مستند تحریر الوسیله المجلد 1

اشارة

سرشناسه : خمینی، مصطفی، 1309-1356.

عنوان قراردادی : تحریر الوسیله .شرح

عنوان و نام پديدآور : مستند تحریر الوسیله/ تالیف مصطفی الخمینی.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی، 1418ق.= 1376.

مشخصات ظاهری : ج.

شابک : 14500 ریال (ج.1) ؛ 12000 ریال (ج.2)

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: 1418 ق. = آبان 1376).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله.شرح

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س)

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت302332 1376

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : م 79-24796

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

[كتاب الطهارة]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و الصلاة و السلام على سيّدنا محمَّد و آله الطيّبين الطاهرين، و اللّعنة الدائمة الأبديّة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 4

ص: 5

[فصل في المياه]

اشارة

فصل في المياه

[تقسيم المياه إلى المطلق و المضاف]

اشارة

الماء إمّا مطلق، أو مضاف، (1) حول تقسيم المياه إلى المطلق و المضاف قوله مدّ ظلّه: «أو مضاف».

هذا التقسيم مضافاً إلى عدم وفائه بما هو المقصود الأصليّ لا يمكن أن يكون على وجه صحيح؛ ضرورة أنّ التقسيم عُدَّ من الأمارات الدالة على اشتراك المقسم بين الأقسام على نعت الحقيقة(1)، و يكون أحياناً من علائم الحقيقة و المجاز في المحاورات العرفيّة، و ليس لفظة «الماء» قابلة للصدق على المضاف، حسب الوضع الأوّلي، إلّا إذا استعملت في المعنى المجازيّ، و هو المائع الكذائيّ، ثمّ تقسّم إلى المطلق و هو ما يصحّ إطلاق لفظة «الماء» عليه من غير إضافة و إلى المضاف،


1- مفاتيح الأُصول: 77/ السطر 9، تقريرات المجدّد الشيرازي 1: 131.

ص: 6

كالمعتصر من الأجسام، كماء الرقّي (1)، و الرمّان، كماء الرمّان و غيره، مراعياً في الاستعمال المذكور، أن يكون الجامع غير صادق على أمثال النفط و غيره، هذا.

و غير خفيّ: أنّ الماء المضاف، إن أُريد منه الإضافة في مقام اللّفظ، فربّما لا يكون شي ء واحد مضافاً بحسب لغةٍ أعجميّة، و يكون مضافاً بحسب العربيّة.

و إن أُريد منه ما هو بحسب المسمّى و الطبيعة الخارجيّة مخلوط، فهو ليس من الإضافة، بل هو من الخلط و المزج، و الأمر على كلّ تقدير سهل.

و كان ينبغي تقسيم المائع بحسب الأحكام الشرعيّة إلى:

ما يطلق عليه «الماء» فيكون طاهراً و مطهّراً، و لا ينفعل على شرائط.

و ما لا يكون مطهّراً، كسائر المائعات، و منها اللّبن، و ماء الورد، و الرقّي، و غير ذلك، و يتنجّس.

و ما يكون نجساً، كالأبوال ممّا لا يؤكل لحمه، و هكذا.

فإنّه تقسيم عامّ بلحاظ الأحكام المختلفة الثابتة في الشرع لأفراده.

قوله مدّ ظلّه: «كماء الرقّي».

قد أُشير آنفاً إلى أنّ اللّغات مختلفة في التعبير عن حقيقة ماء الرقّي، و لا يكون النظر هنا إلّا إلى أنّ الأدلّة المشتملة على كلمة

ص: 7

و الممتزج بغيره (1) ممّا يخرجه عن صدق اسم «الماء» كماء السكّر و الملح.

«الماء» الناطقة بأنّه «يطهّر و لا يطهّر»(1) أو كذا و كذا، لا تشمل أمثال هذه المائعات، التي يطلق في اللّسان العربيّ عليها «الماء» مضافاً إلى شي ء آخر.

و عندئذٍ يتوجّه إليهم: أنّه ربّما تضاف لفظة «الماء» إلى «البئر» و «البحر» و «النهر» فهذا أيضاً من أغلاط التقسيم المذكور، بعد معلوميّة المقصود الأصليّ.

ثمّ إنّ الماء بما أنّه متقيّد بالإطلاق، ليس موضوعاً للحكم، حتّى يشكل جريان الاستصحاب، و سيمرّ عليك تحقيقه في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى(2).

و غير خفيّ: أنّ المياه المضافة بحسب الخلقة، مركّبة من الماء الحقيقيّ، و المادّة المنتشرة فيه، فإذا انحلّت بحسب الآلات الحديثة إلى الأجزاء الأصليّة، تترتّب على جزئه المائيّ أحكام الماء المطلق، و لعلّ وجه صحّة إطلاق «الماء المضاف» عليه؛ هو ذلك، لا لأجل الميعان المشترك بينه و بين سائر المائعات.

قوله مدّ ظلّه: «و الممتزج بغيره».

الماء الممتزج بغيره، له مراتب، فربّما يمتزج بالغير، و لا يضرّ ذلك


1- وسائل الشيعة 1: 133 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 3 و 6 و 7.
2- يأتي في الصفحة 25.

ص: 8

[و المطلق أقسام]

و المطلق أقسام (1): الجاري، و النابع بغير جريان، و البئر، بصدقه عليه، و في المرتبة الثانية يصدق عليه «الماء» و «السّكّر» ففي هذه الصورة، يشكل منع جريان أحكامه.

و إذا غلبت المادّة الدخيلة، لا يبقى لصدق اسم «الماء» عليه و لو كان بالإضافة في الاسم مجال، إلّا إذا كان الوجه المصحّح، ميعانه الأعمّ المشترك فيه سائر المائعات، فلا تخلط.

أقسام الماء المطلق قوله مدّ ظلّه: «و المطلق أقسام».

إن كان النظر إلى ذكر عناوين المياه، فكان ينبغي ذكر ماء الحمّام، بل و المستعمل، و المشكوك.

و إن كان النظر إلى ما يخصّ بحكم، فلا ينبغي ذكر النابع بغير جريان.

هذا مع أنّ الجريان، أعمّ من الجاري فوق سطح الأرض، و الذي يفور من الأرض إلى الفوق، كما لا يخفى.

فما عن الوحيد البهبهانيّ: من أنّ النابع بغير جريان، بحكم البئر عند الفقهاء(1)، في غير محلّه؛ فإنّ ماء العين غيرُه بالضرورة، فإنّ قوام ماء


1- حكاه في مستمسك العروة الوثقى 1: 110، و لكن في ثبوت النسبة تردّد، لاحظ حاشية الوحيد البهبهاني على مدارك الأحكام: 14/ السطر 41 من التعليقة و أيضاً مفتاح الكرامة 1: 61 و 77.

ص: 9

و المطر (1)، و الواقف (2)، و يقال له: «الراكد».

العين بالغليان، لا الجريان على سطح الأرض، و الأمر سهل.

قوله مدّ ظلّه: «و المطر».

لم يذكر في كلام جماعة ماء المطر هنا(1).

و توهّم: أنّه في محلّه؛ لأنّ المقسم ماء الأرض(2)، غير صحيح؛ لأنّه أيضاً من الأرض أوّلًا.

و ثانياً: لا وجه لأخذ الخصوصيّة في المقسم.

قوله مدّ ظلّه: «و الواقف».

لا معنى لعدّ الواقف من المياه، و إن صنعه جماعة(3)؛ فإنّ المحقون ليس موضوعاً للحكم بما هو هو؛ ضرورة أنّه على القول: بانفعال القليل، يكون هناك ماءان: قليل، و كثير، و على القول: بعدم الانفعال، فهو و بعض المياه الأخر مشترك في الحكم.

و الذي هو الأوفق بالتقسيم: أنّ الماء إمّا أن يكون ذا مادّة طبيعيّة


1- شرائع الإسلام 1: 4، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 109، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 12.
3- قواعد الأحكام 1: 4/ السطر 24، منتهى المطلب 1: 4/ السطر 26.

ص: 10

أو جعليّة أو ليس كذلك.

و على الثاني: إمّا يكون كثيراً، أو قليلًا.

و على الثاني: إمّا يكون مستعملًا، أو غير مستعمل، أو يكون مشكوكاً.

و هذا التقسيم باعتبار الآثار و الأحكام، و إلّا فالماء واحد بالضرورة.

ص: 11

[مسألة 1: الماء المضاف]

مسألة 1: الماء المضاف طاهر (1) في نفسه، حكم الماء المضاف قوله مدّ ظلّه: «طاهر».

أي ليس من النجاسات.

و توهّم: أنّ مستندها إن كانت قاعدة الطهارة، فجريانها في الشبهات الحكميّة محلّ منع أو إشكال، في غير محلّه؛ لأنّ المياه المضافة لو كانت من النجاسات لبانت، و على هذا لا وجه لتعرّضهم لذلك، كما لا يتعرّضون لطهارة سائر الأشياء.

و لو تنجّس التفّاح و الرمان، ثمّ أُخذ ماؤهما بالآلات الحديثة، فهل يكون نجساً؟

فيه إشكال، ينحلّ بمراجعة أهله، و ربّما تختلف الفواكه، كما تختلف كيفيّة أخذ مائها.

بقي شي ء: و هو أنّ اعتبار طهارة هذا الماء و سائر الأشياء، صحيح على أحد المباني في باب الطهارة و النجاسة؛ فإنّه لو قلنا: بأنّ الطهارة من المجعولات الشرعيّة، فلا دليل على مجعوليّتها لكلّ شي ء، و التمسّك بقاعدة الطهارة في غير محلّه، كما تحرّر في الأُصول(1)، و كون الطهارة العرفيّة ممضاةً شرعاً، ليس معناه إلّا عدم النجاسة، كما لا يخفى.


1- لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 378 379.

ص: 12

و غير مطهّر؛ لا من الحدث، (1) قوله مدّ ظلّه: «لا من الحدث».

على المشهور(1)، و هو مقتضى الأصل؛ فإنّ المطهّرية تحتاج إلى الدليل.

و ربّما يستدلّ بآيات(2)، أوضحها قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً(3).

و فيه: قوّة احتمال كون الماء أحد مصاديق المطهّر؛ لعدم كون الآية إلّا لبيان ظرف انتقال الحكم المائيّ إلى الترابيّ، فنفي مطهّرية غير الماء في عَرْض الماء بالآية مشكل.

نعم، نفي مطهّرية غيره، في طول الماء و التراب، أو نفي مطهّريته في عَرْض التراب، غير بعيد.

و بالجملة: حكاية اتفاق المسلمين على عدم مطهّريته للحدث الأكبر ممكنة، و إن نسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل تجويزُ الاستعمال عند الضرورة(4)، و لكن احتمال انصرافه إلى الوضوء قوىٌّ.


1- مستند الشيعة 1: 130، جواهر الكلام 1: 311، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 294، مستمسك العروة الوثقى 1: 111.
2- مختلف الشيعة 1: 222، مدارك الأحكام 1: 110، مستمسك العروة الوثقى 1: 111.
3- المائدة( 5): 6.
4- جواهر الكلام 1: 311 312، و لاحظ أيضاً مختلف الشيعة 1: 222.

ص: 13

و أمّا مطهّريته بالنسبة إلى الأصغر، فهو المحكيّ(1) عن الصدوق(2)، و إليه مال الكاشانيّ(3) من أصحابنا و عن أصحاب الحديث(4)، و هم بمنزلة الأخباريّين منّا، إلّا أنّهم كلّاً خصّوا الحكم بماء الورد.

و عن أبي حنيفة: تجويز التوضّي بماء النبيذ و نبيذ التمر عند عدم الماء(5).

و بالجملة: جماعة من المخالفين قالوا: بالترتيب، فجوّزوا التوضّي عند الضرورة بالنبيذ(6).

و عن الأوزاعيّ: الجمع بينه و بين التراب(7).

و قد عرفت: أنّ الآية تنفي الطوليّة و عرضيّة المضاف مع التيمّم، و الأصل ينفي الكلّ، إلّا أنّ عندنا رواية عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: قلت له:


1- مدارك الأحكام 1: 110، مستند الشيعة 1: 130.
2- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12، الأمالي: 514، الفقيه 1: 6 بناء على نسخة الأصل كما ذكره المجلسي في روضة المتّقين 1: 41.
3- الوافي 6: 325، مفاتيح الشرائع 1: 47.
4- الخلاف 1: 55.
5- الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93/ السطر 3 و 15.
6- نفس المصدر.
7- هذا القول منسوب إلى محمّد بن الحسن الشيباني، و قول الأوزاعي هو جواز التوضّي بكلّ نبيذ، لاحظ الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93.

ص: 14

الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة، قال: «لا بأس بذلك»(1).

و هي مضافاً إلى ضعف سندها لما فيه من سهل بن زياد(2)، و عليّ بن محمّد المشترك، و محمّد بن عيسى عن يونس(3) جهة الصدور فيها غير واضحة؛ لمعارضتها لكثير من الأخبار الظاهرة في حصر المطهّر بالماء و التراب(4)، كما ستمرّ عليك في البحوث الآتية.

مع أنّ ظاهرها جواز الاغتسال، و هو خلاف اتّفاق المسلمين، و تصريحِ الشيخ: بأنّ الرواية ممّا أجمعت العصابة على ترك العمل بها(5).

و بالجملة: مضافاً إلى كلّ هذه الأُمور، أنّها لا تدلّ على جواز استعمال المضاف؛ لقوّة احتمال تعارف ماء الورد في تلك الأعصار غيرَ مضاف، و غيرَ خارج عن اسم «الماء» لقلّة الورد في تلك الأمصار، فالتمسّك بترك


1- الكافي 3: 73/ 12، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 3، الحديث 1.
2- سهل بن زياد، أبو سعيد الآدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد فيه، و كان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ و الكذب و أخرجه من قم إلى الري. رجال النجاشي 185/ 490.
3- ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس و حديثه لا يعتمد عليه. رجال النجاشي: 333/ 896.
4- راجع وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 1 و 2.
5- تهذيب الأحكام 1: 219.

ص: 15

و لا من الخبث، (1) الاستفصال، ليس في محلّه كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «و لا من الخبث».

على المشهور(1)، خلافاً لما نسب(2) إلى المرتضى(3) و شيخه(4)، و هو قضيّة الأصل الوجوديّ و العدميّ، و لو كان يكفي المضاف لكان الأمر واضحاً بين المتشرّعة؛ لكثرة الابتلاء، فلا تحتاج المسألة إلى الاستدلال بالأخبار، و يكفي قصور الأدلّة لإثبات مطهّرية المضاف.

و ما في بعض الأخبار: من مطهّرية ماء البصاق(5)، و لو كان نقيّ الإسناد و الدلالة، إلّا أنّه مضافاً إلى اختصاص الحكم بالدّم فيه كما في خبري غياث، ففي أحدهما: «لا يُغسل بالبزاق شي ءٌ غير الدّم»(6)، و في الآخر:


1- جواهر الكلام 1: 315، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 295، مستمسك العروة الوثقى 1: 112.
2- المعتبر 1: 82، مدارك الأحكام 1: 112، مستند الشيعة 1: 131، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 296.
3- الناصريات ضمن الجوامع الفقهيّة: 219، المسألة 22.
4- لاحظ المعتبر 1: 82، حيث حكى هذا القول عن المفيد( رحمه اللَّه( في المسائل الخلافيّة.
5- وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.
6- تهذيب الأحكام 1: 423/ 1339، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4، الحديث 1.

ص: 16

«لا بأس أن يغسل الدّم بالبصاق»(1) ربّما يكشف عن عدم نجاسة الدم شرعاً، إلّا بمرتبة ضعيفة تزول به، فيكون من الأخبار المعارضة لأخبار نجاسته(2)، و لعلّه كان في عصر صدور الخبرين، قول من أبناء المخالفين بطهارته(3)، فتكون الأخبار الموافقة تقيّةً.

و أمّا تضعيف التمسّك بإطلاق «الغسل» و «التطهير» الصادقين في مورد المضاف و سائر المائعات كالنفط و الكحول الصناعيّ بناءً على طهارته، بالإجمال أو التقييد بالأخبار الآمرة بالغسل بالماء(4)، فهو قابل للمناقشة: بأنّ الصدق قويّ جدّاً، و أخذ «الماء» لغلبة وجوده جائز عرفاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ التمسّك بالإطلاقات أيضاً ممنوع؛ لكثرة القيد وجوداً، و لالتزام الناس بإزالة النجاسة بالماء خارجاً عادةً و تعارفاً،


1- تهذيب الأحكام 1: 425/ 1350، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 3: 429 440، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 20 22 و 24 و 25.
3- لاحظ المجموع 2: 557.
4- تمسّك بهذا الإطلاق السيّد المرتضى( رحمه اللَّه( في الناصريات: 219، المسألة 22، و ضعّفه في جواهر الكلام 1: 315 316، و مستمسك العروة الوثقى 1: 112.

ص: 17

و لا ينبغي الخلط بين مسألة عدم تنجّس الأشياء بالأعيان النجسة، و بين مسألة التوسعة فيما يتطهّر به، و لو كان من قبيل المائعات، بل و الحكّ و نحوه، و فيما نحن فيه لا تثبت التوسعة.

و لأحد التفصيل بين النجاسات؛ لاختلاف الأخبار فيها، ففي مثل البول لا يجزي فيه إلّا الماء، كما في بعض النصوص(1)، و في مثل الدّم يجزي حتّى البزاق دون غيره، و أمّا في غيرهما فيجزي مطلق كلّ شي ء يصدق معه «الغسل و التطهير».

كما يجوز التفصيل بين حالتي الاضطرار و الاختيار، و هو المنسوب إلى الحسن بن أبي عقيل(2).

أو التفصيل بين الأشياء؛ فما منها يستعمل في الأكل و الشرب، يختلف مع ما يستعمل في غسل الثوب و الفراش.

و بالجملة: تحصّل أنّ قضيّة أدلّة مطهّرية المياه المضافة، مطهّرية جميع المائعات.

بل الأخبار المستدلّ بها لمطهريّة الماء المضاف، أجنبيّة عنها


1- تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 6.
2- لاحظ مختلف الشيعة 1: 222.

ص: 18

و لو لاقى نجساً (1) ينجس جميعه (2) حسب ما اصطلحوا عليه؛ لأنّ البزاق و النبيذ ليسا منه، و هكذا العرق الوارد في خبر ابن حكيم(1).

قوله مدّ ظلّه: «نجساً».

بناءً على منجّسية النجاسات، أو متنجّساً بناءً على المسألة المعروفة الّتي يأتي تفصيلها في محلّها.

قوله مدّ ظلّه: «جميعه».

على المشهور المعروف المدّعى عليه الإجماعات المحكيّة(2) عن جماعة، كالفاضلين(3)، و الشهيدين(4)، و غيرهم(5).

و المقصود بالبحث هنا أعمّ من المضاف الاصطلاحيّ، و إلّا فالاستدلال بأخبار تنجّس الزيت و نحوه(6)، في غير محلّه، كما مرّ.


1- الكافي 3: 55/ 4، وسائل الشيعة 3: 401، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 6، الحديث 1.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 114.
3- المعتبر 1: 84، تذكرة الفقهاء 1: 33، المسألة 9.
4- ذكرى الشيعة: 7/ السطر الأخير، الروضة البهيّة 1: 18/ السطر 16.
5- السرائر 1: 59.
6- منتهى المطلب 1: 127، مجمع الفائدة و البرهان 1: 249.

ص: 19

و على كلّ: نحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة، بالنسبة إلى سريان الحكم إلى كلّ مائع من كلّ نجس، بعد كون الأصل طهارة المضاف، بعد الملاقاة عند الشكّ فيها.

و التمسّك لنجاسته: بأنّ الملاقاة توجب كون الملاقي بالكسر مصداقاً للرجز و النجس، عند العرف و العقلاء، فيلزم من الاجتناب عنهما، الاجتناب عن جميع ملاقياتهما، في غير محلّه، كما هو واضح.

و القول: بأنّه إذا كان القليل من الماء تنجّس، فالمضاف ينجس قليله و كثيره؛ ضرورة أنّ الكريّة و كثرة الماء تمنع عن السراية، و لا شقّ آخر كما تحرّر(1)، فهو لا يبعد، إلّا أنّه استدلال لا يناسب التعبّديات الشرعيّة.

و بالجملة: الدليل الوحيد الأخبار المتفرّقة(2) المشار إليها، الظاهرة في أنّ الأمر بالإراقة و غيرها؛ لأجل النجاسة، دون الجهات الأُخر، كالخباثة أو الحرمة أو غيرهما، ممّا يرجع إلى الطبابة.

و توهّم معارضتها بمرويّ الكلينيّ، عن سعيد الأعرج قال: سألت


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.
2- وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، وسائل الشيعة 3: 470، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 8.

ص: 20

و لو كان ألف كرّ (1). نعم، إذا كان جارياً من العالي إلى السافل و لو بنحو الانحدار مع الدفع بقوّة، و لاقى أسفله النجاسة، أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الفأرة و الكلب يقع في السمن و الزيت يخرج منه حيّاً. قال: «لا بأس بأكله»(1) في غير محلّه؛ لضعفه سنداً، و عدم وجود «الكلب» في بعض النسخ(2)، و لإمكان التفكيك بين النجاسة و حرمة الأكل، فلا تخلط و تأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «و لو كان ألف كرّ».

نظراً إلى إطلاق معاقد الإجماعات، و هي غير نافعة في أصل المسألة.

و إلى السراية المعلوم وجودها في المقام، و هو ممنوع مطلقاً، و ليس من مذهبنا السراية. و لزومُ وجود الرطوبة في محلّ اللّقاء، لا يستدعي القول بالسراية، المتوقّفة على وجود الساري و الانتقال، غير القابل للتصديق في ملاقاة الكافر و المتنجّس و غيره.

و إلى إطلاق الأخبار السابقة(3)، القابلة للمنع جدّاً، و لا سيّما في الكثير كالاوقِيانوس من المائع بالقياس إلى رأس الإبرة النجسة.


1- الكافي 6: 261/ 4.
2- تهذيب الأحكام 9: 86/ 362.
3- تقدّم في الصفحة 19، الرقم 2.

ص: 21

و إلى بعض الأخبار، كمعتبر أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1).

فإنّ المستثنى منه أعمّ من الماء، فيشمل المضاف، و المستثنى مخصوص بالماء؛ لكلمة «الاستقاء» و فيه ما لا يخفى.

فالأصل هو المتّبع إلّا ما خرج منه بدليل، و المسألة بوجه تصير من الشبهة الموضوعيّة.

و أمّا حديث النفط و عيونه(2)، فهو في غير محلّه؛ لأنّ دعوى العلم بالملاقاة مع النفط في البحيرة منه، غير تامّة حسب العادة، و فيما يتمّ القول بالعلم باللّقاء يكون قليلًا.

و لا يخفى: أنّ في صورة الكثرة، المنع عن النجاسة يرجع إلى إنكار تنجّسه حتّى في محلّ الملاقاة، لا في الطرف البعيد عن محلّ اللّقاء فقط، و إلّا فتلزم الشبهة السببيّة.


1- تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 114.

ص: 22

تختصّ (1) بموضع الملاقاة و ما دونه، و لا تسري إلى الفوق.

قوله مدّ ظلّه: «تختصّ».

نظراً إلى قصور الأدلّة المذكورة، و إلى أنّ النجاسة تمنع عن السريان إلى الفوق.

و سيمرّ عليك: أنّ حديث السراية، لا أصل له، و إلّا يلزم تنجّس الماء القليل في الانبوب الطويل تدريجاً، أو إنكار نجاسته رأساً.

مثلًا: إذا كان بين «النجف» و «الحائر» على مشرِّفيهما السلام أُنبوب على سطح الأرض المستوي، و كان ماؤه أقلّ من الكرّ، و لاقى النجس طرفَه الذي في «النجف» فلا يكون الماء في الطرف الآخر في الآن نجساً؛ لعدم مساعدة الارتكاز على نجاسته، أو يصير الماء في الطرف الحائريّ نجساً بعد يوم مثلًا؛ لأنّ السراية تحتاج إلى الزمان، و التقديران ممنوعان، فالسراية ممنوعة.

فحديث عدم تنجّس العالي بملاقاة السافل للنجس، إذا كان الجريان بقوّة، أو عدم نجاسة السافل كما في الفوّارة بملاقاة العالي، و عدم نجاسة ما في الإبريق بإراقة مائة على يد الكافر، أجنبيّ عن بحث السراية التي شوهدت في كلمات جملة منهم(1).

كما أنّ ذهاب الكلّ إلى طهارة العالي و السافل في الصورتين،


1- لاحظ روض الجنان: 136/ السطر 27.

ص: 23

و في مثل الإبريق خلافاً لصاحب «المناهل»(1) يحتاج إلى دعوى أنّ في هذه المواقف، يكون الماء متعدّداً عرفاً، أو يشكّ في الوحدة العرفيّة اللّازمة في الحكم بالنجاسة، و نتيجة ذلك طهارة جانب «الحائر» في الانبوب المذكور، فلاحظ و اغتنم.


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 301.

ص: 24

[مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن الإطلاق]

مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج (1) بالتصعيد عن الإطلاق. نعم، لو مزج معه غيره و صعّد ربّما يصير مضافاً، كماء الورد و نحوه، كما أنّ المضاف المصعّد، قد يكون مضافاً. و المناط هو حال الاجتماع بعد التصعيد، فربّما يكون المصعّد الأجزاء المائيّة، و بعد الاجتماع يكون ماءً مطلقاً، و ربّما يكون مضافاً.

حكم الماء المصعَّد قوله مدّ ظلّه: «لا يخرج».

قد تحرّر منّا ممنوعيّة تدخّل الفقيه في تشخيص المصاديق و الصغريات، بعد كون الأمر موكولًا إلى العرف(1)؛ ضرورة أنّه ربّما يتوهّم العرف أن تشخيصه مورد للاتكاء شرعاً، فيتّبعه على خلاف ما تشخّصه أنفسهم.

فأمثال هذه المسائل و البحث حولها من اللّغو المنهيّ عنه؛ لعدم حجّية نظر الفقيه فيها، و يستتبع أحياناً إيقاعهم في خلاف ما هو المتّبع عند الفقهاء، كما هو واضح.


1- تعليقة على العروة الوثقى: 40 42.

ص: 25

[مسألة 3: إذا شكّ في مائع أنّه مطلق أو مضاف]

مسألة 3: إذا شكّ في مائع أنّه مطلق أو مضاف، فإن علم حالته السابقة يبنى عليها (1)، إلّا في بعض الفروع، كالشبهة المفهوميّة (2)، و الشكّ في بقاء الموضوع.

حكم الماء المشكوك إطلاقه قوله مدّ ظلّه: «يبنى عليها».

على المعروف بين الأصحاب؛ نظراً إلى الاستصحاب المفروغ عن اعتباره في الشبهة الموضوعيّة الناشئة عن الجهات الخارجيّة(1).

و يتوجّه إليه: أنّه بعد كون الإطلاق و الإضافة، منتزعين عن الأوصاف النوعيّة، و أنّ الماء المطلق هو الماء، و غيرَه ليس بماء، لا معنى لجريان الاستصحاب؛ للشكّ في الموضوع، و في اتحاد القضيّتين؛ ضرورة أنّه لا يجوز أن يقال: «هذا» مشيراً إلى ما في الخارج «كان ماءً» لاحتمال كون المشار إليه مبايناً له و مضافاً؛ أي غير ماء في صورته النوعيّة، فلا تخلط.

و هكذا الأمر في استصحاب أحكامه.

قوله مدّ ظلّه: «المفهوميّة».

عدم جريانه في الشبهة الموضوعيّة الناشئة عن الشبهة المفهوميّة، مفروغ عنه، و سيمرّ عليك وجهه، بما لا تبقى فيه شبهة، إن شاء


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 116، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 45 46.

ص: 26

و إن لم يعلم حالته السابقة فلا يرفع (1) (حدثاً و لا خبثاً). و إذا لاقى النجاسة فإن كان قليلًا ينجس قطعاً. و إن كان كثيراً فالظاهر أنّه يحكم بطهارته (2).

اللَّه تعالى، و أمّا في المقام فالأمر واضح بالأولويّة.

و أمّا قوله مدّ ظلّه: «و الشكِّ في بقاء الموضوع» فلا مورد له إلّا في الموضوعيّة، كما عرفت.

و لو قيل: إذا كان الماء مطلقاً، ثمّ أخذنا في خلطه بالتراب تدريجاً، يقع الشكّ في بقاء إطلاقه في إحدى مراتب الخلط، فيستصحب، و يقع الشكّ في بقاء الموضوع في المرتبة الأُخرى، كما لا يبقى شكّ في المرتبة الأخيرة.

قلنا: قد عرفت أنّه لا معنى للشكّ في إطلاقه، إلّا برجوعه إلى الشكّ في أنّه ماء، فلا محلّ للاستصحاب، فلا تذهل.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يرفع».

لا وجه لإسناد عدم الرفع إليه، نعم لا يترتّب عليه شي ء في مرحلة الإثبات، فيستصحب الحدث و الخبث.

قوله مدّ ظلّه: «يحكم بطهارته».

و قيل: بنجاسته(1)؛ نظراً إلى استصحاب العدم الأزليّ، و حيث هو غير جارٍ في مثل المقام، فأصل الطهارة سالم عن الحاكم.


1- دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 46 47.

ص: 27

و ربّما يتوهّم الحكم بالنجاسة؛ لأجل قاعدة المقتضي و المانع المعتبرة هنا(1)، و لكنّه بمعزل عن التحقيق.

و أمّا دعوى: عدم كفاية استصحاب عدم كونه ماءً؛ لمعارضته باستصحاب عدم كونه مضافاً، فهي قابلة للدفع بعدم الأثر للثاني، بخلاف الأوّل فتأمّل.


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

ص: 28

[مسألة 4: الماء المطلق بجميع أقسامه، يتنجّس فيما إذا تغيّر]

مسألة 4: الماء المطلق بجميع أقسامه، يتنجّس فيما إذا تغيّر (1) بسبب ملاقاة النجاسة أحدُ أوصافه: اللّون، و الطعم، و الرائحة.

في تنجّس الماء المطلق بالتغيّر قوله مدّ ظلّه: «تغيّر».

و هو قول من يُحفظ عنه العلم، كما في «المنتهى»(1).

و في «الجواهر»: إجماعاً محصّلًا، و منقولًا كاد يكون متواتراً(2). و تدلّ عليه قبل هذه الإجماعات: الأخبار الناهية عن التوضّي و الشرب(3).

و هي في محلّ المنع؛ للأعمّية، و لما في صحيحة الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «في الماء الآجن يتوضّأ منه، إلّا أن تجد ماءً غيره فتنزّه منه»(4).

و في رواية أبي بصير، عنه (عليه السّلام): أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ.

فقال: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه»(5).


1- منتهى المطلب 1: 20.
2- جواهر الكلام 1: 75.
3- وسائل الشيعة 1: 137 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
4- الكافي 3: 4/ 6، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 2.
5- تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

ص: 29

فاستفادة النجاسة من نفي الأحكام في غير محلّها.

بقي النبويّ المشهور المتّفق على روايته كما في «السرائر»(1) و المتواتر(2) عن الصادق (عليه السّلام)، عن آبائه (عليهم السّلام (فيكون منجبراً-: «خلق اللَّه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه، أو طعمه، أو ريحه»(3).

و قد طعن عليه في «الحدائق»(4) و نحن قد استقصينا البحث حوله في كتابنا الكبير(5).

و النتيجة: أنّه ربّما يكون بصدد أمر آخر؛ و هو أنّ الماء غير المتغيّر لا يتنجّس بشي ء؛ لما فيه من صفة الاعتصام، و أمّا إذا تغيّر في أحد أوصافه، فتسلب عنه هذه الصفة، و يصلح للتنجّس بملاقاة النجس، كما يساعده الاعتبار.

و هذا هو الظاهر منه؛ لقوله في الاستثناء: «إلّا ما غيّر لونه، أو طعمه، أو ريحه،» الظاهر في أنّه استثناء من ابتداء الكلام، فيقرأ مجهولًا؛ أي «خلق اللَّه الماء طهوراً، إلّا ما غُيِّر لونُه و ريحُه و طعمُه، فإنّه ليس طهوراً،


1- السرائر 1: 64.
2- مدعي التواتر ابن أبي عقيل، راجع جواهر الكلام 1: 76.
3- المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
4- الحدائق الناضرة 1: 180.
5- تحريرات في الفقه، قسم الطهارة، المبحث الثالث، الجهة الأُولى.

ص: 30

و لا يتنجّس (1) فيما إذا تغيّر بالمجاورة، كما إذا كان قريباً من جيفة، فصار جائفاً.

نعم، إذا وقعت الجيفة خارج الماء، و وقع جزء منها فيه، و تغيّر بسبب المجموع من الداخل و الخارج، يتنجّس.

و ينجّسه النجس».

فبالجملة: الخبر أجنبيّ عمّا فهموه منه.

و دعوى انجباره فهماً بفهمهم، غير مسموعة؛ لاستنادهم قويّاً إلى القرائن الموجودة الأُخر الواصلة، فالمسألة عندي مشكلة جدّاً، و مخالفةُ الأصحاب و الإجماع أكثر إشكالًا، فالاحتياط لا يترك جدّاً.

و يؤيّد ما احتملناه، ذيل خبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب على ريح الماء»(1)، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يتنجّس».

بلا خلاف(2)، و معناه أنّه إذا تغيّر ماء في أوصافه الثلاثة بالنجس المجاور، و أثّر فيه أشدّ التأثير لا ينجس، و لكنّه إذا تغيّر في إحداها و لو لم يكن من سنخ النجس يتنجّس و لو كان ضعيفاً في التغيّر، فهل ترى من


1- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139 140، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
2- جواهر الكلام 1: 82.

ص: 31

نفسك صحّة نسبته إلى الشرع؟! أم تجد أنّ المطلقات محكّمة، و الموارد الخاصّة غالبيّة، بل لو لم يكن هناك إطلاق، لا تستفاد الخصوصيّة.

نعم، بناءً على ما أبدعناه تعتبر الملاقاة؛ لأنّ الماء بالتغيّر يسلب عنه نعت الاعتصام، فتؤثّر فيه النجاسة بالملاقاة.

و بالجملة: اشتراط اللّقاء ممنوع جدّاً.

ص: 32

[مسألة 5: المعتبر تأثّر الماء بأوصاف النجاسة، لا المتنجّس]

مسألة 5: المعتبر تأثّر الماء بأوصاف النجاسة (1)، لا المتنجّس، فإذا احمرّ الماء بالبقم المتنجّس (2)، لا ينجس إذا كان كرّاً، أو جارياً، و نحوهما.

قوله مدّ ظلّه: «بأوصاف النجاسة».

لا يعتبر أزيد من التغيّر بالنجاسة و إن لم يكن من أوصافها، كما يأتي في المسألة الآتية.

نعم، يعتبر عندهم التغيّر بالنجاسة في الأوصاف الثلاثة، فالعبارتان متناقضتان.

قوله مدّ ظلّه: «لا المتنجّس».

على المعروف المشهور الذي كاد أن يكون إجماعيّاً.

و إدخال المسألة في حديث الاستقذار الطبعي(1)، ينافي تصريحهم بعدم تنجّسه في صورة تأثّره في الثقل و الوزن، فإنّه يوجب الاستقذار جدّاً.

و بالجملة: يكفي قصور الأدلّة لعدم تنجّسه، و الاستصحابُ.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 120.

ص: 33

[مسألة 6: المناط تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة]

مسألة 6: المناط تغيّر أحد الأوصاف (1) الثلاثة.

قوله مدّ ظلّه: «أحد الأوصاف».

بلا خلاف، فلا تعتبر الثلاثة مجموعةً، و هو مقتضى كثير من الأخبار(1).

نعم، في الروايات صحيح حَريز بن عبد اللَّه، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّه قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة، فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه، و لا تشرب»(2).

و مثله خبر أبي خالد القمّاط(3).

و توهّم: أنّه إن أمكن عرفاً الجمع بينهما فهو، و إلّا فالخبران معرض عنهما، مع ما في سند الخبر الثاني.

مندفع: بعدم موهنيّة هذا الإعراض الواضح الاستناد، و سند الثاني يصحّ عندهم بحمّاد بن عيسى؛ فإنّه من أصحاب الإجماع.

نعم، الترجيح مع الطائفة الأُولى، و مجي ءُ «أو» بمعنى الواو و لو كان في الكتاب الإلهيّ لا يكفي، كما لا يخفى.


1- وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
2- تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.
3- تهذيب الأحكام 1: 40/ 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 4.

ص: 34

بقي شي ء: و هو أنّ المشهور كفاية التغيّر باللّون(1)، و ربّما يناقش فيه بخلوّ الأخبار منه، و هو في محلّ المنع؛ لاشتمال النبويّ(2) و حديثي العلاء بن الفضيل(3) و شهاب بن عبد ربّه(4) عليه.

و المناقشةُ في النبوي بما مرّ(5)، و في الثاني بوجود محمّد بن سِنان فيه، و في الثالث من جهات كثيرة، قابلةٌ للدفع، بعد صراحة كلمات الأقدمين(6) فيه، مع مساعدة الاعتبار له.

و الإشكال العقليّ: بسبق الطعم و الريح على اللّون(7)، فلا وجه لعدّه كما في «الحدائق»(8)، أو المناقشة: بأنّ اللّون غير موجود إلّا في النهار،


1- مدارك الأحكام 1: 57، حبل المتين 106/ السطر 13، ذخيرة المعاد: 116/ السطر 37.
2- المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
3- تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.
4- بصائر الدرجات: 258، الجزء الخامس، الباب 10، الحديث 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.
5- تقدّم في الصفحة: 29.
6- المقنعة: 64، المبسوط 1: 6، تذكرة الفقهاء 1: 15، المسألة 2.
7- حبل المتين: 106/ السطر 15.
8- الحدائق الناضرة 1: 181.

ص: 35

بسبب النجاسة (1) و إن كان من غير سنخ النجس، فلو اصفرّ الماء مثلًا بوقوع الدم فيه تنجّس.

دون اللّيالي، أو في حال وجود الأنوار، دون صورة فقدها؛ لأنّ الألوان من الأنوار، و لعلّ إهمال الأخبار بالنسبة إليه كثيراً؛ للإشارة إلى هذه النكتة، قابل للدفع بحسب الفهم العرفيّ و المسامحة العقلائيّة، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «بسبب النجاسة».

للإطلاق المعتضد بالاعتبار؛ بناءً على القول: بنجاسة الماء المتغيّر.

و توهّم الانصراف لأجل قلّة الوجود و الاتفاق، أو لأجل انس الذهن بالمسانخة بين العلّة و المعلول، لا يرجع إلى محصّل.

ص: 36

[مسألة 7: لو وقع في الماء المعتصم، متنجّس حامل لوصف النجس]

مسألة 7: لو وقع في الماء المعتصم، متنجّس حامل لوصف النجس بوقوعه فيه، فغيّره بوصف النجس، لم يتنجّس على الأقوى (1)، كما إذا وقعت ميتة في ماء، فغيّرت ريحه، ثمّ أُخرجت منه، و صبّ ذلك الماء في كرّ، فغيّر ريحه. نعم، لو حمل المتنجّس أجزاء النجس، فتغيّر المعتصم بها، تنجّس.

قوله مدّ ظلّه: «لم يتنجّس على الأقوى».

خلافاً لجماعة، و منشأ الاختلاف اختلاف فهمهم من النبويّ أوّلًا، و اختلاف نظرهم في مناسبات الحكم و الموضوع ثانياً؛ ضرورة أنّ المراد من كلمة «شي ء» إن كان نجس العين، فالتنجّس لا يورث نجاسة الماء بالتغيّر.

و إن كان المراد أعمّ كما هو قضيّة النكرة في سياق النفي هنا و في أخبار الكرّ(1) فلازمه نجاسة الكرّ المعتصم.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ مقتضى النبويّ، نجاسة الماء المتغيّر بعنوانه، و مقتضى الأخبار أنّ الماء المتغيّر بالنجس، من النجاسات الذاتيّة، كنجاسة بدن الميّت، و العصير على القول به، و ليس هو من «المتنجّس» الاصطلاحيّ.

فلو كان المراد أخصّ، تصير النتيجة أيضاً: نجاسة الماء المذكور، فلو وقع في الماء المعتصم مقدارٌ من الماء المتغيّر، فهو كوقوع البول فيه.


1- وسائل الشيعة 1: 158 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 37

نعم، بناءً على ما احتملناه في النبويّ، يسقط البحث كما مرّ، هذا فيما إذا كان المتنجّس ماءً متغيّراً.

و أما إذا وقع في الماء المعتصم، جامدٌ متنجّس فغيّر الماء، فالنزاع المذكور يأتي فيه.

و ما هو الحقّ: أنّ الخصوصيّة ملغاة من موارد الأخبار الخاصّة، فلو كان حجر كبير فيه رائحة الميتة و غيرها، فوقع في الماء، فغيّره إلى ريح الميتة، ينجس على الأظهر.

و من الغريب التفصيل بين حمل الأجزاء و غيره؛ فإنّ العرف غير مساعد، و العقل لا يفرّق بين الفروض؛ في كون التغيّر مستنداً إلى الأجزاء، فهنا اتفق مقتضى العقل و العرف، و إن خالفهما جماعة آخرون.

و لا يعتبر أن يكون الحامل متنجّساً، كما يظهر من قوله مدّ ظلّه-: «لو حمل المتنجّس أجزاء النجس ..» إلى آخره؛ فإنّ الميزان حمل الأجزاء، سواء كان الحامل متنجّساً، أو غير متنجّس.

ص: 38

[مسألة 8: الماء الجاري]

مسألة 8: الماء الجاري- و هو النابع (1) حكم الماء الجاري قوله مدّ ظلّه: «و هو النابع».

على المشهور المدّعى عليه الإجماعات.

و في «المدارك»(1) و «الدلائل»(2): إجماع الأصحاب على أنّ الجاري لا عن نبع، من أقسام الراكد.

و عن ابن أبي عقيل: نفي اعتبار النبع(3).

و في ظاهر المنسوب إلى المصنّف مدّ ظلّه-: كفاية تبدّل الأبخرة إلى الماء في صدق «الجاري»(4) و لا حاجة إلى وجود المخازن الأرضيّة في صدقه.

فلو كان النبع معتبراً لكفى كونه من المخازن الأرضيّة، و ليكفِ كونه مستنداً إلى تسبيب البشر، كما هو جائز في هذه الأزمنة.

فبالجملة: لا دليل من اللّغة و العرف، على دخالة النبع في صدقه،


1- مدارك الأحكام 1: 28.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 61.
3- جامع المقاصد 1: 110، مستمسك العروة الوثقى 1: 131.
4- الطهارة) تقريرات الإمام الخميني( قدّس سرّه)( اللنكراني: 4/ السطر 11 و 12) مخطوط).

ص: 39

السائل (1) و توهّم كشف ذلك بالإجماع(1)، في غير محلّه.

نعم، دعوى انصرافه إلى ذلك في محيط الأخبار و لا سيّما في تلك الأمصار و الأعصار غير بعيدة، إلّا أنّها غير مستقرّة؛ لكفاية المخازن و المتصيّر تحت الأرض في صدقه، إذا اتفق سريانه منها إلى الخارج.

فبالجملة: لا بدّ من وجود مادّة تكون مبدءً لوجوده، و لو كانت هي الثلوج و البَرَد، و إلّا يلزم عدم كون الفرات و دجلة و الكارون من المياه الجارية، و تفصيله في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «السائل».

على المعروف بينهم(3)، خلافاً لما يظهر من «المسالك»(4).

و الذي هو الحقّ: أنّ السيلان معتبر، لا بمعنى الجريان على وجه الأرض، فلو كانت فوّارة نابعة من الأرض إلى السماء، و لكنّها لا تجري عليها، بل ترجع إلى نفس المخزن فهي من الجاري، كما أنّه لا يعتبر السريان و السيلان دائماً في صدقه، بل تكفي الشأنيّة.


1- مدارك الأحكام 1: 28.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، حول الماء الجاري.
3- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 131.
4- مسالك الأفهام 1: 12.

ص: 40

لا ينجس بملاقاة النجس، كثيراً كان أو قليلًا (1).

ثمّ إنّ الدوام غير بعيد اعتباره في الجملة، فلو حدث النابع السائل ساعة و انقطع، فلا يكون من ذاك الجاري.

قوله مدّ ظلّه: «أو قليلًا».

بلا خلاف يعتدّ به، و عليه حكاية الإجماعات المنقولة، و الشهرات المحقّقة(1).

و قد خالفهم السيّد في «الجمل»(2) و العلّامة في أكثر كتبه(3) إلّا فيما يظهر من «الإرشاد»(4) و ثاني الشهيدين في كتبه الثلاثة(5).

و توهّم تماميّة الإجماع التعبّدي في المسألة(6)، غير تامّ، لأنّ المستند أخبارها، مع إهماله في كلام جمع من القدماء(7)، و لو صرّح به


1- المعتبر 1: 41، منتهى المطلب 1: 27، جواهر الكلام 1: 85.
2- رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
3- تذكرة الفقهاء 1: 17، قواعد الأحكام 1: 4/ السطر 18، منتهى المطلب 1: 27، نهاية الأحكام 1: 228.
4- إرشاد الأذهان 1: 235.
5- روض الجنان: 134/ السطر 25، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 8، مسالك الأفهام 1: 12.
6- مدارك الأحكام 1: 30، جواهر الكلام 1: 85.
7- المقنعة: 64، المراسم: 37، النهاية ضمن الجوامع الفقهيّة: 263/ السطر 16.

ص: 41

ابن البرّاج(1) و بعض أقرانه(2).

و التمسّك بإطلاق النبويّ، في غير محلّه؛ لأنّ المفروض فيه ليس هو الماء القليل و لو قطرةً، فإذا كان المفروض فيه الكثرة فهو مجمل من تلك الجهة، بل الظاهر من المستثنى هو الكثير من الماء.

و مثله مضمرة سَماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء.

قال: «يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة»(3).

و أمّا التمسّك(4) بما في الباب الخامس من «الوسائل»(5) فهو في غير محلّه؛ لأنّها أخبار ناظرة إلى نفي البأس عن البول فيه تكليفاً، و فيه معتبر ابن مِهران قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه.

قال: «لا بأس به»(6).


