمّ إنّه من الممكن دعوى شمول الروايات السابقة لهذه المسألة؛ بدعوىٰ أنّ المستفاد منها، قصور الماء المشتبه عن إمكان التطهير به مطلقاً، و إن كان في ذيلها الأمر بالتيمّم.

و بناءً علىٰ أعمّية موردها من القليلين، يحكم بالإهراق أيضاً تعبّداً؛ بناءً علىٰ توهّم إمكان التطهير.

فصل في حكم الإناء الباقي بعد إراقة أحد الإناءين المشتبهين
اشارة

إذا كان إناءان: أحدهما المعيّن نجس، و الآخر طاهر، فاريق أحدهما، و لم يعلم أنّه أيّهما، فالمعروف بين أبناء العصر محكوميّة الباقي بالطهارة «1».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 262، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 430، مهذّب الأحكام 1: 275.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 214

و قيل: «هذا فيما إذا لم يكن مثلًا موضع الإراقة، ممّا يصحّ عليه السجود، فإنّه عند ذلك يعلم إجمالًا بحرمة السجدة، و حرمة الاستعمال، فعليه الاحتياط» «1» و هذا لا ينافي ما أفادوه؛ لأنّه خارج عن منصرف كلامهم.

و قال في «العروة»: «و هذا بخلاف ما لو كانا مشتبهين، و أُريق أحدهما، فإنّه يجب الاجتناب عن الباقي. و الفرق أنّ الشبهة في تلك الصورة بالنسبة إلى الباقي بدويّة و في هذه الصورة مقرونة بالعلم الإجماليّ المنجّز «2»، انتهىٰ مراده. و قد سكت الوالد المحقّق هنا في تعليقته.

و في المسألة عندي إشكال: و هو أنّ ما أفادوه في وجه عدم الوجوب، فقد شرط التنجيز؛ و هو الخروج عن محلّ الابتلاء «3»، و هذا غير صحيح؛ لأنّ الإراقة هي إعدام الموضوع، و الخروج عن محلّ الابتلاء فرع بقائه، و لذلك قيل في وجه عدم التنجيز: بقبح الخطاب، و استهجان التكليف، لا انعدام موضوعه «4» كما لا يخفى. هذا إشكال على الأعلام.

وجه عدم وجوب الاجتناب عن الباقي

فيكون وجه المسألة أنّ الشبهة بدويّة، و لا علم بالتكليف، و العلم بنجاسة إناء و أرض لا تكون مورد التكليف، و لا الوضع ليس ذا

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 280، العروة الوثقىٰ 1: 53، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 8، الهامش 4، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 430.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 53، فصل في المياه، الماء

المشكوك نجاسته، المسألة 8.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 262، دروس في فقه الشيعة 2: 224.

(4) فرائد الأُصول 2: 420، نهاية الأفكار 3: 338 339.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 215

أثر، بل المناط هو العلم بالتكليف على الوجه المحرّر في محلّه «1».

إذا عرفت ذلك، ففيما إذا أُريق أحد الأطراف بعد العلم بالتكليف، فلا وجه لتنجيز العلم؛ لانتفائه، ضرورة أنّ ما هو الباقي هو العلم بنجاسة أحد الإناءين بنفسه، و أحد الماءين، و هو ليس مناط تنجيز الحكم و تصحيح العقوبة، و ما هو المناط غير باقٍ، و قد اشتهر بين أعلام العصر: أنّ الأثر تابع المؤثّر حدوثاً و بقاءً، و أنّ التنجيز تابع العلم حدوثاً و بقاءً، فلا وجه للاحتياط بعد الإراقة.

و دعوى العلم الفعليّ بالتكليف مجازفة؛ ضرورة أنّ التكليف متقوّم بالموضوع، و إذا كان موضوعه «الماء المراق» احتمالًا، فلا علم به؛ أي لا يمكن دعوى وجود الخطاب فعلًا.

نعم، إذا قيل: بأنّ أثر العلم باقٍ بحكم العقل، فهو له وجه بأن يقال: كما أنّ العقل حاكم بصحّة العقاب على ارتكاب أحد الأطراف سواء ارتكب الآخر، أو لم يرتكب كذلك حاكم بذلك، سواء بقي الطرف، أو لم يبقَ.

و لكنّه غير وجيه؛ لأنّ تنجيز التكليف موقوف على الشكل الأوّل، و هو «أنّ هذه الإناء أو ذاك نجس» «و النجس واجب الاجتناب» «فهذا أو ذاك واجب الاجتناب» و القضيّة الاولىٰ منتفية فلا علم بالنتيجة. و توهّم جريان الاستصحاب التعليقيّ في الحكم العقليّ، فيجب الاجتناب، في نهاية الضعف كما لا يخفى.

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 7: 401.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 216

و لا ينبغي الخلط بين حالة بقاء الطرف و حالة انعدامه؛ ضرورة أنّه مع بقائه

يتمّ الشكل و ينتج، و مع انعدامه لا يجد العقل إلّا وجود التكليف المحتمل. و كفاية العلم السابق لصحّة العقاب؛ و أنّه بيان، غير واضحة جدّاً.

هذا، و لو فرضنا ذلك، فلا شبهة في عدم قصور شمول أدلّة الأُصول لهذه الصورة، مع عدم إمكان المعارضة بينه و بين الأصل الجاري في المعدوم من صفحة التكوين.

و توهّم سقوط الأصل بالمعارضة، فلا أصل بعد ذلك، ممّا يضحك عليه؛ لأنّ كلّ واحد منهما لأجل المانع قاصر عن التأمين، و إذا ارتفع المانع يكون مؤمّناً. هذا كلّه على طريقة القوم.

و أمّا علىٰ طريقتنا في الجمع بين أدلّة الأُصول و الأمارات و هي إنكار الحكم الظاهريّ، و إثبات العموم من وجه بين تلك الأدلّة و التزاحم «1» فالجواز في جميع الأطراف علىٰ حسب القواعد، إلّا فيما ذكرناه سابقاً «2»، و هذه المواقف خارجة عن تلك المواضع التي رجّحنا فيها الاحتياط على الاقتحام و ارتكاب الأطراف، فليتدبّر.

و ممّا أشرنا إليه يظهر وجه سكوته- مدّ ظلّه هنا، مع أنّه يقول: بأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا يضرّ بالتنجيز، حسب ما أسّسه في القوانين

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 6: 255 256.

(2) تقدّم في الصفحة 180.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 217

الكلّية «1». و نِعم ما أسّس؛ فإنّ المسألة ليست من صغريات الخروج عن محلّ الابتلاء، كما عرفت «2».

ذنابة: في أنّ مجرّد الإراقة لا تسقط العلم

قد يشكل الأمر في صغرى المسألة المذكورة؛ لأنّ إراقة الماء واجب الاجتناب، لا تورث سقوط العلم، لأنّ الماء المفروض إذا أُريق على الأرض، أو علىٰ شي ء آخر، فغايته أنّه مع عدم إمكان استعماله في الأكل أو الشرب، لا يكون غير قابل لدلْك اللّسان به؛ فإنّه محرّم علىٰ فرض كونه نجساً، و هكذا ممنوع ذلك

في نفس الإناء أيضاً، فيعلم إجمالًا بحرمة هذا أو ذاك، فالإراقة لا تورث الخروج عن دائرة إمكان التكليف.

نعم، إذا أمكن إعدام الإناء و ما فيه، فهو من صغريات المسألة المفروضة. و هنا بعض أُمور أُخر لا خير في التعرّض لها، فتدبّر.

فصل في حكم ما لو توضّأ من أحد الإناءين ثمّ علم بنجاسة أحدهما
اشارة

إذا كان ماءان، توضّأ بأحدهما أو اغتسل، و بعد الفراغ حصل له العلم

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 280.

(2) تقدّم في الصفحة 214.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 218

بأنّ أحدهما كان نجساً، و لا يدري أنّه هو الذي توضّأ به أو غيره، ففي صحّة وضوئه أو غسله إشكال؛ إذ جريان قاعدة الفراغ هنا محلّ إشكال، لما قيل في محلّه: من اختصاص أدلّتها بصورة الشكّ في التطبيق، دون صورة الشكّ في الانطباق «1»، و إلّا يلزم فيما اشتبه قيود المأمور به بين كثير، جواز الاكتفاء بإتيانه مرّة واحدة؛ لأنّه إذا أتى مثلًا بصلاة إلىٰ طرف في صورة اشتباه القبلة أو في ثوب، يشكّ في صحّتها و فسادها، فأصالة الصحّة إذا كانت حاكمة بها، فلا وجه لتكرارها. و هكذا فيما إذا اشتبه ماء الوضوء، و غير ذلك من الصور.

و لا أظنّ أن يلتزم بذلك أحد من القائلين بجريانها في الصورة الثانية، فكأنّ المفهوم من أدلّتها بعد ضرب صدرها بذيلها لزوم كون المصلّي في مقام الإتيان بما يعتبر فيها، فإذا فرغ منها و شكّ فلا يعتنِ به، و يبنِ علىٰ صحّتها؛ لأجل القاعدة، سواء كانت هي قاعدة التجاوز، أو قاعدة الفراغ، أو أصالة الصحّة، على اختلاف المسالك و التعابير.

و قد يشكل علىٰ ما ذكرناه: بأنّ لازمه عدم جواز إجرائها فيما إذا أتى الجاهل بالصلاة و الوضوء مدّة، ثمّ تبيّن له بعد تلك المدّة اشتراط المأمور به

بأمر، و كان يحتمل إتيانه به حين الاشتغال من باب الصدفة و الاتفاق، أو من باب اعتقاده بأنّه مستحبّ، و لم يكن بناؤه على الإتيان به، و هذا بعيد جدّاً؛ ضرورة أنّه إذا توجّه إلىٰ تركه لا يكون عليه شي ء؛ بناءً على جريان قاعدة «لا تعاد ..» في حقّ الجاهلين، و إذا كان باقياً علىٰ جهله

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 254.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 219

يجب عليه الإعادة؛ لعدم جريان القواعد المصحّحة المعوّل عليها في مقام الامتثال.

توهّم أنّ الأذكريّة علّة لجريان قاعدة الفراغ

و في بعض كتب فضلاء العصر: الاستدلال علىٰ لزوم الأذكريّة و الأقربيّة إلى الحقّ، كما في أخبار المسألة؛ و أنّ ذلك علّة لا حكمة «1»، و نكتة إلى أنّ الحِكَم الشرعيّة هي الأُمور المترتّبة على المجاعيل الإلهيّة، كعدم خلط المياه علىٰ جعل العدّة، و ذهاب الأرياح المنتنة في غسل الجمعة، و أمثال ذلك، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

و ما فيه غير خفيّ؛ لأنّ مفهوم «الحكمة» لو اقتضىٰ ذلك، لكنّ المراد أمر آخر؛ و هو أنّ الشرع تارة: يجعل حكماً مدار أمر حدوثاً و بقاءً، و أُخرى: لا يكون كذلك، و هذا الأمر كما يمكن أن يكون من قبيل الأُمور الواقعة في سلسلة المعاليل، كذلك يمكن أن يكون واقعاً في سلسلة العلل، و هكذا النكت و الحِكَم، و لا سند من العقل علىٰ خلاف ذلك.

و أعجب من ذلك ما قيل في المقام: من التقييد بين المطلقات و المقيّدات «2»!! فإنّ التقييد فرع ظهور القيد في كونه قيداً في الحكم، و هذا هنا لعدم مساعدة فهم العرف- غير واضح. و المسألة بعدُ تحتاج إلى التأمّل، و لا سيّما في مآثيرها.

______________________________

(1) التنقيح في شرح

العروة الوثقىٰ 1: 433.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 220

الوجه في عدم صحّة الوضوء في المقام

و الذي يسهّل الخطب: أنّ المسألة من أجل أمر آخر، يشكل الحكم فيها بالصحّة؛ و ذلك لأنّ المفروض إناءان: أحدهما صغير مثلًا، و الآخر كبير، فتوضّأ بالصغير مثلًا، ثمّ علم إجمالًا بنجاسة أحدهما، و مقتضى ذلك هو العلم الإجماليّ بنجاسة الكبير و الإناء الصغير و الأعضاء في عَرْض واحد، فيشكل جريان الأُصول في الأطراف كلّها، أو تتساقط؛ و ذلك لما مضى: من أنّ العلم الإجماليّ و إن كان حاصلًا قبل الملاقاة، ينجّز ملاقي الأطراف؛ ضرورة أنّ العلم الثاني و إن لا يكون مورثاً لانحلال العلم الأوّل، و لا موجباً لاستناد تنجّز التكليف إلىٰ مجموع العلمين بقاءً، و لكن يورث حدوث الصور العلميّة الحادثة بالتكليف؛ للملازمة القطعيّة بين الملاقي و الملاقىٰ، و عند ذلك يتعيّن الاحتياط، فيكون الوضوء باطلًا؛ لأجل عدم ثبوت شرط صحّته، و هو طهارة الماء.

و ما في بعض كتب المعاصرين: من دعوى العلم الإجماليّ ببطلان الوضوء، و نجاسة الكبير في المثال المشار إليه «1»، غفلة و ذهول؛ لأنّه يرجع إلىٰ جواز انحلاله بالأصل المثبت في طرف، و الرجوع إلى القاعدة في الآخر؛ ضرورة أنّ قضيّة الاستصحاب عدم كونه متوضّئاً، فلا يلزم المخالفة العمليّة من إجراء قاعدة الطهارة في الكبير، فما هو المعلوم بالإجمال هو النجاسة المردّدة بين الأعضاء و الإناء، و بين الكبير.

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 253 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 221

تفصيل بين بقاء الماء المتوضّأ به و عدمه

ثمّ إنّ المسالك في المسألة كثيرة، و آراء الفضلاء هنا متشتّتة، و هي ربّما تؤدّي إلى التفصيل في المسألة بين بقاء الماء المتوضَّأ به و عدمه، فمثل الشيخ الأعظم و بعض أتباعه، ذهب إلىٰ جواز إجراء القاعدة في الوضوء «1»؛ لعدم معارض لها؛ و

أنّ الوضوء كالملاقي، فمع بقاء الملاقى و الطرف يكون الملاقي بلا معارض؛ لأنّ ميزان التنجيز ليس المعيّة في العلم، بل الميزان هي العلّية في المعلوم، فبما أنّ الملاقي معلول الملاقى، يكون في التنجيز أيضاً متأخّراً عنه.

نعم، مع انعدام الملاقى يصير الأصل في الملاقي، و القاعدة في الوضوء معارضة بالقاعدة في الكبير.

و الذي هو الأقرب إلى النظر: هو أنّ الوضوء إذا كان بنفسه طرف العلم، فلا منع من إجراء القاعدة في الكبير؛ لأنّ من جريان استصحاب عدم الوضوء و القاعدة في الكبير، لا يلزم مخالفة عمليّة، كما عرفت آنفاً.

فعلى جميع المسالك، لا بدّ من الالتزام بطهارة الإناء الكبير في صورة فقد ماء الصغير، و عدم كون الإناء الصغير طرفاً للعلم بأن ينعدم مثلًا، فما في كتب الأصحاب صدراً و ذيلًا لا يخلو عن تأسّف. كما أنّ التفصيل بين بقاء الصغير و عدمه، ممّا لا بدّ منه في خصوص المقام؛ لنكتة اختصّت به.

نعم، علىٰ ما سلكناه يشكل ذلك، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 283، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 259 و 267.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 222

تذنيب: فيما لو علم إجمالًا بالوضوء من أحدهما ثمّ علم بنجاسة أحدهما

كان الكلام فيما إذا توضّأ بالصغير، ثمّ توجّه إلى نجاسة مردّدة بينه و بين الكبير. و الذي قد يفرض أنّه توضّأ بأحدهما، ثمّ توجّه إلىٰ نجاسة غير المعيّن.

و بعبارة اخرىٰ: يعلم إجمالًا بالوضوء من أحدهما، و يعلم إجمالًا بنجاسة أحدهما، و لعلّه هو الظاهر من «العروة» «1» و حكمه عندنا حكم سابقه علماً، و أصلًا، و قاعدةً.

و هنا صورة أُخرى: و هي ما لو علم إجمالًا بتوضّئه من أحدهما، ثمّ علم تفصيلًا بنجاسة الصغير، ففي بعض كتب الفضلاء المعاصرين- مدّ ظلّه: «أنّه لا مانع من إجراء

القاعدة في الوضوء، بل لك إجراء قاعدة الطهارة في الماء المتوضَّأ به؛ لحكومتها علىٰ قاعدة الفراغ» «2».

و فيه: أنّه إذا كان غافلًا عن شرطيّة طهارة الماء، ففي جريانها إشكال مضى «3»، و لقد أفاد هو: «أنّ المعتبر كون الفاعل في مقام الإتيان بما يعتبر في المأمور به، و أمّا الأُمور الخارجة عن اختياره و هو الانطباق و اللّاانطباق فليست مجراها.

هذا، و جريان قاعدة الطهارة في مثل المفروض مشكل أيضاً؛ لانعدام

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 11.

(2) دليل العروة الوثقىٰ 1: 257.

(3) تقدّم في الصفحة 220.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 223

موضوع القاعدة، بعد ظهورها في الشكّ في نجاسة شي ء و طهارته، و إمكان الإشارة إلىٰ ما توضّأ به، غير كافٍ حسب الفهم العرفيّ.

نعم، إذا بقي من الإناء الذي توضّأ به شي ء من الماء، فإجراؤها في الموجود ربّما يكفي لصحّة الوضوء، فلا تصل النوبة إلىٰ قاعدة الفراغ.

مسألة: في حكم الشكّ في أنّ الوضوء كان من الطاهر أو النجس

إذا علم: بنجاسة أحدهما المعيّن، و طهارة الآخر، فتوضّأ، و بعد الفراغ شكّ في أنّه توضّأ من الطاهر أو من النجس، فاستظهر في «العروة» صحّة الوضوء؛ معلّلًا: بجريان القاعدة فيه.

و قال: «نعم، إذا علم أنّه كان حين التوضّي غافلًا عن نجاسة أحدهما، يشكل جريانها» «1» و وجهه واضح بعد ما مرّ.

و قد يقال: بأنّ المتفاهم من حسن الحسين بن أبي العلاء، جواز المضيّ و لو مع النسيان «2»، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخاتم إذا اغتسلت.

قال (عليه السّلام): «حوّله من مكانه».

و قال: «في الوضوء تديره، فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة، فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «3».

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته،

المسألة 11.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 266.

(3) الكافي 3: 45/ 14، وسائل الشيعة 1: 468، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 41، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 224

و لأجل ذلك يتعيّن حمل ما في الموثّق على الحكمة، لا العلّة التي يطّرد معها الحكم وجوداً و عدماً.

و فيه أوّلًا: أنّ الظاهر منه، أنّ مع النسيان و لو علم بعدم وصول الماء إلىٰ محلّ الخاتم، لا يأمره بالإعادة، و هذا غير مفتى به.

و ثانياً: أنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام): «تعيد الصلاة» أنّه صلّىٰ، و بعد ذلك توجّه إلىٰ نسيانه الإدارة حال الوضوء، و لا يعلم منها إجراء القاعدة في الوضوء، بل الظاهر إجراؤها في الصلاة، و أمّا صحّة الوضوء فهي أمر آخر، و قد تقرّر: أنّ جريانها في الصلاة لا يستلزم صحّته، فلا منع من إجرائها في الصلاة هنا، و مع ذلك تجب عليه إعادة الوضوء للصلاة الأُخرىٰ؛ لما تقرّر: أنّها أصل حيثيّ «1».

فبالجملة: ما هو الأظهر أنّ هذه القواعد، شرعت للتصرّف في مقام الامتثال؛ لتمنع ابتلاء المكلّفين بالوسواس و تضييع الوقت، و إن يستلزم الاكتفاء في مقام الامتثال بالأقلّ، التصرّفَ في المجعول قطعاً بحكم العقل، و لكن ليس معناه صحّة إجرائها في مطلق الشكّ في الصحّة و الفساد.

و ممّا يؤيّد ذلك: أنّ أصالة الصحّة من قبيلها، و هي أصل عقلائيّ، و لا شبهة أنّ الأمر عند العقلاء على البناء على الصحّة؛ لبنائهم على الإتيان، و هذه لا يمكن إجراؤها في الشكّ في الانطباق، فلا تغفل.

______________________________

(1) لاحظ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 342.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 225

المبحث الحادي عشر في الماء المشتبه من حيث الإطلاق و الإضافة
اشارة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 227

تمهيد

قد مرّ ما يتعلّق به في أوّل مباحث المياه، و ذكرنا: أنّ ما أفاده الأصحاب الأُصوليّون: من المراجعة إلى الاستصحاب فيما إذا كانت حالته السابقة الإطلاق، محلّ منع «1»؛ لأنّ الشكّ في بقائه على الإطلاق، يرجع إلى الشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب؛ ضرورة أنّ الاستصحاب لا يمكن في المقام إلّا بأن يقال: «كنت علىٰ يقين من إطلاق هذا» مشيراً إلىٰ ما في الخارج، مع أنّه يحتمل كونه ليس ماءً؛ لأنّ الإطلاق ليس من الأوصاف الزائدة علىٰ حقيقته. و هكذا إذا كانت حالته السابقة هي الإضافة، و شكّ في انقلابه إلى الماء.

و توهّم إمكان إجرائه لإحراز المائيّة؛ بأن يقال: «هذا الموجود كان ماءً» في غير محلّه؛ لأنّه ربّما يشير إلىٰ ما ليس له الوجود في السابق؛ لعدم الجامع بين الماءين- المضاف و المطلق إلّا في المادّة الاولى الخارجة عن حقيقتهما، فلا تغفل.

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 100.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 228

ثمّ إنّه إذا لاقاه نجس، فلا يحكم بنجاسته إذا كان كرّاً، و الوجه واضح.

حكم اشتباه المضاف في محصور

و إذا اشتبه مضاف في محصور، يجب أن يكرّر الوضوء أو الغسل إلىٰ عدد يعلم استعمال المطلق في ضمنه، فإذا كان اثنين في الثلاثة يجب استعمال الكلّ، و إن كان اثنين في أربعة تكفي الثلاثة.

و فيما إذا كان ماء آخر معلوم، يجوز له ذلك أيضاً؛ لعدم الدليل على المنع إلّا ما مرّ في التقليد من الوجوه المذكورة على المنع من التكرار، و قد عرفت ضعفها «1».

حكم اشتباه المضاف في غير محصور و ضابط الشبهة غير المحصورة

و إذا اشتبه في غير محصور، ففي «العروة»: جواز استعمال كلّ واحد منها، كما إذا كان واحداً في الألف.

و قال: «المعيار أن لا يعدّ العلم الإجماليّ علماً» «2».

و قال جماعة: بعدم جواز الاكتفاء، معلّلين: بأنّ غاية ما يقتضي الاكتفاء، هو أنّ كثرة الأطراف توجب ضعف انطباق المعلوم بالإجمال علىٰ كلّ واحد واحد، و عند ذلك يحصل الاطمئنان بوجود الشرط المعتبر في صحّة الوضوء.

______________________________

(1) ممّا يؤسف له فقدان مباحث الاجتهاد و التقليد.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 229

و هذا غير تامّ، و مورد إشكال من جهات:

منها: عدم الدليل علىٰ حجّية كلّ اطمئنان عقلائيّ حاصل من أيّ سبب؛ فإنّ الأمارات حجّيتها ليست دائرة مدار تحصيلها الاطمئنان الشخصيّ، و غير الأمارات- كالقطع حجّة عقليّة أو عقلائيّة ممضاة، و أمّا حجّية الاطمئنان الشخصيّ الحاصل من ضعف الاحتمال المزبور، فهي ممنوعة. و هكذا دعوى حجّية الغلبة حجّيةً نوعيّة ممنوعة أيضاً.

و توهّم: أنّ هذا كافٍ لعدم صحّة العقوبة؛ لأنّها لا تصحّ بلا بيان، غير سديد؛ لأنّ بيانيّة العلم مفروغ عنها عندهم، مع قطع النظر عن قيام الاطمئنان علىٰ خلافه في كلّ طرف.

و منها: أنّ الاحتمالات الموهونة، غير معتنى بها في الأُمور

الدنيويّة، و أمّا في المسائل الراجعة إلى العقاب و صحّة العقوبة، فهي غير مدفوعة إلّا بحجّة شرعيّة، و إلّا يجب التحفّظ على الواقع ما دام العقل يحتمل العقوبة «1».

و فيه: أنّه لا عقاب بلا بيان، فإذا صدّقه أحد؛ لسقوط العلم عن التأثير، فلا فرق بين الدنيويّة و الأُخرويّة.

و منها: ما أفاده شيخ مشايخنا الحائريّ (رحمه اللّٰه): من لزوم التنافي بين الاطمئنان بعدم كون المضاف كلَّ واحد، و العلم بكون واحد منها مضافاً «2».

و فيه: أنّ ما هو المعلوم واحد غير معيّن، و ما هو مورد اطمينان واحد

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 406.

(2) درر الفوائد، المحقّق الحائري: 471.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 230

معيّن، و إلّا يلزم التهافت بين العلم و الشكّ في أطراف العلم الإجماليّ، كما لا يخفى.

فلو بلغت الشبهات إلىٰ ملايين الأواني، فلا بدّ من دليل يدلّ علىٰ حجّية مطلق الاطمئنان.

و توهّم الإجماع علىٰ حجّيته في خصوص هذه المسألة، أو في خصوص الشبهات غير المحصورة، غير سديد؛ ضرورة أنّ ما هو مورد الإجماع، هو جواز الاقتحام في الأطراف في الشبهات الإلزاميّة، و نحن التزمنا بذلك في المحصورة، فضلًا عن غير المحصورة، و فيما نحن فيه لا أصل يعوّل عليه في الفرض المزبور، حتّى يقال: بسقوط الشبهة غير المحصورة عن الاعتبار مطلقاً، كما تخيّلناه سابقاً، فعليه لا بدّ لنا أيضاً من البحث عن الشبهة غير المحصورة موضوعاً و حكماً، و التفصيل في محلّه «1»، و ما مضى هنا يكفي؛ لعدم مساعدة الكتاب على أكثر من ذلك.

حكم وجود الحالة السابقة لاشتباه المطلق في الكثير المضاف

و فيما إذا اشتبه المطلق في الكثير المضاف، و كان لكلّ واحد من الأواني المشتبهة حالة سابقة، فعلى ما تقرّر: من عدم جريان الاستصحاب

«2»، فالحكم واضح. و أيضاً بناءً علىٰ جريانه؛ ضرورة أنّ الالتزام بالترخيص في الكلّ جائز عندنا؛ لما مضى: من تقديم أدلّة الأُصول على

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 7: 425.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 100.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 231

الواقعيّات «1».

و عليه لا فرق بين كونه بانياً علىٰ أن يتوضّأ بكلّ واحد منها لصلاة، و بين عدمه، خلافاً لما عليه الأصحاب من الفرق بين الصورتين «2». مع أنّه بلا وجه؛ لأنّ التكليف في الأطراف إذا كان غير منجّز، فلا سبيل إلىٰ منعه عن ارتكاب ذلك.

و إن كان منجّزاً، فلا وجه لترخيصه في طرف واحد؛ فإنّ البناء القلبيّ و اللّابناء، لا يؤثر في فعليّة التكليف و عدمه، كما لا يخفى.

و هنا مسلك آخر: و هو جريان الاستصحاب في جميع الأطراف، و تساقط الكلّ، و لزوم الاحتياط؛ لما لا يرون للشبهة غير المحصورة خصوصيّة في عدم تنجيز العلم، إلّا إذا رجعت إلى الخروج عن محلّ الابتلاء، أو رجعت إلىٰ وجود مانع كالحرج و الضرر، و غير ذلك ممّا يمنع عن العلم بالتكليف مطلقاً، أو في بعض الصور «3»، فافهم و تدبّر.

تذنيب: هل يحتاج إلى الأُصول المرخّصة في الشبهة غير المحصورة؟

المسالك في سقوط العلم الإجماليّ عن التأثير في الشبهة غير المحصورة مختلفة، و ثمرة الاختلاف جواز الاقتحام في بعض الأطراف؛ من غير الاحتياج إلى الأُصول المرخّصة أو المحرزة، و عدمه إلّا معها؛

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 209.

(2) كوالده الإمام الراحل (قدّس سرّه) في أنوار الهداية 2: 233.

(3) كفاية الأُصول: 407 408.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 232

ضرورة أنّ من يقول: بأنّ وجه السقوط مثلًا، لزوم الضرر أو الحرج أو الإجماع أو النصّ، فلا بدّ له من التمسّك بها، و إلّا لو لم

يكن أصل لا يجوز البدار، كما فيما نحن فيه.

و بالاصطلاح: يصير العلم كلا علم، لا الشبهة كلا شبهة.

و من يقول: بضعف الاحتمال، و قيام الأمارة على الخلاف، فلا يحتاج إليها؛ لأجل دليل حاكم عليها، فيجوز البدار فيما نحن فيه. فعدم جريانها علىٰ هذا المسلك، ليس لإشكال في جريانها ذاتاً، كما يوهمه عبارات أصدقائنا الأفاضل، بل لحكومة في البين.

نعم، إذا حصل الاطمئنان الشخصيّ لأحد في طرف، فله دعوى الورود؛ لأنّ موضوع أدلّة الأُصول هو الشكّ، لا الاحتمال الموهون غير الخاطر في الأذهان إلّا من شذّ.

و ربّما يمكن دعوى: أنّ سقوط العلم الإجماليّ بالإجماع بعد وجود الإطلاق في معقده، أو لوجود المانع كالضرر أو الحرج، يستلزم كون الشبهة أيضاً كلا شبهة؛ للزوم الخلف، ضرورة أنّ وجوب الاحتياط بعد ذلك، أيضاً ينافيه أدلّة الضرر و الحرج، و هكذا ينافيه إطلاق الإجماع؛ للزوم لغويّته، فليتأمّل جيّداً.

كما يمكن دعوى: أنّ المسلك الأخير و هو ضعف الاحتمال، يورث سقوط العلم عن التأثير، و لا يستلزم جواز الاكتفاء باستعمال واحد منها في الوضوء، أو الغُسل، أو الغَسل؛ لأنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الواحد، يورث عند العقل أو العقلاء سقوط أثر العلم، و لكن لا دليل علىٰ حجّيته شرعاً حتّى يكون حاكماً على الأُصول،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 233

و أمارة على الواقع.

و بعبارة اخرىٰ: قصور هذا العلم عن كونه بياناً للواقع مسألة، و حجّية الاطمئنان الحاصل من الغلبة مسألة أُخرى؛ لا تلازم بينهما، فالاطمئنان المزبور ربّما يوجب سقوط بيانيّة العلم، أو الشكّ في كونه كافياً لها، و لكن لا يورث جواز الاكتفاء بواحد من الأواني في مقابل التكليف المعلوم. و هنا إن قلت قلتات لا يسعه المقام.

فصل صور الشكّ في الإضافة و الإطلاق و أحكامها
اشارة

إذا لم يكن عنده إلّا ماء مشكوك إطلاقه و إضافته، فإن تيقّن في السابق إطلاقه أو إضافته، فالمشهور علىٰ إجراء الاستصحاب «1»، و قد مرّ منّا منعه؛ لرجوع الشكّ فيهما إلى الشكّ في الموضوع بقاءً «2».

و هنا شبهة اخرىٰ: و هي أنّ موضوع الوضوء هو «وجدان الماء» أو «التمكّن من الماء» و استصحاب الإطلاق مثبت؛ لعدم إحراز الموضوع المزبور به، كما فيما إذا شكّ المأموم أنّه أدرك الإمام أم لا، فإنّ استصحاب بقاء الإمام في ركوعه إلىٰ أن ركع مثبت؛ لعدم إحراز الموضوع و هو إدراك

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 271.

(2) تقدّم في الجزء الأوّل: 100.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 234

الركوع به و إن كان هو معارضاً بمثله أيضاً. نعم، يجري استصحاب واجديّته للماء، إلّا أنّه لا يحرز أيضاً مائيّة المشكوك.

و إجراء الاستصحابين أيضاً مشكل؛ لأنّ التقيّد الذي هو المعنى الحرفيّ و النسبة الناقصة، لا يحرز باستصحاب الجزءين، و لا شبهة في أنّ الموضوع مركّب بنحو يكون بينهما ربط ناقص، و لذلك قلنا: بأنّ ما اشتهر بين المحصّلين: من إحراز أحد الجزءين بالأصل، و الجزء الآخر بالوجدان، ممّا لا أساس له «1».

و توهّم خفاء الواسطة، ممنوع كبرى، بل و صغرىً. فما ترى هنا في كلمات هؤلاء «2»، لا يخلو عن تأسّف.

نعم، بناءً على القول: بأنّ موضوع الوضوء ليس «واجد الماء» و لا «المتمكّن من الاستعمال» بل الوضوء واجب على المكلّف كما هو ظاهر الكتاب، و التيمّم موضوعه «العجز» الأعمّ من الشرعيّ و العقليّ، فلجريانه وجه.

و لكنّه قد يشكل: بأنّ المتفاهم العرفيّ بعد ملاحظة القوانين، كون الموضوع المقابل للتيمّم ما يقابل موضوعه، فهو القدرة الأعمّ من الشرعيّة و العقليّة، و الإهمال الثبوتيّ ممتنع،

و الاستظهار الإثباتيّ بنظر العرف ممكن، فلا تغفل و تأمّل.

______________________________

(1) تقدّم في الجزء الأوّل: 350 351، و لاحظ الطهارة (تقريرات المحقّق الحائري) الأراكي 1: 253.

(2) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 248، مهذّب الأحكام 1: 271.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 235

حكم تيقّن واجدية الماء في السابق

و إن لم يتعيّن أنّه كان في السابق مطلقاً، فإن كان علىٰ يقين من حالته السابقة من الواجديّة، فالمذكور في بعض كتب الفضلاء: هو الرجوع إلى الاستصحاب «1».

و أنت خبير بما فيه؛ ضرورة أنّ هذا لا يحرز به حال المشكوك. و إن شئت قلت: الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الماء؛ لأنّ ما هو موضوعه هو «التمكّن مثلًا من الماء» و الآن شاكّ في مائيّة ما في الخارج، و هذا من قيود الموضوع اللّازم إحرازها قبله أو معه.

و جريان الاستصحاب في نفس ما في الخارج، من الكلّي غير الجاري فيه الأصل. مع أنّه لو قلنا بجريانه في القسم الثالث، لا يجري هنا؛ لاشتراط إحراز الموضوع في جميع الاستصحابات، فلا تخلط.

و أمّا توهّم ترتّب الأثر على الاستصحاب المزبور و هو لزوم الاحتياط فسيأتي توضيحه «2». مع أنّه من الممكن دعوى لزومه من غير حاجة إليه، كما لا يخفى.

حكم ما إذا لم تكن حالة سابقة مثلًا

و إن لم يكن علىٰ حالة سابقة، أو كان و لم يكن الأصل جارياً، أو كان

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 249.

(2) يأتي في الصفحة 238.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 236

و لم يكن فيه الفائدة المزبورة، ففي «العروة» أفاد لزوم الترابيّة للصلاة و نحوها، و احتاط- استحباباً بالجمع بين الترابيّة و المائيّة «1»؛ و ذلك إمّا لأجل جريان أصل العدم الأزليّ، لأنّ المشكوك اتّصاف المائع بالإطلاق، و حيث إنّ الإطلاق وصف وجوديّ، كنّا علىٰ يقين من عدمه، و كان هو غير موصوف به قبل وجوده، و نشكّ في اتصافه به حين حدوثه، فالاستصحاب نافٍ لاتصافه به «2».

و فيه: أنّا لو سلّمنا جريان الأصل في الأعدام الأزليّة، فهو إمّا مخصوص بالأوصاف الزائدة على الذوات العارضة عليها

حين حدوثها، كالقرشيّة و الهاشميّة و التذكية، كما اختاره العلّامة الأراكيّ صاحب «المقالات» «3» أو هو يجري في الأوصاف الزائدة على الذوات و العارضة عليها من أوّل تقرّرها، كالقابليّة للتذكية مثلًا.

و أمّا جريانه في نفس الذوات، و في نفس الصور النوعيّة المقوّمة كالمائيّة مثلًا، فهو من الأمر المرمي باللّغو؛ ضرورة أنّ «المائعيّة» من الأوصاف الانتزاعيّة المتأخّرة عن ذات الماء، فكيف يجعلها موضوعاً للاستصحاب؟! و الأمر بعد ذلك لا يحتاج إلى التأمّل.

مع أنّ أصل جريانه، ناشئ من عدم نيل بعض المسائل العقليّة.

أو لأجل أنّ العلم الإجماليّ بوجوب المائيّة أو الترابيّة و إن كان

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 407.

(3) مقالات الأُصول 2: 167.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 237

منجّزاً، و لكن جريان الأصل النافي في طرف فقط، كافٍ لانحلاله حكماً؛ و هو استصحاب عدم كونه واجداً للماء «1».

و توهّم: أنّ ذلك مخصوص بما إذا كان موضوع الوضوء عنوان «وجدان الماء» مثلًا، و أمّا إذا كان مطلقاً فلا بدّ من الاحتياط؛ لأنّ الأصل المزبور و إن اقتضىٰ وجوب التيمّم، و لكن حكم العقل بالاحتياط في موارد الشكّ في القدرة، مفروغ عنه عند الأصحاب، في غير محلّه؛ ضرورة أنّ الاحتياط متقوّم باحتمال العقاب، و هو مسدود بعد وجود البدل شرعاً للمكلّف به، و ما فيه كثير؛ لأنّ العلم الإجماليّ هنا ليس منجّزاً، بداهة أنّ المائيّة و الترابيّة من التكاليف الغيريّة.

فالعلم الإجماليّ لا بدّ أن يرجع إلىٰ وجوب الاحتياط؛ بدعوىٰ أنّ مع الترابيّة، يشكّ في سقوط التكليف المعلوم أوّلًا المتقيّد بالمائيّة. فما ترى في كتبهم صدراً و ذيلًا- من مفروغيّة تنجيز مثل هذا

العلم «2» غفلة و ذهول.

هذا أوّلًا.

و استصحاب عدم وجدان الماء و إن كان نافياً للوضوء، و مثبتاً للترابيّة؛ بمعنى أنّ الأُصول العدميّة المضافة إلىٰ موضوعات الأحكام، إذا كانت تلك الأعدام بنفسها، أيضاً موضوعات لأحكام أُخر ك «الوجدان» و «عدم الوجدان» فيما نحن فيه، فيحرز بها نفي حكم، و إثبات حكم يقابله، و لكن

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 248.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 411، مهذّب الأحكام 1: 271.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 238

بعد مفروضيّة الإطلاق في دليل الوضوء، فلا يعقل نفي الوضوء به؛ لعدم كونه موضوعه.

و هذا ثانياً.

و الإهمال في موضوع الوضوء بعد ثبوت الموضوع للترابيّة، غير ممكن ثبوتاً، و ممكن إثباتاً. و لكن قد مضى عدم سكوت العرف هنا «1»، بل المتفاهم من الأدلّة أنّ له أيضاً موضوعاً خاصّاً، كالترابيّة، فالإطلاق المفروض غير قابل للتصديق.

هذا، و استصحاب عدم الوجدان، لا يجري فيما إذا كان واجداً للماء قبل هذا الماء المشكوك، كما هو المتعارف. و إذن لا ينفع استصحاب الوجدان لصحّة الاكتفاء بالوضوء بهذا المشكوك حاله، كما مضى تفصيله «2».

و لكن يضرّ بأصالة عدم وجدانه الماء، فلا يجري الأصلان: لا الأصل المحرز به موضوع المائيّة؛ لأنّه مثبت، و لا الأصل المحرز به الترابيّة؛ لعدم الحالة السابقة له، فتعيّن الاحتياط، فلا يتمّ ما في «العروة» إطلاقاً «3». بل فرض عدم الحالة السابقة لواجديّة الماء، نادر جدّاً، و لذلك احتاط بعض الأعلام وجوباً في المسألة «4».

و ربّما يتوهّم عدم جريان الأُصول العدميّة المضافة إلىٰ موضوعات

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 234.

(2) تقدّم في الصفحة 237.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3.

(4) العروة الوثقىٰ 1: 51، فصل في

المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3، الهامش 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 239

الأحكام؛ لأنّها من المثبتات، فلا ينفع الأصل المزبور لنفي الوضوء «1».

و فيه: أنّه لو سلّمنا ذلك فهو كافٍ؛ لأنّه إذا كان ينفع لإثبات الترابيّة، فلا حاجة إلىٰ نفي المائيّة كما لا يخفى.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّه بعد سقوط العلم الإجماليّ؛ لأجل أنّ متعلّقه من الأحكام الغيريّة لا النفسيّة، و بعد عدم وجود أصل يصحّ الاتكاء عليه إلّا في فرض نادر، يتعيّن الاحتياط؛ لأنّ التكليف بالمائيّة معلوم، و الشكَّ في القدرة لا يورث قصوراً فيه علىٰ ما تقرّر «2»، فلا بدّ من المائيّة، ثمّ تحصيل الترابيّة؛ حتّى يقطع بسقوط التكليف الصلاتيّ، فيظهر أنّ لزوم الاحتياط، لا يتوقّف علىٰ ثبوت العلم الإجماليّ المزبور.

أو لأجل أنّ سبب الانتقال من المائيّة إلى الترابيّة، هو عدم القدرة و التمكّن من استعماله؛ الأعمّ من كونه لأجل عدم الاستطاعة العقليّة، أو الشرطيّة «3»، أو لعدم العلم بالماء، و إذا شكّ في مائع أنّه ماء يجب التيمّم؛ لعدم تمكّنه من استعمال الماء، فنفس الشكّ كافٍ للقطع بالترابيّة، فالاحتياط بالمائيّة حسن إذا لم يكن تشريع في البين «4».

و فيه: أنّ الأدلّة في الترابيّة قاصرة عن إثبات شرطيّة الإحراز؛ بنحو الجزئيّة كان، أو بنحو تمام الموضوع؛ ضرورة أنّ كون الموضوع عدم الوجدان، أو عدم التمكّن، لا يستلزم شرطيّة الإحراز، بل هما من العناوين

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 272.

(2) تقدّم في الصفحة 237.

(3) مهذّب الأحكام 1: 271.

(4) دروس في فقه الشيعة 2: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 240

الواقعيّة، يتعلّق بهما العلم تارة، و الجهل اخرىٰ. و ما ترى في كتاب شيخنا المعاصر الحلّي- مدّ ظلّه، في غاية الوهن.

كما أنّ

ما سلكه في هذه الصفحات لا يخلو عن اغتشاش، خصوصاً فيما نسبه إلىٰ ماتنه من المناقضة في فتاويه «1»؛ فإنّه لعدم تأمّله فيما أفاده في كتاب التيمّم، ظنّ التناقض، فراجع.

فبالجملة: إنّه توهّم اقتضاء كون الموضوع عدم التمكّن من ذلك الشرط، و هذا بديهيّ البطلان، و لا دليل علىٰ خلافه. بل قضيّة ما ورد في الأخبار: من إيجاب الإعادة علىٰ ناسي الماء «2»، هو عدم كونه موضوعاً، و لا شرطاً، فتأمّل جيّداً.

فرع في حكم دوران المائع بين الإضافة و الإطلاق

إذا دخل الوقت، و لم يكن عنده إلّا مائع مردّد بين المضاف و المطلق، فلا يبعد عدم وجوب الاحتياط؛ لعدم علمه بالتكليف الصلاتيّ بالمائيّة، لاحتمال حدوث التكليف بالترابيّة، فلا شكّ في السقوط، بخلاف الفرض السابق.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ التكاليف قبل الوقت تعليقيّات، كما لا يبعد في الجملة.

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 213 217.

(2) الكافي 3: 65/ 10، وسائل الشيعة 3: 367، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 5.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 241

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 241

و ربّما يشكل جريان استصحاب عدم الوجدان؛ لدعوى انصراف أدلّة الاستصحاب عن مثل هذه الصورة؛ و هي ما إذا كان قبل الوقت غير واجد، و في الوقت مردّداً؛ فإنّ من شرائط جريانه، كون اليقين في ظرف وجوده ذا أثر شرعيّ، و هنا ليس كذلك كما لا يخفى.