1- المهذّب 1: 20.
2- الوسيلة: 72، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 28.
3- تهذيب الأحكام 1: 408/ 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.
4- مدارك الأحكام 1: 32.
5- وسائل الشيعة 1: 143 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.
6- تهذيب الأحكام 1: 34/ 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 4.

ص: 42

فإنّه ظاهر في السؤال عن الماء الكذائيّ.

إلّا أنّ الإطلاق هنا و في سائر الأخبار المستدلّ بها، غير واضح؛ لانصرافها إلى المياه الجارية البالغة كرّاً، و قليلٌ وجود القليل منها جدّاً.

و من هنا يظهر عدم تماميّة الاستدلال بما ورد في ماء الحمّام(1)؛ بتوهّم أنّ الكرّية لو كانت شرطاً في الجاري، لما كان وجه للتنزيل(2)؛ و أنّ ماء الحمّام «بمنزلة الماء الجاري» كما في معتبر ابن مسلم(3)، أو «أنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً» كما في رواية ابن أبي يعفور(4).

و أنت خبير بجواز أن يقال: «ماء الحمّام بمنزلة الكرّ».

نعم، لا تبعد استفادة كفاية الجريان من قوله (عليه السّلام) في رواية بكر بن حبيب: «إذا كانت له مادّة»(5) و قولِه (عليه السّلام): في موثّقة حنان بن سَدير قال: «أ ليس هو جارٍ؟».


1- وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
2- جواهر الكلام 1: 86.
3- لم نجد هذا التعبير في روايات محمّد بن مسلم، نعم قد ورد في تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170 عن داود بن سرحان.
4- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
5- الكافي 3: 14/ 2، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

ص: 43

قلت: بلى.

قال: «لا بأس»(1).

لأنّ المتفاهم منه، أنّ المناط كون الماء ذا مادّة، و لا يعتبر شي ء حتّى الجريانُ؛ لأنّه باعتبار كونه ذا مادّة، كما هو المستفاد من معتبر ابن بَزيع(2).

اللّهمّ إلّا أن يقال: بما مرّ من الإشكال في الإطلاق(3)؛ لعدم الحاجة إلى ذكر القيد، كما لا يخفى.

نعم، يبقى حديث لغويّة التعليل بالمادّة، لو كان الشرط كرّية الماء(4)، و هذا متين جدّاً.

و كون النسبة بين أدلّة اعتبار الكرّية و هذه الأخبار، عموماً من وجه، لا يضرّ؛ لما سيمرّ عليك من عدم ثبوت المفهوم لأخبار الكرّ، و إلّا فالترجيح بأقوائيّة ظهور التعليل(5)، في غير محلّه؛ لما تحرّر من أنّ


1- الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.
2- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.
3- تقدّم في الصفحة 41.
4- جواهر الكلام 1: 86.
5- مستمسك العروة الوثقى 1: 134.

ص: 44

و يلحق به النابع الواقف (1)، كبعض العيون، و كذلك البئر على الأقوى (2)، الأظهريّة، ممّا لا أساس لها في باب الترجيحات.

كما أنّ ما اشتهر: من ترجيح أخبار الجاري؛ للزوم اللّغوية لو قدّمت روايات الكرّ، و لا عكس(1)، غير وجيه عندنا؛ ضرورة أنّ الجمع بين الأخبار ليس واجباً، حتّى يلزم الجمع بالوجه المزبور، فإذا كانت متعارضةً فرضاً، فالترجيح مع الأخبار الناطقة بعدم اعتبار الشرطيّة، كما هو واضح.

و من هنا يظهر وجه تقييد الإطلاقات المستدلّ بها لنجاسة كلّ ماء إلّا الكثير.

و ربّما يعارض بينها و بين الإطلاق النافي لنجاسة كلّ ماء إلّا بالتغيّر، فيرجع إلى الطائفة الثالثة، الموجبة لانقلاب نسبة التباين بين الأُوليين، إلى الإطلاق و التقييد، و تصير النتيجة: كفاية كون الماء ذا مادّة.

قوله مدّ ظلّه: «النابع الواقف».

قد عرفت: أنّه من الجاري موضوعاً، و تبيّن أنّ المناط كونه ذا مادّة.

قوله مدّ ظلّه: «البئر على الأقوى».

وفاقاً لما حكى أبو يعلى الجعفريّ عن ابن الغضائريّ، و للعمّاني،


1- جواهر الكلام 1: 86.

ص: 45

و لمحمّد بن الجهم(1)، بل هو مذهب الشيخ كما في «المختلف»(2) و ربّما يستظهر من «الهداية»(3) و «التهذيب»(4).

فما عن درس عميد الدين كما في «غاية المراد»(5): من أنّ القول بالطهارة، إبداع شيخ العلّامة ابن الجهم، و تبعه العلّامة في نوع كتبه(6)، في غير محلّه.

و ما يظهر من منفردات السيّد (رحمه اللَّه (في «الانتصار»(7) في غير محلّه أيضاً، فقد حكي عن «أمالي الصدوق»(8): «أنّه من دين الإماميّة، و عليه فتوى الفقهاء؛ من زمن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، إلى يومنا هذا»(9).

و في «المنتهى» نقل القول بالنجاسة عن جماعة من الصحابة


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 79/ السطر 14.
2- مختلف الشيعة 1: 187.
3- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 18.
4- تهذيب الأحكام 1: 232.
5- غاية المراد 1: 71.
6- منتهى المطلب 1: 56 و 68، تذكرة الفقهاء 1: 27، مختلف الشيعة 1: 187.
7- الانتصار: 11.
8- الأمالي: 514.
9- مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 15.

ص: 46

و التابعين(1).

و يظهر من «الخلاف» ذهاب أبي حنيفة إلى نجاسته بلغ ما بلغ(2).

و عن موضع من «المعتبر» نسبة النجاسة إلى الجمهور(3).

فتحصّل: أنّ الإجماعات المدّعاة على الطهارة، و الشهرات المحكيّة، ليست تعبّدية، و لا تامّة؛ لاختلاف الأخبار، و اضطراب الآراء، فالمعتمد عليه هو النصوص.

و تحصّل: أنّ العامّة تقول بالنجاسة، فأخبار النجاسة قابلة للحمل على التقيّة.

و من الواضح: أنّ مقتضى الإطلاقات و الأُصول، هي طهارة ماء البئر بعد كونه ماء ذا مادّة، فالقول بالنجاسة يحتاج إلى التأييد بالأخبار، و هي- مع تشتّتها متناً و سنداً، و قابليّة بعضها دلالة، و تماميّته سنداً لا تقاوم تلك المآثير الناهضة على طهارته بالخصوص، و على تقدير المعارضة تكون أخبار الطهارة مخالفة للعامّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّها خلاف الشهرة، و هي و إن لم تكن بالغة إلى


1- منتهى المطلب 1: 57.
2- الخلاف 1: 192.
3- المعتبر 1: 55.

ص: 47

فلا ينجس المياه المزبورة إلّا بالتغيّر. (1) حدّ إحداث الوهن فيها كما هو واضح، و لكنّها قابلة لترجيحها على معارضها، فيقع التعارض بين المرجّحات، و يكون المرجع تلك الإطلاقات.

و توهّم: أنّ الترجيح مع الشهرة عند المعارضة، في غير محلّه، مع أنّ أساس المرجّحات بلا أصل، كما تحرّر في الأُصول.

و أمّا توهّم: أنّ المسألة من صغريات انقلاب النسبة، و تصير النتيجة: نجاسة ماء البئر، فهو غير تامّ؛ لأنّه ليس من الجمع العرفيّ، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا بالتغيّر».

على ما عرفت، و هنا إشكال آخر زائداً على إشكال نجاسة مطلق المياه بالتغيّر، و هو: أنّ الأخبار الناطقة فرضاً بنجاسة الماء المتغيّر، موضوعها «الماء المطلق» فتعارضها الأخبار الناطقة بعدم تنجّس الماء الجاري، و أنّه «يطهّر بعضه بعضاً»(1) و هو مقتضى الإطلاق الناطق بعدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه(2).

فالنسبة بين الطائفتين عموم من وجه، و تصير النتيجة: عدم


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
2- وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 1 4 و 6.

ص: 48

نجاسة الجاري بالتغيّر، بخلاف بعض المياه الأُخر الوارد في خصوصه تنجّسه بالتغيّر(1).

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الأدلّة الناطقة بنجاسة المتغيّر من المياه، ناظرة إلى المياه الخاصّة، كالنبويّ(2) و نحوه(3).

أو يقال: إطلاق عدم تنجّس الجاري و الواقف، ممنوع.

و بالجملة: في خصوص البئر نقول بنجاسته بالتغيّر؛ لمعتبر ابن بَزيع(4)، إلّا على الإشكال العامّ الذي مرّ تحريره(5).


1- وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14.
2- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
3- وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
4- الكافي 3: 5/ 2، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 1.
5- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 49

[مسألة 9: الراكد المتّصل بالجاري حكمه حكم الجاري]

مسألة 9: الراكد المتّصل بالجاري حكمه حكم الجاري (1)، فالغدير المتّصل بالنهر بساقية و نحوها، كالنهر.

و كذا أطراف النهر، و إن كان ماؤها واقفاً.

قوله مدّ ظلّه: «حكم الجاري».

يظهر منه و من جمع آخر: أنّه ليس من الجاري موضوعاً(1)، فعليه يُشكل؛ لأنّه ليس من الكرّ، و لا من ذي مادّة، و لا البئر.

و توهّم: أنّه ذو مادّة(2)، فاسد؛ لأنّ المراد منها ما لا ينطبق على مثله، أو يكون مورد انصراف دليلها؛ ضرورة أنّه متّحد مع المادّة سطحاً و تشخّصاً، فإذا كان قليلًا ينفعل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه جارٍ عرفاً؛ لاتحاده مع ما في النهر، و لا يعتبر في جريان الماء الجاري، كونُ جميع أجزائه جارياً، فالأقرب أنّه جارٍ موضوعاً.

نعم، إذا كان اتصاله بالنهر رقيقاً، فالحكم بعدم تنجّسه مشكل؛ للزوم تعدّد ما في الساقية مع ما في النهر، فتدبّر.


1- العروة الوثقى 1: 30، فصل الماء الجاري، المسألة 6.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 139.

ص: 50

[مسألة 10: يطهر الجاري و ما في حكمه]

مسألة 10: يطهر الجاري (1) و ما في حكمه- إذا تنجّس بالتغيّر إذا زال تغيّره و لو من قِبَل نفسه، و امتزج بالمعتصم.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر الجاري».

بالاتفاق في صورة الامتزاج؛ لأنّ هذا هو القدر المتيقّن، و إنّما الخلاف في الراكد و في الجاري إذا لم يمتزجا.

و هذا هو مقتضى ما ورد في خصوصه: «إنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً»(1) فإنّ مورده ما إذا تغيّر ثمّ زال التغيّر، فإنّه يُطهِّر بعضه بعضاً؛ لغلبته عليه، و لامتزاجه به عادةً و غالباً.

و سيظهر ما عندنا في المسألة الآتية(2) من البحوث المختلفة في طهارة الماء المتنجّس بالتغيّر، و في بحث طهارة القليل المتنجّس إن شاء اللَّه تعالى(3).

و الّذي نشير إليه هنا: هو أنّ الظّاهر من أخبار تنجّس الماء المتغيّر، هو أنّ الماء ينجس به، فإن قلنا: بأنّ النجس هو العنوان ك «الكافر» فنفس الزوال كافٍ، و لا حاجة إلى الاتصال، كما نسب(4) إلى جمع من المخالفين،


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
2- يأتي في الصفحة 60.
3- يأتي في الصفحة 65.
4- منتهى المطلب 1: 64، جواهر الكلام 1: 166.

ص: 51

كالشافعيّ، و أحمد، و المؤالفين كابن سعيد(1)، و الشهيد(2)، بل و العلّامة في بعض كتبه ك «النهاية»(3).

و إن قلنا: بأنّ الماء ينجس بالتغيّر، و لا تزول بزواله، فيصير في الاعتبار من الأعيان النجسة، و لا طريق للعقلاء في تنظيف هذا الماء بالامتزاج، و لا بالاتصال، بل هو كالجامد، إلّا أنّه لا يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك.

و هو ليس من التطهير المطلوب؛ لأنّ الكرّ من البول يطهر بالاستهلاك أيضاً، فعلى هذا لا بدّ من قيام دليل شرعيّ صريح في هذا المعنى الّذي هو على خلاف مرتكز القوم و العقلاء.

و يؤيّد ذلك النبويّ(4) و العلويّ(5): أنّ «الماء يطهِّر و لا يطهَّر» لأنّه بالاستهلاك ليس ماءً.


1- الجامع للشرائع: 18.
2- الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 6.
3- نهاية الإحكام 1: 258.
4- الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.
5- المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

ص: 52

و أمّا صحيح ابن بَزيع(1)، فمع ما فيه من الشبهات، لا يدلّ على كفاية الاتصال؛ لأنّ النزح يلازم الامتزاج، و لا على كفاية الامتزاج؛ لأنّ ذهاب الريح و عود الطيب، ربّما لا يكون إلّا بالاستهلاك العرفيّ، فإطلاقه ممنوع جدّاً، و النتيجة حينئذٍ هو الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو الاستهلاك.

و لعمري، إنّ المتغيّر يطهر بزوال تغيّره، و الصحيح المزبور ظاهر عندنا في كون التعليل الأخير، راجعاً إلى الصدر؛ عند من يعرف العربيّة، و يأنس بأُسلوب كلام الأديب الأريب، فيكون معتبر ابن بزيع دليلًا على كفاية ذهاب الريح و عود الطيب، و لا يثبت الإجماع التعبّدي كما أُشير إليه(2)، فتدبّر.


1- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.
2- تقّدم في الصفحة 40.

ص: 53

[مسألة 11: الراكد بلا مادّة ينجس بملاقاة النجاسة]

مسألة 11: الراكد بلا مادّة ينجس (1) بملاقاة النجاسة؛ إذا كان دون الكرّ، في الماء الراكد قوله مدّ ظلّه: «ينجس».

كان المعروف بحسب التأريخ، انفعال القليل من قديم الأيّام، فعن ابن عبّاس، و ابن عمر، و أبي هريرة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و أحمد، و إسحاق، و أبي عُبيدة، و أبي ثور، اعتبار القلّتين(1)، فما في «مفتاح الكرامة»: «أنّ الحكم بالطهارة مشهور بينهم»(2) غير واضح.

و قد تبعهم أبو حنيفة، إلّا أنّه قال: «الماء القليل الّذي يتحرّك أحد جانبيه بملاقاة الجانب الآخر ينجس»(3).

و قد خالفهم مالك، و البصريّ، و النَّخَعي، و داود(4)، و هم الأقدم على المذاهب الأربعة.

فالمسألة كانت معنونة، و المشهور بين الأوّلين هي النجاسة، فما عن الكاشانيّ: «من أنّ الطهارة كانت مفروغاً عنها، و المسألة حديثة


1- لاحظ الخلاف 1: 191.
2- مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 3.
3- لاحظ المجموع 1: 113.
4- المجموع 1: 113.

ص: 54

متأخّرة»(1) في غير محلّه.

فعليه لا يجوز صدور الأخبار تقيّة لو كانت تدلّ على الطهارة، و لا سيّما مع اضطراب رأي الشافعيّ في المسألة(2)، و قيل: «المعروف منه هي النجاسة»(3).

ثمّ، إنّ المُجمع عليه بين أصحابنا و القول المشهور من السلف: هي النجاسة أيضاً، و عليه الإجماعات البالغة إلى الثلاثين أو الأكثر(4).

نعم، نسب الخلاف إلى العمّاني(5)، و القاضي أبي حنيفة الشيعيّ(6)، بل و الكلينيّ(7)، و الصدوق(8)، و لكنّه غير تامّ، و ظاهر الأخير أنّه من المفصّلين(9)، و قيل: «أنّ الكلينيّ ذهب إلى تنجّس القليل مطلقاً».

إلّا أنّ الشأن عدم تماميّة الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، أو


1- الوافي 6: 20.
2- المغني 1: 24 و 25.
3- مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.
4- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 72، مهذّب الأحكام 1: 168.
5- مختلف الشيعة 1: 176، تذكرة الفقهاء 1: 22.
6- دعائم الإسلام 1: 111 و 112.
7- لاحظ مقابس الأنوار: 66/ السطر 22.
8- لاحظ مقابس الأنوار: 66/ السطر 26.
9- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

ص: 55

النسبة غير الواصلة إلينا، فإنّه بعيد بعد وجود الأخبار الناطقة بالنجاسة، حتّى حكي عن «المعالم» و المجلسيّ و البهبهانيّ تواترها(1).

و عن «الرياض»: «جمع منها بعض الأصحاب مائتي حديث»(2).

و عن بعضهم: «أنّها تبلغ ثلاثمائة أو أكثر»(3).

و عليه تكون الأخبار الأُخر الناطقة بالطهارة فرضاً و إن كانت معارضة معها، إلّا أنّ في المسألة يتقوّى إعراض المشهور عنها؛ لاحتمال كونها صادرة أحياناً تقيّةً.

و لو كان التعارض مستقرّاً، فالأخذ بالمشهور و هي الطائفة الاولى متعيّن؛ فإنّه يتعاضد الشهرة الفتوائيّة بالشهرة الروائيّة، و يكفي للنجاسة مضافاً إلى مساعدة الاعتبار و النظافة الإسلاميّة اغتراس الأذهان الإسلاميّة و المتشرّعة.

و قد مضى: أنّ القول بانقلاب النسبة بين المقيّدين المتعارضين مع العامّ الفوقانيّ؛ بالجمع العقلائيّ بين العامّ الأوّل و هي طهارة المياه، و عدم تنجّسها و أخبار النجاسة بالتقييد، ثمّ الجمع بينه و بين الطائفة


1- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 141.
2- رياض المسائل 1: 144.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 142.

ص: 56

الثانية، ليس من الجمع العقلائيّ، و إلّا فهو هنا يورث نجاسة القليل أيضاً.

ثمّ إنّ كثيراً من الأخبار المتمسّك بها للطهارة، غير مرتبطة بالمسألة؛ لأنّ الكلام حول انفعال الماء القليل، و أمّا حدّ القلّة فهو بحث آخر، فالرواية الناطقة بعدم تنجّس ماء الراوية و أشباهها(1)، ليست من تلك الطائفة؛ لجواز القول: بأنّ حدّ القليل ينطبق على الراوية و أشباهها، كما يأتي تحقيقه(2)، كما أنّ المخالفين في حدود الكرّ، كلّهم من القائلين: بنجاسة القليل، و ذاهبون إلى تقسيم الماء إلى الحدّين: القلّة، و ما يزيد عليها.

و غير خفيّ: أنّه بعد التدبّر في أخبار المسألة، لا يمكن أن يجعل الوثوق بدلالة طائفة معتبرة على الطهارة إنصافاً، و لا يجوز الاستناد في مثل هذه المسألة إلى رواية و لو كانت صحيحة و دالّة كما لا يخفى، و إذا زادت عليها زاد وهناً، فاغتنم.


1- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
2- يأتي في الصفحة 66 69.

ص: 57

سواء كان وارداً عليها أو موروداً (1). و يطهر بالامتزاج بماءٍ معتصم، كالجاري و الكرّ و ماء المطر.

قوله مدّ ظلّه: «موروداً».

قال السيّد في «الناصريّات» بالتفصيل المذكور، قائلًا بعد العنوان:

«لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً، و الشافعيّ يفرّق بين ورود الماء على النجاسة، و ورودها عليه، فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة، و يقوى في نفسي عاجلًا إلى أن يقع التأمّل بذلك، صحّةُ ما ذهب إليه الشافعيّ و أبو حنيفة»(1) انتهى.

و حكي(2) موافقة الحلّي له، و قال في ذيل المسألة: «إنّه الموافق لأصل المذهب و فتاوى الأصحاب»(3) انتهى.

و أنت خبير: بأنّه لا يخفى على السيّد (رحمه اللَّه)، ما هو من فتاوى الأصحاب كما في كلامه، و الأمر سهل.

و في المسألة بحسب التصوّر احتمالات، إلّا أنّ الأظهر عندي أنّ مقصود الباحثين السالفين، ليس ما يرتبط بمسألة الغُسالة، أو كيفيّة


1- لاحظ الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 149.
3- السرائر 1: 181.

ص: 58

و الأقوى عدم الاكتفاء بالاتصال (1) بلا امتزاج.

تطهير المتنجّسات، بل المقصود هو أنّه لو مرّ القليل على عين النجس- لا النجس على القليل فهل ينجس؛ نظراً إلى أنّ أخبار المسألة كلّها حول النجاسة الواقعة في الماء، أو ما يشبه ذلك؟

و أمّا في صورة العكس، فقصور الأدلّة الخاصّة، يكفي لكون الأصل أو المطلقات مرجعاً عند الشكّ، و ليس المنظور ورود الماء على النجس، فبقي النجس في الماء، فإنّه قول قبيح صدوره من العاقل.

و بالجملة: مسألة طهارة الغُسالة أمر مربوط بتطهير المتنجّس، و مسألتنا هذه غسالة النجس؛ أي الماء المارّ عليه، من غير كون النظر إلى اختلاف السطوح، و العالي و الداني، فإنّه أيضاً بحث آخر.

و الّذي يظهر: أنّه إذا كانت الغسالة نجسة، فهو أولى به، و أمّا إذا كانت طاهرة، فالقول: بنجاسة الماء المارّ على النجس المنفكّ عنه، يكون تنجّسه مستفاداً من أدلّة تنجّس الجامد بالرطوبة(1)، فإنّه أولى بذلك، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «بالاتصال».

خلافاً لطائفة من الإجماعات المحكيّة و الشهرات المحقّقة(2)


1- وسائل الشيعة 3: 441، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 26.
2- مقابس الأنوار: 82/ السطر 12 و 33، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.

ص: 59

إلى عصر «المعتبر» و قيل: «هو أوّل من اعتبر فيه الامتزاج»(1) كما نحن أوّل من اعتبر الاستهلاك.

و يجوز منع الإجماع الشهرة؛ حيث يظهر من متون «المبسوط»(2) و «السرائر»(3) و «الوسيلة»(4) اعتبار الزائد على الاتصال؛ لقولهم بتكاثر الماء الوارد و تدافعه، فعليه يكون المرجع القواعد الموجودة، و هي تقتضي نجاسته إلى أن يحرز مزيلها.

و ما يستدلّ به(5) لكفاية الاتصال من إطلاق معتبر ابن بَزيع(6) غير تامّ؛ ضرورة أنّ المتفاهم من التعليل أنّه علّة لقوله (عليه السّلام): «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» و سائرُ الجمل من تبعات هذه المسألة.

أو يكون قوله (عليه السّلام): «لأنّ له مادّة» علّة لما يحصل من النزح؛ و هي طهارة الماء، فلا بدّ من النظر إلى دخالة النزح، و هي ممنوعة قطعاً بما هو هو.


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.
2- المبسوط 1: 7.
3- السرائر 1: 63.
4- الوسيلة: 73.
5- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 145، مستمسك العروة الوثقى 1: 125.
6- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.

ص: 60

نعم، لمكان الملازمة الخارجيّة بين النزح و الامتزاج أو الاستهلاك، لا يبقى محلّ للإطلاق.

و أما كفاية الامتزاج، فهي ممنوعة عندنا؛ لأنّ الظاهر من مورد الخبر، كون البئر باقٍ فيه الماء بعد النزح، لقوله (عليه السّلام): «حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه» فعليه تكون من الآبار الّتي يكثر فيها الماء، و يحصل به الاستهلاك العرفيّ؛ بحيث لا يبقى من الماء الأوّل إلّا شي ء قليل فانٍ في جنب الماء الوارد الباقي، فإطلاقه لكفاية الامتزاج أيضاً ممنوع.

و يؤيّد ما سلكناه: أنّ الماء المتنجّس كالجامد في تطهيره، فكما لا يكفي تطهير جانب من الجامد عن الجانب الآخر، كذلك الماء.

نعم، الماء المتغيّر يطهر على الأشبه بزوال الوصف كما مرّ(1)، فليتدبّر جيّداً.


1- تقدّم في الصفحة 52.

ص: 61

[مسألة 12: إذا كان الماء قليلًا، و شكّ في أنّ له مادّة أم لا]

مسألة 12: إذا كان الماء قليلًا، و شكّ في أنّ له مادّة أم لا، فإن كان ذا مادّة و شكّ في انقطاعها، يبني على الحالة (1) السابقة الأُولى، قوله مدّ ظلّه: «يبني على الحالة ..».

نظراً إلى استصحاب الكون الرابط؛ و هو أنّه كان ذا مادّة، و الآن كذلك.

و فيه نظر؛ لأنّ ما هو موضوع الاعتصام و عدم التنجّس بالملاقاة، هو الماء، و العلّة الشرعيّة لا ترجع إلى قيد الموضوع في الأحكام الإلهيّة، فاستصحاب كونه ذا مادّة، لا أثر له إلّا على القول بحجيّة الأصل المثبت.

و بالجملة: الخمر لا يقيّد بالإسكار في الموضوع المعروض للتحريم، فما في كلمات الكلّ هنا خالٍ عن التحصيل، و ليس في الأدلّة ما يفي بأنّ الموضوع هو الماء ذو المادّة.

و هناك صور حول الماء على أنواعها، مثل كون الجريان و المادّة معاً، موضوعاً للحكم، و هكذا ..

و أمّا إذا كانت حالته السابقة عدمَ المادّة، فاستصحاب سلب العلّة لنفي الحكم، ممنوع جريانه، و هو ليس من قبيل استصحاب عدم الموضوع لعدم الحكم، و لا يكون الموضوع أيضاً مقيّداً، كما أُشير إليه.

و أمّا استصحاب المطهّرية و العاصميّة التنجيزيّ، أو بعض الاستصحابات التعليقيّة، فهي و إن كانت سليمة من الإشكال المذكور، إلّا أنّه لا دليل على جعل العصمة و المطهّرية، إلّا إذا قلنا: بأنّ «الطهور» معناه ذلك، فتصل النوبة إلى إثباته في الصورة الأُولى، و نفيه في الصورة الثانية، فاغتنم.

ص: 62

و إلّا فلا (1). لكن مع ملاقاته للنجاسة يحكم بطهارته على الأقوى (2).

قوله مدّ ظلّه: «و إلّا فلا».

أي و إن لم يكن له الحالة السابقة، أو كانت و هي غير معلومة، أو كانت حالته السابقة عدم المادّة، فإنّه في الجميع غير محكوم بشي ء، إلّا أنّه بحسب الحكم طاهر عند الملاقاة.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

خلافاً لجماعة حيث قالوا: بنجاسته(1)؛ و ذلك إمّا لأجل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أو لأجل استصحاب العدم الأزليّ الجاري في أمثال المسألة، أو لأجل أنّ المقتضي موجود، و المانعَ مشكوك الوجود، فيحكم بها لحكم العقلاء.

و الوجوه محرّرة في كتابنا الكبير(2)، و قد تحرّر منّا جواز التمسّك بالعامّ فيها، إلّا أنّ كون ما نحن فيه من باب العامّ و الخاصّ، أو التنويع لأقسام المياه إلى الأنواع و الأقسام، أو لعدم ثبوت المعنى المطلوب لطبيعة الماء و هو الاعتصام و لو كان من باب التخصيص دون التنويع، فلا يتمّ المطلوب؛ و هي نجاسة الماء المذكور على جميع التقادير.

و لو كان معنى «الطهور» الثابت بالعمومات لطبيعة الماء هو


1- العروة الوثقى 1: 33، فصل الماء الجاري، المسألة 2.
2- كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، المسألة الاولى من الخاتمة.

ص: 63

الاعتصام، تثبت الطهارة فيما نحن فيه بالأدلّة الاجتهاديّة، كما لا يخفى.

بقي شي ء: و هو أنّ مجرّد ثبوت الطهارة، لا يكفي للمطهّرية، فلا بدّ من التماس دليل آخر محرّر في كتابنا الكبير(1)، و هذا من غير فرق بين أن يريد التطهير بإيراد المتنجّس في الماء، أو بإيراد الماء على المتنجّس، فلا تخلط.


1- كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، المسألة الاولى من الخاتمة.

ص: 64

[مسألة 13: الرّاكد إذا بلغ كُرّاً]

مسألة 13: الرّاكد إذا بلغ كُرّاً، لا ينجس (1) بالملاقاة إلّا بالتغيّر (2). و إذا تغيّر بعضه، فإن كان الباقي بمقدار كرّ، يبقى غير المتغيّر على طهارته، و يطهر المتغيّر إذا زال تغيّره بالامتزاج (3) بالكرّ الباقي.

حكم ماء الكرّ قوله مدّ ظلّه: «لا ينجس».

بلا خلاف؛ إمّا لأنّه كرّ، أو لعدم اعتبار الكرّية.

قوله مدّ ظلّه: «بالتغيّر».

قد مرّ(1) وجه الإشكال في نجاسة المياه بالتغيّر، و أمّا قوله: «و إذا تغيّر بعضه ..» فالوجه معلوم؛ لما أُشير إليه آنفاً.

قوله مدّ ظلّه: «بالامتزاج».

مرّ(2) وجهه و وجه كفاية زوال التغيّر في طهارته، من غير حاجة إلى الامتزاج و الاتصال.

نعم، في القليل المتنجّس نحتاج إلى الاستهلاك العرفيّ حسب الأظهر، و هو الأحوط.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.
2- تقدّم في الصفحة 50 51، 60.

ص: 65

و إذا كان الباقي دون الكرّ، ينجس الجميع (1).

قوله مدّ ظلّه: «ينجس الجميع».

لما سيأتي من انفعال الماء القليل، هذا بناءً على المشهور؛ من نجاسة المتغيّر بما هو متغيّر و لو كان كثيراً، و أمّا على ما مرّ من المناقشة في تنجّس المتغيّر(1) فلا، و قد مرّ الاحتياط.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 66

[مسألة 14: للكرّ تقديران]

مسألة 14: للكرّ تقديران:

أحدهما: بحسب الوزن .. (إلى أن يقول:) و ثانيهما: بحسب المساحة؛ و هو ما بلغ ثلاثة و أربعين شبراً إلّا ثُمن شبر على الأحوط، بل لا يخلو من قوّة (1).

قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من قوّة».

اعلم: أنّ هذه المسألة من المسائل الخلافيّة من بدو طلوع الإسلام إلى عصرنا، و الّذي لا ينبغي الشكّ فيه و لا يرتاب أحد حوله بعد التأمّل في نواحيه انفعالُ الماء القليل في الجملة، و إنّما الاختلاف في حدّه.

و ما يتوهّم من أنّ المسألة من المستحدثات، كما يظهر من الكاشانيّ (رحمه اللَّه)(1) و غيره، فهو من قلّة التدبّر؛ فإنّ المحكيّ عن ابن عبّاس، و ابن عمر، و أبي هريرة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و أحمد، و إسحاق، و أبي عُبيدة، و أبى ثور الّذين هم في القرن الأوّل هو اعتبار القلّتين(2)، و يظهر منهم أنّهم يريدون من التحديد تنجّس ما دون الحدّ.

و عن أبي حنيفة التفصيل و القول بالنجاسة نوعاً(3)، و بها يقول الشافعيّ في أحد قوليه أو أقواله(4)، و قيل: «المعروف عنه هي


1- الوافي 6: 20.
2- الخلاف 1: 191، المغني 1: 24، المجموع 1: 112.
3- الخلاف 1: 192، المغني 1: 25.
4- الخلاف 1: 191، المغني 1: 24.

ص: 67

النجاسة»(1)، و هكذا ابن حنبل(2).

فإذا وصلت النوبة إلى أرباب التأليف منّا، فذهبوا إلى النجاسة، و عليها الإجماعات البالغة حدّ الثلاثين أو أكثر، و الشهراتُ المحقّقة في الأعصار و الأمصار، و يساعده الاعتبار جدّاً.

و عن العلّامة الطباطبائيّ صاحب «الرياض»: «أنّ روايات هذه المسألة تبلغ ثلاثمائة»(3).

هذا مع أنّ السيرة الموجودة الوسيعة جدّاً، تكشف عن أنّ المسألة، كانت من المسائل المتلقّاة من أصحاب الأئمّة (عليهم السّلام (الأوّلين، فأصل تنجّس الماء القليل في الجملة، ممّا لا سبيل إلى مناقشته، و لو كان مذهب بعض العامّة الطهارة(4) أو بعضٍ من الخاصّة كما نسب إلى العمّاني(5)، و القاضي نعمان أبي حنيفة الشيعيّ(6) فلا يضرّ.

و من الغريب، توهّم ذهاب الكلينيّ و الصدوق إلى الطهارة، فما في


1- مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.
2- المغني 1: 24، المجموع 1: 112.
3- انظر رياض المسائل 1: 5/ السطر 8.
4- الخلاف 1: 192، المجموع 1: 113/ السطر 4.
5- مختلف الشيعة 1: 176، تذكرة الفقهاء 1: 22.
6- دعائم الإسلام 1: 111 و 112.

ص: 68

«المقابيس»(1) في غير محلّه، كما أنّ كلام «مفتاح الكرامة» من نسبة الطهارة إلى مشهور العامّة(2)، غير تامّ.

فعلى ما تحرّر: لو فرضنا وجود طائفة من الأخبار ظاهرة في الطهارة(3)، فهي إمّا معرض عنها، أو محمولة على التقيّة، أو ساقطة بالمعارضة.

نعم، هي موافقة لإطلاق الكتاب(4) على تقدير كون «الطهور» بمعنى العصمة، مع أنّ جمعاً من المياه ليس من السماء، و البحث أعمّ، فافهم.

إلّا أنّ موافقة الشهرة مقدّمة عليها، مع أنّ النوبة لا تصل إلى الترجيح؛ لأنّ المسألة من صغريات تمييز الحجّة عن اللّابدية حجّة، كما لا يخفى.

و لعمري، إنّ الشكّ و الشبهة في هذه المسألة، معلول التسويل، و يشبه الشكّ في ركعتي الفجر، و لا نحتاج إلى الإجماع(5) و الرواية، كي يناقش في الإجماع صغرويّاً، و في الرواية كبرويّاً.


1- مقابس الأنوار: 66/ السطر 22 و 26.
2- مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 3.
3- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 8 و الباب 3.
4- الفرقان: 48.
5- لاحظ مفاتيح الشرائع 1: 83.

ص: 69

و احتمال حدوث الاغتراس؛ لأجل فتوى الفقهاء و إن كان ممكناً، إلّا أنّه بعد تلك المؤيّدات بعيد جدّاً، و لا يقاس بحديث نجاسة ماء البئر إلى عصر ابن الجهم و العلّامة(1)، كما هو معلوم، فلا تخلط.

هذا تمام الكلام حول انفعال القليل.

و أمّا حدّه، فهو مورد الخلاف جدّاً؛ فالمنسوب إلى المشهور أنّه بحسب المساحة ثلاثة أشبار و نصف في مثله(2)، فيصير المجموع ما في المتن، و إلى ذلك يرجع ما في «الناصريّات»(3) و «الانتصار»(4) و «الغنية»(5) و عليه فيها الإجماع.

و عن الصدوق: «أنّه من دين الإماميّة»(6).

و عن «التنقيح»: «أنّه المشهور بين الأصحاب»(7).

و ذهب جمع إلى أنّه ثلاثة أشبار عرضاً و طولًا و عمقاً، و إليه ذهب


1- جامع المدارك 1: 7.
2- مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 6، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 21، جواهر الكلام 1: 173.
3- الناصريّات ضمن الجوامع الفقهيّة: 214.
4- الانتصار: 8.
5- الغنية ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 33.
6- لاحظ مستند الشيعة 1: 56، الأمالي للصدوق: 514/ المجلس 93.
7- التنقيح الرائع 1: 41.

ص: 70

«المختلف»(1) و «الروض»(2) و «المجمع»(3) و في «السرائر» نسبته أيضاً إلى القُمّيين(4).

و عن ابن جُنَيد: ما بلغ مائة شبرٍ؛ جمعاً(5).

و عن الراونديّ: ما يبلغ عشر أشبار و نصف(6).

و عن جماعة من المعاصرين تبعاً «للمدارك»(7): أنّه ستّة و ثلاثون شبراً(8).

و عن الأُستاذ في حاشية «المدارك»: أنّه ثلاثة و ثلاثون شبراً تقريباً(9).

و عن ابن طاوس: تجويز العمل بمجموع ما في الأخبار(10).


1- مختلف الشيعة 1: 184.
2- روض الجنان: 140/ السطر 24.
3- مجمع الفائدة و البرهان 1: 260.
4- السرائر 1: 60.
5- مختلف الشيعة 1: 183، مستند الشيعة 1: 61.
6- لاحظ مستند الشيعة 1: 61.
7- مدارك الأحكام 1: 51.
8- لاحظ العروة الوثقى 1: 35، كتاب الطهارة، فصل الراكد بلا مادّة، المسألة الخامسة، الهامش 5.
9- مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 8.
10- لاحظ مستند الشيعة 1: 61.

ص: 71

و حيث أنّ المسألة ليست بين القدماء واضحةً؛ لاختلاف كلمات الناقلين و المنقول عنهم في المقدار و المساحة، بل و المساحة خصوصاً أيضاً، فلا مستند إلّا الأخبار الموجودة، و المتّبع هي الصناعة، فإنّها الحجّة.

و لأجل ذلك كانت هذه المسألة كجلّ المسائل الفقهيّة بكراً، فأردت حلّ مشكلتها، بعد الغور بعين الإنصاف في رواياتها، و هو أنّ ممّا قرع سمعك من السلف؛ هو أنّ مسروقاً و ابن سيرين، ذهبا إلى أنّ موضوع المنفعل و المعتصم عرفيّ؛ و هو الماء القليل و الكثير(1)، و على هذا يحوّل الأمر إلى العقلاء، كسائر المفاهيم.

و بعبارة اخرى: إرجاع العناوين الكثيرة إلى العنوان الواحد، غير جائز؛ لأنّه يشبه القياس، إلّا إذا اقتضت القرائن الخاصّة، و قد صنع المشهور ذلك في كثير السفر من غير وجود قرينة، و لذلك عدل المتأخّرون عنه إلى الأخذ بتلك العناوين الكثيرة المذكورة في الروايات(2)، ك «الجمّال» و «المكاري» و «الّذي يدور في تجارته» و هكذا.


1- لاحظ التفسير الكبير، الفخر الرازي 24: 96.
2- وسائل الشيعة 8: 484، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب 11.

ص: 72

و أمّا فيما نحن فيه، قد اضطربت المآثير(1) حسب بيان ما هو الحدّ، و إرجاعُ هذه الحدود المختلفة إلى الواحد، أيضاً غير جائز إلّا مع القرينة، فإذا قامت هي على أنّ ما هو الموضوع للاعتصام هو الماء الكثير، و ما في الأخبار تحديد صوريّ و توضيح لمصاديق العنوان المذكور من غير دخالة الحدّ الخاص فيه يتبيّن أنّ القليل العرفيّ موضوع الانفعال.

و الّذي يساعد ذلك: أنّ الموضوعات الشرعيّة بحسب الطبع عرفيّة، و قليل منها مورد تدخّل الشرع، و أنّ الأخذ بالتحديد الشرعيّ، يورث لزوم الدقّة العرفيّة في ذلك الحدّ، و هذا ممّا يُطْعن فيه بحسب الارتكاز البَدْويّ.

مع أنّ من ثمرات هذا المسلك، الأخذ بمجموع الأخبار، كما أومى إليه ابن طاوس(2) أيضاً، و لكن لا يلزم اتباع ما فيها، فلو كان حدّ الكثير أقلّ من سبع و عشرين كما هو رأي جمع من المعاصرين(3) يكون هو المتّبع، فالّذي هو المعتصم هو الكثير المعتنى به عرفاً، كالموجود في الحياض


1- وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10 و 11.
2- مستند الشيعة 1: 61.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 197.

ص: 73

الصغار، و الأواني الكبار، و أشباه ذلك، فما هو المهمّ هو الغور في تلك القرائن، و إليك نبذة منها، و تفصيلها في كتابنا الكبير(1).

ففي معتبر حَريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: قلت له: راوية من ماء .. إلى أن يقول:

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القِربة، و أشباه ذلك من أوعية الماء».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ ..»(2) الحديث.

و في رواية معتبرة مضت، قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما، تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، يتوضأ منه للصلاة؟

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من ماء»(3).

و في معتبر أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر


1- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث الخامس، الأمر الثامن.
2- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
3- تهذيب الأحكام 1: 419/ 1326، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13.

ص: 74

بأس أن يُتوضّأ منه و يُشرب، و لا يشرب سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1).

و في خبر صفوان الجمّال قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة؛ تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل منها الجنب، و يتوضّأ منه.

فقال: «و كم قدر الماء؟».

قلتُ: إلى نصف الساق، و إلى الركبة و أقلّ.

فقال: «توضّأ منه»(2).

و في «الكافي»: عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن بعض أصحابنا، عنه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء نحو حِبّي هذا» و أشار إلى حِبٍّ من تلك الحِباب الّتي تكون بالمدينة(3).

و فيما سبق كفى دلالة على ما أشرنا إليه، مع أنّ الأخير له الحكومة


1- تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.
2- تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
3- الكافي 3: 3/ 8، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 7.

ص: 75

على أخبار الكرّ في الشرع؛ و أنّه ليس له الحدّ إلّا الكثرة العرفيّة؛ لاختلاف الحِباب طبعاً.

و أيضاً في «التهذيبين» عن ابن المغيرة، عن بعض أصحابه، عنه (عليه السّلام)، قال: «إذا كان الماء قدر قُلّتين لم ينجّسه شي ء» و القلّتان: جرّتان(1).

فيعلم منه و ممّا سبق: أنّ الكثرة المتسامح فيها موضوع الاعتصام.

و في معتبر محمّد بن مسلم قال: سَألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المركن ..»(2).

و يزيدك شاهداً نفس اختلاف أخبار التحديد للكرّ.

و بالجملة: تبيّن أنّ المتأمّل في هذه الطائفة من المآثير، يتبيّن له حال الطوائف الأُخر(3)، و ينكشف لديه أصل المسألة بما لا مزيد عليه.

و لا منع من دعوى اختلاف الأخبار؛ بحسب اختلاف مقدار النجس كمّاً و كيفاً و استعمالًا، إلّا أنّ النتيجة عدم انفعال القليل في مورد، و اعتصام


1- تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309، الإستبصار 1: 7/ 6، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 8.
2- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 76

الكرّ على المشهور من كافّة النجاسات كمّاً و كيفاً و استعمالًا، إلّا إذا تغيّر.

و لكنّه حيث تبيّن فساده، يظهر انفعال القليل العرفيّ بالقليل، و عدم انفعال الكثير المعتنى به و لو كان خمسمائة رطل أو خمسة و عشرين شبراً بالكثير المذكور إنظاره في الأخبار.

ص: 77

[مسألة 15: الماء المشكوك كرّيّته إن علم حالته السابقة، يبني على تلك الحالة]

مسألة 15: الماء المشكوك كرّيّته إن علم حالته السابقة، يبني على تلك الحالة (1)، و إلّا فالأقوى (2) عدم تنجّسه بالملاقاة، قوله مدّ ظلّه: «تلك الحالة».

من القلّة و الكثرة؛ نظراً إلى الاستصحاب الموضوعيّ، أو استصحاب اعتصامه و انفعاله من غير أن يرجع إلى التعليقيّ، و لو كان منشأ الشبهة مفهوميّاً كما هو الأكثر على ما سلكناه فالأصل غير جارٍ.

كما أنّه لو كان الماء الكثير السابق خارجاً عن المتعارف كثرةً، ثمّ في ظرف الشكّ يشكل جريانه؛ لاختلاف موضوعي ظرف اليقين و الشكّ، فافهم.

و في حاشية المصنّف إشارة إلى الصورة الأخيرة(1) ظاهراً، فينافي إطلاق كلامه هنا، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «فالأقوى».

نظراً إلى قصور الأدلّة الناهضة عن تنجّسه، و قد مرّ الكلام في الجاري المشكوك اتّصاله بالمادّة(2)، و هذا من غير فرق بين أن تكون الكرّية مانعة، أو شرطاً لعدم الانفعال(3).

بل الأظهر: أنّ مستند القول بطهارته، ليس قاعدة الطهارة، بل هو


1- العروة الوثقى 1: 36، فصل الراكد بلا مادّة، المسألة 7.
2- تقدّم في الصفحة 42 43.
3- كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 160، مستمسك العروة الوثقى 1: 163.

ص: 78

و إن لم يجرِ عليه سائر أحكام الكرّ (1).

الإطلاق الحاكم بطهوريّة الماء؛ لما تحرّر منّا جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

نعم، في كون معنى «الطهور» هو الاعتصام، إشكال محرّر في محلّه.

و أمّا توهّم: أنّ الماء المفروض مجرّد فرض؛ فإنّ الماء يخلق تدريجاً، فهو في غير محلّه، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «أحكام الكرّ».

اعلم: أنّ الأقوال في هذا الماء بين طهارته و مطهّريته، و نجاسته، و طهارته دون مطهّريته، و لكلّ وجه:

أمّا نجاسته، فقد مرّ وجهها.

و أمّا طهارته دون مطهّريته بإيلاج المتنجّس فيه؛ فلاستصحاب بقاء نجاسة المتنجّس، ضرورة أنّه في صورة كونه قليلًا ينجس و لا يطهر.

و أمّا إذا تطهّر به؛ بإيراد الماء على المتنجّس، فلا بأس به، إلّا إذا كان بعد ملاقاة النجاسة، فإنّ قاعدة الطهارة لا يثبت بها إلّا طهارته، و أمّا عنوان «الماء المطهِّر» فلا يثبت بها.

و أمّا وجه جريان سائر الأحكام و مطهّريته، فهو بين ما يكون عرفيّاً؛ نظراً إلى الملازمة العرفيّة الموجودة بين المتشرّعة، لأنّ الغسل بما


1- تحريرات في الأُصول 5: 251 و ما بعدها.

ص: 79

لا ينفعل شرعاً و لو ظاهراً مطهّر.

و لا يخفى سخافته؛ ضرورة أنّ عدم الانفعال من تبعات الكرّ أو الكثرة، و ليس هو في نفسه حكماً وضعيّاً مستقلا.

أو صناعيّاً؛ نظراً إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و أنّ معنى «الطهور» هو الاعتصام و المطهّرية و لو بورود النجس عليه، و فيه ما مرّ آنفاً.

و غير خفيّ: أنّ العموم الّذي يتمسّك به لطهارة المشكوك الكرّية، هو عموم «خلق اللَّه الماء طهوراً ..»(1) و العمومَ الّذي يتمسّك به للنجاسة، هو العموم المستفاد من أخبار الكرّ؛ و أنّ الماء ينجس إلّا في صورة الكرّية.

و الّذي يظهر لي: أنّ تمسّك القوم للنجاسة في المسألة بذلك العموم غير صحيح؛ و ذلك لأنّ نفس أخبار الكرّ عمومها مذيّل بالاستثناء(2)، فلا تكون المسألة من صغريات التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

و أمّا العموم المنفصل، فلا يوجد على ما ببالي عجالة في أخبارنا، بل الأمر بالعكس، كما أُشير إليه، فما في كتب الأصحاب (رحمهم اللَّه)(3)،


1- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
2- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 3 و 4.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 163، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 217.

ص: 80

في غير محلّه، فليلاحظ.

و ربّما يتوهّم التفكيك بين أحكامه؛ ففي مثل تطهير الماء المتنجّس يمكن القول: بطهارة الماء الملقى عليه بعد إلقاء ذلك المشكوك، و أمّا في غيره فلا؛ و ذلك إمّا لكونه من النجس المتمّم كرّاً بالطاهر، أو لما قيل: «بأنّ الماء الواحد ليس ذا حكمين بالإجماع؛ نظراً إلى أنّ استصحاب نجاسة الماء الملقى عليه و طهارةَ ما القي متساقطان، فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة»(1).

و فيه: أنّه لو صارا واحداً فلا محطّ للاستصحاب، و لو بقيا على شخصيّتهما فلا إجماع؛ لكونه لبّياً، و قدر تيقّنه على فرض أصل وجوده صورة الوحدة الاستهلاكيّة، فاغتنم.


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 153، مستمسك العروة الوثقى 1: 165.

ص: 81

[مسألة 16: إذا كان الماء قليلًا فصار كرّاً]

مسألة 16: إذا كان الماء قليلًا فصار كرّاً، و قد علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم سبق الملاقاة على الكرّية أو العكس، يحكم بطهارته (1)، قوله مدّ ظلّه: «يحكم بطهارته».

على المعروف بين المتعرّضين للمسألة.

و قيل: بالاحتياط(1)، بل و بالنجاسة(2)؛ و ذلك إمّا لأجل عدم جريان الاستصحابين ذاتاً في مجهولي التأريخ خلافاً للتحقيق، أو لجريانهما و سقوطهما بالمعارضة، على إشكال يأتي الإيماء إليه(3)، و عندئذٍ نحتاج في الطهارة إلى إحراز كريّته حين الملاقاة؛ لحكم العقلاء، أو لأنّه في خصوص ما نحن فيه و أمثاله، لا بدّ من إحراز المانع؛ نظراً إلى الأدلّة، لأنّ الحكم بعدم الانفعال معلّق على أمر وجوديّ، و قد تحرّر في الأُصول(4) فساد التوهّمين و لو كانا من العلّامتين (رحمهما اللَّه)(5).

و على هذا يحكم بالطهارة، إلّا أنّ دليله استصحابها لا القاعدة؛ ضرورة أنّ الاستصحاب الساقط بالمعارضة، غير استصحاب طهارة الماء المفروضة، فلا تختلط.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 238، العروة الوثقى 1: 32، حاشية السيّد الخوئي.
2- لاحظ ذخيرة المعاد: 126/ السطر 12.
3- يأتي في الصفحة 86 88.
4- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحثه الأُصوليّة.
5- فرائد الأُصول، الشيخ الأنصاري 2: 666، كفاية الأُصول: 477.

ص: 82

و يمكن المناقشة في جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى عصر وجود الكرّية لما لا أثر له إلّا عقلًا؛ فإنّ نفي السبب و الموضوع لأجل نفي الأثر من الأحكام العقليّة، إلّا أنّ بناءهم على جريانه، و لا تنحلّ المشكلة إلّا بما تحرّر منّا؛ من حجّية الأُصول المثبتة(1).

و يمكن منع جريانهما ذاتاً؛ لأجل انصراف دليل الاستصحاب، دون حديث عدم اتصال زمان الشكّ باليقين، فإنّه من الغرائب الواقعة في كلمات «الكفاية»(2) و غيره(3)، و التفصيل في محلّه. هذا في صورتي جهالة تأريخهما.

و أمّا في صورة العلم بتأريخ الكرّية؛ و أنّها حدثت أوّل الزوال مثلًا، فاستصحاب عدم الملاقاة إلى الزوال يستلزم عدم النجاسة؛ نظراً إلى نفي المسبّب أو الحكم بنفي السبب أو الموضوع، و قد أُشير إلى ما فيه على مسلكهم، و لكن لا وجه لنجاسة الماء بعد جريان قاعدة الطهارة بل و استصحابها كما عرفت وجهاً يعتدّ به.

نعم، إجراء أحكام الكرّ عليه مشكل؛ لأنّ الكرّ الموضوع


1- تحريرات في الأُصول 8: 523.
2- كفاية الأُصول: 478.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 166، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 234.

ص: 83

لأحكامه، هو الّذي لم يتنجّس و صار كرّاً، فيكون الموضوع مقيّداً، و لا يحرز ذلك بالاستصحاب أو القاعدة، إلّا على القول: بالأصل المثبت.

أو يقال: بعدم سريان القيود الثبوتيّة و اللبّية إلى الإثبات، كما هو الحقّ، فسلب الملاقاة كافٍ، و لا نحتاج إلى إحراز القيد اللّبّي، كما حرّرناه في أمثاله(1)، و ذكرنا: أنّ بحث المرأة غير القرشيّة و حديث غير المذكى و أمثاله، غير واقع في محلّه؛ لأنّ العامّ الأوّلي لا ينفى إثباتاً، و العبرة بذلك، دون الثبوت و اللّب المجهول كيفيّة ورود القيد عليه، المحتمل فيه أزيد من عشرة احتمالات.

نعم، في صورة كون الدليل المنفصل المتضمّن للقيد، ناظراً إلى العامّ في محيط التقنين، يسري القيد إليه عرفاً، و ليلاحظ جيّداً.

و عندئذٍ تختلف صور مجهولي التأريخ، كما تختلف صور معلوم التأريخ و مجهوله، فإنّه ربّما يوجب جهالة أحدهما جهالةً في معلوم التأريخ بالقياس و النسبة، فتندرج في مجهولي التأريخ بحسب جريان الاستصحاب.

و ممّا لا ينبغي اختفاؤه، أنّه كما يعارض استصحاب العدم النعتي العدم النعتي الآخر في مجهولي التأريخ مثلًا، يعارض عدمه الأزليّ في عَرْض ذلك، فتوهّم سقوط العدمين النعتيّين، و جريانِ العدم الأزليّ، في


1- تحريرات في الأُصول 8: 486 488.

ص: 84

إلّا إذا علم (1) تأريخ الملاقاة دون الكرّية. و أمّا إذا كان كرّاً فصار قليلًا، و قد علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم سبق الملاقاة على القلّة أو العكس، فالظاهر الحكم بطهارته مطلقاً؛ غير محلّه، و التفصيل في الأُصول(1) و في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «إلّا إذا علم».

على المعروف بينهم، و احتاط بعضهم(3)، و قيل: بالطهارة(4)، و قد تبيّن وجه القول بالنجاسة؛ لعدم المعارضة، أو لم يكن الاستصحاب جارياً؛ لكونه مثبتاً.

و قد عرفت: أنّ الأنسب استصحاب طهارة الماء، و عندئذٍ لا يترتّب عليه أحكام الكرّ، كما مرّ وَ مرّ وجه ترتّبه.

و أمّا وجه الطهارة و الاحتياط، فهو أنّ مجرّد عدم وقوع الكرّية إلى الزوال- الّذي حصلت فيه الملاقاة غير كافٍ؛ لأنّ موضوع النجاسة ليس عنوان «ما ليس كرّاً» حتّى يقال: بإحراز ملاقاة النجس لما لا يكون كرّاً إلى الزوال، بل موضوعه القليل، و هو غير ثابت به.


1- لم نعثر على تفصيله في مباحثه الأُصوليّة الموجودة لدينا.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الخامس، الأمر الثامن.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 233 و 238.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 234.

ص: 85

مع أنّه لو كان الموضوع هو العنوان المذكور، فلا إطلاق لأدلّة الكرّ مفهوماً حسب التحقيق، و ما له الإطلاق موضوعه العنوان الآخر، فما ترى من استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان علم فيه تأريخ الملاقاة(1)، غير تامّ، فلا وجه لنجاسته.

و ممّا أُشير إليه ظهر وجه الاحتياط؛ و هو أنّ لأدلّة الكرّ مفهوماً ذا إطلاق احتمالًا قويّاً، فما ليس بكرّ ينفعل بالملاقاة، أو لأنّ عنوان «القليل» و عنوانَ «ما ليس بكرّ» واحد عرفاً في محيط الأدلّة الاجتهاديّة، فيثبت المطلوب من غير أن يلزم كونه مثبتاً، و حيث أنّه أمر غير واضح فلا بدّ من الاحتياط.

و الأشبه بالقواعد هو الطهارة، و عدم ترتّب أحكام الكرّية، و لكن حيث عرفت عدم سراية القيد المنفصل إلى المطلق أو العامّ إثباتاً، يمكن ترتيب أحكامها عليه أيضاً، و المسألة لا تخلو عن عمق، فلا تغفل.

و ربّما يتوهّم معارضة استصحاب عدم الكرّية إلى الزوال، باستصحاب عدم تحقّق الملاقاة الّتي توجب النجاسة؛ فإنّ ما هو المعلوم هي ملاقاة النجس مع الماء في أوّل الزوال، إلّا أنّ الملاقاة لها الأحوال، و ما هي المفيدة هي الملاقاة الموجبة لسراية النجاسة إلى الماء، و هي مقيّدةً بذلك القيد مشكوكةٌ؛ لاحتمال كون الماء كرّاً، و استصحاب عدم الكرّية


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 167، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 238.

ص: 86

حتّى فيما إذا علم تأريخ القلّة (1)، إلى ما بعد الزوال، لا يحرز القيد المذكور إلّا على القول بالأصل المثبت.

و فيه: مضافاً إلى أنّه عندنا معتبر تبعاً للأشهَر بين السلف أنّه لا يكون الأصل مثبتاً؛ و ذلك لأنّ القيد المذكور مجرّد تخيّل من مقايسة الأدلّة في مرحلة الثبوت و اللبّ.

و أمّا توهّم: أنّ الشكّ المزبور ناشئ عن الشكّ في الكرّية في أوّل الزوال، فيكفي الثاني لرفع الأوّل، فهو في غير محلّه كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «تأريخ القلّة».

في المسألة أيضاً وجوه، تبيّن وجه الكلّ ممّا مضى في الصّور الثلاث؛ فإنّ في مجهولي التأريخين يتعارض الاستصحابان، فتصل النوبة إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

و يحتمل أن يكون الأصل المقتضي لتأخّر زوال الكرّية عن الملاقاة، المنتهى إلى نجاسة الماء، معارضاً للأصل الجاري في رتبته و لاستصحاب طهارة الماء و لقاعدتها، فما مرّ منّا و اشتهر بين أبناء التحصيل غير صحيح؛ ضرورة أنّ ما مع المتقدّم ليس بمتقدّم، فيعارض الأصل المذكور تلك الأُصول الثلاثة.

و يحتمل عدم جريان استصحاب الكرّية؛ لأنّ ما هو المجعول في الشرع؛ هو تنجّس القليل، و أمّا اعتصام الكثير فلا تناله يد الجعل، بل هو

ص: 87

أمر واقعيّ، فلا معارض لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة، فتثبت النجاسة؛ لأنّ أصل الملاقاة قطعيّ.

و ينعكس الأمر، بدعوى جريان استصحاب بقاء الكرّية إلى زمان الملاقاة، دون معارضة؛ لأنّه مثبت. و مجرّد التعبّد بعدم الملاقاة غير كافٍ، إلّا بلحاظ نفي عدم التنجّس.

و في جريان الأصل في سبب النجاسة بالتعبّد بعدمه لعدم الحكم الّذي هو أيضاً عدميّ إشكال؛ لأنّ عدم التنجّس لعدم الكثير، ليس مجعولًا شرعاً و إن أمكن في الاعتبار ثبوتاً.

و بما ذكرنا يظهر وجه صورتي معلومي التأريخ، سواء كان هو القلّة أم الملاقاة، و قد اشتهر نجاسته في صورة العلم بتأريخ القلّة؛ نظراً إلى تأخّر الحادث و هي الملاقاة، إلّا أنّ ذاتها ليست ذات أثر إلّا باعتبار موجبيّتها لنجاسة الماء، فالتعبّد بالسبب لا يكفي لترتّب آثاره، بخلاف الموضوع و الحكم، فتأمّل.

و ربّما يخطر بالبال قصور أدلّة الاستصحاب عن شمول هذه الموارد الّتي نقضت باليقين اللاحق؛ فإنّ إطلاق: «انقضه بيقينٍ آخر» يشمل ما نحن فيه، و لو لزم الإجمال بين الصّدر و الذّيل في بعض الأخبار، يشكل التمسّك بإطلاق سائر الأخبار؛ لسرايته إليها لأجل كونه ناظراً إليها، كما حرّرناه في الأُصول، فتأمّل.

ص: 88

ثمّ إنّه قد عرفت وجه المناقشة في جواز ترتيب آثار الكرّية و لو كان طاهراً بالاستصحاب أو بالقاعدة في بعض الصور الّتي يمكن، مثل الصورة الاولى من الصور الثلاث.

و غير خفيّ: أنّ مفروض مسائل المتن صور السبق و اللّحوق، و أمّا صور احتمال الاقتران بين حدوثهما بحسب الزمان، فلها جهات مذكورة في كتابنا الكبير(1)؛ لاختلاف آثارها و أحكامها.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث الخامس، الأمر السادس.

ص: 89

[مسألة 17: ماء المطر حال نزوله من السماء كالجاري]

مسألة 17: ماء المطر حال نزوله من السماء كالجاري (1)، فلا ينجس ما لم يتغيّر. و الأحوط اعتبار كونه بمقدار يجري على الأرض الصلبة، و إن كان كفاية صدق «المطر» عليه لا يخلو من قوّة.

حكم ماء المطر قوله مدّ ظلّه: «كالجاري».

هكذا وصل إلينا من السلف، و فيه ما لا يخفى، إلّا أنّ مرادهم معلوم؛ و هو أنّ ماء المطر الموجود في الأرض و غيرها من الأواني كالجاري، إذا كان يتقاطر و ينزل و تمطر السماء عليه. و بالجملة لا شبهة في المسألة.

بل ماء المطر هو القدر المتيقّن من الكتاب(1)، فهو طهور بالضرورة، و إنّما الاختلاف في إطلاقه و قيوده.

و الذي هو الغامض في المسألة، و هي مشكلتنا في هذا المقام؛ أنّ قضيّة طائفة من الأخبار معتضدة بذهاب الأكثر إليها، عدمُ اعتبار شي ء أزيد من صدق «المطر» ففي مرسلة الكاهليّ التي توهّم انجبارها بعمل الأصحاب عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال: «كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر»(2).


1- الفرقان) 25): 48.
2- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

ص: 90

و في مصحّح هشام بن سالم: أنّه سأل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) .. (إلى أن يقول:) فقال: «لا بأس به؛ ما أصابه من الماء أكثر منه»(1).

و أصرح من هاتين الروايتين في كفاية مطلق المطر، ما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الكنيف يكون خارجاً، فتمطر السماء، فتقطر عليّ القطرة.

قال: «ليس به بأس»(2) .. و غير ذلك.

و مقتضى الطائفة الثانية اشتراط الجريان(3)، و منها معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن البيت يبال على ظهره، و يغتسل من الجنابة، ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟

فقال: «إذا جرى فلا بأس به»(4) و تشبهه الروايتان


1- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1: 424/ 1348، وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.
3- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2 و 3 و 9.
4- الفقيه 1: 7/ 6، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

ص: 91

الأُخريان(1).

و قد أخذ كلّ مهرباً للجمع، و لم يأت به أحد إلّا من أخذ بهما، فقال: باعتبار الجريان، كما هو المحكيّ(2) عن الشيخ(3) و «الوسيلة»(4) على إشكال في عبارتهما المحكيّة عنهما.

و الذي ظهر لي: أنّ في هذه الأخبار لوحظ حكم الماءين: ماء المطر و هو الماء الموجود النازل من السماء، و نفس المطر النازل على المتنجّس، فما كان من الأوّل فلا يعتبر فيه شي ء؛ حسب الإطلاق و التعليل، و ما كان من الثاني فلا يكفي مجرّد التقطّر على النجس، فلو كان موضع من البدن نجساً، فأصابته قطرة، فهي غير كافية حسب الطائفة الثانية.

و أمّا ماء المطر المجتمع غير الجاري، فهو معتصم و طاهر و مطهّر، و هو في الحقيقة في هذه الصورة و هو حال تقاطر السماء عليه بعيد عندنا من الماء ذي المادّة، و قد مرّ أنّه لا يعتبر اتصال المادّة بالماء


1- قرب الإسناد: 177/ 654، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 3، مسائل عليّ بن جعفر( عليه السّلام): 130/ 115، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 9.
2- تهذيب الأحكام 1: 411.
3- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63/ السطر 4 و جواهر الكلام 6: 313.
4- الوسيلة: 73.

ص: 92

المعتصم بها مطلقاً، فعلى هذا فصلت المخاصمة بحمد اللَّه.

و الخبر الأخير مضافاً إلى ضعف سنده(1) لإهمال رجل هو فيه غير تامّ دلالة كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ القطرة ليست هي القطرة النازلة بشخصها، فلا بُعْد في كونها من الماء الموجود، لا المطر، فليتدبّر.

و تصير النتيجة: عدم اعتبار شي ء في مطهّرية ماء المطر، و يعتبر في قطرة تنزل على المتنجّس و تسمّى ب «المطر» كما ترى في الطائفة الثانية، و لذلك عدّ قول القائل: بكفاية القطرة من الشواذّ جدّاً(2)، حتّى حكي في ترجمة صاحبه في كتب التراجم(3).

و ربّما يتوهّم تأيّد هذا النظر، بما في الباب 16 من أبواب النجاسات، حيث روى الصدوق بإسناده عن زيد الشحّام: أنّه سأل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الثوب يكون فيه الجنابة، فتصيبني السماء حتّى يبتلّ عليّ.

فقال: «لا بأس به»(4).

فإذا كانت البلّة مطهّرة، فالقطرة أولى.


1- وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.
2- لاحظ روض الجنان: 139/ السطر 3، مستند الشيعة 1: 7/ السطر 18.
3- لاحظ روضات الجنّات 2: 294.
4- الفقيه 1: 40/ 5، وسائل الشيعة 3: 425، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 7.

ص: 93

و فيه: مضافاً إلى ما في سنده إلى زيد، عن أبي جميلة، الذي عندي أمره مشكل أنّها ربّما لا تقتضي مطهّرية البلّ، بل قوله (عليه السّلام): «لا بأس به» لعدم كفايته لسراية النجاسة إلى البدن؛ لاعتبار القطرة فيه، فاغتنم.

ص: 94

[مسألة 18: المراد ب «ماء المطر» الذي لا يتنجّس إلّا بالتغير؛ القطراتُ النازلة]

مسألة 18: المراد ب «ماء المطر» الذي لا يتنجّس إلّا بالتغير (1)؛ القطراتُ (2) النازلة و المجتمع منها تحت المطر حال تقاطره عليه (3). و كذا المجتمع المتّصل بما يتقاطر عليه المطر، فالماء الجاري من الميزاب تحت سقف حال عدم انقطاع المطر كالماء المجتمع فوق السطح المتقاطر عليه المطر.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا بالتغيّر».

قد مرّ(1) وجه المناقشة في التنجّس بالتغيّر.

قوله مدّ ظلّه: «القطرات».

قد تبيّن: أنّ ما هو المطر هي القطرات، فلو استولت على بدنك المتنجّس تطهّره، و توهّم كفاية رؤية بعضه لطهارة جميع البدن حسب إطلاق الخبر واضح المنع، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

و ما هو ماء المطر، هي الطائفة المجتمعة في الأرض الحاصلة من المتقاطر من السماء، كما هو كثير الدور.

قوله مدّ ظلّه: «حال تقاطره عليه».

فيه إشارة إلى الشرطين:

الأوّل: اعتباره التقاطر.

و الثاني: كون التقاطر على ذلك الماء الذي يغسل فيه النجس و هو قليل.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 95

أمّا الشرط الأوّل: فهو واضح، و مجرّدُ كونه ماء المطر، لا يكفي لما ينفيه الأدلّة الخاصّة الواردة في القليل الموجود بين مكّة و المدينة(1) و غيرها(2)، الذي ليس إلّا من المطر.

مع أنّ صدق «ماء المطر» عليه فعلًا محلّ مناقشة، و إجراءَ الاستصحاب ممنوع؛ لكونه من الشبهة المفهوميّة، فلا تختلط. هذا مع أنّه مورد الارتكاز و الإجماع.

نعم، إذا كان على وجه ينقطع و يتّصل كما في بعض البلاد ربّما يمكن توهّم اعتصامه، إلّا أنّه بعد كونه قليلًا يشكل جدّاً.

و أمّا الشرط الثاني: فهو ظاهر الأصحاب (رحمهم اللَّه)، و إن كانت عباراتهم قابلةً للحمل على إفادة الشرط الأوّل، و لذلك صرّح به المتأخّرون(3)؛ نظراً إلى دفع التوهّم المذكور في «الجواهر»(4) بل تمايل إليه، و هو بما أنّه من


1- تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 1: 163، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 14 و 15.
3- مصباح الفقيه، الطهارة: 645/ السطر 34، العروة الوثقى 1: 39، فصل ماء المطر، المسألة 3.
4- جواهر الكلام 6: 322.

ص: 96

ماء المطر ربّما يشكل إثباته؛ لعدم إطلاق في أخبار المسألة(1) من هذه الجهة، فإثبات مطهّريته بها و بالاستصحاب محلّ منع.

نعم، هو عندي مطهّر؛ لكونه من الماء ذي المادّة، و لا يعتبر الاتصال في المادّة، و ربّما يكون أساس مطهّرية ماء المطر؛ لأجل كونه من هذا القسم، كما هو كذلك في الحمّام و غيره، فما في المتن من الصورة الثانية الملتحقة بماء المطر، محلّ شبهة.

و ربّما يكتفى بتقاطر السماء في كون القليل من المطر، و لو لم يكن متّصلًا بالماء الآخر المتقاطر عليه؛ لأنّه من ماء المطر حال التقاطر.

و فيه ما لا يخفى؛ للزوم كون التقاطر في قطر من الأرض، عاصماً للقليل في القطر الآخر.


1- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

ص: 97

[مسألة 19: يطهّر المطر كلّ ما أصابه من المتنجّسات القابلة للتطهير]

مسألة 19: يطهّر المطر كلّ ما أصابه (1) من المتنجّسات القابلة للتطهير؛ من الماء و الأرض و الفرش و الأواني.

قوله مدّ ظلّه: «ما أصابه».

أي ما استولى عليه، و لا يعتبر الغسالة في حصول الطهارة، فلو كان المتنجّس تحت المطر بمقدار استولت عليه القطرات، فالظاهر حسب الأخبار(1) كفايته، دون الاعتبار فإنّه المساعد في وجه لأن يكون الماء حاملًا نجاسته، و لأجل ذلك قيل: بنجاسة الغسالة(2).

و يمكن دعوى: أنّ المتعارف في الاغتسال بالمطر حصول الغسالة، و إطلاق قوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء يراه ماء المطر ..»(3) غير مأخوذ به في الجوامد، و لو لم يكن ماء المطر على ذلك الوجه لا يكون أكثر، بناءً على ما في بعض أخبار(4) من العبرة بالأكثريّة، فالقدر المتيقّن في حصول الطهارة بماء المطر النازل على المتنجّس؛ كونُه على وجه ينفصل عنه بعد الإصابة و الرؤية، و لا يكفي مجرّد الاستيلاء المحض، و هذا غير الجريان


1- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1 و 5.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

ص: 98

و الأقوى اعتبار الامتزاج (1) في الأوّل، و لا يحتاج في الفرش و نحوه (2) إلى العصر (3) الفعليّ أو الشأنيّ المعتبر عند جمع(1)، الممنوع عندنا في المطر، فلا تختلط.

قوله مدّ ظلّه: «اعتبار الامتزاج».

قد مرّ: أنّ الأشبه عدم تطهير المياه النجسة و المائعات إلّا بالاستهلاك(2) العرفيّ، و قضيّةُ إطلاق العموم المخصوص بماء المطر، كفايةُ الرؤية(3) و الإصابة(4) حتّى في المائعات الأُخر، كالنفط، و الزيت السائل، و الدبس المائع، و لا يقولون به، و مقتضى الأصل ما ذكرناه.

قوله مدّ ظلّه: «و نحوه».

أي كلّ شي ء يقبل العصر، و في كون الفرش المتعارف في العصر ممّا يقبل العصر تدبُّر، بل منع.

قوله مدّ ظلّه: «إلى العصر».

لعدم الدليل عليه كي يتمسّك به في كلّ مقام.


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63، مستمسك العروة الوثقى 1: 176.
2- راجع التعليقة رقم 36.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

ص: 99

و توهّم: أنّ صدق «الغسل» منوط به(1)، في غير محلّه إذا غلب الماء عليه و انفصل منه، فلو لم يكن إطلاق يعتنى به في ناحية ماء المطر، يكفي إطلاق أدلّة اعتبار الغَسل(2) بعد صدقه.

نعم، لو شكّ في صدقه بدون العصر فيشكل؛ لإمكان التمسّك باستصحاب نجاسة المغسول، إلّا أنّه لمكان كون الشبهة حكميّة نظراً إلى إجمال النصّ ففي جريان الاستصحاب تأمّل عندنا، فالمرجع هي قاعدة الطهارة بناءً على جريانها فيها و حديث الرفع.

و غير خفيّ: أنّ منشأ منع جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكلّية العدميّة شي ء، و منشأَ عدم جريانه في الكلّية الوجوديّة العنوانيّة شي ء آخر، و منشأَ عدم جريانه في الكلّية المضمونيّة كما نحن فيه شي ء ثابت، إلّا أنّ في أخبار ماء المطر(3) ما يكفيك، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 267.
2- وسائل الشيعة 3: 468، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38.
3- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

ص: 100

و التعدّد (1)، قوله مدّ ظلّه: «و التعدّد».

اعلم: أنّ مقتضى اعتبار التعدّد في بعض النجاسات(1)، و قضيّةِ مصحّح ابن سالم(2) و مرسلة الكاهلي(3) في المقام، متكاذبان بالعموم من وجه، و قد اشتهر تقديم جانب هذه المسألة؛ فراراً عن اللّغوية، و لزومِ عدم خصوصيّة للمطر، و لا عكس(4).

و فيه: أنّ الجمع بين الأخبار ليس ممّا يجب عقلًا أو بمقتضى رواية أو إجماع، حتّى يتوسّل بالطريقة المعروفة، و ما هو بناء العقلاء و أرباب فهم القوانين العرفية، هو الجمع بين العامّ و الخاصّ و المطلق و المقيّد، و أمّا فيما نحن فيه فلا عهد منهم، و لا أقلّ من الشكّ، فالمعارضة باقية، و قد حرّرنا خروج العامّين من وجه عن تحت الروايات العلاجيّة(5)، كما هو الظاهر، فلا بدّ من الترجيح.


1- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
2- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- مستمسك العروة الوثقى 1: 180.
5- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحثه الأُصوليّة.

ص: 101

و لكن لو كان لدليل بعض النجاسات إطلاق بالنسبة إلى التعدّد(1)، من غير ظهور له في ماء خاصّ، كالراكد و القليل الوارد عليه، و كان مقتضى إطلاق سائر المياه كفاية المرّة(2)، يقدّم أخبار التعدّد طبعاً، و لا تلزم اللّغوية، و لها الحكومة عليها، و لا وجه لتقديم أخبار ماء المطر و سائر المياه عليها؛ لتعرّض تلك الأخبار لما لا يتعرّض له روايات المياه، و إن كان في تلك الأخبار ما يدلّ على اعتبار التعدّد بالنسبة إلى ماء خاصّ(3)، فلا إطلاق حتّى تقع العارضة بالعَرَض، فالمسألة تطلب من أحكام النجاسات.

ثمّ إنّك عرفت فيما مرّ: أنّ ماء المطر من المياه التي تكون ذات مادّة، كالحمّام و البئر و الجاري، و لا خصوصيّة إلّا كونها ذات مادّة أعمّ من المتّصلة و المنفصلة و الجعليّة و الانجعاليّة، فإلغاء خصوصيّة المطر ممّا لا بأس به؛ فإنّ الأظهر من صحيح ابن بَزيع(4)؛ أنّ كلّ ما كان ذا مادّة، معتصم لا يفسده شي ء، و ماء المطر أيضاً من مصاديقه.


1- وسائل الشيعة 3: 395، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1.
2- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6 و 7 و 9 و 14.
3- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.

ص: 102

بل لا يحتاج في الأواني (1) أيضاً إلى التعدّد. نعم، إذا كان متنجّساً بولوغ الكلب، فالأقوى لزوم التعفير (2) أوّلًا، ثمّ يوضع تحت المطر، فإذا نزل عليه يطهر؛ قوله مدّ ظلّه: «في الأواني».

سيظهر تحقيقه في محلّه، كما أنّ محطّ المسألة هناك، و إلّا يلزم في كلّ فصل ذكر هذه المسائل، فلا تغفل، و أساس البحث ما عرفت، و المهمّ هو الفحص عن إطلاق مخصوص بالأواني.

قوله مدّ ظلّه: «لزوم التعفير».

كما يأتي، و احتمال عدم الحاجة إليه؛ لإطلاق دليل ماء المطر، فهو يسري إلى إطلاق دليل ماء الحمّام و الجاري و البئر، بل و إطلاق دليل الماء القليل، و لا ترجيح لتقديم أدلّة التعفير(1) على بعضها دون بعض، فأدلّة التعفير حاكمة؛ لتعرّضها لما لا يتعرّض له دليل ماء المطر.

و لو وصلت النوبة إلى المعارضة، فجريان استصحاب النجاسة محلّ إشكال؛ لأنّ الشبهة حكميّة، و أمّا تخيّل معارضته مع استصحاب عدم


1- وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4، و 3: 415، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 12، الحديث 2، و 3: 516، أبواب النجاسات، الباب 70، الحديث 1، مستدرك الوسائل 2: 602، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 45.

ص: 103

من دون حاجة إلى التعدّد (1).

جعل النجاسة كما عن النراقي (قدس سره)(1) في الأحكام التكليفيّة فهو غير راجع إلى محصّل.

قوله مدّ ظلّه: «إلى التعدّد».

قد عرفت وجه الحاجة إليه؛ حسب الصناعة و الاحتياط.


1- الاستصحاب، الإمام الخميني( قدّس سرّه): 121.

ص: 104

[مسألة 20: الفراش النجس إذا وصل إلى جميعه المطر، و نفذ في جميعه]

مسألة 20: الفراش النجس إذا وصل إلى جميعه المطر، و نفذ في جميعه، يطهر (1) ظاهراً و باطناً. و لو أصاب بعضه يطهر ما أصابه (2). و لو أصاب ظاهره و لم ينفذ فيه، يطهر ظاهره فقط.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر».

قد مرّ: أنّ مجرّد نزول المطر و استيلائه غير واضح كفايته، و الأشبه خروج شي ء من المطر عنه.

نعم، الغسل في ماء المطر، يكفي على الوجه المذكور.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر ما أصابه».

بالشرط المذكور، و غير خفيّ أنّه في هذا الفرع و الفرع التالي عند انقطاع المطر، تسري النجاسة إلى الظاهر إذا كانت شرائطها موجودة.

نعم، تقف النجاسة على الخطّ المتّصل، و سرايتها إلى سائر الخطوط بوساطته محلّ شبهة، و لا سيّما الخطوط ذوات الوسائط.

ص: 105

[مسألة 21: إذا كان السطح نجساً، فنفذ فيه الماء، و تقاطر من السقف حال نزول المطر]

مسألة 21: إذا كان السطح نجساً، فنفذ فيه الماء، و تقاطر من السقف حال نزول المطر، يكون (1) طاهراً و إن كان عين النجس موجوداً على السطح، و كان الماء المتقاطر مارّاً عليه. و كذلك التقاطر بعد انقطاع المطر، إذا احتمل (2) كونه من الماء المحتبس في أعماق السقف، أو كونه غير مارّ على عين النجس، و لا على ما تنجّس بها بعد انقطاع المطر. و أمّا لو علم: أنّه من المارّ على أحدهما بعد انقطاعه، يكون نجساً.

قوله مدّ ظلّه: «يكون».

أي يكون ما تقاطر طاهراً؛ بشرط عدم التغيّر على الأحوط، و قد عرفت أنّ شرطيّة التقاطر على السطح المذكور ممنوعة، و يكفي اتصال هذا الماء النافذ بما يتقاطر عليه من السماء.

و قوله: «و تقاطر حال نزول المطر» موافق للتحقيق، و مخالف لما مرّ منه مدّ ظلّه للزوم التقييد المذكور.

قوله مدّ ظلّه: «إذا احتمل».

لقاعدة الطهارة، بل استصحابها، و لا وجه للإشارة إلى هذه الشبهات الموضوعيّة.

و يحتمل طهارة الماء المتقاطر و لو علم أنّه من المارّ على أحدهما بعد انقطاعه، خلافاً لما في المتن:

أمّا في صورة الانقطاع و النزول فوراً، فالوجه واضح.

ص: 106

و أمّا في صورة الانقطاع الكلّي؛ فلما مرّ(1) أنّه من تبعات مختار «الجواهر» (رحمه اللَّه)(2)؛ لكونه قريب الوجود و الصدق بالنسبة إلى المطر، فيكون مطراً عرفاً.

نعم، في مورد الفصل البعيد بين القطع و النزول فلا، و لكنّ الالتزام بها في الفرضين مشكل جدّاً.


1- تقدّم في الصفحة 97 98.
2- جواهر الكلام 6: 320 و 319.

ص: 107

[مسألة 22: الماء الراكد النجس، يطهر بنزول المطر عليه و امتزاجه به]

مسألة 22: الماء الراكد النجس، يطهر (1) بنزول المطر عليه و امتزاجه به، و بالاتصال بماء معتصم كالكرّ و الجاري، و الامتزاج به. و لا يعتبر كيفيّة خاصّة في الاتصال، بل المدار على مطلقه و لو بساقية أو ثقب بينهما، كما لا يعتبر علوّ المعتصم أو تساويه مع الماء النجس. نعم، لو كان النجس جارياً من الفوق على المعتصم، فالظاهر (2) عدم الكفاية في طهارة الفوقاني في حال جريانه عليه.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر».

قد مرّ حكم هذه المسألة و اختلاف الأنظار(1)، و مقتضى إطلاق أدلّة المطر، كفايةُ الرؤية و الإصابة في المائع و الجامد، و حيث لا يلتزم به في الثاني فالأوّل مثله، و اشتراط الامتزاج بلا وجه يعتدّ به، و القدر المتيقّن لزوم الاستهلاك العرفيّ؛ بفناء النجس في الطاهر.

قوله مدّ ظلّه: «فالظاهر».

لاعتبار الامتزاج، و هو منتف، و لازمه طهارة المقدار الوارد الممتزج، و نجاستُه ما لم يمتزج بعد، و هذا مرجعه إلى أنّ للماء الواحد حكمين، و الإجماع منقول على خلافه. و أمّا على ما هو المذهب، فالمقدار المستهلك فانٍ في المعتصم، و الباقي ماء آخر، فلا يلزم تعدّد الحكم مع وحدة الماء، كما لا يلزم على القول: بكفاية الاتصال، و ما أُشير إليه لا يفرّق بين صورتي العلوّ و التساويّ، كما لا يخفى.


1- تقدّم في الصفحة 58 60.

ص: 108

[مسألة 23: الماء المستعمل في الوضوء، لا إشكال في كونه طاهراً]

مسألة 23: الماء المستعمل في الوضوء، لا إشكال في كونه طاهراً (1) و مطهّراً (2) للحدث و الخبث.

حكم الماء المستعمل قوله مدّ ظلّه: «طاهراً».

من غير نقل خلاف في طهارته، و أمّا جواز ترتيب جميع آثار الطهارة عليه- كالشرب مثلًا فهو كلام آخر؛ لأنّه ليس مجرّد طهارته كافياً فيه، و ما نسب(1) إلى بعض الأجانب من أنّ نجاسته مغلّظة(2)، فهو على ما عندي محلّ منع، و لا ينبغي الخلط بين الطهارة الاصطلاحيّة و النظافة العرفيّة.

قوله مدّ ظلّه: «مطهّراً».

و هو المشهور المعروف المدّعى عليه ضرورة المذهب(3)، و عليه أكثر المخالفين(4).

و غير خفيّ: أنّ مقتضى الأصل عدمها؛ فإنّ المطهّرية من الاعتبارات المحتاجة إلى الإمضاء، لجواز سلبها عنه بالضرورة، و ما يستدلّ به(5) من


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
2- المجموع 1: 151.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
4- المغني 1: 18.
5- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.

ص: 109

الإطلاقات المثبتة لمطهّرية جميع المياه(1)، محلّ إشكال مضى وجهه في أوائل البحوث السابقة(2)، و تفصيله في كتابنا الكبير(3)؛ ضرورة أنّ مفهوم «الطهور» غير ظاهر بعد بحسب اللّغة و الاستعمال.

و حديث الأدلّة الخاصّة(4) التي لا سند لها، لا يرجع إلى محصّل بتوهّم الانجبار؛ لأنّ الشهرة ليست عمليّة، حتّى ينجبر بها تلك الأخبار، مع أنّ من المحتمل اعتقاد السلف بأنّ المطهّرية مقتضى القواعد، فالاستناد إلى بعض أخبار(5) مسألتنا لا يكفي؛ لعدم استفادة حصر دليلهم به، مع الحاجة إلى فهم الانحصار في الانجبار.

فبقي أمر ثالث: و هو الاستصحاب، و ما هو التعليقيّ منه غير جارٍ؛ لأنّه ليس من تلك التعليقيّات الجارية، و التنجيزيّ منه و هو نفس عنوان «المطهّرية» الثابتة له قبل الاستعمال بالضرورة غير مخدوش بما قيل، و لكنّه مخدوش بما تحرّر منّا في الاستصحابات الحكميّة الكلّية،


1- وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1.
2- تقدّم في الصفحة 63.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في الوضوء.
4- وسائل الشيعة 1: 209، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 8.
5- تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 210، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 8، الحديث 2.

ص: 110

كما أشرنا إليه سابقاً.

فعلى هذا، مطهّرية الماء المستعمل في الوضوء غير ثابتة جدّاً، و هذا هو المناسب لروح الإيمان و أُصول النظافة.

و ربّما إليه يرجع ما عن المحقّق الأكبر و المفيد الأعظم رضوان اللَّه تعالى عليه حيث اعتبر التحرّي(1)، و لكن قضيّة ما مرّ هو التعميم؛ لأنّ المستظهر من الكتاب و السنّة للانتقال إلى الترابيّة، فقدُ المطهِّر و لو كان ماءً عرفاً، فتأمّل جيّداً.

و حيث لا يجري استصحاب العدم الأزليّ؛ لحلّ مشكلة الماء الموجود بين يديك، فلا بدّ من الاحتياط بالتوضُّؤ به و الترابيّة.

هذا مع أنّ استصحاب عدم جعل المطهّرية، أيضاً غير جارٍ عندنا ذاتاً، فلا تصل النوبة إلى تخيّل المعارضة، حتّى يقال: بفقد المعارض الوجوديّ، فيبقى الأزليّ العدميّ بلا معارض، فاغتنم.

و ربّما يجوز لأحد دعوى القطع؛ بأنّ مثل هذا الماء غير النظيف، غير مطهّر شرعاً، فلا حاجة إلى الجمع بينهما.

أو يقول: إنّ التطهّر و المطهّرية، ليست لها حقيقة شرعيّة، بل لها ميزان عرفي رضي به الشرع، و العرف هنا غير مساعد، اللّهمّ إلّا أن يقال:


1- المقنعة: 64.

ص: 111

كما لا إشكال في كون المستعمل في رفع الحدث الأكبر، طاهراً (1) باختلاف العرف.

و لا ينبغي للعاقل التفكّر لملاحظة جهة خاصّة في الأحكام الشرعيّة، مثلًا النظر في مسألة النظافة لازم، و لكنّ النظر في بقائها من الحرج، و عدمُ اختلال نظم جماعة هي الأكثر ألزم، مع أنّ للشرع أنظاراً أُخر معنويّة مخفيّة علينا، فاتباع الأدلّة أشدّ و أكثر لزوماً و تحفّظاً، فلا تكن من الجاهلين.

قوله مدّ ظلّه: «طاهراً».

حسب الإجماعات المنقولة(1)، و الشهرات المحكيّة، و الاشتهار المحقّق بين المؤلّفين من الخاصّة و العامّة.

و فيهم من يقول: بنجاسته(2)، و ربّما ينسب(3) إلى ابن حمزة(4)، و هو حسب ما في عبارته غير تامّ، مع أنّ القائل بالنجاسة ربّما يكون نظره إلى النجاسة العرضيّة الآتية من قبل نجاسة البدن عادة، و تخيّل أنّه يرفع الحدث، كما ترفع الغسالة نجاسة الخبث، فهما في هذا الأمر


1- الخلاف 1: 172، مختلف الشيعة 1: 233، مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
2- الخلاف 1: 172، المغني 1: 19/ السطر 5.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
4- الوسيلة: 74.

ص: 112

و مطهّراً للخبث (1)، بل الأقوى كونه مطهّراً للحدث (2) أيضاً.

مشتركان؛ لما لا يخفى.

نعم، مقتضى معتبر ابن مسلم الآتي ذكره، نجاسته إلّا إذا كان كرّاً(1)، و لكن غلبة تنجّس بدن الجنب تمنع عن انعقاد الإطلاق.

قوله مدّ ظلّه: «و مطهّراً للخبث».

على المعروف المتّفق عليه بين القديم و الجديد، إلّا ما عن ابن حمزة(2) و قد مضى أنّه غير موافق للقواعد الاجتهاديّة و العمليّة، و تلك الشهرات و الإجماعات غير الواضحة عندنا، بل الواضح اتكاؤهم على هذه الآيات و السنّة التي بين أيدينا لا تنفع و لا تضرّ، و المتّبع هو البرهان، دون عقول الرجال و أفكار الفرسان.

قوله مدّ ظلّه: «للحدث».

وفاقاً للشهرة الحديثة، بل في «الروض»(3) و «الدلائل»(4): «أنّه


1- تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 17، الوسيلة: 74.
3- روض الجنان: 158/ السطر 8.
4- مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 19.

ص: 113

المشهور»، و إليه ذهب طائفة من القدماء(1)، كالسيّد(2)، و أبي يعلى(3)، و ابن زهرة(4)، و خلافاً لجمع(5)، كالصدوقين(6)، و الطوسيّ(7)، و القاضي(8)، و المحقّق(9)، و عن «الخلاف»: «هو مذهب أكثر أصحابنا»(10).

و ظاهر ما نسب إلى أهل الخلاف(11)، هي الطهارة بلا تفصيل.

و يستظهر من «المبسوط» قول ثالث(12)، مذكور في الكتاب الكبير(13).

و ما هو محطّ البحث، هو الماء القليل الوارد أو المورود، و أمّا


1- نفس المصدر.
2- رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
3- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 19.
4- الغنية ضمن الجوامع الفقهيّة: 490/ السطر 19.
5- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 22.
6- الفقيه 1: 10.
7- الوسيلة: 74.
8- جواهر الفقه: 8، المسألة 4.
9- شرائع الإسلام 1: 8.
10- الخلاف 1: 172.
11- لاحظ نفس المصدر.
12- المبسوط 1: 11.
13- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث التاسع، فصل: المستعمل في الحدث الأكبر.

ص: 114

الكرّ و الجاري فهما على الظاهر خارجان عنه، و تفصيل البعض(1) هنا في غير محلّه.

و يشهد على حدود الخلاف بينهم، معتبر ابن مسلم المذكور في أخبار الكرّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) و سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب قال: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء»(2).

و قد عرفت كفاية الشكّ عندنا في ممنوعيّة المطهّرية، و هي هنا أقوى؛ لاعتضاد القاعدة بما أُشير إليه من الخلاف، و بطائفة من المآثير(3) التي لا تخلو عن الضعف سنداً و دلالة على سبيل منع الخلوّ، المحمولة على صورة نجاسة بدن الجنب، أو الكراهة؛ نظراً إلى أنّ مقتضى إطلاق بعضها، المنع(4) حتّى عن الكثير الذي اغتسل فيه الجنب، و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 339.
2- تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 5، و 1: 163، الباب 9، الحديث 15، و 1: 211، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13، و 1: 217، الباب 10، الحديث 2، و الباب 11، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

ص: 115

بقي شي ء: و هو أنّ مقتضى بعض الروايات، تجويز الاغتسال بالماء المستعمل(1)، فهي مقدّمة على قضيّة القاعدة المشار إليها، و من تلك الأخبار معتبر ابن مسلم: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الحمّام يغتسل فيه الجنب و غيره، أغتسل من مائه؟

قال (عليه السّلام): «نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب، و لقد اغتسلت فيه ..»(2).

و فيه: أنّ الماء الذي يغتسل منه في الحمّام، هي مياه الحياض الصغار، و هي عندنا كثير، مع أنّها متمادية بالمادّة الجعلية، فتكون خارجة عن محطّ الخلاف؛ ضرورة أنّه بحسب الطبع دائماً على التبادل، و ما هو مورد البحث هو الماء الذي اغتسل به الجنب، و انفصل من بدنه، و اجتمع في ظرف و إناء، فأراد هو أو غيره أن يغتسل به أو يتوضّأ، فإنّه حسب ما مرّ يحتاج مطهّريته إلى دليل، و قد عرفت قصور الأدلة برمّتها.

و ربّما يوجد في بعض الأخبار أيضاً، ما يقرب من الاستدلال المزبور، و هو خالٍ عن التحصيل، و ستمرّ عليك طائفة من الأخبار المتوهّم دلالتها


1- وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.
2- تهذيب الأحكام 1: 378/ 1172، وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 3.