و فيه منع كبرويّ، بل و صغرويّ، فلا تخلط، و لا تغفل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 243

المبحث الثاني عشر في الماء المشتبه من حيث الحرمة و الإباحة
اشارة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 245

تمهيد

الكلام في المقام بعد مفروغيّة اعتبار الإباحة و الحلّية في الطهارات مثلًا، و إلّا فعلى القول بصحّتها فلا ثمرة وضعيّة فيه. و أمّا جواز الشرب و سائر الاستفادات، فهو بحث موكول إلىٰ كتاب الأطعمة و الأشربة.

و أيضاً: ليس البحث هنا في الإباحة المسبّبة عن الشكّ في النجاسة و الطهارة؛ لارتفاعها بجريان الأصل في منشئها، فإذا شكّ في مشروعيّة الوضوء و حلّيته بالماء المشكوكة طهارته، فإن جرت قاعدتها يلزم منه حلّية التوضّؤ و مشروعيّته.

فبالجملة: البحث حول هذه المسألة يتمّ في ضمن مسائل:

المسألة الاولىٰ: في حكم التصرّف لماء مع الشكّ في رضا صاحبه

إذا كان الماء مملوكاً و مشكوكاً جواز التصرّف فيه؛ لعدم إحراز طيب المالك، أو كان موقوفاً و مشكوكاً حدود الوقف و هكذا، فهل يجوز التصرّف، و يباح التوضّي، أم لا؟ وجهان.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 246

ظاهر القوم هو الثاني «1»، و مقتضى الصناعة العلميّة هو الأوّل؛ لعمومات الحلّ «2» و البراءة «3»، بعد قصور الأدلّة الأوّلية عن تحريم الشبهات الموضوعيّة. و الاستناد في التحريم إلىٰ شهادة الحال، و قرائن المحالّ، خروج عن الجهة المبحوث عنها.

و توهّم: أنّ الظاهر من الآية وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ .. «4» و من الرواية «لا يحلّ مال امرئ» «5» هو لزوم الإحراز كما عليه بعض الفضلاء «6»، فسخيف مضى سبيله مراراً.

و من هذا القبيل التمسّك بما يأتي تفصيله في المسائل الآتية؛ و هو ما ورد في رواية «لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه اللّٰه» «7» و ذلك لأنّ المستثنىٰ تابع المستثنىٰ منه، فإن أُريد منه نفي الحلّية الواقعيّة و الظاهريّة، فيكون الاستثناء أعمّ، و تكون أصالة الحلّ من تلك الوجوه و إن أُريد منه الحلّية الواقعيّة كما هو الظاهر فلا يبقى وجه للتمسّك، فلا تخلط.

______________________________

(1)

العروة الوثقىٰ 1: 224، فصل في شرائط الوضوء، المسألة 6.

(2) الكافي 5: 313/ 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

(3) التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

(4) البقرة (2): 188.

(5) عوالي اللآلي 1: 222/ 98.

(6) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 402.

(7) الكافي 1: 460/ 25، وسائل الشيعة 27: 156، كتاب القضاء و الشهادات، أبواب صفات القاضي، الباب 12، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 247

نعم، ربّما يظهر من الكتاب في سورة النور لَيْسَ عَلَى الْأَعْمىٰ حَرَجٌ .. إلى قوله تعالىٰ وَ لٰا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ .. إلىٰ آخر الآية أَوْ صَدِيقِكُمْ «1» أنّه في غير هذه المواقف، ممنوعَ الأكل و التصرّف عند الشبهة؛ ضرورة أنّ الآية سيقت لإفادة الترخيص في موارد الشبهة، و إلّا فيجوز مع العلم بالرضا الأكلُ من بيوت الأعداء، و لو كان سائر البيوت مثلها في جواز الأكل- اتكالًا علىٰ عمومات الحلّ و البراءة لما كان وجه لذكرها بهذا النحو من التفصيل الطويل.

بل الكتاب جعل هذه العناوين أمارات طيب النفس و التصرّفات المتعارفة، لا مطلق التصرّف كما لا يخفى. ففي غير هذه العناوين إمّا تكون الأمارات علىٰ خلاف الطيب، أو لا بدّ من الأخذ بنتيجة ذلك؛ و هو المنع من الأكل و الشرب و سائر التصرّفات، و منها التوضّي، و اللّٰه العالم بحقائق آياته.

و ممّا يشهد علىٰ أنّ هذه العناوين أمارات حصول الرضا و الإذن، عطف البيوت الأجنبيّة علىٰ بيوت أنفسهم، فليتدبّر حقّه. و سيأتي زيادة توضيح حول هذه المسألة في طيّ

المسائل الآتية، إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

ثمّ إنّ من المحتمل انصراف أدلّة الحلّ عن موارد الشكّ في الحلّية و الحرمة غير الثابتتين، كحلّية مال الغير و حرمته اللّتين هما تابعتان للإذن و عدمه، بخلاف الحلّية و الحرمة الثابتتين للماء و الخمر، فافهم.

هذا، و يمكن التمسّك باستصحاب عدم الطيب إذا شكّ في تحقّقه.

______________________________

(1) النور (24): 61.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 248

و توهّم أنّه غير وافٍ بتمام المقصود؛ لأنّه من استصحاب العدم النعتيّ، و ربّما لا يكون له الحالة السابقة، في محلّه، إلّا أنّه يتمّ باستصحاب العدم الأزليّ بناءً علىٰ جريانه.

المسألة الثانية: في حكم التصرّف بالماء مع الشكّ في مملوكيّته

إذا شكّ في مملوكيّته؛ و أنّه حازه أحد أم لا، و لم يكن أمارة علىٰ ذلك؛ لا من ناحية نفسه بأن يكون في يد الغير مع احتمال كونه له، و لا مسبوقاً بالملكيّة لزيد، فيكون تحت استيلائه بالاستصحاب، و يكون ملكاً له؛ لعموم دليل قاعدة اليد، أو لم يكن أصل موضوعيّ يقتضي ذلك، و لا أمارة علىٰ ملكيّته من ناحية المظروف؛ بأن يكون في إناء زيد، أو في أرض عمرو، أو تحت سلطان خالد، فهل عند ذلك يجوز التصرّف و التوضّي، أم لا؟ بعد عدم كونه من المباحات الأصليّة التي تجري فيه الأُصول النافية المفيدة لجواز الحيازة و التملّك، فضلًا عن جواز التصرّف.

فيه أيضاً كما سبق وجهان. إلّا أنّ الإشكال في تصوير صغرى المسألة؛ ضرورة أنّه إمّا يدور الأمر بين قيام الأمارات و الظنون العقلائيّة علىٰ إباحته، أو علىٰ ملكيّته، و قلّما يتّفق الشقّ الثالث، و الأمر سهل.

و محلّ البحث في هذا الفرض، هو ما إذا كان علىٰ تقدير مملوكيّته للغير غير مورد للطيب، و غير مأذون من قبل صاحبه و مالكه بالقطع و

اليقين، و إلّا فتكون حاله حال المسألة الأُولىٰ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 249

و الذي يظهر: أنّ الاستدلال بالآية السابقة «1» غير آتٍ هنا، كما لا يخفى. و لو سلّمنا قصور أدلّة الحلّ لما مضى «2» عن شمول هذه المواضيع، فلا قصور في عمومات البراءة الشرعيّة، بعد ثبوت إطلاقها للشبهات الموضوعيّة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ صحّة التصرّف الأكلي تثبت بها، و لا تثبت صحّة التصرّف الوضوئيّ؛ لأنّ اللازم إثبات التعبّد بالحلّية؛ بناءً على اشتراط كون الماء مباحاً في صحّة الوضوء، و رفع الحرمة لا يُثبت عنوان الإباحة و الحلّية، كما هو الواضح. و عدم جواز المؤاخذة على التصرّف عقلًا، لا يورث صحّة الوضوء، فالبراءة العقليّة و النقليّة قاصرتان عن إثبات المقصود؛ و هو صحّة الوضوء بالماء المشكوكة إباحته. و سيأتي زيادة توضيح في المسألة الآتية، إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

المسألة الثالثة: في حكم الماء المردّد بين كونه مال نفسه أو غيره

إذا كان الماء مردّدة ملكيّته بين زيد و عمرو، و لم يكن أصل يقتضي ملكيّته لأحدهما، و لا أمارة قائمة علىٰ لحوقه بملك أحدهما؛ بأن يكون في إناء أحدهما، أو تحت سلطانهما و هكذا، فهل يجوز التوضّي به و سائر الاستعمالات المشروطة بالإباحة وضعاً و تكليفاً، أو لا يجوز مطلقاً؟

أو يفصّل بين الاستعمالات الموقوف جوازها علىٰ رفع المنع شرعاً،

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 246.

(2) تقدّم في الصفحة 246 247.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 250

و بين الاستعمالات الموقوفة صحّتها علىٰ إثبات عنوان الإباحة؟ وجوه.

قد يقال: بأنّ الأصل في الشبهات المهتمّ بها غير جارٍ، و من تلك الشبهات الشبهة في مال أنّه مال نفسه أو مال غيره، فإنّه لا بدّ من الاحتياط، فلا يصحّ الطهارات، و لا يجوز سائر التصرّفات. هذا ما أفاده الشيخ

في بعض كتبه «1».

و المعروف بين أبناء الفضل جواز التصرّفات، و صحّة الوضوء؛ لعدم ثبوت هذا الاستثناء و هو الاحتياط في الشبهات المهتمّ بها، بعد الإطلاق في أدلّة الحلّ و البراءة.

و ما مرّ في المسألة الاولىٰ من الوجوه المحتمل نهوضها للمنع «2»، غير تامّة صناعة. مع عدم جريان الاستدلال بالآية الشريفة هنا أيضاً؛ لأنّ المفروض فيها صورة العلم بالمالك الشخصيّ، ففيما لم يكن دليل، و لا أصل يقتضي المالكيّة لشخص معيّن، فقضيّة الصناعة جواز التصرّفات غير الموقوفة على الملك. و أمّا جواز حيازته باستصحاب عدم المالك له عدماً أزليّاً، فهو ممنوع.

و الذي هو الأقرب: أنّ الطريقة العقلائيّة و بناء المتشرّعة، علىٰ عدم الإقدام على التصرّف في موارد الشبهة و الشكّ، و أنّ السيرة من القائلين بأصل المالكيّة و احترام أموال الغير، على التحرّز ما دام لم يثبت بإحدى الأدلّة العقلائيّة أو الشرعيّة، جوازُ التصرّف. و لعلّ نظر

______________________________

(1) لاحظ فرائد الأُصول 1: 375 376.

(2) تقدّم في الصفحة 246 247.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 251

الشيخ الأعظم (رحمه اللّٰه) كان إلىٰ ذلك، لا إلىٰ قصور في الأدلّة ثبوتاً أو إثباتاً.

و توهّم: أنّ تلك السيرة قابلة للردع بعمومات الحلّ و البراءة، في غير محلّه؛ لما تقرّر منّا: أنّ المغروسات الذهنيّة و البناءات القديمة العقلائيّة، غير قابلة للردع إلّا بإعمال القوّة و التشديد في الردع، و لا يمكن الالتزام بجواز اتكاء المقنّنين في ردع هذه المسائل، على الإطلاق أو العموم، كما ذكرناه في حجّية خبر الواحد و سائر الأمارات و الطرق «1»، فعليه تصبح أدلّة الحلّ و البراءة قاصرة من تلك الجهة، فلا تخلط.

فتحصّل إلى هنا: أنّ التحقيق في محلّ النزاع هو المنع، خلافاً لما يظهر

من جملة من الأفاضل و الأعلام «2»، و فيهم الفقيه اليزديّ حيث قال: «و المشكوك إباحته محكوم بالإباحة، إلّا مع سبق ملكيّة الغير، أو كونه في يد الغير المحتمل كونه له» «3» انتهىٰ.

و قضيّة إطلاق كلامه جواز التصرّف في هذه المسألة أيضاً. اللهمّ إلّا أن يحمل كلامه على الصورة الثانية الماضية في المسألة الثانية «4»، و الأمر بعد ذلك سهل.

تذنيب: و فيه عودة إلىٰ حكم المسألتين: الاولى و الثانية

قد عرفت: أنّ مصبّ البحث حول الفروض التي لا تكون الأُصول

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 6: 501 502.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 244، مهذّب الأحكام 1: 269.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 49، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته.

(4) تقدّم في الصفحة 248.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 252

الشرعيّة و لا الطرق العقلائيّة، مقتضيةً للمنع أو الجواز، فما ترى في المقام من فرض الحالة السابقة، و تصوير الصور، خارج عن محطّ الكلام.

و بناءً علىٰ ما عرفت منّا في المسألة الثالثة، يظهر وجه المنع في المسألتين: الاولىٰ، و الثانية أيضاً؛ فإنّ الطريقة الثابتة من العرف و الشرع، قائمة علىٰ لزوم إحراز السبب المحلّل و المرخّص؛ حتّى فيما إذا شكّ في أنّه له مالك أم لا، و كان الشكّ عقلائيّاً ذا منشأ عقلائيّ، و لا يكفي للمنع مجرّد الشكّ الفرضيّ و التخيّلي، فليتدبّر.

و لعمري، إنّ الدليل الوحيد ذلك. و لعلّ الكتاب و السنّة أيضاً لو كان فيهما ما يدلّ على المنع، ناظر إلىٰ تلك الطريقة.

إن قلت: قضيّة معتبر مَسعدة بن صدقة «1»، هو الرجوع إلى الإباحة في الشبهات المهتمّ بها؛ لما فيها من فرض الشبهة في العِرض و المال، و مع ذلك رخّص الارتكاب عند الشكّ و الشبهة، و مجرّد كون المفروض مثالًا فيها موردَ الأمارة و

الأصل العقلائيّ و الشرعيّ، لا يورث ضرراً في أنّ المستفاد منها جريان أدلّة الإباحة و الحلّ في الشبهات المهتمّ بها، كما لا يخفى.

قلت: مع الغضّ عمّا في السند «2» إنّ إلغاء الخصوصيّة من

______________________________

(1) الكافي 5: 313/ 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

(2) لاحظ تحريرات في الأُصول 7: 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 253

الأمثلة صحيح إذا أُريد التجاوز منها إلىٰ أمثالها، و أمّا إذا أُريد التجاوز منها إلىٰ غير ما عليه الأمثلة من الجهة المشتركة، فهو ممنوع؛ و ذلك لأنّ المفروض فيها أنّه لا يُعتنى باحتمال الحرمة الجائي من قبل احتمال بطلان العقد؛ لأنّ احتمال رضاعة المعقود عليها أو اختيّتها و هكذا في غيره ملغى.

و أمّا استفادة جواز عدم الاعتناء باحتمال بنتيّة أو أُمّية أو أُختيّة من في البيت؛ لوجود الظلمة، فهو ممنوع جدّاً، و لا أظنّ التزام أحد بذلك، و إن كان قضيّة عموم الحلّ في صدرها و ذيلها، هي الإباحة مطلقاً عند الشبهة، و لكن النظر فيها إلىٰ ذلك قطعاً.

فإذا أُحرزت زوجيّة زوجة بالأُصول العقلائيّة، ثمّ احتمل أحد الموجبات للحرمة، أو احتمل حين إرادة التزويج، ذلك مجرّد الاحتمال غير العقلائيّ، فلا يبعد جواز الإقدام، و أمّا مع الاحتمال العقلائيّ و مع الشكّ في الزوجيّة فلا. و عليه يقاس الشكّ في النفوس و الأموال فلا دلالة لها على التوهّم المزبور جدّاً.

مع أنّ الالتزام بمفادها غير ممكن؛ للزوم جواز البدار إلى وطء المرأة المردّدة بين كونها زوجه، أو امّه و أُخته و خالته و غيرهنّ من المحارم. بل قضيّة عمومها جواز البدار إلىٰ قتل من شكّ في مهدوريّة دمه، مع عدم الحالة السابقة

لحرمته، و هو أيضاً غير قابل للتصديق، فلا تغفل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 254

فروع
الفرع الأوّل: في تردّد الماء بين الإضافة و الغصب
اشارة

إذا علم إجمالًا: بأنّ هذا الماء إمّا مضاف أو مغصوب، فالمعروف بينهم جواز شربه، و عدم جواز التوضّي به؛ لعدم الوجه للمنع عنه، و جريانِ قاعدة الحلّ «1».

و أنت خبير: بأنّ إطلاقه ممنوع قطعاً فيما إذا كان للغصبيّة حالة سابقة، و أمّا إذا كانت حالته السابقة غير معلومة، أو كانت حالته السابقة من حيث الإضافة معلومة، حتّى تقع المعارضة بين الأُصول، فيصبح الماء مشكوكة إباحته، غير مسبوق بملكيّته لأحد، أو بعدم إذن مالكه، أو غير ذلك ممّا يورث المنع عن التصرّف، فإنّه في هذه الصورة يمكن الترخيص في التصرّف فيه؛ بناءً علىٰ عدم تماميّة أصالة الحرمة في الأموال. و لكنّك عرفت منّا إنّها قويّ جريانها، و عليه السيرة العرفيّة و العقلائيّة الشرعيّة بلا شبهة و إشكال «2».

نعم، إذا كان مسبوقاً بالإباحة المطلقة، فإنّه يجري الاستصحاب، فيجوز شربه، و لا يجوز التوضّي به؛ لعدم الأصل المحرز إطلاقه، و في

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 249، مهذّب الأحكام 1: 272.

(2) تقدّم في الصفحة 250.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 255

العكس بالعكس.

و غير خفيّ: أنّ ما ذكروه و ذكرناه، يجري في الماءين المردّدين بين الإضافة و الغصب، كما لا يخفى.

و ما قد يتوهّم: من أنّ وجه عدم الترخيص في التوضّي تنجيز العلم الإجماليّ هنا؛ لتماميّة شرائطه، و منها كون المعلوم تكليفاً علىٰ كلّ تقدير «1»، فهو فاسد، بل الوجه أنّ الشبهة البدوية من جهة الإضافة مورد المنع، و أنّه لا يجوز و لا يصحّ الوضوء معه، فالعلم

الحادث بعد ذلك لا يورث التنجيز، فتجري أصالة الحلّ في سائر التصرّفات.

نعم، بناءً علىٰ لزوم الاحتياط فيها أيضاً، فهي أيضاً ممنوعة الجريان.

و بعبارة اخرىٰ: من شرائط تأثير العلم الإجماليّ، عدم كون الشبهة غير المقرونة بالعلم مقتضية للاحتياط، فإذا كان الأمر فيما نحن فيه كذلك؛ لعدم جواز الاكتفاء بالتوضّي بالماء المشتبه إضافة و إطلاقاً في الخروج عن التكليف المعلوم؛ و هو الأمر بالوضوء للصلاة و غيرها، فلا يؤثّر العلم في شي ء، كما لا يخفى.

هذا فيما كان إحدى الشبهتين كافية للاحتياط.

و أمّا إذا كانت كلّ واحدة منهما مع قطع النظر عن الاقتران بالعلم كافية، فهو أولىٰ، كما نحن فيه علىٰ مسلكنا؛ من جريان أصالة الحرمة في البدويّات «2»، فما ترى في كتب الأصحاب حول شرح ما في «العروة

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 249.

(2) تقدّم في الصفحة 250.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 256

الوثقىٰ» «1» من التمسّك بالعلم الإجماليّ «2»، في غير محلّه.

إيقاظ: في حكم الوضوء بالماء المردّد

إذا قلنا: بأنّ التوضّي بالمضاف و المغصوب محرّم شرعاً تشريعاً، فلا بدّ من تركه، و إلّا فله ذلك، فلا منع من نفي الجواز التكليفيّ، فإذا توضّأ بالماء المزبور يحدث له العلم الإجماليّ: بأنّه إمّا يكون الأمر بالوضوء باقياً، أو يجب عليه جبران خسارة المالك، و قضيّة الاستصحاب في طرف انحلال العلم حكماً، فتجري البراءة في الطرف الآخر.

و بالجملة: لو سلّمنا وجود العلم الإجماليّ فهو غير منجّز؛ لانحلاله بالأصل الجاري في طرف المثبت للتكليف.

و توهّم: أنّ الاستصحاب لا يورث الانحلال؛ لأنّه من الأُصول المحرزة، فاسد كما تحرّر في محلّه. مع أنّه لا حاجة إليه، بل مقتضىٰ قاعدة الاشتغال بالتكليف تنجّزه، فليتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه ربّما يمكن أن يقال: بصحّة الوضوء؛ لأجل عدم الدليل علىٰ

شرطيّة إباحة الماء، فإذا كان الأمر كذلك، فلك إجراء أصل العدم الأزليّ؛ بجعل مجراه المائع، و المشكوك وصف «الإضافة» مع ضمّ دعوى خفاء الواسطة لإثبات الإطلاق؛ فإنّه إذا تعبّد الشرع بأنّ هذا المائع ليس

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 53، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 249، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 408، مهذّب الأحكام 1: 272.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 257

مضافاً، يثبت الإطلاق؛ لأنّه ليس وصفاً وجوديّاً.

و أنت خبير بما فيه من الجهات العديدة، و لا أظنّ التزام أحد بذلك التوهّم الذي أبدعناه.

و ربّما يخطر بالبال دعوى: أنّ قاعدة الحلّ كما يرجع إليها لتصحيح الصلاة في الثوب المشكوكة إباحته، و تصحيحِ الوضوء بالماء المشكوكة حلّيته؛ لأنّ «الحلّية» فيها أعمّ من التكليف، يصحّ الرجوع إليها لتصحيح البيع المشكوكة حلّيته و صحّته، و هكذا لتصحيح الوضوء بالماء المشكوك إطلاقه؛ فإنّه إذا ورد: «بأنّه يصحّ الوضوء به» فلا حالة انتظاريّة لأمر آخر حتّى يقال: بأنّه مثبت، فتكون حينئذٍ حاكمة علىٰ دليل شرطيّة الإطلاق، كما تكون قاعدة الطهارة حاكمة.

فبالجملة: إذا أُريد من «الحلّية» ما ينطبق علىٰ عنوان «الصحّة» فيلزم صحّة الوضوء به.

و غير خفيّ: أنّه علىٰ تقدير صحّة المخطور بالبال، يلزم تعارض الأُصول، و يشكل جواز التصرّف و لو للتبريد؛ بناءً علىٰ مسلك القوم في هذه المسألة. و أمّا علىٰ مسلكنا، فقد عرفت ممنوعيّة التصرّف من غير الحاجة إلى العلم الإجماليّ «1».

الفرع الثاني: في تردّد المائع بين النجاسة و الغصب
اشارة

إذا علم إجمالًا: بأنّ هذا المائع نجس، أو مغصوب، فالمعروف

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 250.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 258

المشهور ممنوعيّة الوضوء و الشرب «1»، و الوجه واضح.

و قال في «العروة»: «و القول بأنّه

يجوز التوضّي به ضعيف جدّاً» «2».

و قيل: هو مختار بعض الأعلام، كالشيخ عليّ ابن الشيخ باقر آل «الجواهر» تبعاً للعلّامة الشيخ محمّد طه نجف «3».

و احتاط المحقّق الوالد- مدّ ظلّه في الحاشية «4»، و كأنّه كان يرىٰ قوّة الجواز.

و يحتمل العكس، فيكون الوضوء باطلًا، و لكنّه يجوز شربه. و يحتمل جواز الشرب و الوضوء، كما يأتي وجهه.

و بالجملة: البحث هنا يتمّ في ضمن جهات:

الجهة الاولىٰ: في شربه

و هذا هو المتّفق عليه، سواء قلنا: بأنّ العلم الإجماليّ منجّز، أم لا؛ ضرورة أنّ حرمة ذلك معلومة بالتفصيل.

اللهمّ إلّا أن يقال: هذا غير ممكن؛ لأنّ حرمة النجس غير حرمة شرب المغصوب جعلًا و دليلًا، و لا يرجعان إلى الحرمة الواحدة.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 249، مهذّب الأحكام 1: 272.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4.

(3) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 408.

(4) العروة الوثقىٰ 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، الهامش 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 259

نعم، إن قلنا: برجوع العنوان إلى الجهة التعليليّة، يمكن دعوى القطع بالحرمة؛ فإنّ شرب هذا الماء حرام؛ إمّا لأنّه نجس، أو لأنّه مغصوب، فيكون الترديد في العلّة.

و أنت خبير بما فيه؛ فالحرمة معلومة بجنسها تفصيلًا، و بنوعها إجمالًا، و ما هو منشأ الأثر هو الثاني، دون الأوّل.

و علىٰ هذا، يمكن دعوى: أنّ هذا العلم ليس منجّزاً؛ لما مرّ من أصالة الحرمة في الأموال «1»، فتكون الشبهة البدويّة منجّزة، و لا تجري أصالة الحلّية في ناحية الغصب، فتكون قاعدة الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض، فيجوز شربه؛ بمعنى أنّه

يجوز شربه ذاتاً، و لا يكون من شرب النجس، و لا يجوز ذلك؛ لأجل أنّه من التصرّف في مال الغير احتمالًا منجّزاً.

و تظهر الثمرة في صحّة الوضوء؛ فإنّها و إن كان تصرّفه فيه بالتوضّي محرّماً، و لكنّه صحيح؛ لعدم تماميّة دليل اعتبار الإباحة في صحّته وضعاً. و لعلّ لمثل ذلك اختار الأعلام عفي عنهم ذلك «2».

و ربّما يخطر بالبال دعوى أن يقال: بأنّ تقدّم المنجّز زماناً و رتبة، كافٍ في إسقاط تأثير المنجّز الآخر مثلًا؛ لما اشتهر: «أنّ المتنجّز لا يتنجّز» و أمّا إذا كان مثل ما نحن فيه فلا؛ ضرورة أنّ العلم الإجماليّ بالنجاسة و الغصبيّة حصل، و لا تكون شبهة الغصبيّة متقدّمة عليه، بل هي من محصّلات العلم، و يكون العلم قائماً بها، فلا وجه لعدم استناد التنجيز إلى

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 250.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 113، (طبعة مؤسسة النشر الإسلامي).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 260

العلم. و مجرّد إمكان أنّ الشبهة كافية، لا يستلزم قصوراً فيه.

نعم، إذا فرضنا أنّه كان يحتمل غصبيّة الماء أوّلًا، ثمّ علم إجمالًا بها و بالنجاسة، فلك دعوى قصوره عن تنجيز جميع الأطراف.

هذا مع أنّ حديث «أنّ المتنجّز لا يتنجّز» ممّا لا برهان عليه؛ لإمكان استناد التنجّز بقاءً إلى العلّتين، لا العلّة الأُولىٰ، و التفصيل في مقامه «1».

ثمّ إنّ قضيّة ما نسب إلى «الحدائق»: من أنّ ما هو الموضوع في خطاب: «اجتنب عن النجس» هو النجس المعلوم «2»، هو أنّه يجوز شرب هذا الماء، و الوضوء به:

أمّا جواز شربه، فلعدم تحقّق موضوعه؛ لا بالعلم التفصيليّ، و لا بالإجماليّ.

و أمّا جواز التوضّي، فلقاعدة الحلّ؛ بناءً علىٰ ما هو المشهور من جريانها في البدويّات.

و بالجملة: لا علم

إجماليّ بالتكليف الفعليّ، حتّى يلزم من جريان الأُصول في الأطراف، مخالفة عمليّة قطعيّة.

الجهة الثانية: في التوضّي به

و قد عرفت: أنّه باطل عند الجمهور، و خالفهم بعض الأعلام «3». و ما

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 7: 186، 192 193 و 505.

(2) الحدائق الناضرة 1: 133 و ما بعدها.

(3) تقدّم في الصفحة 257 258.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 261

يمكن أن يكون وجهاً لذلك أُمور:

أحدها: ما مرّ منّا في الجهة الاولىٰ: من أنّه يصحّ الوضوء، و لا يجوز التصرّف؛ لما تقرّر من إمكان الاجتماع «1».

ثانيها: أنّ المستفاد من الأدلّة، أنّ ما هو الموضوع لخطاب: «لا تتوضّأ» هو المغصوب المعلوم إجمالًا أو تفصيلًا، و عليه لا علم إجماليّ في البين يؤثّر في تنجيز الحكم المعلوم، حتّى يقال: «بأنّ جريان الأُصول في الأطراف، يورث المخالفة القطعيّة» «2» أو يقال: «إنّ مجرّد إمكان اجتماع الأمر و النهي، غير كافٍ لصحّة العبادة؛ لأنّ في خصوص العبادات تكون الغلبة مع جانب النهي، كاشفة عن القيد في المأمور به عرفاً، بل و عقلًا» «3» فإنّ هذه الكلمات من أرباب الفضل حول هذه المسألة، غفلة محضة، فلا تغفل، و لا تخلط.

بل بعد الفراغ عن قبول المبنى المزبور، فهو كمبنى «الحدائق» في النجاسات، فلا تكليف معلوم أصلًا بالنسبة إلى التوضّي، فتكون قاعدة الطهارة من هذه الجهة جاريةً، فيصحّ التوضّي؛ لأنّه بالنسبة إلى المغصوب الواقعيّ لا تكليف قطعاً، لعدم تماميّة موضوعه، نظير العلم الإجماليّ: بأنّه إمّا يجب عليه الأداء في الوقت، أو القضاء خارجه، فإنّه لا يورث التنجيز إلّا علىٰ تقدير ترك الطرف؛ لأنّ موضوع القضاء هو

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 259.

(2) الطهارة (تقريرات المحقّق الحائري) الأراكي 1: 276.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 410.

كتاب الطهارة

(للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 262

«الفوت» و إذا أتى بها في الوقت لا يحرز ذلك حتّى يجب، فليتدبّر.

نعم، لو قلنا: بأنّ المبنىٰ فاسد، أو قلنا: بأنّ الموضوع هو المغصوب المنجّز إجمالًا، يمكن دعوى بطلان الوضوء؛ لأنّ حكم الغصب بالنسبة إلىٰ شرب الماء منجّز. بل يلزم الاحتياط علىٰ رأينا حتّى في الشبهة البدويّة، كما عرفت «1». و من هنا يظهر خلط الأعلام، و إطالة الأفاضل حوله بما لا طائل تحته، و كأنّهم ذهلوا عمّا تعلّموه في الأوائل.

ثالثها: أنّ شرطية إباحة ماء الوضوء، غير ظاهرة رأساً، فلو تصرّف فيه بالتوضّي، فإن قلنا: بحرمة جميع التصرّفات، فتكون المسألة من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي، علىٰ إشكال فيه. اللهمّ إلّا أن يتوضّأ بالاغتراف و الارتماس. و هكذا حكم غسله.

و إن قلنا: بجوازها فلا وجه لبطلانه، كما لا يخفى. و يأتي حكم سائر التصرّفات من ذي قِبَل، إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و لعلّ وجه احتياط الوالد المحقّق ذلك، لا الذي مرّ آنفاً. كما أنّ وجه فتوى العلمين المذكورين، هو الثاني، علىٰ ما هو المشهور بين أفاضل العصر في النجف الأشرف.

و الذي هو غير خفيّ: أنّ المسألة لا يتفاوت حكمها في مفروض البحث مع ما لو كان هناك ماءان، أحدهما: مغصوب و الآخر: نجس.

نعم، بناءً علىٰ رجوع العلم الإجماليّ إلى التفصيليّ، فهو من خصائص هذا الفرض، دون ذاك، كما يخفىٰ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 250.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 263

ثمّ إنّه قد يتوهّم بعض الوجوه الرديئة من عدم تنجيز العلم الإجماليّ في المسألة، كما عن «الحدائق» «1» و غيره «2»، و لكنّه في غير محلّه.

الجهة الثالثة: في بيان حكم سائر التصرّفات

و أنّه هل هو جائز، أم لا؟ وجهان:

من أنّ العلم الإجماليّ بالغصبيّة، يورث

تنجّز جميع أحكام الغصب. مع أنّ قضيّة أصالة الحرمة، هو المنع عنه.

و من أنّ العلم الإجماليّ المزبور لا يورث في مورده شيئاً؛ لأنّ التوضّي بالماء النجس، ليس من المحرّمات الشرعيّة، فيرجع ذلك إلى العلم الإجماليّ ببقاء وجوب الوضوء عليه إذا توضّأ به، و حرمة التصرّف، و حيث إنّ قضيّة الاستصحاب بقاء الأمر، ينحلّ العلم بالنسبة إلى الطرف، و تصير النتيجة جواز التصرّف حتّى التصرّف الوضوئيّ، إلّا أنّه لا يصحّ الاكتفاء به.

و الذي عرفت منّا حسب اقتضاء القواعد: حرمة التصرّف، من غير الحاجة إلى العلم المزبور «3»، فتدبّر.

و أمّا توهّم عدم إمكان انحلال العلم بالأصل المحرز، فقد مرّ دفعه

______________________________

(1) الحدائق 1: 517، و لاحظ فرائد الأُصول 2: 408 و 416، فوائد الأُصول 3: 50.

(2) لاحظ دليل العروة الوثقىٰ 1: 221، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 409.

(3) تقدّم في الصفحة 250 251.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 264

بأنّ قاعدة الاشتغال تكفي له؛ لأنّ وجه الانحلال عدم حدوث التكليف الإلزاميّ بالعلم الإجماليّ، و هو بعد ثبوت التكليف قبل العلم حاصل «1»، فتأمّل جدّاً.

و من عجيب ما سطّر في المقام، توهّم التعارض بين قاعدة الطهارة و الحلّ؛ بناءً علىٰ جريان الأخيرة «2»!! فإنّك خبير: بأنّ المعارضة بين الأُصول في الأطراف عرضيّة، لا ذاتيّة، فيكون وجه ذلك وجود الجامع المناقض للأصلين؛ و هو العلم الإجماليّ بالحكم المخالف مع مفادهما، و حيث لا علم إجماليّ إلّا بالنسبة إلى الشرب، فأيّ معارضة بينهما؟! نعم، بالنسبة إلى التصرّفات الناقلة بناءً علىٰ كون الماء النجس كالأعيان النجسة حكماً يشكل تنفيذها و تجويزها؛ لأنّه يعلم إجمالًا بحرمتها؛ إمّا لأجل نجاسته، أو لأجل مغصوبيّته. و لكن مع ذلك إنشاء المعاملة ليس محرّماً؛

لأنّ إنشاءها علىٰ مال الغير، لا يعدّ من «التصرّف» عرفاً، علىٰ ما تقرّر في الفضوليّ «3».

الجهة الرابعة: في حكم ملاقي المردّد بين الغصب و النجاسة

و قد تعرّض لها شيخنا الأُستاذ الحلّي- مدّ ظلّه، و استظهر فيها أنّ

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 256 257.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 410.

(3) البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 2: 136، لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب البيع، الشرط الرابع من شرائط المتعاقدين، الوجه العقلائي لبطلان الفضولي.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 265

ملاقي هذا الماء المشتبه، طاهر علىٰ جميع التقادير «1».

و أنت خبير بما فيه؛ لأنّه كملاقي الشبهة المحصورة بناءً علىٰ تنجيز العلم الإجماليّ بالنسبة إلى الطرفين، و عدم جريان أصالة الحرمة، و سقوط أصالة الحلّ بالمعارضة، لأنّه بعد الملاقاة يعلم إجمالًا بنجاسة الملاقي بالكسر أو حرمة التصرّف في الملاقى بالفتح و هذا العلم الثاني محلّ البحث تنجيزه، فمن قال: بأنّ حديث «أنّ المتنجّز لا يتنجّز» لا أصل له؛ لإمكان استناد تنجّز الملاقى بالفتح بقاءً إلى العلّتين، يقول: بسقوط الأصل الجاري في الملاقي بالكسر فلا تغفل.

ثمّ إنّ قضيّة بعض المباني طهارة الملاقي هنا، و إن كانت نجاسته متعيّنة في المحصور بالنجس، و ذلك بناءً علىٰ ما نسب إلى «الحدائق» من أخذ قيد العلم في موضوع وجوب الاجتناب، كما أشرنا إليه سابقاً «2».

الجهة الخامسة: هل يكتفي بالتطهير به أم لا؟

في جواز الاكتفاء بالتطهير به و عدمه وجهان، يظهران ممّا سبق.

و الذي يختصّ بهذه الجهة: أنّه بناءً علىٰ جريان قاعدة الطهارة من هذه الحيثيّة لعدم تنجيز العلم زائداً على الحكم المشترك بين الطرفين لا يمكن إحراز المطهّرية بها، كما سبق منّا في المباحث السابقة. و استصحاب النجاسة فيما يتطهّر به محكّم.

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 230 231.

(2) تقدّم في الصفحة 260.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 266

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ العرف و العقلاء و الشرع، علىٰ ثبوت

الملازمة في الماء بين الطهارة و المطهّرية، و كأنّ المطهّرية من آثار الطهارة الأعمّ من الواقعيّة، و من الممكن إجراء استصحاب المطهّرية التي هي من آثاره الطبيعيّة.

و أنت خبير بما فيه؛ لانقطاع صفة «المطهّرية» شرعاً بزوال الطهارة.

نعم، إذا كانت حالته السابقة هي الطهارة، فإجراء الأصل لإحراز المطهّرية- لأنّها من الأوصاف الجعليّة المعتبرة في الماء؛ باعتبار الأحكام و الآثار الخاصّة ممكن، سواء رجعت إلىٰ أمر تعليقيّ، أو كانت أمراً فعليّاً منجّزاً.

الفرع الثالث: في حكم ضمان المردّد عند التصرّف

لو تصرّف في أحد المشتبهين بالغصبيّة، أو في أحد المشتبهين بالنجاسة و الغصبيّة، أو في المردّد بين النجاسة و الغصبيّة، فهل عليه الضمان؟

أو لا يكون عليه شي ء إلّا بعد العلم: بأنّ ما استعمله هو المغصوب، كما هو مختار الأكثر «1»؛ معلّلين: بأنّ تنجيز الغصب بحسب الأحكام التي موضوعها «الغصب» لا يستلزم تنجيز سائر الأحكام التي موضوعها «إتلاف

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 12، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 434، مهذّب الأحكام 1: 278.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 267

مال الغير و التصرّف فيه» و أمثاله ممّا لا يتحقّق بذلك العلم الإجماليّ «1»؟

أو يقال: بالتفصيل، كما عن بعض الأعلام؛ فإنّه إن كان العلم الإجماليّ متقدّماً على الاستعمال و التصرّف، لا يحكم عليه بالضمان، و إن كان بعده يحكم عليه بالضمان؛ لأنّه يعلم إجمالًا بحرمة التصرّف في الطرف، و بالضمان لأجل التصرّف في الآخر، و لا أصل في أحد الطرفين حتّى ينحلّ به العلم «2»؟ هذا نظير العلم الإجماليّ الحاصل بعد الملاقاة، و بعد انعدام الملاقى بالفتح.

فالمسألة بناءً علىٰ هذا، ذات احتمالات ثلاثة: الضمان مطلقاً، و عدمه مطلقاً، و التفصيل بين صور المسألة. و ما هو الوجه

للضمان مطلقاً، ما مرّ منّا من جريان أصالة الحرمة؛ و أنّ الاحتمال منجّز «3».

نعم، جواز أخذ الطرف بعنوان الدين مشكل، بل ممنوع؛ لأصالة الحرمة في ذلك أيضاً، فلا بدّ من التصالح، أو يجب على المتصرّف إرضاء من يحتمل مالكيّته علىٰ أيّ تقدير؛ حذراً من العقوبة المنجّزة، فلا تخلط، و لا تغفل.

ثمّ إنّ من الممكن توهّم انحلال العلم الإجماليّ بالضمان و الحرمة بإجراء استصحاب عدم تحقّق سبب حلّية التصرّف في الباقي، فتبقىٰ أصالة البراءة بالنسبة إلى الضمان، سليمةً عن المعارض.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 434.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 267.

(3) تقدّم في الصفحة 250 251.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 268

و أنت خبير: بأنّ هذا خلف المفروض في المسألة؛ و هو حرمة التصرّف عند الشكّ، فإنّ بناءها علىٰ جريان أصالة الحلّ في المشكوكة إباحته، كما مضى في أوّل البحث «1».

هذا مع أنّ هذا الاستصحاب في الماء التالف يجري، و ثمرته ضمانه، فليتدبّر.

و من العجب توهّم: أنّ الماءين المشتبهين إن كانا تحت اليد، يكون تلف كلّ واحد منهما مورثاً للضمان؛ لأنّ التالف إن كان للغير يجب دفع قيمته، و إن كان الباقي للغير يجب عليه الردّ!! و أنت خبير: بأنّ هذا ليس لأجل قاعدة اليد كما توهّمه، بل هو لأجل العلم الإجماليّ. مع أنّه فيما نحن فيه مثليّ لا قيميّ، فإذا علم إجمالًا: بأنّ الماء المستعمل إمّا للغير، فيكون ضامناً، أو الموجود للغير، فيجب الردّ، فيحتاط بردّ الموجود بعنوان قابل للانطباق علىٰ أداء المثل إن كان الواجب عليه المثل، و علىٰ أداء العين، فلا تغفل.

و الذي هو المحرّر صناعة: أنّ الضمان ثابت علىٰ جميع التقادير؛ لعدم فرق بين سبق العلم و لحوقه، لما

مرّ مراراً: أنّ المتنجّز بقاءً يستند إلى العلم الحادث، سواء كان الماء المستعمل تالفاً كلّه، أو كان مقدار منه باقياً.

مع أنّه في صورة تلف الكلّ، لا يبقى العلم الأوّل، و يكون العلم الثاني سبباً لتنجيز الحكم في الطرف، و إلّا فيجري الأصل بلا شبهة عندنا.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 254 255.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 269

فبالجملة: إذا علم إجمالًا بغصبيّة أحد الإناءين، فتصرّف في الماء، و تلف الماء كلّه، فلا يبقى علم بالتكليف؛ لعدم إمكان الخطاب بالاجتناب عن المعدوم فعلًا، فيصير الطرف الآخر مجرى الأصل، بخلاف ما إذا كان التالف ذا أثر شرعيّ كالنجاسة و الضمان، فإنّه بعد ذلك يعلم إجمالًا بضمانه، أو حرمة التصرّف في الآخر، و هذا واضح جدّاً.

و هذا إذا كان الماء كلّه تالفاً بالاستعمال و التصرّف.

و لو بقي منه شي ء، فإن قلنا: بإمكان استناد تنجّز التكليف في الطرف الآخر بقاءً إلى العلم الثاني، فيحصل أثره بالنسبة إلى الملاقي و الضمان. و هذا هو الأقوىٰ في نظري حسب الصناعة العلميّة.

و أمّا حكم المسألة حسب النظر الفقهيّ، فهو الضمان أيضاً؛ لأصالة الحرمة كما عرفت تفصيلها «1». و ليس هذا إلّا ضمان الاحتياط؛ بمعنى تنجّز التكليف عليه، لا أنّه ضامن؛ بمعنى جواز التقاصّ منه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه غير خفيّ: أنّ العلم الإجماليّ المزبور، لا يأتي في المردّد بين الغصبيّة و النجاسة؛ لانحلاله كما مضى تفصيله «2».

و إجماله: أنّه بعد استعمال الماء، يعلم إجمالًا: بأنّه إمّا يجب عليه غسل الأعضاء أو يجب عليه أداء الدين، و لكنّك تعلم أنّ غسل الأعضاء ليس من التكليف النفسيّ، فيرجع إلى بقاء الأمر بالنسبة إلىٰ ما اشترط

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 250.

(2) تقدّم في الصفحة 256.

كتاب

الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 270

به الطهارة، و هو قضيّة الأصل و قاعدة الاشتغال، فتجري البراءة في الطرف الآخر.

و الحمد للّٰه أوّلًا و آخراً، و ظاهراً و باطناً، و قد تمّ ما يتعلّق بهذه المباحث يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل من السنة 1389 في النجف الأشرف، علىٰ صاحبها آلاف التحيّة و السلام.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 271

المبحث الثالث عشر في الأسآر
اشارة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 273

تمهيد

اعلم: أنّ المراجعة إلى كتب العامّة و الخاصّة قديماً و جديداً، و النظرَ في أخبار المسألة الواردة من طرقنا و من طريق الآخرين، و التدبّر حولها حقّ التدبّر و التفكّر، يعطي سقوط هذا البحث؛ و أنّه لا وجه لإطالة الكلام حول مفهوم «السؤر» سعةً و ضيقاً كما ترى، و لا في خصوصيّات المسألة من أسآر الحيوانات المختلفة؛ ضرورة أنّ الشواهد القطعيّة في المآثير المرويّة عن الأئمّة الأطهار عليهم صلوات اللّٰه المتعال قائمة و ناهضة علىٰ أنّ هذه المسألة من صغريات بحث انفعال الماء القليل؛ و أنّ هذه الروايات سيقت مساق تلك المسألة:

فما كان من الحيوانات النجسة، يكون سؤره نجساً. و لا يلتزم القائل بعدم انفعال الكرّ بانفعال سؤر هذا الحيوان؛ إمّا لأجل قصور الدليل، أو لأجل عدم صدق «السؤر» على الكثير.

و ما كان من الحيوانات الطاهرة، يكون سؤره طاهراً.

و ممّا يأتي من الشواهد في الأخبار يعلم: أنّه لا يمكن التفكيك بين حكم انفعال القليل و حكم هذه المسألة؛ من جهة لزوم الاجتناب علىٰ

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 274

تقدير القلّة، و عدم لزومه علىٰ تقدير الكثرة. فإطالة البحث حول مفهوم «السؤر» ينحصر ثمرته بفهم مواقف كراهية الاستعمال، و هو عندي غير مهمّ جدّاً.

و أمّا ذهاب مثل «المبسوط» و «السرائر» و «المهذّب» «1» إلىٰ إنكار الملازمة بين طهارة الحيوان، و جوازِ استعمال سؤره، حيث منعوا استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الحضر غير الآدميّ و الطيور، إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه، كالهرّة و الفأرة و الحيّة، بل عن الحلّي (رحمه اللّٰه) التصريح بنجاسته «2»، معلّلين: بمفهوم رواية عمّار بن موسى «3»،

و صحيحة ابن سِنان «4»، فهو ممّا لا يمكن الإصغاء إليه بالضرورة، بعد ما ورد النصّ بنفي البأس، كما هو الواضح عند الكلّ.

و بالجملة: إمكان الالتزام بالتفكيك غير كافٍ، بعد أن تكون الأخبار ناظرة إلىٰ تلك المسألة.

و ممّا يمكن أن يتوهّم: الالتزام بنجاسة الكرّ؛ لصدق «السؤر» عليه، و إمكان الالتزام بنجاسة الجمادات الباقية؛ لشمول المفهوم لها كما لا يخفىٰ، فتأمّل. مع اقتضاء مفهوم «السؤر» ذلك.

______________________________

(1) المبسوط 1: 10، السرائر 1: 85، المهذّب 1: 25.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 438، السرائر 1: 85.

(3) الكافي 3: 9/ 5، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 2.

(4) الكافي 3: 9/ 1، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 5، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 275

و لكنّه غير صحيح، فلا وجه لإحداث البحث حول هذه المسألة. و كان ينبغي ذكرها طيّ مباحث انفعال القليل؛ بأنّه لا يفرّق بين أنحاء الملاقاة، و عدم انفعال الكرّ كذلك.

شواهد علىٰ سقوط بحث الأسآر

و أمّا الشواهد من المآثير الدالّة علىٰ ما أبدعناه في المسألة، و اعتقدنا سقوطها لأجلها، فهي كثيرة:

فمنها: ما مرّ من اتفاقيّة الحكم بالطهارة إذا كان سؤر الحيوان الطاهر، و اتفاقيّة الحكم بالنجاسة إذا كان سؤر النجس «1». و المسائل الخلافيّة في السؤر من حيث الطهارة و النجاسة في مثل المسوخ، فهو لأجل الخلاف في نجاستها و طهارتها، و لذلك ادعي الإجماع علىٰ طهارته إذا قلنا بطهارة المسوخ «2».

و منها: التعليل الوارد في معتبر الفضل أبي العباس «3»، و معتبر معاوية بن شريح «4»؛ في النهي عن سؤر الكلب: بأنّه «رجس نجس».

و منها: التعليل الوارد في معتبر ابن مسلم في طهارة سؤر السِّنَّوْر

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 273.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 271.

(3) تهذيب الأحكام 1: 225/ 642، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4.

(4) تهذيب الأحكام 1: 225/ 647، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 276

بأنّه «إنّما هي من السباع» «1» فإنّه ليس تعليلًا بسبعيّته، بل هو تعليل بأنّه من الحيوانات الطاهرة؛ فإنّ السباع منها، و هو من السباع. و مثله غيره.

و منها: معتبر عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المشتمل علىٰ ترخيص السؤر من الطير ..

إِلىٰ أن قال: «كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً، فلا توضّأ منه، و لا تشرب» «2».

فإنّه كالنصّ في أنّ المسألة دائرة مدار حكم الحيوان الملاقي للماء، سواء كان اللّقاء بالفم أو غيره، و سواء كان ذلك يعدّ «سؤراً» أم لا يعدّ، بل المناط علىٰ أمر واحد؛ و هو عدم ملاقاته للنجاسة، لعدم خصوصيّة للدم، و للطائر، و لا لمنقاره بالضرورة.

و منها: ما ورد منه و هو مثله، فراجع الباب الرابع، و سائر الأبواب المتفرّقة المتضمّنة لأخبار هذه المسألة من «الوسائل» «3».

و منها: ما ورد في طريقنا عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال: «قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): كلّ شي ء يجترّ فسؤره حلال، و لعابه حلال» «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 225/ 644، وسائل الشيعة 1: 227، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 2، الحديث 3.

(2) الكافي 3: 9/ 5، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 2.

(3)

وسائل الشيعة 1: 228، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 2، الحديث 4 و 6، و الباب 5، الحديث 5، وسائل الشيعة 3: 413 414، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 11، الحديث 1 و 3.

(4) تهذيب الأحكام 1: 228/ 658، وسائل الشيعة 1: 232، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 5، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 277

فإنّ المراد من «الاجترار» علىٰ ما أفهم، هو الرعي، و هو كناية عن الحيوانات الطاهرة. و توهّم أنّ الخنزير أيضاً يرعىٰ، فهو إمّا ممنوع صغرى، أو خارج عنه للنّص.

و بالجملة: هي ناظرة إلىٰ أنّ المناط علىٰ طهارة الشارب و نجاسته، فتأمّل.

و يحتمل أن يراد من «الاجترار» ما يعبّر عنه بالفارسيّة «نشخوار».

و منها: و هو كالنصّ، ما رواه العيص بن القاسم في الصحيح في مسألة سؤر الحائض، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «لا توضّأ منه، و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، ثمّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء» «1».

فإنّ التقيّد المزبور، أحسن شاهد علىٰ أنّ حكم هذه المسألة، ناشئ عن أمر آخر، و لا خصوصيّة لها. و في هذا الباب و هو الباب السابع بعض ما يؤيّد مسلكنا، فراجع «2».

و منها: المآثير الواردة في الباب الثامن، الناطقة بالنهي عن التوضّي بما بقي من سؤر الحائض، مع الترخيص في جواز شربه، و فيها مع التقييد المذكور في السابق ما يجوّز التوضّي أيضاً «3».

و لعلّ النهي عن التوضّي إذا لم تكن مأمونة، لأجل أنّه إذا تذكّر

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 2، وسائل الشيعة 1: 234، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 7، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 1: 234، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 7.

(3) وسائل الشيعة 1:

237 238، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 8، الحديث 5 و 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 278

نجاستها يشكل الأمر عليه؛ للزوم الإعادة، بخلاف الشرب.

فبالجملة: مع هذه الشواهد يحصل القطع: بأنّ هذه المسألة كمسألة الاستنجاء ساقطة، و كما أنّ تلك المسألة من صغريات بحث الغسالة، كما عرفت منّا تحقيقه «1»، كذلك هذه المسألة من صغريات مسألة انفعال القليل «2»، و لا أظنّ من يقول كالفيض مثلًا بعدم انفعال القليل بانفعاله هنا، بل الحكم عند الطرفين على حدّ سواء؛ لأنّ علّته سواء.

إيقاظ: في عدم دلالة رواية الوشاء على خلاف ما أبدعناه

في الباب الثالث رواية عن الوشّاء، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه كره سؤر ولد الزنا، و سؤر اليهوديّ و النصرانيّ و المشرك، و كلّ من خالف الإسلام، و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب «3».

فإنّها ظاهرة في خصوصيّة للمسألة، و لا سيّما مع ذكر ولد الزنا؛ فإنّه طاهر.

و لكنّك تعلم: أنّ الرواية مع إرسالها، غير معمول بها، و ليس ذلك إلّا لأجل أنّ ولد الزنا طاهر، فكيف يكون سؤره نجساً؟! و يمكن حمل «الكراهة» على الأعمّ، فافهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 129 و 140.

(2) الوافي 6: 18 19.

(3) الكافي 3: 11/ 6، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 279

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ هذه المسألة ليست ذات خصوصيّة، حتّى يمكن التجاوز بأخبارها عن مفاد روايات الكرّ منطوقاً و مفهوماً، فإنّه ليس لأحد دعوى حرمة سؤر طاهر العين، و لا لأحد دعوى نجاسة سؤر نجس العين و إن كان كرّاً، و لذلك ترى أنّ أخبار هذا الباب، مأخوذة من روايات الأبواب الأُخر، فطائفة منها من أخبار مسألة انفعال

القليل، و طائفة منها من روايات مسألة نجاسة كذا و كذا و هكذا، فراجع و تأمّل حقّه، و ثالثة منها مأخوذة من أخبار تدلّ علىٰ طهارة جماعة من الحيوانات و الحشرات و المسوخ.

نعم، لهذه المسألة خصوصيّة؛ و هي كراهة سؤر بعض الحيوانات، دون بعض، و حيث أنّ الكراهة في هذه المسألة كالكراهة في مسألة منزوحات البئر، ترجع إلىٰ بيان الآداب و النظافة، و لا أظنّ كونها من المكروهات أو المستحبّات الوارد فيها النهي أو الأمر المولويّ التنزيهيّ أو الاستحبابيّ، فلا حاجة إلىٰ إطالة البحث تارة: حول مفهوم «السؤر» و أُخرى: حول خصوصيّات المسألة، فافهم و اغتنم، و كن علىٰ بصيرة من أمرك.

تنبيه: في المراد من كراهة سؤر الحائض و شمولها للمتهم

لا يبعد دلالة الأخبار الكثيرة الواردة في ترخيص الشرب من سؤر الحائض دون التوضّي «1»، علىٰ أنّ «الكراهة» المقصودة فيها هي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 236، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 280

الكراهة الشرعيّة. و غير خفيّ أنّ ذلك حسب ما يستظهر من الأخبار لا يختصّ بسؤر الحائض، بل هو حكم مطلق ما يباشره المتهم و غير المأمون كما لا يخفى، فعليه أيضاً لا تصل النوبة و لا تمسّ الحاجة إلى البحث عن مفهوم «السؤر» لعدم اختصاصه بحكم معيّن، فليتدبّر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 281

المقصد الثاني في النجاسات و أحكامها

اشارة

و البحث حولها يقع في مقامين:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 283

و قبل الورود فيهما لا بأس بالإشارة إلىٰ مقدّمة

مقدمة
اشارة

و هي مشتملة علىٰ نكات:

الاولى: في بيان حقيقة الطهارة و النجاسة العرفيتين

لا شبهة في أنّ النجاسة و الطهارة، ليستا مندرجتين تحت إحدى المقولات الواقعيّة بعنوانهما، كما هو الظاهر علىٰ أهله، و ليستا من الأُمور الاعتباريّة المحضة؛ بحيث اعتبرها العقلاء سياسةً تحفّظاً علىٰ نظام مدنهم و ثبات معاشهم، و تحرّزاً عن الوقوع فيما يورث الهلكة و الاختلال، و الهرج و المرج و الوبال، كالملكيّة و السلطنة و المبادلة و أمثالها، و إن كانت لها مصاديق واقعيّة بحسب المفاهيم الأوّلية؛ حسب ما تقرّر منّا في الأُصول من الضابطة الكليّة. علىٰ أنّ كلّ أمر اعتباريّ مأخوذ من الأمر الواقعيّ الخارجيّ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 284

فهما من العناوين الانتزاعيّة، و منشأ الانتزاع موافقة الطباع و تنفرها، و ربّما تختلف الأعصار و الأمصار في ذلك؛ حسب اختلاف الأنام في المعاش و الأحكام، كما نجد ذلك واضحاً بين أهل النجف و العراق الذي هو عندنا مرحاض الشرق، و بين أهل الغرب، فلا يمكن دعوى أنّ النجس هو القذر العرفيّ المتنفّرة عنه طباع الناس بنحو العموم و الكلّي.

فبالجملة: النجاسة العرفيّة و الطهارة و النظافة العرفيّتين، ما هي الموافقة للطبع، و المخالفة له المختلفة بحسب الأزمنة و الأمكنة، و ليستا علىٰ هذا أمرين وجوديّين إذا لوحظا في ذاتهما، و هما أمران وجوديّان إذا لوحظا قياساً إلىٰ منشأ الانتزاع؛ و هو تنفّر الطبع، و ملائمة الطبع و مساعدته.

و ربّما يمكن تصوير الحدّ الوسط في هذه الملاحظة؛ و هو ما لا يلزم منه التنفّر و لا الالتذاذ، كنوع الأشياء، فإنّها لا يطلق عليها «النظيف» حسب مرتكزنا؛ فإنّ «النظيف» ما يلتذّ منه الطبع، و لا مشاحّة في ذلك.

و إطلاقهما على الروحيّة السالمة و الخبيثة، ليس للوضع الأوّلي، بل هو

في الابتداء كان بالتوسّع، حتّى صار أحياناً مندرجاً في الموضوع له. و إذا لاحظناهما بالقياس إلى النفوس البشريّة فهما وجوديّان أيضاً؛ لأنّ صفاء النفس ليس عدم تلوّثها بالقذارة؛ فإنّ صفاء نفس الصبيّ غير صفاء نفس النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم).

و توهّم: أنّهما من الأُمور التكوينيّة في هذه النظرة، في غير محلّه، كما لا يخفى على الدقيق البصير.

و من هذه الأساطير، و من التدبّر فيها، تظهر مواقف الاشتباه في كلمات

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 285

القوم (رحمهم اللّٰه) حتّى الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «1».

الثانية: في حقيقة الطهارة و النجاسة الشرعيّتين

اختلفت كلمات الأعلام و آراء الأفاضل في الطهارة و النجاسة الشرعيّتين، فالمعروف عن الشيخ الأعظم: أنّها من الحقائق المكنونة، كشف عنها الشرع الأقدس «2».

و لا أظنّ أن يرخّص أحد نسبة ذلك إلىٰ مثله، و لو كان منه فهو الخطأ الواضح، كيف؟! و أنّ السنخيّة معتبرة في العالم بين الأشياء المرتبط بعضها ببعض، فلو كان الأمر كذلك، يلزم كون الارتداد علّة لتحقّق النجاسة الواقعيّة، و الإسلام علّةً للطهارة الكذائيّة، و غسل الميّت سبباً لزوال عين النجاسة الواقعيّة، و هكذا ممّا لا يمكن أن يُلتزم به. و مجرّد بعض التسويلات الواهية لإثبات السنخيّة، أو إيجاد احتمالها، غير كافٍ كما لا يخفىٰ.

و المشهور عن جماعة: أنّها من الأُمور الاعتباريّة الجعليّة «3»، إلّا أنّ سبب الجعل مختلف:

فتارة: يجعل النجاسة و الطهارة مستقلّتين.

و أُخرى: تبعاً للحكم، فتكونان منتزعتين من الأوامر و النواهي الواردة

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 3.

(2) فوائد الأُصول 4: 401، منتهى الأُصول 2: 403، مصباح الأُصول 3: 84.

(3) فوائد الأُصول 4: 401، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 7، مصباح الأُصول 3: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى

الخميني)، ج 2، ص: 286

في الشريعة المقدّسة.

و لذلك ترى في المآثير و الأخبار «1» بل و الكتاب جعلها مستقلا، و تبعاً، من غير لزوم إشكال؛ لما تقرّر في محلّه: من إمكان ذلك بلحاظ الأثر المقصود «2».

ففي مثل الأبوال و الأرواث و المنيّ مثلًا و غيرها، تكون مجعولة بالعرض، و في مثل الكلب و الخنزير و المرتدّ و غيرها، مجعولة بالذات. و الكلّ يرجع إلىٰ أمر واحد؛ و هو جعليّتهما كما لا يخفىٰ.

و المسطور في كتاب الوالد المحقّق هو التفصيل؛ بأنّ القذارات علىٰ قسمين:

طائفة منها عرفيّة لا تحتاج إلى الجعل، و هي ما يتنفّر منه الطبع.

و طائفة منها ملتحقة بها موضوعاً، كنجاسة الكفّار و الخمر و الكلب.

و ربّما يستثني الشرع طائفة من النجاسات العرفيّة، كالوذي و المذي و النخامة موضوعاً، أو حكماً «3».

هذا من غير حاجة إلى التثبّت بالجعل في الاولىٰ. مع أنّ مناشئ هذه المجعولات بحسب السياسة مختلفة، كما هو الظاهر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 404 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 1 و 2 و 3، و 415 416، الباب 12، الحديث 2 و 6، وسائل الشيعة 18: 443، كتاب الصلح، أبواب الصلح، الباب 3.

(2) تحريرات في الأُصول 8: 429 432.

(3) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 287

أقول: هذه الأقوال كلّها غير قابلة للتصديق، و خالية عن التحقيق؛ ضرورة أنّ ما هو النجس في الشرع هو البول و العذرة، سواء تنفّر عنه الطباع، أو رغبت فيها النفوس، كما في العراق أحياناً، فليس التنفّر علّة، بل هو ربّما كان نكتة في بدو التشريع.

ثمّ إنّ ما هو تحت إرادة الشرع و سلطانه، ليس إلّا الأمر و النهي،

و لو كان في رواية: «إنّ الشي ء الكذائي نجس» فلا يريد منه إلّا انتقال الناس منه إلىٰ ما هو حكم القذر عندهم؛ من التجنّب، فلا يجعل النجاسة لا مستقلا، و لا تبعاً، بل هذه الاستعمالات الكثيرة، كلّها توسّعات لانتقال النفوس و الأُمّة الإسلاميّة إلىٰ ما هو المقصود الجدّي؛ و هو التجنّب، من غير التدخّل في أمر خارج عن حكومته و سلطنته.

و مجرّد تنفّر الطباع التابعة للشريعة المقدّسة؛ بالتلقينات الكثيرة الموروثة عن الآباء و الأُمّهات، لا يكفي لكونها من الجعل، و إلّا يكون هو جعلًا تكوينيّاً، كما ليس يخفىٰ.

فهذا المجعول التكوينيّ معلول تلك المجاعيل الاعتباريّة؛ من الأمر و النهي، و قد تقرّر منّا: أنّ الأُمور الاعتباريّة في كلّ آنٍ و حين، منشأ للمقاصد الواقعيّة التكوينيّة «1»، فلا تخلط.

فعلى ما تقرّر، النجاسة و الطهارة مخصوصتان بالعرف و اللّغة، و لا يوصفان بالشرع رأساً، حتّى يقع النزاع في معناهما بعد تسلّم التوصيف، بل

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 1: 275 276.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 288

التوصيف على التوسّع و المجاز بالوجه المحرّر في مقرّه «1».

فعلى هذا يقال: إنّ ما اشتهر «من أنّ النجاسات مثلًا عشرة» معناه أنّ ما يجب الاجتناب عنه في مواقف معلومة عند الشرع عشرة، و يكون التوصيف للانتقال إلى الأحكام العقلائيّة المشتركة مع بعض الأحكام الشرعيّة في بعض النجاسات، كما في المجازات، فقولهم: «الكافر نجس» كقولنا: «زيد أسد» و لا يكاد ينقضي تعجّبي من غفلة المدقّقين عن هذه المسألة، فوقعوا فيما لا يعني!! و إن كان ذلك منهم ليس بعجيب.

فبالجملة: بعد ما عرفت أنّ الطهارة و النجاسة العرفيّتين ليستا اعتباريّتين محضاً، فهما في الشرع ليستا من الانتزاعيّتين؛ للزوم الاقتصار علىٰ حال التنفّر، و

هو واضح المنع، و لا من الاعتباريّة؛ لأنّ الاعتباريّة بيد المعتبرين و الآمِر، دون الشرع؛ فإنّه خارج عن سلطانه.

نعم، بعد الأمر و النهي، ربّما يحصل التنفّر التكوينيّ، و هو خارج عن الاعتبار.

و من هنا يظهر مواقف الاشتباه صدراً و ذيلًا في كلمات الأعلام (قدّس سرّهم).

و من ذلك البيان الذي علّمناكم، ظهر أنّ مناشئ الأحكام السلبيّة المخصوصة بالنجاسات، مختلفة، إلّا أنّها نكت، لا علل؛ فالقاذورات العرفيّة و المنفورات الطبعيّة، تكون فيها علّة الاجتناب واضحة أكلًا و شرباً، لا علّة الاجتناب عنها في الصلاة و الطواف، و لا عن ملاقيها حتّى في الشرب و الأكل؛ علىٰ وجه لا يكون مع الجزء الملاقي جزء منها. و في

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 1: 144 146.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 289

الخمر و الكافر و المشرك و المرتدّ و عرق الجنب عن حرام- بناءً علىٰ نجاسة الكلّ تكون علّتها سياسيّة، و هكذا الدم.

و ربّما لا يمكن الاطلاع علىٰ جهتها، كما في الدم و الميتة، و أمثالهما ممّا لا يساعد عليه العرف. و ربّما تكون المضرّات النفسانيّة أو المزاجيّة و الروحيّة، مورثة لذلك، فلا يتمكّن عقل الإنسان من الاطلاع على الأحكام الصادرة عن بيوت الوحي و التنزيل، الراجعة إلى الربّ الجليل.

الثالثة: هل النجاسة من الأُمور المشكّكة؟

بناءً علىٰ ما سلكناه: من أنّ النجاسات الشرعيّة ليست من الأُمور الاختراعيّة، و لا الوضعيّة الجعليّة الاعتباريّة، و لا الانتزاعيّة، و يكون إطلاق «النجس» علىٰ شي ء كإطلاق «الأسد» على الرجل الشجاع من الادعاء و المجازيّة، تندفع شبهة ترد علىٰ بعض المسالك: و هي أنّه قد ورد في بعض المآثير مثلًا: «إنّ ناصبنا أهلَ البيت أنجس من الكلب» «1» و الأُمور الاعتباريّة لا تجري فيها التشكيكات العامّية، و لا

الخاصّية، و لا تقبل الاشتداد و الضّعف.

وجه الاندفاع: أنّ المراد من هذا التعبير هو الانتقال إلى اشتداد الحكم فيهم؛ و أنّ الاجتناب هناك أقوى مثلًا من الحكم في الكلب، فكما أنّ في القذارات العرفيّة التي هي أُمور انتزاعيّة، مراتبَ عرفيّة، و يكون تنفّر

______________________________

(1) علل الشرائع: 292، وسائل الشيعة 1: 220، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 290

الطبع من النخامة أكثر من البول مثلًا، و من الكلب العقور أكثر من الخنزير، كذلك الشرع لانتقال الأُمّة الإسلاميّة إلىٰ هذه النكتة استعمل أفعل التفضيل لإفادة ذلك.

هذا، و قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه: أنّ الأُمور الاعتباريّة تسري فيها المراتب الشديدة و الضعيفة، إلّا أنّ الاشتداد و الضّعف فيها، ليس من الاشتداد التكوينيّ، بل هو أيضاً اعتباريّ من سنخ الطرفين، فقولهم: «الملكيّة الشديدة و الضعيفة» شاهد علىٰ ذلك، و إن كان في صغرى المسألة إشكال، تفصيله في محلّه.

و مثلها السلطنة المطلقة، في قبال ما يقال: «لفلان السلطنة الضعيفة» أو يقال: «لفلان سلطنة ما علىٰ أمر كذا».

و هذا التشكيك عامّي باعتبار الآثار و الأحكام، لا بمعنى أنّ في نفس هذا المفهوم الاعتباريّ اشتداداً و ضعفاً؛ فإنّه غير مقصود للقائل به، فلا تخلط.

و ليس بخفيّ علىٰ أهله: أنّ التشكيك بأقسامه من خواصّ الأُمور الخارجيّة، و لا يسري إلى المفاهيم، و لو قيل أو سمع ذلك في بعض كتب الفضلاء، فهو لعدم اطلاعهم على المبادئ العلميّة المقرّرة عندنا في القواعد الحكميّة «1».

و ممّا يشهد و يدلّ على اعتبار الاشتداد فيها: اختلاف أحكامها في الغسل بحسب المرّة و التكرار، فإنّه لا بدّ أن يلتزم بأنّ النجاسة تصير بعد

______________________________

(1) القواعد الحكمية للمؤلف

(قدّس سرّه) (مفقودة).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 291

الغسلة الأُولىٰ، أخفَّ و أقلّ، و إلّا يلزم إمّا لغويّة الغسالة الأُولىٰ، أو الثانية، كما لا يخفىٰ.

الرابعة: الثمرات المترتّبة على اختلاف المسالك في الطهارة و النجاسة

تظهر ثمرات عديدة على اختلاف المسالك المشار إليها في الطهارة و النجاسة و نواحيها:

مثلًا: على القول بأنّهما من الأُمور الواقعيّة التي كشف عنهما الشرع الأقدس، لا يمكن اختيار مقالة صاحب «الحدائق» من أخذ العلم في موضوع دليل وجوب الاجتناب «1»؛ ضرورة أنّه يلزم كون الشي ء الواحد نجساً و طاهراً، باختلاف حالتي العلم و الجهل بالنسبة إلىٰ شخصين في آنٍ واحد.

و من ثمرات تلك الاختلافات: أنّه على القول: بأنّهما أمران وجوديّان، لا يمكن إجراء استصحاب عدم إحداهما، و إثبات الأُخرىٰ؛ لكونه من الأصل المثبت، بخلاف ما إذا قلنا: بأنّ الطهارة عدم النجاسة، لا شي ء آخر.

و منها: أنّ في الشبهات الحكميّة في مسألة الحاجة إلى التعدّد في زوالها، يمكن إجراء الاستصحاب على القول: بأنّهما تقبلان الشدّة و الضّعف، و لا يمكن الإجراء على القول: بأنّهما أمر بسيط؛ فإنّه في أوّل المرتبة من الغسل يزول قهراً، قضاءً لحقّ مطهّرية الماء في الجملة، فافهم و اغتنم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 260.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 292

و منها: أنّه على القول بأنّهما كما تكونان عرفيتين، تكونان شرعيّتين، يجري الاستصحاب لإبقاء عنوانهما، و ترتيب الآثار عليهما، بخلاف ما إذا قلنا: بأنّهما عرفيّتان فقط، فلا يستصحب العنوان العرفيّ؛ لعدم الأثر الشرعيّ له، فتنحصر الفائدة فيه بالحكميّ، فيستصحب عند الشكّ وجوب الاجتناب السابق، أو جواز الشرب.

نعم، إذا شكّ في بقاء بول علىٰ صفة البوليّة، يمكن الاستصحاب، أمّا استصحاب عنوان النجاسة فلا.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ التطبيق الوارد في المآثير و لو كان بنحو المجازيّة

و الادّعاء، كافٍ لإجرائه، فليتأمّل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 293

المقام الأوّل في عدد النجاسات
اشاره

و هي علىٰ ما في «الوسيلة» واحد و عشرون «1»، و عند المشهور عشرة «2»، و قيل: «أحد عشر» «3» و قيل: «اثنا عشر» «4» و الأمر بعد كون المدار على الدليل، سهل.

و في المروي عن بعض نسخ الدعوات، عن وليّ سيّد الكائنات، عليه أفضل الصلوات و التحيّات: أنّه أجاب رجلًا سائلًا عن عدد النجاسات: «بأنّه الغب مع الميمات، و الدف مع الحيوانات».

و هي عليه عشرة؛ فإنّ كلّ واحد من «الغين» و «الباء» و ثلاث ميمات، «و الدال» و «الفاء» و ثلاثة حيوانات، رمز لها باسمها، و المراد من الحيوانات: الكافر، و الكلب، و الخنزير، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) الوسيلة: 77.

(2) مفتاح الكرامة 1: 136، مستند الشيعة 1: 24، جواهر الكلام 5: 273.

(3) وسيلة النجاة: 57.

(4) العروة الوثقىٰ 1: 55، فصل في النجاسات.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 294

الأوّل: البول

و هو من الحيوان النجس العين من النجاسات بالضرورة، و عليه المسلمون أجمعهم «1». و أمّا في غيرها فهو مورد الخلاف.

و البحث حوله يتمّ في ضمن مسائل:

المسألة الأُولىٰ: في نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه من ذي النفس

بول الحيوان غير المأكول لحمه ذي النفس السائلة، نجس بالاتفاق «2»، و لا حاجة إلى الاستدلال. و المخالف من المخالفين النخعيّ، حيث قال بطهارة أبوال جميع البهائم و السباع «3».

و يدلّ عليه معتبر عبد اللّٰه بن سِنان في «الوسائل» قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «4».

______________________________

(1) المعتبر 1: 410، الحدائق الناضرة 5: 2، المجموع 2: 548 550.

(2) المعتبر 1: 410، تذكرة الفقهاء 1: 49، مستند الشيعة 1: 137.

(3) الظاهر أنّ الفراغ من هذا التسويد، كان في النصف الثاني من العشر التاسع من القرن الحاضر 1394 بيد أقلّ العباد؛ مصطفى بن روح اللّٰه الموسويّ الخمينيّ عفي عنهما، نجف .. [منه (قدّس سرّه)]. المجموع 2: 548/ السطر 18.

(4) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 295

و القدر المتيقّن منه ما كان منها ذا نفس سائلة.

و الإشكال في قصورها و قصور ما هو مثلها عن إثبات النجاسة، كتوهّم اختصاص النجاسة بالثوب، و اختصاصها بثوب ابن سِنان.

هذا مع أنّك قد عرفت: أنّه لا حاجة إلىٰ إثبات اعتبار النجاسة، بل المقصود إثبات أنّ هذا الأمر ليس مولويّاً، بل هو إرشاد إلىٰ لزوم الغسل فيما يشترط بالطهارة، سواء كانت النجاسة منتزعة عن هذا الأمر، أم لا، فلا تخلط.

و يمكن الإشكال في الاستدلال بهذه الأخبار: بأنّ المراد من قوله (عليه السّلام): «ما لا يؤكل لحمه» أعمّ من الحيوانات المحرّمة و

ما لا يؤكل عادة، كما يأتي في المسألة الثالثة، و إخراج الطائفة الثانية للقرينة، يورث القصور عن إثبات النجاسة بها، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّه ربّما يمكن توهّم انصراف هذه الروايات عن بول الإنسان، كما في لباس المصلّي «1». و لكنّه و لو تمّ لا يستلزم طهارته؛ لإطلاق الأوامر بالغسل من البول المصيب للثوب مع ترك الاستفصال.

بل و القدر المتيقّن منه هو ثوب الإنسان؛ لكثرة الابتلاء به، مع ما ورد في الباب المزبور من معتبر سَماعة، قال: سألته عن أبوال الكلب و السنَّوْر و الحمار.

فقال: «كأبوال الإنسان» «2».

______________________________

(1) لاحظ مهذّب الأحكام 1: 284.

(2) تهذيب الأحكام 1: 422/ 1336، وسائل الشيعة 3: 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 296

و إضماره غير مضرّ كما تحرّر «1»، و شموله للحمار لا يورث قصوراً في أصل الدلالة، كما لا يخفىٰ.

و يحتمل أن يراد منه: أنّ أبوالها كأبوالهم؛ في أنّها طاهرة و نجسة؛ فإنّ من أبوال الإنسان ما هو طاهر، بل أطهر من كلّ شي ء، كما لا يخفىٰ علىٰ أهله، فليتدبّر.

هذا مع قيام السيرة القطعيّة عليه؛ لأنّ حكم هذه الموضوعات يؤخذ من الآباء و الأجداد يداً بعد يد. و يشهد لذلك ما ورد في الاستنجاء، علىٰ ما مرّ منّا في محلّه: من إثبات أعمّية «الاستنجاء» فراجع «2».

ثمّ إنّ الظاهر عدم الحاجة إلىٰ دعوى الانصراف؛ لأنّ كلمة «ما» لغير ذوي العقول، فالتعميم يحتاج إلى الدليل، فاغتنم.

المسألة الثانية: طهارة بول ما لا يؤكل إن لم يكن ذا نفس سائلة

بول ما لا يؤكل لحمه، و ليس له نفس سائلة، طاهر لا يجب الاجتناب عنه بلا خلاف صريح من أحد «3»، إلّا المحقّق، فإنّه قد تردّد في «الشرائع» ابتداءً، و صرّح بالطهارة بعد ذلك «4».

______________________________

(1) لعلّه

في قواعده الرجالية و هي مفقودة.

(2) تقدّم في الصفحة 128 129.

(3) الحدائق الناضرة 5: 13.

(4) شرائع الإسلام 1: 43.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 297

و قال في «المعتبر»: «إنّه نجس» «1».

و قال أبو حنيفة و الشافعيّ و أبو يوسف: «إنّه نجس» «2».

و قد استشكل في دليله؛ لعدم النصّ عليه «3»، مع إطلاق ما يدلّ علىٰ نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، بل و عموم خبر عبد اللّٰه بن سِنان في الباب المزبور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «اغسل ثوبك من بول كلّ ما لا يؤكل لحمه» «4».

و عليه لا فرق بين السمك المحرّم لحمه و غيره، و بين الملحقات و سائر الحيوانات البحريّة ممّا لا نفس لها، و غيرها من البهائم و السباع. و مجرّد كون الحيوانات البرّية غير ذات اللحم إذا كانت غير ذات نفس، لا يكفي؛ لوجود الحيوانات البحريّة التي هي ذات لحم، و غير ذات نفس.

و توهّم: أنّها خارجة عن الابتلاء «5»، غير نافع.

و ربّما يقال: بانصراف الرواية الأُولىٰ عن بول ما لا نفس له؛ لطهارة ميتته و دمه، بل و خرئه، و تلك كافية لكونها منشأً للانصراف «6».

و أمّا الخبر الثاني، فهو مرسل؛ لأنّ الكلينيّ يرويه بواسطة عليّ بن

______________________________

(1) المعتبر 1: 411.

(2) الخلاف 1: 486، المجموع 2: 548/ السطر 17، المحلّى بالآثار 1: 169.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 461.

(4) الكافي 3: 406/ 12، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 3.

(5) مهذّب الأحكام 1: 296.

(6) مدارك الأحكام 2: 264، مهذّب الأحكام 1: 296.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 298

محمّد، عن عبد اللّٰه بن سِنان، و هو غير ممكن

كما هو الظاهر. فما له الإطلاق غير وافٍ، و ما له العموم غير مسند.

و أمّا إطلاق سائر المآثير المشتملة على الأسئلة و الأجوبة، أو الأمر بغسل البول «1»، فهو إنصافاً بعيد عن شمول هذه الأبوال، و لا معنىٰ لإلغاء الخصوصيّة، بعد ما ترى من الخصوصيّات في ميتتهم و دمهم و هكذا.

و يمكن أن يستدلّ علىٰ طهارة ما لا نفس له من ذوات اللّحوم التي لا يؤكل لحمها: بمعتبر حفص بن غياث في «الوسائل» عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهم السّلام) قال: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» «2».

فإنّ قضيّة إطلاقه حسب المفهوم، نجاسة الماء بالنفس السائلة، سواء كانت ميتتها أو بولها. نعم خرج منه جثّتها حال الحياة.

و مثله ما ورد في الباب المزبور ذيل معتبر الساباطيّ، حيث قال: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس» «3».

فإنّه أعمّ من الميتة و بولها.

و أنت خبير: بأنّ هذه الاستدلالات غير وافية، فكأنّ الأفاضل و الأعلام لمّا بنوا على تماميّة الحكم، اشتهوا الاستدلال؛ فتارة: يستدلّ بقصور الأدلّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 404، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.

(2) تهذيب الأحكام 1: 231/ 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 230/ 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 299

و انصرافها «1»، و أنت تعلم أنّه لو كان الأمر كما قيل، لكان انصرافها عن بعض أصناف الحيوانات التي لها النفس أولىٰ كالسباع؛ لعدم الابتلاء بها إلّا نادراً.

و أُخرى: من جهة تقديم لسان مفهوم هاتين الروايتين، علىٰ ما يدلّ علىٰ نجاسة بول مطلق ما لا يؤكل

لحمه «2»، مع أنّك تعلم أنّ مثل هذين المفهومين، قاصران عن إثبات شي ء. مع أنّ الوجدان حاكم بأنّ فتوى المشهور، ليست مستندة إلىٰ مثل ذلك.

و توهّم: أنّ «البول» غير صادق علىٰ أبوالها «3»، كتوهّم أنّه لا بول لها رأساً «4».

نعم لو شكّ في ذلك فمقتضى الأُصول هي الطهارة.

و أمّا دعوى الإجماع و الاتفاق «5»، فهي قريبة جدّاً؛ فإنّه بعد ما نجد قصور الأدلّة عن إثبات القيد الثاني، بل و دلالتها علىٰ نجاسة مطلق البول، يظهر لنا أنّ المسألة كانت واضحة عند الأوائل؛ لدلائل أُخر، فافهم و تدبّر. فاحتمال كون مستندهم هذه الأُمور، في غاية البعد جدّاً؛ لجلالة شأنهم عن هذه التشبّثات في المسائل الفقهيّة.

و أمّا إطلاق معاقد جملة من الإجماعات، كإجماع السيّد أبي المكارم في «الغنية» «6» فهو محمول علىٰ غيره، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 296.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 462.

(3) المعتبر 1: 411، جواهر الكلام 5: 285.

(4) مهذّب الأحكام 1: 296.

(5) الحدائق الناضرة 5: 13.

(6) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 488/ السطر 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 300

و أمّا توهّم الاتفاق علىٰ طهارة أبوال الحيوانات الصغيرة، كالذباب و الخنافس، فهو لا يضرّ بهذه المسألة؛ لخروجها عن الأدلّة موضوعاً، لعدم كونها ذوات اللحوم واقعاً أو عرفاً.

و توهّم: أنّ الموضوع المأخوذ في الأدلّة، معنىً سلبيّ يجامع سلب الموضوع «1»، في غير محلّه، كما هو الظاهر. و لكنّه بعد اللتيّا و التي، تحتاج المسألة إلى التأمّل و التتبّع.

المسألة الثالثة: في طهارة بول ما يؤكل لحمه

أبوال ما يؤكل لحمه طاهرة عند الأكثر من أصحابنا «2».

و عن ابن الجنيد، و الشيخ في «النهاية»: القول بالنجاسة «3»، و إليه مال الأردبيليّ «4»، و تلميذه صاحب «المدارك» «5» و صاحبا «الدلائل»

و «المفاتيح» قالوا بنجاستها «6»، و هكذا «الحدائق» «7».

و من المخالفين: أبو حنيفة، و الشافعيّ، و أبو يوسف، و أبو ثور،

______________________________

(1) لاحظ الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 29.

(2) الخلاف 1: 485، تذكرة الفقهاء 1: 50، العروة الوثقىٰ 1: 55 فصل في النجاسات، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 455.

(3) لاحظ مختلف الشيعة: 56/ السطر 14، النهاية: 51.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 1: 301.

(5) مدارك الأحكام 2: 302 303، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 283.

(6) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 153/ السطر 15، مفاتيح الشرائع 1: 65.

(7) الحدائق الناضرة 5: 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 301

و جماعة آخرون، ذهبوا إلى النجاسة «1».

و لعلّ هذا الاختلاف ناشئ من الخلاف في حرمة اللّحم و حلّيته، فتصير المسألة تابعة لتلك المسألة.

و بالجملة: مذهب الجمهور و المعروف منهم نجاستها، فإذن يتمكّن الفقيه من الحمل على التقيّة؛ إذا كانت في أخبارنا رواية تدلّ عليها، كما يأتي.

و علىٰ كلّ حال تبيّن: أنّ المسألة خلافيّة، فلا بدّ من النظر في أخبارها. و الشهرة بين المعاصرين على الطهارة، أو الاتفاق منهم عليها، لا يورث شيئاً.

ثمّ إنّه لا فرق علىٰ هذا، بين ما له النفس و غيره.

اعلم: أنّ روايات هذه المسألة علىٰ طائفتين:

الأُولىٰ: تدلّ على النجاسة استظهاراً «2».

و الثانية: تدلّ على الطهارة صراحة «3».

و قضيّة الجمع العقلائيّ هو الأخذ بالثانية، و حمل الأوامر على الاستحباب؛ و أنّها ليست نجسة، و لكنّها يكره استعمالها فيما يشترط فيه الطهارة.

______________________________

(1) المجموع 2: 549/ السطر 1، المغني، ابن قدامة 1: 732.

(2) وسائل الشيعة 3: 406 و 408 و 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 1 و 8 و 11 و 13 و ذيل الحديث 5.

(3)

وسائل الشيعة 3: 407 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 4 و 6 و 10 و 12 و 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 302

هذا مع أنّ شهرة الأصحاب مع الثانية، و الاشتهارَ بين العامّة مع الاولىٰ، و كلّ واحد منهما يكفي لترجيح الثانية على الاولىٰ.

مع أنّه قد ادعى الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: «أنّ السيرة القطعيّة، و المراجعة إلىٰ كثرة الابتلاء، تعطي الطهارة بلا شبهة» «1».

فأقوائيّة إسناد الطائفة الاولىٰ من الثانية، لا تورث في المسألة شيئاً. فعلى جميع التقادير، لا بدّ من المراجعة إلىٰ رواية تحكي الطهارة، كما لا يخفى.

إن قلت: معتبر سَماعة في «الوسائل» الماضي آنفاً، الناطق بالتسوية بين أبوال الكلب و السنَّوْر و الحمار و أبوال الإنسان «2»، صريحة في النجاسة حسب الفهم العرفيّ، فلا جمع عقلائيّ بين الأخبار، فتكون المعارضة بينها واضحة.

قلت: قد عرفت منّا معنىٰ هذه الرواية «3»، فلا يثبت ظهورها في النجاسة. و لو سلّمنا فقضيّة المعارضة هو الترجيح أوّلًا، ثمّ السقوط، و المرجّح مع الثانية. و لو وصلت النوبة إلى السقوط، فالمرجع قاعدة الطهارة أيضاً.

ثمّ إنّ الظاهر، أنّ ما يؤكل لحمه علىٰ طائفتين:

الأُولىٰ: ما خلق للأكل، كالشاة و نحوها.

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 20.

(2) تهذيب الأحكام 1: 422/ 1336، وسائل الشيعة 3: 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 7.

(3) تقدّم في الصفحة 295 296.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 303

و الثانية: ما خلق للركوب، و يكره أكله.

فما كان من الاولىٰ، لا يكون بوله مكروهاً بالمعنى الذي مرّ تفسيره.

و ما كان من الثانية، يكون مكروهاً.

و يدلّ على التفصيل معتبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه

(عليه السّلام) عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم، أ يغسله، أم لا؟

قال: «يغسل بول الفرس و الحمار و البغل، فأمّا الشاة و كلّ ما يؤكل لحمه، فلا بأس ببوله» «1».

فإنّه مع النظر إلى الرواية الآتية، يظهر معناه؛ و هي ما رواها «الوسائل» عن القاسم بن عروة و هو عندي معتبر عن بكير بن أعين، عن زرارة، عن أحدهما: في أبوال الدوابّ تصيب الثوب: فكرهه.

فقلت: أ ليس لحومها حلالًا؟! فقال: «بلىٰ، و لكن ليس ممّا جعله اللّٰه تعالىٰ للأكل» «2».

فإنّه بالنظر إلىٰ هاتين الروايتين، يظهر حكم هذه المسألة أيضاً؛ من أنّها طاهرة، و لكن لمكان أنّ لحومها تكون مكروهة، تكون أبوالها مكروهة، فكأنّ الأبوال هنا كالأسآر في تلك المسألة؛ في كونها بحسب الحكم تابعة اللحم.

و بذلك قال بعض العامّة، كما في «البداية» لابن رشد، فإنّه يحكي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 247/ 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 9.

(2) الكافي 3: 57/ 4، وسائل الشيعة 3: 408، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 304

عن قوم قالوا بتبعيّة الأبوال للّحوم «1»، و به قال مالك «2».

إلّا أنّ التفصيل المشار إليه لا يتراءىٰ منهم، بل هو من خصائص مذهبنا ظاهراً، و اللّٰه العالم.

ثمّ إنّك قد أحطت خبراً في المسألة الأُولىٰ: بأنّ رواياتها مورد الخدشة في دلالتها علىٰ نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه؛ لظهورها في أنّ المراد من «ما لا يؤكل لحمه» أعمّ من المحرّم، و المطرود عادة، و المكروه شرعاً؛ بشهادة ما مضى، فيكون الدليل الوحيد السيرة القطعيّة و الإجماع المسلّم، و اللّٰه الأعلم.