ص: 116

على هذه المسألة، مع أنّها تدلّ على طهارة ماء الغسالة، أو الماء المستعمل، دون المطهّرية.

فبالجملة: التوضّي من الإناء الذي فيه الماء، و إن يوجب صدق كونه «المستعمل في الوضوء» أو «الغسل» و لكنّه غير مقصود الباحثين، و ما هو محطّ النظر كما مرّ ممنوع مطهّريته عندنا هنا، كما مرّ في الوضوء.

و ممّا يؤيد ما أبدعناه؛ موثّق ابن ابي يعفور قال: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام»(1) فتأمّل.


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 4.

ص: 117

[مسألة 24: الماء المستعمل في رفع الخبث]

مسألة 24: الماء المستعمل في رفع الخبث المسمّى ب «الغسالة» نجس مطلقاً (1).

قوله مدّ ظلّه: «نجس مطلقاً».

وفاقاً للمعروف المشهور بين المتأخّرين(1)، و هو مختار «المبسوط»(2) و «الخلاف»(3) و ظاهر «المقنع»(4) و «الوسيلة»(5) و خلافاً لأكثر القدماء(6)، و قد نسب إلى شيوخ المذهب، كالسيّد(7)، و الشيخ في مسألة الولوغ من «المبسوط»(8) و إلى أبناء أبي عقيل، و حمزة(9)، و إدريس(10).


1- تذكرة الفقهاء 1: 36، جامع المقاصد 1: 128، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1: 25/ السطر 4.
2- المبسوط 1: 11 و 92.
3- الخلاف 1: 179، المسألة 135.
4- المقنع: 18.
5- الوسيلة: 74.
6- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 21.
7- الناصريّات ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة، راجع مدارك الأحكام 1: 119.
8- المبسوط 1: 15/ السطر 3.
9- الوسيلة: 74.
10- مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 22.

ص: 118

و هو ظاهر صاحب «الجواهر» (رحمه اللَّه)(1)، و الأشبه إلى القواعد؛ ضرورة أنّ مقتضى الاستصحاب و قاعدة الطهارة ذلك، و لو نوقش في الأوّل تسلم الثاني عن الأصل الحاكم.

و قد أوضحنا فساد الوجوه الخمسة التي يمكن الاتكاء عليه لنجاستها في الكتاب الكبير(2)؛ فإنّ حديث الإجماع(3)، و إلغاء الخصوصيّة عرفاً، و ارتكاز العرف على حمل الماء نجاسة المحلّ إلى الخارج، فيكون الماء نجساً، غير راجعة إلى محصّل، حتّى تكون دليلًا و حجّة، كي لا يصل الشكّ في الحكم، حتّى تشمله القاعدة.

و أمّا قضيّة مفهوم(4) أخبار الكرّ(5) فهي مضافاً إلى أنّ حجيّة مفهوم الشرط أوّلًا، و حجّية القضيّة الشرطيّة التي أداتها حروف وقتيّة ك «إذ» و «إذا».

ثانياً، فإنّها أقرب إلى بيان قيد للموضوع، دون التعليق للحكم، محلّ


1- جواهر الكلام 1: 353.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في رفع الخبث.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
4- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
5- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 119

المنع أنّ كشف الإطلاق للمفهوم من جهات محطّ النظر:

فأوّلًا: من جهة أنّ كون كلمة «شي ء» أعمّ من الأعيان و المتنجّسات غير واضح، فلا يثبت عموم الدعوى به.

و ثانياً: أنّ مفاد المنطوق بعد كون كلمة «شي ء» كناية عن المنجِّس هو «أنّ الماء إذا كان يبلغ كرّاً لا ينجّسه منجِّس» و هذا غير معقول بعد كونه منجَّساً، فلا بدّ أن أُريد به أنّه لا ينجِّسه ما يمكن أن يكون منجِّساً لغيره، و في ناحية المفهوم يثبت إمكان التنجّس؛ و هو الأعمّ.

و ثالثاً: ليس مفهوم «لا ينجِّسه شي ء» جملةً إثباتيّة كما في كلام القوم؛ أي «ينجِّسه شي ء» بل المفهوم أيضاً سلب السلب جاء؛ أي «ليس لا ينجِّسه شي ء» و هو ظاهر في الجزئيّة.

و قد تحرّر: أنّ كلمة «ليس» لا سور القضيّة الجزئيّة(1)، فالخلاف بين العلمين (رحمهما اللَّه)(2) في المسألة الكلّية و لو كان خلافاً مقيّد بها، ليس بخلاف في خصوص هذه القضيّة، و لا سيّما على الوجه الأخير؛ فإنّه و لو كان النكرة قائمة مقام أداة العموم، كي يستفاد هنا أنّ الماء المذكور


1- تحريرات في الأُصول 5: 130.
2- لاحظ تحريرات في الأُصول 5: 124 125، مطارح الأنظار: 173/ السطر 29، كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 318، هداية المسترشدين: 291/ السطر 16.

ص: 120

لا ينجّسه كلّ شي ء، و لكن إذا كان مفهومه «ينجّسه كلّ شي ء» يثبت العموم الأفراديّ، و في المرحلة الثانية العموم الأحواليّ، كما هو مرام الشيخ الأنصاريّ (قدس سره).

إلّا أنّ مفهومه هو «أنّه ليس ينجّسه كلّ شي ء» و هو بحكم الإهمال، و إثبات الإطلاق لأجل الفرار عن لغويّة الإهمال ممنوع؛ لإمكان الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو القليل المورود، لا الوارد و القليل الوارد الباقي فيه عين النجس مثلًا، لا الزائل و لو كان ممّا لا يطهر إلّا بالتكرر، خلافاً لما ينسب إلى بعضهم من التفصيل بين الغسلة الأُولى و الثانية(1)، و بين الغسلة المزيلة و غيرها(2)، كما أومى في المتن إليهما بقوله: «مطلقاً».

فالمهمّ في المسألة هي الأخبار الخاصّة، و من بينها ما هو الظاهر، كخبر العِيص بن القاسم، الذي رواه الشيخ في «الخلاف»(3) و الصدوق في «المقنع»(4) على عادته، و الشهيد في «الذكرى»(5) و المحقّق في


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 8.
2- العروة الوثقى 1: 39/ السطر 3.
3- الخلاف 1: 179.
4- المقنع: 18.
5- ذكرى الشيعة: 9/ السطر 17.

ص: 121

«المعتبر»(1) قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وَضوء.

فقال: «إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه»(2).

و في «الخلاف» قال: «و إن كان من وَضوء الصلاة فلا بأس»(3).

و ذهاب الجلّ و فيهم الوالد المحقّق(4) إلى أنّه نقيّ السند؛ لظهور نقل الشيخ عن كتابه، و طريقه إليه حسن، بل صحيح كما يظهر من «الفهرست»(5) و صرّح بحسنه «الحدائق»(6) و غيره(7) و يؤيده وجود مضمونها في المقنع(8) جدّاً، فلا يضرّ إضمارها غير تامّ عندي؛ لأنّ «الخلاف» كتاب ألّفه الشيخ في شبابه، و لو كان عنده كتابه لحكاها في «التهذيبين» مع أنّه أفتى على خلافه في موضع على الإطلاق(9)، و في موضع


1- المعتبر: 90.
2- وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.
3- الخلاف 1: 179، بتفاوتٍ في ألفاظها.
4- الطهارة) تقريرات الإمام الخميني( قدّس سرّه)(، اللنكراني: 28) مخطوط).
5- الفهرست، الشيخ الطوسي: 121.
6- الحدائق الناضرة 1: 479.
7- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 322، مستمسك العروة الوثقى 1: 231.
8- المقنع: 18.
9- الخلاف 1: 181، المسألة 137.

ص: 122

بالتفصيل(1)، فلم يعمل به هو و لا الصدوق، مع ما نسب إلى القدماء من القول: بالطهارة(2).

هذا مع أنّ في طريقه إليه ابن أبي جِيد، و هو عليّ بن أحمد القمّي(3) غير المذكور بمدح و لا ذمّ.

و في سائر الأخبار(4) المستدلّ بها نظر واضح؛ لا يحتاج إلى التدبّر.

هذا مع أنّ هذه المسألة من المسائل المبتلى بها، فلو كانت نجسة لبانت غايتها، من غير حاجة إلى هذه الدلائل الساقطة.

و قد أوضحنا المؤيّدات للقول بالطهارة في الكتاب الكبير(5)، و في روايات الاستنجاء(6) أيضاً بعض الشواهد القويّة(7) على المسألة، و قول


1- الخلاف 1: 179، المسألة 135.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 22.
3- لاحظ معجم رجال الحديث 21: 124، تنقيح المقال 2: 267/ 8162.
4- وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 4 و 14، و الباب 11، و 3: 496، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.
5- تحريرات في الفقه، الطهارة، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في رفع الخبث.
6- تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.
7- كما في معتبر محمّد بن النعمان الأحول عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب فقال:« لا بأس به»، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

ص: 123

الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللَّه): «بأنّ من استثناء ماء الاستنجاء يكشف نجاسة الغسالة»(1) من الظرافة في الاستدلال، أو كشف الاتفاق المعلوم حاله.

و لو وصلت النوبة إلى تمسّكهم بالأخبار، تقع العارضة بين ما مرّ و ما يأتي في مسائل الاستنجاء إن شاء اللَّه تعالى، و الترجيح مع الثانية؛ لذهاب المعروفين من العامّة إلى النجاسة(2)، مع أنّ القول بالطهارة موافق للكتاب(3) على وجه، كما لا يخفى.


1- مصباح الفقيه، الطهارة: 64/ السطر 36.
2- لاحظ الخلاف 1: 179 و 181، المسألة 135 و 137، المجموع 1: 158 و 2: 585.
3- الفرقان: 48.

ص: 124

[مسألة 25: ماء الاستنجاء]

مسألة 25: ماء الاستنجاء سواء كان من البول أو الغائط طاهر (1) قوله مدّ ظلّه: «طاهر».

على المعروف و المشهور، و المصرّح به في كلام جمع عدم الفرق بين الخبثين(1).

نعم، ما هو المحكيّ عن «الذخيرة»(2) بل و في «المدارك»(3): «أنّ عدم الفرق بمقتضى النصّ» مشكل جدّاً؛ لعدم ورود نصّ فيه.

مع أنّ قضيّة اللّغة أنّ «الاستنجاء» مربوط بالخبث الأكبر، و إن ألحقوا به الأصغر في الحكم من الطهارة أو العفو.

و بالجملة: في مسألة أعمّية الاستنجاء قد تبيّن عندنا في كتابنا الكبير(4) أنّه أعمّ بلا شبهة في محيط الاستعمال و الأخبار، ففي خبر الساباطيّ قال: سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء، يبدأ بالمقعدة أو بالإحليل؟

فقال: «بالمقعدة ..»(5) الحديث.


1- المعتبر 1: 91، تذكرة الفقهاء 1: 37، الدروس الشرعيّة 1: 122.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 93/ السطر 23، ذخيرة المعاد: 143/ السطر 45.
3- مدارك الأحكام 1: 124.
4- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في ماء الاستنجاء.
5- الكافي 3: 17/ 4، وسائل الشيعة 1: 323، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 14، الحديث 1.

ص: 125

و فيه أيضاً: لو أنّ رجلًا أراد أن يستنجي من الغائط(1) .. الحديث.

و في رواية عبد الملك بن عمرو في الباب الثالث عشر من أبواب نواقض الوضوء: في الرجل يبول ثمّ يستنجي، ثمّ يجد بعد ذلك بللًا(2) .. الحديث.

و في حديث عن سَماعة مثله(3).

مع أنّ مقتضى التحقيق: أنّ حقيقة مادة «النجو» هو القطع من أُصول الشجرة، فالمستنجي كأنّه يقطع في الجانبين أُصول الخبثين، فراجع و تدبّر.

و أمّا مسألة طهارته على الإطلاق، أو نجاسته على الإطلاق، أو عفو بعض أحكامه، أو التفصيل بين البول و الغائط؛ بنجاسة الأوّل دون الثاني، أو العفو عن الثاني دون الأوّل، فهي وجوه بل أقوال، يلحق بالاتفاق القول: بالطهارة الموضوعيّة أو الحكميّة، المعبّر عنها ب «العفو» فيما يقتضيه


1- تهذيب الأحكام 2: 201/ 789، وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 10، الحديث 3، بتفاوت يسير.
2- تهذيب الأحكام 1: 20/ 50، وسائل الشيعة 1: 282، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 1: 51/ 150، وسائل الشيعة 1: 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 4.

ص: 126

الدليل، و لو قلنا: بطهارته، فالمنع يحتاج إلى دليل.

و الذي هو الحقّ: أنّ ماء الاستنجاء بالمعنى المراد عندهم كما يأتي عند ذكر الشرائط يعدّ من الغُسالة، و قد مرّ طهارتها عندنا(1)، فهي هنا تكون أقوى، و لا سبيل إلى التمسّك(2) بأدلّة انفعال القليل؛ لما مرّ.

و أمّا على القول: بنجاسة الغسالة، فالأشبه و الأقرب نجاسة الاستنجاء؛ جمعاً بين أدلّة انفعال القليل، و بين أدلّة منجّسية المتنجّس(3)، و بين أخبار المسألة؛ بحملها على عدم شرطيّة طهارة الثوب الذي يصلّى فيه الواقع في ماء الاستنجاء، كما في روايات الاستنجاء(4).

فما في كتب المتأخّرين بعيد عن الصواب؛ لأنّ هذه الأخبار إمّا تدلّ على طهارة الغسالة، و لا خصوصيّة لها، بل كثرة الابتلاء بغيرها في حدّها، و إمّا لا تدلّ على شي ء إلّا جواز الصلاة في الثوب الواقع فيه؛ ضرورة أنّ الجهة المسئول عنها بين السائل و المجيب في الثوب المذكور في الروايات الكثيرة، هو الصلاة فيه، دون شي ء آخر؛ فإنّه بعيد، كشرب


1- راجع التعليقة رقم 117.
2- كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 346، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 360.
3- الفقيه 1: 14/ 26، وسائل الشيعة 1: 142، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 4، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 3: 501، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 60.

ص: 127

الماء إذا وقع فيه الثوب، أو الطواف به.

كما أنّ المتفاهم منها اختصاص الحكم بالماء الذي استنجي به الخبث الأكبر؛ لأنّه الذي يقع فيه الثوب المتعارف في بلد الأخبار و الروايات، فلا تصل النوبة إلى معارضة العمومات الثلاثة، و الابتلاء بما لا يُعتنى به، كما في كتب بعض المتأخّرين، كالشيخ (رحمه اللَّه)(1) و أتباعه(2).

نعم، في تلك الأخبار رواية «التهذيب» بسند معتبر، عن عبد الكريم ابن عتبة الهاشميّ قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به، أ ينجِّس ذلك ثوبَه؟

فقال: «لا»(3).

فإنّه و إن يشهد على نجاسة الماء كما هو خيرة القائلين بالعفو، و تكون شاهدة على مفاد سائر الأخبار الساكتة عن الحكم الوضعيّ، و لكنّها تدلّ على طهارة الملاقي، و لازم ذلك تخصيص منجّسية المتنجّس على القول بإطلاق دليله، كما لا يخفى.

و يحتمل أن يكون عدم منجّسيته؛ لأجل عدم نجاسته، فتدلّ على الطهارة،


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 347.
2- مصباح الفقيه، الطهارة: 65/ السطر 25.
3- تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 5.

ص: 128

و تؤيّد التفاهم البدويّ من سائر الأخبار.

و يحتمل أن تكون ناظرة إلى عدم تنجّس الثوب حكماً؛ لجواز الصلاة فيه، و حيث إنّه الأثر الواضح صحّ السلب المذكور، فلا يلزم تخصيص في أخبار انفعال القليل، و لا في منجّسية المتنجّس.

و غير خفيّ: أنّه لو خصّص أخبار الانفعال بتلك الأدلّة، فيلزم خروجه موضوعاً عن إطلاق دليل تنجيس المنجّس، و لا تقييد، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى دليل شرطيّة طهارة ثوب الصلاة(1).

و لو قلنا: بأنّه نجس غير منجِّس، يبقى عموم أدلّة الانفعال على حاله، دون العموم الثاني، و يخرج موضوعاً عن العامّ الثالث، فتلك العمومات ليست عرضيّة، بل هي طوليّة غير متعارضة صناعةً.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ ابن عُتْبة اللهبيّ الهاشميّ أمره مريب عندي، و لا يكفي مجرّد توثيق الشيخ (رحمه اللَّه)(2) و رواية بعض أصحاب الإجماع(3)؛ لما في تأريخه بعض الكلام، و لذلك قيل: «في توثيق الشيخ


1- وسائل الشيعة 3: 428، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 18 22 و 30 و 31 و 40 47.
2- رجال الطوسي: 354.
3- و هو أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي الواقع في طريق الصدوق( رحمه اللَّه( إليه، مشيخة الفقيه 4: 55.

ص: 129

إذا لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة (1). و لم يكن فيه أجزاء متميّزة (2) عند عدّه من أصحاب أبي الحسن (عليه السّلام) إشكال»(1) لكونه منهم غير واضح، و لم يوثّقه غيره إلّا تبعاً له(2)، و لا هو إلّا في ذلك الموضع.

و لكن مع ذلك كلّه، لا يبعد اعتباره؛ لإمكان ما قيل في حياته من الخدشة(3) فراجع، نعم هو من المعمّرين ظاهراً، و مع ذلك قليل الرواية جدّاً.

و توهّم الانجبار في غير محلّه؛ لأنّ الشهرة أوّلًا على الطهارة غير معلومة، مع أنّها شهرة غير عمليّة.

قوله مدّ ظلّه: «أحد أوصافه الثلاثة».

قد مرّ ما فيه و ما في اختصاص الحكم بالثلاثة(4)، فالاحتياط لا يترك على الإطلاق.

قوله مدّ ظلّه: «متميّزة».

لما في رواياتها من الاختصاص بالماء المستنجى به(5).

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المتعارف وجودها فيه، و دعوى أنّ وقوع الثوب في ذلك الماء بعد تبديل المكان، غير واضحة، مع أنّ السكوت و عدم ذكر


1- لاحظ تنقيح المقال 2: 160/ السطر 3.
2- لاحظ تنقيح المقال 2: 159.
3- تنقيح المقال 2: 160.
4- تقدّم في الصفحة 28 و 33.
5- وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.

ص: 130

من الغائط (1)، و لم يعدّ فاحشاً على وجه لا يصدق معه «الاستنجاء (2)» السؤال من قبل المعصومين (عليهم السّلام (في هذه الحال، أيضاً يؤكّد.

و بذلك يقع الفرق بين ماء الغسالة و ماء الاستنجاء عندنا؛ فإنّ الأوّل طاهر بالشرط، و الثاني غير مشروط بما أُفيد على الأشبه، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «من الغائط».

أي الذي استنجي منه، و أمّا ما هو الخارج الأجنبيّ عنه فالانفعال قطعيّ.

قوله مدّ ظلّه: «لا يصدق معه الاستنجاء».

لا منع من صدقه إذا كان يستنجي بالنسبة إلى محلّ النجوة و المحلّ المتعدّى إليه، فإنّه يصدق، و مع ذلك يشكل؛ لصدق «الاستنجاء» مقروناً بغسل المحلّ الآخر، فتدبّر.

هذا بناءً على نجاسة الغسالة، و إلّا فمع شرائط طهارة الغسالة فلا يضرّ التجاوز المذكور.

و ربّما يتوهّم في صورة اختلاط ماء الاستنجاء مع ماء المحلّ الزائد الفاحش، تعارضُ الإطلاقين إذا صدق على الماء الموجود الواقع فيه الثوب «ماء الاستنجاء» و «الغسالة».

و تخيّل تقدّم الإطلاق الثاني على الأوّل، في غير محلّه، كما أنّ توهّم انصراف الإطلاق إلى غير هذه الصورة، ممنوع.

ص: 131

و لم تصل إليه نجاسة من خارج (1)، و منه ما إذا خرج مع البول أو الغائط نجاسة أُخرى مثل الدم (2)، حتّى ما يعدّ جزءً منهما على الأحوط (3).

نعم، إنكار الإطلاق لأخبار الباب من أجل أنّه إطلاق سكوتيّ ممكن؛ لأنّ الغلبة مع عدم التعدّي الفاحش، فلا يحصل من ترك الاستفصال شي ء، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «من خارج».

قد مرّ وجهه، و لا يختصّ الحكم بالنجاسة؛ فإنّ بحكمها المتنجّس.

و الأولى أن يقال: «و أن لا يتنجَّس بمنجِّس آخر» فإنّه يشمل صورة وصولها إليه، أو ورود الماء عليها.

قوله مدّ ظلّه: «مثل الدم».

يندرج ذلك في الشرط السابق؛ لأنّه شي ء أجنبيّ خارج، كدم البواسير و النواسير و أمثالهما، فما في بعض الكتب؛ من عدّه شرطاً آخر(1)، في غير محلّه.

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

فيما إذا كان يتبدّل الخرء بالدم في الجوف، ربّما يشكل القول بنجاسته(2).

اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم ثبوت الإطلاق في الباب رأساً، فيرجع إلى


1- العروة الوثقى 1: 47، فصل الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.
2- نفس المصدر.

ص: 132

أدلّة انفعال القليل، و ما في كلام القوم؛ من توهّم الإهمال من هذه الجهة في أخبار المسألة(1)، غير تامّ، و لا تختلط.

و أمّا وجه الاحتياط في صورة عدّه جزءً من الخرء و الغائط فواضح؛ ضرورة أنّه قويّاً يحتمل كون المورد وارداً في محطّ الأخبار؛ ممّا يعدّ ماؤه من ماء الاستنجاء بالنسبة إلى الجزء الآخر، و قضيّة المعارضة هو الاحتياط؛ لإمكان ترجيح كلّ من الإطلاقين على الآخر كما مرّ، فلا تثبت المعارضة حتّى تندرج في الأخبار العلاجيّة. نعم، على ما عرفت منّا، يقدّم أخبار الانفعال.

نعم، في ثبوت الإطلاق هناك أيضاً بحث، فاغتنم.

ثمّ إنّ هاهنا شروطاً أُخر ذكرناها في كتابنا الكبير(2)، و في بعض تعاليقنا على «العروة الوثقى»(3) فليراجع، و من تلك الشرائط؛ الاستنجاء في المحلّ الذي بال عليه كما هو المتعارف، و ترشّح من مائه على ثوبه مثلًا بعد ملاقاته لذلك المحلّ، فإنّه- حسب ما يستظهر منهم نجس؛ لكونه ملاقياً للنجاسة الخارجيّة، إلّا أنّ احتمال طهارته قويّ؛ للتعارف في البول، كما مرّ في الغائط، اللّهمّ إلّا أن يقال: التعارف غير معلوم، فتأمّل.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 237.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في شروط طهارة ماء الاستنجاء.
3- تعليقة على العروة الوثقى: 70 71 و تحرير العروة الوثقى: 65.

ص: 133

[مسألة 26: لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء، سبقُ الماء على اليد]

مسألة 26: لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء، سبقُ الماء على اليد و إن كان أحوط.

[مسألة 27: إذا اشتبه نجس بين أطراف محصورة]

مسألة 27: إذا اشتبه نجس بين أطراف محصورة كإناء في عشرة يجب الاجتناب (1) عن الجميع، و إذا لاقى بعضَ أطرافه شي ءٌ ..

قوله مدّ ظلّه: «يجب الاجتناب».

على المعروف و المشهور بين المحصّلين، و الكلام هنا في مفروض الماتن.

و بالجملة: مقتضى العلم الإجماليّ هو الاجتناب عقلًا، كما تحرّر في محلّه(1)، من غير فرق بين تعلّقه بالحكم، أو بالحجّة القائمة على وجوب الاجتناب عن النجس شرعاً، هذا هو مقتضى العقل.

و أمّا قضيّة النقل، ففيما إذا تكن الحالة السابقة في بعضها النجاسة، فالمعروف عنهم أمران:

أحدهما: عدم جريان أدلّة الأُصول رأساً.

و ثانيهما: جريانها ذاتاً، و سقوط الكلّ بالمعارضة، سواء كانت الأُصولَ العدميّة الأزليّة، أو الأُصولَ الوجوديّة؛ من الاستصحاب، أو قاعدة الطهارة.


1- تحريرات في الأُصول 6: 184.

ص: 134

و الذي قوّيناه في محلّه(1)، جريانُها و عدم سقوطها، من غير أن يلزم المناقضة و الرخصة في المعصية أو اللّغوية، كما تحرّر في كتابنا الكبير فقهاً(2) و أُصولًا(3). هذا كلّه بحسب جميع أطراف المعلوم بالإجمال.

و أمّا في خصوص المعلوم نجاسته، فربّما يستظهر من قاعدة الطهارة، دخالة العلم بالنجاسة تفصيلًا، كما عن «الحدائق» و لكنّه ضعيف.

أو يستظهر: أنّ ما هو موضوع القاعدة، عنوان «المشكوك نجاسته» و بينه و بين عنوان النجس ك «البول» مثلًا عموم من وجه، و في موارد العلم الإجماليّ يكون كلّ واحد موضوعاً للقاعدة، و ما هو البول واقعاً موضوع دليل تحريم النجس، فتقع المعارضة، و يلزم إنكار الحكم الظاهريّ؛ فإنّ الطهارة حكم مجعول واقعاً على العنوان المزبور، كالنجاسة على عنوان «البول» فإن أحرزنا أهمّية جانب الحكم الواقعيّ- كما في الشبهات المهتمّ بها يقدّم جانبه، و إلّا فيقدّم جانب الحكم الآخر المسمّى ب «الظاهريّ» عند الأصحاب (رحمهم اللَّه).

و هذا نظير موارد الاضطرار و الاستكراه في صورة اعتبار الشرع عذريّة


1- تحريرات في الأُصول 7: 331 332.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث العاشر، فصل إذا علم إجمالًا بنجاسة ماء في إحدى الإناءات.
3- تحريرات في الأُصول 7: 331 332.

ص: 135

الاضطرار و الاستكراه، فإنّه لا يلزم على ما هو الحقّ رفع الحكم في مواردهما، بل الحكم الفعليّ باقٍ، و الرخصة ثابتة؛ لأهمّية جانب الرخصة، و الشرع في موارد الشكّ اعتبر الرخصة ذات أهمّية؛ لما فيها من السهولة و السماحة التي بنيت عليها الشريعة، و تمام الكلام في محلّ آخر.

و لو أبيت عن تصديق الوجه الأخير، فيكفيك الوجه العامّ المقتضي لجريان جميع الأُصول في أطراف جميع موارد العلم الإجماليّ، و كما في الشبهات المهتمّ بها، فإنّه في غيرها يجوز ارتكاب الكلّ على الأشبه.

و لعلّ إلى ما ذكرناه يرجع ما نسب(1) إلى العلمين؛ الخوانساري و القمّي (رحمهما اللَّه)(2)، فإنّهما لا ينكرون تنجيز العلم ظاهراً، بل يرخّصان ارتكاب المجموع، فليراجع، و اغتنم جيّداً.


1- فرائد الأُصول، الشيخ الأنصاري 2: 451.
2- مشارق الشموس: 77، قوانين الأُصول 2: 37/ السطر 3.

ص: 136

ص: 137

[كتاب الصلاة]

اشارة

كتاب الصلاة

القول في الخلل

اشارة

ص: 138

ص: 139

القول في الخلل القبلة

[مسألة 4: من صلّى إلى جهة بطريق معتبر، ثم تبيّن خطأه]

مسألة 4: من صلّى إلى جهة بطريق معتبر، ثم تبيّن خطأه، فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين و الشمال (1)، القول في خلل القبلة(1) قوله مدّ ظلّه: «اليمين و الشمال».

في النصوص عنوانان، عنوان المشرق و المغرب، كما في معتبر زرارة(2) و غيره(3)، و عنوان اليمين و الشمال، كما في معتبر معاوية بن عمّار(4) الآتي إن شاء اللَّه تعالى، و عبائر القوم مختلفة.


1- هذه المسألة من المقدّمة الثانية من مقدّمات الصلاة في تحرير الوسيلة، ذكرها المصنّف( قدِّس سرُّه) هنا جمعاً بين مسائل خلل الصلاة في موضع واحد.
2- الفقيه: 180/ 855، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 1، 2، 4، 5.
4- الفقيه 1: 179/ 846، وسائل الشيعة 4: 314 كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 1.

ص: 140

صحّت صلاته، (1) و عن «كشف اللثام»: «لم أر عن قبل الفاضلين اعتبار المشرق و المغرب»(1).

و الأمر عند المحقّق سهل؛ لأنّ النظر الى المحدود في الأخبار دون المشرق و المغرب، كي يذهب بعضهم إلى أنّ المتعيّن ما في المتن، غافلًا عن اختلاف الأخبار في المعتبر، مع أنّ اتّباع عناوين الأخبار أقرب إلى الواقع.

قوله مدّ ظلّه: «صحّت صلاته».

على الإطلاق بالنسبة إلى الصلوات، و المفروض هنا هو الملتفت العالم، الخاطئ طريقه المعتبر شرعاً الذي مرّ تفصيله.

و بالجملة: لا وجه لتوهّم البطلان بعد الشهرة(2) و الأخبار الكثيرة(3)، و القدر المتيقّن منها هو المجتهد، أو الأعمّ منه، و من المتحرر المختبر الفاحص عن العلامات المستخرجة من قبل المجتهدين.

و غير خفّي: أنّ الماتن (قدِّس سرُّه) غير متعرّض لحكم سائر الفرق، كالجاهل،


1- كشف اللثام 1: 180/ السطر 34.
2- تذكرة الفقهاء 3: 32، شرائع الإسلام 1: 58، جامع المقاصد 2: 73، مفتاح الكرامة 2: 123/ السطر 30.
3- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10.

ص: 141

و الناسي بقسميه، و الغافل و غيره هنا، و لا في فصل الخلل، و قد أوضحنا حال المسألة في الكتاب الكبير(1).

و ما قد يتوهّم(2) من ذهاب جملة من الأقدمين إلى الإعادة في الصورة المذكورة.

كمثل السيّد في «الناصريات»(3) بل و المفيد في «المقنعة»(4) و الشيخ في «المبسوط»(5) و «النهاية»(6) و «الخلاف»(7) و جملة من تلامذته(8)، و ابن إدريس في «السرائر»(9) فهو باطل؛ لأنّ المفروض هو أن يصلّي إلى غير القبلة، مع أنّ القبلة لمثل المجتهد مثلًا، ما بين المشرق و المغرب، كما في جملة من الأخبار(10).


1- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة: 96 و ما بعدها.
2- مستمسك العروة الوثقى 5: 228.
3- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهية: 230/ السطر 29.
4- المقنعة: 97.
5- المبسوط 1: 80.
6- النهاية: 64.
7- الخلاف 1: 303.
8- الوسيلة: 99، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 494/ السطر 4 5.
9- السرائر 1: 205.
10- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10.

ص: 142

و إن كان في أثنائها مضى ما تقدّم منها، و استقام في الباقي (1)، و يكفيك ذهاب المشهور إلى صحّة صلاته، فيعلم منه أنّ المقصود في كلامهم، هو أن يصلّي دبر القبلة، و أنّه هو غير القبلة في الشرع.

قوله مدّ ظلّه: «في الباقي».

حسب القاعدة؛ لأنّ الشرط بحسب الجعل هو استقبال الكعبة، لا استقبال ما بين المشرق و المغرب، فإنّه خلاف الضرورة الإسلاميّة.

نعم، حيث كانت الصلاة الواقعة بتمامها حال الاجتهاد الخاطئ صحيحة حسب الأخبار، فإذا وقع بعضها الى ما بين المشرق و المغرب، و بعضها إلى الكعبة، فهو أولى بالصحّة، و إلّا فمقتضى الفهم العقلائي شرطيّة القبلة في الصلاة مطلقة، فيلزم بطلانها إذا توجّه إلى الإخلال بها.

و يحتمل صحتها، حسب إطلاق عقد المستثنى؛ لكفاية كون بعض الصلاة الى القبلة، و انصرافه عن العامد، فاغتنم.

هذا مع ذهاب الجميع(1) إلى الصحّة، و الاستقبال في الأثناء، وفاقاً لبعض النصوص، و معتبرها ما عن الكتب الثلاثة عن الساباطي، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) في رجل صلّى على غير القبلة، فيعلم و هو في الصلاة قبل أن يفرغ عن صلاته، قال:


1- شرائع الإسلام 1: 58، تذكرة الفقهاء 3: 29، جواهر الكلام 8: 37، مستمسك العروة الوثقى 5: 230.

ص: 143

من غير فرق بين بقاء الوقت و عدمه. (1) «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق و المغرب، فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، و إن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة، فليقطع ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة، ثمّ يفتتح الصلاة»(1).

و يؤيد ما ذكرنا في المسألة السابقة، ذهاب الأقدمين في هذه المسألة إلى ما مرّ، و إلّا يلزم طرح مجموع أخبار المسألة، فليتدبّر.

و لو كان زمان العلم بالانحراف إلى زمان الانحراف مضرّاً بالصحة فرضاً، يلزم أيضاً طرح خبر الساباطيّ، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «و عدمه».

بناء على تقريب عرفت أنّ الصّحة حسب القاعدة، و بناءً على إطلاق المعتبر السابق، و حمله على ضيق الوقت، حمل على النادر، و لو كان مورده سعة الوقت ففي الضيق أوضح، فليتدّبر.

فعلى هذا يتبيّن عدم الفرق من الجهتين.


1- الكافي 3: 285/ 8، تهذيب الأحكام 2: 48/ 159، وسائل الشيعة 4: 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 4.

ص: 144

و إن تجاوز انحرافه عمّا بينهما، أعاد (1) في الوقت دون خارجه و إن بان استدباره، إلّا أنّ الأحوط القضاء مع الاستدبار، قوله مدّ ظلّه: «أعاد».

على المشهور القريب من الإجماع(1)، إلّا أنّ الأشبه عندنا خلافه؛ و ذلك لأنّ مقتضى معتبر زرارة في الفقيه، عن أبى جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: «ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه» قال: قلت: فمن صلّى لغير القبلة، أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: «يعيد»(2).

و إذا لوحظ ذلك إلى عقد المستثنى من «لا تعاد»(3) يتبيّن سعة القبلة تعبّداً، بل صدر الرواية تومئ إلى أنّ الصلاة بدون القبلة ليست بصلاة ادّعاءً، كي تكون مصداق المأمور به، و يسقط بها الأمر.

و ما بين المشرق و المغرب ليس إلّا المحدودة، التي تتراوح فيها الشمس شرقاً و غرباً، و ذلك) 4 3 (من دائرة فلك المصلّي تقريباً، و دبر القبلة


1- الخلاف 1: 303، كشف اللثام 1: 180/ السطر 31، مفتاح الكرامة 2: 125/ السطر 25، مستمسك العروة الوثقى 5: 233.
2- الفقيه 1: 180/ 855، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 2.
3- الفقيه 1: 181/ 857، تهذيب الأحكام 2: 152/ 597، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 1.

ص: 145

يكون ذلك الربع الباقي تقريباً.

و لا وجه لحمل الرواية على المشرق و المغرب الشتائي أو الاعتدالي، أو المشرق و المغرب بالنسبة إلى المصلّي في زمان الصلاة، فإنّ كلّ ذلك تصرف فيه، بل مقتضى الإطلاق، و لا سيّما التأكيد المذكور سعة القبلة، و كأنّ النظر في الأخبار إلى أنّ التقسيم ثنائي، و الباطل من الصلاة ما وقع دبر القبلة، و الصحيح غير ذلك، و لا ثالث كما ترى في معتبر الساباطي السابق.

و الأخبار المشتملة بكثرتها على أنّ الصلاة لغير القبلة باطلة، للأمر فيها بالإعادة في الوقت، و عدمها خارجه(1)، ناظرة إلى مثل هذه القبلة المذكورة في معتبر زرارة، و هو مشتمل أيضاً على قوله: «فمن صلّى لغير القبلة».

و من الغريب ما في المفصّلات، من توهم المعارضة أو غير ذلك(2)، أو التمسّك ببعض الأخبار الضعيفة الأُخر، كرواية معمّر بن يحيى(3) المشتملة على إيجاب الإعادة خارج الوقت، الدالّة طبعاً على بطلانها في


1- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 11.
2- كشف اللثام 1: 180/ السطر 28، و لاحظ مصباح الفقيه، الصلاة: 114/ السطر 2 و 7.
3- التهذيب 2: 46/ 149، وسائل الشيعة 4: 313 كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 5.

ص: 146

الوقت؛ كي يلزم إعادتها خارجه حسب القواعد، مع معارضته بالأخبار المفصّلة الآتية إن شاء اللَّه.

نعم، في خصوص المجتهد المخطئ يحتمل سعة القبلة، و صحّة صلاته و لو كان دبر القبلة؛ و ذلك لبعض روايات(1)، و مهمّها و معتبرها خبر الحلبيّ في أبواب الجماعة، حيث اشتمل على أنّ الأعمى يؤمّ القوم و هو على غير القبلة، قال (عليه السّلام): «يعيد و لا يعيدون، فإنّهم قد تحرّوا»(2).

و ذلك لأنّ التعليل و إن كان قابلًا لأن تقيّد به الإطلاقات الادّعائية، أو قابلًا لأن يكون قوله (عليه السّلام) ابتداء: «لا صلاة إلّا إلى القبلة» فتكون القبلة المنظورة في معتبر زرارة و غيره، مخصوصة بالمجتهد المخطئ، و لكنه مجرّد تخيّل القابليّة، و لا واقعيّة له جدّاً، لاحتمال كون مصبّ خبر الحلبي خارج الوقت، و في مورد يمكن التحري، فلم يتحرّ الأعمى و غير ذلك، إلّا أنّ الأشبه الأقرب أنّه صلّى إلى غير القبلة، و هو الدبر حسب ما عرفت منّا، فيعيد و لا يعيدون.

و بالجملة: مقتضى الطوائف المختلفة من الآثار، صحّة صلاة المنحرف


1- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، الباب 11، الحديث 2 و 6 و 7.
2- الكافي 3: 378/ 2، تهذيب الأحكام 3: 269/ 771، وسائل الشيعة 8: 338، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 21، الحديث 6.

ص: 147

بل مطلقاً (1).

إلى ما بين المشرق و المغرب، و إلى المشرق و المغرب، و عدم صحة المصلّي مستدبراً، و وجوب الإعادة، لوقوع صلاتهم إلى غير القبلة، إلّا المجتهد الخاطئ، و اللَّه العالم.

قوله مدّ ظلّه: «بل مطلقاً».

بل الأحوط هي الإعادة؛ لأنّ مثل معتبر زرارة و غيره، بعد ملاحظة سائر الأخبار، يصير مجملًا، و القدر المتقين منه هو ثُمن الدائرة، و إذا احتمل إعراض هؤلاء الأقدمون عنه، نرجع إلى مقتضى الضرورة، و هو أنّ نفس الكعبة قبلة؛ لأنّ احتمال الإعراض ليس كاحتمال التخصيص و التقييد، كما تحرر في محلّه(1).

و من هنا يظهر وجه القول باعتقاد القبلة بالنسبة إلى ثُمن الدائرة، كما ذهب إليه سيدنا الأُستاذ الفقيه البروجردي، و تبيّن وجه اعتقاده بالنسبة إلى نصف الدائرة في المجموع أي: ربعها من جانب كما ظهر وجه ما أبدعناه، و هكذا وجه إيجاب الإعادة مطلقاً في الوقت، نعم بالنسبة إلى خارج الوقت، الإعادة للنصوص الكثيرة(2).


1- تحريرات في الأُصول 6: 402 403.
2- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 11.

ص: 148

و إن انكشف في الأثناء انحرافه عمّا بينهما، فإن وسع الوقت حتّى لإدراك ركعة قطع الصلاة و أعادها (1) مستقبلًا، و الّا استقام للباقي، و صحّت على الأقوى و لو مع الاستدبار، و الأحوط قضاؤها أيضاً.

قوله مدّ ظلّه: «أعادها».

في الصورة المذكورة، أو يختصّ ذلك بما إذا كان مستدبر القبلة؛ فإنّه عندئذٍ لا دليل على اعتقاد القبلة، و لا على سعتها، فمقتضى القاعدة بطلانها، كما هو الظاهر، و هكذا مقتضى القاعدة الثانية، بناءً على إطلاق عقد المستثنى كما هو الأشبه، بل هي ليست بصلاة حسب صدر معتبر زرارة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بعد عوده إلى القبلة، يشمله إطلاق عقد المستثنى على التقريب السابق، و تكون الصلاة التي بيده بعد العود إليها، صلاة واجدة للقبلة عقلًا و عرفاً، و لو كانت فاقده بالنسبة إلى بعض الأجزاء، و لا معنى لتوهّم فقدانها للقبلة، بعد العلم و قبل العود و حينه، كما هو واضح.

و أمّا خبر القاسم بن الوليد(1) فليس بمعتبر سنداً، على إضماره، بل و إعراضهم عنه، فتأمّل.


1- وسائل الشيعة 4: 314، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 3.

ص: 149

[القول في الخلل الواقع في الصلاة]

اشارة

القول في الخلل الواقع في الصلاة

[مسألة 1: من أخلّ بالطهارة من الحدث، بطلت صلاته مع العمد]

مسألة 1: من أخلّ بالطهارة من الحدث، بطلت صلاته (1) مع العمد، و السهو، و العلم، و الجهل، قوله مدّ ظلّه: «بطلت صلاته».

اتّفاقاً قطعيّاً(1)، و حسب النصوص الخاصّة(2) المتفرّقة في المسائل السابقة، و لم يعهد نقل خلاف من أحد في مطلق الإخلال العمدي و غيره.

نعم، لو أخلّ بالطهارة المائيّة بأن أهرق الماء عمداً، و أتى بالترابيّة، فالمعروف صحّة صلاته(3)، و عندي فيها مناقشة، و تفصيله في أحكام التيمّم، كما أنّه يمكن على وجه، اختيارُ الصحّة حتّى في صورة العمد بالإخلال بالطهور، و لكنّه عندي غير معقول، تحرّر تفصيله في


1- شرائع الإسلام 1: 81، تذكرة الفقهاء 3: 271، جواهر الكلام 11: 2 و 3، مستمسك العروة الوثقى 6: 525 526.
2- وسائل الشيعة 1: 365 374، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1 4. وسائل الشيعة 7: 233 237، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 1.
3- جواهر الكلام 5: 88، العروة الوثقى 1: 471 فصل في التيمّم، المسألة 13، مستمسك العروة الوثقى 4: 320، تحرير الوسيلة 1: 103 فصل في التيمّم، المسألة 9.

ص: 150

بخلاف الطهارة من الخبث (1)، كما مرّ تفصيل الحال فيها و في غيرها من الشرائط، كالوقت، و الاستقبال، و الستر و غيرها.

الأُصول(1)، و في رسالة «لا تعاد»(2).

نعم، لو أخلّ بالطهور بالنسبة إلى بعض أجزاء الصلاة، فهو من نقصان الشرط، إلّا أنّ المركّب واجد له في الجملة، فربّما يكفي ذلك، كما في مثل الوقت، و لا ينافيه مستثنى «لا تعاد» كما لا يخفى، فلو توجّه في أثناء الصلاة إلى فقدان الطهور فتوضأ، صحّت صلاته حسب القاعدة، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «من الخبث».

ربّما يستظهر أنّ الفاقدة للطهور الخبثي و الحدثي ليست بصلاة، فكيف بكونها صحيحة، نظراً إلى قوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(3) و هذا أصل، و الصحّة في بعض الفروض ربّما لا تنافي التعبير المذكور، و تفصيله في محلّه(4).


1- تحريرات في الأُصول 8: 97 و مابعدها.
2- رسالة في قاعدة« لا تعاد» للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).
3- تهذيب الأحكام 1: 49/ 144 و 209/ 609، الفقيه 1: 35/ 129، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
4- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة: 194.

ص: 151

و من أخلّ بشي ء من واجبات صلاته عمداً (1)، و لو حركة من قراءتها و أذكارها الواجبة، بطلت، قوله مدّ ظلّه: «صلاته عمداً».

حسب درك العقل في المركّبات، و حكم العقلاء، بعد الفراغ عن جزئيّة حال العمد، و هو المفروغ عنه عند الأصحاب كافّة، قديماً و حديثاً(1).

و قد أشرنا إلى توهّم إمكان الالتزام بالصحّة(2)، كما في كلام العلّامة التقيّ الشيرازيّ(3)، و الوالد المحقّق(4)، و العلّامة الأراكي(5) عفي عنهم و لكنّه ممتنع عندنا(6).

و غير خفي: إنّه إذا ترك القراءة فمضافاً إلى ترك الجزء، أخلّ بشرط تكبيرة الافتتاح و السورة، لاشتراط كلّ منهما بلحوق القراءة و سبقها.

اللهمّ إلّا أن يقال بممنوعيّة ذلك؛ لأنّه مجرد انتزاع، أو اعتبار و تحليل عقلي، و لا يكون شرعيّاً.


1- شرائع الإسلام 1: 103، نهاية الأحكام 1: 527، مفتاح الكرامة 3: 281، مستند الشيعة 7: 86.
2- تقدّم في الصفحة 149.
3- الخلل في الصلاة، للمحقّق الشيرازي( رحمه اللَّه): 194/ السطر 16.
4- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني( رحمه اللَّه): 6.
5- نهاية الأفكار 3: 434.
6- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة، للمؤلف( قدّس سرّه): 7 و ما بعدها.

ص: 152

و كذا إن زاد (1) فيها جزء متعمّداً، قولًا أو فعلًا من غير فرق بين الركن و غيره، قوله مدّ ظلّه: «و كذا ان زاد».

إذا تمكّن من ذلك و لو عرفاً أي: بعد زيادة عرفيّة يكون باطلًا للإجماع(1)، بل الضرورة، و لاختصاص «لا تعاد» بالنقيصة، و إطلاق معتبر زرارة «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(2).

و لما تحرّر منّا في الأُصول: أنّ الفرد الممتثل به، المقرون بالمحرم و البدعة، بأن يزيد في صلاته على وجه يعدّ بدعة، أو يحسب تشريعاً، و لو لا يعقل التشريع بحسب القصد، إلّا أنّه يريد بذلك عدّ عمله من الشريعة.

و بالجملة: من يريد امتثال الأمر و التقرّب، قليل الوجود إن يريد ذلك، إلّا أنّه إذا اتّفق لأجل جهة ذلك، يلزم بطلانه، و لا معنى لدعوى صرفه عن العالم العامد، بحيث تصحّ صلاته لو اتفق، بل لو قيل بذلك فلأجل عدم اتّفاقه خارجاً، لما لا يخفى.