المسألة الرابعة: في نجاسة أبوال الطيور المحرّمة
اشارة

أبوال الطيور المحرّمة نجسة، على المشهور شهرة عظيمة كادت

تكون إجماعاً «3».

و قد خالفهم منّا جماعة من الأقدمين، على المحكيّ عنهم، كالعمّاني، و الجعفيّ، و الصدوق، و الشيخ في «المبسوط» «4» و من

______________________________

(1) بداية المجتهد 1: 82.

(2) نفس المصدر.

(3) السرائر 1: 80، جواهر الكلام 5: 275.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 275، لاحظ مختلف الشيعة: 56/ السطر 6، ذكرى الشيعة: 13/ السطر 7، الفقيه 1: 41 ذيل الحديث 164، المبسوط 1: 36 و 39.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 305

المتوسّطين العلّامة في «المنتهىٰ» «1» و من المتأخّرين شارح «الدروس» «2» و «كاشف الأسرار» «3» و المجلسيّ في «شرح الفقيه» «4» و من متأخّري المتأخّرين «الحدائق» و «المفاتيح» و «كشف اللثام» و «المدارك» «5» و هو مشهور بين المعاصرين «6»، إلّا السيّد الأُستاذ البروجرديّ (رحمه اللّٰه) فإنّه أفتىٰ بالنجاسة «7»، و مثله الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «8».

و منشأ الاختلاف يمكن أن يكون أُموراً، تظهر خلال البحث عن المآثير في المسألة.

و الذي هو المعروف عنهم: أنّ قضيّة المطلقات، بل و عموم خبر ابن سِنان «9»، نجاسة جميع غير المأكولات من الطيور و غيرها. و ما ورد عن

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 160/ السطر 3.

(2) مشارق الشموس: 295/ السطر 25.

(3) لاحظ جواهر الكلام 5: 275.

(4) روضة المتّقين 1: 210.

(5) الحدائق الناضرة 5: 7، مفاتيح الشرائع 1: 66، كشف اللثام 1: 46/ السطر 24، مدارك الأحكام 2: 262.

(6) العروة الوثقىٰ 1: 55، فصل في النجاسات، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 275، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 449، مهذّب الأحكام 1: 291.

(7) العروة الوثقىٰ 1: 120، فصل في النجاسات، الهامش 1. (طبعة مؤسسة النشر الإسلامي).

(8) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 16 17.

(9) الكافي 3: 57/ 3،

وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 306

أبي بصير من طهارة بول الطيور على الإطلاق «1»، غير قابل للعمل به؛ لإعراض المشهور عنه، كما نصّ عليه «السرائر» و غيره «2»، فعلى تماميّة سنده يشكل الاعتماد عليه، كما هو الظاهر.

و الذي ألجأهم إلى الخلاف: أنّ قضيّة الصناعة العلميّة، هو الجمع بين الأخبار، و التوفيق بين الآثار.

و ما اشتهر: «من عدم عمل أحد من الأصحاب بمعتبر أبي بصير» «3» غير صحيح؛ لذهاب جلّ من الأقدمين إليه، كما أُشير إليه، و يكفي مثل الصدوق، و لا سيّما في «الفقيه» «4» فما أفاده ابن إدريس في «السرائر» غير موافق للواقع.

و لعلّه لمّا كان يرىٰ عدم جواز العمل بالخبر الواحد، أسند الأمر إليهم بنحو ذلك، كما لا يخفىٰ.

فعليه يتعيّن العمل بما رواه «الوسائل» صحيحاً، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «كلّ شي ء يطير، فلا بأس ببوله و خرئه» «5».

و بما رواه «المستدرك» عن «البحار» قال: وجدت بخطّ الشيخ

______________________________

(1) الكافي 3: 58/ 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 1.

(2) السرائر 1: 80، تذكرة الفقهاء 1: 49.

(3) نفس المصدر.

(4) الفقيه 1: 41، ذيل الحديث 164.

(5) وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 307

محمّد بن عليّ الجبعيّ، نقلًا عن «جامع البَزنطيّ» عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «خرء كلّ شي ء يطير و بوله، لا بأس به» «1».

و الظاهر اتحاد الخبرين.

أقول: في أنّ قضيّة الصناعة هي الطهارة أو النجاسة إشكال؛ ضرورة أنّ النسبة بين الروايتين

أي ما تدلّ علىٰ نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه «2»، و ما تدلّ علىٰ طهارة بول الطائر عموم من وجه، و التعارض في الطائر المحرّم أكله، و حيث لا ترجيح لإحداهما على الأُخرىٰ قيل: «يتعيّن الرجوع إلى المطلق الفوقانيّ؛ و هي الأوامر الناطقة بوجوب الغسل عند إصابة البول «3»، التي تكون نسبتها إلىٰ كلّ واحدة من الروايتين عموماً مطلقاً.

و لكنّه محلّ خدشة؛ ضرورة إمكان انقلاب النسبة؛ بدعوىٰ تقييد تلك المطلقات بمعتبر أبي بصير «4» أوّلًا، ثمّ بعد ذلك تصير تلك المطلقات بعد التقييد، متوافقةً مع معتبر ابن سِنان «5»؛ ضرورة أنّ مفادها هو نجاسة ما عدا

______________________________

(1) بحار الأنوار 77: 110/ 14، مستدرك الوسائل 2: 560، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 6، الحديث 2.

(2) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 3: 395 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2.

(4) الكافي 3: 58/ 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 1.

(5) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 308

الطيور و لو كانت محرّمة» «1».

و أنت خبير بما فيه؛ من أنّ التقييد المزبور لا يستلزم الانقلاب؛ لبقاء النسبة- و هي العموم من وجه بعد التقييد بين المقيّدات، و معتبرِ ابن سنان قهراً، كما لا يخفىٰ. فما ترى من شيخنا الحلّي- مدّ ظلّه «2»، خالٍ عن التحصيل.

و الذي هو الإشكال في المقال: هو أنّ معتبر ابن سِنان، قاصر دلالة عن إثبات نجاسة «ما لا يؤكل لحمه» لما عرفت منّا: أنّ

هذا العنوان حسب ما فسّر في الأخبار عنوان مشير إلىٰ ما لا يؤكل، سواء كان محرّماً، أو لا يؤكل؛ لأجل عدم كونه مخلوقاً للأكل «3»، فحينئذٍ يكون دليل نجاسة ما لا يؤكل لأجل حرمة لحمه الإجماعَ و السيرةَ، و لا إطلاق في معقدهما بعد ما عرفت الخلاف في ذلك، و عنده يتعيّن العمل برواية أبي بصير.

بل يمكن دعوى سقوط المطلقات عن المرجعيّة بعد التساقط؛ لأنّها تكون مقيَّدة بالمآثير الدالّة علىٰ طهارة بول الحيوان المأكول لحمه «4»، فتكون بعد ذلك معارضة لمعتبر أبي بصير، كرواية ابن سِنان.

هذا كلّه بناءً علىٰ عدم ثبوت الترجيح لأحدهما على الآخر.

و لكنّ المعروف بين الأصحاب المدقّقين: أنّ الترجيح مع خبر أبي بصير؛ و ذلك لأنّه إذا انعكس الأمر، يلزم لغويّة أخذ قيد الطير في

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 274 275.

(2) نفس المصدر.

(3) تقدّم في الصفحة 304.

(4) وسائل الشيعة 3: 406 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 309

موضوع الدليل «1».

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 309

و أنت خبير بما فيه، و قد مرّ منّا مراراً: أنّه لا دليل شرعيّ و لا عرفيّ و لا عقليّ علىٰ لزوم الجمع بين العامّين من وجه، حتّى يقال: بأنّه في صورة عدم الترجيح يتساقطان، و في صورة الترجيح يتقدّم ذو المزيّة علىٰ غيره، بل المناط كون الجمع عقلائيّاً، فإن أمكن علىٰ تلك الطريقة فهو، و إلّا فيتعارضان، أو يكون بالتخيير، فلاحظ و اغتنم.

و ربّما يتخيّل: أنّ التقييد من جانب رواية ابن سِنان، يستلزم

كون أفراد معتبر أبي بصير نادرة؛ لما قيل: «إنّ الحيوانات المأكولة الطائرة ليست ذات بول» «2».

و أنت خبير بما فيه؛ لما مضى أوّلًا، و لما أنّه ليس بتامّ ثانياً.

هذا، و قد أفاد السيّد الوالد- مدّ ظلّه: «أنّه لا تعارض بين الطائفتين؛ لأنّ رواية ابن سِنان يستظهر منها النجاسة؛ للأمر في مورد التعارض، و رواية أبي بصير نصّ في عدم النجاسة» «3».

و بعبارة منّي: كما يجمع بين المتعارضات في تمام المدلول بهذه الطريقة، و عليه ديدن الأصحاب، لا بأس بذلك في العامّين من وجه.

ثمّ بعد ذلك أشار إلى الوجه الذي قدّمناه في المسألة الاولىٰ: من

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 276، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 452، الطهارة، (تقريرات المحقّق الحائري) الأراكي 1: 336.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 276.

(3) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 18.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 310

قصور معتبر ابن سِنان عن إثبات النجاسة «1».

و استشكل على الوجه الأوّل: بلزوم التفكيك في مفاد الهيئة باختلاف الموارد، فأجاب: بجواز ذلك.

و كيف لم يتذكّر لهذا التفكيك في الوجه الثاني؟ و ليس هذا إلّا لعدم مساعدة العرف علىٰ مثله؛ فإنّ الهيئة و إن كانت موضوعة للتحريك الاعتباريّ، و هو بعد باقٍ علىٰ حاله، و لكن بعد قيام القرينة علىٰ إرادة المعنى الندبيّ في مورد، يصير ذلك من الصالح للقرينة، فتصير المسألة بحسب فهم العقلاء عندي مشكلة، فليتدبّر.

و ربّما يمكن دعوى تقديم معتبر أبي بصير علىٰ معتبر ابن سِنان؛ لأنّ الأوّل عامّ، دون الثاني، و العامّ مقدّم على الإطلاق، كما تحرّر؛ لأنّه في حكم البيان له «2»، فليتدبّر.

و لعمري، إنّ المسألة حسب القواعد الاجتهاديّة الصناعيّة، تؤدّي إلى الطهارة، و حسب المراجعة إلى البناءات

العقلائيّة، تصير مشكلة، و تؤدّي إلى الطهارة الظاهريّة إن قلنا: بجريان قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة، فتأمّل جيّداً.

هذا، و غير خفي: أنّ قضيّة ما سلكه السيّد الوالد- مدّ ظلّه، هي المراجعة إلىٰ تلك القاعدة. اللهمّ إلّا أن يتمسّك بإطلاق معاقد الإجماعات؛ فإنّها ظاهرة في أنّ المراد من «غير مأكول اللّحم» هو المحرّم لحمه فقط.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 294 295.

(2) لاحظ فرائد الأُصول 2: 792.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 311

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ علىٰ نجاسة بول الطيور المحرّمة: بما رواه «الوسائل» عن «مختلف العلّامة» نقلًا عن «كتاب عمّار بن موسى» عن الصادق (عليه السّلام) قال: «خرء الخُطّاف لا بأس به، هو ممّا يؤكل لحمه، و لكن كره أكله ..» «1».

حيث يكون الظاهر تعليله الطهارة بالجملة الثانية، و لكنّه محلّ منع.

فذلكة الكلام في المقام

و بالجملة: أنّ المآثير في المسألة علىٰ أربع طوائف:

الأُولىٰ: تدلّ علىٰ نجاسة مطلق البول «2».

الثانية: تدلّ علىٰ نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه «3».

الثالثة: تدلّ علىٰ طهارة بول ما أُكل لحمه «4».

الرابعة: تدلّ علىٰ طهارة بول الطيور و لو كانت محرّمة «5».

و النسبة بين الاولىٰ و سائر الطوائف، عموم و خصوص مطلق، و حيث أنّ الحكم واحد في الأُولىٰ و الثانية، تصير الأُولىٰ مقيّدة بالثانية أيضاً، فإن

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 679/ السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 20.

(2) وسائل الشيعة 3: 395 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2.

(3) وسائل الشيعة 3: 404 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.

(4) وسائل الشيعة 3: 406 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.

(5) الكافي 3: 58/ 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،

الباب 10، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 312

قدّمنا التقييد بين الاولىٰ و الثانية و الثالثة، تصير النتيجة نجاسة بول ما لا يؤكل، و طهارةَ بول المأكول، و تقع المعارضة بين المقيّد و الطائفة الرابعة؛ لأنّ النسبة حينئذٍ تكون عموماً من وجه.

و إن قدّمنا تقييد الاولىٰ بالرابعة، فيكون مفادها بعد التقييد: أنّ بول غير الطائر نجس، و تكون النسبة بعد ذلك بين الأوّل بعد التقيّد مع الثانية، عموماً من وجه، فلا مخلص علىٰ جميع التقادير.

نعم، يمكن دعوى: أنّ مفاد الطائفة الثانية لا يكون أصيلًا، بل هو موافق مع الاولىٰ، فتكون النتيجة أنّ البول نجس إلّا من الطائر، و ما أُكل لحمه، فلا تكون معارضة. و لو كان المناط في الجمع بين الأخبار المتعارضة مجرّد الإمكان، فهذا الجمع متعيّن، و إلّا فحكم المسألة يعرف ممّا سبق تفصيله، فليتدبّر جيّداً.

المسألة الخامسة: في حكم بول الصبيّ

بول الرضيع حسب ما مرّ من الإجماعات و الإطلاقات، نجس «1».

و في «التذكرة» عن داود «أنّه طاهر، و الرشح استحباب» «2».

و قال ابن الجنيد من أصحابنا كما في «المختلف» بطهارته، حيث قال: «بول البالغ و غير البالغ من الناس نجس، إلّا أن يكون غير

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 294.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 53.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 313

البالغ صبيّاً ذكراً، فإنّ بوله و لبنه ما لم يأكل اللّحم ليس بنجس» «1».

و هذا هو المحكيّ عنه، و لا يوجد حكاية القول بطهارة بول الرضيع عنه، كما يعرب عنه ما استدلّ به علىٰ ذلك، أو يستدلّ له.

نعم، ما حكي عن داود هي طهارة بول الصبيّ ما لم يتغذّ بالطعام، و ما حكي عنه (قدّس سرّه) طهارته ما لم يأكل اللحم، و هذا غير

موافق لما استدلّ به، أو استدلّ له، كما لا يخفىٰ.

و الذي هو الإشكال: أنّ الإجماعات غير مطلقة معاقدها لشموله، و إجماعَ السيّد «2» في خصوصه منقول، و مستنده إطلاق الأخبار، أو إلغاء الخصوصيّة، و في إطلاقها إشكال؛ لانصراف كلمة «ما لا يؤكل» عن الإنسان.

نعم، المطلقات الآمرة بالغسل إمّا منصرفة إلىٰ بول الإنسان، أو هو القدر المتيقّن منها، و كثرة الابتلاء ببول الصبيّ، تورث ظهورها في شموله.

بل المسألة لا تحتاج إلى الدليل؛ لأنّه لو كان طاهراً لكان بيّناً، فما قد يتمسّك ببعض الأخبار في المسألة «3»، لو سلّمنا نقاوة أسنادها و سلامةَ دلالتها، لما كان كافياً. و الشبهة في تلك المطلقات من ناحية أنّها في مقام بيان حكم النجس، مندفعة بترك الاستفصال مع كثرة الابتلاء.

و توهّم تماميّة سند طائفة منها، و سلامة دلالتها، مثل ما رواه

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 56/ السطر 28.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 217/ السطر 8.

(3) تهذيب الأحكام 1: 250/ 718، مختلف الشيعة: 56/ السطر 31، وسائل الشيعة 3: 398، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 314

«الوسائل» في الباب الثالث من الروايات المتكفّلة لبيان حكم بول الصبيّ «1»: من الأمر بالصبّ، و عدم لزوم الغسل، فإنّها كناية عن عدم نجاسته «2»، فهو في محلّه.

و دعوىٰ: أنّها لٰا تنافي ما يدلّ علىٰ نجاسته؛ لأنّ من الممكن اختلافه مع سائر الأبوال في سرعة الزوال، لعدم غلظته بالاغتذاء «3»، غير مسموعة؛ لعدم مساعدة العرف علىٰ مثلها. مع أنّه يستلزم كون النجاسة ذات مراتب، فلو كانت مرتبة منها تزول بالصبّ، لكان ذلك من التعبّد البعيد في هذه المواقف. و عليه يمكن دعوى نجاستها بمقدار لا يمنع عن الصلاة

و الطواف، و لا من الشرب إلّا بنحو الكراهة، فإنّ تجويز الاختلاف في الحكم هنا، يستلزم ذلك في سائر الأحكام، فليتأمّل.

ثمّ إنّ في الباب المزبور معتبر سَماعة قال: سألته عن بول الصبيّ يصيب الثوب.

فقال: «اغسله ..» «4».

فإنّه حسب الصناعة، شاهد علىٰ أنّ الصبّ أيضاً غير واجب؛ لأنّه كالأمر بالنضح في مورد الشكّ، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 1 و 2.

(2) لاحظ مختلف الشيعة: 56/ السطر 35.

(3) نفس المصدر.

(4) تهذيب الأحكام 1: 251/ 723، وسائل الشيعة 3: 398، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 315

فالذي هو الدليل الفريد ما عرفت منّا؛ من عدم احتياج هذه المسائل إلى الرواية و الحديث «1»، و إلّا فلا يبعد اقتضاء الصناعة طهارته.

و ممّا يشهد له ما رواه في الباب الرابع؛ من عدم وجوب غسل المربّية ثوبها من بوله «2»، فإنّه من الأمارات علىٰ عدم نجاسته، إلّا أنّه لمكان القذارة العرفيّة أمر بالغسل مرّة واحدة في اليوم. و مع الغضّ عن رواية السكونيّ المزبورة في الباب الثالث «3»، لا فرق بعد اقتضاء الصناعة طهارته بين الصبيّ و الصبيّة؛ لأنّ بول المرأة كبول المرء لو فرضنا كون السؤال عن بوله، كما في سائر الأحكام إلّا مع القرينة.

المسألة السادسة: في حكم بول الخفّاش

بول الخفّاش و هو الوطواط، و قد يعبّر عنه ب «الخشّاف» كما يجمع على «الخشاشيف» فإنّ الجمع يردّ الأشياء إلىٰ أُصولها نجس على المشهور «4»؛ حتّى عند الشيخ القائل بطهارة بول الطيور

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 313.

(2) تهذيب الأحكام 1: 250/ 719، وسائل الشيعة 3: 399، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 4، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1:

250/ 718، وسائل الشيعة 3: 398، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 4.

(4) مختلف الشيعة: 56/ السطر 7، الحدائق الناضرة 5: 14.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 316

المحرّمة «1».

و يمكن دعوى طهارته و لو قلنا بنجاسة بول الطيور المحرّمة. كما يمكن ذلك سواء كانت له النفس السائلة أم لم تكن؛ للنصّ الخاصّ فيه «2»، فتوهّم الملازمة في المسألة ممنوع جدّاً.

و لا رأي لمخالفينا في خصوصه «3»، كما هو المعروف بين المتأخّرين «4»، فإنّهم نفوا الخصوصيّة له، فمن قال بطهارة بول الطيور المحرّمة من ذي نفس قال بما فيه، و من قال بنجاسته فهو مثله.

و الذي هو الإشكال في المسألة: أنّ ما رواه في «الوسائل» في الباب العاشر عن موسى بن عمر، عن يحيىٰ بن عمر، عن داود الرقّي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي، فأطلبه و لا أجده؟

قال: «اغسل ثوبك» «5».

لا يكون نقيّ السند؛ لأنّ ابني عمر غير وارد فيهما التوثيق من أحد، و مع ذلك أفتىٰ بمضمونه الشيخ في «المبسوط» و استثناه من مطلق

______________________________

(1) المبسوط 1: 39.

(2) تهذيب الأحكام 1: 266/ 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 5.

(3) لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة 1: 12.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 278، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 453.

(5) تهذيب الأحكام 1: 265/ 777، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 317

الطيور «1»، و طرح العمل بما رواه في الباب السابق عن غياث، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام) قال: «لا بأس بدم البراغيث و البقّ و بول

الخشاشيف» «2».

مع أنّه بناؤه على الجموع التبرّعيّة، و هاتان الروايتان بينهما الجمع العقلائيّ؛ لمنصوصيّة الثانية في الطهارة، فتحمل عليها الأُولىٰ، فإنّه يعلم من ذلك: أنّ الحكم في الخفّاش كان عند الأصحاب مفروغاً عنه، و كان هذا الخبر أي الأوّل عنده شاذّاً كما صرّح به «3» و المراد من «الشذوذ» عند القدماء ما يؤدّي إلى الوهن الكثير فيه، فعليه يتعيّن المراجعة إلىٰ ما يدلّ علىٰ نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه؛ لأنّه يقوّي العمل بالأوّل.

و لك دعوى: أنّ عمل الشيخ لا يفيد شيئاً، بل المناط بعد وضوح السند مفاد الأخبار، و أنت ترى أنّ الخبر الأوّل ضعيف سنداً، و الثاني معتبر؛ لأنّ غياث هو ابن إبراهيم البتريّ الثقة، و احتمال كونه غياث الضبّي بعيد جدّاً، مع أنّه عندنا معتبر، فيكون الخفّاش طاهر البول؛ سواء كانت الطيور المحرّمة طاهرة الأبوال، أم نجسة، فإنّه أخصّ منها بناءً على الأخذ برواية أبي بصير، علىٰ ما عرفت تفصيله «4». و مجرّد نسبة الشيخ إلى الشذوذ مع اضطراب كلماتهم في كتبهم في الفتوى و الروايات غير مضرّ و غير موهن جدّاً.

______________________________

(1) المبسوط 1: 39.

(2) تهذيب الأحكام 1: 266/ 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 5.

(3) تهذيب الأحكام 1: 266، ذيل الحديث 778.

(4) تقدّم في الصفحة 307.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 318

و أمّا توهّم: أنّ التخصيص مستهجن؛ لأنّه هو القدر المتيقّن منه، فيكون بينهما المعارضة أيضاً، كما قيل، ففي غير محلّه؛ لعدم ثبوت الاستهجان.

ثمّ إنّ قضيّة ما سلف في الوجه الأوّل؛ هي الخصوصيّة لبول الخفّاش «1» و إن كان غير ذي نفس سائلة؛ لأنّ التخصيص في الأدلّة أمر دائم لا معنىٰ للفرار منه

بعد اعتبار الدليل المخصّص.

هذا مع أنّك قد عرفت قصور الأدلّة عن إثبات شرطيّة الدّم السائل في نجاسة البول في الحيوانات المحرّمة «2»، و لعلّ الاختبار المعروف في عصرنا عن الفضلاء، دليل علىٰ أنّ النجس هي الأبوال ممّا لا يؤكل لحمه و إن لم تكن ذات نفس سائلة، كما هو معقد طائفة من الإجماعات التي عرفت سابقاً «3».

و بعبارة اخرىٰ: عدم كون الخفّاش من ذوات النفس، شاهد علىٰ أنّ الشرط المعروف غير تامّ، كما مضى في المسائل السابقة، فليتدبّر جيّداً.

أقول: ما اشتهر «4» «من أنّ ابن إدريس و العلّامة «5» قالا بعدم عمل أحد من العصابة برواية أبي بصير «6»» في محلّه، و لكنّه لا يستلزم سقوط خبر

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 316.

(2) تقدّم في الصفحة 298 299.

(3) تقدّم في الصفحة 299 300.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 276.

(5) السرائر 1: 80، تذكرة الفقهاء 1: 49.

(6) الكافي 3: 58/ 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 319

الخفّاش «6» و إن لم يفتِ به حتّى الشيخ؛ لأنّ الإجماع المدّعىٰ على الإعراض مخصوص بالأوّل، و لعلّ الشيخ لم يفتِ بمضمون رواية الرقّي؛ لما كان يرى في سندها إشكالًا، ضرورة أنّ الرقّي ممّا ضعّفه النّجاشي و ابن الغضائريّ و غيرهما تضعيفاً بيّناً «2»، و ما ترى في كتاب السيّد الوالد من عدم توثيق موسى بن عمر و يحيى «3»، في غير محلّه؛ فإنّ الأوّل مشترك بين ابن بَزيع و هو ثقة، و بين ابن يزيد «4»، فإنّه عندنا معتبر؛ لرواية الأجلّاء عنه، و الثاني لا يبعد اعتباره عندنا. و قول الشيخ بوثاقة الرقّي في بعض كتبه «5»

ينافي ذلك.

نعم، أفتىٰ بما عنده من الشهرة و التلقّي من الأصحاب، و لذلك يشكل التجاوز عمّا كان مشهوراً بين القدماء في المسائل المبتلىٰ بها كثيراً.

نعم، يمكن دعوى: أنّ ذلك مخصوص فيما إذا كان خصوص بول الخفّاش مورد الفتوىٰ، لا الكلّي المنطبق عليه، كما لا يخفىٰ.

هذا، و إذا تمّ ما احتملناه من قصور الإجماع المزبور على الإعراض،

______________________________

(6) تهذيب الأحكام 1: 266/ 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 5.

(2) رجال النجاشي: 156/ 410، مجمع الرجال، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 290، تنقيح المقال 1: 414/ 2861.

(3) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 22.

(4) هداية المحدّثين: 262.

(5) رجال الطوسي: 349.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 320

و عدم تماميّة سند خبر الرقّي، يتعيّن طهارة بول الخفّاش؛ لرواية غياث «1». و من العجب أنّه ضعّفها جماعة من الأصحاب (رحمهم اللّٰه) «2»!! مع أنّه غير واقع في محلّه حسب الصناعة؛ لأنّ كونه بتريّاً لا ينافي وثاقته المصرّح بها في كلام جمع «3».

نعم، في «الجعفريّات»: «أنّ عليّاً (عليه السّلام) سُئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخفّاش و دماء البراغيث».

فقال: «لا بأس بذلك» «4».

و في نسخة اخرىٰ: بدل «الخفّاش» «الخنافس» «5» فإنّه يناسب البراغيث، و لعلّ ذلك يورث الشبهة في رواية غياث أيضاً؛ من حيث احتمال الاشتباه في النقل هناك، فتأمّل.

فما ترى من ذهاب السيّدين العلمين: البروجرديّ، و الخمينيّ عفي عنهما إلىٰ نجاسة الطيور حتّى الخفّاش «6»، في غير محلّه؛ لإمكان

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 266/ 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 5.

(2) منتهى المطلب 1: 160/ السطر 4، قال: «و في الطريق نظر فإنّ الراوي إن

كان غياث بن إبراهيم فهو بتريّ».

(3) رجال النجاشي: 305/ 833، و لاحظ تنقيح المقال 2: 366/ 9380، معجم الرجال 13: 231/ 9280.

(4) الجعفريات: 50، مستدرك الوسائل 2: 559، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 6، الحديث 1.

(5) لاحظ جامع أحاديث الشيعة 2: 92/ 27.

(6) العروة الوثقىٰ 1: 120، الهامش 1. (طبعة مؤسسة النشر الإسلامي)، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 321

الالتزام بطهارة الخفّاش، لا لأجل الإشكال في كونه من ذوات الدم، بل للإشكال في سند المسألة، ففرض المعارضة بين رواية الرقّي و خبر غياث، أو بين رواية أبي بصير و خبر غياث؛ بدعوى استهجان التخصيص، غير لازم.

مع أنّه علىٰ تقدير المعارضة، ليس العامّ الفوقانيّ مرجعاً؛ لأنّه معارض برواية أبي بصير لما يقيّد إطلاقه بما يدلّ علىٰ طهارة بول ما أُكل لحمه، كما مضى سبيله «1»، فيكون المرجع قاعدة الطهارة.

و أمّا توهّم وجود الإجماع في «المختلف» علىٰ تخصيص رواية الطير بالخفّاش «2»، فهو لا يرجع إلىٰ محصّل، فلاحظ و تأمّل.

المسألة السابعة: في حكم بول الخُطّاف

بول الخُطّاف طاهر على المشهور «3»؛ لأنّه ممّا يؤكل لحمه حسبما تحرّر في الأطعمة «4». و لو سلّمنا ما ادعاه ابن إدريس في «السرائر» «5» تبعاً للشيخ في «النهاية» «6» من الإجماع علىٰ حرمة لحمه كما هو قويّ جدّاً؛ لأنّ «النهاية» معدّة لنقل الفتاوى المتلقّاة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) و الشيخ مع توجّهه إلىٰ ذيل معتبر عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 306 307.

(2) رياض المسائل: 345، مختلف الشيعة: 56/ السطر 10.

(3) الطهارة، الشيخ الأنصاري: 344/ السطر 17، مصباح الفقيه، الطهارة: 519/ السطر 12.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 11: 183،

جواهر الكلام 36: 312.

(5) السرائر 3: 104.

(6) النهاية: 577.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 322

عن الرجل يصيب خُطّافاً في الصحراء و يصيده، أ يأكله؟

فقال: «هو ممّا يؤكل».

و عن الوبر، يؤكل؟

قال: «لا، هو حرام» «1».

و لكنّه مع ذلك حمَل جملة: «هو ممّا يؤكل لحمه» على الإنكار و الإعجاب؛ لمعلوميّة المسألة عنده «2».

و لكن لا تسلّم نجاسته؛ لما عرفت من الإشكال في الإطلاقات في مسألة نجاسة الأبوال «3»، فإنّ مثل صحيحة ابن مسلم «4» لا تشمل مطلق البول، بل هي منصرفة إلى الأبوال المتعارفة. و قيل: «هو بول الإنسان».

و مثل معتبر ابن سِنان «5» قاصر دلالةً عن إثبات نجاسة كلّ ما لا يؤكل لحمه. و تماميّة إطلاق معاقد الإجماعات غير مسلّمة، مع أنّها مستندة إليها.

و أمّا ما رواه «المختلف» عن «كتاب عمّار بن موسى» عن الصادق (عليه السّلام) قال: «خرء الخُطّاف لا بأس به، و هو ممّا يحلّ أكله، و لكن كره

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 21/ 84، وسائل الشيعة 23: 394، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الصيد، الباب 39، الحديث 6.

(2) تهذيب الأحكام 9: 21، ذيل الحديث 84.

(3) تقدّم في الصفحة 294 295.

(4) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(5) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 323

أكله لأنّه استجار بك، و آوىٰ في منزلك، و كلّ طير يستجير بك فأجره» «1».

فهو قاصر سنداً، و لا ملازمة بين الخرء و البول.

نعم، يمكن التمسّك بما رواه عمّار في رواية طويلة في «التهذيب» في باب تحريم الجرّي من أبواب الأطعمة

المحرّمة محذوفاً عنه كلمة «خرء» «2» فإنّ إطلاق نفي البأس يقتضي طهارة كلّ شي ء منه حتّى الميتة. و لكنّه بمعزل عن التحقيق و الصواب.

و من العجيب إطالة الكلام في المقام عن شيخنا الأُستاذ الحلّي- مدّ ظلّه حول تعليل ما في «المختلف» و كيفيّة الجمع بين علية حلّية الأكل للطهارة، و علّية الطيران لها «3»!! مع أنّ النسخ المعروفة مشتملة علىٰ كلمة «الواو» فيكون هو كلاماً مستقلا، و لو سلّمنا ذلك ليس هذه العناوين عللًا حقيقيّةً في هذه المواقف، بل هي أشباه الحِكَم و النكت، فراجع كتابه و تأمّل، مع ما فيه من المناقشات البنائيّة و المبنائيّة، و العدول عنها أجدر و أحرى.

المسألة الثامنة: في حكم بول الحيوان المحرّم بالعارض
اشارة

أبوال الحيوانات المحرّم أكلها بالعارض، تكون نجسة كغيرها

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 679/ السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 20 (مع تفاوت يسير).

(2) تهذيب الأحكام 9: 80/ 345، وسائل الشيعة 23: 393، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الصيد، الباب 39، ذيل الحديث 5.

(3) دليل العروة الوثقىٰ 1: 281 285.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 324

مطلقاً، أو هي طاهرة مطلقاً.

أو يفصّل تارة: بين ما كان محرّماً بالعارض، كالجلّال و الموطوء للإنسان، و الغنم الذي شرب لبن خنزيرة، و بين ما كان محرّماً بالعارض كالمضرّ و المغصوب و المنذور ترك أكله.

و أُخرى: بين موطوء الإنسان، فيكون هو ملحقاً بالمحرّم الذاتيّ، و بين غيره.

و ثالثة: غير ذلك من الصور و الاحتمالات، و منها: إلحاق الجلّال و الموطوء فقط دون غيره بالمحرّم الذاتيّ.

و منها: إلحاق الجلّال العرضيّ كالذي يؤكل في المجاعة و عند الاضطرار بالمحلّل الذاتيّ.

أقول: إن كان المستند هو الإجماعات المدّعاة في «الغنية» «1» و «المختلف» و «التنقيح»

و «الذخيرة» «2» و «الدلائل» «3» بل في «التذكرة» و «المفاتيح» نفي الخلاف في إلحاق الجلّال من كلّ حيوان و الموطوء بغير المأكول في نجاسة البول «4»، و يظهر من «التذكرة» أنّ المخالفين أيضاً لم يفرّقوا بين العرضيّ و الذاتيّ فراجع «5»، فهو لا يتمّ في المأكول الذي

______________________________

(1) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 488/ السطر 27.

(2) مختلف الشيعة: 55/ السطر 37، التنقيح الرائع 1: 142، ذخيرة المعاد: 145/ السطر 15.

(3) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 136/ السطر 12، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 14.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 51، مفاتيح الشرائع 1: 65.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 325

شرب لبن الخنزيرة مع أنّه كما قيل مورد تسلم الأصحاب «1».

و لكنّه غير تامّ؛ لأنّ جميع كلمات القوم واردة في غيره، و مخصوصة بهما ظاهراً، فما ترى في «العروة الوثقىٰ» «2» غير قابل للتصديق. و في كون المستند هذه الإجماعات إشكال واضح؛ لأنّ المسألة مأخوذة من أخبار الباب و إطلاقاتها كما يأتي. و إن كان المستند روايات المسألة فهي طوائف:

الأُولىٰ: ما تدلّ علىٰ طهارة ما يؤكل لحمه «3»، و هي بإطلاقها تشمل المأكول الذاتيّ بالفعل، و الذاتيّ المحرّم عرضيّاً.

الثانية: ما تدلّ علىٰ نجاسة ما لا يؤكل لحمه «4»، و هو أيضاً أعمّ من المحرّم الذاتيّ و العرضيّ.

الثالثة: ما تدلّ علىٰ طهارة أبوال أنواع خاصّة من الحيوانات، كالحمار و الفرس و البقر و الشاة و الإبل و غير ذلك «5»، فإنّها بإطلاقها تدلّ علىٰ طهارة الأبوال و لو صارت محرّمة بالعرض.

فإن التزمنا بإطلاق الطوائف الثلاث، فتقع المعارضة بين الاولىٰ و الثانية و بين الثانية و الثالثة بالعموم من وجه، فيكون مورد

______________________________

(1) مستمسك

العروة الوثقىٰ 1: 281.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 55، فصل في النجاسات.

(3) وسائل الشيعة 3: 407، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 4 و 6 و 10 و 12 و 17.

(4) وسائل الشيعة 3: 404 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.

(5) وسائل الشيعة 3: 407 و 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 2 و 5 و 14 و 18.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 326

التعارض في الفرض الأوّل موطوء الإنسان و الجلّال؛ بناء علىٰ كونهما محرّماً لحمهما، كما هو المفروض المتّفق عليه في الأطعمة «1»، و إن يظهر عن الإسكافي بل و الشيخ كراهة لحم الجلّال «2»، و عهدة هذه المسألة علىٰ ذلك الكتاب، فيكون البحث من هذه الجهة هنا من الأُصول الموضوعة، فلا تخلط.

و مورد المعارضة في الفرض الثاني الغنم الجلّال و الموطوء، و هكذا الحيوان الذي شرب لبن الخنزيرة و اشتدّ عظمه، كما قيل «3»، أو مطلقاً كما في «العروة» و هو المعروف بين الأصحاب «4» للنصوص الخاصّة «5»، و إن كانت قاصرة عن إثبات الإطلاق، و التفصيل في مقامه «6».

و يمكن رفع المعارضة، بدعوىٰ أقوائيّة ظهور الطائفة الثانية في مورد التعارض عرفاً.

و قد يقال: بأنّ المراد من عنوان «ما يؤكل لحمه» و «ما لا يؤكل» إمّا يكون الأنواع، أو يكون الأفراد؛ فإن كان الأنواع فلا تشمل الاولىٰ مورد المعارضة؛ لعدم كونه من أنواع ما يؤكل، بخلاف الطائفة الثانية،

______________________________

(1) جواهر الكلام 36: 272 و 284.

(2) مختلف الشيعة: 676/ السطر 35، الخلاف 6: 85، مسألة 16.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 55، فصل في النجاسات، الهامش 12.

(4) العروة الوثقىٰ 1: 55، فصل في النجاسات، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 280.

(5) وسائل الشيعة

24: 161 162، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 25، الحديث 1 و 3.

(6) جواهر الكلام 36: 282.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 327

فإنّها تشمل المورد؛ لأنّ عنوان «الموطوء» و «الجلّال» من أنواع المحرّمات و ما لا يؤكل.

و إن كان الأفراد فلا تشمل الثانية؛ لأنّ الفرد الموطوء محرّم، و لا يكون محلّلًا «1».

و فيه: أنّه لا يبعد أن يراد منه العنوان المشير إلى العناوين الذاتيّة المحرّمة و المحلّلة، و لكن ليس منها عنوان «الموطوء» و «الجلّال» و إلّا يلزم اندراج عنوان «المضرّ» و «المغصوب» أيضاً كما لا يخفى.

و ممّا يشهد على انصراف هذه العناوين إلى الأنواع؛ روايات ذكرها «الوسائل» في الباب التاسع:

و منها: ما رواه في «المعتبر» عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم، يغسله أم لا.

قال: «يغسل بول الفرس و الحمار و البغل، فأمّا الشاة و كلّ ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «2».

فإنّه يورث ظهور هذا العنوان في العموم الأنواعيّ، فترتفع المعارضة، و يبقى حكم المسألة بلا دليل اجتهاديّ، فيرجع إلىٰ قاعدة الطهارة إن قلنا بجريانها في الشبهات الحكميّة، أو إلى البراءة في بعض أحكامها، كما لا يخفىٰ فليتدبّر.

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 14.

(2) تهذيب الأحكام 1: 247/ 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 328

إن قلت: قضيّة الطائفة الثالثة هي الطهارة.

قلت: هي أيضاً ظاهرة في إفادة حكم النوع دون الفرد، فالإطلاق الأفراديّ في الكلّ ممنوع.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ قضيّة الأصل الأوّلي هو العموم الأفراديّ، و في الاولى و الثانية

للقرينة العقلائيّة يرفع اليد عنه. و لكنّه لا يتمّ في الثالثة، فعليه يتعيّن طهارة بول الجلّال و الموطوء.

و ممّا ذكرناه يظهر حال ما إذا فرضنا العموم الأفراديّ للطائفة الأُولى دون الثانية، و بالعكس، و هكذا الثالثة، و الأمر بعد ما أُشير إليه سهل.

و الذي هو الإشكال الآخر في المسألة ما مرّ منّا: و هو أنّ روايات نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، قاصرة دلالة عن إثبات ذلك على الإطلاق؛ لأنّ عنوان «ما لا يؤكل لحمه» أعمّ من المحرّم الذاتيّ، و المحرّم العرفيّ؛ أي: المتروك طبعاً أكله، كما أُشير إليه «1» في الأخبار الكثيرة «2»، و لا عموم فوقانيّ يرجع إليه، كما مرّ مراراً «3»، فيتعيّن طهارة بول الجلّال و الموطوء، إلّا خوفاً من مخالفة الاتفاق و الإجماع، فقضيّة الصناعة من جميع الجوانب هي الطهارة قويّاً، فلاحظ و تأمّل.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 304.

(2) وسائل الشيعة 3: 408 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 7 و 9.

(3) تقدّم في الصفحة 321.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 329

تذنيب: حول رواية النميري الدالّة علىٰ نجاسة الجلّال

قد ورد في الباب الرابع و العشرين من أبواب الأطعمة المحرّمة في «الوسائل» رواية مرسلة عن موسى بن أكيل النميريّ، عن الباقر (عليه السّلام): في شاة شربت بولًا ثمّ ذبحت.

فقال: «يغسل ما في جوفها، ثمّ لا بأس به، و كذلك إذا اعتلفت بالعذرة؛ ما لم تكن جلّالة» «1».

فإنّ الظاهر منها نجاسة الجلّال، فيكون بوله نجساً إمّا بالذات، أو للملاقاة بالخروج، و لا يمكن الالتزام به؛ لعدم إفتاء الأصحاب بذلك.

هذا مع أنّ المراد من «الجلّال» لغة غير ما هو المقصود في المتون، و حمل الرواية على الأوّل متعيّن، و حيث لا ثمرة مهمّة في بحثها نحيله إلىٰ

مقام آخر.

______________________________

(1) الكافي 6: 251/ 5، وسائل الشيعة 24: 160، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 24، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 330

الثاني: الخرء من كلّ حيوان نجس العين
اشارة

فإنّه نجس بالضرورة «1»، و قضيّة الإجماعات الكثيرة الصريحة في عدم الفرق بين البول و الغائط في الحكم؛ أنّه نجس في الحيوان الذي يكون بوله نجس، و طاهر من الحيوان الذي بوله طاهر ففي «الناصريّات» و «الروض» و «المدارك» و «الذخيرة» نقل الإجماع علىٰ عدم الفرق «2».

و هذا هو مقتضى الإجماعات في كتب الأوّلين و الآخرين من عدّ الخرء و البول معاً في عداد النجاسات، و لم يفتحوا باباً علىٰ حِدة لنجاسة الخرء.

و لكن من المخالفين كما في «التذكرة» «3» محمّد بن الحسن و لعلّه الشيبانيّ المعروف، قد فرّق و قال: «بول ما يؤكل لحمه طاهر، و روثه نجس».

و عن المفيد «4» بل و تلميذه الشيخ في الكتابين: «التهذيب» و «الاستبصار» القول بنجاسة خرء الدجاجة «5»، فإنّ استثناء الخرء يقتضي بقاء البول في المستثنىٰ منه.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ مخرج بوله و خرئه واحد، و لا يخرجان إلّا معاً،

______________________________

(1) المعتبر 1: 113، المجموع 2: 548 550، الحدائق الناضرة 5: 2.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 216/ السطر الأخير، روض الجنان: 162/ السطر 12، مدارك الأحكام 2: 259، ذخيرة المعاد: 145/ السطر 20.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 51، المجموع 2: 549/ السطر 5.

(4) مستند الشيعة 1: 147، المقنعة: 71.

(5) تهذيب الأحكام 1: 266، الاستبصار 1: 178، لعلّ «الاستبصار» سهو من قلمه الشريف، لاحظ المبسوط 1: 36.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 331

فتكون الملازمة بينهما خارجيّة كما لا يخفىٰ.

و أنت خبير: بأنّ نجاسة خرء طائفة من الحيوانات المبتلىٰ

بها، و طهارةَ الاخريات منها، واضحة من غير الحاجة إلى الإجماع أو الدليل اللفظيّ، و لا إجماع على الملازمة؛ بمعنى أنّ من يقول فرضاً بنجاسة أبوال ما يؤكل لحمه، لا بدّ و أن يقول بنجاسة خرئه، و من يسقط شرطيّة النفس السائلة في نجاسة البول، لا بدّ و أن يسقط في خرئه.

فما يظهر من جمع من توهّم الملازمة شرعاً بينهما بالإجماع و غيره «1»، فهو ممنوع.

و الذي هو المهمّ بالبحث؛ الفحص عن دليل يورث نجاسة الخرء على الإطلاق من كلّ حيوان، أو من ذي نفس سائلة، فإن ثبت فهو، و إلّا ففي موارد الشبهة يرجع إلى الأصل الأوّلي و هو عدم النجاسة، فليتدبّر.

الروايات العامّة الدالّة على نجاسة مطلق الخرء

و هذه مآثير و روايات في الأبواب المتفرّقة نشير إليها إجمالًا:

الأُولىٰ: معتبر زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في أبواب لباس المصلّي، فإنّه مع طوله مشتمل علىٰ تجويز الصلاة في الروث و البول ممّا يؤكل لحمه، و منعه عمّا لا يؤكل لحمه «2»، و دلالته علىٰ طهارة و نجاسة البول

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 274، مهذّب الأحكام 1: 285.