هذا مع أنّ المحرر في الأُصول: أنّ الزيادة في مثل الماهيّة المحدودة تكون مبطلة، حسب الأصل كالنقيصة(3)، و كما أنّ السهو من


1- شرائع الإسلام 1: 103، مستند الشيعة 7: 86 90، جواهر الكلام 12: 228.
2- الكافي 3: 355/ 5، تهذيب الأحكام 2: 194/ 764، الإستبصار 1: 376/ 1429، وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 2.
3- تحريرات في الأُصول 8: 121 122.

ص: 153

بل و لا بين كونه موافقاً لأجزائها أو مخالفاً (1)، و إن كان الحكم في المخالف، بل و في غير الجزء الركني لا يخلو من تأمّل و إشكال (2).

النقيصة في غير الأركان لا يبطل، كذلك في الزيادة، و كلّ ذلك لاستفادة أنّ الصلاة في الشريعة ماهيّة محدودة عرفيّة اعتباريّة تأليفيّة، و إن لم يلزم من الزيادة نقصان، كالإخلال بالتوالي و الماهيّة الاتّصاليّة.

و قوله (عليه السّلام): «من زاد» ربّما هو ناشئ عن القاعدة الدالّة على محدوديّة الماهيّة و الصلاة، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «أو مخالفاً».

على المعروف المشهور(1)؛ لأنّ الزيادة لا تعقل إلّا بلحاظ لحوق الفرد، و المأتي به حتّى في المماثل، فعليه يمكن إلحاق الأجنبي به، حسب النيّة، و القصد و الإرادة، كما ترى ذلك في العمد المعذور، بالنسبة إلى التكتّف و قول آمين.

قوله مدّ ظلّه: «و إشكال».

كما هو في المستند بالنسبة إلى المخالف(2)، و في كتب بعض أصحابنا، بالنسبة إلى الجزء غير الركني(3)، و قد عرفت وجه البطلان و الزيادة.


1- العروة الوثقى 2: 4، فصل في الخلل الواقع في الصلاة، المسألة 4، مستند العروة الوثقى 6: 31.
2- مستند الشيعة 7: 82.
3- جواهر الكلام 12: 274، مصباح الفقيه، الصلاة: 546/ السطر 1.

ص: 154

نعم، إذا كان ممّا يناجي به ربّه، و يذكر به اللَّه تعالى، فهو من الصلاة- أي من اللواحق المصداقيّة كما هو يعلم بالقياس إلى المركّبات التأليفيّة.

نعم، بناءً على عموم المستثنى منه، و انصراف «من زاد» إلى الركعة، أو تقدّمه عليه، و إن لم يكن منصرفاً، لا تبطل الصلاة بتلك الزيادة العرفيّة؛ لأنّه إذا كان قاصداً به الصلاة يكون منها تعبّداً، بل حقيقةً، و يشمله ما ورد من جواز ما يناجي به ربّه، و لأجله قال دام ظلّه-: «و إن كان الحكم ..» إلى آخره، فيعلم منه أنّه لا تردد له في كونه زيادة و لاحقاً، و لا تردّد له في بطلان الصلاة بالمخالف، لما لا يناجي به ربّه، و لا يذكر به اللَّه.

و فيه: إنّ هذه الأخبار ناظرة إلى صورة الإتيان بها ذكراً و تقرّباً، لا تشريعاً و تعبّداً، على الوجه الممكن المحرّر في محلّه، فيبقى إطلاق المستثنى منه، و هو أعمّ من الموافق و المخالف، بعد كونه لاحقاً بالمصداق.

و لو استشكل في إمكان الزيادة لتقوّمها بالقصد، فلا فرق بينهما أيضاً، بل دعوى بطلانها بالموافق أقوى، لحصول الزيادة قهراً؛ لأجل السنخيّة، بخلاف المخالف.

ص: 155

و يعتبر في تحقّق الزيادة في غير الأركان (1)، الإتيان بالشي ء بعنوان أنّه من الصلاة أو أجزائها (2)، فليس منها الإتيان بالقراءة و الذكر و الدعاء في أثنائها، إذا لم يأتِ بها بعنوان أنّها منها، فلا بأس بها ما لم يحصل بها المحو للصورة، كما لا بأس بتخلّل الأفعال المباحة الخارجيّة، كحكّ الجسد و نحوه، لو لم يكن مفوّتاً للموالاة، أو ماحياً للصورة كما مرّ سابقاً.

قوله مدّ ظلّه: «في غير الأركان».

لا وجه له؛ لأنّ بطلان الصلاة بزيادة الركن مسألة أجنبيّة عن مسألة الزيادة فيها.

قوله مدّ ظلّه: «أو أجزائها».

لا يعتبر أكثر من الإتيان بعنوان الصلاة، فإنّ الجزئيّة تحصل قهراً، كما يستفاد من إفاداته مدّ ظلّه في الدروس.

نعم، قصد الشي ء الآخر ربّما يضّر بذلك كما إذا قرأ في الصلاة بعد تكبيرة الافتتاح، بعنوان الترحيم و النفسيّة لمؤمن، فإنّها لا تكون صلاة.

اللّهمَّ إلّا أن يقال بكفايتها، لدليل أنّه يذكر و يناجي به الربّ، و يكون من الصلاة مقيّداً أو واقعاً، فتأمّل.

ثمّ إنّ من المحتمل قويّاً كون الزيادة على قسمين: منها ما يبطل الصلاة، و منها: ما يستكمل بها الصلاة، بعد الفراغ عن إمكان الزيادة بالنسبة إلى الماهيّة التقديريّة، اللاحقة بالفرد الممتثل به و على

ص: 156

هذا لا وجه لمحو الصلاة بتلك الزيادة، للزوم محو الصلاة بالصلاة، حسب ما يستفاد من المتن، و لا بما يوجب كمالها حسب ما ذكرناه، فقوله مدّ ظلّه: «ما لم يحصل» أبعد عن الحقّ حسب مختاره، كما لا يخفى.

فرع: في الإتيان بالزيادة المستحبّة تشريعاً على الوجه المذكور، خلاف، و الأشبه بطلانها بها، كما تحرّر في التعبّدي و التوصّلي(1)، و في الإتيان بها لا بعنوانه، ففي بطلانها بها قولان.

و من الغريب توهّم أنّ ما في رواية الحلبيّ: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «كلّ ما ذكرت اللَّه عزّ و جلّ به و النبي (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (فهو من الصلاة»(2) يشعر بوجوبه، لكونه منها(3)، غافلًا عن أنّه ناظر إلى أنّ الإتيان به حين الاشتغال بها، فهو منها قهراً أو تعبّداً، و على هذا، الإتيان بالقنوت في الأُولى حسب القاعدة مبطل، لكونه من الزيادة، فعليه الإعادة، إلّا أنّ مقتضى هذه الرواية و أشباهها: أنّ ما يناجي به اللَّه في الصلاة لا يضرّ بها، فتأمّل.


1- تحريرات في الأُصول 2: 184 185.
2- الكافي 3: 337/ 6، تهذيب الأحكام 2: 316/ 1293، وسائل الشيعة 7: 263، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 13، الحديث 2.
3- مستمسك العروة الوثقى 7: 388.

ص: 157

و أمّا الزيادة السهويّة، فمن زاد ركعة (1)، قوله مدّ ظلّه: «ركعة».

لا وجه للتعرّض له، بعد كون المراد مجموع الركوع و السجدتين، و بعد بطلانها بزيادة واحد منهما، إلّا أنّ المسألة في هذه الصورة أظهر؛ للنصوص الكثيرة(1).

هذا مضافاً إلى الاتّفاق القطعي، و لم يعرف من أحد خلافه، و هو مقتضى القاعدة الأوّليّة و الثانويّة، إلّا إطلاق حديث الرفع(2)، بناءً على جريانه في سهو الموضوع، و لكنّه محكوم الأدلّة الخاصّة، كما هو كذلك بالنسبة إلى خبر سفيان بن السمط(3) الماضي.

و بالجملة: معتبر الشحّام يكفي لقوله: سألته عن الرجل يصلّي العصر ستّ ركعات، أو خمس ركعات، قال (عليه السّلام): «إن استيقن أنّه صلّى خمساً أو ستّاً فليعد»(4) و غير خفيّ: أنّ اختصاص مثله بالفارغ عن الصلاة غير


1- وسائل الشيعة 8: 231 233، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19.
2- وسائل الشيعة 8: 249، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 30، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 8: 251، كتاب الصلاة أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 32، الحديث 3.
4- تهذيب الأحكام 2: 352/ 1461، وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 3.

ص: 158

معلوم، بل إطلاقه أعمّ.

فعلى هذا لا فرق بين ما إذا استيقن قبل التشهد، أو بعده، أو جلس بمقداره في الرابعة و في الأخيرة.

و من الغريب ما ذهب إليه جلّ من أصحابنا، كالشيخ في «التهذيب»(1) و المحقّق في «المعتبر»(2) و العلّامة في جمع من كتبه(3)، و عن ثاني الشهيدين نسبته إلى المتأخّرين، و هو أنّه إن كان جلس آخر الرابعة بقدر واجب التشهّد، صحّت صلاته(4).

و بعد التدبّر في أخبار المسألة، يؤيّد المذهب المذكور: أنّ التشهّد سنّة، و هي لا تنقض الفريضة، و الجلوس المذكور بمقداره، يوجب الخروج و لا تكون الخامسة من الزيادة موضوعاً، بخلاف زيادة الركوع؛ فإنّ مقتضى الأخبار الآتية بطلانها بها.

و يؤيّده أنّ «لا تعاد» مخصوص بالنقيصة، و الزيادة خارجة عنها،


1- تهذيب الأحكام 2: 194 ذيل الحديث 67.
2- المعتبر 2: 380.
3- مختلف الشيعة 2: 394، تحرير الأحكام 1: 49/ السطر 9 و 10، المنتهي 1: 409/ السطر 14.
4- مسالك الأفهام 1: 286.

ص: 159

و لو كانت مبطلة، فهو خلاف «أنّ السنّة لا تنقض الفريضة»(1) لأنّ اشتراطها بعدم الخامسة من السنّة.

و توهم الإعراض عن الأخبار الناطقة بالتفصيل المذكور(2)، في غير محلّه، بعد ذهاب «التهذيب» و المحقّق إليه.

نعم، الأخبار المفصّلة(3) مخصوصة بالخامسة دون الرابعة، في المغرب، و الثالثة في الغداة، و صلاة المسافر.

فعلى هذا يقيّد الإطلاق السابق، الحاكم ببطلان الصلاة بزيادة الركعة بمثل هذه النصوص، كصحيح ابن مسلم(4) و جميل(5).

و من الغريب ما عن بعضهم بحمل هذه الأخبار على الجلوس بمقدار التشهّد و الإتيان بوظائفه، و السلام(6)، غافلًا عن أنّ هذه الأخبار بصدد أنّ


1- وسائل الشيعة 5: 470، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1، الحديث 14.
2- مستمسك العروة الوثقى 7: 392.
3- وسائل الشيعة 8: 232 233، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 4، 5، 6، 7.
4- وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 5.
5- وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 4 و 6.
6- مستمسك العروة الوثقى 7: 392.

ص: 160

مثل هذه الركعة ليست زيادة؛ لأنّه قد أتى بما عليه.

و يؤيّدهم الأخبار الأُخر الحاكمة بتماميّة الواجب يأتيان الطهور و الركوع و السجود(1)، و حيث أنّ الفرض المذكور في الأخبار نادر الاتّفاق، فيلزم بطلان الصلاة بالركعة الزائدة دائماً، كما لا يخفى.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ كيفيّة الصلاة اليوميّة، و بطلانها بالركعة الزائدة، ممّا قامت عليها السيرة العمليّة الشرعيّة أباً عن جدّ، مع ذهاب أبي حنيفة و الثوري(2) إلى التفصيل المذكور، و مع أنّ إخبارها عن الأئمّة المعاصرين لهما، و لذلك يعدّ القول المذكور منكراً في الفقه، و عند الخواصّ، فضلًا عن عوامّ الشيعة، فيكون هناك معارضة لا جمع عقلائي.

مع أنّ معتبر محمّد بن مسلم لا يخلو عن غرابة، ففي «الفقيه» عن العلاء، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل صلّى الظهر خمساً، فقال (عليه السّلام): «إن كان لا يدري جلس في الرابعة أم لم يجلس، فليجعل أربع ركعات منها الظهر، و يجلس و يتشهّد، ثمّ يصلّي و هو جالس ركعتين و أربع سجدات، فيضيفهما إلى الخامسة، فتكون نافلة»(3).


1- وسائل الشيعة 6: 310، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 9، الحديث 1.
2- المجموع 4: 163/ السطر 4 و 15، المغني 1: 684 685.
3- الفقيه 1: 229/ 1017.

ص: 161

أو ركناً (1) من ركوع و سجدتين من ركعة أو تكبيرة الإحرام سهواً، فإنّ ذلك و إن كان ناظراً بحسب الذيل إلى عدّ الركعتين جلوساً ركعة من قيام، إلّا أنّه أمر مبتدع أيضاً في الشريعة، كما لا يخفى.

و بالجملة: قضيّة الصناعة و لو كان ذلك، و لكنّه خلاف المرتكز في الشريعة، و يعدّ مستنكراً جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «ركناً».

إجماعاً، بل لم يعهد الخلاف في الطائفة، و هكذا في السجدتين، كما عن «المدارك»(1) و غيره ك «الرياض» و نحوه(2).

و توهّم أنّه مقتضى الركنيّة في غير محلّه، كما أنّ التمسّك بالأخبار الخاصّة المتعرّضة لبطلان الصلاة كمعتبرين على إشكال جدّاً لمحمّد ابن مسلم(3) الآتيين، و بعض الأخبار الأُخر المشتملة على بطلان الصلاة بالركعة، نظراً إلى أنّ الأصل أنّ الركعة هي الواحد من الركوع، فإنّه مصدر مثله، و يطلق في طائفة من الأخبار(4) على الركوع بقرينة المقابلة


1- مدارك الأحكام 4: 222 223.
2- رياض المسائل 1: 212/ السطر 15، مستند الشيعة 7: 123، مفتاح الكرامة 3: 289/ السطر 29.
3- وسائل الشيعة 8: 232 233 أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 5 و 7.
4- وسائل الشيعة 6: 314، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 11، الحديث 2.

ص: 162

مع السجدة، غير تامّ؛ لأنّه، إمّا بحمل أو منصرف إلى تمام أجزاء الركعة، و لا يبعد الثاني، فينحصر الوجه في غير الإجماعات و الشهرات المستقيمة و غير المستقيمة؛ لأنّها لا تكشف عن شي ء وراء ما عندنا.

و حيث هي ليست عمليّة، فليست جابرة لبعض الأخبار الخاصّة الناطقة بالبطلان كخبر منصور بن حازم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل صلّى فذكر أنّه زاد سجدة، فقال (عليه السّلام): «لا يعيد صلاته من سجدةٍ، و يعيدها من ركعة»(1).

و مثله خبر عبيد بن زرارة(2) و لو أمكن تصحيح الخبرين، و لا سيّما الأوّل، فكونها صريحة في المراد، محل منع، و في نسخة من «الفقيه»: «يعيدها من ركوعه»(3).

و يحتمل أن يقرأ، «يعيدها من ركعة» فإنّ الركع و الركوع مصدران، و لكنّه بعيد، إلّا أنّ أضبطيّة «الفقيه» تورث الوثوق بعد ذهاب المشهور إليه، على القول بكفاية التطابق بين مفاد الخبر و الشهرة الفتوائيّة


1- الفقيه 1: 228/ 1009، تهذيب الأحكام 2: 156/ 610، وسائل الشيعة 6: 319 كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 14، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 6: 319، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 14، الحديث 3.
3- لاحظ جامع أحاديث الشيعة 6: 288/ 9487.

ص: 163

بطلت صلاته على إشكال في الأخير (1). و أمّا زيادة القيام الركني، للجبر، كما عن سيّدنا الأُستاذ البروجرديّ (رحمه اللَّه)(1) إلّا أنّه غير تامّ عندنا.

نعم، سند «الفقيه» إلى منصور معتبر عندي، فلا حاجة معه إلى الجبر.

و بالجملة: مضافاً إلى ما مرّ، يكون البطلان بزيادة الركوع و السجود، قضيّة «من زاد» حسب ما عرفت منّا، و أجنبيّة «لا تعاد» عن الزيادة على الإطلاق، إلّا في بعض الفروض، و ما نحن فيه ليس منها.

و مرسل سفيان أيضاً حسب ما في ذيله، يومئ إلى أنّ ترك سجدة واحدة يجتمع مع الصحّة دون السجدتين، كما أنّ في الأخبار(2) الحاكمة بالإعادة في صورة ترك الركوع و الدخول في السجدة، إشعاراً قوياً بذلك.

و يكفيك ارتكاز ذهن المتشرّعة بمثله، الذي ابتلي به المسلمون في كلّ يوم مرّات، و لا يقاس مثله بمسألة طهارة ماء البئر و نجاسته بتوهّم أنّ تلك الارتكازات مختلفة.

قوله مدّ ظلّه: «على إشكال في الأخير».

و بلا إشكال عند كافّة الأصحاب(3)، و في «المستند»: «أنّه إجماعي»(4)


1- نهاية الأُصول 2: 541 542.
2- وسائل الشيعة 6: 313، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 10، الحديث 3 و 4.
3- مفتاح الكرامة 2: 336، جامع المقاصد 2: 234، المعتبر 2: 151، تذكرة الفقهاء 3: 111.
4- مستند الشيعة 7: 123.

ص: 164

و يحتمل لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن منه، و هو الزيادة العمديّة، أو التقصيريّة الجهليّة دون السهويّة، و حيث لا نصّ على بطلانها بزيادتها، فالأصل يقتضي الصحّة.

و فيه: مضافاً إلى أنّه خلاف الأصل عندنا في الماهيّات المعدودة اعتباراً، و خلاف إطلاق «من زاد في صلاته»(1) بعد عدم جواز الاعتماد على مرسلة سفيان السابقة، و اختصاص «لا تعاد» بالنقيصة، يكون معقد الإجماع ظاهراً في السهويّة و الجهليّة، دون العمديّة، مع تعرض كثير منهم لصورة المسألة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ «من زاد» في صلاته إمّا معناه أنّ الزيادة مانعة عن تحقّق الصلاة ادعاء، فهي ليست من الزيادة في الصلاة، و إن كان معناه أنّه يشترط في الصلاة عدم الزيادة، و وحدة التكبيرة و الركوع مثلًا، فلازمه بطلانها من جانب النقيصة، فيندرج في المستثنى منه من قاعدة «لا تعاد»؛ لأنّ تكبيرة الإحرام ليست من الخمسة، مع ظهور المستثنى في النقيصة، مع أنّه لا يعقل خلافه كما تحرّر.


1- وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 2.

ص: 165

فلا تتحقّق (1) إلّا مع زيادة الركوع أو تكبيرة الإحرام.

و لو قلنا بأنّ الزيادة الموجبة للنقيصة، لا تكون إلّا في صورة كونها في الصلاة بحسب المصداق، كزيادة الركوع، و القراءة، و القنوت و أمثالها، و إِلّا فلا توجب النقيصة، فلازمه كون الموانع و القواطع من الصلاة.

نعم، يمكن دعوى أنّ في مثل الموانع و القواطع يلزم النقيصة، و لا يعدّ المخلّ بها من الصلاة بالضرورة، و أمّا ما كان من جنس الصلاة و أجزائها، ففي صورة الإتيان بها سهواً تعدّ من الصلاة.

و لو اقتضت «لا تعاد» صحتها، و «من زاد» بطلانها، يقدّم الثاني، لما تحرّر في وجه تقدّم «من زاد» على «لا تعاد» فزيادة تكبيرة الإحرام، مبطلة حسب الصناعة الدقيقة، مؤيّدة بتلك المحكيّات من الشهرة و الإجماعات. و قيل بعدم البطلان(1)، و هو غير متين.

قوله مدّ ظلّه: «فلا تتحقّق».

كما في «المستند»(2) و لا دليل على أنّ زيادة الركن بما هو هو، توجب البطلان، و لا على أنّ حقيقة الركن ما يوجب نقصانه و زيادته البطلان.

و مجرّد كلام «المهذّب البارع»(3) مع أنّه معارض بكلام المحقّق


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة 6: 52 53.
2- مستند الشيعة 7: 126.
3- المهذّب البارع 1: 356.

ص: 166

الثاني(1) و غيره(2)، غير كافٍ، و ليست المسألة إلّا فقهية اصطلاحيّة، مصطادة عن اختلاف الأحكام، و تعابير الأخبار، و ربّما تكون بعض الأمور مقوّم الماهيّة تعبّداً، كقوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(3) أو «لا صلاة لمن لم يقم صلبه»(4) على إشكال في الأخير.

و المسألة على هذا ترجع إلى زيادة الركوع و الافتتاحيّة، و غير خفيّ: أنّه لو كان في خصوص القيام حال تكبيرة الإحرام مثلًا دليل على أنّه مبطل، يمكن الأخذ بإطلاقه، و لو كانت تكبيرة الإحرام باطلة شرعاً، و صحيحة على الأعمّ، فافهم.

فعلى هذا نمنع الملازمة، كما لا ملازمة بين صدق الركوع و القيام، و لأجله يعدّ حراماً ركوع القاعد للأصنام و الأزلام، مع أنّه ركوع عرفاً، كما لو هوى من الجلوس إلى حدّ الركوع، لا يشمله مستثنى «لا تعاد» بالضرورة


1- لاحظ جامع المقاصد 2: 199، مفتاح الكرامة 2: 303/ السطر 7، الجواهر 9: 239.
2- روض الجنان: 258/ السطر 16 و 271/ السطر 23 و 275/ السطر 1.
3- تهذيب الأحكام 1: 49/ 144، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
4- الكافي 3: 300/ 6 و 320/ 4، الفقيه 1: 180/ 856، وسائل الشيعة 5: 488 489، كتاب الصلاة، أبواب القيام، الباب 2، الحديث 1 و 2. لكن ورد في الحديث: من لم يقم صلبه« في الصلاة» فلا صلاة له.

ص: 167

و أمّا النيّة فبناء على أنّها الداعي لا تتصور زيادتها (1)، و على القول بالإخطار لا تضر (2)، و زيادة غير الأركان سهواً، لا تبطل (3) و إن أوجبت سجدتي السهو على الأحوط كما سيأتي.

عندنا، و تفصيله في أفعال الصلاة.

قوله مدّ ظلّه: «لا تتصور زيادتها».

لو نوى الظهر، ثمّ غفل غفلة موجبة للذهول عن خزانة النفس، فإن قلنا بأنّ الصلاة على ما افتتحت، معناه كفاية تلك النيّة البدويّة، فتلزم الزيادة الداعية إلى إتمام ما بيده ظهراً، إلّا أنّها لا تضرّ مثلًا، أو يلزم بطلان الصلاة بذهولها بتاتاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا تضرّ».

لو كان من قصده التشريع، و بالجملة لو كان ملازماً لعمل محرّم، فكفاية ما يأتي به عندي محلّ تردّد جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا تبطل».

على المشهور المعروف قديماً و حديثاً(1)، و قد عرفت قصور «لا تعاد» عن شمول الزيادة، بل قد حرّرنا مناقشة في جواز التمسّك بها في النقيصة على إشكال، و أوضحنا امتناع شمولها للزيادة، كما حرّرنا وجه بطلان مثل


1- شرائع الإسلام 1: 105، مدارك الأحكام 4: 224 225، مستند الشيعة 7: 126.

ص: 168

الصلاة بالزيادة(1)، حسب القاعدة، و هو مقتضى إطلاق «من زاد في صلاته».

نعم، لو لا إرسال خير سفيان بن السمط كان الاعتماد عليه وجيهاً؛ لتقدّمه على «من زاد» كما تقدّم وجه، و لا شاهد على الشهرة العمليّة بالنسبة إليه.

اللّهمّ إلّا أن يقال بكفاية الشهرة الروائيّة حجّة، حسب ما حرّرناه في الأُصول(2).

و من الغريب إنكار دلالته على صحّة الصلاة، مع أنّ قاعدة الملازمة، تكشف عن مفروغيّة صحّة الصلاة المزيد فيها على الإطلاق.

و الحمد للَّه ربّ العالمين


1- الظاهر أنّه في رسالة لا تعاد و هي مفقودة.
2- تحريرات في الأُصول 6: 383.

ص: 169

ص: 170

[كتاب الصوم]

اشارة

كتاب الصوم

ص: 171

[القول في النيّة]

اشارة

القول في النيّة

[مسألة 1: يشترط في الصوم النيّة]

مسألة 1: يشترط في الصوم النيّة (1)، بأن يقصد إلى تلك العبادة المقرّرة في الشريعة، و يعزم على الإمساك عن المفطرات المعهودة (2) قوله مدّ ظلّه: «النيّة».

بالضرورة؛ لأنّه من الواجبات العنوانيّة التي لا تحصل خارجاً إلّا بها، بخلاف مثل الغسل، فإنّه يحصل و لو كان من باب الاتّفاق، و هذا هو المراد من النيّة المعتبرة قبال القربة، و سائر العناوين الأُخر التي تأتي الإشارة إليها.

قوله مدّ ظلّه: «عن المفطرات المعهودة».

سيمرّ عليك تفصيله(1)، و قد صرّح المصنّف بعدم لزوم ذلك، و قال بصحّة صوم من يعتقد أنّ الاحتقان ليس بمفطر و تركه من باب الاتّفاق.


1- يأتي في الصفحة 236.

ص: 172

بقصد القربة (1).

و لا يعتبر في الصحّة، العلم بالمفطرات على التفصيل (2)، فلو نوى الإمساك عن كلّ مفطر، و لم يعلم بمفطريّة بعض الأشياء كالاحتقان مثلًا، أو زعم عدمها و لكن لم يرتكبه، صحّ صومه، قوله مدّ ظلّه: «بقصد القربة».

بالضرورة؛ لأنّه من العبادات، و قضيّة الإطلاق عدم اعتباره، و القول بعدم جواز التمسّك بمثله في مثلها ناشئ عن شبهات عقليّة مندفعة في محلّها(1)، فالتقييد ثابت من سيرة المتشرّعة، و الإجماعات المحكيّة(2)، و الشهرات المحقّقة.

قوله مدّ ظلّه: «على التفصيل».

لأنّ طبيعة الصوم ليست إلّا الإمساك و قصد التجنّب عن مثل الأكل و الشرب، و للشرع إضافات و أحكام، فلا يعتبر العلم الإجمالي، كما يظهر من الفرع الآتي الّذي تفرّع عليه بقوله: «فلو نوى الإمساك» و غير خفيّ أنّه ليس متفرّعاً على قوله: «على التفصيل» بل المتفرّع عليه قوله: «و كذا لو نوى ..» إلى آخره، و الأمر سهل.

و بالجملة: مقتضى التحقيق أنّ الصوم متقوّم بقصد الإمساك عن شي ء،


1- تحريرات في الأُصول 2: 118 132.
2- التنقيح الرائع 1: 348، مستند الشيعة 10: 171، مهذّب الأحكام 10: 11.

ص: 173

و كذا لو نوى الإمساك عن أُمور يعلم باشتمالها على المفطرات، صحّ على الأقوى (1).

و ليكن ذلك مثل الأكل و الشرب، و أمّا سائر المفطرات، فهي إضافات شرعيّة، فلا يعتبر الالتفات إليها و قصد تركها، كما في مثل ترك القهقهة في الصلاة، و ترك تروك الإحرام في الحجّ، بناءً على ما تحرّر منّا في محلّه(1).

بل لو كان يعزم على ترك الأُمور التي ليست من المفطرات الشرعيّة؛ جهلًا، و اتّفق أن ترك المفطرات في ظرف الصوم، فلا يبعد صحّة صومه؛ لأنّ قصد القربة المعتبرة ليس مصبّه إلّا نفس الصوم، على أنّ القيود خارجة و التقيّد داخل، و من الواضح أنّ ما هو مورد الأمر هو الصوم، لا ترك هذه الأُمور بعناوينها حتّى يعتبر العلم بها، و يعتبر قصد القربة بالنسبة إلى تلك التروك.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ على الأقوى».

هذا هو أولى بالصحّة من الفرع السابق، لما أنّه قصد- فرضاً جميع المفطرات، و الزائد عليها كالحجر جنب الإنسان. نعم لو كان في قصده التشريع بالنسبة إلى الزائد، فيمكن المناقشة في الصحّة، فتأمّل.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الجهة الثانية من المقدّمة.

ص: 174

و لا يعتبر في النيّة بعد القربة و الإخلاص، سوى تعيين الصوم (1) الذي قصد إطاعة أمره، و يكفي في صوم شهر رمضان نيّة صوم غد، قوله مدّ ظلّه: «تعيين الصوم».

لأنّ المفروض تقسيم الصوم إلى الأنواع و الأصناف كسائر العناوين، و منها الصلاة، فلا يكفي مجرّد قصد الصوم القربي؛ لأنّ المأمور به متقيّد بقيد آخر داخل في محطّ الأمر غير حاصل إلّا بالقصد.

نعم، ربّما يكون القيد المأخوذ في محطّ الأمر غير دخيل في الملاك، و قد تشبّث به المولى الآمر؛ نظراً إلى أنّه لا يتمكّن من تكثير الأمر التأسيسي إلّا بفرض القيد في الطبيعة؛ فإنّ تكثّر المتعلّق لازم في تكثّر الأمر المتعلّق به- على ما تحرّر في الأُصول(1) فحينئذٍ لا يلزم قصد ذلك القيد.

و لذلك لو أتى بصلاة الغفيلة- مثلًا غافلًا عن وقت مشروعيّتها، صحّت صلاته نافلة مطلقة؛ لأنّها مورد الأمر و الطلب بحسب اللبّ، و إن كان بحسب الإثبات متقوّماً بقيد؛ حتّى يمكن تكرار الأمر المتعلّق بالغفيلة و بالنافلة المطلقة، فاغتنم.


1- تحريرات في الأُصول 2: 257 259، و 5: 87 89.

ص: 175

من غير حاجة (1) إلى تعيينه، قوله مدّ ظلّه: «من غير حاجة».

على المشهور عندنا، و به قال بعض المخالفين(1)، و عن «الغُنْية» و «التنقيح» الإجماع عليه(2)، و هو مقتضى الإطلاق و غيره.

و في «التذكرة»: «إنّ القصد من نيّة التعيين تمييز أحد الفعلين، و لا يتحقّق التعدّد هنا فأشبه ردّ الوديعة»(3).

و قيل: إنّ الأمر ليس كذلك و لو لم يصحّ فيه غير صومه؛ لأنّ القربة معتبرة بالنسبة إلى خصوصيّات المأمور به(4). و هذا في غير محلّه؛ لأنّ مراد القائلين عدم خصوصيّة للصوم في رمضان، و أنّه في شهر رمضان لا يكون المأمور به إلّا نفس الطبيعة الفارغة عن مطلق القيود، فما أُفيدَ خالٍ عن التحصيل.

و الذي يظهر لي، و أُشير إليه آنفاً، عدم إمكان تعلّق الأمر التأسيسي بالطبيعة المطلقة ثمّ الأمر التأسيسي الآخر بها أو بالمقيّدة، بل لا بدّ من


1- المغني 3: 27/ السطر 9 15، و 28/ السطر 1 2، فتح العزيز 6: 292.
2- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 3، التنقيح الرائع 1: 348.
3- العبارة هكذا: لأنّ القصد من نيّة التعيين تمييز أحد الفعلين أو أحد وجهي الفعل الواحد عن الآخر، و لا يتحقّق التعدّد هنا؛ فإنّه لا يقع في رمضان غيره، فأشبه ردّ الوديعة. لاحظ تذكرة الفقهاء 6: 8.
4- مستمسك العروة الوثقى 8: 201.

ص: 176

بل لو نوى غيره فيه جاهلًا به أو ناسياً له صحّ (1) و وقع من رمضان، التباين بينهما في مرحلة الجعل و التشريع، فصوم شهر رمضان بما أنّه مضاف إلى الشهر مورد الأمر، و هو قيد له يوجب تمييزه عن غيره، كالظهريّة و العصريّة.

نعم، ربّما لا يكون القيد بحسب مرحلة الامتثال واجب التحصيل إذا اقتضت القرينة ذلك، فالخصوصيّة لازمة جعلًا، و غير لازمة أحياناً امتثالًا، و من القرينة الإجماع و الشهرة، و عدم وقوع غيره فيه على الإطلاق، و وقوع غيره فيه، منه حال الجهل و النسيان، مع أنّ المكلّف قصد الخلاف.

و لو نوقش في ذلك كما سيمرّ عليك أحياناً(1) لكان لنا استظهار كفاية ذلك من الكتاب؛ لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(2) فإنّ الشهر مفعول به، فلا بدّ أن يكفي نفس الطبيعة في مرحلة الامتثال، و لو كانت مقيّدة عقلًا بحسب مرحلة الجعل و الثبوت.

قوله مدّ ظلّه: «ناسياً له، صحّ».

على المعروف بينهم المحكي عليه الإجماعات الكثيرة(3)، و قد أُشير


1- يأتي في الصفحة 190 193.
2- البقرة( 2): 185.
3- مدارك الأحكام 6: 31، جواهر الكلام 16: 205، مستمسك العروة الوثقى 8: 201، مهذّب الأحكام 10: 17.

ص: 177

بخلاف العالم به، فإنّه لا يقع لواحد منهما (1).

إلى أنّ قضيّة القواعد فيما يُستفاد من الأدلّة، هو الاجتزاء أيضاً؛ لأنّ صوم رمضان غير متلوّن بلون الخصوصيّة إلّا في مرحلة الجعل- على وجه لا يلزم في مرحلة الامتثال مراعاته فعليه يصحّ عن رمضان، و يقع عنه.

و يشهد لخصوص صورة الجهل معتبر سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): رجل صام يوماً- إلى أن قال (عليه السّلام): «و إنّما ينوي من الليلة أنّه يصوم من شعبان، فإن كان شهر رمضان أجزأ عنه، بتفضّل اللَّه تعالى، و بما قد وسّع على عباده، و لو لا ذلك لهلك الناس»(1).

و لا يبعد استفادة صورة النسيان منه؛ لأجل ما في ذيله إلّا أنّه ظاهر في الحكمة، لا العلّة.

ثمّ إنّ مقتضى عدم صالحيّة شهر رمضان لصوم غيره أيضاً هي الصحّة، و سيمرّ عليك تحقيقه(2)، و كان ينبغي التعرّض لتلك المسألة أوّلًا، ثمّ لفروعها، و تأتي إن شاء اللَّه تعالى مناقشتنا في عدم صالحيّته، فانتظر حتّى حين.

قوله مدّ ظلّه: «لواحد منهما».

أمّا عن رمضان فهو مختار جمع كالحلّيّ، و الشهيدين، بل و الكركيّ،


1- الكافي 4: 82/ 6، تهذيب الأحكام 4: 182/ 508، وسائل الشيعة 10: 21، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4.
2- يأتي في الصفحة 190 193.

ص: 178

و «المدارك»(1) و أمّا عن نفسه فلما سيمرّ عليك من عدم صلاحيّة رمضان لصوم غيره(2)، المدّعى عليه الإجماع(3) و الضرورة(4).

و يحتمل وقوعه عنهما؛ لأنّ المقيّد يوجب سقوط أمره و الأمر المتعلّق بالمطلق، لا بمعنى تعلّقه به في مرحلة التشريع و الجعل، فإنّه محال و ممتنع، بل بالمعنى الذي مرّ(5) الإيماء إليه، فيكون في مرحلة السقوط كافياً قصد الطبيعة القربيّة، كما يسقط أمر النافلة المطلقة و أمر صلاة التحيّة بإتيان الصلاة المخصوصة، و هذا هو الأشبه بالقواعد لولا الإجماع، أو الرواية(6).

و يحتمل وقوعه عن رمضان، كما هو الظاهر من «التذكرة»(7)، بل


1- السرائر 1: 372، الدروس الشرعيّة 1: 268، مسالك الأفهام 2: 12، جامع المقاصد 3: 59، مدارك الأحكام 6: 32.
2- يأتي في الصفحة 190 193.
3- الدروس الشرعيّة 1: 268.
4- جواهر الكلام 16: 203.
5- تقدّم في الصفحة 176.
6- الكافي 4: 130 131/ 1 و 5، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 4 5.
7- تذكرة الفقهاء 6: 10.

ص: 179

و «الشرائع»(1)، و هو المحكي عن «المبسوط»(2) و «المعتبر»(3)، نظراً إلى ما في الخبر السابق، و لما في ذيل خبر «الكافي» عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين (عليه السّلام) في حديث طويل قال: «و صوم يوم الشكّ أمرنا به و نهينا عنه» إلى أن قال-: فقلت: و كيف يجزي صوم تطوّع عن فريضة؟ فقال: «لو أنّ رجلًا صام يوماً من شهر رمضان تطوّعاً، و هو لا يعلم أنّه من شهر رمضان، ثمّ علم بذلك لأجزأ عنه؛ لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه»(4) و كون المفروض حال الجهل لا يضرّ؛ لعدم اتّفاقه حال العلم نوعاً و غالباً.

و يحتمل وقوعه عن الطبيعة المخصوصة، لاعن رمضان؛ لأنّ وقوعه عن رمضان بلا وجه، و على خلاف القاعدة، و في موارد وقوعه عنه تكون الرواية الخاصّة مقتضية إيّاه؛ لاختصاصها بغير صورة العلم، بل المستند هو الإجماع(5)، و معقده مخصوص بغير صورة العمد، بل فيها الإجماع


1- شرائع الإسلام 1: 169.
2- المبسوط 1: 276.
3- المعتبر 2: 645.
4- الكافي 4: 83/ 1، وسائل الشيعة 10: 22 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 8.
5- مدارك الأحكام 6: 31، جواهر الكلام 16: 205، مستمسك العروة الوثقى 8: 201.

ص: 180

و لا بدّ فيما عدا شهر رمضان من التعيين (1)، على خلافه(1)، إلّا أنّه لمكان كونه غير حاكٍ عن الحجّة؛ لما عرفت، فالأقرب ما عرفت، و لا يترك الاحتياط جدّاً؛ لأنّ دعوى العلم بعدم سقوط الأمرين معاً قريبة، فليتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «من التعيين».

و عليه الإجماعات المحكيّة عن ابن إدريس(2)، و «معتبر» المحقّق، و «منتهى» العلّامة و «تذكرته»(3) إلّا أنّ المهمّ في المسألة ما تقتضيه القواعد، و قد تبيّن امتناع تعدّد الأمر التأسيسي، إلّا في صورة ورود القيد على الطبيعة، حتّى تصير متعدّدة في الاعتبار و في عالم الجعل و اللحاظ، و إذا كان القيد مورد الأمر طبعاً فلا بدّ من تحصيله، و هو لمكان كونه ذهنيّاً لا يتحصّل إلّا في الذهن.

هذا، و لكن يجوز عدم اعتبار تحصيله في مرحلة الامتثال، لعدم دخالته في الملاك، بل المولى تشبّث به؛ ليتعدّد به الأمر التأسيسي، و لا يصير الأمر الثاني بحكم التأكيد.

و على هذا إذا اقتضى دليل في مرحلة الإثبات كفاية مطلق الطبيعة،


1- مجمع الفائدة و البرهان 5: 155.
2- السرائر 1: 368 371.
3- المعتبر 2: 644، منتهى المطلب 2: 557/ السطر 25 26، تذكرة الفقهاء 6: 9.

ص: 181

بمعنى القصد إلى صنف الصوم المخصوص، كالكفّارة (1) و القضاء (2) فهو، و إلّا فلا بدّ حسب الظاهر من امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة المقيّدة، التي لا توجب سقوطه إلّا بعد تحقّقها بتمام قيودها الخارجيّة و الذهنيّة.

و على هذا لا بدّ من التدبّر في الأمثلة التي ذكرها الماتن، و في أدلّتها حتّى يتبيّن ذلك.

قوله مدّ ظلّه: «كالكفّارة».

قضيّة الظاهر من الأدلّة، لزوم الإتيان بعنوانها إذا كانت هي مأخوذة تحت الأمر، و لكن ربّما يخطر بالبال اختلاف الكفّارات.

مثلًا: في كفّارة الظهار يستظهر وجوب صوم شهرين متتابعين، فإذا أتى بهما فقد امتثل الأمر قهراً، لتعلّقه بالشهرين المتتابعين و لا يزيد عليه شي ء، فعلى هذا ربّما تختلف الكفّارات.

قوله مدّ ظلّه: «و القضاء».

يظهر من صحّة الصلاة مثلًا فيما إذا أخطأ في النيّة، أنّ عنوان القضاء و الأداء ليس ذا ملاك، بل هو لمجرّد تكثير الأمر تأسيساً؛ و تعدّد الأمر النفسي المستتبع للعقوبة و المثوبة الخاصّتين؛ فعلى هذا يكفي في قضاء الصوم نفس الطبيعة الفارغة ما دامت لم تُقيَّد بقيد القضاء، بل قضيّة القاعدة سقوط الأمرين.

هذا، و لو كان القضاء بعنوانه مورد الأمر، كما هو كذلك في مثل صلاة

ص: 182

و النذر المطلق (1)، الولد الأكبر، أو في الصلاة على القول به، و لكنّه في ما نحن فيه مشكل؛ لظهور الكتاب في جعل عدّة أيّام أُخر(1)، فلو صام كذلك، يقع عن رمضان قهراً، و لا سيّما إذا لم يكن عليه شي ء من الصيام، و لم يكن قاصداً للندب و للعنوان الخاصّ، فعنوان قضاء رمضان كأنّه غير لازم، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «المطلق».

و هو المشهور المعروف، و يظهر عن موضع من «التذكرة» ذهاب جمع من العامّة إلى الخلاف(2). و المراد من المطلق هو أن لا يكون في زمان خاصّ، و ما لا يكون في زمان خاصّ، بين ما يكون مطلق الصوم القابل للصدق على الصيام الخاصّ، أو يكون الصوم المطلق الفارغ عن النيّة، فيكون فراغه عن النيّة الخاصّة من قيوده، إلّا أنّه لا يعتبر لحاظه في مرحلة الامتثال، بخلاف الفرض الأوّل، فإنّ صومه يصحّ نذراً و لو كان صوم الكفّارة.

ثمّ إنّ البحث المربوط بالصوم النذري: تارة يدور حول الطبيعة المنذورة، و هو ما أُشير إليه، و أُخرى يدور حول النيّة و القصد الآتي من قبل النذر، و هذا مشكل تحقيقه جدّاً، فإنّ الظاهر من القوم كفاية الإتيان


1- البقرة( 2): 185.
2- تذكرة الفقهاء 6: 9.

ص: 183

بذات المنذور امتثالًا عن أمر النذر(1).

و قد خالفهم السيّد الماتن حفظه اللَّه تعالى و قال: «إنّ الوفاء بالنذر مورد الأمر النذري، فلا بدّ من مراعاته، و إلّا فلا يسقط أمره، نظراً إلى ظاهر أدلّته»(2).

و حيث إنّ الالتزام بمقالة المشهور، مورد الشبهة العقليّة؛ ضرورة أنّ نذر الصلاة الواجبة لو كان موجباً لحدوث الأمر الجديد النفسي التأسيسي، فلا بدّ و أن يتعلّق بالعنوان الآخر، و إلّا فيلزم رجوعه إلى التأكيد، و لا يترتّب عليه الحنث؛ لأنّ الأمر النذري موجب للحنث، لا مطلق مخالفة المولى.

فبالجملة: مقتضى هذه الشبهة امتناع حدوث الأمر الثاني التأسيسي، و حيث إنّ الالتزام بأنّ الوفاء واجب، يستلزم كون الوفاء بالعقد أيضاً واجباً بعنوانه، مع أنّه ليس كذلك، و هكذا الوفاء بالشرط في باب المعاملات، و يستلزم عدم كفاية ردّ المال المتعلّق به النذر إلى المنذور له بلا قصد الوفاء، مع أنّه خلاف الفهم العرفي و العقلائيّ بالضرورة؛ لأنّه من قبيل


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 198، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 190.
2- العروة الوثقى 1: 186، كتاب الطهارة، في غايات الوضوء، التعليقة 2، مناهج الوصول 1: 167 168 و 2: 141، كتاب الطهارة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 2: 4.

ص: 184

بل المعيّن أيضاً على الأقوى (1).

ردّ الوديعة و مال الغير إلى صاحبه، فلا بدّ من اختيار الشقّ الثالث و هو: أنّ الوفاء بالنذر و العهد لا يصير واجباً، و لا يحدث بالنذر أمر و لا نهي، بل يحدث به لأجل حكم الشرع استحقاق العقوبة، و لا يعتبر في استحقاق العقوبة على شي ء كونه واجباً أو حراماً بأصل الشرع، فقد حكم جمع باستحقاق العقوبة في موارد التجرّي من غير التزامهم بحرمته التشريعيّة(1)، فليتدبّر فإنّ المسألة تحتاج إليه.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

كما هو المعروف المشهور، و يظهر عن «الجواهر» احتمال كفاية نفس الطبيعة(2).

و قيل بكفايته سهواً و غفلة، لا عمداً(3)، كما قيل به في صوم شهر رمضان.

و الّذي يتوهّم أنّه مستند المسألة هو: أنّ كلّ زمان كان صالحاً لوقوع الصومين فيه، فلا بدّ فيه من القصد الخاصّ و إلّا فلا(4).


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 335 340، نهاية الأُصول: 410 417.
2- جواهر الكلام 16: 189.
3- جواهر الكلام 16: 189، مصباح الفقيه 14: 305.
4- مصباح الفقيه 14: 305.

ص: 185

و يكفي التعيين الإجمالي، (1) و هذا و لو كان صحيحاً ثبوتاً، و لكنّه غير صحيح إثباتاً؛ لعدم الدليل عليه، و لا سيّما فيما نحن فيه؛ فإنّ يوم الخميس لا يخرج عن الصالحيّة الوضعيّة عن تحمّل سائر الصيام، إذا كان مورد النذر الخاصّ؛ لأنّه أمر آخر خارج عن حيطة دليل النذر.

و لا يقاس ذلك بنذر بذل المال الخاصّ، مع أنّه أيضاً غير محرز تحقيقه، فما في «الجواهر» و «المصباح»(1) غير راجع إلى المحصل جدّاً، و تفصيله محرّر منّا في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «الإجمالي».

بمعنى الإشارة إلى الخصوصيّة المأخوذة، أو أخذ العنوان على وجه لا ينطبق إلّا عليه؛ لحصول قيد المأمور به الذهني بتلك الطريقة.

و أمّا تميّز الأمر بذلك، فهو بلا محصّل؛ لأنّ الأمر يتميّز في نفس الواقع بالخصوصيّة، و يكون لأجلها مترشّحاً على حدة.

فما قد يقال: إنّ المنظور من ذلك نفس التمييز و لا أثر آخر ورائه(3)، ر صحيح؛ لأنّ القيد المأخوذ ربّما يكون ذا ملاك ثبوتاً، و هو الظاهر إثباتاً.


1- جواهر الكلام 16: 189، مصباح الفقيه 14: 305.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثالث من الموقف الأوّل.
3- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 16 19.

ص: 186

كما إذا كان ما وجب في ذمّته صنفاً واحداً، فقصد ما في الذمّة (1) فإنّه يجزيه. و الأظهر عدم اعتبار التعيين في المندوب المطلق، (2) قوله مدّ ظلّه: «ما في الذمّة».

إنّه غير كافٍ؛ لأنّه يجوز أن يكون في ذمّته الصوم الآخر، و هو لا يعلم؛ فلا بدّ من أخذ العنوان على الوجه الذي لا ينطبق إلّا على المأمور به المنجّز، و ما هو مقصود المكلّف حين الامتثال.

قوله مدّ ظلّه: «في المندوب المطلق».

خلافاً لصريح «العروة» و غيره(1).

و الوجه: أنّ الأوامر، كما عرفت تحتاج في تكثيرها إلى تكثير الطبيعة بالقيود، فيكون كلّ قيد وارداً مورد الأمر، فلا بدّ من القصد إليه و لو إجمالًا.

و أمّا وجه ما في المتن: ما أُشير إليه من أنّ القيود المأخوذة ربّما تكون غير ذات مصلحة، فيكون نفس الطبيعة الفارغة عن كلّ لون، مورد الملاك بشرط القربة، إلّا أنّ المولى لا يتمكّن من إفادة تعدّد المطلوب، إلّا بهذا الوجه؛ و لذلك أفتى الكثير منهم بصحّة الصلاة الفارغة عن كلّ نيّة إلّا القربة(2)، و لوقوع صلاة الغفيلة مثلًا إذا ترك و نسي خصوصيّاتها،


1- العروة الوثقى 2: 6، فصل في النيّة، المعتبر 2: 644، تذكرة الفقهاء 6: 9.
2- انظر مسالك الأفهام 2: 11، مدارك الأحكام 3: 311.

ص: 187

فلو نوى صوم غدٍ للَّه تعالى، صحّ و وقع ندباً لو كان الزمان صالحاً له، و كان الشخص ممّن يصحّ منه التطوّع بالصوم (1)، بل و كذا المندوب المعيّن أيضاً إن كان تعيّنه بالزمان الخاصّ (2)، كأيام البيض و الجمعة و الخميس. نعم، في إحراز ثواب الخصوصيّة يعتبر إحراز ذلك اليوم و قصده.

ة مطلقة، و نافلة، و ما ذلك إلّا لأجل أنّ نفس الطبيعة مطلوبة، و إن لا يمكن تعلّق الأمر بها إلّا مقيّداً كما عرفت(1).

هذا كلّه بحسب الثبوت، و أمّا بحسب الإثبات، فربّما يستظهر من الدليل دخالة الخصوصيّة و القيد، فلا بدّ من الإتيان بها كصوم الحاجة في المدينة للمسافر(2).

قوله مدّ ظلّه: «التطوّع بالصوم».

هذا واضح، و سيمرّ عليك موارد جواز التطوّع، و الزمان الصالح له إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «بالزمان الخاصّ».

و ذلك أيضاً لما عرفت، و لازم ذلك وقوع صوم أيّام البيض و لو كان


1- تقدّم في الصفحة 174.
2- تهذيب الأحكام 4: 232/ 682، المقنعة: 350، النهاية، للطوسي: 162، مدارك الأحكام 6: 150، وسائل الشيعة 10: 202، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 1.

ص: 188

يقصد صوم الكفّارة؛ لأنّ المنظور وقوع الصوم القربي و هو حاصل، فلو كان الصوم فارغاً عن كلّ خصوصيّة إلّا القربة يقع عن صوم البيض و أمثاله، و هكذا في صورة التقييد؛ لاجتماع المطلق معه قهراً.

اللّهمّ إلّا أن يقال بانصراف دليله عن ذلك، و من هنا يظهر حديث ترتّب الثواب، فإنّه لا وجه لاختصاصه بصورة القصد بعد إطلاق دليله، بل هو يترتّب حتّى في صورة قصد الخصوصيّة الأُخرى، و أمّا بدونها فلا وجه للشكّ في ترتّب الثواب؛ لأنّه تابع ما أتى به، و أسقط به أمره الخاصّ، و المفروض حصول صوم أيّام البيض في تلك الصورة، فتأمّل فإنّ لحديث الثواب منهجاً آخر.

ص: 189

[مسألة 2: يعتبر في القضاء عن الغير نيّة النيابة]

مسألة 2: يعتبر في القضاء عن الغير نيّة النيابة. (1) قوله مدّ ظلّه: «نيّة النيابة».

نظراً إلى أنّ الأمر لا يسقط إلّا بذلك، كما لا يكفي مجرّد نيّة النيابة عن الغير الكلّي؛ بل لا بدّ من أن يكون الشخص المنوب عنه متعيّناً و لو إجمالًا.

و غير خفيّ أن لا تعتبر نيّة النيابة الاصطلاحيّة، و هو القيام مقام الشخص في الذات، بل يكفي أن يقصد الصوم الذي في ذمّة زيد، و أمّا موارد جواز النيابة، فتطلب عن محلّه.

ص: 190

[مسألة 3: لا يقع (1) في شهر رمضان صوم غيره، واجباً كان أو ندباً]

مسألة 3: لا يقع (1) في شهر رمضان صوم غيره، واجباً كان أو ندباً، سواء كان مكلّفاً بصومه أم لا، كالمسافر و نحوه، بل مع الجهل بكونه رمضاناً أو نسيانه، لو نوى فيه صوم غيره يقع عن رمضان كما مرّ.

قوله مدّ ظلّه: «لا يقع».

عند أصحابنا(1)، و في «الجواهر»: «إنّه كاد يكون من قطعيّات أرباب الشريعة، إن لم يكن من ضرورياتها»(2) انتهى.

و يستظهر عن مالك، و الشافعيّ في أحد قوليه، و أبي حنيفة لغير المقيم تجويز غيره فيه(3)، لاعتبارهم قصد التعيين في صوم شهر رمضان، فلا يكون حديث «لا صالحية لشهر رمضان» من قطعيّات أرباب الشريعة.

و عن «المبسوط» منعه حال الحضر لا السفر، فراجع(4).

و بالجملة: لو كان مستند الأصحاب و الشهرة، الخبرين المرويين في الباب الثاني عشر(5)، الضعيف سند أحدهما قطعاً، و الآخر عند القاطبة إلّا


1- مدارك الأحكام 6: 30 31، مستند الشيعة 10: 181، مستمسك العروة الوثقى 8: 201 204.
2- جواهر الكلام 16: 203.
3- تذكرة الفقهاء 6: 8، المغني 3: 27 28، المجموع 6: 294 و 302.
4- المبسوط 1: 276 277، مختلف الشيعة 3: 378.
5- وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 4 و 5.

ص: 191

نحن، حيث اتّخذنا سبيلًا خاصّاً(1)، فللإشكال في الحكم وجه؛ لأنّ الانجبار و لو لم يكن قطعاً، لأجل أنّ المستند إن كان الخبرين فهو، و إن لم يكن ذلك الخبرين، فلا بدّ من وجود حجّة عندهم على الوجه المحرّر؛ و لكنّ احتمال كونه الخبرين بعد قصور دلالتهما، يكفي لعدم تماميّة السند لفتوى المشهور.

و أمّا ضعف دلالتهما، فلأنّ ما رواه فيه مرسلًا، قال، قال: خرج أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) من المدينة في أيّام بقين من شهر شعبان، فكان يصوم، ثمّ دخل عليه شهر رمضان، و هو في السفر فأفطر فقيل له: أ تصوم شهر شعبان، و تفطر شهر رمضان؟ فقال: «نعم شعبان إليّ، إن شئت صمت، و إن شئت لا، و شهر رمضان عزم من اللَّه تعالى على الإفطار»(2).

و الخبر مضافاً إلى دلالته على جواز الصوم في السفر، و هو غير مفتى به، لا يدلّ على عدم صالحيّة الشهر للحاضر، الذي يجوز له ترك صوم الشهر، كالشيخ و الشيخة و غير ذلك.

و في المرسل الثاني، قال: كنت مع أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فيما بين مكّة


1- لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الرابع من الموقف الأوّل.
2- الكافي 4: 130/ 1، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 12، الحديث 4.

ص: 192

و المدينة في شعبان، و هو صائم، ثمّ رأينا هلال شهر رمضان، فأفطر، فقلت له: جعلت فداك أمس كان من شعبان، و أنت صائم، و اليوم من شهر رمضان، و أنت مفطر؟! فقال: «إنّ ذلك تطوّع، و لنا أن نفعل ما شئنا، و هذا فرض، فليس لنا أن نفعل إلّا ما أُمرنا»(1).

و هذا الخبر كأنّه الخبر السابق، و لا سيّما مع وحدة الراوي.

و بالجملة: ظاهر الخبرين أنّ النظر إلى الكتاب، و أنّه تعالى قال وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(2) و أنّ الصوم على إطلاقه يكون كذلك، و أمّا الحاضر، فحكمه مسكوت عنه، فلو بنى على العصيان، فصام بعنوان آخر، فربّما يمكن تصحيحه على الترتّب، على التقريب الذي أبدعناه(3)، دون الترتّب المصطلح عليه(4).

و هكذا في موارد الرخصة، كما أُشير إليه، فالأحوط الذي لا يترك ما ذهب إليه المشهور المفروغ عنه في كلماتهم، و هي الحجّة؛


1- الكافي 4: 131/ 5، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 5.
2- البقرة( 2): 185.
3- تحريرات في الأُصول 3: 344 350 و 512 515.
4- فوائد الأُصول) تقريرات المحقّق النائيني( الكاظمي 1: 336، درر الفوائد، المحقّق الحائري: 140 145.

ص: 193

لأنّ قصور الخبرين عن إطلاق معقد الإجماع، يشهد على أنّهما ليسا مورد الاستناد.

و احتمال كونهما السند، بضميمة اجتهادهم و فهمهم عدم الخصوصيّة، و إن كان موجوداً، و لكنّه بعيد، فليتدبّر جيّداً.

ص: 194

[مسألة 4: الأقوى أنه لا محلّ للنيّة شرعاً في الواجب المعيّن]

مسألة 4: الأقوى أنه لا محلّ للنيّة شرعاً (1) في الواجب المعيّن، رمضاناً كان أو غيره، بل المعيار حصول الصوم عن عزم و قصد باق في النفس، و لو ذهل عنه بنوم أو غيره. و لا فرق في حدوث هذا العزم بين كونه مقارناً لطلوع الفجر أو قبله (2)، قوله مدّ ظلّه: «لا محلّ للنيّة شرعاً».

كان الأولى أن يقال: لا يجوز في الواجب المعيّن لغير ذوي الأعذار، تأخير النيّة عن طلوع الفجر؛ ضرورة أنّه محلّ للنيّة، و هو قبل طلوع الفجر لطائفة خاصّة تأتي(1).

قوله مدّ ظلّه: «مقارناً أو قبله».

فلا يصحّ لو حصلت بعده بالاختيار حال التوجّه و العلم، إجماعاً محكيّاً(2)، و شهرة معتدّاً بها(3).

و هو المعروف بين المخالفين، إلّا عن أبي حنيفة(4).

و في أصحابنا من اختار التوسعة إلى الزوال كالسيّد(5)، و إلى ما


1- تأتي في الصفحة 198.
2- الحدائق الناضرة 13: 47، مهذّب الأحكام 10: 28.
3- تذكرة الفقهاء 6: 10، مدارك الأحكام 6: 39، جواهر الكلام 16: 194.
4- تذكرة الفقهاء 6: 11، المغني 3: 22، المجموع 6: 301/ السطر 9 11.
5- الانتصار: 60، رسائل الشريف المرتضى 3: 53.

ص: 195

قبل الغروب كابن الجنيد(1). و قد حكي عن ابن أبي عقيل لزوم التقديم ليلًا(2).

و حيث إنّ قضيّة القواعد أنّ مطلق الإمساك و ترك المفطرات بين الحدّين، ليس من الصوم اللغوي و الشرعي بالضرورة، فلا بدّ من اقترانه بالقصد؛ فإنّه به يصير صوماً، و إلّا فيلزم أن يمتدّ وقت الصوم من الليل إلى الليل، لو ترك المفطرات اتّفاقاً، فتركها بين الحدّين لا يصير صوماً إلّا باقترانه بالقصد.

و أمّا توسعة الشرع في الواجب غير المعيّن مثلًا إلى الزوال، و في المندوب إلى ما قبل الغروب، فلا يوجب توهّم السيّد و ابن الجنيد، أنّ طبيعة الصوم تكون هكذا؛ لأنّه توسعة لأجل المصالح، و لا يعقل أن يصير الصوم المقرون بالقصد أثناء النهار، صوماً من أول الفجر، إلّا باعتبار الأثر الخاصّ.

و توهّم أنّ الإمساك بين الحدّين إذا اقترن جزء منه بالنيّة يعدّ من الصوم تمام النهار، لكفاية توصيف العامّ المجموعي بتوصيف بعضه(3)،


1- مختلف الشيعة 3: 365 و 367.
2- مختلف الشيعة 3: 365 و 367، جواهر الكلام 16: 193.
3- المبسوط، للسرخسي 3: 162/ السطر 3 5، و لاحظ مصباح الفقيه 14: 309.

ص: 196

فهو موهون و محمول على المجاز لا الحقيقة.

و لازم ذلك جواز أن ينوي، ثمّ ينصرف، ثمّ ينوي و هكذا، بل يلزم كفاية جزء من النهار منويّاً، عن الصوم إلى آخره و لو كان ذلك الجزء أوّل الطلوع.

فبالجملة: ماهيّة الصوم و مفهومه تأبى عن التوسعة، و يصير صوماً من حين القصد، و لا يوصف الإمساك المطلق قبلها بصوم، كما لا يوصف الإمساك بين الحدّين به بالضرورة.

هذا، و إذا كان المفهوم كذلك، فلا وجه للتشبّث بحديث عباديّة الصوم(1)، و أنّه لا بدّ و أن تكون أجزاؤه عبادة، و هي لا تقع إلّا مع القصد حتّى يناقش فيه(2)، فإنّه بعيد عن الصواب؛ ضرورة أنّه نوع عبادة خاصّة، لا يتحمله الذوق، و لا يقبل أن يكون نائماً من قبل الطلوع إلى الغروب جنباً، و يكون عابداً زاهداً مسلماً، فلا تخلط.

و بالجملة: هذا هو الأصل، و سيمرّ عليك مواضع الخروج عنه، و يجوز دعوى استفادة توسعة الشرع في ظرف النيّة إلى ما قبل الزوال، حتّى في الواجب المعيّن مطلقاً، و لكنّ قضيّة النصوص الواردة هي


1- مستند الشيعة 10: 203، مصباح الفقيه 14: 309، مستمسك العروة الوثقى 8: 212.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 212.

ص: 197

التوسعة في غير الواجب المعيّن(1)، كما أنّ مقتضى تلك النصوص الآتية، فساد القول بالتوسعة إلى ما بعد الوقت؛ لما يستفاد منها مفروغيّة عدم التوسعة في المعيّن، و لا سيّما شهر رمضان.

و أمّا القول المنسوب إلى ابن أبي عقيل(2)، فهو مضافاً إلى عدم ثبوته؛ لأنّ المحكي عنه ظاهر في توسعته في ظرف النيّة، كما هو الجائز بالضرورة، كما أنّه يظهر منه عدم اختصاص التوسعة في خصوص الواجب المعيّن، أنّه لو سلّمنا صحّة النسبة فهي بلا مستند إلّا بعض


1- عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان و يريد أن يقضيها، متى يريد أن ينوي الصيام؟ قال: هو بالخيار إلى أن تزول الشمس، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر، سئل: فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال: لا .. الحديث. تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، وسائل الشيعة 10: 13، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10. عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح لا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم؟ فقال: إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى. تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
2- تقدّم في الصفحة 195، الرقم: 2.

ص: 198

و لا بين حدوثه في ليلة اليوم الذي يريد صومه أو قبلها (1)، المراسيل(1) الشائعة في الكتب الاستدلاليّة(2).

قوله مدّ ظلّه: «أو قبلها».

لأنّ النيّة الارتكازيّة كما تكون كافية في أثناء النهار و هو نائم، كذلك عند الطلوع، و لزوم الخطور في الابتداء دون الأثناء، لقيام الضرورة على عدم اعتباره في الأثناء، مبني على ما تحرّر فساده في محلّه(3).

و غير خفيّ: أنّ النائم الباني على الصوم، له الارتكاز النفساني على ترك المفطرات، و ربّما يجتنب عنها حال النوم و في النوم، فليس الكفاية حكميّة، بل هي موضوعيّة أيضاً إلّا أنّها إجماليّة ارتكازيّة، مع أنّ الذهول و الغفلة المطلقة لا يضرّ، و لو كان لو اتّفق، لا يترك المفطر، اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّه لا يخلو عن إشكال.


1- عن النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)، أنّه قال:« لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من اللّيل». عوالي اللّئالي 3: 132/ 5، مستدرك الوسائل 7: 316، كتاب الصيام، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 1.
2- المعتبر 2: 646، تذكرة الفقهاء 6: 16، مستمسك العروة الوثقى 8: 213.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثاني عشر من الموقف الأوّل.

ص: 199

فلو عزم على صوم الغد من اليوم الماضي، و نام على هذا العزم إلى آخر النهار، صحّ على الأصحّ (1). نعم، لو فاتته النيّة لعذر، كنسيان أو غفلة أو جهل بكونه رمضاناً أو مرض أو سفر، فزال عذره قبل الزوال، يمتدّ (2) وقتها شرعاً إلى الزوال، قوله مدّ ظلّه: «على الأصحّ».

هذا في غير الصورة التي كان صائماً في اليوم السابق، و إلّا فتكون المسألة مندرجة في صوم الوصال الآتي.

قوله مدّ ظلّه: «يمتدّ وقتها».

قد أُشير(1) إلى أنّ قضيّة القاعدة عدم إمكان تحقّق الصوم بالنيّة اللاحقة؛ لأنّ مفهوم الصوم مأخوذ فيه الإمساك و هو لا يتحقّق إلّا بالقصد.

و توسعة الشرع إجمالًا في مورد، لا يكفي حتّى في ذلك المورد، لصيرورة الصوم صوماً من أوّل الفجر، فعليه لا بدّ من الدليل للخروج منه، من إجماع، أو نصّ، و إلّا فيقتصر على موردها، فخروج جميع الحالات و الأعذار، بالنسبة إلى مطلق الصوم، لا يمكن إثباته كما سيظهر.

نعم، لو قلنا بأنّ الصوم هو ترك المفطرات، كما قوّيناه سالفاً(2)، و ليس


1- تقدّم في الصفحة 194 196.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الجهة الثانية من المقدّمة، و الجهة الاولى من الفصل الحادي عشر.

ص: 200

معنى قصديّاً في مفهومه اللغوي، و لا في مفهومه المنصرف إليه شرعاً، فيجوز تصحيح الصوم في مطلق الصور بطروّ النيّة و لو في آخر الوقت، عليه، و لحوقها به؛ لأنّ ترك المفطرات بين الحدّين حاصل، و الاقتران بالنيّة في الجملة، الذي هو لازم بالضرورة، أيضاً متحقّق، فلا حاجة إلى الأدلّة الخاصّة.

و هنا وجه آخر و هو: أنّ الصوم و لو كان بماهيّته الإمساك المتقوّم بالقصد، إلّا أنّ من توسعة الشرع في الصيام المستحبّ و في الواجب غير المعيّن، إلى الزوال ليكشف تصرّفه فيه جوهريّا، و هكذا في موارد خاصّة كالمسافر الجائي إلى وطنه و غير ذلك، فإنّ من المجموع يحصل الوثوق، بأنّ الصوم عند الشرع هو الترك المقرون بالنيّة في برهة من زمانه.

نعم، فيما بعد الزوال لا تكفي النيّة اللاحقة به، في مثل الصوم الواجب، و هكذا في المعيّن إذا كان عن عمد.

و بالجملة: يؤيّد الوجه الأخير أنّ الضرورة قاضية بجواز السفر قبل الزوال؛ و لازم ذلك جواز كون المكلّف بانياً على ارتكاب المفطرات، بعد التجاوز عن حدّ الترخيص، و الضرورة قاضية بجواز العود من تلك النيّة، و البناء على البقاء في محلّه؛ و على هذا كيف تكون نيّة الصوم غير موسّعة إلى الزوال حتّى للعامد، و لو كان الصوم هو المعنى المتقوّم بالإمساك القصدي، لا يمكن تجويز الأمر المذكور، كما يأتي بتفصيل.

ص: 201

فمن هنا يستكشف أنّ الصوم فيما يستقرّ، و هو بعد الزوال، لا يمتدّ وقته إلى ما بعده، و أمّا إذا كان غير مستقرّ على المكلّف القاصد للأكل في مكان كذا، فيكون موسّع الوقت، و لو لا مخافة مخالفة الإجماع، لكان تجويز تأخير القصد لغير العازم على السفر، في محلّه.

و توهّم أنّ الفرق بين القصد إلى ارتكاب المفطر في هذا المكان دون ذاك المكان، يكفي لتحقّق مفهوم الصوم(1)، ناشئ عن ملاحظة الحكم الشرعي، و إلّا فعند اللغة و العرف، مَن كان عازماً على الأكل عند زيد دون عمر، لا يكون صائماً و ممسكاً بالمعنى المعهود عنه بحسب اللغة، و بحسب المتفاهم منه عرفاً.

مع أنّ دعوى اختصاص الحكم بالمسافر، و في موارد الجهل للإجماع و بعض الأخبار الخاصّة(2) غير صحيحة؛ لأنّ في الأحكام الوضعيّة يستفاد المعنى الوضعي المشترك، كما في باب النجاسات و النواقض، فليتدبّر.


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 214.
2- إنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابي فشهد برؤية الهلال، فأمر النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( منادياً ينادي: من لم يأكل فليصم، و من أكل فليمسك. المعتبر 2: 646، المبسوط، للسرخسي 3: 62/ السطر 13 17.

ص: 202

لو لم يتناول (1) المفطر، فإذا زالت الشمس فات محلّها (2).

قوله مدّ ظلّه: «لو لم يتناول».

بلا شائبة خلاف من أحد؛ لأنّه ليس بصائم بجميع معانيه، و هو مقتضى طائفة من الأخبار المنتشرة الآتية، و منها حديث مجي ء الأعرابي، الذي تمسّك به في هذه المسألة خصوصاً.

قوله مدّ ظلّه: «فات محلّها».

إجماعاً قويّاً، لم يحك الخلاف فيه إلّا عن ابن الجنيد(1)، و يكفي للحكم هنا فوت محلّها في الواجب غير المعيّن، حسب النصوص الآتية(2)، فإنّ الأولويّة واضحة، و مفروغيّة الحكم عند السائل و المجيب، مستفادة عن تلك الأخبار، و لأجل احتمال كون المجمعين مستندين إلى تلك الأخبار، فيكون في البين اجتهاد، يمكن المناقشة أوّلًا في الإجماع، و ثانياً في تلك الأولوية.

اللهم إلّا أن يقال: مقتضى ما ورد في المسافر القادم في شهر رمضان(3) أيضاً، بطلان وقت النيّة في الواجب المعيّن بإلغاء الخصوصيّة، و لما


1- مختلف الشيعة 3: 365 و 367.
2- يأتي في الصفحة 204، الرقم 3 و 4.
3- تهذيب الأحكام 4: 255/ 754 و 327/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191 كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 7، الحديث 6 و 7.

ص: 203

نعم، في جريان الحكم في مطلق الأعذار (1) إشكال، بل في المرض لا يخلو من إشكال و إن لا يخلو من قرب.

أُشير إليه.

قوله مدّ ظلّه: «مطلق الأعذار».

مضى وجهه، و ما فيه(1)، و أمّا في خصوص المرض، فلاختصاص نصوص المسألة بالجاهل و المسافر، و اختصاص حديث الرفع(2) على فرض صحّة الاستناد إليه في أمثال المقام، بالناسي و الجاهل بالحكم و الموضوع و الغافل، و لا نصّ في خصوص المريض.

و لكن المهمّ قصور تلك الأدلّة، إلّا ما ورد في المسافر، عن إثبات التفكيك، و قد عرفت وجه اشتراك الحكم في جميع الأعذار بما لا مزيد عليه.


1- تقدّم في الصفحة 200.
2- الخصال: 417/ 9، التوحيد: 353/ 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

ص: 204

و يمتدّ محلّها اختياراً في غير المعيّن إلى الزوال (1)، قوله مدّ ظلّه: «إلى الزوال».

إجماعاً قطعيّاً(1)، معتضداً بالأخبار الكثيرة الصريحة(2)، أو المنصرفة إلى الواجب المعيّن، و تأتي من ذي قبل الإشارة إليها.

و يحتمل اختصاص الحكم بالقضاء، أو النذر دون مطلق الواجب غير المعيّن، و لكنّه غفلة عن مآثير المسألة المطلقة، الناطقة بكفاية النيّة قبل الزوال.

ففي معتبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح و لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم؟ فقال (عليه السّلام): «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال، حسب له من الوقت الذي نوى»(3).

و مثله خبر ابن بكير(4)، و معتبر الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّ رجلًا


1- مدارك الأحكام 6: 22، مستند الشيعة 10: 212، مستمسك العروة الوثقى 8: 215.
2- وسائل الشيعة 10: 10 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2.
3- تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
4- عن ابن بكير، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: سئل عن رجل طلعت عليه الشمس و هو جنب ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل و مضى ما مضى من النهار؟ قال: يصوم إن شاء، و هو بالخيار إلى نصف النهار. تهذيب الأحكام 4: 322/ 989، وسائل الشيعة 10: 68، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 3.

ص: 205

دون ما بعده، فلو أصبح ناوياً للإفطار و لم يتناول مفطراً، فبدا له قبل الزوال أن يصوم قضاء شهر رمضان، أو كفارة أو نذراً مطلقاً، جاز و صحّ، دون ما بعده، (1) أراد أن يصوم ارتفاع النهار، أ يصوم؟ فقال (عليه السّلام): «نعم»(1) و غير ذلك من المطلقات السكوتيّة، الحاصلة من ترك الاستفصال تقيّة.

قوله مدّ ظلّه: «دون ما بعده».

على الأقوى المدّعى عليه الإجماع(2)، و أمّا المحكي عن ابن الجنيد(3) هنا حسب إطلاق كلامه، فهو مختار الكاشانيّ و السبزواري(4)، و هو مورد تمايل بعض المتأخّرين(5) لبعض الإطلاقات السابقة، المعتضد بمعتبر ابن الحجّاج، قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السّلام) عن الرجل يصبح، و لم يطعم و لم يشرب، و لم ينوِ صوماً، و كان عليه يوم من شهر رمضان، إله أن يصوم ذلك اليوم و قد ذهب عامّة النهار؟ فقال: «نعم،


1- الكافي 4: 121/ 1، وسائل الشيعة 10: 10، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 1.
2- الانتصار: 60، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري: 108 و 111.
3- مختلف الشيعة 3: 365.
4- مفاتيح الشرائع 1: 244، ذخيرة المعاد: 514/ السطر 27.
5- مصباح الفقيه 14: 317.

ص: 206

له أن يصومه، و يعتدّ به من شهر رمضان»(1) بعد ظهور عامّة النهار في الأكثر.

و مرسل البزنطيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان، و يصبح فلا يأكل إلى العصر، أ يجوز له أن يجعله قضاء من شهر رمضان؟ قال: «نعم»(2).

و حيث إنّ تلك الإطلاقات، مقيّدة بمعتبر عمّار الساباطيّ(3) الصريح في عدم الجواز، تبقى المعارضة التوهّميّة بينه و بين الخبرين اللذين لأسند للثاني، و لا دلالة للأوّل، و على تقدير تماميّة سند الثاني، تكون مهجورة معرضاً عنها.


1- تهذيب الأحكام 4: 187/ 526، وسائل الشيعة 10: 11، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 6.
2- تهذيب الأحكام 4: 188/ 529، الإستبصار 2: 118/ 385، وسائل الشيعة 10: 12 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 9.
3- عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان و يريد أن يقضيها، متى يريد أن ينوي الصيام؟ قال: هو بالخيار إلى أن تزول الشمس، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر، سئل: فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال: لا .. الحديث. تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، وسائل الشيعة 10: 13 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10.

ص: 207

و كون المراد من عامّة النهار هو المقدار الكثير جائز، و على تقدير المعارضة يتعيّن الأخذ بما يدلّ على عدم الجواز؛ لأنّه موافق الشهرة، و تعضده النصوص الواردة في السفر(1)، الناطقة بالإفطار لزوماً.

ففي معتبر سماعة، قال: سألته عن الرجل، كيف يصنع إذا أراد السفر- إلى أن قال: «إن قدم بعد زوال الشمس أفطر، و لا يأكل ظاهراً»(2)، و القول بالتفكيك(3) بين أقسام الواجب الغير المعيّن و لو أمكن، و لكنّه خلاف ما بنينا عليه فيما سبق(4)، من ظهور الأخبار في المسائل الوضعيّة إلى اشتراك الحكم في الأمثال و النظائر، مع أنّه لم ينقل القول بالتفصيل في مثل المسألة.

و من الغريب توهّم الجمع بين خبري ابن الحجّاج و الساباطيّ باستحباب الإفطار(5)؛ ضرورة أنّ الأمر بالإفطار إرشاد إلى بطلان الصوم حسب الأصل، و لا يساعده المقام لاستحباب الإفطار نفسيّاً، و ذلك كلّه


1- وسائل الشيعة 10: 189 191، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 6.
2- تهذيب الأحكام 4: 327/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 6، الحديث 7.
3- مسالك الأفهام 2: 9.
4- تقدّم في الصفحة 202.
5- مستمسك العروة الوثقى 8: 217.

ص: 208

و محلّها في المندوب يمتدّ إلى أن يبقى من الغروب زمان يمكن تجديدها (1) فيه.

لقوله (عليه السّلام) فيه «فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر».

سئل فإن كان نوى الإفطار، يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال (عليه السّلام): «لا»(1) فإنّه كالنصّ في سلب القابليّة.

قوله مدّ ظلّه: «يمكن تجديدها».

إجماعاً محكيّاً(2) عن «الانتصار» و «الغنية» و «السرائر»(3) و هو المحكي عن الصدوق، و الإسكافيّ، و السيّد، و الشيخ، و العلّامة، و الشهيدين(4) و أضرابهم(5).

و من الغريب ما عن «المسالك» و «المدارك» من نسبة الخلاف إلى


1- تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، الإستبصار 2: 121/ 394، وسائل الشيعة 10: 13 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10.
2- جواهر الكلام 16: 196، مستمسك العروة الوثقى 8: 217.
3- الانتصار: 60، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 570/ السطر 35 37، السرائر 1: 373.
4- الفقيه 2: 97/ 11، حكاه عن الإسكافي في مختلف الشيعة 3: 367، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، المبسوط 1: 278، منتهى المطلب 2: 559/ السطر 22، الدروس الشرعيّة 1: 266، الروضة البهيّة 1: 193/ السطر 9.
5- الوسيلة: 140، المعتبر 2: 648، الحدائق الناضرة 13: 26.

ص: 209

المشهور(1)، و عن «الذخيرة» إلى الأكثر(2)، فقالوا بالامتداد إلى الزوال، فلا فرق بينه و بين الغير المعيّن من الواجب، و هذه النسبة غير واضحة جدّاً.

و على كلّ، المعوّل هي الروايات، و هي بين ما تدلّ على الامتداد إلى ما بعد الزوال بإطلاقه، كمعتبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً، ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً، و لم يفطر، فهو بالخيار إن شاء صام، و إن شاء أفطر»(3).

و بين ما هو ظاهر في الاختصاص به، كمعتبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يدخل إلى أهله فيقول: عندكم شي ء و إلّا صمت؟ فإن كان عندهم شي ء أتوه به و إلّا صام»(4).

و حيث يستبعد كون صومه غير الصوم الندب، فيكون مختصّاً به


1- مسالك الأفهام 2: 9، مدارك الأحكام 6: 25.
2- ذخيرة المعاد: 514/ السطر 18 و 27.
3- تهذيب الأحكام 4: 187/ 525، وسائل الشيعة 10: 11، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 5.
4- تهذيب الأحكام 4: 188/ 531، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب، الحديث 7.

ص: 210

فلا تغفل، و من هذا القسم خبر أبي بصير، بل معتبره(1).

و بين ما يدلّ بإطلاقه على اختصاص السعة إلى الزوال، كخبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح و لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار، حدث له رأي في الصوم، فقال: «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال، حسب له من الوقت الذي نوى»(2).

و معتبر ابن بكير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سئل عن رجل طلعت عليه الشمس، و هو جنب، ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل، و مضى ما مضى من النهار، قال: «يصوم إن شاء، و هو بالخيار إلى نصف النهار»(3).

هذا و الجمع بين المطلقين المتباينين، بالصريح في التوسعة إلى


1- عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة؟ قال: هو بالخيار ما بينه و بين العصر، و إن مكث حتى العصر ثمّ بدا له أن يصوم و إن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم إن شاء. الكافي 4: 122/ 2، تهذيب الأحكام 4: 186/ 521، وسائل الشيعة 10: 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 3، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
3- تهذيب الأحكام 4: 322/ 989، وسائل الشيعة 10: 68، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 3.

ص: 211

ما بعد الزوال، جمع مقبول عند القوم، فالنسبة تنقلب قهراً، و لو نوقش فيه فلازمه السقوط إن لم يكن مرجّح، و الشهرة ترجّح الطائفة الأُولى، و لو وصلت النوبة إلى التخيير بينهما، فالقول قول المشهور أيضاً، كما هو الظاهر.

ص: 212

[مسألة 5: يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو رمضان]

مسألة 5: يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو رمضان، يُبنى (1) على أنّه من شعبان، فلا يجب صومه (2).

قوله مدّ ظلّه: «يُبنى».

لا أثر له، بل يكفي نفس الشكّ في أنّ الغد من شهر رمضان لاستحباب صومه مثلًا.

نعم، لو كان له الأثر الخاصّ فلا بأس به.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يجب صومه».

بلا شبهة. نعم، عن بعضهم القول بالحرمة(1)، و عن المفيد كراهته(2)، و هي محمولة على صورة خاصّة، كما هو ظاهر عبارته المحكيّة عنه، و على كلّ تقدير، المراد منها، هي الكراهة في باب العبادات.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى طائفة من الأخبار(3) ممنوعيّة صوم يوم الشكّ، و قضيّة إطلاقه عدم الفرق بين أن يصوم بنيّة شعبان أو رمضان.

و لكن هناك نصوص أُخر، صريحة في جواز الصوم على أنّه


1- الحدائق الناضرة 13: 41، الفقه على مذاهب الأربعة 1: 553.
2- المقنعة: 298، البيان: 362.
3- تهذيب الأحكام 4: 183/ 509 510، وسائل الشيعة 10: 25 29، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6.

ص: 213

و لو صامه بنيّة أنّه من شعبان ندباً، أجزأه عن رمضان لو بان أنّه منه. و كذا لو صامه بنيّة أنّه منه قضاءً أو نذراً أجزأه (1) لو صادفه (2)، شعبان(1)، فتحمل تلك الأخبار على الصوم بعنوان رمضان، أو على كراهته و أقليّة الثواب دون الحرمة.

و أمّا الخبر الناهي عن الصوم في اليوم الذي يشكّ فيه(2)، فربّما يكون ناظراً إلى إجراء الاستصحاب الحاكم بعدم الشكّ تعبّداً.

قوله مدّ ظلّه: «ندباً أجزأه».

بالضرورة، و هذا هو المصرّح به في النصوص(3) المعتضدة بالإجماعات القطعيّة(4).

قوله مدّ ظلّه: «أجزأه لو صادفه».

حسب القواعد؛ ضرورة أنّ صوم رمضان لا لون له، فقد وقع الفرض


1- وسائل الشيعة 10: 26 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 4، و 10: 21 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4 و 8.
2- تهذيب الأحكام 4: 183/ 509 510، وسائل الشيعة 10: 25 26، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 2 و 3.
3- الكافي 4: 82/ 6 و 85/ 1، وسائل الشيعة 10: 21 23، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4 و 8.
4- مدارك الأحكام 6: 35، مستند الشيعة 10: 186، جواهر الكلام 16: 211، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 122، مستمسك العروة الوثقى 8: 221.

ص: 214

في محلّه كما عرفت(1)، و هو المصرّح به في خبر الزهريّ(2)، و أمّا عدم وقوع ما نواه عمّا نواه، فلما مرّ من المفروغيّة عندهم، فلا نحتاج هنا إلى الدليل بعد ما عرفت(3).

هذا مع أنّ مقتضى عدم صلاحيّة رمضان للصوم الآخر، هو وقوع كلّ صوم فيه عنه.

نعم، في صورة العمد، قد مرّ الإشكال، و ما هو الحقّ أيضاً، قد مرّ عليك(4) فلا نعيده.

و أمّا المناقشة في تعليل خبر الزهريّ(5)، بأنّه يشمل صورة العلم، و المفروض فيه نفي ذلك(6)، فهي غريبة؛ لأنّه لا يضرّ بإطلاق التعليل في غير الفرض مع أنّ في الفرض لا يحكم الخبر بعدم الصحّة، لأجل العمد، بل هو مجرّد فرض؛ لأنّه الغالب و عليه العادة فلا تخلَط.


1- تقدّم في الصفحة 175 177 و 186 187.
2- الكافي 4: 85/ 1، وسائل الشيعة 10: 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 8.
3- تقدّم في الصفحة 176 177.
4- تقدّم في الصفحة 190 193.
5- وسائل الشيعة 10: 23، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم، الباب 5، الحديث 8.
6- مستمسك العروة الوثقى 8: 223.

ص: 215

بل لو صامه على أنّه إن كان من شهر رمضان، كان واجباً و إلّا كان مندوباً، لا يبعد الصحّة (1) و لو على وجه الترديد في النيّة في المقام.

قوله مدّ ظلّه: «لا يبعد الصحّة».

بل هي قطعيّة، لعدم معقوليّة الترديد في تعلّق الإرادة بصوم الغد القربي، و التقييد المذكور لا يوجب الترديد في المنوي، فإذا كان صوم الغد مورد القصد قطعاً، و هو متقرّب، يقع عن رمضان لما مرّ، كما إذا تبيّن في الفرض أنّه من شعبان، فإنّه لا معنى للشكّ في الصحّة؛ لأنّ صوم شعبان ليس إلّا ما أتى به.

و هذا نظير الاقتداء بالخارج، و بالإمام الحاضر إن كان زيداً، و إن لم يكن فلا يكون مقتدياً؛ فإنّه لا يعقل إلّا أن يقع اقتداؤه بالموجود العادل الخارجي، فصحّت جماعته، و له نظائر كثيرة، و تفصيله في محلّه(1).

فما عن(2) «خلاف» الشيخ و «المبسوط» و العمانيّ، و ابن حمزة، و العلّامة في «المختلف» و الشهيد في ظاهر «الدروس» و «البيان» و هو المتمايل إليه للأردبيليّ، و الكاشانيّ من الصحّة(3)، في غاية المتانة،


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثالث عشر، الجهة الخامسة.
2- مستند الشيعة 10: 196 197.
3- الخلاف 2: 179، المبسوط 1: 277، حكاه عن العماني و اختاره في مختلف الشيعة 3: 383، الوسيلة: 140، الدروس الشرعية 1: 268، البيان: 359، مجمع الفائدة و البرهان 5: 164، الوافي 11: 107، مفاتيح الشرائع 1: 246.

ص: 216

إلّا أنّ الوجوه العقليّة المتشبّث بها غير نقيّة.

و من الغريب مناقشة الشيخ الأعظم الأنصاريّ في الصحّة(1)، و غير خفيّ أنّه لا تحتاج المسألة إلى الرواية بعد عدم وجود نصّ على البطلان.

و أمّا توهّم وجود الإجماع المذكور في «التذكرة»(2)، فيضعّفه «مختلفه»(3)، و ذهاب أمثال الشيخ إلى خلافه(4)، مع تعليله بما لا يرجع إلى محصّل(5).

و أمّا قول الماتن مدّ ظلّه: «و لو على وجه الترديد ..» إلى آخره، فهو غير صحيح؛ لأنّه من الترديد في الخصوصيّة، غير اللازم العلم بها في صحّته، شعبان كان أو رمضان.

ثمّ إنّه لو قصد الكفّارة مثلًا إن كان شعبان، و قصد رمضان إن كان رمضان، فإنّه أولى بالصحّة ممّا إذا جزم على أنّه شعبان و ندب فتبيّن أنّه رمضان واجب، فتأمّل جيّداً.


1- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 121.
2- تذكرة الفقهاء 6: 20.
3- مختلف الشيعة 3: 383.
4- الخلاف 2: 179، المبسوط 1: 277.
5- مستمسك العروة الوثقى 8: 226.

ص: 217

نعم، لو صامه بنيّة أنّه من رمضان، لم يقع (1) لا له و لا لغيره.

قوله مدّ ظلّه: «لم يقع».

هنا مسائل ثلاث:

المسألة الاولى: في جواز صوم يوم الشكّ بعنوان رمضان هل يجوز أن يصوم بعنوان رمضان في يوم الشكّ أم لا يجوز تكليفاً؟ وجهان: من أنّه من التشريع، و من أنّه يقصد رجاء الواقع و الإصابة، كسائر موارد الاحتياط، و احتمال الأمر.

نعم، هناك طائفة من الأخبار، ظاهرة في الممنوعيّة التكليفيّة، كخبر الزهريّ السابق، و فيه: «أمرنا بصيامه، و نهينا عنه، أمرنا أن يصومه الإنسان على أنّه من شعبان، و نهينا عن أن يصومه على أنّه من شهر رمضان، و هو لم يرَ الهلال»(1).

و فيه: أنّه لا يدلّ على الحرمة في صورة الرجاء و احتمال إدراك الواقع، و ظاهر النهي هي الحرمة الوضعيّة و بطلانه، و عدم صحّة الاجتزاء به عن رمضان.

و كمعتبره السابق «و نهينا عنه أن ينفرد الرجل بصيامه، في اليوم


1- تهذيب الأحكام 4: 164/ 463، وسائل الشيعة 10: 26، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 4.

ص: 218

الّذي يشكّ فيه الناس ..»(1).

و فيه: أنّه يلزم منه ممنوعيّة صوم يوم الشكّ مطلقاً؛ لأنّ قوله: «فيه الناس» متعلّق بقوله: «يشكُّ» و هذا خلاف الأخبار المرخّصة(2)، هذا مع أنّه ربّما يكون النهي متعلّقاً بعنوان خارج عن الصوم، و هو التفرّد اللاحق به، فلا تغفل.

نعم، مرسلة الصدوق، قال: كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يقول: «لئن أفطر يوماً من شهر رمضان، أحبّ إليّ من أن أصوم يوماً من شعبان، أزيده في شهر رمضان»(3) ظاهرة فيما نحن فيه، إلّا أنّه مرسل، مع أنّ ظاهره غير بعيد أن يكون هو فرض التجزّم في النيّة، دون الإتيان رجاء، فالحرمة التكليفيّة الذاتيّة إذا كانت ممنوعة، يبقى الكلام في حرمته التشريعيّة لأجل عدم وجود الأمر، و هو خلاف الضرورة؛ فإنّه بلا شبهة إذا كان الغد رمضان، يكون مورد الأمرُ واقعاً، و إلّا يلزم اختصاص الحكم بالعالم بالموضوع، و هو خلاف الأدلّة.


1- تقدّم في الصفحة 179، الرقم 4 و 214، الرقم 2.
2- الكافي 4: 81 83، وسائل الشيعة 10: 20 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 1 و 3 و 6.
3- الفقيه 2: 79/ 349، وسائل الشيعة 10: 28، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 8.

ص: 219

المسألة الثانية: على تقدير الإتيان بالصوم جزماً أو رجاء، فهل يقع و يجتزى به عن رمضان؟

قضيّة القاعدة نعم، إلّا في صورة التجزّم؛ لأنّه من انضمام التشريع المحرّم إلى العمل و النيّة و القصد، فلو كان هو غير موجب لتحريم العبادة و بطلانها، و لكن يساعد الاعتبار ورود الأخبار الحاكمة بالقضاء، لأجل تلك الجهة احتمالًا.

و منها: معتبر ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، في الرجل يصوم اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان، فقال (عليه السّلام): «عليه قضاؤه و إن كان كذلك»(1) و مقتضى رجوع قول الراوي «من رمضان» إلى قوله: «يصوم» و لزوم القضاء عليه، هو البطلان.

و يؤيّد رجوعه إلى قوله: «يصوم» معتبر ابن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال في يوم الشكّ: «من صامه قضاه، و إن كان كذلك»(2) يعني: من صامه على أنّه من شهر رمضان فلو صام على هذا على أنّه رمضان، يصير باطلًا بالتعبد، و لو كان صومه من الصوم المأمور به، إلّا أنّه


1- تهذيب الأحكام 4: 182/ 507، الإستبصار 2: 78/ 239، وسائل الشيعة 10: 25 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 4: 162/ 457، وسائل الشيعة 10: 27، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 5.

ص: 220

لأجل الجهات اللّاحقة يكون باطلًا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: الظاهر رجوع الجارّ إلى الفعل القريب، فيكون الخبر الأوّل من أخبار تعارضها الأخبار الكثيرة الظاهرة، بل و الصريحة في صحّة صوم يوم الشكّ في الجملة(1)، فيحملان على استحباب القضاء.

و قوله: «يعني» في الخبر الثاني، من كلام الراوي، فلا يكفي حجّة.