(2) الكافي 3: 397/ 1، وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 332

و الخرء محلّ منع؛ لظهوره في المانعيّة لأجل أمر آخر، لا للنجاسة، فما ترى من ذكر «الوسائل» في هذه الأبواب هذه الرواية، غير وجيه.

الثانية: معتبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) الماضي آنفاً، فإنّه (عليه السّلام) قال في ذيله: «فأمّا الشاة و كلّ ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1».

و قضية المفهوم بضميمة الملازمة بين البول و الخرء، ثبوت البأس، و

هو ظاهر في وجوب الاجتناب الملازم للنجاسة.

و لكن عدم تماميّة إحدىٰ هذه المقدّمات المشار إليها، كافٍ في عدم تماميّة الاستدلال. مع إنّك قد عرفت: أنّ عنوان «ما يؤكل» و «ما لا يؤكل» أعمّ من المحرّم الشرعي ظاهراً «2»، و التفكيك في الهيئة قد عرفت حاله، و الرواية في الباب التاسع «3».

الثالثة: معتبر مصدّق، عن عمّار في الباب المزبور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «كلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «4». فإنّ قضيّة مفهومه ثبوت البأس بما يخرج، و هو أعمّ من البول.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 247/ 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 9.

(2) تقدّم في الصفحة 304.

(3) الكافي 3: 57/ 4، وسائل الشيعة 3: 408، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 7.

(4) تهذيب الأحكام 1: 266/ 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 333

و قد عرفت جهات الشبهة في استفادة الحكم من أمثاله «1»، و منها: أنّ الوصول ربّما يكون عنواناً مشيراً إلى العناوين الخارجيّة، فينحلّ إلىٰ قضايا جزئيّة، فلا يكون ذا مفهوم. مع أنّ إثبات البأس بنحو الإهمال يجامع كون البأس في خصوص البول، أو في بعض الخرء، فلا يثبت المقصود؛ و هو إثبات البأس على الإطلاق في الخرء، و لا شبهة في لزوم تقييد المفهوم بالنفس السائلة، و هذا دليل قويّ علىٰ أنّ كلمة الموصول تشير إلىٰ أنواع الحيوانات المحرّمة، و اللاتي ذوات النفس السائلة، فافهم و اغتنم.

الرابعة: معتبر عليّ بن رِئاب في الباب المزبور، عن «قرب الإسناد» قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الروث يصيب

ثوبي و هو رطب.

قال: «إن لم تقذره فصلّ فيه» «2».

فإنّ هذه الجملة كناية عن أنّه قذر؛ أي استنكار منه (عليه السّلام) علىٰ ذلك، فيعلم منه أنّ القذر لا يصلّى فيه، و حيث أنّ الأرواث قذرة نوعاً مع كونها رَطِبة فلا يصلّى فيها؛ و ذلك للنجاسة، لا للمانعيّة؛ لفهم العرف ذلك كما في عرق الجنب.

و أنت خبير بما فيه، هذا مع أنّ: «الروث» فضلة الأنعام، و لا يطلق على العَذِرة، فتكون هذه الرواية معارضة بما يدلّ علىٰ طهارته تعارضَ الظاهر و النصّ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 331 و 332.

(2) قرب الإسناد: 163/ 597، وسائل الشيعة 3: 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 334

و مثلها الروايات الأُخر التي تجمع مع غيرها جمعاً عقلائيّاً. كما أنّ مثل الثالثة بعض الأخبار الأُخر التي يستدلّ بمفهومها على المطلوب، و قد عرفت وجه الإشكال فيها «1».

و منها: ما عن أبي البختريّ، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام): «أنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال: لا بأس ببول ما أُكل لحمه» «2».

بناءً علىٰ تماميّة الملازمة.

الخامسة: ما رواه «الوسائل» في الباب المزبور عن «المختلف» عن عمّار بن موسى في كتابه، عن الصادق (عليه السّلام) قال: «خرء الخُطّاف لا بأس به، هو ممّا يؤكل لحمه ..» «3».

و قد مرّ سابقاً بعض البحث حوله «4»، و ذكرنا هناك: أنّ هذه الرواية مذكورة في «جامع الأحاديث» من غير «واو» «5» فقال: «لا بأس به، و هو ممّا يحلّ أكله» و ليس هذا رواية مستقلّة ظاهراً، بل هو قطعة ممّا رواه «التهذيب» عن عمّار في رواية طويلة في أبواب الأطعمة المحرّمة، و ليس هناك لفظة

«خرء» «6» و علىٰ هذا يكون سنده معتبراً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 331.

(2) قرب الإسناد: 156/ 573، وسائل الشيعة 3: 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 17.

(3) مختلف الشيعة: 679/ السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 20.

(4) تقدّم في الصفحة 321 322.

(5) جامع أحاديث الشيعة 2: 91، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 24.

(6) تهذيب الأحكام 9: 80/ 345.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 335

و لو سلّمنا أنّها تكون هكذا: «الخُطّاف لا بأس به، و هو ممّا لا يؤكل لحمه» لتقدّم أصالة عدم الزيادة علىٰ أصالة عدم النقيصة، و يكون ظاهراً في أنّ نفي البأس بلحاظ ما يخرج منه، لا بلحاظ لحمه؛ للزوم التكرار، و يكون تعليلًا للصدر، فلا يتمّ الاستدلال أيضاً؛ لعدم تماميّة المفهوم المقصود في المقام؛ و هو إطلاقه لا إهماله، فإنّه ربّما كان من المفاهيم العرفيّة؛ و إن لم تساعده القواعد الأدبيّة و لا العقليّة، كما تقرّر في محلّه.

مع أنّ الجملة الثانية إذا كانت مع «الواو» ليست ظاهرة في التعليل إلّا بلحاظ أُشير إليه، و هو غير ثابت جدّاً، فالرواية من جهتين محلّ الكلام متناً.

مع أنّ الالتزام بتعدّدهما يستلزم عدم تماميّة سند «المختلف» فلا طريق إلى الاستدلال بها على الوجه الصحيح، كما لا يخفىٰ.

السادسة: المآثير الكثيرة المشتملة علىٰ مفروغيّة نجاسة العَذِرة المذكورة في الأبواب المتفرّقة، كأبواب المياه و البئر «1»، و أبواب المطاعم «2»، و غير ذلك «3» ممّا يطّلع عليه المتتبّع، فإنّه بعد العثور عليها لا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 7 و 9، و الباب 8، الحديث 13، و الباب 14،

الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة 24: 169، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 29، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 3: 444، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 26، الحديث 14، و الباب 32، الحديث 6، و الباب 37، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 336

يبقىٰ شبهة في نجاسة العَذِرة، بل هي من الضروريّات، و لا تحتاج إلى الاستدلال.

و إنّما الإشكال في مفادها لغةً، و القدر المسلّم منه مدفوع الإنسان، و هو الظاهر من اللّغة، كما في «أقرب الموارد» حيث فسّر الروث من ذي الحافر: بمثل الغائط من الإنسان، ثمّ فسّر العذرة: بالغائط «1». و لا أقلّ من الشبهة، فلا يتمّ المطلوب.

و مجرد إطلاقها علىٰ ما يخرج من غير الإنسان، كما في صحيحة عبد الرحمٰن بن أبي عبد اللّٰه في «الوسائل» «2» فإنّه غير كافٍ. مع أنّ فيه السؤال عن عَذِرة من إنسان، أو سِنَّوْر، أو كلب، فإنّه ربّما كان ذلك لمعلوميّة المقصود، و لعدم اللفظة الخاصّة لما يخرج منهما.

هذا مع أنّ في كتب اللغة التصريح و منها أوّل كتاب «المنجد» بأنّ الخصوصيّات المأخوذة في تفسير اللغات ليست دخيلة في الموضوع له، بل هي لبيان الاستعمال، و قد مثّل لذلك ب «الروث» إذا قيل: «روث الفرس» «3» و إذا صحّ إطلاق العَذِرة بناءً عليه علىٰ مطلق ما يخرج كمٰا لا يبعد ذلك في الغائط، فلا بدّ من أن يكون المراد منه الأخصّ في الأخبار حسب الاستعمال، و لا شاهد علىٰ كونها موضوعة أو منصرفة إلىٰ ما يخرج

______________________________

(1) أقرب الموارد 1: 442، 2: 757.

(2) تهذيب الأحكام 2: 359/ 1487، وسائل الشيعة 3: 475، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 40، الحديث 5.

(3) المنجد، الاصطلاحات، الصفحة

ه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 337

من خصوص غير مأكول اللّحم من السنَّوْر و الكلب و السباع و غيرها.

و في كتاب المكاسب المحرّمة فصل طويل حول روايات تحريم بيع العَذِرة، و ما يتضمّن نفي البأس عنه «1»، فراجع.

و الذي هو الظاهر منهم كما استظهره الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: أنّ مراد الفقهاء في متونهم من «العَذِرة» أعمّ من مدفوع الإنسان، و مخصوص بما يحرم أكله «2».

و لكنه غير كافٍ لتماميّة الاستدلال بتلك المآثير؛ علىٰ ما ترى من لغة العرب في الاستعمالات المجازيّة، خصوصاً في الموضوعات التي تصحبها القرائن الخارجيّة و الداخليّة، فتأمّل.

بعض الروايات الخاصّة الدالّة علىٰ نجاسة الخرء

هذا كلّه حول مفاد الروايات المستدلّ بها لنجاسة خرء مطلق الحيوان المحرّم أكله، و طهارة ما يحلّ أكله.

و في المقام بعض النصوص الخاصّة، و لعلّه هو مستند المفيد و الشيخ في قولهما بالنجاسة في ذرْق الدجاج؛ و هو ما رواه «الوسائل» في الباب العاشر بسند ضعيف، عن فارس قال: كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج، يجوز الصلاة فيه.

______________________________

(1) المكاسب، الشيخ الأنصاري: 4/ السطر 13.

(2) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 338

قال: «لا» «1».

و أنت خبير بقصورها دلالة أيضاً بعد ورود النصّ في خصوص الدجاج و نفي البأس عن خرئه «2»، فيكون هذا شاهداً علىٰ أنّ سندهما غير ذلك قطعاً، فكان عندهما ما لا يذكر في كتبهما، و اللّٰه العالم.

و في نفسي أنّ أصل النسبة غير ثابت «3»، فراجع حتّى تعرف صدق دعوانا.

و ربّما يتوهّم دلالة معتبر فضل أبي العباس بن عبد الملك المرويّ في الباب الحادي عشر قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن فضل الهرّة و الشاة و البقر و الإبل

و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئاً إلّا سألته عنه. فقال: «لا بأس به» حتّى انتهيت إلى الكلب فقال: «رجس نجس ..» «4»؛ علىٰ طهارة ما يخرج منها، أو خصوص الفضلة؛ لأنّ الفضل بمعنى الزيادة، و إذا قيل: «فضول الإنسان» فيراد منها العرق و أشباهه و لكنّه اصطلاح في الطبّ، فعلى هذا يكون الخبر نصّاً في طهارة خرء هذه الحيوانات.

و أنت خبير: بأنّ منشأ هذا التوهّم نقل «الوسائل» هذا الحديث هنا، و لو ذكره في الأسآر لما كان لذلك الوهم وجه، فقال (عليه السّلام) في ذيله

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 283/ 831، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 266، المبسوط 1: 36.

(4) وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 11، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 339

«رجس نجس؛ لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة، ثمّ بالماء» «1».

فعليه تصير أجنبيّة عن هذه المسألة و عن عنوان الباب الحادي عشر في «الوسائل» فاختبر.

فذلكة البحث

إنّ الأدلّة اللفظيّة قاصرة عن إثبات نجاسة مطلق الخرء من غير المأكول، فيبقىٰ معتبر أبي بصير في الطيور «2» فارغة عن المعارض في خصوص الخرء.

نعم، بناءً علىٰ معاقد الإجماعات الماضية، و بناءً على الإجماع المدّعىٰ على الإعراض عن رواية أبي بصير كما عن «السرائر» «3» و في «التذكرة» يشكل التمسّك «4».

و لكنّك عرفت: أنّ هذه الإجماعات ليست مبتنية علىٰ نصوص اخرىٰ غير ما وصلت إلينا «5»، فلا منع من الالتزام بطهارة خرء لا يعدّ من العَذِرة

عرفاً.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 225/ 646.

(2) الكافي 3: 58/ 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 1.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 276، السرائر 1: 80.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 49.

(5) تقدّم في الصفحة 301 و 308.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 340

فروع
الفرع الأوّل: حول نجاسة البول و الغائط في الباطن
اشارة

بعد الفراغ عن نجاسة البول و الغائط، فهل هما نجسان على الإطلاق، أو هما نجسان إذا كانا ظاهرين و خارجين من الداخل و الباطن؟

فإن قلنا بالثاني، فلا فرق بين أنحاء الملاقاة بعد كونهما في الباطن؛ لعدم تحقّق الملاقاة مع النجس، و مٰا ترى في بعض كتب أهل العصر من المنتسبين إلى الفضل من إنكار النجاسة قبل خروجهما، و من الحكم بنجاسة الملاقي، فهو من الجهالة.

نعم، يمكن التفصيل بين النجاسات الباطنيّة كالدم و غيره؛ بأنّ الدم ما دام في العروق لا يكون نجساً، و إذا ورد في الفم أو الأنف يعدّ نجساً، و لكنّه لا يورث النجاسة بالملاقاة.

فبالجملة: البحث حول الدم يأتي في محلّه، و لا منع من الالتزام بالتفكيك بين أنواع النجاسات من تلك الجهة؛ لأنّ الميزان الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) و مقدار دلالتها.

فعلى هذا يمكن أن يقال: إنّ قضيّة الإطلاق الأحواليّ، أو مقتضىٰ فهم العرف بعد ثبوت أصل النجاسة، عدم الفرق بين أنحاء الأحوال بالضرورة، و قد قيل: «إنّه هو المشهور بين الأصحاب» بل هو المتسالم عليه عندهم، فما ترى من الشبهة في ذلك؛ لأجل الإشكال في الإطلاق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 341

الأحواليّ «1»، لا يضرّ بتماميّة المقصود.

كما أنّ توهّم: أنّ جعل النجاسة للبواطن و النجاسات في الداخل بعد عدم تنجّس الملاقي لغو، في غير محلّه؛ لأنّ لغويّة الإطلاق

جائزة، ضرورة أنّ الدليل المتكفّل لنجاسة العَذِرة، لو كان مخصوصاً بها في الداخل، لكان ذلك من اللغو غير الجائز، و أمّا إذا كان متكفّلًا لنجاستها من غير النظر إلى الحالات خصوصاً، فهو جائز، و إلّا يلزم دعوى عدم نجاسة ما هو الخارج عن محلّ الابتلاء، و هكذا ممّا هو الواضح منعه، فتدبّر.

هذا مع أنّه يظهر الثمرة في بلع الحيوان الذي في جوفه العَذِرة و البول، كما لا يخفى.

فتحصّل: أنّه بعد ثبوت نجاسة شي ء، لا يحتاج في إثبات إطلاقها إلى الإطلاق الأحواليّ، بل فهم العرف و عدم وجود الخصوصيّة بين أنحاء الحالات، كافٍ بلا شبهة و إشكال، فمٰا ترى في بعض الكتب: من قصور الأدلّة عن إثبات نجاستهما في الباطن، من اللّغو المنهيّ عنه «2»، و إلّا يلزم الإشكال في نجاستهما إذا كان في حال آخر؛ لعدم الفرق بين الحالات.

فعلى ما استظهرناه، فنجاستهما على الإطلاق من الأمر الواضح جدّاً، فلو بلع الحيوان المحرّم لحمه و في جوفه البول و الغائط يعاقب مرّات؛ لأكله النجاسات و المحرّمات، فلا تخلط.

نعم، ربّما يمكن الإشكال في ذلك لأجل عدم صدق «أكل البول

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 286.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 467.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 342

و الغائط» كما قيل في بلع السمك و في جوفه الدم «1»، فافهم.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم دلالة أخبار المسألة الآتية «2» علىٰ عدم نجاسة الأعيان في الجوف؛ ضرورة أنّه إذا كانت الملاقاة غير مورثة للنجاسة، فهو شاهد علىٰ عدم كونها نجسة، و يكون نفي الحكم كناية عن نفي الموضوع؛ لئلّا يلزم التخصيص «3».

و أنت خبير بما فيه، فإنّه في حدّ ذاته تقريب قريب، إلّا أنّه بعد المراجعة إلىٰ

فهم العرف غير كافٍ؛ لأنّ إثبات الخصوصيّة مشكل جدّاً، بخلاف نفي التنجّس بملاقاتهما في الداخل. مع أنّ من الممكن كون زوال العين في الداخل من المطهّرات، و لكنّه كلام غير تامّ كما لا يخفىٰ؛ و إن كان عن الشهيدين (رحمهما اللّٰه) «4».

تنبيه

بناءً علىٰ طهارة البول و الغائط في الباطن، فالظاهر اختصاص ذلك بما لم يخرج بعدُ، و أمّا لو خرجا، ثمّ دخلا في الجوف؛ بأن أكل العَذِرة و شرب البول، فإنّهما لا يصيران طاهرين؛ لعدم ورود «الباطن» و «الظاهر»

______________________________

(1) وسيلة النجاة 3: 56، المسألة 34.

(2) الكافي 3: 39/ 1، وسائل الشيعة 1: 276، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 12، الحديث 2، الكافي 3: 54/ 5، وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 5.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 465.

(4) الروضة البهيّة 1: 26/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 343

في الدليل المخصوص في هذه المسألة، بل من يريد إثبات طهارتهما يستدلّ بقصور الأدلّة، و لا أظنّ التزام أحد بذلك في مفروض المسألة.

الفرع الثاني: في حكم ملاقاة الأخبثين في الباطن

بناءً علىٰ نجاستهما في الباطن، فهل يترتّب عليهمٰا جميع أحكامهما؛ من حرمة الأكل و الشرب، و من تنجّس ملاقيهما و لو كانت الملاقاة في الباطن، أم لا؟

لا شبهة في جواز الصلاة و الطواف معهما مع كونهما في الباطن، و هكذا لا يتنجّس الباطن و المسير بملاقاتهما، أو لو كانا متنجّسين يكون معفوّاً عنهما فيما يشترط بالطهارة. و هذا ممّا لا شبهة فيه، و لا يحتاج إلى الدليل، كما هو الواضح الجليّ.

فالاستدلال بطهارة المذي و الوذي؛ لأنّ المسير لو كان نجساً لكانا نجسين، غير تامّ؛ لأنّ من الممكن عدم تنجيس البول إلّا ما يلاقيه، و لا ينجّس مع الواسطة شيئاً آخر، كما قيل في الوسائط «1»، فما ترى في كتب الأصحاب «2» من الاستدلال بهذه الأخبار «3»، من الغفلة عن الحال.

______________________________

(1) تحرير الوسيلة 1: 123، المسألة 9.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 284، التنقيح في شرح

العروة الوثقىٰ 1: 465، مهذّب الأحكام 1: 298.

(3) الكافي 3: 54/ 5، وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 1 و 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 344

و أمّا ما ورد في بعض الأخبار الأُخر التي تأتي في محالّ آخر؛ من نفي وجوب غسل الباطن، كما في أخبار الباب الرابع و العشرين من أبواب النجاسات «1»، فهو لا يدلّ علىٰ عدم التنجّس بالملاقاة، بل ربّما كان ذلك عفواً في الصلاة، فعدم وجوب غسل الباطن لا يدلّ علىٰ ما توهّموه و تخيّلوه- رضي اللّٰه عنهم.

ثمّ إنّه لا ينبغي أن يستدلّ بأخبار وردت في الدم و الفم، و إسراء الحكم إلىٰ سائر النجاسات؛ لإمكان اختلافها في بعض الأحكام، كما ترى في أحكام الاستنجاء و غيرها.

مع أنّ المآثير الواردة في مسألة طهارة بُزاق فم شارب الخمر، المرويّة في الباب التاسع و الثلاثين «2» و غيرها «3»، لا تدلّ علىٰ عدم تنجّس الملاقى بالفتح بل غايتها العفو، فعليه يجب الاجتناب في سائر الصور المتصوّرة في المسألة؛ لعدم الدليل على العفو المطلق، و لعدم الدليل علىٰ طهارة الباطن الملاقى بالنجس الباطنيّ، أو النجس الخارجيّ الداخل في الفم و هكذا.

فما ترى من بناء الأصحاب على الطهارة في نوع صور المسألة «4»،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 437، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 24.

(2) وسائل الشيعة 3: 473، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 39.

(3) تهذيب الأحكام 9: 115/ 489، وسائل الشيعة 25: 377، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 35، الحديث 1.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 284، مهذّب الأحكام 1: 297.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 345

فهو لأجل الغفلة عن أطراف المسألة، و لذلك

قلّما يتفق جواز تقليد مجتهد إلّا إذا بنى على المراجعة إلى الأفكار المختلفة؛ حتّى يحصل له الإحاطة الكاملة، فتدبّر.

فعلى ما تقرّر، يشكل الحكم بطهارة الدرهم الذي يبلع و يخرج بعد العلم بملاقاته، و بطهارة الحيوان المتكوّن في المعدة إذا خرج من المقعدة، و أمّا إذا خرج من الفم كالقي ء فهو لا يكون نجساً؛ لأنّ ما في البطن لا يعدّ عَذِرة، و لا يكون فيه سائر النجاسات، خلافاً لما توهّمه بعض المنتسبين إلىٰ الفضل في العصر، و بطهارة رأس شيشة الاحتقان و هكذا، و كالأسنان الصناعيّة.

و لمّا كان لكلّ واحد من النجاسات بحث خاصّ يمكن أن يؤدّي إلى التفصيل بينها، فالأولىٰ إحالة هذه المسألة الأخيرة إلىٰ بحث نجاسة الدم، و هكذا مسألة ملاقاة رأس الإبرة، و اللّٰه العالم.

و في حكم شيشة الاحتقان، ما يدخل من مخرج البول حتّى يصل إلى المثانة و الخزانة؛ في عدم الدليل على العفو بعد ثبوت الملاقاة مع النجس، فتدبّر.

و ممّا حصّلناه يظهر سقوط الاستدلال لكلّي المسألة بالأخبار الواردة في بعض النجاسات، مثلًا لا معنىٰ للتمسّك بما ورد من جواز استرضاع اليهوديّة و النصرانيّة «1» لطهارة الباطن؛ فإنّ اللبن من الباطن،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 21: 464، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 76.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 346

أو لطهارة ملاقي النجس في الباطن، و أنّ اللبن من ذلك، على اختلاف الاحتمالين في اللبن؛ ضرورة أنّ ذلك لو تمّ ربّما كان يختصّ باللبن؛ لخصوصيّة في المسألة و هو جواز سقي الأطفال ذلك، أو لخصوصيّة في اللّبن؛ لأنّه لا يعدّ من الأجزاء الكافرة، بخلاف سائر ما يتّصل به، كما في لبن جوف الحيوان الميّت.

و أمّا إذا قلنا بتنجّس اللبن فيه، فلا يبعد

أنّ يسقي الأطفال بالمتنجّس في هذه المواقف، لا مطلقاً، و هكذا.

الفرع الثالث: بيان مقتضى الأُصول العمليّة عند الشك في حلية اللحم

قال في «العروة»: «إذا لم يعلم كون حيوان معيّن أنّه مأكول اللّحم أو لا، لا يحكم بنجاسة بوله و روثه» «1» انتهىٰ.

و مقتضى إطلاقه طهارتهما مطلقاً؛ سواء كانت الشبهة حكميّة، أو موضوعيّة، و سواء كانت الحرمة الذاتية مشتبهة، أو العرضيّة، و سواء كانت الشبهة الموضوعيّة ممّا تزول بأدنى تأمّل و نظر، أو لا تكون كذلك، و سواء في ذلك المجتهد و المقلّد قبل الفحص و بعده، و سواء كان الشكّ في قابليّته للتذكية و عدمها. و هذا الإطلاق يمكن إتمامه بحسب الظاهر إلّا في الشبهات الحكميّة للمقلّد و للمجتهد قبل الفحص.

و ربّما يشكل أوّلًا: في جريان قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 57، فصل في النجاسات، المسألة 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 347

من المسألة إذا شكّ في القابليّة «1»؛ لأنّ من المقرّر في محلّه عند المشهور جريانُ استصحاب عدم القابليّة «2»، و قضيّة ذلك هو حرمة لحمه، فيكون مقدّماً على القاعدة؛ لما ينقّح به موضوع الدليل؛ و هو نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه و خرؤه.

و فيه أوّلًا: أنّ جريانها ممنوع، و في النسبة إشكالًا؛ لأنّ مِن القائلين بجريان الأعدام الأزليّة، مَن استشكل في خصوص جريان هذا الأصل «3».

و ثانياً: لا يحرز بذلك عنوان هذه المسألة. و مجرّد كون اللحم محرّماً، غير كافٍ كما لا يخفىٰ، فلو فرضنا أصالة الحرمة عند الشكّ في القابليّة- كما عليه الأكثر إلّا الوالد- مدّ ظلّه «4» فهو لا يكون منقّحاً لدليل هذه المسألة، فليتدبّر.

و ربّما يشكل ثانياً: في جريانها؛ لأجل أنّ الأصل في اللحوم هي الحرمة «5»؛ علىٰ ما تحرّر في محلّه

«6».

و أنت خبير بما فيه من الأصل أوّلًا، و من أنّ علىٰ فرض تماميّته لا يثبت به موضوع البحث؛ و هو كون الحيوان ممّا لا يؤكل لحمه واقعاً، أو بدليل ظاهريّ يحرز به ذلك كالاستصحاب، و أمّا الأصل المزبور فلا يكفي.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 291.

(2) لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 486 489.

(3) مصباح الأُصول 3: 117.

(4) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 102 و 106.

(5) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 288.

(6) تحريرات في الأُصول 8: 486 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 348

إن قلت: هذا الأصل هو استصحاب عدم التذكية، أو استصحاب حرمته حال الحياة.

قلت: أمّا الاستصحاب الأوّل فهو لا ينفع لبوله و خرئه حال الحياة؛ ضرورة أنّ الشكّ في التذكية و اللاتذكية، لا يكون فعليّاً إلّا بعد عروضها على الحيوان في الخارج. و التفصيل بين بوله و خرئه حال الحياة و حال الممات، من المجمع عليه بطلانه.

مع أنّ بذلك أيضاً لا يحرز موضوع الدليل الاجتهاديّ، و سرّ ذلك أنّ مجرى الاستصحاب؛ إمّا يكون من القضيّة السالبة المحصّلة، أو الموجبة المعدولة المحمول؛ أي يقال: «ما كان هذا مذكّى، و الآن كذلك» أو يقال: «كان هذا غير مذكّى» و موضوع الدليل الاجتهاديّ قضيّة سالبة المحمول؛ أي «لا بأس ببول الحيوان الذي لا يؤكل لحمه» و إحراز ذلك بذاك غير ممكن إلّا بالأصل المثبت.

و أمّا الاستصحاب الثاني، فتفصيله في محلّه «1»، و إجماله أنّ حرمة الحيوان قبل التذكية و حال الحياة غير واضحة، و قد اشتهر عن شيخ مشايخنا ترخيص بلع الشاة حيّةً. و أمّا الإشكالات الأُخر المتوجهة إلىٰ هذا الاستصحاب، فهي كلّها قابلة للدفع.

نعم، بناءً علىٰ ما استظهرناه في موضوع الأدلّة في المقام

لا ينفع الاستصحاب أيضاً؛ لأنّ الاستصحاب لا يثبت به إلّا حال الشخص، و موضوع

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 8: 486 488.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 349

الأدلّة هي المحرّمات النوعيّة، فتأمّل.

إن قلت: قضيّة الأدلّة الاجتهاديّة حرمة كل حيوان إلّا ما خرج بالدليل، فعليه ترتفع الشبهة الحكميّة، و يصير الحيوان ممّا لا يؤكل لحمه، فالأصل الذي يتمسّك به هي القاعدة الاجتهاديّة.

و توهّم: أنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، في غير محلّه، بل هو من الشكّ في التخصيص؛ لأنّ مورد الشبهة حيوان لم يعلم حكمه في الشرع مثلًا، كالأرنب.

نعم، إذا كانت الشبهة الحكميّة لأجل الشكّ في طروّ الحرمة العرضيّة، فقضيّة الاستصحاب بقاء الحلّية، و تصير النتيجة هي الطهارة. إلّا أنّ في كفاية ذلك لإحراز عنوان الدليل لما مرّ إشكال.

و علىٰ أيّ تقدير: جريان قاعدة الطهارة في هذه الصورة بلا مزاحم «1».

قلت: هذه المسألة طويلة الذيل، و قد اختلفت كلماتهم؛ فالمعروف بين الأخباريّين هي الحرمة، و في خصوص اللّحم أيضاً هو المحكيّ عن جماعة عن الأُصوليّين و منهم «العروة الوثقىٰ» و لكنّه مع ذلك اختار الطهارة «2»، و كأنّه (قدّس سرّه) اعتمد في حرمة اللّحم علىٰ الأصل دون الدليل، كما لا يخفىٰ.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ علىٰ تقدير دلالة الأخبار علىٰ حرمة كلّ حيوان- مع أنّ المعروف أيضاً دلالة الآية الشريفة

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 300.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 57، فصل في النجاسات، المسألة 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 350

قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ .. «1» إلىٰ آخره، و كثيرٍ من المآثير علىٰ أصالة الحلّية «2» لا يمكن الحكم بالنجاسة؛ لما تقرر منّا: أنّ الأدلّة اللفظيّة قاصرة عن إثبات نجاسة

بول مطلق ما لا يؤكل لحمه «3»، فتكون القاعدة بلا مزاحم.

و ربّما يشكل ثالثاً: بأنّ قضيّة المطلقات نجاسة البول، و قد خرج منها بول ما يؤكل لحمه، و حيث يمكن إخراج مورد الشبهة عن تحت المخصّص باستصحاب العدم الأزلي، يتمسّك بالإطلاق، فيلزم التفصيل بين البول و الغائط عند الشكّ؛ لعدم الإطلاق في أدلّته «4» كما عرفت. نعم يمكن إلحاقه به للإجماع عليه، فتدبّر.

و توهّم: أنّ جريان الاستصحاب بحسب مقام الجعل، يختصّ بما إذا كان المشكوك فيه من الأحكام الإلزاميّة، دون الترخيصيّة كالإباحة و الحلّية، فإنّها غير محتاجة إلى الجعل، بل يكفي في ثبوتها عدم الجعل «5»، فهو فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ عدم الحاجة إلى الجعل لا ينافي شمول إطلاق دليل الجعل لمثله، فتكون الحلّية مجعولة بعد إمكان جعلها.

و هذا نظير عدم الحاجة في موارد حكم العقل بالاشتغال إلىٰ جعله، و لكنّه مع ذلك يصحّ التمسّك باستصحاب الاشتغال و جعل الشارع بعد

______________________________

(1) الأنعام (6): 145.

(2) وسائل الشيعة 25: 9، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 1.

(3) تقدّم في الصفحة 304.

(4) لاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 302.

(5) دروس في فقه الشيعة 2: 303.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 351

إمكانه، فلا تكن من الخالطين.

و أنت خبير بما فيه أوّلًا: من قصور تلك الإطلاقات التوهّميّة، كما مضى سبيله «1».

و ثانياً: أنّ الأعدام الأزليّة لا تجري فيها الأُصول إلّا في مورد كان الأثر لنفس التعبّد به، لا لأمر آخر وراءه.

و ربّما يشكل رابعاً: بأنّ في الشبهات الموضوعيّة لا بدّ من الاحتياط إذا كان تحصيل العلم بها سهلًا، فإنّ أدلّة الأُصول تقصر عن شمول ذلك؛ لعدم استقرار الشكّ إلّا مع عسر الاطلاع على الواقع.

و هذه

الشبهة محكيّة عن شيخنا العلّامة الحائريّ (قدّس سرّه) و لكنّه (قدّس سرّه) استثنىٰ في باب النجاسات ذلك «2»؛ لصحيحة زرارة الناطقة بعدم لزوم النظر إلىٰ ثوبه لرفع ريبه «3».

و لكنّك تعلم: أنّها كما لا تختص بنجاسة الدم من ثوب زرارة، كذا هي ليست تعبّداً في الشبهات الموضوعيّة، بل هي لمكان شمول الأدلّة و صدق الشبهة و الشكّ تعرّضت لذلك، فالعرف لا يجد فارقاً بين المواقف و الموارد، فيعلم منها عدم قصور في أدلّة الأُصول.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 313 و 322.

(2) لم نعثر عليه في هذه العجالة.

(3) تهذيب الأحكام 1: 421/ 1335، وسائل الشيعة 3: 402، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 7، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 352

و أمّا حال ما نسب إلى «الجواهر» «1» في المسألة الآتية؛ و هي الشكّ في أنّ الحيوان ذو نفس سائلة، أم لا، فهو إشكال علىٰ جريان الأُصول في الشبهات الموضوعيّة، و مخصوص بتلك المسألة، فلا تغفل.

الفرع الرابع: بيان مقتضى الأصل العملي عند الشك في أنّه ذو نفس سائلة
اشارة

إذا لم يعلم: أنّه من ذي نفس سائلة أم لا بناءً على اعتبار هذا القيد في نجاستهما فحكمه يعلم ممّا مضى، و الأمر هنا أسهل؛ لعدم إمكان توهّم أصل يقتضي الحرمة، لأنّ المفروض حلّية لحمه، و مشكوكيّة حال دمه.

و أمّا الإشكال الصغرويّ: بأنّ كلّ حيوان حلال اللّحم، له الدم السائل إذا كان بريّاً، فهو في غير محلّه كما لا يخفىٰ.

و أمّا ما أفاده «الجواهر» في المقام، فيظهر ممّا ذكره الأصحاب إيراداً عليه، فلا نطيل المقام بذلك الكلام، فراجع «2».

و ربّما يتخيّل أنّ استصحاب العدم الأزليّ، لا ينفع لإحراز عنوان العامّ بإخراج الفرد المشكوك عن عنوان الخاصّ؛ لأنّ العنوان المجعول مخصّصاً لعموم ما دلّ علىٰ نجاسة البول و الخرء، أمر

عدميّ لا وجوديّ، و الأصل المزبور يفيد على الثاني لا الأول. بل قضيّة الأصل في الأمر

______________________________

(1) جواهر الكلام 5: 289، لاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 300.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 295، دروس في فقه الشيعة 2: 300.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 353

العدميّ؛ هو الخروج عن تحت العامّ، و الدخول تحت الخاصّ، فلاحظ «1».

و فيه أوّلًا: لو كان الأمر كما قيل لكان هذا معيّناً، و لا نحتاج إلىٰ إجراء قاعدة الطهارة حتّى يشكل جريانها في الشبهة الحكميّة.

و ثانياً: الأمر العدميّ بحسب الواقع و نفس الأمر، لا يعقل أن يكون مورد الحكم إلّا بنحو يرجع إلى المعنى الوجوديّ.

و بعبارة اخرىٰ: العناوين العدميّة مشيرة إلىٰ خصوصيّات وجوديّة.

نعم، إذا كان العنوان العدميّ مأخوذاً في الدليل، فلا بدّ من تبعيّته، و لكنّ الأمر هنا ليس كذلك؛ لما عرفت: من أنّه لا دليل شرعيّ لفظيّ على اعتبار هذا القيد في نجاسة البول و الغائط «2»، فعليه يمكن قلب هذا العنوان العدميّ إلى الوجوديّ، ثمّ إجراء الأصل.

و الذي يسهّل الخطب؛ عدم تماميّة كبرىٰ هذه المسألة علىٰ ما تقرّر منّا في محلّه إلّا في صورة واحدة أُشير إليها، و تفصيلها في محلّها «3».

ثمّ اعلم: أنّه سيأتي في ذيل مباحث المنيّ ما به يتمّ مباحث هذه المسألة، فراجع «4».

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 316.

(2) تقدّم في الصفحة 299 و 318.

(3) تحريرات في الأُصول 7: 101 102 و 8: 55 56.

(4) يأتي في الصفحة 356.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 354

تذنيب: في حكم الرجيع المردّد

هذا تمام الكلام فيما تردّد الأمر في الحيوان.

و أمّا لو تردّد الأمر في رجيعه بأنّه رجيع المحرّم، أو المحلّل، أم السائل، أو غير السائل، فجريان قاعدة

الطهارة بلا معارض.

و أمّا توهّم استصحابها فهو مشكل؛ لعدم العلم بالحالة السابقة. مع لحاظ حفظ الموضوع وحدةً و عنواناً، و مع الشكّ في انحفاظ الموضوع أيضاً يتعيّن القاعدة.

و هكذا إذا تردّد أنّه من الأرنب أو الشاة، و تردّد في حكم الأرنب، فإنّ البناء علىٰ حرمته لا يقتضي نجاسته.

إيقاظ: حول ثبوت النفس السائلة للحيّة و التمساح

قد تعرّض الأصحاب (رحمهم اللّٰه) لحال الحيّة و التمساح، و اختلفت كلماتهم في أنّهما من ذوات النفس أم لا «1».

و المحكيّ عن الشهيد أنّ جميع الحيوانات البحريّة غير ذات النفس، و استشكل الآخرون في ذلك «2»، مع أنّ في «حياة الحيوان» أنّ للحيّة مائتي لغة، و لها الأصناف الكثيرة «3».

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 93، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 296، دروس في فقه الشيعة 2: 317.

(2) جواهر الكلام 5: 296، العروة الوثقىٰ 1: 57 58، فصل في النجاسات، المسألة 4.

(3) حياة الحيوان، الدميري 1: 391.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 355

و عن «المبسوط» في خصوص الأفاعي: «أنّها إذا قُتلت نجست» «1».

و في «المعتبر» و «المنتهىٰ»: «أنّها من ذوات النفس، و أنّ ميتتها نجسة» «2» انتهىٰ.

و حيث إنّ التمساح من ذوات الناب، فكأنّه من السباع البحريّة، فيبعد أن لا يكون له دم سائل.

و ربّما يستظهر أنّ الحيوانات التي تأكل اللحوم بالخضم من ذوات النفس، بخلاف الحيوانات التي تبلع الحيوان و إن كانت بريّةً، كالحيّة و نحوها، و اللّٰه العالم.

و في نجاسة هذه الأنواع خلاف ظهر ممّا مرّ، فإنّ من يقول: بأنّ مجرّد حرمة الأكل كافٍ في الحكم بالنجاسة في مخلص، كما أنّ الذي اختار ما ذكرناه من أنّ الأدلّة قاصرة عن إثبات نجاسة رجيع كلّ حيوان ذي نفس، بل المقدار الثابت منه ما تعارف منه في البلاد،

فمثل التمساح و أمثاله و إن كانت ذات نفس، يشكل نجاسة رجيعها. و إطلاق معاقد الإجماعات مسلّم، و لكنّه مستند إلى الإطلاقات التوهّميّة للأخبار و المآثير، كما لا يخفىٰ في مخلص أيضاً.

و حيث لا يجب الفحص و الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة، فالمشهور أيضاً يرجعون إلى القاعدة، فلا خير في تعقيب هذه المسألة جدّاً.

______________________________

(1) المبسوط 2: 186.

(2) المعتبر 1: 75، منتهى المطلب 1: 16/ السطر 20.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 356

الثالث: المنيّ
اشارة

و في نجاسته من الحيوان النجس العين اتفاق من المسلمين، و لمّا كانت المسألة في سائر الصور مورد الإشكال و الخلاف بينهم، فلا بأس بتنقيحها ضمن مسائل:

المسألة الاولىٰ: في حكم منيّ الآدميّ

منيّ الآدميّ فإنّه نجس بالضرورة، و لا يحتاج إلىٰ رواية، و هو القدر المتيقّن من المآثير «1»، و قد خالفنا من المخالفين الشافعيّ فقال: «إنّه من الآدميّ طاهر» و هذا هو قوله في الجديد، و في القديم ذهب إلىٰ نجاسته «2»، و الحنابلة علىٰ ما في المجلّد الأوّل من «الفقه على المذاهب الأربعة» «3» و هو اشتباه لذهاب أحمد في إحدى الروايتين إلىٰ طهارته، كما في «المعتبر» و «التذكرة» «4».

و بالجملة: الطهارة قول سعد بن أبي وقّاص، و ابن عمر «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 423، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16.

(2) المجموع 2: 553/ السطر 15، منتهى المطلب 1: 161/ السطر 23.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 13.

(4) المعتبر 1: 415، تذكرة الفقهاء 1: 53.

(5) المجموع 2: 554/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 357

و أمّا استفادة النجاسة من إيجاب الإعادة، كما في كلمات جمع «1»، أو استفادة الطهارة من الآخرين بعدم إيجاب إعادة الصلاة «2»، فهو ممنوع كما هو الظاهر. فعدّ نجاسة المنيّ من الآدمي من ضروريّات الإسلام «3»، لا يخلو عن غباوة.

و ربّما يشكل نجاسته؛ لعدم نصّ يدلّ عليه إلّا الأخبار الآمرة بالغسل و الإزالة، و هي بعد إمكان كونها لأجل مانعيّته في الصلاة، و أنّ الأجزاء الصغار منه لا تزول بالدلك لا تدلّ عرفاً على النجاسة المقصود إثباتها.

هذا مع توهّم دلالة بعض الأخبار علىٰ طهارته «4»، كرواية زيد الشحّام المرويّة في «الوسائل» «5» و رواية أبي أُسامة زيد الشحّام في «الجامع» «6»

و غيرهما «7» ممّا يشعر بذلك؛ لأجل أنّ مجرّد إصابة المطر و البلّ ذلك، لا يكفي للطهارة علىٰ ما تقرّر في ماء المطر، فلاحظ «8» و تدبّر.

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 328، دروس في فقه الشيعة 2: 319.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 13.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 491.

(4) الحدائق الناضرة 5: 34.

(5) الكافي 3: 53/ 5، وسائل الشيعة 3: 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 7.

(6) جامع أحاديث الشيعة 2: 95/ 10.

(7) تهذيب الأحكام 1: 421/ 1332، وسائل الشيعة 3: 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 7.

(8) تقدّم في الجزء الأوّل: 401.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 358

و أمّا دعوى حملها على التقيّة «1»، فهي ساقطة؛ لاختلاف عصري الصادق (عليه السّلام) و من قال من العامّة بالطهارة و هو الشافعيّ، و خصوصاً مع مخالفته مع أبي حنيفة «2»، فما ترى في بعض الكتب محمول على القصور «3»، و لا سيّما مع ملاحظة ما في ذيل كلامه.

و أمّا ما أفاده الآخر: من أنّ هذه المآثير دالّة على النجاسة؛ لما يعرف منها مفروغيّتها «4»، فهو غير بعيد ذاتاً، و لكنّه بعد لا يخلو من شبهة، فتدبّر.

و ما قد يقال «5» بدلالة مرسلة شبيب بن أنس المشتملة علىٰ قول الصادق (عليه السّلام) لأبي حنيفة: «أيّهما أرجس؟» و دلالة رواية «العلل» عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السّلام) المشتملة علىٰ قوله: «و إنّما أُمروا بالغسل من الجنابة، و لم يؤمروا بالغسل من الخلاء و هو أنجس من الجنابة و أقذر» المرويّتين في أبواب الجنابة الباب الثاني «6»، فهو قريب، و لكنّه لا يتمّ؛ لاحتمال إرادة الرجس بمعنى الآخر في

الأُولىٰ، و احتمال كون التفصيل فرضيّاً، كما هو المتعارف في الاستعمال:

ففي رواية «الدعائم» قوله: «أيّهما أطهر المنيّ أو البول؟» قال

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 521/ السطر 24، دروس في فقه الشيعة 2: 320.

(2) المجموع 2: 554/ السطر 5.

(3) دروس في فقه الشيعة 2: 322.

(4) مهذّب الأحكام 1: 302.

(5) لاحظ الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 39.

(6) علل الشرائع: 90 و 257، وسائل الشيعة 2: 179 180، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 2، الحديث 4 و 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 359

المنيّ «1».

مع أنّ مطلق الخلاء ليس أنجس من المنيّ.

و الذي يسهل الخطب ما ذكرناه؛ من عدم حاجة المسألة إلى الرواية «2»، بل كلّما ازدادت علىٰ طهارته ازداد فيها الضعف و الفتور.

نعم، في أبواب حرمة القياس، عن محمّد بن مسلم قال: «يا أبا حنيفة، الغائط أقذر أم المنيّ؟».

قال: بل الغائط «3».

و في أبواب المياه رواية أبي بصير قال: «فإن أدخلت يدك في الإناء و فيها شي ء من ذلك» أي قذر بول أو جنابة «فأهرق ذلك الماء» «4».

و غير ذلك في الأبواب المتفرّقة روايات تشهد على المدّعىٰ، فراجع «جامع الأحاديث» «5».

و لا شبهة في أنّ المراد من «الجنابة» في هذه المآثير إمّا ينحصر بمنيّ الإنسان، أو يكون هو القدر المتيقّن كما لا يخفىٰ.

و أيضاً غير خفيّ: أنّ إثبات نجاسة منيّ المرأة بمثل ما مرّ، دونه

______________________________

(1) دعائم الإسلام 1: 91، مستدرك الوسائل 1: 450، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 2، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 356.

(3) الاختصاص: 189، مستدرك الوسائل 17: 266، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 36.

(4) الكافي 3: 11/ 1، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،

الباب 8، الحديث 4.

(5) جامع أحاديث الشيعة 2: 93.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 360

خرط القَتاد.

المسألة الثانية: في حكم منيّ ما لا يؤكل لحمه و له نفس سائلة

المنيّ من كلّ حيوان ذي نفس سائلة ممّا لا يؤكل لحمه، نجس عندنا حسب الإجماعات المحكيّة «1»، و قضيّة إطلاق معاقدها أنّه منه نجس؛ من غير فرق بين ما تعارف منه في البلاد، و ما كان خارجاً عنه، كالسباع البعيدة، و الحيوانات البحريّة.

و المخالف في هذه المسألة هو الشافعيّ، فإنّ له في غير الآدميّ ثلاثة أقوال؛ منها طهارته «2»، و لم يظهر لي من وافقه منهم إلّا أحمد، فإنّ الظاهر أنّه في إحدىٰ روايتيه قال بطهارته «3»، فليست المسألة ضروريّة في الإسلام. بل و اختلاف أقوال هؤلاء الجهلة، شاهد علىٰ أنّ المسألة ما كانت ضروريّة في أعصارهم.

و ربّما يشكل نجاسته؛ لأجل الإشكال في دليله، و انحصار المستند في الإجماع المعلوم سنده؛ و ذلك لأنّ ما يدلّ علىٰ نجاسة المنيّ، موردُ الخدشة من جهات:

فتارة: ما أفاده «المدارك» من انصرافها إلىٰ منيّ الإنسان «4».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 53، مفتاح الكرامة 1: 136/ السطر 26.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 53، المجموع 2: 555.

(3) بداية المجتهد 1: 84.

(4) مدارك الأحكام 2: 266.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 361

و أُخرى: ما أفاده «الجواهر» من أنّ المتبادر لأجل كلمة «الثوب» و لندرة الوجود منيّ الإنسان «1».

و ثالثة: ما ذكرناه من أنّ معتبر محمّد بن مسلم في الباب السادس عشر و غيره المشتمل علىٰ ذكر المنيّ «2»، ليس في مقام بيان حكم المنيّ من حيث نجاسته و لا نجاسته، بل كلّها في مقام بيان أمر آخر؛ من أشديّة نجاسة البول علىٰ نجاسة المنيّ، و من لزوم غسل كلّ مٰا يصيبه المنيّ؛ و ذلك

لأنّ نجاسته الإجماليّة كانت واضحة في عصر هذه الأخبار، فلا حاجة إلى السؤال عن تلك الجهة.

و رابعة: ما أفاده «القاموس» بل و «الصحاح» «من أنّ المنيّ ماء الرجل و المرأة، أو هو ماء الرجل فقط» «3» فلا يتمّ الإطلاق السكوتيّ أيضاً.

فبالجملة: يحصل من هذه الأُمور بأجمعها؛ أنّ الإطلاق لهذه المآثير غير واضح، و حيث كان المجمعون مستندين إليها فلا سند لهم غيرها، فيرجع إلى الأُصول بعد هذا القصور.

و ما ترى من تصدّي السيّد المحقّق الوالد- مدّ ظلّه لإثبات الإطلاق بكثرة وجود المنيّ من الحيوانات مورد الابتلاء «4»، لا يفي لإثبات ذلك، و لا يندفع به جميع ما سبق منّا.

______________________________

(1) جواهر الكلام 5: 290.

(2) تهذيب الأحكام 1: 252/ 730، وسائل الشيعة 3: 424، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 2.

(3) القاموس المحيط 4: 394، الصحاح 6: 2497.

(4) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 38.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 362

المسألة الثالثة: في حكم منيّ ما يؤكل لحمه مما له نفس سائلة

منيّ ما يؤكل لحمه و له الدم السائل نجس عند أصحابنا، و عليه الإجماعات الكثيرة «1»، و هو مقتضى الإطلاقات في المسألة الأُولىٰ بناءً علىٰ تماميّتها.

و المخالف من المخالفين أيضاً هو الشافعيّ «2». و هو قضيّة منطوق موثّق عمّار عنه (عليه السّلام) قال: «كلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «3».

و معتبر ابن بكير في أبواب لباس المصلّي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: «إن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة ..» إلىٰ قوله: «و كلّ شي ء منه جائز ..» «4».

و لو استشكل في الأُولىٰ: بظهورها في البول و الغائط؛ لخروج مثل الدم عنه «5»، و في الثانية: بعدم دلالتها على الطهارة؛ لاحتمال كونها في

______________________________

(1) مدارك الأحكام 2:

265، مفتاح الكرامة 1: 136/ السطر 26، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 296.

(2) المجموع 2: 555.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 362

(3) تهذيب الأحكام 1: 266/ 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 12.

(4) الكافي 3: 397/ 1، وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2، الحديث 1.

(5) جواهر الكلام 5: 292، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 40.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 363

مقام بيان الحكم الحيثيّ «1»، لأمكن الإشكال في بعض المطلقات السابقة أيضاً: بأنّها قاصرة عن إثبات نجاسة منيّ الحيوان الطاهر بوله و خرؤه، و خصوصاً معتبر ابن مسلم قال: «ذكر المنيّ و شدّده، و جعله أشدّ من البول» «2» فإنّه لا معنىٰ لأشدّية المنيّ من الحيوان الطاهر بوله من بوله.

فيعلم من ذلك: أنّ هذه القضيّة مجملة، و ليست في مقام إثبات أشدّية طبيعة علىٰ طبيعة؛ حتّى يلزم نجاسة المنيّ الصناعيّ و البول الصناعيّ، كما يأتي تفصيله «3».

ثمّ إنّه لو فرضنا الإطلاق للطائفتين، فإن لاحظنا الطائفة الدالّة علىٰ نجاسة المنيّ بالظهور العرفيّ، فيمكن الجمع بينها و بين هذه الطائفة.

و إذا لاحظناها مع ما يدلّ علىٰ نجاسته بالنصّ كما مرّ «4»، فالجمع مشكل؛ لأنّ النسبة عموم من وجه، ضرورة أنّ معنىٰ موثّق عمّار: «كلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «5» و هو أعمّ من عنوان «المنيّ» و المنيّ أعمّ منه أيضاً؛ لشمول دليله لمنيّ ما لا يؤكل لحمه.

فما ترى من توهّم: أنّ مع قبول إطلاق هذه الطائفة،

كان المتعيّن

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 326.

(2) تقدّم في الصفحة 361.

(3) يأتي في الصفحة 369 370.

(4) تقدّم في الصفحة 359.

(5) تهذيب الأحكام 1: 266/ 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 364

القول بالطهارة في هذه المسألة «1»، لا يخلو من تأسّف. و ما أفاده العلّامة الوالد- مدّ ظلّه من حكومة هذه الطائفة، أو تقدّمها بنحو الإجمال «2»، غير وجيه أيضاً.

نعم، يمكن دعوى: أنّ مع حفظ لسان الرواية، يمكن تقديم العرف هذه الطائفة؛ ضرورة أنّه إذا فرضنا دلالة الطائفة الأُولىٰ علىٰ أنّ المني ممّا يؤكل و ما لا يؤكل نجس، و كان في الطائفة الثانية ما يدلّ علىٰ الطهارة بهذا التعبير: «كلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» فإنّ ما يخرج منه من توابع الحكم عرفاً، و تكون النسبة بين الموضوعين عموماً مطلقاً، فعليه لا بدّ من حفظ لسان الأخبار، و يعلم منه عدم جواز نقل المعاني بالألفاظ الأُخر؛ لاختلاف فهم العقلاء في الجمع، فليتدبّر.

و لو أشكل الأمر جمعاً، فالمرجع هي الطهارة. و لعمري أنّ الإفتاء بالنجاسة حسب هذه الإجماعات، مشكل جدّاً.

المسألة الرابعة: في حكم منيّ ما ليست له نفس سائلة
اشارة

منيّ ما لا نفس له فيه قولان؛ فالمشهور بين القدماء حسب الإطلاقات هي النجاسة «3»، و قد خالفهم المحقّق «4»، و لعلّه أوّل من تعرّض

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 326.

(2) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 40.

(3) الانتصار: 15، المبسوط 1: 36، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 488/ السطر 36.

(4) شرائع الإسلام 1: 43.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 365

لخصوص هذه المسألة، و تبعه جمع آخر من الأعلام «1».

و ربّما يشكل في إطلاق معاقد

الإجماعات تارة: بأنّها في قبال فتوى العامّة القائلين بالطهارة مثلًا «2».

و أُخرى: باستدلالهم بالآية الشريفة «3» التي تعرّضنا لحدودها في مباحث المياه «4»، و هي علىٰ فرض دلالتها علىٰ نجاسة المنيّ، تكون أخصّ من المدّعىٰ «5».

و لو فرضنا تماميّة المعاقد إطلاقاً، خصوصاً معقد «الخلاف» «6» بل و معقد إجماع السيّد و ابن زهرة «7»، فلا نسلّم حجّيته في المقام؛ لأنّ مستندهم قويّاً ينحصر بالأخبار، و لا نصّ عندهم وراء ذلك، و ليست المسألة واضحة كلّيتها حتّى يقال: بأنّها من الأُصول المتلقّاة، فما ترى من جدّ السيّد الوالد- مدّ ظلّه لإثبات إطلاق المعقد «8»، غير وافٍ بالمطلوب.

ثمّ إنّه لا فرق فيما لا نفس له بين أن يكون ذا لحم، أو بلا لحم.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 55، ذكرى الشيعة: 13/ السطر 12، مفتاح الكرامة 1: 137/ السطر 5.

(2) جواهر الكلام 5: 292.

(3) الأنفال (8): 11.

(4) تقدّم في الجزء الأوّل: 25 26.

(5) مشارق الشموس: 301/ السطر 24.

(6) الخلاف 1: 489.

(7) الانتصار: 16، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 488/ السطر 36.

(8) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 41.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 366

و ممّا يؤيّد الطهارة هنا؛ طهارة بوله و خرئه و دمه و ميتته.

نعم، قد مرّ الإشكال في ذي اللحم المحرّم ممّا لا نفس له «1»، و لكنّه منحل بما عرفت بما لا مزيد عليه.

و ربّما يتمسّك كما عرفت سابقاً «2»، بروايات الباب الخامس و الثلاثين، و منها: معتبر عمّار الساباطيّ قال (عليه السّلام) في ذيله: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس» «3».

و العدول عن خصوصيّة السؤال و هو الميتة، يؤكّد العموم علىٰ مٰا تقرّر. و منها غير ذلك «4».

و التمسّك في غير محلّه، كما

مرّ مراراً. و لو صحّ التمسّك كان الأولى الاستدلال بذيل الحديث المزبور المحذوف فيه الضمير المشير حذفه إلىٰ إفادة عموم الأجزاء في المنطوق، فيكون الحكم في المفهوم كذلك مثلًا.

و أمّا قوله: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» فهو ظاهر في أنّ الفساد مستند إلىٰ جثمان ذي النفس و جرثومته، لا جزئه البوليّ أو المنويّ منه، و لذلك ذكر الأصحاب هذه المآثير في باب نجاسة الميتة، فلا تخلط.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 298 299.

(2) نفس المصدر.

(3) تهذيب الأحكام 1: 230/ 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 231/ 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 367

إيقاظ: حول حكم منيّ الصبيّ غير البالغ

قضيّة مٰا مرّ من قصور الأدلّة عن إثبات نجاسة كلّ منيّ، و مقتضى ما في «القاموس» و «الصحاح»: «من أنّ المنيّ ماء الرجل و المرأة، أو هو ماء الرجل» «1» الإشكال في نجاسته من الصبيّ كالمرأة، علىٰ ما أُشير إليه في المسألة الأُولىٰ «2»، فلو فرضنا خروج المنيّ من الصغير لعلّة و مرض كالفتور المستولي على الأعضاء فإنّه ليس من علائم البلوغ مطلقاً، فإنّه في نجاسته إشكال و شبهة، و ما في «مفتاح الكرامة»: «من أنّ تفسيرهما محمول على التمثيل» «3» غير وجيه إلّا في بعض الألفاظ.

اللهمّ إلّا أن يقال: هو لازم إلغاء الخصوصيّة، فتأمّل.

بحث و تفصيل: اشتراط الخروج من المخرج الطبيعي و بالنحو المتعارف

كما يشترط في نجاسة البول و الغائط كونهما من محرّم الأكل، و في نجاسة المنيّ كونه من ذي النفس؛ علىٰ ما هو المشهور و المعروف، فهل يشترط كون الثلاثة من المخرج الطبيعيّ، و كونها بنحو الخروج المتعارف، أم لا؟

______________________________

(1) القاموس المحيط 4: 394، الصحاح 6: 2497.

(2) تقدّم في الصفحة 358 359.

(3) مفتاح الكرامة 1: 137/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 368

و تظهر الثمرة فيما تعارف في عصرنا من أخذ المنيّ بتوسّط الإبرة من مخزنة، و من إخراج البول من المخارج غير الطبيعيّة خروجاً غير طبيعيّ.

ظاهر الأصحاب (رحمهم اللّٰه) هو الثاني.

و يشكل ذلك: بأنّ إطلاق كلماتهم و معاقد إجماعاتهم، ممنوع من بعض الجهات الماضية، فضلًا عن هذه الجهة الحادثة. مع أنّ مستند إطلاقه إطلاق الأخبار، و قد عرفت الشهبة فيه مراراً «1».

هذا مع أنّ الظاهر من موثّقة عمّار الماضية «2»؛ أنّ نفي البأس مخصوص بما يخرج، لا بما يُخرج بالإخراج الصناعيّ قال: «كلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه».

و بالجملة: إن قلنا بنجاستها في الباطن

كما عرفت منّا قوّة ذلك «3» فلا فرق بين الصورتين، و إن قلنا بطهارتها ففي نجاستها هنا إشكال قويّ.

و توهّم دلالة هذه الموثّقة علىٰ أنّ البأس مخصوص بالخارج، مدفوع بأنّ صيغة المضارع تفيد الشأنيّة، و لا يلزم فعليّة الخروج في ثبوت البأس، فلا تخلط. بل هي للاستدلال بها علىٰ نجاستها في الباطن أولىٰ و أحسن، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 365.

(2) تقدّم في الصفحة 362.

(3) تقدّم في الصفحة 340 341.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 369

المسألة الخامسة: في حكم البول و الغائط و المنيّ الصناعيّة

لا شبهة في أنّ الأبوال و الغائط الصناعيّة طاهرة؛ لما يظهر من الأخبار أنّهما ممّا لا يؤكل لحمه نجس، فيكون من شرائط نجاستهما كونهما من الحيوان.

و توهّم: أنّ قوله (عليه السّلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «1» و إن كان ظاهراً في القضيّة الموجبة السالبة المحمول، أو الموجبة المعدولة، أو السالبة المحصّلة المفروض موضوعها، و لكنّ الصناعة قاضية بأنّها من السالبة المحصّلة المجامعة مع انتفاء الموضوع، فإذا خلقت الأبوال و الغائط بالمكائن، فهي ممّا لا يؤكل لحمه و إن كان لعدم اللحم له.

في غير محلّه كما ترى. مع أنّه لو سلّمنا ذلك فعند المشهور يعتبر كونهما من ذي النفس، و هو لا يصدق. اللهمّ إلّا أن يلغي هذا الشرط، كما عرفت الإشكال فيه «2».

و أمّا الإشكال في صدق «البول» عليها بل و «الغائط» بعد كونهما مثل ما يخرج من الحيوان في جميع الجهات، فهو مندفع بالتبادر و العرف. هذا حكم الرجيعين.

______________________________

(1) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 299 و 318.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 370

و أمّا المنيّ

الصناعي فربّما يقال بنجاسته؛ لإطلاقات ادّعاها جماعة من الأفاضل في خصوصه، كما عرفت «1»، فكما لا يخصّ ذلك بالإنسان كذلك الأمر هنا، و كما يحمل كلام اللغويّين على التمثيل هناك، يحمل عليه هنا.

اللهمّ إلّا أن يقال: بشرطيّة كونه من ذي النفس في نجاسته، و قد مضى أنّه شرط اختلقه المتأخّرون، كالمحقّق و من تبعه، فلاحظ «2» و تدبّر جيّداً.

المسألة السادسة: في حكم المنيّ و هو في الباطن
اشارة

قضيّة ما مرّ في البحث السابق؛ نجاسة المنيّ و لو كان في الباطن، لعدم الخصوصيّة عرفاً، و الإشكال عليها بجوابه يأتي هنا أيضاً.

ثمّ إنّه علىٰ تقدير طهارته، يشكل الحكم بنجاسته إذا خرج بطريق غير متعارف، كما هو الممكن و يتّفق في هذا العصر أحياناً.

تذنيب: في حكم المذي و الوذي و الودي

المذي و الوذي و الودي طاهر كلّها عند أصحابنا، و عليه الإجماعات المحقّقة و المنقولة «3»، و لنعم ما أفاده العلّامة في «المختلف» و هو قد يعدّ دليلًا خامساً في الفقه، و قد اشتهر في هذه الأعصار الاستدلال به، فقال بعد

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 363.

(2) تقدّم في الصفحة 364.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 54، جواهر الكلام 5: 293، دروس في فقه الشيعة 2: 327.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 371

الاستدلالات المختلفة: «و لأنّه ممّا يعمّ به البلوىٰ، فلو كان نجساً لكان حكمه منقولًا بالتواتر» انتهىٰ. و في كونه شديد الابتلاء إشكال.

و قال أحمد بن الجنيد المتوفّىٰ سنة (381 ه): «ما كان من المذي ناقضاً لطهارة الإنسان، غسل منه الثوب و الجسد، و لو غسل من جميعه كان أحوط» «1».

و يظهر منه علىٰ ما هو المحكيّ، أنّه جعل المذي ما خرج عقيب شهوة. و في «الخلاف»: «هذا هو قول جميع الفقهاء» «2». و هو المحكيّ عن الكتب الفقهيّة الأُخرىٰ منهم «3».

و استثنىٰ في «المعتبر» مالكاً في أحد قوليه «4»، و في «التذكرة» أحمد في إحدىٰ روايتيه «5»، و أصحابنا أعرف بفتوى المخالفين منهم.

و بالجملة: المسألة بحسب الفتوىٰ بين شهرتين: شهرة الخاصّة على الطهارة، و شهرة العامّة على النجاسة، فلو كانت رواية عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) المعاصرين لتلك الشهرة، فهي قابلة للحمل على التقيّة.

و من العجيب أنّ فتواهم بالنجاسة في

هذه الثلاثة أشهر، و مورد الاتفاق كما أُشير إليه، و في المنيّ من يقول منهم بطهارته!! بل ربّما يظهر من

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 57/ السطر 16 22، تذكرة الفقهاء 1: 54.

(2) الخلاف 1: 118.

(3) دروس في فقه الشيعة 2: 328.

(4) لم نعثر عليه لعلّه من سهو القلم و الصحيح أحمد في إحدىٰ روايتيه، المعتبر 1: 417.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 54.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 372

بعض العبارات أنّ الشافعي كان يقول بطهارة منيّ الحيوان النجس العين؛ لاستثنائه الكلب و الخنزير في بعض أقواله دون بعض «1»، و إذا كان هؤلاء متصدّين للإفتاء فلا يحصل منهم إلّا منع السماء بركتها، كما في الرواية «2» و من ذلك ما في «الفقه على المذاهب الأربعة» قال:

«الحنفيّة قالوا: إنّ ما يسيل من البدن غير القيح و الصديد، إن كان لعلّة و لو بلا ألم فنجس، و إلّا فطاهر، و هذا يشمل النفط؛ و هي القرحة التي امتلأت و حان قشرها، و ماءَ السرّة، و ماءَ الاذن، و ماءَ العين، فالماء الذي يخرج من العين المريضة نجس و لو خرج من غير ألم، كالماء الذي يسيل بسبب الغرب؛ و هو عرق في العين يوجب سيلان الدمع بلا ألم» «3» انتهىٰ.

ثمّ إنّ المذي: هو الماء الخارج عقيب الثوران و الشهوة.

و الودي: ما يخرج عقيب البول.

و الوذي: ما يخرج من الأدواء، كما عن مرسل ابن رباط «4».

فبالجملة: كلّ ما يخرج من الإنسان و الحيوان حسب القواعد طاهر، إلّا البول و الغائط علىٰ ما مرّ، و المنيّ إجمالًا، و الدم علىٰ ما يأتي، فلا حاجة إلى الأدلّة الخاصّة و الصريحة في طهارة الثلاثة، و لقد مرّ أنّه

______________________________

(1) المجموع 2: 555/

السطر 9.

(2) الكافي 5: 290/ 6، وسائل الشيعة 19: 119، كتاب الإجارة، الباب 17، الحديث 1.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 12.

(4) تهذيب الأحكام 1: 20/ 48، وسائل الشيعة 1: 278، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 12، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 373

لو كانت هي نجسة، لبانت نجاستها، و لتواترت قذارتها «1».

و توهّم نجاستها العرضيّة؛ لملاقاتها مجرى البول و المنيّ «2»، غير سديد؛ لما عرفت من طهارة المجاري «3»، و لما أنّه اتحاد المجرىٰ غير واضح، بل قيل باختلافه.

ثمّ اعلم: أنّ الروايات متظافرة علىٰ طهارتها نصّاً، و هي كثيرة ربّما تبلغ حدّ التواتر، و متشتّتة في الأبواب المتفرّقة «4»، فلو سلّمنا دلالة طائفة علىٰ نجاستها، فهي بالنسبة إلىٰ ذاك محجوجة من جهات عديدة، و جميع المرجّحات و المميزات متّفقة على الأخذ بهذه الطائفة، مع أنّها قاصرة دلالة، و قابلة للجمع العقلائيّ مع غيرها.

مع أنّ في سند ما يدلّ على النجاسة إشكالًا؛ لوجود الحسين بن أبي العلاء فيه، و نحن و إن ذكرنا اعتباره حسب بعض القرائن العامّة «5»، و ممّا يمكن أن يقال في المسألة: إنّ لهذا الرجل نسبه خاصّ معيّن، رواياتٍ ثلاثة كلّها عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «6» و المسؤول عنه فيها واحد حسب الظاهر و هذا يورث الاستبعاد فيكون احتمال الاشتباه قويّاً جدّاً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 370 371.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 498.

(3) تقدّم في الصفحة 343.

(4) تهذيب الأحكام 1: 19/ 47، وسائل الشيعة 1: 270، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 9، الحديث 2 و 276 286، الباب 12 و 13، وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث

5.

(5) لعلّه (قدّس سرّه) ذكره في فوائده الرجالية و هي مفقودة.

(6) وسائل الشيعة 3: 426، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 2 و 3 و 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 374

فقوله في بعضها: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المذي يصيب الثوب. قال: «إن عرفت مكانه فاغسله، و إن خفي مكانه عليك فاغسل الثوب كلّه» «1» محمول علىٰ أنّ المسئول عنه هو المنيّ، و لقرب اللفظتين كتابةً أو لأمر آخر، اشتبه على النسّاخ و القارئين.

و ممّا يشهد لذلك: أنّ هذا الجواب بهذه الطريقة مذكور في روايات المنيّ مراراً «2»، فراجع.

و أمّا روايته الأخيرة المشتملة على الأمر بالغسل و عدم التوضّي «3»، فهي مخالفة للكلّ من فِرَق المسلمين؛ لما يرون الملازمة كما في بعض أخبارنا، فلا تحمل هي على التقيّة «4»، و لكنّها لمكان قوله: «فيلتزق به» أمره بالغسل استحباباً لشواهد عرفت، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 253/ 731، وسائل الشيعة 3: 426، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 3: 423 426، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16.

(3) وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 4.

(4) كما احتمله صاحب الوسائل (رحمه اللّٰه)، راجع نفس المصدر، ذيل الحديث.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 375

الرابع: الميتة
اشارة

فإنّها عند أصحابنا «1» بل و عند المخالفين نجسة، إلّا الشافعيّ في أحد قوليه «2».

و قال في «المعتبر»: «الميتة ممّا له نفس سائلة نجسة، و هو إجماع الناس، و الخلاف في الآدميّ، و علماؤنا مطبقون علىٰ نجاسة عينه، كغيره من ذوات الأنفس السائلة.

و قال الشافعيّ في الأصحّ عندهم: هو طاهر تكرمةً له إكراماً، و لأنّه لو كان

نجس العين لما طهر بالغسل» «3» انتهىٰ.

فيعلم من ذلك اتفاق جميع المذاهب علىٰ نجاستها من غير الآدمي، و أمّا حكم الآدميّ فيأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و من عدم تعرّض السيّد و الشيخ في «الانتصار» و «الخلاف» و العلّامة في «المختلف» لحكم أصل المسألة، يعلم اتفاقيّة ذلك عندهم و عندنا.

فبالجملة: كانت المسألة عند الكلّ واضحة، حتّى وصلت نوبة الاجتهاد إلىٰ علمين من عشيرة واحدة: «المدارك» و «المعالم» فاستشكل

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 164/ السطر 2، مشارق الشموس: 309/ السطر 26، مستند الشيعة 1: 160.

(2) المجموع 2: 560.

(3) المعتبر 1: 420.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 376

الثاني في دلالة الأخبار و سند ما يدلّ، و قال: «إنّ الدليل ينحصر بالإجماعات المحكيّة» «1».

و الأوّل في الكلّ و قال: «و المسألة قويّة الإشكال و أنّه لم يقف علىٰ نصّ يعتدّ به يدلّ على النجاسة، ثمّ استظهر أنّ عدم التنجيس مذهب الصدوق؛ لأنّه روى مرسلة تدلّ على الطهارة، و هو يعمل بمراسيله؛ لأنّها حجّة عنده علىٰ ما صرّح في أوّل الكتاب» «2». بل قد صرّح في «الخاتمة» بأنّ مراسيله كمراسيل ابن أبي عمير «3»، و ما قيل: «من أنّه لم يفِ بعهده» «4» من الباطل الذي لا شاهد عليه.

هذا، و لقد اختار ذلك في «المقنع» «5» أيضاً، فراجع.

هذا، و اعترض عليه الأصحاب تارة: بأنّ المسألة غير محتاجة إلى الدليل اللفظيّ و اللّبّي، بل الحكم من الضروريّات الواضحة، و عليه السيرة العمليّة، فكما أنّ الأحكام الواضحة لا تحتاج إلى الرواية و الإجماع، هكذا هي؛ لما أنّها منها، و لذلك تكون الروايات كلّها إلّا ما شذّ في مقام إفادة الأمر الآخر، بعد مفروغيّة النجاسة عند السائل في الجملة

«6».

______________________________

(1) لاحظ مشارق الشموس: 309/ السطر 29.

(2) مدارك الأحكام 2: 268.

(3) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 547/ السطر 9.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري (الطبعة الحجرية): 340/ السطر 18، الطهارة، الإمام الخميني قدس سره 3: 50.

(5) المقنع: 18.

(6) جواهر الكلام 5: 300.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 377

و قيل: «ليس في الفقه في الفرعيّات مٰا يشبه هذا الفرع في الاتفاق و الإجماع، و في كثرة الروايات و الأخبار» «1».

و أُخرى: بدلالة المآثير الكثيرة على النجاسة «2».

و الأوّل في محلّه، و الثاني غير صريح؛ و ذلك لأنّ هذه الطوائف التي أُشير إليها في الكتب الاستدلاليّة و منها «الجواهر» «3» كلّها مشتملة على الأمر بالغسل، أو الأمر بالاجتناب عمّا لٰاقاه، أو تغيّر بها، و هذا غير كافٍ لإثبات النجاسة إلّا بدعوىٰ فهم العرف و ضمّ الوجدان إليه.

نعم، في بعض المآثير ما يدلّ مفهوماً علىٰ نجاستها:

فمنها: ما في «الوسائل» عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال قلت له: راوية من ماء ..

إلىٰ أن قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ» «4».

و منها: في حديث «الجعفريّات» في الماء الجاري يمرّ بالجيف و العذرة و الدم: «يتوضّأ منه و يشرب منه، ليس ينجّسه شي ء» «5».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 499.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 500.

(3) جواهر الكلام 5: 297 299.

(4) وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

(5) الجعفريّات: 11، مستدرك الوسائل 1: 191، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 378

و عن «الدعائم» مثله «1».

و في معتبر حفص

بن غياث عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السّلام) قال: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» «2».

فإنّ الإفساد هو التنجيس الشرعيّ، كما مرّ في ذيل صحيحة ابن بَزيع «3»، و هذا يدلّ منطوقاً علىٰ نجاستها.

و الإشكال في سند الأوّل؛ لما فيه عليّ بن حديد و هو لم يوثّق «4»، و في الثاني؛ لعدم اعتبار «الجعفريّات» و «الدعائم» و في الثالث؛ لعدم توثيق حفص مع أنّه عامّي «5»، أوقع العلمين فيما وقعا فيه، و حيث إنّ مستند المجمعين ليس أمراً آخر وراء هذه المآثير استشكل «المدارك» في أصل الحكم «6»، و عن الكاشانيّ اختيار نجاستها «7»؛ بمعنى الخبث الباطنيّ، هكذا في «الجواهر» «8».

و توهّم دلالة الآية الشريفة

______________________________

(1) دعائم الإسلام 1: 111.

(2) تهذيب الأحكام 1: 231/ 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 2.

(3) تقدّم في الجزء الأوّل: 115 و 158 و 160.

(4) رجال النجاشي: 274/ 717، الفهرست: 89/ 372، معجم رجال الحديث 11: 302.

(5) رجال الشيخ: 118، الفهرست: 61/ 232.

(6) مدارك الأحكام 2: 268.

(7) لاحظ مفاتيح الشرائع 1: 66.

(8) جواهر الكلام 5: 346.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 379

إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1» علىٰ نجاستها لأنّها المراد من «الرجس» بعد اشتراك الكلّ في ذلك «2»، غير سديد.

و يتلوه في الضعف التمسّك بذيل رواية جابر «3»، الواردة في الفأرة الواقعة في السمن فماتت فيه، فإنّه قال: فقال أبو جعفر (عليه السّلام): «إنّك لم تستخفّ بالفأرة، إنّما استخففت بدينك، إنّ اللّٰه حرّم الميتة من كلّ شي ء» «4».

لأنّ المراد من التحريم هو التنجيس حتّى يناسب التعليل، فتدبّر.

و لكنّ الإنصاف

بعد اللتيّا و التي: أنّ المسألة في الجملة ممّا لا تكون خفيّة على الأصاغر، فضلًا عن الأكابر، فلا تجادل.

هذا، و ربّما يمكن دعوى دلالة بعض المآثير علىٰ طهارتها:

و منها: الطائفة الكثيرة التي تشير إلىٰ جواز الانتفاع منها «5»، فإنّ الظاهر هو الملازمة بين الحكمين: النجاسة، و ممنوعيّة الانتفاع، فإذا جاز ذلك فيعلم منه الطهارة.

و أنت خبير: بأنّ قضيّة بعض الإجماعات و إن كان ذلك؛ حيث ادّعي عدم

______________________________

(1) الأنعام (6): 145.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري (الطبعة الحجريّة): 340/ السطر 5، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 48.

(3) دروس في فقه الشيعة 2: 339.

(4) تهذيب الأحكام 1: 420/ 1327، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف و المستعمل، الباب 5، الحديث 2.

(5) وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16، وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 38، الحديث 4، وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 380

جواز الانتفاع بالنجس «1»، و لكنّه لا يورث التلازم الواقعيّ؛ لقصور السند، كما التزم بذلك جمع من الأصحاب رضي اللّٰه عنهم «2» و منهم الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «3» فراجع.

و منها: ما في «التهذيب» و «الاستبصار» بسند معتبر عندنا، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل وقع ثوبه علىٰ كلب ميّت.

قال: «ينضحه بالماء و يصلّي فيه و لا بأس» «4».

و حمله على الوقوع بغير رطوبة «5» لا يناسب التشديد الواقع في ذيله، كما لا يخفى.

و منها: ما مرّ عن «الفقيه» سُئل الصادق (عليه السّلام) عن جلود الميتة

يجعل فيها اللبن و الماء و السمن، ما ترى فيه؟

فقال: «لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن، و تتوضّأ منه و تشرب، و لكن لا تصلّ فيها» «6».

و في «الفقيه»: سأل عليّ بن جعفر أخاه موسى بن جعفر (عليه السّلام) عن

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2: 5، مفتاح الكرامة 4: 13/ السطر 26.

(2) لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 5.

(3) المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 1: 80 83.

(4) تهذيب الأحكام 1: 277/ 815، الاستبصار 1: 192/ 674.

(5) ملاذ الأخيار 2: 418.

(6) الفقيه 1: 9/ 15، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 34، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 381

الرجل، فذكر مثله «1».

فلو كانت الاولىٰ من المرسلات غير المعتبرة؛ لعدم الإسناد فيها إلى المعصوم، فلا تشكل الثانية؛ لإسنادها إلىٰ عليّ بن جعفر (عليهما السّلام) الذي هو دون المعصوم، فعلى ما تقرّر يجمع بين جميع ما سرده الأصحاب و ذكروه بين هاتين جمعاً عقلائيّاً، فيحمل الظاهر على النصّ، و اللّٰه العالم.

و أنت خبير بما فيه جدّاً.

و أمّا ما في «الوسائل» من حملها على التقيّة «2»، فلا يخلو من تأسف بعد ما عرفت من فتواهم.

و منها: الطائفة القاضية بعدم البأس في أكل الخبز الذي كان عجن بماء ماتت فيه الفأرة، و كانت فيه الميتة؛ معلّلًا بأنّ «النار أكلت ما فيه» «3» فإنّ التعليل يناسب طهارة الميتة، كما لا يخفىٰ.

و الإشكال في سندها بعد كون الراوي مثل ابن أبي عمير؛ لما قال فيه النجاشي «4»، لا يضرّ، و لا سيّما بعد إفتاء الشيخ علىٰ طبقها بجعل النار من المطهّرات في الجملة «5» علىٰ ما ببالي، و الأمر بعد ما

أحطت به خبراً واضح لا سبيل إلىٰ إنكاره جدّاً.

______________________________

(1) انظر الفقيه 1: 43/ 169.

(2) وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 34، ذيل الحديث 5.

(3) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1304، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 18.

(4) رجال النجاشي: 326/ 887.

(5) النهاية: 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 382

إذا علمت ذلك، فالبحث حول خصوصيّات المسألة يتمّ في ضمن جهات:

الجهة الاولىٰ: في حكم ميتة مأكول اللحم

قضيّة الإجماعات الكثيرة و الأخبار علىٰ كثرتها، عدم الفرق بين الميتة من مأكول اللحم و محرّمه، و من استشكل فيها أو في أصل الحكم، لم يفصّل بين الفرضين.

و يمكن الشبهة بدعوىٰ: أنّ الأخبار الدالّة علىٰ نجاسة الميتة غير مطلقة؛ لكونها أمّا مشتملة علىٰ قضايا خارجيّة، أو تكون في مقام آخر كما أُشير إليه. و إثبات الإطلاق السكوتيّ بترك التفصيل و الاستفصال في عبارة الوالد المحقّق مدّ ظلّه «1» غير ممكن؛ لمعلوميّة حكم المسألة عند السائل، و لكنّه عندنا غير واضح أنّ ما هو الواضح عنده هو نجاسة مطلق الميتة، أو الميتة من غير المأكول لحمه.

و أمّا الأخبار التي ذكرناها «2»، فهي قاصرة عن إثبات نجاسة الميتة إلّا إجمالًا؛ لأنّ أقواها دلالة معتبر حفص: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» «3».

و هو مهمل في المستثنىٰ، دون المستثنىٰ منه، و ما حكي عن الشيخ

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 45.

(2) تقدّم في الصفحة 377 380.

(3) تهذيب الأحكام 1: 231/ 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 383

من دعوى الإطلاق «1»، غير متين جدّاً، فتأمّل جيّداً.

فتحصّل: أنّ للتفصيل مجالًا و إن

سكت عنه المتقدّم و المتأخّر، و لا يحتمله أحد؛ و ذلك لأنّ القدر المتيقّن من تلك الأخبار ميتة المأكول، لأنّها المتعارف في الابتلاء بها.

اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم دلالة أخبار الماء المتغيّر على النجاسة، كما ذكرنا سببها «2»، و هكذا روايات البئر؛ لأنّ الحكم إذا كان هناك استحبابيّاً، فلا يستفاد منه نجاسة الواقع في البئر، بل ربّما كان الأمر بذلك للتنزّه كما هو الظاهر، فما ترى في الباب الخامس عشر من إرداف الحمار و البعير و الجمل بسائر النجاسات «3»، لا يفيد شيئاً أصلًا كما توهّم.

أو يقال: بأنّ المتعارف هو الابتلاء بالميتة و الجيفة ممّا لا يؤكل لحمه شرعاً و عادة، كالحمار و نحوه، و أمّا الابتلاء بمثل الشاة و الغنم فهو نادر جدّاً، فعلى هذا لولا مخافة مخالفة الإجماعات المتكرّرة و الإطلاق في معاقدها كان لهذه الشبهة قدم راسخ في البحث.

و لو قيل: جلود الميتة من مأكول اللحم أولىٰ بالنجاسة؛ لأنّها المتعارف في الأسواق، و بها ينتفع، و هي تستعمل عادة.

قلنا: لو سلّمنا ذلك كما هو غير بعيد، فيلزم الشبهة في نجاسة الطائفة الأُخرىٰ. و لكن الجواب: أنّ تلك الأخبار قاصرة عن إثبات

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 49.

(2) تقدّم في الصفحة 377.

(3) وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 384

النجاسة، كما عرفت.

و أمّا الأخبار الدالّة على النهي عن استعمال أواني أهل الذمّة؛ إذا كانوا يشربون و يأكلون منها الخمر و لحم الخنزير و الميتة «1»، فهي قريبة في الدلالة علىٰ نجاستها من مأكول اللحم؛ لأنّ المقصود منها هنا غير المذكى من الحيوانات المأكول لحمها؛ لأنّها أكثر ابتلاء من غيرها.

إلّا أنّ

في تلك الأخبار خدشات في محلّها؛ لأنّ الظاهر منها النهي عن مطلق الأواني و إن كانت مشكوكة الاستعمال، و هو خلاف الأصل، فيحمل على التنزيه. و لأنّ الصريح منها طهارة أهل الكتاب، و هو خلاف الحقّ، فربّما كان التعرّض للميتة لأجل قول العامّة بنجاستها. و لأنّ من الممكن كما قيل وجود الأجزاء الصغار منها فيها، و يكون أكلها محرّماً، فلا يثبت بها النجاسة «2»، فليتدبّر.

فبالجملة: بعد ما تقرّر من الشبهة في استفادة النجاسة من تلك الأخبار الكثيرة في أصل المسألة، و استفادتها من الأخبار التي ذكرناها في خصوص هذه المسألة، تصبح هذه المسألة بلا سند إلّا الإجماع، و هو المعتمد، فتدبّر.

الجهة الثانية: في حكم ميتة ما لا نفس سائلة له

ظاهر الأصحاب قدّست أسرارهم أنّ الميتة من ذي النفس نجسة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 24: 210، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 54.

(2) مدارك الأحكام 2: 268.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 385

و عن السيّد الإشكال في صدق «الميتة» علىٰ ميتة غير ذي النفس «1»، و هو مقتضىٰ معتبر حفص «2». و لو استشكل في السند «3» فهو من تلك الجهة منجبر بعمل الأصحاب (قدّس سرّهم) و هذا هو الأمر المتسالم عليه، و من المسلّمات المفروغ عنها، و لا ينظر فيها.

نعم، يمكن الخدشة: بأنّ قضيّة الروايات حسبما يفهمها المشهور؛ نجاسة الميتة و الجيفة و لا قيد فيها، و لا تعرّض في إحداها إلّا في رواية حفص بن غياث الماضية مراراً: «لا يفسد الماء إلّا ما له نفس سائلة» «4» بناءً علىٰ إرادة الدم السائل منها.

و مثلها ما عن محمّد بن يحيىٰ، رفعه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام).

و أنت خبير: بأنّ مستندهم لا يمكن أن يكون مثله، فيعلم اشتهار الحكم بينهم من

باب آخر. و من المحتمل انصراف الأخبار بكثرتها إلىٰ تلك الطائفة، و أنّ الغالب من الحيوانات المبتلىٰ بها في الطريق و في الأسئلة ما كانت لها الدم، فكأنّهم من الأخذ بالقدر المتيقّن أفتوا بذلك، و هو غير كافٍ لنا، فيرجع إلىٰ تلك المطلقات، و قد بلغني عن شيخ مشايخنا العلّامة الحائريّ (قدّس سرّه) أنّه كان يشكل في الجمع بين المطلقات الكثيرة

______________________________

(1) الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 218/ السطر 6 7.

(2) تهذيب الأحكام 1: 231/ 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 2.

(3) تقدّم في الصفحة 377 378.

(4) الكافي 3: 5/ 4، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 386

و المقيّد الواحد.

فعليه لو سلّمنا اعتبار خبر حفص كما هو الأقوىٰ، فيحمل علىٰ أنّ الميتة من ذي النفس إذا غيّرت الماء ينجس و يفسد، و لا يثبت به أنّ الميتة النجسة هي ذلك، كما لا يخفىٰ.

و أمّا البحث الصغرويّ عن الحيوانات التي لها النفس، و ما ليس لها، فقد مضى تفصيله «1».

إن قلت: كيف لا يكون هذا القيد في رواية، و قد نطقت به معتبرة عمّار الساباطيّ في الباب الخامس و الثلاثين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك، يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه.

قال: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس» «2».

و في الباب المزبور أيضاً معتبر ابن مُسْكان قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): «كلّ شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس»

«3».

و فيه أيضاً بعض المآثير المتعرّضة للصغريات و الأسئلة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 294 297.

(2) تهذيب الأحكام 1: 230/ 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 230/ 666، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 387

الجزئيّة «1»، فراجع.

قلت: نعم، و لكنّها عندنا أجنبيّة عن هذه المسألة؛ فإنّ الحيوانات بعضها ما له الدم السائل، و بعضها ما له الدم غير السائل، و ربّما كان دمه أكثر مراراً من الدم السائل في بعض، و بعضها ما لا دم له أصلًا، أو يعدّ عرفاً ممّا لا دم له، و هذا المآثير تثبت طهارة ما لا دم له رأساً، و أمّا فهم الأصحاب (رحمهم اللّٰه) منها غير ذلك؛ فلمغروسيّة أذهانهم بالإجماعات و المتون، فمع الغضّ عمّا في سند بعضها، و دلالة الآخر، لا تكون هذه الطائفة مرتبطة رأساً بهذه المسألة أصلًا، فلا تغفل و لا تخلط، و اغتنم.

و دعوىٰ: أنّ الجزئيّات المذكورة في الروايات، من ذوات الدم، غير مسموعة؛ فإنّ النملة بلا دم بلا شبهة، بل و العقرب و الوزغ. مع أنّه لو كان فيها الدم فهو في غاية القلّة؛ بحيث لا تعدّ من ذي الدم عرفاً.

و لعلّ إلىٰ ذلك يرجع ما عن «الوسيلة» و «المهذّب» من الإشكال في طهارتهما «2»، و هكذا ما عن الشيخين في «المقنعة» و «النهاية» «3» و عن الصدوق في بعض كتبه «4».