و توهّم ظهور الصدر في قصد رمضان، لقوله: «و إن كان كذلك»(2) غير جيّد، بل هو الأنسب للاستحباب، و كأنّه لدفع توهّم ذلك، و أنّه كيف يجمع بين الأمرين، صحّة صومه رمضاناً و استحباب القضاء.

ثمّ إن حمل الأخبار على من يصوم عن رمضان مع التفاته و توجّهه إلى الشكّ فيه، حمل نادر جدّاً، و الالتزام ببطلان الصوم في صورة الجهل بالحكم غير مصرّح به في كلامهم هنا.

فبالجملة: يبقى دليل بطلان الصوم في يوم الشكّ، إذا أتى به عن رمضان، منحصراً في معتبر ابن سالم، و قضيّة إطلاقه بطلان جميع صور المسألة، و إخراج كلّها إلّا صورة واحدة، أيضاً بعيد، فالبطلان مشكل جدّاً.


1- الكافي 4: 81 82/ 1 و 2 و 4، وسائل الشيعة 10: 20 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 1 و 2 و 6.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 224.

ص: 221

فما ذهب إليه العمانيّ، و الإسكافيّ(1)، بل و الشيخ على المحكي عنه من الإجزاء(2) لو كان مفروضهم هذه الصورة، قريب إلى الصناعة، إلّا أنّ الظاهر أن مصبّ فرضهم غيرها، فراجع و لا تغترّ.

و ممّا لا يخفى أنّه يؤيّد رجوع الجارّ إلى الفعل القريب، معتبر ابن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الرجل يصوم اليوم الّذي يشكّ فيه من شهر رمضان، فيكون كذلك؟ فقال (عليه السّلام): «هو شي ء وفّق له»(3).

و توهّم المعارضة(4) غير سديد، بل من الحكم يتبيّن أنّ مرجع الجارّ و المجرور هو الفعل الأقرب، كما يساعده الأدب، و غير ذلك ممّا هو يوجب أن يكون الأنسب أصوب، فمقتضى القاعدة هي الصحّة هنا و لو قلنا بالفساد في غير المقام؛ و ذلك لأنّ الفعل المتشرّع به أو الملازم للمحرّم و التشريع، ربّما لا يصلح للتقرّب، إلّا أنّ الصوم ليس فعلًا، فربّما ينوي في الليل فينام إلى الليل، فلا فعل منه يتشرّع به أو ينتزع منه و ينطبق عليه المحرّم، فافهم.


1- حكاه عنهما في مختلف الشيعة 3: 380.
2- حكاه عنه في مختلف الشيعة 3: 380، الخلاف 2: 180.
3- الكافي 4: 82/ 3، وسائل الشيعة 10: 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 5.
4- ذخيرة المعاد: 516/ السطر 5، الحدائق الناضرة 13: 38.

ص: 222

هذا، و لو أتى به برجاء شهر رمضان و الأمر الإلهي، فلا يبطل؛ لخروج هذه الصورة عن الأخبار الناهية السابقة(1)، و حيث أنّ فيها معتبر الزهريّ، و يكون نهيه إرشاداً إلى الوضع ظاهراً، فيمكن الجمع بين الأخبار بحمل ما يدلّ على الصحّة على غير هذه الصورة.

و ما في «الجواهر» من: «أنّ النواهي ظاهرة في التكليفيّة المقتضية للبطلان»(2) ممنوع هنا لما أُشير إليه، و إن كانت صحيحة في العبادات في غير المقام، و التفصيل في محلّه(3).

المسألة الثالثة: في وقوع صوم يوم الشكّ عن شعبان بناء على البطلان، بمعنى عدم وقوعه عن رمضان، ففي وقوعه عن شعبان وجهان: من النهي المتعلّق به، فيورث بطلانه، لا البطلان الحيثي.

و من أنّ ظاهر النهي تعلّقه بالقيد، لا المقيّد على إطلاقه، كما هو كذلك في نوع المحاورات، فيستفاد مبغوضيّة الطبيعة عرضاً لا ذاتاً، و مجازاً لا حقيقة، و كون المفروض في الأخبار، الأمر بالصوم بعنوان شعبان، لا يورث حصر الصحّة به، و إن كان يوهمه قويّاً، كما لا يخفى.


1- تقدّم في الصفحة 213، الرقم 2.
2- انظر جواهر الكلام 16: 207.
3- تحريرات في الأُصول 4: 337.

ص: 223

[مسألة 6: لو كان في يوم الشكّ بانياً على الإفطار]

مسألة 6: لو كان في يوم الشكّ بانياً على الإفطار، ثمّ ظهر في أثناء النهار أنّه من شهر رمضان، فإن تناول المفطر أو ظهر الحال بعد الزوال و إن لم يتناوله، يجب عليه إمساك بقيّة النهار تأدّباً (1)، قوله مدّ ظلّه: «بقيّة النهار تأدبّاً».

بلا خلاف بين الخاصّة(1)، و هو المحكي عن جمع من المخالفين(2)، و عن الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) المناقشة في سند المسألة(3)، لعدم تماميّة حديث الأعرابي(4)، و لا قائم عليه شهرة عمليّة. و كيف لا يكفيه الإجماع المحكي عن جماعة(5)، و لو لم يكفه حديث إطلاق حرمة المفطرات بالضرورة، و لو كان موجباً للكفّارة ارتكابها بناءً على القول به، كما سيمرّ عليك(6)؟! اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى الالتزام بالكفّارة هو وجوب الإمساك، و هو ظاهر الأمر بوجوب الصيام إلى الليل، فإنّ المتخلّف عن ترك الواجب في


1- الخلاف 2: 79، تذكرة الفقهاء 6: 19، مستمسك العروة الوثقى 8: 228.
2- الخلاف 2: 179، المجموع 6: 271 272.
3- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري: 122 123، مصباح الفقيه 14: 352.
4- تقدّم في الصفحة 201، الرقم 2.
5- الخلاف 2: 179، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 122، مستمسك العروة الوثقى 8: 228.
6- يأتي في الصفحة 232.

ص: 224

برهة، لا يضرّ بالإطلاق، فتأمّل.

و يجوز دعوى أنّ تلك الإجماعات عليلة؛ لأنّ في خبر الزهريّ: «كلّ من أفطر لعلّة في أوّل النهار، ثمّ نوى بعد ذلك أُمر بالإمساك بقيّة يومه تأديباً»(1) و هو ربّما يكون مستندهم، بناءً على أنّ المراد من قوله: «أفطر» أي: لم يقصد الصوم لا أنّه أتى بالمفطّرات و تناولها. و أيضاً في المسافر القادم، الأمر بالكفّ عن الأكل، و النهي عن المواقعة(2)، فبالغاء الخصوصيّة لأجل فهم الأدب منها، يحكم مطلقاً، فالإجماعات أصبحت غير حجّة.

و حيث إنّ الخبر الأوّل غير كافٍ دلالة، و ما في المسافر غير شاهد على الوجوب، لتجويز الأكل بعد الزوال في بعض الأخبار(3)، و تجويز


1- الكافي 4: 86/ 1، الفقيه 2: 48/ 208، تهذيب الأحكام 4: 296/ 895.
2- عن سماعة قال: سألته عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس و قد أكل؟ قال: لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك شيئاً، و لا يواقع في شهر رمضان إن كان له أهل. الكافي 4: 132/ 8، وسائل الشيعة 10: 191 192، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 7، الحديث 1.
3- عن سماعة قال: سألته عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر إلى أن قال: إن قدم بعد زوال الشمس أفطر و لا يأكل ظاهراً و إن قدم من سفره قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم إن شاء. تهذيب الأحكام 4: 327 328/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 6، الحديث 7.

ص: 225

و قضاء ذلك اليوم، و إن كان قبل الزوال و لم يتناول مفطراً، يجدّد النيّة و أجزأ عنه (1).

المواقعة بعد الزوال فيها(1) أيضاً، فلو كان من الأدب فلا فرق بين قبل الزوال و بعده، فيشكل إثبات وجوب الإمساك جدّاً، نعم هو الأحوط.

قوله مدّ ظلّه: «و أجزأ عنه».

لما مرّ من استكشاف توسعة وقت النيّة إلى الزوال حتّى للعامد(2)، حسب الأصل الثانوي إلّا أنّه في خصوص العامد لا نقول به، و لو لم يكن مجزياً عنه تكون المسألة من موارد وجوب الإمساك تأدبّاً.


1- عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض، أ يواقعها؟ قال: لا بأس به. تهذيب الأحكام 4: 242/ 710، و 254/ 753، وسائل الشيعة 10: 193، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 7، الحديث 4.
2- تقدّم في الصفحة 200 202.

ص: 226

[مسألة 7: لو صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من شعبان، ثمّ تناول المفطر نسياناً]

مسألة 7: لو صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من شعبان، ثمّ تناول المفطر نسياناً، و تبيّن بعد ذلك أنّه من رمضان، أجزأ عنه (1). نعم، لو أفسد صومه برياء و نحوه لم يجزه منه (2) قوله مدّ ظلّه: «أجزأ عنه».

بالأولويّة؛ لأنّه لو أفطر في شهر رمضان نسياناً، لا يضرّ. هذا مع أنّ صومه بحسب الواقع صوم رمضان حسب الفرض، فلا يكون بعد التبيّن، من رمضان حتّى يتوهّم الإشكال كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «لم يجزه منه».

لعين ما مرّ، فإنّ صومه كان صوم شهر رمضان فأبطله.

نعم، في مبطليّة الرياء كلام محرّر منّا في محلّه(1)، و على تقدير بطلان العبادة به ففي الصوم مشكل تحقّق الرياء، لما ليس فعلًا يصدر حتّى يكون ريائيّاً، فلو تقوّل بعض الأقاويل، فهو ليس من الرياء بالصوم فالإخبار الريائي عن الصوم، و الإعلان الريائي عنه، يشبه الإخبار و الإعلان بعد العمل، فتأمّل.

نعم، إذا رجع الرياء إلى الإخلال بأصل عباديّة الصوم، فتكون الحلقة الاولى من حلقات النيّات مخدوشة، يصير باطلًا.


1- تحريرات في الفقه، الواجبات في الصلاة: 88 و ما بعدها.

ص: 227

حتّى لو تبيّن كونه منه قبل الزوال و جدّد النيّة (1).

قوله: «و جدّد النيّة».

قد أُشير آنفاً إلى أنّ صومه صوم رمضان فلا معنى لتجديد النيّة، بل هو يضرّ، فما في كلمات جمع منهم من تجديد النيّة بالنسبة إلى شهر رمضان(1)، غير واضح سبيله.

و أمّا لو كان صومه حال الرياء غير صوم شهر رمضان، فأبطله بالرياء، فهو ليس بمتناول بالنسبة إلى المفطرات، فله تجديد نيّة صوم شهر رمضان بالضرورة، فإبطال الصوم بغيرها لا يضرّ بإمكان تصحيحه رمضاناً، كما إذا سافر قبل الزوال فعاد قبله، و لم يتناول شيئاً، فإنّه لم يحدث حدثاً، فله أن يصوم، و يصحّ عنه قطعاً.


1- شرائع الإسلام 1: 169، قواعد الأحكام 1: 63/ السطر 22 24.

ص: 228

[مسألة 8: كما تجب النيّة في ابتداء الصوم، تجب الاستدامة عليها في أثنائه]

مسألة 8: كما تجب النيّة في ابتداء الصوم، تجب الاستدامة عليها في أثنائه، فلو نوى القطع في الواجب المعيّن بمعنى قصد رفع اليد (1) عمّا تلبّس به من الصوم، بطل على الأقوى، و إن عاد (2) إلى نيّة الصوم قبل الزوال، قوله مدّ ظلّه: «قصد رفع اليد».

إذا كان الصوم هو قصد ترك المفطرات، و تكون ماهيته الإمساك القصدي عنها، فمجرّد التخلّف عن ذلك، يلزم ترك الصوم الواجب، فاعتبار الاستدامة، و وجوب البقاء عليه ليس أمراً وراء ذلك حتّى يحتاج إلى دليل آخر، فليس للشرع أن يقبل الصوم المقطوع، و يقبل نفس ترك المفطرات صوماً، و يعتبره إمساكاً لأجل الآثار الخاصّة كما مرّ، فلا معنى لاحتمال صحّة الصوم بعد الترك المذكور حتّى يقال في المتن: «على الأقوى».

ثمّ إنّ الاستدامة موضوعيّة، كما أُشير إليه، و ليست حكميّة؛ لأنّ الارتكاز، على أن لا يرتكب المفطر إذا ابتلى به، و لا يعتبر أزيد منه؛ لأنّ من الناس من لا يبتلي ببعض المفطرات ما دام العمر، و لا يتمكّن من إبطال صومه به.

قوله مدّ ظلّه: «و إن عاد».

و هو المفروغ عنه في كلماتهم(1)، إلّا أنّ الإشكال في إطلاقه محلّا،


1- العروة الوثقى 2: 175، كتاب الصوم، الفصل الأوّل، المسألة 22، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 83 85، مهذّب الأحكام 10: 47 48.

ص: 229

و كذا لو قصد (1) القطع لزعم اختلال صومه، ثمّ بان عدمه.

لاحتمال كفاية العود فوراً بحيث لا يضرّ بالصدق، كما قالوا به في مثل الجماعة(1)، بل و الصلاة(2)، فإنّ الاتّصال و الهيئة الاتّصاليّة لا يتضرّر بالعدول الآني.

اللّهمّ إلّا أن يقال بالفرق؛ لأنّ الصوم تمام ماهيته القصد، و المرجع هو العرف المحقّق، فليتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا لو قصد».

و يأتي هنا ما مرّ. و الذي هو المهمّ في المسألة ما مرّ من قصور الأدلّة عن إثبات شرطيّة اعتبار القصد من الأوّل، و القدر المتيقّن من مورد الإجماع هو الإخلال به عمداً، فلتصحيح الصوم في أمثال هذه الفروع وجه تبيّن ممّا مضى.

و تحصّل: أنّ الصوم و لو كان ماهيته القصد إلّا أنّ الشرع حسب الظاهر تدخّل فيه، فراجع.


1- العروة الوثقى 1: 771، في صلاة الجماعة، المسألة 20.
2- العروة الوثقى 1: 620، في نيّة الصلاة، المسألة 16.

ص: 230

و ينافي الاستدامة، التردّد (1) في إدامة الصوم أو رفع اليد عنه، و كذا لو كان تردّده في ذلك لعروض شي ء لم يدرِ (2) أنه مبطل لصومه أو لا.

قوله مدّ ظلّه: «التردّد».

لا معنى لكونه منافياً، بل لا تبقى النيّة مع التردّد الطارئ، كما لا توجد مع التردّد من الأوّل.

قوله مدّ ظلّه: «لم يدرِ».

كما هو حال كثير من الجاهلين بالمفطرات تفصيلًا، و لو صحّ ما في المتن، فيلزم وجوب تعلّم المفطرات بتفصيلها؛ لأنّ إبطال الصوم الواجب المعيّن غير جائز.

و معنى عروض شي ء لم يدرِ، أعمّ من أن ارتكبه ثمّ شكّ أو لم يرتكبه، فإنّه على الثاني و إن يمكن التحفّظ على صومه بتركه، و أمّا في الفرض الأوّل فلا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ارتكابه حال الجهل ليس مضرّاً بالصحّة، فإذا كان عالماً بذلك لا يلزم وجوب التعلّم المذكور، و لكنّه محلّ إشكال، بل هو صريح كلامه في البطلان إذا كان عن جهل تقصيري، و احتاط في القصوري.

ثمّ إنّه يستلزم القول ببطلان الصوم هنا، بطلان الصوم الاحتياطي، مع أنّ الضرورة على خلافه، و لذلك قال في «العروة» بعدم البطلان(1)؛ لأنّ


1- العروة الوثقى 2: 175، كتاب الصوم، الفصل الأوّل، المسألة 22.

ص: 231

و أمّا في غير الواجب المعيّن لو نوى القطع، ثمّ رجع قبل الزوال صحّ صومه (1)، هذا كلّه في نيّة القطع.

المتردّد المذكور بانٍ على الصوم على تقدير الصحّة، بل في موارد الشكّ في ارتكاب المفطر موضوعاً، يكون التردّد موجوداً إلّا أنّه تردّد في صحّة صومه، و بناءً على الصوم على تقدير الصحّة، و لا بدّ من الالتزام بصحّته عملًا بالسيرة القطعيّة.

نعم، ربّما يكون نظر الماتن هنا إلى استلزام التردّد المذكور، التردّد في أصل البقاء على الصوم قهراً و ارتكازاً، بخلاف الصورتين المذكورتين إلّا من كان متوجّهاً إلى الاستلزام المذكور، فإنّه إذا بنى على الصوم لو كان صحيحاً صحّ صومه.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ صومه».

بناءً على ما عرفت من الأصل المحرّر في المعيّن، ففي غير المعيّن يكون الأمر أوضح، بل اعتبار الشرع صحّة الصوم من أوّل طلوع الفجر، و لو قصده قبل الزوال آناً ما، يشهد قويّاً على الأصل الّذي أبدعناه.

و مع قطع النظر عن ذلك الأصل شمول الأدلّة الناهضة على توسعة النيّة في الواجب غير المعيّن(1) لمثل ما نحن فيه، محل إشكال؛ لأنّ


1- وسائل الشيعة 10: 10 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 2 و 4 و 5 و 6 و 9 و 10.

ص: 232

و أمّا نيّة القاطع، بمعنى نيّة ارتكاب المفطر، فليست بمفطرة على الأقوى (1)، المفروض في أدلّته غير هذه الصور، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

نظراً إلى أنّ الظاهر من الأدلّة، استناد المفطريّة إلى ذوات المفطرات، و أنّ الكفّارة كفّارة ارتكابها فيما إذا تكرّر، فلو كان نيّة القاطع ترجع إلى نيّة القطع، فاعتبار مبطليّة هذه الأُمور غلط.

و ممّا يشكل أمره أنّ ما هو الشرط، و قوام الصوم، هو القصد، و إذا كانت نيّة القاطع منافيّة له تكويناً، فلا يعقل أن يعتبر الشرع صحّة الصوم عند نيّة القاطع، للزوم التناقض، فللفرار عنه ينصرف الاستناد و النسبة المذكورة إلى خلاف الظاهر، فيتعيّن قول جماعة يقولون بالبطلان(1)، و هو المشهور بين متعرّضي المسألة(2).

و ينحلّ الإشكال بأنّ من تلك الظواهر يستكشف أنّ ما هو الشرط، هي نيّة الإمساك و قصد الصوم على وجه لا يتضرّر بنيّة المفطر، و يتضرّر بنيّة


1- الكافي في الفقه: 182، مختلف الشيعة 3: 385، مسالك الأفهام 2: 15، مستند الشيعة 10: 219.
2- الدروس الشرعية 1: 267، مدارك الأحكام 6: 40، العروة الوثقى 2: 175، في نيّة الصوم، المسألة 22.

ص: 233

القطع، فإنّ الأوّل ينافيه بالاستلزام، و الثاني بالاستقلال.

و بالجملة: لا يعتبر قصد الإمساك على الإطلاق، فلو انعدمت من هذه الطريقة التبعيّة فلا بأس به، لعدم الدليل على اشتراطها على الوجه المذكور، بل الدليل على خلافه.

و توهّم: أنّه لا معنى لاعتبار المفطر حينئذٍ، لعدم النيّة تكويناً، فالنسبة على كلّ تقدير مجازيّة، يندفع بأنّ المفطريّة باعتبار هدم النيّة السابقة، و إفسادها على وجه لا تصلح للصحّة بانضمام النيّة اللاحقة كما لا يخفى.

نعم في أصل اعتبار المفطر، إشكال محرّر في مسألة كيفيّة اعتبار المانعيّة في الصلاة، و قد تحرّر منّا امتناعه هناك(1)، و أمّا هنا فهو كذلك بالنسبة إلى المفطرات الشرعيّة دون العرفيّة كالأكل و الشرب، و على هذا ترجع المفطرات إلى شرطيّة تركها بحكم العقل، فالمجاز قطعي حسب الدليل العقلي، و لكن حسب النظر العرفي الّذي هو المتّبع، لا بدّ من التحفّظ على الحقيقة الّتي أمكنت.

و على هذا يمكن الالتزام بعدم فساد الصوم عند نيّة القاطع، إلّا أنّه يشكل الأمر من جهة أنّ نيّة القطع لا تكون، بعد أن يكون الصوم نفس


1- تحريرات في الأُصول 8: 86 89.

ص: 234

القصد إلى ترك المفطرات، إلّا مستلزماً لنيّة القاطع؛ ضرورة أنّ ما هو الشرط- كما عرفت هو البناء على ترك المفطرات عند الابتلاء، و في صورة الابتلاء بإحدى المفطرات، فإذا ترك الصوم، و قصد قطع النيّة، فمعناه أنّه لا بناء منه على تركها عند الابتلاء، فيلزم الإخلال بالشرط الّذي هو وجه صحّة الصوم كما أُشير إليه، و عليه ترجع نيّة القطع إلى الإخلال بما هو أساس الصوم، و هو البناء على ترك المفطر إذا ابتُلي به؛ لأنّه يضمحلّ قصده المذكور بالرجوع عن النيّة.

و من هنا يظهر: أنّ ما هو الموجب لبطلان الصوم، كلُّ ما يوجب خلوّ الصائم عن القصد المذكور، سواء كان نيّة القطع أو القاطع، و تبيّن أنّ كلّ واحد منهما ليس موجباً بما هو هو للبطلان، بل انعدام الشرط يستتبع عدم سقوط الأمر، فتدبّر.

و لو قيل: الصائم: «من كان من قصده ترك المفطر إذا ابتُلي به» فلو ترك القصد المذكور، فلا يلزم أن يكون بانياً على الأكل، لإمكان ترك الأكل لأجل جهة أُخرى.

قلنا: نعم، إلّا أنّه مع فرض انتفاء الجهة الأُخرى لا يكون بانياً على الترك.

و بالجملة: نيّة القطع و القاطع على وجه واحد، تخلّ بما هو الشرط و ما به الصوم صوماً.

ص: 235

و إن كانت مستلزمة لنيّة القطع تبعاً (1). نعم، لو نوى القاطع و التفت إلى استلزامها ذلك فنواه استقلالًا، بطل على الأقوى (2).

قوله مدّ ظلّه: «تبعاً».

اعترافه مدّ ظلّه بذلك لا بدّ أن يستلزم الاعتراف بأنّ الاستدامة المطلقة على النيّة ليست شرطاً كما مرّ(1).

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

لأنّه من نيّة القطع، و قد أُشير آنفاً إلى أن الموجب للفساد ليس إلّا ترك ما هو الشرط، أو ما هو قوام الصوم به، و لا خصوصيّة لنيّة القطع و لا القاطع.


1- تقدّم في الصفحة 229 و 231.

ص: 236

[القول فيما يجب الإمساك عنه]

اشارة

القول فيما يجب الإمساك عنه مسألة 1: يجب (1) على الصائم الإمساك عن أُمور:

[الأوّل و الثاني: الأكل و الشرب]

اشارة

الأوّل و الثاني: الأكل و الشرب (2)، قوله مدّ ظلّه: «يجب».

وجوباً شرطيّاً، و ليس ارتكاب المفطرات من المحرّمات التكليفيّة، و لا تركها من الواجبات النفسيّة، بناءً على إمكان كون الترك واجباً- كما في تروك الإحرام كما هو التحقيق، و تفصيله في الأُصول(1).

و بالجملة: ما هو الواجب النفسي ليس إلّا الصوم، و تركه موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الواجب، فما يستظهر عنهم أحياناً في غير محلّه(2).

قوله مدّ ظلّه: «الأكل و الشرب».

في الجملة بلا شائبة إشكال، و عليه الإجماع المدّعى(3)، المقرون


1- تحريرات في الأُصول 3: 300 و 316 317 و 336 337.
2- مسالك الأفهام 2: 17 18، مستند الشيعة 10: 223، مصباح الفقيه 14: 363.
3- تذكرة الفقهاء 6: 21، مدارك الأحكام 6: 43، الحدائق الناضرة 13: 56، جواهر الكلام 16: 217.

ص: 237

بدعوى القطع و الضرورة(1).

و الّذي هو الأصل: أنّ حديث ترك الطعام و الشراب ليس من شرائط الصوم، بل هما من مقوّمات ماهيّة الصوم، و كان تركهما، بل و ترك الجماع حسب ما يظهر من الكتاب، ممّا ارتكزت عليه أذهان المتشرّعة، و أرباب الشرائع السالفة، فإنّ قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(2) كان ما يفهمه صدر الإسلام أبناء المنطقة، فيعلم منه أنّ أصل ترك الأكل و الشرب كان معهوداً، بل و من قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ(3) أيضاً يعلم أنّ تركه كان معهوداً في ذلك.

و قد اشتهر أنّ زمان الصوم كان إلى زوال الشمس، و لأجله ورد ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ(4).

هذا، فالأولى أن يكون ترك الطعام و الشراب، و الإمساك عنهما مورد العنوان أوّلًا، ثمّ إلحاق مطلق الأكل إليه إذا اقتضاه الدليل؛ و ذلك لأنّ معتبر ابن مسلم يتضمّن عنوان الطعام و الشراب كما يأتي(5)، و ليس في


1- جواهر الكلام 16: 217.
2- البقرة( 2): 185.
3- البقرة( 2): 187.
4- البقرة( 2): 187.
5- يأتي في الصفحة 243.

ص: 238

الأخبار الصحيحة ما يدلّ على أنّ عنوان الأكل مورد الحكم.

و توهّم أنّ قوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا ..(1) إلى آخره يشهد على أنّ ترك الأكل لازم إلى الليل(2)، غير جائز؛ لعدم كونه في هذا المقام، لما عرفت أنّ ترك الأكل في الجملة من مقوّمات الصوم، و الآية بصدد دفع ما كان صوماً في الجاهليّة إلى الزوال، و يكون توطئة لقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ(3).

نعم، في طائفة من الأخبار عنوان الأكل و الشراب(4)، و هي و إن لم تكن نقيّة الأسناد، و لكنّها لأجل الإجماعات منجبرة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: لا يكون الإجماع و الشهرة عمليّة حتّى تكون جابرة، و لا يكفي لقوّة استفادتهم ذلك من الكتاب و السنّة، فتجعل اجتهادهم، يمرّ عليك ما ينفعك في التعليقة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.


1- البقرة( 2): 187.
2- مدارك الأحكام 6: 43.
3- البقرة( 2): 187.
4- وسائل الشيعة 10: 32، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 3، و 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 6.

ص: 239

معتاداً كان كالخبز و الماء أو غيره كالحصاة (1) و عصارة الأشجار، قوله مدّ ظلّه: «الحصاة».

إلحاق غير المعتاد بالمعتاد مذهب الأصحاب، و عليه الإجماعات المحكيّة عن «الخلاف» و «الغنية» و «السرائر»(1)، و عن السيّد نفي الخلاف فيه بين المسلمين(2).

نعم، حكي عن الحسن بن صالح، و أبي طلحة الأنصاريّ تجويزه(3)، و هو المحكي عن ابن الجنيد(4)، بل و نفس السيّد (رحمه اللَّه (في بعض كتبه(5)، و هذا لا ينافيه دعواه الإجماع.

و بالجملة: يظهر أنّ المسألة خلافيّة جدّاً بين أهل الخلاف في جهة أُخرى، و هي الكفّارة دون البطلان(6).

و توهّم كفاية إطلاقات الأكل و الشرب أو إلغاء الخصوصيّة(7)، في


1- الخلاف 2: 212، المسألة 71، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 8 12، السرائر 1: 377، مستمسك العروة الوثقى 8: 233.
2- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهية: 242/ السطر الأخير.
3- الخلاف 2: 212 213، تذكرة الفقهاء 6: 21، المغني 3: 36، المجموع 6: 317/ السطر 5 6.
4- حكاه عنه في المختلف 3: 387.
5- رسائل الشريف المرتضى 3: 54.
6- جواهر الكلام 16: 217 218.
7- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 93 94.

ص: 240

غير محلّه؛ ضرورة أنّها مضافاً إلى ممنوعيّتها، منصرفة عن غير المعتاد.

و لعمري إنّه لو كان مورد للانصراف فهذا أحقّ به، لعدم الدواعي إلى ذلك حسب العادة الغالبة جدّاً.

نعم، يمكن دعوى الإلحاق، و إن لم يصدق عليه الأكل و الشرب المفطّرين، أو و إن لم يكن طعاماً و شراباً متعارفاً، أو و إن لم يكن أكلًا و شرباً؛ لأنّ المأكولات و المشروبات هي الأنواع الخاصّة، لا مطلق ما يُؤكل و يُشرب، فتأمّل؛ و ذلك لتلك الشهرة العظيمة، و لما ورد في الغبار الغليظ(1)، و لا يخفى ما في الثاني، فإنّ مبطليّة الغبار ممنوعة كما تأتي(2)، و لو كان مبطلًا فهو أمر وراء الأكل كما في نصّه، و يكون نفس إيصاله إلى الحلق مبطلًا و لو لم يكن أكلًا، فلا يخلو التمسّك المزبور(3) من غرر به.

و أمّا حديث الشهرة فهو قريب، و ذلك لأنّ في المسألة بعض نصوص ظاهرة في أنّ المبطل هو المتعارف من الطعام، ففي خبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، عن آبائه (عليهم السّلام)، أنّ عليّاً (عليه السّلام) سُئِلَ عن الذباب يدخل


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
2- يأتي في الصفحة 280 283.
3- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 21، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 93.

ص: 241

حلق الصائم، قال: « «ليس عليه قضاء؛ لأنّه ليس بطعام»(1).

و عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصائم يكتحل، قال: «لا بأس به، ليس بطعام و لا شراب»(2) و مقتضاهما أنّ غير المتعارف غير مبطل، و مع ذلك ذهب الأصحاب إلى خلافهما، فيعلم منه أنّ المسألة كانت معهودة عندهم من السلف.

و كون السؤال عن ورد الذباب إلى الحلق نسياناً، و لا عن اختيار، لا يضرّ بمفاد التعليل، و المنظور من الاكتحال، هو دخول أجزائه من ناحية الحلق إلى المري ء، كما هو المحسوس، فيكون نظر السائل بطلان الصوم به، و الخبر نفاه، فليتدبّر جيّداً.

و يمكن المناقشة في تلك الشهرة بدعوى ظهور كلماتهم في استنادهم في الالتحاق إلى الأكل و الشرب، فراجع(3).


1- الكافي 4: 115/ 2، تهذيب الأحكام 4: 323/ 994، وسائل الشيعة 10: 109، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 39، الحديث 2.
2- الكافي 4: 111/ 1، تهذيب الأحكام 4: 258/ 765، وسائل الشيعة 10: 74، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 25، الحديث 1.
3- الخلاف 2: 212 213، تذكرة الفقهاء 6: 21، الحدائق الناضرة 13: 57.

ص: 242

و لو كانا قليلين جدّاً (1) كعشر حبّة و عشر قطرة.

قوله مدّ ظلّه: «قليلين جدّاً».

على المعروف بينهم(1) إلّا أنّ الأخبار الكثيرة المنتشرة في الأبواب المتفرّقة، تدلّ على جواز القليل كالأخبار الواردة في جواز الاستياك و كراهته بالعود الرطب(2)، و ما في مسألة المضمضة(3)، و في مسألة مضغ الطعام للصبيّ، و زقّ الطائر(4)، و ذوق المرق(5)، و بلع بصاق الغير(6).

و حملها على إخراج تلك الأجزاء عن محيط الفم أو حملها على الاستهلاك(7)، غير صحيح، فبعد قصور الأدلّة رأساً، و تلك الأخبار صراحة، يكون نفي القليل البالغ في القلّة إلى الأجزاء الصغار دون غيرها، قريب كما أنّ شرب عشر القطرة لا معنى له، بل و شرب القطرة، كما لا يخفى، و تأمّل.


1- العروة الوثقى 2: 176، فصل فيما يجب الإمساك عنه في الصوم، مستمسك العروة الوثقى 8: 234.
2- وسائل الشيعة 10: 82 86، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 28.
3- وسائل الشيعة 10: 70 72، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 23.
4- وسائل الشيعة 10: 108، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 38.
5- وسائل الشيعة 10: 105 108، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 37.
6- وسائل الشيعة 10: 102، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 34.
7- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 99.

ص: 243

[مسألة 2: المدار على صدق الأكل و الشرب و لو كانا على النحو غير المتعارف]

مسألة 2: المدار على صدق الأكل و الشرب و لو كانا على النحو غير المتعارف، فإذا أوصل الماء إلى جوفه من طريق أنفه، صدق الشرب (1) عليه و إن كان بنحو غير متعارف.

قوله مدّ ظلّه: «صدق الشرب».

قد عرفت: أنّ تعيين الصدق غير جائز للفقيه إذا كان موجباً لوقوع المقلّد في الضلالة، فما هو وظيفته تعيين الحكم، و الّذي يظهر لي: أنّ معتبر ابن مسلم يقول: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب ..»(1) و ليس البحث حول الأكل المصدري، و الشرب المصدري، بل اللازم هو اجتنابه عنهما.

نعم، الاجتناب عنهما ليس بمعنى الاجتناب عن القمار، بل هو معناه العرفي، و هو استيفاء الحظّ منه، سواء كان عن طريق الأكل و الشرب المصدريين أو الحقنة، فإنّ حقنة الطعام داخل في هذا الحديث أيضاً، كما لا يخفى.

فتلقيح الموادّ و الأغذية من سائر الثقب كثقب الإحليل، أو سائر الطرق المتعارفة في اليوم، يمكن منعه؛ لأنّه خلاف الاجتناب عن الطعام و الشراب- أي: المشروب بقرينة الطعام.


1- تهذيب الأحكام 4: 189/ 535، الإستبصار 2: 80/ 244، وسائل الشيعة 10: 31 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 244

[الثالث: الجماع]

الثالث: الجماع (1) فما قد يتوهّم من استنباط ممنوعيّة الإدخال في الجوف من موارد مختلفة(1)، فهو غير صحيح لجواز الحقنة بالجامد، فالطريق الوحيد ما أشرنا إليه، و هو يقبل التقييد.

و حمل خبر ابن مسلم على الأكل من الفم(2)، فهو لأجل فهم الناس بحسب القطر و المنطقة، لا بحسب الواقع و مراد المتكلّم، فلا تغفل.

و من ذلك يظهر حكم كثير من الفروع المستحدثة الّتي وقفت أنظار جمع فيها صرعى، و اللَّه وليّ التوفيق و الحمد.

قوله مدّ ظلّه: «الجماع».

بضرورة الإسلام، و عدّ تركه من الشروط لا يخلو عن مناقشة، لما يظهر أنّه كان من مقوّمات الصوم عند طلوع الإسلام، و لأجله وردت آية التحليل في الليل، بعد الأمر بالصوم على إطلاقه(3).

و أمّا التمسّك بقوله تعالى فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ ..(4).


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 238.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 238.
3- البقرة( 2): 187.
4- البقرة( 2): 187.

ص: 245

ذكراً كان (1) الموطوء أو أُنثى، بدعوى أنّ الغاية مربوطة أيضاً بقوله تعالى بَاشِرُوهُنَ فتدلّ الآية على المنع عن المباشرة نهاراً(1)، فهو غير جيّد، محرّر تفصيله في كتابنا الكبير(2).

و ربّما تخلّل قوله تعالى وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ(3) يكفي لصرف الغاية عنه، و اختصاصها بالجملة الأخيرة.

فالجماع في الجملة ممّا لا شائبة خلاف فيه، و أمّا فروعه فتأتي في التعاليق الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «ذكراً كان».

حسب الإجماع المحكي على الملازمة بين موجب الغسل، و مبطل الصوم(4)، و لكنّه اصطياد و ليس بتمام.

و ما هو الأقرب دلالة الأخبار الناهية و الزاجرة عن النكاح(5)،


1- مدارك الأحكام 6: 44، الحدائق الناضرة 13: 106 107.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الثالث من المفطرات.
3- البقرة( 2): 187.
4- الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 509/ السطر 9 12، مختلف الشيعة 3: 390، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 25 26، مستمسك العروة الوثقى 8: 240.
5- الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 203، دعائم الإسلام 1: 268، مستدرك الوسائل كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 2، و الباب 2، الحديث 1.

ص: 246

و يكفيك من بينها معتبر المروزيّ، قال: سمعته يقول: «إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان- إلى أن قال: فإنّ ذلك له مفطر مثل الأكل و الشرب و النكاح»(1).

و المناقشة في صدق النكاح(2) غير نقيّة، بعد كون المراد هو الدخول، مع صدقه على نكاح البهائم، و لا يتوقّف المنع على صدق الجماع، بل ليس في ظاهر الكتاب و الأخبار عنوان الجماع، مورد النظر، إلّا أنّه قد ورد في طي بعض الأخبار(3)، و على كلّ تقدير يكفي صدق النكاح بعد كون النسبة بينهما مثبتين.

نعم، مفهوم معتبر ابن مسلم(4)، يوجب حصر المبطل بترك الاجتناب عن النساء، فيلزم التقييد و لو كان بينهما العموم من وجه، و لكنّك أحطت خبراً بعدم المفهوم له، فليتدبّر.


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
2- مصباح الفقيه 14: 373 374.
3- وسائل الشيعة 10: 39 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4.
4- تقدّم في الصفحة 243.

ص: 247

إنساناً أو حيواناً (1)، قبلًا أو دبراً (2)، قوله مدّ ظلّه: «حيواناً».

إجماعاً راجعاً إلى الإجماع السابق، فلا يكون مفطراً بما هو هو؛ لأنّ المعروف في تلك المسألة شرطيّة الإنزال، فالمستند ما مرّ من صدق النكاح، و لا وجه لدعوى الانصراف(1) جدّاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ معتبر ابن مسلم الأسبق يفسّر المراد من النكاح، و يكون منشأً للانصراف في محيط الأخبار.

قوله مدّ ظلّه: «دبراً».

أمّا دبر النساء فلإطلاق معتبر ابن مسلم.

و من الغريب توهّم دلالة ما رواه الشيخ عن بعض الكوفيين، يرفعه إلى أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)- الآتي ذكره على ما نحن فيه(2)، فإنّها و ما يرجع إليها في حكم الصائمة الموطوءة، لا الصائم الواطئ في الدبر.

فبالجملة: وجه المناقشة هو الانصراف، و هو- بعد ما عرفت ممنوع، مع أنّه لم يحك عليه خلاف من أحد من السلف و الخلف.

و أمّا دبر الحيوان فهو و قبله بحكم واحد كما مرّ وجه الإشكال فيه.


1- مصباح الفقيه 14: 373 374.
2- الحدائق الناضرة 13: 109 110.

ص: 248

حيّاً أو ميّتاً (1)، صغيراً (2) أو كبيراً، واطئاً كان الصائم أو موطوءاً (3)، قوله مدّ ظلّه: «ميّتاً».

لما مرّ و دعوى أنّه ليس من الجماع و لا النكاح، لو كانت مسموعة، و لكن خلاف الاجتناب اللازم عليه إذا كان الميّت من النساء، و لا بأس في صورة الشكّ من حديث الاستصحاب، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «صغيراً».

و ربّما يكون الوطء مع الزوجة الصغيرة من الإفطار المحرّم.

و دعوى أنّها ليست من النساء و لو كانت مسموعة، إلّا أنّ صدق النكاح و الجماع كافٍ، و في هذا و أمثاله وجه لدعوى القطع بالحكم، و لو كان القياس ممنوعاً محرّماً.

قوله مدّ ظلّه: «موطوءاً».

هنا إشكال؛ لأنّ النساء مورد وجوب الاجتناب للصائم، فكون صومهنّ باطلًا بمعتبر محمّد بن مسلم(1) ممنوع جدّاً.

و يؤيّد ذلك خبر «التهذيب»(2) السابق(3)، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): في


1- تقدّم في الصفحة 243.
2- تهذيب الأحكام 4: 319/ 975، وسائل الشيعة 2: 200، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 12، الحديث 3.
3- تقدّم في الصفحة 247.

ص: 249

فتعمّد ذلك مبطل و إن لم ينزل (1).

الرجل يأتي المرأة في دبرها و هي صائمة؟ قال: «لا ينقض صومها، و ليس عليها غسل».

و قريب منه الخبر الآخر(1)، و لعلّهما واحد كما هو الأظهر، فلولا ضعفهما الذاتي، و ذهاب الأُمّة إلى بطلان صوم الموطوء على الإطلاق، كان هنا وجه للمنع.

و أمّا بطلان صوم الرجل الموطوء فيستظهر من الوجوه السابقة؛ ضرورة أنّ النكاح الممنوع يشمل الفروض حتّى فرض موطوئيّة الصغير و المرأة.

و من هنا يظهر ضعف تمايل «المبسوط» إلى المناقشة في مفطريّة الوطي دبراً(2)، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «و إن لم ينزل».

إجماعاً في الجملة(3)، و هو مقتضى الإطلاقات المستفادة منها مضرّيّة مباشرة النساء و النكاح و الجماع(4)، و المناقشة فيها ناشئة عمّا


1- تهذيب الأحكام 4: 319/ 977.
2- المبسوط 1: 270.
3- جواهر الكلام 16: 219 220، مستمسك العروة الوثقى 8: 240.
4- وسائل الشيعة 10: 31، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1، و الباب 22، الحديث 1.

ص: 250

و لا يبطل (1) مع النسيان أو القهر السالب للاختيار، دون الإكراه فإنّه مبطل أيضاً، فإن جامع نسياناً أو قهراً فتذكّر أو ارتفع القهر في الأثناء، وجب الإخراج فوراً، فإن تراخى بطل صومه (2). و لو قصد التفخيذ مثلًا فدخل بلا قصد لم يبطل (3)، و كذا (4) لو قصد الإدخال و لم يتحقّق، لما مرّ من عدم مفطريّة قصد المفطر.

يرجع إلى المناقشة في الوطي قبلًا و إن لم ينزل، و لا فرق بين الفروع في شمول الأدلّة حسب الأظهر، و هو المناسب في المقام، و تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا يبطل».

سيظهر وجهه في المسألة الثامنة عشرة و هكذا وجه بطلان صوم المكره.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

أمّا الوجوب فلما مرّ، و أمّا البطلان فلأنّ الاجتناب عن النساء لا يحصل إلّا بمثله في مفروض المسألة، و لو تراخى وجب الإخراج أيضاً على الأحوط، حسب لزوم ترك المفطّرات على المفطر.

قوله مدّ ظلّه: «لم يبطل».

إمّا لكونه عن غير عمد أو لعدم صدق النكاح و الجماع، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا».

ليس الإدخال بعنوانه من المفطرات، فما هو مورد البحث هو قصد

ص: 251

و يتحقّق الجماع بغيبوبة الحشفة أو مقدارها، بل لا يبعد (1) إبطال مسمّى الدخول في المقطوع و إن لم يكن بمقدارها.

المفطر، و قد مرّ(1) ما يتعلّق به، و قوّينا في محلّه التفصيل بين مثل قصد الأكل و الشرب و بين مثل قصد الكذبة و الاحتقان، فإنّ الأوّل من قصد المفطر بخلاف الثاني، لعدم إمكان اعتبار المفطر إلّا برجوعه إلى اشتراط تركه في المأمور به، فتأمّل جيّداً.

قوله مدّ ظلّه: «بل لا يبعد».

بل لا يبعد إبطال مسمّى الدخول و لو في غير المقطوع، و ذلك لإطلاق معتبر ابن مسلم(2)؛ ضرورة أنّه ينافي الاجتناب عن النساء.

و لو أشكل الأمر في صدق الجماع و النكاح لأجل استفادة الحدّ الشرعي ممّا ورد في موجب الغسل، و هو التقاء الختانين(3)، فلا محلّ للإشكال في الإطلاق المذكور، مع أنّ الاستفادة المزبورة غير واضحة جدّاً، لعدم الملازمة بين المسألتين.


1- تقدّم في الصفحة 232 234.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- الكافي 3: 46/ 2 و 3، وسائل الشيعة 2: 183، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 2 و 3.

ص: 252

[الرابع: إنزال المني]

اشارة

الرابع: إنزال المني (1) و أمّا الإجماع الناهض على الملازمة بين الموجب للغسل و المبطل(1) فهو على أمر اصطيادي من الأخبار، و قد أشرنا إلى عدم تماميّته.

قوله مدّ ظلّه: «إنزال المنيّ».

بلا خلاف في الجملة، و عليه الإجماعات المحكيّة(2) عن «الانتصار» و «الوسيلة» و «الغنية» و «التذكرة»(3).

و عن «المدارك»: «عليه أجمع العلماء كافّة»(4). و لعلّ نظره إلى المخالفين، ففي «الخلاف»: «أنّه قول مالك و الشافعيّ»(5).

و المناقشة في هذه المحكيّات بأنّها ليست تعبّديّة، لوجود بعض النصوص(6) في المسألة، و المناقشة في تلك النصوص بعدم تماميّتها استناداً للحكم، موجبة لسريان الشكّ في أصل المفطّرية، و ذلك لأنّ حديث


1- تقدّم في الصفحة 245، الرقم 5.
2- مستند الشيعة 10: 240، مستمسك العروة الوثقى 8: 244 245.
3- الانتصار: 64، الوسيلة: 142، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 509/ السطر 9 12، تذكرة الفقهاء 6: 24.
4- مدارك الأحكام 6: 21.
5- الخلاف 2: 198.
6- الكافي 4: 102/ 4، تهذيب الأحكام 4: 206/ 597، وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 253

باستمناء أو ملامسة أو قُبلة أو تفخيذ أو نحو ذلك من الأفعال الّتي يقصد بها (1) حصوله، وحدة موجب الغسل و المفطر غير تمام؛ لأنّ الاحتلام في النهار موجب للغسل و ليس بمفطر، و الإنزال العمدي بعده موجب للبطلان دون الغسل.

و معتبر ابن مسلم لا يشمل الاستمناء اليدويّة، و كذا معتبر عبد الرحمن ابن الحجّاج(1) الوارد في العابث بأهله، فإنزال المنيّ باستمناء في مقابل الاستمناء بالملاعبة مع الأهل و غيره، لا يتبيّن مبطليّته إلّا دعوى القطع أو استفادة الحكم من الأخبار بإلغاء الخصوصيّة.

هذا و غير خفيّ: أنّ تلك الإجماعات كأنّها ناظرة إلى لعب خاصّ، و هو الاستمناء على الوجوه المذكورة غير الوجه الأوّل، و لذلك ما تعرضت «العروة الوثقى» لهذا الفرض.