و أمّا توهّم معارضة هذه الأخبار مع ما يدلّ ظاهراً علىٰ نجاسة العقرب و الوزغ في أخبار البئر و غيرها «5»، فهو في غير محلّه؛ لما مرّ في

______________________________

(1) وسائل الشيعة

3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35.

(2) المهذّب 1: 53، الوسيلة: 78.

(3) المقنعة: 70، النهاية: 54.

(4) المقنع: 35، جواهر الكلام 5: 295.

(5) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 527، مهذّب الأحكام 1: 320.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 388

محلّه «1»، و لأنّ قضيّة الجمع العقلائيّ بين النصّ و الظاهر، حمل الثانية على الاولى.

و لعمري، لولا الشبهة التي ألقيناها على الإطلاقات التخيّليّة في المسألة، كان عليهم إلغاء هذا القيد. بل قضيّة المفهوم من الطائفة المسبوق ذكرها «2»؛ أنّ ما له الدّم فيه البأس؛ سواء كان سائلًا، أو غير سائل، فيكون الطاهر ما لا دم له حقيقة أو عرفاً.

و توهّم: أنّ الضرورة و السيرة العمليّة كما تكون قائمة علىٰ نجاسة الميتة الكذائيّة، ناهضة علىٰ طهارتها إذا كانت من غير ذي النفس، واضح المنع.

الجهة الثالثة: في حكم ميتة حيوان البحر

قضيّة الإطلاقات و معاقد الإجماعات نجاسة الميتة البحريّة كالبرّية، و عن «المنتهىٰ» و في «التذكرة» عبارتان لا تخلوان من اضطراب «3»، فلا يعلم من يقول بالتفصيل بين البحريّة و البرّية منّا، و لا من أهل الخلاف، فما قد يتوهّم من ذهاب أبي حنيفة إليه «4» غير سديد.

هذا مع أنّ من الممكن ذلك لهم و لنا:

أمّا لهم؛ فلما روي عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في «الخلاف» في المسألة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 44 46.

(2) تقدّم في الصفحة 386.

(3) لاحظ منتهى المطلب 1: 164/ السطر 35، تذكرة الفقهاء 1: 61.

(4) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 389

الثانية: أنّه سُئل عن التوضّي بماء البحر.

فقال: «هو الطهور ماؤُه، و الحلّ ميتته» «1».

و قضيّة ذلك طهارة الميتة البحريّة و لو كانت ذا نفس سائلة.

و أمّا لنا؛ فلما روى «الوسائل»

في كتاب الصيد و الذباحة في الباب الواحد و الثلاثين، عن ابن أبي عمير، عن ابن المغيرة، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الحوت ذكيّ حيّه و ميّته» «2».

و في الباب المزبور، عن عمر بن هارون الثقفيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): الجراد ذكيّ كلّه، و الحيتان ذكيّ كلّه، و أمّا ما هلك في البحر فلا تأكل» «3».

فإنّ النهي الأخير لا يضادّ كون الحيتان طاهرة كما لا يخفىٰ. و حيث إنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فإمّا يرجع إلى الأُصول العمليّة و هي الطهارة، أو إلى الجمع العقلائيّ، و لا يبعد تقديم هذه الطائفة؛ لصراحتها في أنّ الميتة ذكيّة، و في صورة المراجعة إلى المرجّحات فالتقديم لتلك الطائفة؛ لموافقتها مع الشهرة.

نعم، ربّما يمكن دعوى: أنّ المراد من «الذكيّ» بالذال هو المذكى، قبال الميّت، كما في رواية أُخرى في الباب المزبور: «أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يقول: الجراد ذكيّ، و الحيتان ذكيّ، فما مات في البحر فهو ميّت» «4».

______________________________

(1) الخلاف 1: 52، سنن الترمذي 1: 47، الباب 52، الحديث 69.

(2) وسائل الشيعة 24: 74، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 31، الحديث 5.

(3) نفس المصدر، الحديث 7.

(4) نفس المصدر، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 390

فإنّه دليل علىٰ ذاك الاحتمال.

اللهمّ إلّا أن يقال: تنصيصه في الرواية الأُولىٰ علىٰ أنّ ميّتة ذكي ينافي ذلك الاحتمال، فيحمل علىٰ أنّ المراد من «الذكيّ» فيها هو الطاهر، و من «الذكيّ» في الأُخرىٰ هي الذكاة، فعلى هذا ما أرسله الأصحاب إرسال المسلّمات من نجاسة الميتة البحريّة، و ادعىٰ علىٰ خصوص ذلك في «التذكرة» الإجماع، مع أنّه مضطرب

العبارة «1» فراجع، غير راجع إلىٰ محصّل، بل يستظهر من الشيخ في «الخلاف» كما في «مفتاح الكرامة» قال: «و ربّما يظهر من «الخلاف» طهارة ميتة الماء، و لعلّه محمول على الغالب من كونه غير ذي النفس» «2» انتهىٰ أنّ المسألة ليست إجماعيّة، و الحملَ المزبور بلا شاهد.

هذا مع أنّ دعوى قصور الأدلّة عن إثبات نجاستها، قريبة جدّاً؛ من غير الحاجة إلى الأدلّة الخاصّة كما ترى.

الجهة الرابعة: في بيان المراد من «الميتة»

قال في «العروة»: «المراد من الميتة أعمّ ممّا مات حتف أنفه، أو قتل أو ذبح علىٰ غير الوجه الشرعيّ» «3» انتهىٰ.

اعلم: أنّ البحث هنا مقصور علىٰ حكم الميتة بحسب النجاسة

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 61.

(2) الخلاف 1: 189، مفتاح الكرامة 1: 138/ السطر 18.

(3) العروة الوثقى 1: 60، فصل في النجاسات، الرابع الميتة، المسألة 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 391

و الطهارة، من غير النظر إلىٰ سائر الأحكام؛ من جواز الصلاة و لا جوازها، و من جواز الانتفاع و عدمه، و من جواز المعاملة عليها، و غير ذلك، فلا ينبغي الخلط. و لا برهان على الملازمة في تلك الأحكام، فيمكن أن نلتزم بأعمّية المراد في سائر الأحكام، دون هذا الحكم، فالبحث في غيره يطلب من محالّ أُخر؛ للاحتياج إلى التتبّع و الغور في الأخبار الكثيرة المتشتّتة.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ كلمة «المَيتة» بالفتح و السكون كانت تستعمل في الجاهليّة و قبل الكتاب، و يستعملها القرآن العزيز، و يراد منها المعنى الأعمّ، كما هو غير خفيّ علىٰ أهله وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنٰاهٰا .. «1».

و مثلها كلمة «الميّت» .. سُقْنٰاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ «2».

و لا معنىٰ لتوهّم: أنّ الكلمة وضعت لمعنى شرعيّ، كما يظهر من بعض أصحابنا «3»، و

من «المنجد» «4» قائلًا في تفسيرها: «الميتة: الحيوان الذي مات حتف أنفه، أو علىٰ هيئة غير شرعيّة» بل هي تستعمل في الشرائع إمّا مجازاً، أو حقيقة لغويّة.

و لنعم ما قال «الأقرب»: «و المراد بالميتة في عرف الشرع؛ ما مات حتف أنفه، أو قتل علىٰ هيئة غير مشروعة إمّا في الفاعل، أو في

______________________________

(1) يس (36): 33.

(2) فاطر (35): 9.

(3) دروس في فقه الشيعة 2: 388.

(4) المنجد: 779.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 392

المفعول» «1» انتهىٰ.

فإنّ المستفاد من اللغة بعد التدبّر؛ أنّ هذه الكلمة موضوعة لمعنى أعمّ ممّا يكون فيه الحياة الحيوانيّة و النباتيّة فزالت، أو كانت فاقدة لآثار الحياة و الحركة الطبيعيّة و الآثار المقصودة. و لو سلّمنا مجازيّة الاستعمال في الفرض الأخير، و لكن التحقيق عدم مجازيّته في غيره.

و من يشكّ فيما نردفه و نسرده، فليراجع موارد الاستعمال و الكتب الموضوعة في اللغات، و لو لا مخافة الإطالة المزعجة لسرنا لكم من اللغة ما يحصل به الظنّ القويّ جدّاً، فإذا كان الحيوان زاهقةً روحه بالوجه الشرعيّ، فهو أيضاً ميتة حسب اللغة قطعاً و بلا شبهة، و لكنّه خارج عن هذه الأخبار؛ لما نعلم من الخارج ذلك كمٰا لا يخفىٰ.

و ممّا ذكرنا يظهر الخدشة فيما توهّمه الأصحاب (رحمهم اللّٰه) مستدلّين بالأخبار المتضمّنة لمقابلة الميتة بالمذكّى مثلًا «2»، فإنّ ذلك في محيط الشرع لإفادة الحكم الخاصّ، و لا يستفاد من الاستعمالات المزبورة المعاني الحقيقيّة كما تقرّر «3».

و أمّا بناءً على اختصاص مفهوم «الميتة» بما مات حتف أنفه حسب اللغة، كما عرفت عن بعضهم فلا يمكن استفادة العموميّة من هذه

______________________________

(1) أقرب الموارد 2: 1251.

(2) دروس في فقه الشيعة 2: 388.

(3) تحريرات في الأُصول 1:

169 170.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 393

الأخبار «1» التي استدلّ بها الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) و تبعه جماعة من الفضلاء «2»؛ و ذلك لأنّ من الممكن قريباً إفادة عدم اختصاص الحكم المخصوص بالميتة بها، بل يعمّ غيرها ممّا لا يذكّى شرعاً، فهذا من قبيل الحكومة الاصطلاحيّة، فإذا قيل عن الجاهل: «هو عالم» لا يدلّ ذلك علىٰ أعمّية الموضوع له، بل هو لغرض آخر، فتدبّر.

و حيث إنّ ظاهر الأصحاب (رحمهم اللّٰه) بناؤهم علىٰ أنّ المعنى اللغويّ للميتة ما مات حتف أنفه، و لا يطلق على المقتول و لا المذبوح بذبح غير شرعيّ، فيشكل الأمر عليهم؛ لعدم ثبوت الإطلاق في دليل الحاكم، فلو ورد في دليل استعمال «الميتة» في مقابل المذكى، فإن كان ذلك مورد النظر مستقلا فهو، و إلّا فينحصر التنزيل و الحكومة بمورد خاصّ.

و بعبارة اخرىٰ: تصير الحكومة حيثيّة، لا مطلقة، فلا تخلط.

و إنّي بعد ما راجعت المآثير، رأيتها على ما تتبّعت ناظرة إلى التنزيل الخاصّ؛ لتعرّض الروايات لحكم خاصّ، مثل عدم جواز الصلاة فيها، أو عدم جواز الانتفاع بها.

هذا، و لكنّا في مخلص من الشبهة؛ لما عرفت من عموميّة معناها، فقوله (عليه السّلام) في موثّقة سَماعة في الباب التاسع و الأربعين: «إذا رميت

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 49، الحديث 1 و 2 و الباب 50، الحديث 4.

(2) دروس في فقه الشيعة 2: 388.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 394

و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا» «1» و قوله في خبر عليّ بن أبي حمزة قال: «و ما الكيمخت؟» قال: «جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّاً، و منه ما يكون ميتة»، فقال: «ما

علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه» في الباب الخمسين «2» و غير ذلك «3»، لا يدلّ علىٰ أنّ حكم الميتة المفروغ عنها و هي النجاسة ثابت لمطلق غير المذكى، فافهم و اغتنم.

ثمّ، أنّ صحّة التنزيل و الاستعمال المجازيّ و الحكومة المصطلحة، تتوقّف- فيما إذا كان للمنزّل عليه أحكام مختلفة علىٰ ثبوت الإطلاق في دليل المنزّل عليه، و إلّا فلا يثبت المقصود.

مثلًا: إذا كانت لعنوان «الميتة» أحكام خاصّة، مثل عدم جواز الانتفاع بها، و عدم جواز الصلاة فيها، و عدم صحّة المعاملة عليها، و نجاستها، و كان دليل نجاسة الميتة مهملًا، فمجرّد إطلاق «الميتة» علىٰ غير المذكى لا يكفي في سراية الأحكام مطلقاً إليها؛ لكفاية ترتيب بعض الآثار للفرار عن اللغويّة، و حيث قد عرفت منّا الخدشة في إطلاق أدلّة نجاستها «4»، فلا يمكن إثبات الحكم المقصود هنا.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 79/ 339، وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 49، الحديث 2.

(2) تهذيب الأحكام 2: 368/ 1530، وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 50، الحديث 4.

(3) الكافي 3: 407/ 16، وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 49، الحديث 1.

(4) تقدّم في الصفحة 382 383.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 395

و ممّا حصّلناه إلىٰ هنا، تظهر الخدشة في الاستدلال «1» بما ورد في كتاب الذباحة من إطلاق «الميتة» على الأليات المقطوعة، فإنّها بزمرتها ناظرة إلىٰ منع الانتفاع منها «2»، فراجع.

و ما ترى في خبر عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: «إنّها ميتة» «3» لا يكفي كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّ قضيّة

ما ورد في بعض الروايات من السؤال عن الجيفة «4» بناءً علىٰ تماميّة الاستدلال بها هو نجاسة غير المذكى؛ لأنّ الجيفة أعمّ من الميتة من هذه الجهة.

نعم، أعمّية الميتة من الجيفة من وجه آخر، لا يضرّ بالمقصود؛ ضرورة أنّ الحيوان الحيّ المتعفّن نادر الوجود، و غير مقصود في هذه المآثير بالضرورة.

فعلى ما تحرّر إلىٰ هنا، عرفت نجاسة الحيوان غير المذكى شرعاً أيضاً؛ لأنّه أيضاً ميتة لغةً.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 389.

(2) وسائل الشيعة 24: 71، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30.

(3) الكافي 6: 255/ 2، وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30، الحديث 3.

(4) تهذيب الأحكام 1: 231/ 667، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 22، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 396

الجهة الخامسة: في الأجزاء المبانة من الميتة
اشاره

الأجزاء المبانة من الميتة حسب الإجماعات المحكيّة «1» و الشهرات المحقّقة نجسة عندنا، بل المسألة اتفاقيّة بين المسلمين إلّا في بعض العناوين الخاصّة، و أمّا هذا العنوان العامّ الكلّي فليس معنوناً في كلمات القدماء، و كأنّه لعدم الحاجة إليه عندهم بعد ثبوت نجاسة الميتة، فكما لا معنى لتوهّم نجاسته و طهارة أصل الميتة، كذلك الأمر هنا، و كأنّ العرف حتّى الأعلام (رحمهم اللّٰه) كانوا يرون المناقضة و الجزاف بين المسألتين؛ أي لا يمكن الالتزام بالتفكيك بين حكم الكلّ و حكم الجزء.

و الشبهة الصناعيّة كما ربّما كانت في ذهن «المدارك» و «المعالم» و «الذخيرة» «2» و لعلّها كانت من الأردبيليّ (قدّس سرّه) ألقاها علىٰ تلامذته «3» تؤدّي إلىٰ طهارة ميتة الكلب و الخنزير؛ لأنّ ما هو النجس هو الحيوان، فالذي مات و زهقت روحه ليس حيواناً؛ ضرورة أنّ

شيئيّة الشي ء بصورته، فهو ليس كلباً، فلا يدلّ دليل نجاسة الكلب علىٰ نجاسة ميتته، فما ترى في كتب المتأخرين ك «الجواهر» «4»

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 171، الحدائق الناضرة 5: 72، مهذّب الأحكام 1: 308.

(2) مدارك الأحكام 2: 272، منتقى الجمان 1: 85، ذخيرة المعاد: 147/ السطر 30.

(3) لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 1: 305.

(4) جواهر الكلام 5: 312.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 397

و غيره «1»: من المقايسة بين المسألة و مسألة الكلب، في غير محلّه.

و الذي قد عرفت منّا: أنّ «الميتة» و «الموت» و «الإماتة» و جميع المشتقّات منها، أعمّ ممّا تخيّله القوم، و لا تكون الاستعمالات المتعارفة في الكتاب و السنّة مجازيّة؛ حسبما يتراءىٰ من اللّغة، بل الموضوع له معنىً يشمل الأرض الميتة و غيرها «2».

و أمّا علىٰ ما يتراءىٰ منهم، فيمكن تثبيت الشبهة: بأنّ الميتة من العوارض اللاحقة للحيوان كالتذكية، فكما لا يطلق «الذكيّ» على الجزء، كذلك مفهوم «الميتة» فالنجاسة بالنسبة إلى الجزء المنفصل منه، تحتاج إلىٰ ضمّ المقدّمة الأُخرىٰ إليها: و هي دعوى القطع بالملاك «3»، أو إلغاء الخصوصيّة عرفاً «4»، أو سريان الحكم إلى الجزء عند العقلاء «5»، كما في عبارات الأقوام و الأعلام حسب اختلاف أذواقهم.

و أنت خبير بما فيه من استشمام القياس بعد تعدّد الموضوع عرفاً، و عدم الاطلاع علىٰ عدم الخصوصيّة مثلًا، فليتدبّر.

و من الممكن دعوى: أنّ جزءه المتّصل إذا لوحظ مستقلا، لا يطلق عليه «الميتة» كما لا تطلق «الصلاة» على الركوع إذا لوحظ بحيالها، فعليه لا يتنجّس ملاقيه.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 343.

(2) تقدّم في الصفحة 391 392.

(3) جواهر الكلام 5: 312.

(4) دروس في فقه الشيعة 2: 342، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه)

3: 83.

(5) مهذّب الأحكام 1: 308.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 398

نعم، لو لاقىٰ جميع الأجزاء أو معظمها ينجس، و هكذا في سائر الأحكام لو كان الدليل هناك كالدليل هنا، كما لا يخفىٰ. و من هنا يعلم وهن الشبهة في الحكم و لو كانت هي تامّة موضوعاً.

و بعبارة أُخرى: تارة يشير إلىٰ يده بحيال جثمانه، و أُخرى: يشير إلىٰ يده الفانية في الكلّ؛ أي إلىٰ جثمانه و إن كانت يده طرف الإشارة خارجاً، ففي الفرض الأوّل يشكل الحكم بنجاستها؛ بناءً علىٰ ما سلكه الأصحاب في مفهوم «الميتة».

نعم، ربّما يتخيّل دلالة النصوص في الأبواب المتفرّقة عليها «1»، و لا سيّما ما ورد في كتاب الذباحة في الباب الرابع و العشرين من إطلاق «الميتة» علىٰ ما ينفصل من الحيّ «2».

و لكنّها قاصرة عن إثبات عموم التنزيل، كما عرفت منّا وجهه «3»، فما ترى في «الجواهر» «4» و تبعه بتفصيله الوالد المحقّق- مدّ ظلّه من الإصرار علىٰ إثبات الإطلاق في الاستعمال و التنزيل «5»، غير قابل للتصديق، و سيأتي زيادة بحث في الجهات الآتية حولها.

و أضعف منها صحيحة الحلبيّ في الباب الثامن و الستّين من النجاسات المشتملة علىٰ نفي البأس بالصلاة فيما كان من صوف

______________________________

(1) جواهر الكلام 5: 314.

(2) وسائل الشيعة 23: 376، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الصيد، الباب 24.

(3) تقدّم في الصفحة 394.

(4) جواهر الكلام 5: 314.

(5) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 399

الميتة: «إنّ الصوف ليس له روح» «1» فإنّ مفهومه «أنّ ما فيه الروح و يكون مباناً من الحيّ، يجوز فيه الصلاة إجمالًا» و أين هذا من نجاسة الجزء المبان من الميتة؟! فلا

تخلط.

و من هنا تظهر سائر الاستدلالات في المقام. و لعمري إنّ المسألة بعد المراجعة إلىٰ ما أشرنا إليه، من البديهيّات جدّاً.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على النجاسة بالاستصحاب «2»، و لكنّه مضافاً إلىٰ أخصّيته من المدّعىٰ، كما هو غير خفيّ؛ لعدم الحالة السابقة في بعض الصور محلّ إشكال؛ لأنّ ما هو المعلوم سابقاً هي نجاسة عنوان «الميتة» أي أنّ ما هو النجس في السابق ما كان موصوفاً بالميتة، و مورد الشكّ هو الجزء المباين معها موضوعاً، فلٰا يجري الاستصحاب، كما لا يمكن التمسّك بالدليل الاجتهادي المثبت نجاسة الميتة لإثبات نجاسة الجزء.

و فيه: أنّ الموضوع و مصبّ الاستصحاب نفس الجزء الخارجيّ، فيقال بعد ثبوت نجاسة الميتة: «إنّ هذا الجزء كان نجساً، و الآن كما كان» من غير الحاجة إلىٰ سائر التشبّثات في إجرائه.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الجزء حال الاتصال إذا لوحظ بحيال الكلّ، لا يحكم عليه بالنجاسة كما عرفت، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 368/ 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 1.

(2) جواهر الكلام 5: 312، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 83.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 400

تذنيب

ظاهر الأصحاب (رحمهم اللّٰه) أنّ حكم النجاسة بالنسبة إلى الأجزاء الصغار من الميّتة إجماعيّ «1»؛ لأنّ ما كان كثيره نجس فقليله نجس، و إلّا يلزم عدم نجاسة الكثير منه كما لا يخفىٰ.

نعم، لو شكّ في صدق «الميتة» عليه؛ لما أنّه في غاية الصغر، فالقاعدة تقتضي طهارته.

الجهة السادسة: في حكم الأجزاء التي لا تحلّها الحياة
اشارة

الأجزاء التي لا تحلّها الحياة طاهرة عند المسلمين إجمالًا، و الخلاف بينهم في خصوص بعض منها كما يأتي، و قد عدّها الأصحاب إلىٰ عشرة و عليها الإجماعات المحكيّة عن «كشف اللثام» و «المدارك» و «الذخيرة» «2» و في بعض منها الاتفاق المحصّل، كالشعر و الصوف، و عليه الإجماع في «الغنية» و في «المنتهىٰ» «3» دعوى الإجماع علىٰ خصوص العظم.

و قال الشيخ في «الخلاف»: «لا بأس باستعمال أصواف الميّت

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 171، الحدائق الناضرة 5: 72، جواهر الكلام 5: 311.

(2) كشف اللثام 1: 49/ السطر 7، مدارك الأحكام 2: 272، ذخيرة المعاد: 147/ السطر 38.

(3) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 5، منتهى المطلب 1: 164/ السطر 25.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 401

و شعره و وبره إذا جزّ و عظمه، و به قال أبو حنيفة.

و قال الشافعيّ: شعر الميّت و صوفه و عظمه نجس، و به قال عطا.

و قال الأوزاعيّ: الشعور كلّها نجسة، لكنّها تطهر بالغسل، و به قال الحسن البصريّ، و الليث بن سعد.

و قال مالك: الشعر و الريش و الصوف لا روح فيه، و لا ينجس بالموت كما قلناه، و العظم و القرن و السنّ يتنجّس.

و قال أحمد: صوف الميتة و شعرها طاهر» «1» انتهىٰ.

و حيث يرجع فتوى القائل بزوال النجاسة بالغسل إلى النجاسة العرضيّة ظاهراً، ينحصر المخالف بالشافعيّ و عطا في الشعر

و الصوف، و يلحق بهما مالك في المذكورات، مع ما في عبارته من سوء التعبير «2»، فراجع.

و حيث إنّ المسألة ذات الرواية عموماً و خصوصاً، فلا حاجة إلىٰ تلك الإطالة. مع أنّك عرفت إمكان وجود التقيّة في الجملة لو فرضنا صدور رواية دالّة علىٰ طهارة بعض المذكورات.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ قضيّة القاعدة نجاسة جميع أجزاء الميتة؛ قضاءً لحقّ ما دلّ علىٰ نجاستها، فإنّ ما يورث سرايتها من الميتة إلىٰ سائر الأجزاء، يستلزم ذلك بالنسبة إلىٰ جميعها و إن لم تحلّها الحياة.

و ربّما يستظهر من السيّد الوالد- مدّ ظلّه أنّ ما يدلّ علىٰ نجاسة

______________________________

(1) الخلاف 1: 66.

(2) المجموع 1: 231/ السطر 17 و 236/ السطر 12 13، بداية المجتهد 1: 80.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 402

الجيفة، قاصر عن إثبات نجاستها؛ لعدم سريان الإنتان و التجيّف إليها؛ لما ليس فيها الروح مثلًا، و أنّ ما يدلّ علىٰ نجاسة الميتة لا يورث لحوق الأجزاء بها.

نعم، العرف كان قاضياً بذلك، و هو يخصّ مصبّ حكمه و قضائه بغير تلك الأجزاء، و لا أقلّ من الشبهة و الشكّ «1».

و أنت خبير: بأنّ ذلك منقوض أوّلًا؛ بما ورد في أخبار لزوم الغُسل علىٰ من مسّ الميّت «2»، بأنّه لو كان الأمر كما توهّم لما كان يجب عند إمساس الشعر، فهو شاهد علىٰ لحوقه بها عرفاً.

و ثانياً: قد عرفت أنّ «الميتة» معنى أعمّ ممّا تخيّلوه «3»، و تصدق على الأجزاء إذا سقطت عن الآثار المرغوبة فيها فتأمّل، ففي الباب الثامن و الستّين من أبواب النجاسات، عن قتيبة بن محمّد قال قلت: «إنّا نلبس الطيالسة البربريّة، و صوفها ميّت» «4» فراجع.

و ثالثاً: كما لا يجد العرف فرقاً بين

الدم و العظم، و بين اليد و الرجل، كذلك لا يجد ذلك فيما نحن فيه بالوجدان.

و لو قطعنا النظر عمّا ورد في خصوص هذه المسألة من الدليل اللّبّي و اللفظي، لما ظننت التزام أحد بالطهارة بعد ما وردت المآثير علىٰ نجاسة

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 99.

(2) وسائل الشيعة 3: 289، كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، الباب 1.

(3) تقدّم في الصفحة 391 392.

(4) وسائل الشيعة 3: 514، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 403

الميتة، فما ترى في «الجواهر» من إنكار الحاجة إلى التخصيص و التقيد «1»، في غير محلّه جدّاً.

نعم، لو شكّ في ذلك فقضيّة الاستصحاب هي الطهارة الثابتة حال الحياة المشكوك زوالها بالموت. و لو كان دليل نجاسة الأجزاء المبانة من الميتة الإجماعات المحكيّة، كان للقول المزبور وجه كما لا يخفىٰ.

و أمثال هذه الالتحاقات عرفاً في الفقه غير عزيزة، فإنّ الأصحاب (رحمهم اللّٰه) جوّزوا أكل دم السمك إذا كان يبتلع السمك «2»، و ما ذاك إلّا لهذا.

إذا اطلعت علىٰ ما أسمعناك خبراً، فالكلام يتمّ في مرحلتين:

المرحلة الاولىٰ: حول هذا العنوان العامّ؛ و أنّه هل يمكن إثباته حسب ما وصل إلينا، أم لا؟

المرحلة الثانية: حول خصوص الأخبار الواردة في خصوص الأشياء المستثناة من نجاسة الميتة.

أمّا المرحلة الاولىٰ:

فيدلّ عليه مضافاً إلى الإجماعات المحكيّة المذكورة «3» على العنوان المزبور معتبر الحلبيّ في «الوسائل» عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

______________________________

(1) جواهر الكلام 5: 321.

(2) جواهر الكلام 36: 170.

(3) تقدّم في الصفحة 400.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 404

«لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة؛ أنّ الصوف ليس فيه روح» «1».

و في الباب المزبور

عن «مكارم الأخلاق» للطبرسيّ، عن قتيبة بن محمّد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّا نلبس هذا الخزّ و سداه ابريشم ..

إلىٰ أن قال قلت: إنّا نلبس الطيالسة البربريّة و صوفها ميّت.

قال: «ليس في الصوف روح؛ ألٰا ترى أنّه يجزّ و يباع و هو حيّ؟!» «2».

و توهّم أجنبيّتها عن الدلالة على الطهارة و النجاسة؛ بأنّ الأُولىٰ بصدد ترخيص الصلاة من أجل أنّه ذكيّ، لا مطلقاً، و أنّ الثانية في مقام تجويز الانتفاع بالميتة، في محلّه بالنسبة إلى الأخيرة. مع عدم وضوح سندها.

و أمّا الاولىٰ، فالحكم فيها ليس حيثيّاً أصلًا، فيعلم منه: أنّ كلّ ما كان غير ذي روح فهو طاهر، و يثبت المطلوب.

نعم، خصوص «الدم نجس» استثناء، و توهّم أنّه ذو روح في غير محلّه؛ لما أنّ المراد من «الروح» هو الروح الحسّاس الحيوانيّ لا الروح النباتيّ، و لا روح الحيوانات الدمويّة.

و أمّا الاجزاء الزائدة إذا كانت خليّة عن الروح، أو كانت إحدى الأعضاء غير ذات روح نقصاناً في الخلقة، ففي نجاستها إشكال.

اللهمّ إلّا أن يقال: النظر في الرواية إلى الجهة النوعيّة، لا

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 368/ 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 1.

(2) مكارم الأخلاق: 107، وسائل الشيعة 3: 514، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 405

الشخصيّة.

و ربّما يدلّ عليه معتبر حمّاد، عن حريز في الأطعمة المحرّمة قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) لزرارة و محمّد بن مسلم: «اللبن و البيضة ..» إلىٰ أن قال: «و كلّ شي ء يفصل من الشاة و الدابّة فهو ذكيّ ..» «1».

و معتبر الحسين بن زرارة و هو عندي غير بعيد

اعتباره عن أبي عبد اللّٰه في الباب المذكور قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): «العظم و الشعر و الصوف و الريش كلّ ذلك نابت لا يكون ميّتاً» «2».

و أنت خبير: بأنّ المراد من «الذكيّ» و إن كان الذكاة، و لكنّه يستلزم الطهارة قهراً، و أنّ المراد من «الشي ء المفصول» ما كان من هذه المعدودات التي لا تحلّها الحياة ظاهراً، فثبت عموم المدّعىٰ، و هكذا فإنّ المراد من «النابت» ما لا تحلّه الحياة الحيوانيّة.

و مثلهما الروايات الأُخر التي لا تخلو من إشكال «3»، و سيأتي تفصيلها في البحث الآتي.

و بالجملة: لا يبعد ثبوت هذا العنوان بنفسه، أو بما يلازمه كما

______________________________

(1) الكافي 6: 258/ 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 3.

(2) الكافي 6: 258/ 3، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 12.

(3) الفقيه 3: 219/ 1011، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 406

عرفت «1». و توهّم دلالة ذيل معتبر حريز علىٰ نجاستها مطلقاً، في غير محلّه كما يأتي.

و لكنّك تعلم: أنّ عنوان «النابت» لٰا يشمل مثل البول و العذرة و المنيّ، بخلاف عنوان «الشي ء المفصول» و «ما ليس فيه الروح» و هذا لا يضرّ بالمقصود بعد انصرافها منها، أو تخصيصها بأدلّتها، كما يخصّص بأدلّة نجاستها الكلب و الخنزير و الكافر و الميّت قبل الغسل و بعد البرد؛ إن لم نقل بقصور موضوعها عن شمول هذه الأُمور كلّها.

إن قلت: قوله (عليه السّلام): «لا يكون ميّتاً» معارض مع ما مرّ من إطلاق «الميتة» علىٰ

تلك الأجزاء «2».

قلت: نعم، و لكنّ التضاد و التمانع يرتفع بأنّ إطلاق «الميتة» حقيقة، و نفي الاسم مجاز بلحاظ نفي الحكم كما هو الشائع.

و أمّا المرحلة الثانية:

فقضيّة ما مرّ طهارة تلك الأجزاء؛ سواء جزّت، أو قلعت.

نعم، في صورة القلع ربّما يحتاج إلى الغسل لما لاقى الميتة برطوبة. و ربّما يمكن دعوى وجوب الغسل مع الاحتمال المزبور؛ قضاءً لحقّ بعض الأخبار الآتية، فتكون العلّة و الحكمة احتمال التلوّث «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 401 402.

(2) تقدّم في الصفحة 402.

(3) مشارق الشموس: 319/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 407

و يظهر من الشيخ في «الخلاف» و «النهاية» بل و «المبسوط» اختصاص الطهارة بصورة الجزء «1». و يمكن حمل كلامه علىٰ أنّ في صورة القلع لا بدّ من الغسل، فلا يقول بنجاستها العينيّة، خلافاً لما يظهر من «خلافه» من أهل الخلاف القائلين بنجاستها العينيّة «2».

و لكنّه خلاف التحقيق، فالنسبة علىٰ كلّ تقدير غير واضحة، فلاحظ و تدبّر.

و أمّا توهم نصوصيّة عبارة «النهاية» في ذلك؛ لما قال: «و لا يحلّ شي ء منها إذا قلع منها» «3» فهو فاسد؛ لأنّ ذلك أعمّ من النجاسة، و لعلّه كان لا يرىٰ جواز الصلاة فيها كما لا يخفىٰ، و الأمر بعد ذلك سهل.

و هو (قدّس سرّه) وحيد في هذا الرأي و الإفتاء، و يشهد لما ذهب إليه بعض النصوص؛ مثل ما مرّ من معتبر حَريز، عنه (عليه السّلام) قال: «و إن أخذته منه بعد أن يموت، فاغسله و صلّ فيه» «4».

فإنّ المراد من «الأخذ» هو القلع حتّى يتمّ رأيه، و لو كان الأعمّ فيكون دليلًا علىٰ نجاستها.

و هو محجوج بما مرّ؛ ضرورة أنّ الأمر بالغسل بعد النصّ الثابت علىٰ طهارته لا يشهد على

النجاسة بالضرورة. مع أنّه مخالف له

______________________________

(1) الخلاف 1: 66، النهاية: 585، المبسوط 1: 15.

(2) الخلاف 1: 66.

(3) دروس في فقه الشيعة 2: 350.

(4) الكافي 6: 258/ 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 408

و لغيره، و لم يذهب أحد إليه، فهذا الأمر تنزيهيّ؛ لما فيه بعد الموت من القذارة العرفيّة طبعاً، و لا حاجة إلىٰ حملها على الوجوب لنجاستها بالقلع، حتّى يتوسّل بارتكاز العرف علىٰ فهم تحقّق الملاقاة مع الرطوبة، كما صنعه الوالد المحقق- مدّ ظلّه «1».

فبالجملة: يتمّ الاستدلال بمثله؛ بناء علىٰ حمله على القلع، و حمل الهيئة على الوجوب، من غير اشتراط المباشرة برطوبة، فيكون الغسل واجباً.

و يمكن دعوى نجاسته العينيّة الزائلة بالغسل، كما تزول بالغسل في أموات المؤمنين.

و فيه ما لا يخفىٰ، مع أنّ قضيّة بعض الإطلاقات طهارة المنتوف، ففي الباب المزبور عن «قرب الإسناد» قال: «لا بأس بما ينتف من الطير و الدجاج ينتفع به ..» «2».

فروع
اشارة

يذكر فيها ما يتعلّق بتلك الأشياء المستثناة من الميتة خصوصاً:

الفرع الأوّل: في حكم الصوف

لا شبهة عندنا في طهارة الصوف، و هو قول أكثر أهل العلم إلّا

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 101.

(2) قرب الإسناد: 136/ 480، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 409

الشافعيّ في أحد قوليه، و هو مضطرب الرأي في هذه المسائل «1».

و يظهر من بعض الأخبار نجاسته، فعن «قرب الإسناد» في «جامع الأحاديث» قال: قال جابر بن عبد اللّٰه الأنصاريّ: «إنّ دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أيّ شي ء أطهر من الماء؟!» «2».

و عنه فيه، عن جعفر، عن أبيه (عليه السّلام): «أنّ عليّاً (عليه السّلام) قال: غسل صوف الميّت ذكاته» «3».

و لكنّه لا يقاوم الأخبار الأُخر، مع ما في دلالتها، و الطهارة مقتضى الجمع بينها.

الفرع الثاني: في حكم الشعر

و مثله الشعر قولًا و خلافاً، و استظهاراً من الرواية الأُولى المزبورة آنفاً.

الفرع الثالث: في حكم الوبر

و الوبر طاهر عند المسلمين بلا خلاف. نعم يظهر من تعليل الشافعيّ

______________________________

(1) المجموع 1: 236/ السطر 7.

(2) قرب الإسناد: 76/ 246، جامع أحاديث الشيعة 2: 124، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 16.

(3) قرب الإسناد: 153/ 560، جامع أحاديث الشيعة 2: 125، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 410

أنّ النابت نجس نجاسة «1».

و لعمري، إنّه أخذ من رواياتنا الدالّة علىٰ أنّ النابت طاهر عناداً و ظلماً، كمٰا هو دأبهم في فتاويهم علىٰ ما يظهر للمتتبّع في الآثار، و قد نصّ عليه «الكافي» في الرواية السابقة، عن الحسين بن زرارة في الباب المزبور، عنه (عليه السّلام) قال: «الشعر و الصوف و الوبر و الريش و كلّ نابت، لا يكون ميّتاً ..» «2».

و في الكتاب العزيز وَ مِنْ أَصْوٰافِهٰا وَ أَوْبٰارِهٰا وَ أَشْعٰارِهٰا أَثٰاثاً وَ مَتٰاعاً إِلىٰ حِينٍ «3».

و توهّم عدم دلالة الأُولىٰ على الطهارة، بل هو حكم حيثيّ لأجل التذكية، غير نافع كما عرفت مراراً.

الفرع الرابع: في حكم العظم

و العظم طاهر عند الكلّ إلّا الشافعيّ، فإنّه صرّح بنجاسته معلّلًا بنموّه «4».

و في المآثير في الباب المزبور رواية الحسين بن زرارة، و فيها

______________________________

(1) بداية المجتهد 1: 80.

(2) الكافي 6: 258/ ذيل الحديث 3، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 12.

(3) النحل (16): 80.

(4) المجموع 1: 238/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 411

التصريح بطهارة العظم؛ معلّلًا بأنّه من النابت «1»، و في بعضها الآخر ذكر عظام الفيل لما فيها الحاجة، فأُجيب: بعدم البأس به، و أنّه ذكيّ «2».

نعم، ربّما يستظهر من رواية «الكافي» في الباب المزبور، عن

إسماعيل بن مرار، عن يونس، عنهم (عليه السّلام) قالوا: «خمسة أشياء ذكيّة ممّا فيها منافع الخلق: الإنفحة، و البيضة، و الصوف، و الشعر، و الوبر» «3» أنّ العظم نجس؛ لعدم عدّه من الخمسة، و ظاهرها حصر الأشياء الطاهرة بها.

و أنت خبير بما في الدلالة، مع إمكان الجمع العرفيّ علىٰ إشكال، مع أنّها ضعيفة اصطلاحاً؛ لعدم توثيق إسماعيل «4» مع عدم مقاومتها لما يدلّ علىٰ ذكاة العظام.

اللهمّ إلّا أن يقال «5»: بدلالة الآية الكريمة مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ .. «6» علىٰ حياتها، و منعها واضح.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 78/ 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 12.

(2) الفقيه 3: 216/ 1006، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 10.

(3) الكافي 6: 257/ 2.

(4) تنقيح المقال 1: 144، معجم رجال الحديث 3: 183.

(5) المجموع 1: 238/ السطر 3، لاحظ جواهر الكلام 5: 322.

(6) يٰس (36): 78.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 412

الفرع الخامس: في حكم القرن و المنقار و الظفر و المخلب و الريش و الظلف و السنّ

القرن و المنقار و الظفر و المخلب و الريش و الظلف و السنّ، كلّها طاهرة عندنا «1»، و لا مخالف فيها إلّا الشافعيّ في بعضها نصّاً «2»، و في بعضها حسبما يعلّل به «3».

و في المآثير النصّ علىٰ طهارة القرن و السنّ و الناب و الحافر و الريش «4»، و ربّما يستظهر نجاستها؛ لما سمعت آنفاً، و الجواب الجواب.

الفرع السادس: في حكم البيض المأخوذ من الميتة
اشارة

البيض من مأكول اللّحم إذا كان ميتة، أو مطلق بيضة غير مأكول اللّحم، طاهر، أم نجس، أو يفصّل، فيه خلاف:

فقال العلّامة في «التذكرة»: «البيضة في الميتة طاهرة إن اكتست بالجلد الفوقانيّ، و إلّا فلا، و قال الشافعيّ: أنّها نجسة، و رواه الجمهور عن

______________________________

(1) مدارك الأحكام 2: 272، الحدائق الناضرة 5: 77، مستند الشيعة 1: 175.

(2) المجموع 1: 236/ السطر 7.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 62، بداية المجتهد 1: 80.

(4) وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 3 و 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 413

عليّ (عليه السّلام) و المشيمة نجسة» «1» انتهىٰ.

و في «الفقه على المذاهب» قال: «إنّ المالكيّة قالوا بنجاسة جميع الخارج من الميتة.

و الحنفيّة قالوا بطهارة ما خرج منها و البيضة رقيقة القشر و غليظتها طاهرة؛ بعد كونها طاهرة حال الحياة.

و الحنابلة قالوا بنجاسة الخارج منها، إلّا البيضة إذا تصلّب قشرها سواء كانت من ميتة ما يؤكل لحمه، أو غيره، فإنّها طاهرة» «2» انتهىٰ.

و أمّا أصحابنا (قدّس سرّهم) فهم مختلفون حسب التعبير عن القيد المعتبر؛ من كون القشر صلباً، كما عن «كشف الالتباس» «3» و عرفت من «التذكرة» تعبيراً آخر، و عن بعض المتقدّمين و «النهاية» الجلد الغليظ «4»، و في آخر القشر الأعلى «5»،

و قد ادّعى الإجماع على الطهارة في هذه الصورة «6».

و قد نصّ الشهيد علىٰ عدم الفرق بين بيض المأكول و غيره «7»، و العلّامة في «المنتهىٰ» و «النهاية» قوّى نجاسة بيض الجلّال و مٰا لٰا

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 63.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.

(3) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 147/ السطر 16.

(4) لاحظ ذخيرة المعاد: 148/ السطر 13 14، نهاية الإحكام 1: 270.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 2، ص: 413

(5) البيان: 90، روض الجنان: 162/ السطر 24.

(6) مفتاح الكرامة 1: 147/ السطر 10.

(7) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 147/ السطر 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 414

يؤكل «1»، انتهىٰ.

و الذي ينبغي أن يكون محلّاً للنظر أُمور:

أحدها: في طهارة البيضة واقعاً مع قطع النظر عن كونها في جوف شي ء

أنّ البيضة من الأعيان النجسة، أو الطاهرة، مع قطع النظر عن كونها في جوف شي ء.

الظاهر أنّها من الطاهرة؛ لعدم الدليل علىٰ عدّها من الأعيان النجسة بعنوانها الذاتيّ. و ربّما يستكشف ممّا سبق في أوّل مباحث النجاسات؛ أنّها محصورة بعدد خاصّ «2»، فيكون القول بطهارتها الواقعيّة قويّاً، فتأمّل.

ثانيها: في تبعية البيضة لما أُخذت منه في النجاسة

أنّها في الأعيان النجسة تكون تابعة أم لا.

حسب الفهم العرفيّ أنّها تابعة، فلو فرضنا دلالة دليل علىٰ نجاسة الجلال من الطير، أو نجاسة طير بعنوانه الذاتيّ، فلا يسأل عن الأجزاء الوجوديّة المتعلّقة به، و إلّا فكلّ جزء منه يمكن دعوى طهارته، من غير فرق بين الأجزاء المتّصلة و المنفصلة، و من غير الحاجة إلى الدليل

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 166/ السطر 8، نهاية الإحكام 1: 270.

(2) تقدّم في الصفحة 293.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 415

الخاصّ في إلحاق الأجزاء.

و هذا يعلم في جانب الطهارة، مثلًا إذا حكم الشرع بطهارة الدجاج، فلا يبقىٰ شكّ في طهارة البيضة منه؛ لأنّها من توابعه، كما في سائر المسائل و الموضوعات.

و لعمري، إنّ البيضة من الدجاج كالبيضة من الإنسان؛ في أنّها خارجة و منفصلة، و لكن لا يبقى شكّ في نجاستها إذا كان الميّت نجساً، فعليه فمقتضى القاعدة نجاستها العينيّة إذا كانت الميتة نجسة؛ لأنّها كسائر أجزائها، و إلّا فكثير من الأجزاء الداخلة في الباطن طاهرة؛ لأجل انفصالها عن البدن، فمجرّد الانفصال الوجوديّ غير كافٍ لتوهم الطهارة.

و ممّا يشهد لذلك ما في رواية أبي حمزة الثماليّ؛ من شهادة قتادة علىٰ أنّها من الميتة حسب الفهم العرفيّ، المرويّة في الباب التاسع من «جامع الأحاديث» «1».

ثالثها: في بيان شبهة علىٰ طهارة بيضة الميتة
اشارة

قضيّة الأخبار الكثيرة المشار إليها سابقاً؛ طهارة البيضة من الميتة «2»، و هو مورد الاتفاق، و لا مخالف منّا في طهارتها الذاتيّة. و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كون الميتة ممّا كان يؤكل لحمه، أو لا؛ و هذا هو

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة 2: 123، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 14.

(2) تقدّم في الصفحة 411 و 416 و 418.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى

الخميني)، ج 2، ص: 416

الأمر المفروغ عنه في كلماتهم.

و لكن للإشكال مجالًا واسعاً؛ و ذلك لأنّ تلك المآثير و الأخبار مخدوشة سنداً، أو سنداً و دلالة، أو دلالة فقط:

أمّا رواية ابن بكير «1» و صفوان بن يحيىٰ، فهي مرويّة عن الحسين بن زرارة «2»، و قد مرّ أنّه لم يوثّق «3»، و هي ثلاث روايات في الباب التاسع من النجاسات.

و أمّا رواية زرارة المرويّة في الباب المزبور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الإنفحة تخرج من الجدي الميّت.

قال: «لا بأس به».

قلت: اللّبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت.

قال: «لا بأس به».

قلت: و الصوف و الشعر و العظام و عظام الفيل و الجلد و البيض يخرج من الدجاجة.

فقال: «كلّ هذا ذكيّ لا بأس به» «4».

______________________________

(1) الكافي 6: 258/ 3، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 4.

(2) تهذيب الأحكام 9: 78/ 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 12.

(3) تقدّم في الصفحة 405.

(4) الفقيه 3: 216/ 1006، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 417

فهي و إن كانت معلّقة حسب الاصطلاح، و لكنّها لا يبعد اعتبارها، إلّا أنّ ظهورها في أنّ المقصود من «الدجاجة» هي الميتة منها غير مبرهن.

و توهّم: أنّ المراد من «الذكيّ» هو ذكاته حسب حلّية الأكل، فلا تدلّ على الطهارة، في محلّه، إلّا أنّ ذلك يستلزم ذاك كما مرّ مراراً.

و حمل هذه المآثير الواردة في مقام الأجوبة على الحكم الحيثيّ و الإضافيّ، غير صحيح أصلًا.

و مثلها دلالة رواية إسماعيل

بن مرار «1»، مع أنّه لم يوثّق «2».

و أمّا معتبر حمّاد، عن حريز، المرويّ في الباب المزبور «3»، فهو بحسب الدلالة مخدوش؛ لأنّ قوله في ذيله: «و إن أخذته منه بعد أن يموت، فاغسله و صلّ فيه» يورث ظهور الصدر في اختصاص السؤال بحال الحياة، و قضيّة الذيل هي طهارة ما يصلّى فيه متعارفاً، كالوبر و الصوف، فلا يدلّ علىٰ طهارة غير ذلك من الميتة، كما لا يخفى.

و أمّا مرسل «الفقيه» و مسند «الخصال» عن ابن أبي عمير مرفوعاً إلىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «4» فهو بحسب السند محلّ الشبهة عند بعض، بل لا يخلو من غلق، فراجع.

______________________________

(1) الكافي 6: 257/ 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 411.

(3) الكافي 6: 258/ 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 3.

(4) الفقيه 3: 219/ 1011، الخصال: 434/ 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 418

و أمّا رواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة.

فقال: «إن كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ، فلا بأس بها» «1».

فهي و إن كانت بحسب السند مورد طعن «المدارك» «2» و «المعالم» «3» و لكنّها بحسب الدقّة معتبرة؛ لأنّ ابن إبراهيم و لو كان بتريّاً، و لكنّه موثّق، و المراد من محمّد بن يحيىٰ الراوي عنه هو الخزّاز ظاهراً، و لو كان هو الخثعميّ فهو أيضاً معتبر «4».

و لكنّ الإشكال في دلالتها؛ لأنّه لا يستفاد منها طهارتها الذاتيّة قبل الاكتساء؛ ضرورة أنّ احتمال كونها قبل الاكتساء تعدّ من أجزاء الميّت، و بعده

تعدّ مستقلّة و خارجة عن تحت العنوان المزبور، قويّ.

و أمّا رواية الثماليّ «5»، فهي و إن دلّت على الطهارة؛ لأجل أنّ تجويز الأكل يستلزم ذلك، و لكن في سندها محمّد بن عليّ المشترك بين جماعة «6»، و يشكل العثور علىٰ أنّه أيّ واحد منهم، فليتدبّر.

______________________________

(1) الكافي 6: 258/ 5، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 6.

(2) مدارك الأحكام 2: 273.

(3) لاحظ الحدائق الناضرة 5: 91.

(4) رجال النجاشي: 359، هداية المحدّثين: 258، دروس في فقه الشيعة 2: 348.

(5) الكافي 6: 256/ 1، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 1.

(6) هداية المحدّثين: 244.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 419

بقي شي ء: في الاستدلال على الطهارة بقوله (عليه السّلام): «إنّ الصوف ليس فيه روح» مثلًا

و هو أنّ الطهارة مقتضىٰ قوله (عليه السّلام) في ذيل معتبر الحلبيّ: «إنّ الصوف ليس فيه روح» «1» و مقتضى قوله (عليه السّلام): «كلّ ذلك نابت لا يكون ميّتاً» في ذيل رواية الحسين بن زرارة «2».

و فيه: أنّ النظر في ذلك إلىٰ أمثال الوبر و الصوف ممّا ليس فيه الروح، و لا يشمل حتّى مثل العظم؛ ممّا فيه الإحساس و الوجع إذا كان يقطع، فليتدبّر.

فالطهارة مستندة إلى الاتفاق المستند إلى المآثير المزبورة.

و لكن هذه المناوشات قبال الأُمور الواضحة، غير مسموعة؛ لما أنّا بنينا على العمل بمثل هذه الأخبار و إن كانت أسانيدها مشتملة علىٰ مثل ابن زرارة.

رابعها: حول اشتراط طهارة البيضة بالاكتساء بالقشر مثلًا

بعد البناء علىٰ طهارته الذاتيّة و جواز أكله، فهل يشترط الطهارة و جواز الأكل بشي ء آخر كالاكتساء، أم لا؟ فيه وجهان

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 368/ 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 9: 78/ 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 420

قضيّة القواعد و إطلاقات الأدلّة عدم الاشتراط، و مقتضى معتبر غياث بن إبراهيم الماضي آنفاً هو الاشتراط، و هو مذهب الأكثر «1»، بل عليه دعوى الاتفاق «2».

و ربّما يشكل ذلك كما عن «المدارك» و «المعالم» «3» سنداً، فيكون الإطلاق ثابتاً.

و فيه ما أُشير إليه؛ و أنّهما كأنّما كانا يعتبران الزائد على الوثاقة في العمل بالرواية، و لعلّ هذا كان ميراث الأردبيليّ (قدّس سرّه) و قد وصل إليهما في الدرس لإلقاء شبهة منه عليهما.

و الذي هو الإشكال: أنّ تقييد المطلقات الكثيرة بقيد واحد مشكل، و يقوى في النظر أنّ اعتبار الاكتساء كان لأجل

عدم تلوّثه بالملاقاة مع الباطن، فيكون قيداً مندوباً، و إلّا فلو خرجت بلا اكتساء، ثمّ غسلت بالماء فلا يبعد طهارتها و جواز أكلها.

و ممّا يشكل عليه: أنّ الظاهر من رواية غياث أنّ جواز الأكل مشروط، و هذا لا يستلزم اشتراط الطهارة بالاكتساء رأساً.

و أنت خبير بما فيه وهناً من عدم دلالتها على الأكل جوازاً و منعاً، و مجرّد نقل الأصحاب في كتاب الأطعمة لا يورث ذلك، مع أنّ «جامع

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 347، مهذّب الأحكام 1: 310.

(2) الحدائق الناضرة 5: 91، جواهر الكلام 5: 322.

(3) مدارك الأحكام 2: 273، لاحظ الحدائق الناضرة 5: 91.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 421

الأحاديث» ذكرها في هذه المسألة «1» فقوله (عليه السّلام): «لا بأس بها» يشمل الحلّية و الطهارة.

نعم، تقييد تلك المطلقات بمفهوم الشرط مع إهماله لأنّه لا سبيل إلىٰ تعيين الإطلاق في ناحية المفهوم مشكل آخر في المسألة.

فعلى ما تقرّر، القول بطهارته و جواز أكله من غير لزوم الاكتساء قويّ جدّاً، و لا إجماع في المسألة إلّا و هو معلّل بتلك الرواية.

خامسها: في وجوب غسل البيضة

بعد البناء المزبور، فهل يجب غسلها إذا خرجت، أم لا؟ فيه وجهان:

من أنّها لاقت النجس.

و من أنّ الملاقاة في الباطن لا توجب النجاسة، خصوصاً إذا كان الملاقي و الملاقىٰ من الباطن.

نعم، إذا لاقىٰ ظاهر الميتة عند الخروج و كانت رطبة، فلا بدّ من الغسل.

سادسها: في وجه اشتراط طهارة البيض بكونه من مأكول اللحم

قد عرفت أنّ العلّامة بل المحكيّ عن «النهاية» اعتبر في طهارة

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة 2: 120 126، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 422

البيض كونه من مأكول اللحم «1»، و المعروف عنهم أنّه بلا وجه «2».

و الذي أظنّه وجهاً: أنّ قاعدة تبعيّة الأجزاء تقتضي النجاسة، كما أُشير إليه «3»، و المخرج قاصر عن شمول بيض غير المأكول؛ لأنّ الأخبار المتكفّلة لحكم البيض بين ما يشكل سنداً و إن كان يتمّ إطلاقه «4»، و بين ما يتمّ سنداً، و لكن مخصوص بالمأكول «5»، فالإطلاق الذي ابتلي به المتأخّرون في التمسّك به لدفع شبهة العلّامة «6»، قابل الخدشة.

نعم، إذا قلنا: بأنّ الطهارة قضيّة القاعدة، فهي مندفعة بها كما لا يخفىٰ.

الفرع السابع: في حكم الإنفحة
اشارة

و قد اختلفت آراء الخاصّة و العامّة في طهارتها الذاتيّة و العرضيّة و نجاستها، فعن المالكيّة و الشافعيّة و الحنابلة نجاستها، و ظاهرهم العينيّة «7».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 413.

(2) جواهر الكلام 5: 324.

(3) تقدّم في الصفحة 401.

(4) تقدّم في الصفحة 415.

(5) تقدّم في الصفحة 416.

(6) دروس في فقه الشيعة 2: 349، مهذّب الأحكام 1: 310.

(7) منتهى المطلب 1: 165/ السطر 35، المغني، ابن قدامة 1: 61/ السطر 11، المجموع 2: 570/ السطر 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 423

و عن الحنفيّة طهارتها «1».

و عليها الإجماعات المحكيّة عن كتبهم المختلفة «2»، إلّا أنّ بعضاً منهم اعتبر وجوب الغسل؛ معلّلًا بنجاستها العرضيّة، و هم «الذكرى» و «كشف الالتباس» و «المدارك» «3» و هو مورد ميل «الروضة» و «الذخيرة» «4» و هو المحكيّ عن «نهاية العلّامة» لإيجابه ذلك في البيضة «5».

المراد من «الإنفحة» و أنّها المظروف

و حيث إنّ قضيّة الصناعة السابقة نجاستها؛ لأنّها من الميتة إن كانت كرشاً و في حكم المعدة بل و لو كانت هي الماء الأصفر الموجود فيه؛ لأنّ دليل طهارة ما لا تحلّه الحياة قاصر عن شمول مثله، بل تلك الأدلّة علىٰ تقدير تماميّتها، ناظرة إلىٰ ما ينبت من الحيوان، كالصوف و الوبر و الريش و الظفر و أمثالها، و لا تشمل مثل الدم رأساً حتّى يحتاج إلى التخصيص، فما في كتاب السيّد العلّامة الوالد- مدّ ظلّه من

______________________________

(1) نفس المصادر، المغني، ابن قدامة 1: 61/ السطر 12.

(2) مفتاح الكرامة 1: 155/ السطر 25، منتهى المطلب 1: 165/ السطر 35، مدارك الأحكام 2: 273.

(3) ذكرى الشيعة: 14/ السطر 3، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 155/ السطر 29، مدارك الأحكام 2: 274.

(4) الروضة البهيّة 2: 277/ السطر 13،

ذخيرة المعاد: 148/ السطر الأوّل.

(5) مفتاح الكرامة 1: 155/ السطر 30، نهاية الإحكام 1: 270.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 424

الاستناد إلىٰ تلك الكلّيّة «1»، فهي عندنا غير مسلّمة كما عرفت فلا بدّ من النظر إلىٰ ما هو المراد من «الإنفحة» في الأخبار.

و غير خفيّ: أنّ مقتضى القواعد عندنا هي الطهارة عند الشكّ في المراد منها؛ لأنّ إجمال دليل المخصّص يسري إلى العامّ عندنا، فإذا ثبت أنّ الإنفحة هي الماء في الكرش و هو نفس المظروف فهو، و إلّا فإذا شكّ و اشتبه الأمر حسب المفهوم اللغويّ فيكون مجملًا.

نعم، بناء الأصحاب (رحمهم اللّٰه) على التمسّك بالعامّ، و ما ترى في كتب بعض الأفاضل من التعجّب من التمسّك بقاعدة الطهارة؛ لوجود الدليل الاجتهاديّ «2»، في غير محلّه؛ لأنّ المسألة من صغريات التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة الناشئة عن الشبهة المفهوميّة.

و لعمري، إنّ الخروج عن الاختلاف الكثير المتراءىٰ من اللغويّين و الفقهاء إلىٰ أمر معلوم و مفهوم واضح بيّن، في غاية الإشكال.

و لا يبعد كون الإنفحة حسب فهم الفقهاء نفس الظرف، كما عرفت في كلماتهم السابقة من اعتبارهم الغسل؛ للسراية و الملاقاة، و إلّا فالماء الأصفر الداخل في جوفه غير قابل للغسل؛ لاستلزامه سقوطه عن خاصّيته، فتأمّل.

و أمّا حسب الأخبار، فلٰا يبعد كونها المظروف، ففي خبر الحسين بن زرارة السابق قال: و سأله أبي عن الإنفحة تكون في بطن العِناق أو

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 108.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 309، دروس في فقه الشيعة 2: 358.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 425

الجدي و هو ميّت.

فقال: «لا بأس به» «1».

و في خبر يونس الماضي عنهم (عليهم السّلام) قالوا: «خمسة أشياء

ذكيّة ممّا فيها منافع الخلق: الإنفحة و البيضة ..» «2».

فإنّ ما هو مورد الانتفاع هو المظروف الذي يعبّر عنه في الفارسيّة ب (مايه پنير) دون الظرف، فإنّ له منفعة جزئيّة مشتركة فيها سائر الأجزاء.

و في رواية أبي حمزة الثماليّ المفصّلة قال قتادة: و ربّما جعلت فيه إنفحة الميّت.

قال: «ليس بها بأس؛ إنّ الإنفحة ليست لها عرق، و لا فيها دم، و لا لها عظم، إنّما تخرج من بين فرث و دم ..» «3».

فإنّه كالنصّ في أنّها المظروف، و إلّا فالظرف فيه العروق الصغار، و في كلّ عرق دم سائل، فهي كاللبن.

و لعمري، إنّ من تدبّر في الآثار حسب الاستعمال، و توجّه إلىٰ خصوصيّة الحكم الكلّي البالغ و هو أنّ ما هو المستثنىٰ من الميتة ما لا روح فيه و لا نفس له يتوجّه إلىٰ أنّ الإنفحة تكون منها، لا من الأجزاء

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 419.

(2) الكافي 6: 257/ 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 2.

(3) الكافي 6: 256/ 1، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 426

الباطنيّة كالأمعاء و المعدة. و يؤيّد ذلك كلام جمع من اللغويّين.

و من العجيب ما يظهر من «القاموس» و «محيط المحيط» و «الأقرب» «1» المتّفقة علىٰ عبارة واحدة من المناقضة، فإنّ ظاهرهم أنّ الإنفحة هي المظروف، و المظروف يصير ظرفاً إذا كان يأكل و خرج عن الرضاعة!! فهذا قول ثالث، و لكنّه مفيد لما نحن فيه كما لا يخفىٰ.

و قد حكي عن بعض الخبراء: «أنّها هي المادة المنجمدة في جوف الكرش صفراء يجبن بها» و

اختاره السيّدان الأصفهانيّ (رحمه اللّٰه) و الوالد المحقّق- مدّ ظلّه في «الوسيلة» و «تحريرها» «2».

و ممّا يؤيّد ذلك بل يدلّ عليه؛ المآثير المذكورة في الشبهة غير المحصورة، و قد ذكرها الوالد المتتبّع حفظه اللّٰه تعالىٰ هنا «3»، و من العجب خلوّ «جامع الأحاديث» منها!! و هي كثيرة تأتي من ذي قِبَل، فإنّها بكثرتها ظاهرة في أنّ الإنفحة هي المادّة، لا الظرف.

و لعمري، إنّ الشبهة مرتفعة بعد ذلك قطعاً. هذا كلّه حول الموضوع.

في طهارة الإنفحة

و أمّا حكم المسألة، فقد عرفت بما لا مزيد عليه من الأخبار ما يدلّ علىٰ طهارتها و جواز أكلها، و لكن هناك بعض ما يدلّ علىٰ نجاستها:

فمنها: ما رواه «الوسائل» في الباب الحادي و الستّين من أبواب

______________________________

(1) القاموس المحيط 1: 262، محيط المحيط: 906، أقرب الموارد 2: 1326.

(2) وسيلة النجاة 1: 104، تحرير الوسيلة 1: 115.

(3) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 104.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 427

الأطعمة المباحة عن «المحاسن» بإسناده المعتبر عن بكر بن حبيب قال: سُئل أبو عبد اللّٰه عن الجبن، و أنّه توضع فيه الإنفحة من الميتة.

قال: «لا تصلح» ثمّ أرسل بدرهم فقال: «اشتر من رجل مسلم، و لا تسأله عن شي ء» «1».

و توهّم الحمل على التقيّة «2» بعد ما عرفت من رأي الحنفيّة بالطهارة «3»، في غير محلّه؛ لأنّ رأيه كان مشهوراً في عصره (عليه السّلام) و كان ينبغي أن يتّقىٰ منه، فما يدلّ على الطهارة أولىٰ بالحمل على التقيّة عند المعارضة.

و أمّا بكر بن حبيب، فهو و إن لم يوثّق في المتون الرجاليّة «4»، و لكنّه عندنا حسب التحقيق معتبر، و لا سيّما بعد انضمام رواية صفوان، عن منصور بن حازم، عنه، فهو

يورث الوثوق بأصل الرواية.

و أمّا ما أفاده الشيخ كما ذكرناه سابقاً من بكر بن محمّد بن حبيب، فهو غير بكر بن حبيب، فإنّ ذاك هو المازنيّ النحويّ المتوفّىٰ (248 ه) و لا يتمكّن من الرواية عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام)، فلا تخلط.

و منها: ما رواه في الباب المزبور عن الكتاب المذكور، عن أبيه، عن محمّد بن سِنان، عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الجبن،

______________________________

(1) المحاسن: 496/ 598، وسائل الشيعة 25: 118، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 4.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 532/ السطر 27، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 105.

(3) تقدّم في الصفحة 422.

(4) معجم رجال الحديث 3: 343.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 428

فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يُجعل فيه الميتة.

فقال: «أ مِن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرّم في جميع الأرضين؟! ..» «1».

و منها: غير ذلك ممّا ذكر في الباب المذكور «2».

و أمّا الإشكال عليها سنداً بمحمّد بن سِنان «3»، و أبي الجارود، و لا سيّما في خصوص رواية ابن سِنان عن أبي الجارود، ممّا نصّ ابن الغضائري علىٰ «أنّ حديثه في حديث أصحابنا أكثر منه في الزيديّة، و أصحابنا يكرهون ما رواه محمّد بن سِنان عنه، و يعتمدون ما رواه محمّد بن أبي بكر الأرجنيّ» «4» انتهىٰ.

فهو قابل للدفع؛ لما أنّ جمعاً من الأعلام اعتبروا أحاديثهما.

و لكنّ الكلام في عدول الإماميّة عنها، و ذهابهم إلىٰ طهارة الإنفحة.

و الجمع بينهما بحمل الطائفة الأُولىٰ على المظروف، و هذه على الظرف، أو الحمل علىٰ أنّ الاستدلال كان من الأخذ بما التزموا به، و إيجاد الشبهة إثباتاً علىٰ تقدير نجاستها ثبوتاً «5»،

من المحامل البعيدة عن أُفق

______________________________

(1) المحاسن: 495/ 597، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 5.

(2) المحاسن: 496/ 599، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 6.

(3) مهذّب الأحكام 1: 312.

(4) مجمع الرجال 3: 74.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة: 532/ السطر 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 429

الاعتبار. بل هذا غير صحيح؛ لما عرفت من ذهاب أبي حنيفة إلى الطهارة «1».

أو الحمل علىٰ أنّ المقصود إطلاق لفظة «الميتة» عليه؛ لما أنّ قتادة قال: «إنّها من الميتة» «2» فإنّه أيضاً غير مقبول؛ لأنّه من أرباب الفتاوىٰ غير المعروفة، فلا يتّقىٰ منه، فلا تصل النوبة إلى المعارضة؛ لعدم حجيّة هذه الطائفة بعد الإعراض عن المضمون.

و لو سلّمنا المعارضة كما عليه جمع؛ حسب اقتضاء الصناعة ذلك فالترجيح مع طائفة الطهارة؛ لأكثريتها عدداً، و أشهريّتها رواية، و أظهريّتها دلالة، و أصحيّتها سنداً.

تذنيب: حول قضية الصناعة عند الشكّ في مفهوم «الإنفحة» و كون الظرف مورد الشكّ

قد عرفت قضيّة الصناعة عند الشكّ في مفهوم «الإنفحة» بعد البناء علىٰ أنّ المظروف يكون خارجاً، و الظرف مورد الشكّ، فإنّه يرجع إلىٰ إجمال عنوان المخصّص مع تردّد أمره بين الأقلّ و الأكثر، من غير فرق بين أن نقول: بأنّ المظروف طاهر ذاتاً و عرضاً، أو قلنا: بأنّه طاهر ذاتاً، و احتاج إلى الغسل لو كان الظرف خارجاً عن مفهوم «الإنفحة».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 424.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 532/ السطر 18.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 430

بقي بحث في مقتضى الصناعة عند الشك في مفهوم الإنفحة

حول الشكّ في أنّ الإنفحة مردّدة بين كونها نفس الظرف، و بين كونها نفس المظروف، أو هما معاً، و علىٰ تقدير كونها نفس المظروف بين كونها قابلةً للتطهير بالملاقاة، أو ليست قابلةً له؛ لأنّها مائع كاللّبن، و لا دليل على الاستثناء، فهل قضيّة القواعد الرجوع إلى الأدلّة الاجتهاديّة لرفع الشبهة، أو تصل النوبة إلى الأُصول العمليّة؟

لا شبهة في أنّ أصالة الإطلاق و العموم، تقضي بالنجاسة بالنسبة إلىٰ جميع الأجزاء، و التي هي الخارجة عنها ما لا تحلّها الحياة، و لا شبهة في أنّ مقتضىٰ ذلك الإطلاق و العموم، منجّسيّة الميتة لكلّ ما لاقاها؛ سواء كانت الملاقاة في الباطن، أو الظاهر، و لا شبهة في أنّا نعلم إجمالًا بخروج الظرف، أو المظروف، أو هما معاً من أحد الإطلاقين و العمومين؛ لأنّه يعلم إجمالًا إمّا بطهارة الظرف، و هو ممّا تحلّه الحياة، أو نجاسته و طهارة المظروف، فتكون الملاقاة غير منجّسة؛ لأنّ الالتزام بالطهارة مع النجاسة، خلاف ظاهر الأدلّة إذا كانت جامدة، أو يلزم اللغويّة إذا كانت مائعة.

و أمّا إذا كانت الإنفحة هما معاً، كما استند إلى «العروة الوثقى» اختياره «1»، فالخروج الأوّل يستلزم عدم ورود التخصيص و

التقييد علىٰ

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة 2: 365، لاحظ العروة الوثقىٰ 1: 58، فصل في النجاسات، الرابع.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 431

دليل منجّسيّة الملاقاة؛ لأنّه لاقى الطاهر و هو الظرف، فلا يصير نجساً بها، فعلى هذا لا يمكن دعوى: أنّ الاولىٰ هو الالتزام بتقييد الإطلاق الأوّل أو الثاني.

و من الممكن دعوى تقييد أدلّة حرمة أكل النجس، فيكون المظروف أو الظرف باقياً علىٰ حالهما، و لكن يستثنىٰ من تلك الأدلّة، أو يقال بالعفو، فلا يعلم إجمالًا بالتقييد أو التخصيص في الطائفتين المزبورتين.

و توهّم: أنّ العلم الإجماليّ ينحلّ إلى العلم التفصيليّ و الشكّ البدويّ، في غير محلّه؛ لما عرفت: من أنّ كل واحد من الظرف و المظروف، يمكن أن يكون هو القدر المتيقّن.

نعم، بناءً على الالتزام بطهارة المظروف علىٰ جميع التقادير ينحلّ، و لكنّه قد عرفت حكمه فيما سبق، و هذا واضح.

و بالجملة: في المسألة (إن قلت قلتات) و لكن بعد ما عرفت منّا حقيقة الأمر في المقام من اتضاح معنى الإنفحة لا تصل النوبة إلىٰ بسط الكلام حول هذه التوهّمات غير المنتهية إلىٰ معنى مسلّم عند العقلاء، فليتدبّر جيّداً.

تنبيه: حول حكم الإنفحة الجامدة و السائلة

بناءً علىٰ ما هو المختار؛ من أنّ الإنفحة هي المظروف، فإن خرج مائعاً، و كان بالطبع و نوعاً مائعاً، فلا شبهة في جواز استعمالها حتّى حال

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 432

الجمود من غير الحاجة إلى التغسيل؛ لإطلاق أدلّتها، و تقدّمها علىٰ دليل حرمة أكل النجس، أو علىٰ دليل منجّسية الأنجاس.

و أمّا استفادة طهارته على الإطلاق؛ حتّى يترتّب عليه جميع أحكامها، فهو موقوف علىٰ دعوى: أنّ العرف ينتقل منها إليها، و إلّا فمن الممكن دعوى: أنّه معفوّ عنه؛ لما فيه

المنافع الكثيرة، كما عرفت من المآثير «1».

و هكذا استفادة طهارة الظرف باطنه و ظاهره، أو خصوص ظاهره، فإنّه بعد سكوت الأدلّة مشكل؛ لعدم الملازمة بين طهارة المظروف و الظرف بعد إمكان تخصيص دليل منجّسية النجس، خصوصاً فيما إذا كانت الملاقاة في الباطن مع الباطن، فإنّه حينئذٍ يمكن إنكار أصل نجاسة المائع، و لكنّه لا ينتهي إلىٰ طهارة الظرف.

و لو خرج مائعاً، و لكن كانت مصاديق الإنفحة بين الحالتين نوعاً، و لا غلبة لإحداهما على الأُخرىٰ، فلا يبعد دعوى: أنّه مثل ما مضى في الحكم.

نعم، لو كانت مصاديقها نوعاً جامدةً، فإن قلنا بلزوم غسلها، فلا بدّ من الاجتناب عنها إذا كانت مائعة؛ لعدم ثبوت العفو عنها بعد القول بنجاستها حسب الأدلّة.

نعم، على القول بعدم حاجة الجامد منها إلى الغسل؛ لأنّه يستلزم سقوطها عن الخاصّيّة المنتظرة منها، أو لأنّ إطلاق أدلّتها يؤدّي إلىٰ ذلك كما لا يبعد، فلا يجب إراقتها كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 418 و 425.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 433

مسألة: في حكم إنفحة ما لا يؤكل لحمه

إنفحة غير المأكول، أو إنفحة المأكول ذاتاً و غير المأكول عرضاً كالجلّال، أو إنفحة المأكول غير المتعارف، كالحمار و الفرس، أو إنفحة غير المتعارف في الاستفادة، كإنفحة البقر و الإبل، طاهرة كإنفحة الجدي و الحمل، أم هي نجسة؛ بناءً علىٰ كونها مع قطع النظر عن هذه الأخبار الواردة في خصوصها نجسة.

فالكلام هنا حول ما إذا كانت الإنفحة مع قطع النظر عن هذه الأخبار، نجسة ذاتاً أو عرضاً، و إلّا فلو كانت هي طاهرة فلا حاجة إلىٰ إدراجها تحت مفادها.

إذا عرفت ذلك فربّما يقال: بأنّ بعد فرض كون الإنفحة من الميتة حسبما عرفت منّا «1»، و الميتة من النجاسات العينيّة، فالاستثناء

منها يقتضي طهارتها، من غير النظر إلىٰ أنّ هذه الميتة قبل الموت كانت مأكولة اللحم، أو غير مأكولة اللحم؛ لاشتراك ميتة الكلّ في النجاسة و هي المستثناة من الميتة، لا من الحيوان الكذائيّ الطاهر العين حتّى يختلف بين أنواع الحيوان «2».

و أمّا اشتمال بعض الأخبار علىٰ أنّها ممّا يكثر انتفاع الخلق منها «3»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 423.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 532/ السطر 28.

(3) الكافي 6: 257/ 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 434

و هذا يختصّ بطائفة دون طائفة، فهو لا يورث تفصيلًا في المسألة؛ لأنّ ذلك ممّا يعدّ حِكْمة في الحكم، و إلّا يلزم القول بنجاسة الإنفحة ممّا لا يؤكل عادة كالحمار، و بطهارة ما يجعل في الجبن ممّا لا يؤكل مطلقاً؛ لأنّ الميزان هو المتعارف في الانتفاع من الإنفحة، لا من حيوانها كما لا يخفىٰ.

فالقول بأنّ الإنفحة من الكلّ في حدّ واحد، قويّ جدّاً، و ما ترى في كتب الأصحاب من الاغتشاش، ناشئ من الغفلة عن حقيقة الحال.

هذا، و حيث عرفت: أنّ الإنفحة هي المظروف «1»، و عرفت الإشكال في شمول دليل طهارة مٰا لٰا تحلّه الحياة لمثله «2»، فيشكل طهارتها الذاتيّة؛ لأنّها من الميتة عرفاً، و ملحقة بها حكماً، فلولا ما ذكرناه يكون القول بنجاستها الذاتيّة قويّاً جدّاً.

و أمّا توهّم عدم صدق «الإنفحة» علىٰ غير المأكول لحمه، مستدلّاً بالرواية كما في «المصباح» «3» فهو مضافاً إلىٰ ضعف الاستدلال يورث الحصر بمورده.

الفرع الثامن: في حكم اللّبن في ضرع الميتة
اشارة

كان إلىٰ زمان ابن إدريس مشهوراً بين الأصحاب- رضي اللّٰه عنهم

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 424 425.

(2) تقدّم في الصفحة 423.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 532/

السطر 29.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 435

و عن «الغنية» و «الخلاف» دعوى الإجماع عليه «1»، و هو المعروف عند المتأخّرين كما في «المسالك» «2» و ما رأيت حكاية النجاسة عن أحد من القدماء إلّا «المراسم» «3».

و مع ذلك قال ابن إدريس: «إنّه نجس بغير خلاف عن المحصّلين من أصحابنا» «4» و لعلّه ناظر إلىٰ نفي التحصيل عن القائلين بالطهارة.

و قال «المنتهىٰ» و «جامع المقاصد»: «إنّه المشهور» «5» و عن الأخير «أنّه الموافق لأُصول المذهب» «6».

و الذي هو الظاهر: أنّ كلّ أحد إذا كان يؤدّي نظره إلىٰ طرف، نسبه إلى الشهرة و الأكثر، أو ادّعى الاتفاق و الإجماع، و هذا ممّا يظهر بعد المراجعة إلىٰ «مفتاح الكرامة» «7» و المتون الأُخر في الأطعمة و الأشربة.

و علىٰ هذا، ففي المسألة قولان: الطهارة، و لعلّه كان عند القدماء «8»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 154/ السطر 27، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 557/ السطر 7، الخلاف 1: 519.

(2) مسالك الأفهام 2: 194/ السطر 43.

(3) لاحظ المهذّب البارع 4: 214، المراسم: 211.

(4) السرائر 3: 112.

(5) منتهى المطلب 1: 165/ السطر 21، جامع المقاصد 1: 167.

(6) مفتاح الكرامة 1: 154/ السطر 19، جامع المقاصد 1: 167.

(7) انظر مفتاح الكرامة 1: 154 155.

(8) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 62/ السطر 28، المقنعة: 583، النهاية: 585، الخلاف 1: 519، الوسيلة: 361 362، المهذّب 2: 441.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 436

و المتأخّرين «1» أشهر، بل المشهور، و النجاسة و هو عند المتوسّطين من عصر ابن إدريس إلى العلّامة «2»، و من بعده إلىٰ عصر «المسالك» و الأردبيليّ «3»، و الأخير كأنّه مردّد في المسألة «4» و إن مال إلى الطهارة، فالمتّبع

بعد ذلك هو الدليل، و لا سيّما بعد عدم تعرّض بعض من القدماء، كالسيّد في «الناصريّات» و «الانتصار» و اتباعه «5».

و يظهر التفصيل بين لبن الجارية الميّتة و غيرها، فيقال بطهارته منها «6». و ربّما يستظهر من الصدوق العكس «7»، فيكون هو من النجاسات إذا كان عن جارية، و من الطاهرات إذا كان عن شاة مثلًا، و هو المحكيّ عن الإسكافيّ «8»، و اللّٰه العالم.

ثمّ إنّ أبناء العامّة قد اختلفت آراؤهم حسب الكتب، فيظهر من «منتهى العلّامة» أنّ النجاسة قول مالك، و الشافعيّ، و أحمد في رواية، و الطهارة قول أبي حنيفة، و داود، و أحمد في رواية أُخرى ضعيفة «9».

______________________________

(1) مسالك الأفهام 2: 194/ السطر 42، مدارك الأحكام 2: 274، كفاية الأحكام: 11/ السطر الأخير، ذخيرة المعاد: 148/ السطر 17.

(2) شرائع الإسلام 3: 175، منتهى المطلب 1: 165/ السطر 21.

(3) المهذّب البارع 4: 213، جامع المقاصد 1: 167.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 1: 305.

(5) جواهر الكلام 5: 331.

(6) مفتاح الكرامة 1: 155/ السطر 5.

(7) مفتاح الكرامة 1: 155/ السطر 8، المقنع: 15.

(8) مختلف الشيعة: 56/ السطر 36.

(9) منتهى المطلب 1: 165/ السطر 22.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 437

و يظهر من «الفقه على المذاهب» أنّ النجاسة قول الكلّ إلّا الحنفيّة «1»، و هذا هو الظاهر من الشيخ «2»، إلّا أنّه قال في مقام حمل رواية وهب بن وهب «3» على التقيّة: «بأنّها موافقة لمذاهب العامّة؛ لأنّهم يحرّمون كلّ شي ء من الميتة، و لا يجيزون استعمالها علىٰ حال» «4» انتهىٰ، و هذا ينافي ما سبق بعمومه، و الأمر سهل.

بيان مقتضى القواعد في لبن الجارية

أقول: ربّما يشكل الطهارة؛ لأنّ مقتضى القواعد هي النجاسة، لعدم الفرق علىٰ ما مرّ

بين الملاقاة مع الباطن في الباطن، أو مع الظاهر، بعد قيام الدليل علىٰ منجّسية النجس في الجملة عرضاً؛ و إن اختلفت آراؤهم طولًا.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ دليل «ما لا تحلّه الحياة لا ينجس» يشمل اللّبن، و فراراً من اللغويّة لا بدّ من القول بالطهارة. بل يمكن استكشاف طهارة الضرع باطنه و ظاهره «5».

و فيه: أنّ لغويّة إطلاق الدليل ممّا لا يجب الفرار منها، و ما هو يفرّ

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.

(2) الخلاف 1: 519.

(3) تهذيب الأحكام 9: 76/ 325، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 11.

(4) تهذيب الأحكام 9: 77، ذيل الحديث 325.

(5) دروس في فقه الشيعة 2: 361.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 438

منه لغويّة ذات الدليل و تمام المدلول، فعند ذلك تقع المعارضة بين إطلاق ما دلّ علىٰ طهارة ما لا تحلّه الحياة، و إطلاق دليل نجاسة الميتة و هو منها، و إطلاق دليل منجّسيّة النجس.

و توهّم عدم شمول الدليل الثاني لما نحن فيه، مدفوع بما عرفت.

و توهّم اختصاص منجّسيّة النجس بما إذا كانت الملاقاة بعد النجاسة، و بعبارة اخرىٰ: المعتبر هو الملاقاة بمعناها المصدريّ، و هي هنا غير متحقّقة، غير مرضيّ.

نعم قضيّة ما سلف «1»؛ أنّ أدلّة طهارة ما لا تحلّه الحياة، تقصر عن شمول المائعات، كالأعراق و اللّبن و الدّم، و تختصّ بالنابتات في البدن، كالشعر و الصوف و الظفر، و أمثالها ممّا عدّ في كثير من المآثير، و في ذيلها العمومات الواردة المقتضية لطهارة ما لا تحلّه الحياة «2»، فراجع و تأمّل حتّى يظهر لك ما خطر بالبال، فعليه تبقىٰ قاعدة نجاسة اللّبن ذاتيّةً و عرضيّةً

باقيةً علىٰ حالها.

هذا، و لو فرضنا المعارضة بين قاعدة طهارة ما لا تحلّه الحياة، و قاعدة نجاسة المائع بملاقاة النجس، فهي بالعموم من وجه، و لا ترجيح، إلّا أنّ الدليل الأوّل لمكان تعرّضه لطهارته الذاتيّة لا يقاوم الثاني، و الثاني يقدّم عليه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 423.

(2) وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 439

و بعبارة اخرىٰ: لا معارضة بعد ذلك؛ لعدم المنافاة بين الطهارة الذاتيّة و نجاسته العرضيّة، و لا يلزم عند ذلك الالتزام بطهارته فراراً من اللغويّة؛ لما عرفت.

نعم، لو سلّمنا ذلك فتصل النوبة إلىٰ قاعدة الطهارة، بل و استصحابها.

اللهمّ إلّا ترجّح إحداهما على الأُخرىٰ بالمرجّحات، و الترجيح مع قاعدة منجّسية النجس؛ لأنّها أقوى، و قد عدّت من أُصول المذهب «1». مع أنّ استقذار العقلاء و العرف من أسباب رجوعهم إلىٰ نجاستها؛ و الأخذ بما يدلّ عليها، و طرح الآخر.

هذا كلّه حول قضيّة القواعد في اللبن.

مقتضى المآثير الواردة في لبن الميتة

و ربّما يشكل طهارته بعد هذا؛ لأجل الشبهة فيما يدلّ عليها سنداً و دلالة، كما عرفت في الإنفحة «2»، و هو هنا أقوى، و قد تعرّض لها الوالد المحقّق- مدّ ظلّه و لقد أجاد فيما أفاد «3»، و بمثل ذلك يفوق الآخرين.

فبالجملة نقول: روايات اللّبن بين ما تضعف سنداً، كرواية الحسين بن زرارة «4»، مع أنّها في نسخة «الكافي» خالية من كلمة «اللّبن» و هذا هو

______________________________

(1) جامع المقاصد 1: 167.

(2) تقدّم في الصفحة 428 429.

(3) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 112 114.

(4) على ما في وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 4، انظر الكافي 6:

258/ 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 440

المهمّ هنا، و إلّا فالحسين بن زرارة عندنا معتبر كما عرفت «1».

و في حكمها ما رواه «التهذيب» و «الاستبصار» و «الفقيه» عن الحسن بن محبوب «2»، و أنت خبير بأنّه بلا واسطة غير ممكن، و ثبوت كتابه عندهما علىٰ وجه معتبر غير معلوم، فعدّ رواية زرارة صحيحة كما صنعه الأعلام كلّهم «3»؛ حتّى الوالد مدّ ظلّه «4» محلّ المناقشة؛ لما أُشير إليه.

و بين ما هو ضعيف دلالة، و هو معتبر حَريز «5»، و لكنّه مخصوص بمقتضىٰ ذيله بحكم اللّبن حال الحياة، فراجع و لا نكرّرها.

و أمّا مرسل الصدوق في «الفقيه» «6» فهو و إن كان من المعتبر عند بعض «7» خلافاً لنا، و لكنّه مخدوش لخصوصية في المقام؛ و هي أنّ الصدوق صرّح بأنّه مسند في «الخصال» «8» و سنده في «الخصال»

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 405.

(2) تهذيب الأحكام 9: 76/ 324، الإستبصار 4: 89/ 339، الفقيه 3: 216/ 1006.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 533/ السطر 13، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 310، مهذّب الأحكام 1: 313.

(4) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 111.

(5) الكافي 6: 258/ 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 3.

(6) الفقيه 3: 219/ 1011.

(7) لاحظ مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 547/ السطر 9، الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 114.

(8) الفقيه 3: 219، ذيل الحديث 1011.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 441

مغشوش، فعليه يشكل الاعتماد عليه «1» فليراجع، فما يدلّ على الطهارة غير متين.

و لا حاجة إلىٰ إثبات نجاسته بمثل رواية وهب بن وهب «2»، حتّى يقال: «هو أكذب البريّة» «3» مع أنّه يقصر

دلالة عن النجاسة؛ لأنّ الحرمة أعمّ منها، فاللبن محرّم و لا يكون نجساً. مع أنّ من المحتمل رجوع كلمة «ذاك» فيها إلى الشاة؛ أي أنّ الشاة حرام محضاً، لا غيرها من اللبن و غيره.

و لا بمثل رواية الفتح بن يزيد، عن أبي الحسن (عليه السّلام) المرويّة في أبواب الأطعمة المحرّمة «4»، حتّى يقال بالإشكال في سندها و دلالتها «5»، بل المعروف أنّ إسنادها مدخول.

و لا بمثل خبر يونس «6» حتّى يقال بضعف سنده و دلالته «7»؛ لأنّ الحصر بالخمسة لا يستفاد منه، بل المستفاد منه هو أنّ الخمسة التي فيها

______________________________

(1) الخصال: 434/ 19.

(2) تهذيب الأحكام 9: 76/ 325، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 11.

(3) رجال الكشي: 309/ 558.

(4) الكافي 6: 258/ 6، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 7.

(5) دروس في فقه الشيعة 2: 362.

(6) الكافي 6: 257/ 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 33، الحديث 2.

(7) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 3: 102 و 115.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 2، ص: 442

منافع الناس كذا و كذا، و ليس لبن الميّتة منها؛ ضرورة أنّ الطباع تتنفّر منه طبعاً. و ربّما يؤيّد النجاسة هذا الأمر الارتكازيّ؛ و أنّ الالتزام بالطهارة الشرعيّة لأجل سائر الاحكام في غاية الندرة، فالقول بطهارته مشكل جدّاً؛ لإباء النفوس عنه، و انزجار الطباع من مثله. و أمثال هذا لا يثبت طهارته مع الخلاف الجليّ الذي عرفت «1».

هذا، و ما يدلّ على الطهارة موافق للتقيّة؛ لأنّ الرأي العامّ في عصر الصادق (عليه السّلام) و في بلاط الخلفاء،

رأي أبي حنيفة، و هو يقول بالطهارة «2»، و ما تدلّ عليها في أخبارنا كلّها عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و قد عاصره أبو حنيفة، فما ترى من حمل أخبار النجاسة على التقيّة «3»، غير صحيح حسب التأريخ، فلا تخلط.

بل النجاسة مقتضى الكتاب؛ لما عرفت «4»: من أنّ الأجزاء داخلة في حكم الميتة؛ بناءً علىٰ أعمّية الحرمة من النجاسة، لاستناد الحرمة إلى الذات، فلا بدّ من ممنوعيّة الذات بجميع آثارها البارزة و الظاهرة، فلا تكن من الغافلين.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 435 436.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.

(3) تهذيب الأحكام 9: 77، جواهر الكلام 5: 329، مهذّب الأحكام 1: 313.

(4) تقدّم في الصفحة 401.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.