قوله مدّ ظلّه: «يقصد بها».

أي: من الأفعال المتعارفة في هذا الأمر، و تكون عاديّة نوعيّة، و إن لم يكن من العادة بالنسبة إلى شخص خاصّ، و هذا ظاهر العبارة إلّا أنّ المنظور ليس إلحاق غير المعتاد بالمعتاد.

و بالجمله: مبطليّة الاستمناء بتلك الطرق تستفاد مضافاً إلى تلك


1- عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني؟ قال: عليه من الكفّارة مثل ما على الّذي يجامع.

ص: 254

الإجماعات، من معتبر ابن مسلم، و إطلاقه يقتضي ترك كلّ هذه الأُمور إلّا ما قام الدليل على خلافه أو كان انصراف، لأجل أنّها تنافي الاجتناب عن النساء محلّلات كنّ أم محرّمات.

و من معتبر ابن الحجّاج قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني؟ قال: «عليه من الكفّارة مثل ما على الّذي يجامع»(1).

و فيه نظر، لأجل أنّ كلمة «حتّى» ربّما تكون للغاية، بمعنى ما إليه الحركة، لا ما لأجله الحركة، و لازم ذلك البطلان و لو لم يكن قاصداً فيعارضه الأخبار الأُخر(2)، بل تكون الرواية حينئذٍ معرضاً عنها، فلا تغفل.

و لو صحّ ما في «المدارك» من ضعف جميع أخبار هذه المسألة إلّا الخبر المذكور(3)، فيلزم سقوط الكلّ، لأجل ما أُشير إليه، و لكنّه غير صحيح لما فيها المعتبر عندنا.

و من معتبر ابن الحجّاج أيضاً إلّا أنّه مثله دلالة، و من معتبر سماعة قال: سألته عن رجل لزق بأهله فأنزل، قال: «عليه إطعام ستّين مسكيناً، مدّ


1- الكافي 4: 102/ 4، تهذيب الأحكام 4: 206/ 597، وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 10: 97 101، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33.
3- مدارك الأحكام 6: 61 62.

ص: 255

بل لو لم يقصد حصوله، و كان من عادته ذلك بالفعل المزبور، فهو مبطل أيضاً (1).

لكلّ مسكين»(1).

و مقتضى إطلاقه أيضاً عدم اختصاص الحكم بصورة القصد، و حيث إنّ مقتضى الأدلّة الآتية في طي «المسألة 18» عدم مبطليّة المفطّرات في غير حال العمد فيقيّد الإطلاقات هنا.

فتحصّل أنّ اللعب بالمرأة المنتهى إلى الإمناء و سبق الماء، يوجب الفساد، إلّا أنّ الظاهر من أخبارها(2) اختصاص الفساد بصورة خاصّة، و هو اللّعب بالأفعال العاديّة دون مطلق الفعل، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «مبطل أيضاً».

و ذلك لطائفة من الأخبار كمعتبر زرارة و محمّد بن مسلم جميعاً، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه سُئل، هل يباشر الصائم أو يقبّل في شهر رمضان؟ فقال: «إنّي أخاف عليه فليتنزّه من ذلك إلّا أن يثق أن لا يسبقه منيّه»(3).

و معتبر ابن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): ما تقول في الصائم يقبّل


1- تهذيب الأحكام 4: 320/ 980، وسائل الشيعة 10: 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4.
3- تهذيب الأحكام 4: 271/ 821، وسائل الشيعة 10: 100، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 13.

ص: 256

الجارية و المرأة؟ فقال: «أمّا الشيخ الكبير مثلي و مثلك فلا بأس، و أمّا الشابّ الشبق فلا؛ لأنّه لا يؤمن، و القبلة إحدى الشهوتين»(1).

فإنّ قضيّة الأخبار الماضية و هذه المآثير، أنّ مجرّد الفعل غير كاف، بل لا بدّ و أن يكون منضمّاً إليه العادة، كما أنّ الفعل الذي هو الموجب بانضمام العادة، هو الفعل الخاصّ؛ لأنّه ممّا لا يؤمن منه، و لا يحصل فيه الوثوق و الاطمئنان فعند عدم حصول الوثوق لا بدّ من الاجتناب، و في ما كان الفعل ممّا يتعارف انتهائه إلى الإمناء لا يكون وثوق عادة و نوعاً، إذا كان من عادته ذلك.

و لأنّ مع الاعتياد لا يبعد صدق العمد عليه، و يعدّ من سوء الاختيار و الإهمال فيناسب حينئذٍ العمل بإطلاق ما مرّ من مثل معتبر ابن الحجّاج(2) و غيره(3) الناطق بالكفّارة على الإطلاق.

و يناقش، أوّلًا: في أصل الحكم بطائفة من الأخبار الصريحة في جواز ذلك في شهر رمضان مطلقاً، و أحسنها سنداً و دلالةً، ما في «المقنع» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) «لو أنّ رجلًا لصق بأهله في شهر رمضان فأمنى، لم يكن


1- الكافي 4: 104/ 3، وسائل الشيعة 10: 97، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 3.
2- تقدّم في الصفحة 254، الرقم 1.
3- تقدّم في الصفحة 254، الرقم 1 و 255، الرقم 1.

ص: 257

عليه شي ء»(1).

إلّا أنها لأجل ما سبق، و لضعف السند عندنا، و لعدم إمكان العمل بمضمونه، محمول على صورة عدم القصد أو عدم الاعتياد أو غير ذلك.

اللّهمّ إلّا أن يقال: دلالة الأخبار السابقة على المبطليّة غير واضحة، فيجوز أن يكون مكروهاً، و لكنّه بعيد إنصافاً.

و ثانياً: في اعتبار الأفعال الخاصّة ففي خبر أبي بصير، قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل وضع يده على شي ء من جسد امرأته فأدفق؟ فقال: «كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين ..»(2)، فإنّه صريح في أنّ فعلًا ما يكفي.

نعم، يقيّد إطلاقه بصورة العمد، و بما إذا لم يكن مأموناً، فلو كان يؤمن عليه، فلا بأس به لما مرّ.

اللّهمّ إلّا أن يضعّف الخبر أو يقيّد بصورة القصد، و لعمري أنّ هذه المسألة متشتّت الأخبار، و مضطرب الآثار، و تنقيحها يوجب الخروج عن وضع الكتاب الّذي هو على الاختصار، و لها موقف آخر، من شاء فليراجع


1- المقنع: 188 199، وسائل الشيعة 10: 98، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 4: 320/ 981، وسائل الشيعة 10: 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 5.

ص: 258

نعم، لو سبقه المنيّ من دون إيجاد شي ء يترتّب عليه حصوله- و لو من جهة عادته من دون قصد له لم يكن مبطلًا. (1) كتابنا الكبير(1).

قوله مدّ ظلّه: «لم يكن مبطلًا».

نظراً إلى أنّه من غير العمد موضوعاً، و غير لاحق به حسب الأخبار السابقة؛ لأنّ المفروض عدم اعتياده به.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الرابع من المفطرات.

ص: 259

[مسألة 3: لا بأس بالاستبراء بالبول أو الخرطات لمن احتلم في النهار]

مسألة 3: لا بأس بالاستبراء بالبول أو الخرطات لمن احتلم في النهار، و إن علم بخروج بقايا المنيّ الذي في المجرى إذا كان ذلك (1) قبل الغسل من الجنابة. و أمّا الاستبراء بعده، فمع العلم بحدوث جنابة جديدة فالأحوط تركه، بل لا يخلو لزومه من قوّة. (2) قوله مدّ ظلّه: «إذا كان ذلك».

لعدم حصول الجنابة الجديدة حتّى يقال بأنّ الإمناء الموجب للغسل مبطل بالإجماع السابق تنقيحه و حدّه(1)، و لعدم كفاية الأدلّة اللّبيّة و اللفظيّة عن منعه لو لم تكن السيرة الإجماليّة، و لا سيّما بالبول، على خلافه.

قوله مدّ ظلّه: «من قوّة».

نظراً إلى إجماع السلف، و قد عرفت بما لا مزيد عليه، فلا فرق بين الصورتين في الحكم على الأظهر.

و توهّم أنّه من الإمناء العمدي الممنوع(2)، و لو صحّ فهو أيضاً يوجب عدم الفرق بين الصورتين، مع ما عرفت من قصور الأدلّة.


1- تقدّم في الصفحة 252 253.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 248، ذيل الرقم 3.

ص: 260

و لا يجب (1) التحفّظ من خروج المنيّ بعد الإنزال إن استيقظ قبله، خصوصاً مع الحرج و الإضرار.

قوله مدّ ظلّه: «لا يجب».

شرطيّاً فيصحّ صومه لما مرّ، و لو أمكن الالتزام بوجوبه تكليفاً أو حرمة إدامة الخروج، نظراً إلى أنّه من الاستمناء الممنوع مثلًا.

و لذلك استشكل بعضهم في المسألة في كتاب الطهارة(1)، و لعمري أنّ أمثال هذه التوهّمات غير لائق بأمثال فقهائنا رضوان اللَّه تعالى عليهم.

قد تمّ الفراغ يوم الثلاثاء من الأُسبوع الأخير من شهر رمضان لعام 1394 هجري قمري في النجف الأشرف على صاحبها آلاف الثناء و التحيّة، و نسأل اللَّه أن يوفّقنا لإتمامه في سائر شهور الصيام إن شاء اللَّه تعالى(2).


1- العروة الوثقى 1: 283 فصل في غسل الجنابة، المسألة 7.
2- و قد سقط هنا عدة مسائل، و ما عثرنا عليه بعد ذلك هو السادس من المفطرات.

ص: 261

[السادس: تعمّد الكذب على اللَّه تعالى و رسوله]

اشارة

السادس: تعمّد الكذب (1) على اللَّه تعالى و رسوله.

قوله مدّ ظلّه: «الكذب».

على المشهور بين القدماء(1)، و ادّعي عليه الإجماع مراراً(2)، و نسب إلى العمانيّ(3) و السيّد في «جمله»(4) و إلى ابن إدريس(5)، و المحقّق في «الشرائع» و «معتبرة»(6) و إلى جملة من المتأخّرين(7)، عدمه.

و خالفهم أصحابنا المتأخّرين(8)، نظراً إلى أنّ هذه المسألة من المسائل المبتلى بها جدّاً.

و يبعد استنادهم فيها إلى الأخبار حتى يناقش فيها سنداً أو دلالة، مع أنّه لم يثبت نسبة الخلاف إلى السيّد، و لا سيّما بعد دعواه الإجماع(9).


1- المقنعة: 344، الكافي في الفقه: 179، النهاية 1: 388، الخلاف 2: 221، المسألة 85.
2- الانتصار: 62 63، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 11 12، جواهر الكلام 16: 224، مستمسك العروة الوثقى 8: 251.
3- حكاه عن العمّاني في مختلف الشيعة 3: 397.
4- رسائل الشريف المرتضى 3: 54.
5- السرائر 1: 376.
6- شرائع الإسلام 1: 173، المعتبر 2: 656 و 671.
7- تذكرة الفقهاء 6: 32، التنقيح الرائع 1: 363، مسالك الأفهام 2: 24، مدارك الأحكام 6: 46.
8- مستند الشيعة 10: 253، العروة الوثقى 2: 180، كتاب الصوم، الفصل الثاني في المفطرات، المسألة 18، جامع المدارك 2: 158.
9- الانتصار: 62 63.

ص: 262

و حيث إنّه من المسائل التي انفردت بها الإماميّة، و خالفهم الجمهور(1)، تكون الأخبار الظاهرة في أنّ الكذب ناقض الكمال لا الصحّة(2)، محمولة على التقيّة.

هذا و في الأخبار معتبر سماعة، قال: سألته عن رجل كذب في رمضان، فقال: «قد أفطر، و عليه قضاؤه» فقلت: فما كذبته؟ قال: «يكذب على اللَّه و على رسوله صلّى اللَّه عليه و آله»(3) و دلالته واضحة.

و المناقشة فيها(4) باشتمال بعض الأخبار على أنّ الكذبة تنقض الوضوء(5)، و أنّ الغيبة مفطر(6)، و أنّ النظرة و الظلم مفطر(7)،


1- الخلاف 2: 221، المغني 3: 35، المجموع 6: 312.
2- وسائل الشيعة 10: 33 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2.
3- تهذيب الأحكام 4: 189/ 536، وسائل الشيعة 10: 33، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 1.
4- مصباح الفقيه 14: 378.
5- تهذيب الأحكام 4: 203/ 585، وسائل الشيعة 10: 33، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 2.
6- كتاب النوادر: 23/ 12، وسائل الشيعة 10: 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 8 و 10.
7- إقبال الأعمال: 87/ السطر 1 2، وسائل الشيعة 10: 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 9.

ص: 263

و أمثاله(1)، ليست في محلّها، و إلّا يلزم الإشكال في وجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و غيرها، لاختلاف ألسنة أخبارها.

ثمّ إنّ توهين الخبر بوحدة السياق في الخبر الآخر(2) و لو كان جائزاً، و لكنّه بعد تماميّة صدور الجملة الناطقة بأنّ الكذبة تنقض الوضوء، و بعد تماميّة جهة الصدور، و بعد تماميّة الدلالة؛ و الأخبار التي تشتمل عليها(3)، بين ما لا يثبت به صدور الجملة المذكورة، و بين ما يحتمل كونها تقيّة؛ لذهاب العامّة إلى نواقض الوضوء غير ما عندنا، و يجوز أن يكون الكذبة منها و إن لم يذكر عنهم، و بين ما يحتمل أن يكون المراد من الوضوء نفس الصوم، لأنّه طهور كما عن بعض المراسيل(4)، و يساعده الاعتبار.

هذا مع أنّ عدم ذهاب الكلّ إلى ناقضيّة الكذبة يورث الإجمال،


1- مستدرك الوسائل 7: 322، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 1.
2- مصباح الفقيه 14: 378 381.
3- الكافي 4: 89/ 10، تهذيب الأحكام 4: 203/ 586، كتاب النوادر: 24/ 14، وسائل الشيعة 10: 33 34 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 2 و 3 و 5 و 7.
4- الفقيه 2: 56/ 1.

ص: 264

فلا يبقى لتلك الأخبار وجه لصالحيّتها للقرينة بالنسبة إلى معتبر سماعة، و معتبر ابن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «إنّ الكذب على اللَّه، و على رسوله، و على الأئمّة (عليهم السّلام (يفطر الصائم»(1) فلا تخلط.

بقي شي ء: في المراد من تعمّد الكذب تعمّد الكذب هو الكذب العمدي الصادر عن العالم بالكذب، و من المحرّر في محلّه: أنّ العالم بالكذب لا يتمكّن من الكذب، و من الإذعان بالقضيّة، و من الإخبار عن الواقع(2)، كما لا يعقل أن يخاف الإنسان من الأسد مع العلم بالعدم، فالمراد من التعمّد هو التشبّه بالعمد و تصنّع العمد، كما هو مقتضى هيئة باب التفعّل، أو يكون المراد من العمد هنا شبه العمد؛ لأنّ عمد الكذب لا يرجع إلّا إليه.

فالإشكال الصغروي بأن الكذب العمدي مفطر، و لا مصداق له، و ما هو له المصداق ليس بمفطر حتّى الهزل، كما يأتي عنهم، ينحلّ بذلك، و أمّا التشبّث لحلّ معضلة المسألة عقلًا، بما في المفصّلات، فكلّه خال عن


1- الفقيه 2: 67/ 277، وسائل الشيعة 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 4.
2- لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الخامس من المفطرات.

ص: 265

و الأئمّة (عليهم السّلام) (1) على الأقوى التحصيل، و من شاء فليراجع.

قوله مدّ ظلّه: «و الأئمّة (عليهم السّلام)».

إجماعاً قطعيّاً، و يدلّ عليه معتبر ابن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «إنّ الكذب على اللَّه، و على رسوله، و على الأئمّة (عليهم السّلام (يفطر الصائم»(1).

و القدر المتيقّن من الكذبة على اللَّه، و على الرسول، و عليهم (عليهم السّلام)، هو ما إذا كانت المسائل التشريعيّة الإسلاميّة، و تكون الكذبة على اللَّه أصل الشرع، و صاحب الشريعة، دون غيره، و إذا كانت الكذبة على غيره راجعة إليه تعالى، موجب للبطلان، و الرجوع إليه ليس قهريّاً، بل لا بدّ من القصد و الإرادة و إلّا فلا تحصل النسبة و الكذبة، كما لا يخفى.

و عليه لا يكون فرق بينهم (عليهم السّلام)، و بين فاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها و الفقهاء و غيرهم من هذه الجهة، و كلّ ذلك لأنّ الخبر الناطق بمفطريّة الكذبة ليس له الإطلاق ظاهراً؛ لأنّ النظر فيه و في ما يشبهه إلى أبناء العامّة القائلين بعدم المفطرية، و المفتين في الإسلام على خلاف موازين الإفتاء، و ناسبين الأحكام في الفتوى إلى صاحب الإسلام،


1- الفقيه 2: 67/ 277، وسائل الشيعة 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 4.

ص: 266

و كذا باقي الأنبياء و الأوصياء (عليهم السّلام) على الأحوط، من غير فرق بين كونه في الدين أو الدنيا. (1) و ربّ الشرع.

هذا، مع أنّ أخذ الرسول بعنوان الرسالة، و الأئمّة بعنوان الإمامة، يشعر بما يرتبط بالعنوانين، دون ما هو خارج عنهما، فلو كان واحد يكذب على الرسول (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و يقول: «إنّه تسرّع في حكم كذا، و ليس من الوحي» فبطلان صومه ممنوع إلّا إذا كان قوله ردّة، و بطلان الصوم بالردّة بحث آخر، ربّما يمكن تصحيحه بالتوبة إذا لحقته فوراً، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «أو الدنيا».

على المعروف بينهم(1)، خلافاً لما نسب إلى صاحب «الكشف»(2) (قدِّس سرُّه) و هو قويّ جدّاً؛ ضرورة أنّه مضافاً إلى ما مرّ من عدم ثبوت الإطلاق جدّاً، لا يجوز أن يلتزم أحد بأنّ نسبة الضحك و البكاء على الرسول (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (حين الولادة، و حين ما كان مثلًا في القماط، أو نسبة أنّ قماطه كان أبيض أو أسود أو كونه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (كان يضرب بكذا، و هكذا سائر الأئمّة و غيرهم، من


1- تحرير الأحكام 1: 78/ السطر 1، منتهى المطلب 2: 565/ السطر 9 10، مصباح الفقيه 14: 381 382، العروة الوثقى 2: 180 181، كتاب الصوم، في المفطرات، المسألة 18.
2- كشف الغطاء: 321/ السطر الأخير، جواهر الكلام 16: 226.

ص: 267

و بين كونه بالقول أو بالكتابة أو الإشارة أو الكناية، و نحوها ممّا يصدق عليه (1) الكذب عليهم (عليهم السّلام). فلو سأله سائل: هل قال النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم) كذا؟ فأشار: نعم في مقام لا، أو لا في مقام نعم، بطل صومه (2). و كذا لو أخبر صادقاً عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، ثمّ قال: ما أخبرت به عنه كذب، أو أخبر عنه كاذباً في الليل، ثمّ قال- في النهار: إنّ ما أخبرت به في الليل صدق، فسد صومه (3)، المفطر المبطل للصوم و لو كان محرّماً و أحياناً موجباً للارتداد، فلا تخلط، و كن على بصيرة من أمرك.

قوله مدّ ظلّه: «ممّا يصدق».

و هو لا يحصل إلّا في صورة الإرادة و القصد، فلو كان الكلام بحسب النوع كنائيّاً، و لكنّه لم يقصد به النسبة و الإخبار عن المكنى عنه، لا يفطر، لما لا يتحقّق به الإخبار و الكذب.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

بشرط كونه ممّا يرجع إلى الدين، و يريد الإخبار و الكذب على صاحب الدين و أصل الشرع.

قوله مدّ ظلّه: «فسد صومه».

إلّا إذا كان النظر إلى إفادة أنّه صادق أو كاذب، و لا يكون مقصوده مؤن المنجر به، فإطلاق الفرعين ممنوع.

ص: 268

و الأحوط عدم الفرق بين الكذب عليهم في أقوالهم أو غيرها (1). كالإخبار كاذباً بأنّه فعل كذا أو كان كذا، و الأقوى عدم ترتّب الفساد مع عدم القصد الجدّي (2) إلى الإخبار بأن كان هازلًا أو لاغياً.

قوله مدّ ظلّه: «أو غيرها».

ممّا يرجع إلى الأحكام دون العادات و الآداب، كما إذا أخبر بأنّه (عليه السّلام) عند ما كان ابن خمس سنين يحبّ الرمّان، أو لا يأكل المرق، و هكذا بالقياس إلى عصر إمامتهم (عليهم السّلام)، و لعمري إنّه من يتدبّر في ما يستلزم فتواهم هنا يطمئنّ بأن الكذبة المفطرة مخصوصة بالمسائل الخاصّة.

قوله مدّ ظلّه: «القصد الجدّي».

قد مرّ أنّ القصد الجدّي الحاصل في أكل الربا و شرب الخمر، لا يحصل في الكذبة بعد العلم بكذبها، و ما يحصل من الكاذب هو التصنّع بالجدّ، و الهازل و الكاذب بالجدّ غير مفترق إلّا في الأغراض، مثلًا إذا كان رجل يكذب ثمّ يسأل عنه: هل أنت صادق؟ فيخبر بصدقه، فإنّه لا يكون إخباراً جدّيّاً إلّا أنّه يتمثّل الجدّ.

و بالجملة: عدم مبطليّة الكذبة عن هزل لقصور الإطلاق، و لذلك احتاط فيه بعض الأصحاب(1).


1- كشف الغطاء: 322/ السطر 1 2.

ص: 269

[مسألة 4: لا فرق بين أن يكون الكذب مجعولًا له أو لغيره]

مسألة 13: لا فرق بين أن يكون الكذب مجعولًا له أو لغيره (1). كما إذا كان مذكوراً في بعض كتب التواريخ، أو الأخبار إذا كان على وجه الإخبار، نعم لا يفسده إذا كان على وجه الحكاية و النقل من شخص أو كتاب.

[السابع: رمس الرأس في الماء على الأحوط]

اشارة

السابع: رمس الرأس في الماء على الأحوط. (2) قوله مدّ ظلّه: «أو لغيره».

غير خفيّ أنّ ما هو المجعول لغيره لا يمكن أن تناله يد الجعل ثانياً، فلا محالة إذا حكاه يستند إلى الغير، و لو لم يستند إليه يكون كذباً آخر مجعولًا له إلّا أنّه مماثل مع الكذبة المجعولة في الكتاب، و الأمر سهل.

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

وفاقاً للأكثر(1)، بل قيل هو المشهور(2)، و عليه دعوى الإجماع(3)، خلافاً للجمهور من العامّة(4)، و ذهب «الاستبصار» و ابن إدريس و «الشرائع» و «المعتبر» إلى التحريم بلا فساد(5).


1- المقنعة: 344، النهاية 1: 396، المبسوط 1: 270، الخلاف 2: 221، جواهر الكلام 16: 227 228.
2- جواهر الكلام 16: 227، مستمسك العروة الوثقى 8: 262.
3- الانتصار: 62 63، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 11 12.
4- تذكرة الفقهاء 6: 33، المجموع 6: 348/ السطر 8 9.
5- الاستبصار 2: 85، ذيل الحديث 263، السرائر 1: 386 387، شرائع الإسلام 1: 173، المعتبر 2: 656.

ص: 270

و عن جمع: يكره الارتماس(1)، وفاقاً لطائفة من العامّة(2).

و يحتمل عدم الكراهة، فتكون النواهي إرشاداً إلى المنقصة في الصوم كالصلاة في الحمّام، و حيث إنّ العبرة بروايات الباب(3)، فهي ظاهرة في الإرشاد إلى الفساد حسب الأصل المحرّر، إلّا أنّه هناك بعض القرائن المقتضية لكون النواهي الصريحة محمولة على التكليف، لا الوضع؛ و ذلك لوحدة السياق، كما في معتبر حريز: «لا يرتمس الصائم، و لا المحرم رأسه في الماء»(4).

و لقوله (عليه السّلام)- على ما في خبر عبد اللَّه بن سنان، عنه (عليه السّلام): «يكره للصائم أن يرتمس في الماء»(5).


1- تهذيب الأحكام 4: 209، ذيل الحديث 605، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، مستند الشيعة 10: 262، مستمسك العروة الوثقى 8: 263.
2- حكاه عنهم في تذكرة الفقهاء 6: 33، المغني و الشرح الكبير 3: 45/ السطر 8 9 و 24 25.
3- وسائل الشيعة 10: 35 38، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3.
4- تهذيب الأحكام 4: 203/ 588، وسائل الشيعة 10: 38 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 8.
5- تهذيب الأحكام 4: 209/ 606، وسائل الشيعة 10: 38 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 9.

ص: 271

و لمعتبر إسحاق بن عمار الناطق بالصحّة و عدم لزوم القضاء(1)، فهو و ذان شواهد قطعيّة على صرف الظواهر من الإرشاد إلى التحريم أو التنزيه.

و حيث إنّ هناك معتبر محمّد بن مسلم الحاصر السابق(2)، الظاهر في مفطريّة الارتماس، يلزم التعارض بينه و بين معتبر إسحاق بن عمار، فيكون المرجع خبر ابن مسلم؛ لمخالفته للعامّة، فيكون الشاهد على صرف تلك الظواهر، ساقطاً، و شهادة رواية ابن سنان ممنوعة، لضعفها سنداً و دلالة.

و حديث وحدة السياق لا يقتضي أن يكون الارتماس غير مبطل، لإمكان كونه حراماً و مبطلًا كما لا يخفى.

نعم ربّما يتوهّم أنّ دلالة معتبر ابن مسلم الحاصر على البطلان، ليست وضعيّة، بل هي إطلاقيّة سياقيّة، فيمكن الجمع بينه و بين خبر إسحاق عرفاً(3)، فلا تصل النوبة إلى المعارضة، ضرورة أنّ الارتماس


1- عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللَّه( عليه السّلام): رجل صائم ارتمس في الماء متعمّداً، عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: ليس عليه قضاؤه و لا يعودن. تهذيب الأحكام 4: 209 210/ 607، وسائل الشيعة 10: 43، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 6، الحديث 1.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- مستمسك العروة الوثقى 8: 263.

ص: 272

يجوز أن يكون مضرّاً، و موجباً لنقصان الصوم فقط.

و لأجل ذاك و ذلك احتاط الماتِن و جمع من المعاصرين(1).

كما أنّ لأجل إمكان الخدشة في سند خبر إسحاق- لوجود عمران بن موسى فيه اشتهر القول بالبطلان، لضعف الشواهد الأُخر على صرف الظواهر، بعد تأييدها بما في الحصر المستفاد من خبر ابن مسلم(2).

و لكن بعد اللتيا و التي الأخذ بمدلول الحصر، و ظهوره في البطلان، بعد اعتبار خبر إسحاق، مشكل.

و حمل النواهي على التحريم غير جائز؛ لأنّ الارتماس في الصوم غير الواجب المعيّن ليس بحرام قطعاً، و حمل الأخبار عليه بلا شاهد، و حملها على التنزيه أيضاً غير وجيه، لقوله (عليه السّلام) في خبر إسحاق بن عمار «و لا يعودن» الظاهر في النهي عن العود، و هكذا بعض الأخبار الأُخر الظاهرة في غير الكراهة المصطلحة(3) المحمول كلّها على الإرشاد إلى أنّ الارتماس موجب للمنقصة في الصوم، فلا يكون مكروهاً حسب الاصطلاح.


1- العروة الوثقى 2: 183، السابع من المفطرات، وسيلة النجاة: 137، فصل فيما يجب الإمساك عنه، المسألة 13.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- وسائل الشيعة 10: 35 38، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3.

ص: 273

و لو مع خروج البدن. (1) و هناك بعض الشواهد الأُخر على ما أبدعنا محرّر في كتابنا الكبير(1).

و منها: أنّ الذوق السليم، و الفهم المستقيم حول الأوامر و النواهي الصادرة حول المركّبات الشرعيّة، بين ما هي إرشاد إلى الشرطيّة و المانعيّة، فتكون تلك المركّبات باطلة عند الاختلال، و بين ما هي إرشاد إلى حصول المنقصة في المركّب بارتكاب المنهي عنه أو بترك المأمور به.

و أمّا حرمة نفس المنهي عنه أو كراهته أو وجوب نفس المأمور به أو استحبابه على وجه يكون المركّب ظرفاً لهما، فهو مضافاً إلى شبهة في إمكانه- لعدم تماميّة القضايا الحينيّة في الاعتباريّات مطلقاً أنّه غير موافق لفهم العرف جدّاً، فالصلاة و الصوم هنا واحد من هذه الجهة، فكما أنّ نواهيها الواردة في نواحيها المختلفة ترجع إلى قلّة ثوابها في ضميمة تلك الخصوصيّة، كذلك نواهي الصوم ترشد إلى نقصان الصوم درجة، و ثواباً، و أثراً معنويّاً، و غير ذلك، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «البدن».

و عن الميسي عدم البطلان(2)، و عن «الدروس» التوقّف فيه(3)،


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، السابع من المفطرات.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 264.
3- الدروس الشرعيّة 1: 278.

ص: 274

و لا يلحق المضاف (1) بالمطلق، نعم لا يترك الاحتياط في مثل الجلّاب، خصوصاً مع ذهاب رائحته، و لا بأس بالإفاضة.

و الوجه انصراف الأخبار إلى ما هو المعتاد و أنّه لو كان باطلًا الصوم به، يلزم كون الارتماس المستند في الأخبار إلى الشخص، مبطلًا، و المستند إلى الرأس كما في معتبر ابن مسلم قال: «و لا يغمس رأسه في الماء»(1)، مبطلًا آخر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: قضيّة الصناعة رفع الإبهام و الإجمال في الخبر الأوّل بما في الخبر الثاني، فيكون ارتماس البدن، من الحجر في جنب الإنسان.

قوله مدّ ظلّه: «المضاف».

و عن الشهيد: إنّ في حكم الماء مطلق المائع و إن كان مضافاً(2)، و عن صاحب «الكشف» إلحاق خصوص المضاف بالمطلق(3)، فقول الشهيد: «و إن كان مضافاً» في غير محلّه، لأنّه أولى بالإلحاق من مطلق المائع.

و لو كان مجرّد الارتماس، يلزم بطلان الصوم بالرمس في التراب،


1- الكافي 4: 106/ 3، تهذيب الأحكام 4: 262/ 785، وسائل الشيعة 10: 36، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 2.
2- مسالك الأفهام 2: 16.
3- كشف الغطاء: 320/ السطر 12.

ص: 275

و نحوها ممّا لا يسمّى رمساً (1) و إن كثر الماء، بل لا بأس برمس البعض و إن كان فيه المنافذ، و لا بغمس التمام على التعاقب بأن غمس نصفه، ثمّ أخرجه، و غمس نصفه الآخر.

كما هو مقتضى اللغة، فالحكم في غير المطلق بلا وجه جدّاً، و لا معنى لإلغاء الخصوصيّة بعد اختصاص الحكمة بالماء.

نعم احتمال عدم مبطليّة الارتماس في الماء الحارّ الفائر غير بعيد، لدعوى الانصراف، و لمناسبة الحكمة له.

قوله مدّ ظلّه: «رمساً».

أو شكّ في الصدق، نعم إذا كان الماء المفاض على وجه إذا يدخل الصائم فيه يستولي عليه فيغشيه، فإنّه لا يبعد صدق الارتماس، لعدم اشتراط الارتماس بكون المرتمس وارداً عليه من السطح العالي، و لذلك لو ألقى عليه مقدار من الماء بحيث يرمسه، و يحتويه دفعة، يصدق الارتماس عليه.

ص: 276

[مسألة 5: لو ارتمس الصائم مغتسلًا]

مسألة 14: لو ارتمس الصائم مغتسلًا، فإن كان تطوّعاً أو واجباً موسّعاً بطل صومه (1)، و صحّ غسله. و إن كان واجباً معيّناً، فإن قصد الغسل بأوّل مسمّى الارتماس بطل صومه و غسله، على تأمّل (2) فيه.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

على المبنى الذي عرفت فيه، و في صحّة غسله إشكال ناشئ عن النواهي المطلقة عن ارتماس الصائم، بناء على كونها محرّمة، بل و مكروهة على الإطلاق، و لكن عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

قوله مدّ ظلّه: «صومه و غسله على تأمّل».

أمّا الصوم فربّما يبطل بنفس القصد، بناء على أنّ نيّة القطع قاطعة كما عرفت أنّه الأحوط(1)، و أمّا بطلان الغسل فهو ممنوع، لأنّ الارتماس منهي بالنواهي الإرشاديّة حسب مبناهم، و لا يقولون بأنّه محرّم في ذاته حتّى يلزم أن يكون من الإفطار بالمحرّم، فما هو سبب عصيان العبد تركه الواجب المعيّن بإبطاله بالارتماس، فالغسل صحيح، و لا سيّما إذا قلنا بأنّ نيّة القاطع قاطعة، فلا يكون الارتماس من باب المقدميّة لترك الواجب ممنوعاً أيضاً لو قلنا به، مع أنّه كلام غير متين محرّر في محلّه(2)، فتأمّل


1- تقدّم في الصفحة 232 234.
2- تحريرات في الأُصول 3: 283 323.

ص: 277

و إن نواه بالمكث أو الخروج صحّ غسله (1)، دون صومه في غير شهر رمضان، و أمّا فيه فيبطلان معاً. (2) الماتن في غير محلّه، و فتواهم بالبطلان(1) أسوأ حالًا منه.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ غسله».

بناء على ما هو المعروف عنهم في كفايته لصحة الغسل(2)، و إلّا فللمناقشة- من جهة لزوم الولوج في الماء، و لا يكفي حين الخروج وجه محرّر في محلّه(3)، و أمّا وجه التقييد بغير شهر رمضان سيظهر من الفرض الآتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «فيبطلان معاً».

أمّا بطلان الصوم فحسب الفرض، و أمّا بطلان الغسل فبتوهّم أنّ الخروج و المكث مبغوضان أو محرّمان، و على كلّ تقدير لا يصلحان ليتحقّق بهما العبادة؛ ضرورة أنّ المفروض دخوله و ارتماسه عمدي، فما يترتّب عليه تصحّ العقوبة عليه.

و لو كان خارجاً عن الاختيار؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي جواز العقاب،


1- العروة الوثقى 2: 186، فصل فيما يجب الإمساك عنه في الصوم، المسألة 43.
2- العروة الوثقى 1: 295 297، في الغسل الارتماسي.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، السابع من المفطرات.

ص: 278

بل و الخطاب، و لا سيما على ما هو المحرّر من قانونيّة الخطابات(1)، و لذلك كان الأقوى محرميّة الخروج و المكث خطاباً و عقاباً.

و لكن ممّا يؤسف عليه، أجنبيّة هذه المسألة عمّا نحن فيه؛ ضرورة أنّ المفطر هو الارتماس، و قد مرّ(2) أنّه ليس بحرام تكليفاً و لو كان ما هو الواجب الاجتناب عنه بعد بطلان الصوم بعنوان التأديب، هو المفطر و هو الارتماس، فلا يكون البقاء و المكث من المفطر بالضرورة؛ لأنّ ما هو المفطر هو المعنى الحدثي الآني المتحقّق، و قد زال و انعدم بعد الارتماس.

فما في «العروة الوثقى»(3) و غيره(4)، و ما سلكه المحشّون نوعاً أو كلّا، خال عن التحصيل، فالغسل حال الخروج، و المكث يصحّ إلّا على القول بلزوم الولوج في صحّته على ما تحرّر في كتاب الطهارة، و لا وجه لتوهّم النهي عنه.

ثمّ إنّ الحقّ: صحّة الغسل و لو كان الارتماس محرّماً تكليفاً أو مكروهاً كما هما القولان في المسألة؛ لأنّ بين العنوانين عموم من وجه،


1- تحريرات في الأُصول 3: 449 455.
2- تقدّم في الصفحة 272 273.
3- العروة الوثقى 2: 186، فصل، المسألة 44.
4- وسيلة النجاة: 137، فصل، المسألة 15.

ص: 279

إلّا إذا تاب (1) و نوى الغسل بالخروج، فإنّه صحيح حينئذٍ.

فيكون كمسألة الصلاة في الدار الغصبيّة.

و توهّم أنّ الغسل الارتماسي مورد الأمر ممنوع، بل المأمور به هو الغسل، و الارتماسي أحد مصاديقه، و الترتيبي مصداق آخر له.

ثمّ إنّه إذا قلنا بأنّ الارتماس مبطل، و حرام تكليفاً فالصحّة أيضاً معلومة، لما عرفت آنفاً، فعلى جميع التقادير لا فرض يفسد فيه الغسل.

نعم، قد ذكرنا في تنبيهات التوصّلي و التعبّدي: أنّ في صورة تمكّن العبد من امتثال الواجب أو المستحبّ الغير الملازم مع المحرّم، لا يبعد حكم العرف بلزوم ذلك كشفا نوع تقييد في المأمور به(1)، و لكنّه هنا لا ينفع؛ لأنّ الارتماس على رأينا واضح، و على رأيهم مفسد، و ليس من المحرّم التكليفي بعنوانه، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا إذا تاب».

ذلك لما أُشير إليه من أنّ بعد الارتماس العمدي الممنوع، يكون المكث و الخروج مورد العقاب، و إذا كان واجباً الخروج، و محرّماً المكث، فالغسل حين المكث غير نافذ.

و أمّا إذا تاب عمّا صنعه فلا يستحقّ العقوبة بالنسبة إلى المكث حين


1- تحريرات في الأُصول 2: 184 188.

ص: 280

[الثامن: إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق]

الثامن: إيصال الغبار (1) الغليظ إلى الحلق، بل و غير الغليظ على الأحوط.

الخروج، و بالنسبة إلى الحركة الخروجيّة، فإذا غسل حينها يصحّ، و لكن كلّ ذلك ممّا لا ينبغي.

و كفاية التوبة بالنسبة إلى نفي الاستحقاق في مثل الخروج عن الأرض المغصوبة، محلّ إشكال؛ لأنّ من شرائط التوبة إمكان ترك المنهي عنه، و هو هنا منتف.

قوله مدّ ظلّه: «إيصال الغبار».

إجماعاً كما عن «الناصريّة» و «الغنية» و «السرائر»(1) و غيرها(2)، و قيل على المشهور شهرة عظيمة، كادت تكون إجماعاً؛ إذ لم يعرف مخالف فيه صريحاً إلى الأزمنة المتأخّرة(3).

و الذي يظهر لي: أنّ خلو كتب «الخلاف» و «التذكرة» في المقام عن نقل الإجماع(4)، و صريح «الشرائع» نسبة الخلاف في المسألة(5)، و خلو


1- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 242، المسألة 129، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 8 12، السرائر 1: 377.
2- التنقيح الرائع 1: 357، نهج الحق و كشف الصدق: 461، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 44 45.
3- مستمسك العروة الوثقى 8: 259.
4- الخلاف 2: 177، تذكرة الفقهاء 6: 25.
5- شرائع الإسلام 1: 170.

ص: 281

كلمات الصدوق، و المفيد، بل و الشيخ في «المصباح» و سلّار في «المراسم» و هكذا السيّد(1)، يشعر بأنّ المسألة ليست إجماعية، و لا مشهورة و إنّما الشهرة أُخذت في كلمات المتأخّرين ك «الحدائق» فإنّه استظهر أنّه المشهور(2).

فلمّا وصلت النوبة إلى «الجواهر»(3) فقال ما قال من غير تأمّل في كلمات القوم، فإنّ مثل الشيخ في «الخلاف» مع أنّ دابة على نقل الإجماع، تمسّك بالأخبار(4).

و ممّا يشهد على عدم تأمّلهم نقلهم الإجماع(5) عن «التذكرة» و هي فاقدة له(6)، فراجع.

نعم الجمهور قالوا بعدم المبطليّة(7)، و هو الأقرب، كما عليه كثير


1- المقنع: 188 191، المقنعة: 303 و 344 و 345، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، مصباح المتهجّد، الجزء الثالث: 484 485، المراسم: 98.
2- الحدائق الناضرة 13: 72.
3- جواهر الكلام 16: 232 233.
4- الخلاف 2: 177.
5- مستند الشيعة 10: 227، مستمسك العروة الوثقى 8: 259.
6- تذكرة الفقهاء 6: 25.
7- المغني 3: 39 41، الشرح الكبير 3: 50، المجموع 6: 327، المبسوط، السرخسي 3: 98/ السطر 14.

ص: 282

من المتأخّرين(1)، و هو ظاهر جمع من الأقدمين(2).

فإذا لم تكن الشهرة تامّة فالخبر(3) المستدلّ به(4)، مضافاً إلى ضعف سنده لإضماره، غير معمول به، لذهاب بعضهم أو كثير منهم إلى القضاء دون الكفّارة(5)، و فيه الكفّارة شهرين متتابعين.

هذا مع أنّ تقييد الغبار بالغليظ غير موجود في «الشرائع»(6) و في الخبر المذكور.


1- مجمع الفائدة و البرهان 5: 53 54، مفاتيح الشرائع 1: 248، الحدائق الناضرة 13: 72.
2- المقنع: 188 191، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، المراسم: 98.
3- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
4- استدلّ به في منتهى المطلب 2: 565، المسألة التاسعة. عن سليمان بن جعفر المروزي قال: سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمّداً أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتاً فدخل في أنفه و حلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطر مثل الأكل و الشرب و النكاح. تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
5- المقنعة: 359، الكافي في الفقه: 183، السرائر 1: 377، مجمع الفائدة و البرهان 5: 84.
6- شرائع الإسلام 1: 170.

ص: 283

و إن كان الأقوى خلافه (1)، سواء كان الإيصال بإثارته بنفسه بكنس أو نحوه، أو بإثارة غيره أو بإثارة الهواء مع تمكينه من الوصول، و عدم التحفّظ.

و لعلّ القائلين بالبطلان يعتقدون أنّه من الأكل فاعتبروا الغلظة، لأنّ في غير هذه الصورة يشكّ في حصوله.

فبالجملة: لو كان مثل الغبار مبطلًا، و هو مورد الابتلاء جدّاً، لبان حكمه و لاشتهر بينهم، فالحصر الظاهر من معتبر ابن مسلم(1) محكم.

و توهّم(2) جبران الضعف بتلك الشهرة، أو الشهرة الروائيّة فاسد، محرّر تفصيله في الأُصول(3).

و الشهرة الفتوائيّة العمليّة جابرة، و هي ممنوعة أيضاً فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «خلافه».

نظراً إلى أنّ الرقيق منه مورد السيرة القطعيّة، و الغليظ منه متعارف في كنس البيت الوارد فيه الخبر، فيكون في حكم المقيد.


1- عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر( عليه السّلام) يقول: لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب، و النساء، و الارتماس في الماء. تهذيب الأحكام 4: 189/ 535، وسائل الشيعة 10: 31، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1.
2- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 45 46، مستمسك العروة الوثقى 8: 259 260.
3- تحريرات في الأُصول 6: 388 403.

ص: 284

و فيما يعسر التحرّز عنه تأمّل، (1) و إلى أنّ المشهور المدّعى قالوا به في مورد الغليظ(1)، و إن كان كلام «الشرائع» خالياً و فارغاً عنه(2) إلّا أنّه لا يضرّ.

و إلى أنّ خبر ابن سعيد(3) يصرّح بجواز الغبار الداخل في الحلق، المحمول على الرقيق.

و الحكم بالبطلان في الفروض المذكورة كلّها، لصدق الإيصال، مع أنّ في الخبر الذي استندوا إليه ليس عنوان الإيصال، قال: «أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه و حلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين ..»(4) الحديث.

قوله مدّ ظلّه: «تأمّل».

إمّا لعدم صدق الإيصال، أو لأنّ المنصرف من الخبر غير ذلك، أو لأنّ القدر المتيقّن من الإجماع و الشهرة غير هذه الصورة، أو لأنّ السيرة


1- المبسوط 1: 271، المعتبر 2: 654، تذكرة الفقهاء 6: 25.
2- شرائع الإسلام 1: 170.
3- عن عمرو بن سعيد، عن الرضا( عليه السّلام) قال: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: جائز، لا بأس به، قال: و سألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: لا بأس. تهذيب الأحكام 4: 324/ 1003، وسائل الشيعة 10: 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 2.
4- تقدّم في الصفحة 282، الرقم 4.

ص: 285

و لا بأس به مع النسيان (1) أو الغفلة، أو القهر الرافع للاختيار، أو تخيّل عدم الوصول، إلّا أن يجتمع في فضاء الفم، ثمّ أكله (2) اختياراً، قائمة على عدم التحرّز في مورد التعسّر.

قوله مدّ ظلّه: «مع النسيان».

لا وجه لذكر هذه الفروع هنا، لما يأتي اختصاص المفطريّة بصورة العمد، و العلم بالموضوع.

قوله مدّ ظلّه: «ثمّ أكله».

غير خفيّ أنّ إيصال الغبار إلى الحلق بعنوانه مفطر، لا من باب صدق الأكل، فهذا التفريع في غير محلّه.

ثمّ إنّه من هنا يظهر: أنّ ما في الخبر كما أُشير إليه، ناظر إلى وصول الغبار، و دخوله قهراً، و في حال الكنس من غير توسّط الازدراد.

نعم، هو اختياري بالقياس إلى المبادي البعيدة كالكنس و نحوه.

و يؤيّد ذلك أنّه قال المخبر في ذيل الخبر: «شهرين متتابعين فإنّ ذلك له طر(1) مثل الأكل و الشرب و النكاح»(2).


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621.
2- تقدّم في الصفحة 282، الرقم 4.

ص: 286

و الأقوى عدم لحوق البخار (1) به قوله مدّ ظلّه: «عدم لحوق البخار».

خلافاً للمحكي عن المتأخّرين(1)، حيث ألحقوه به إذا كان غليظاً.

و عن «المدارك»(2) و جمع من المتأخّرين(3) المناقشة فيه، بل عن «التنقيح» الجزم بعدمه(4).

و قال في «العروة»: «الأقوى إلحاق البخار الغليظ»(5).

و الذي هو المستند توهّم إلغاء الخصوصيّة، و أنّ البخار الغليظ أقوى في التأثير في البدن، فيكون أقرب إلى المنع، فلو كان الغليظ من الغبار ممنوعاً، فهو مثله.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الوصول إلى الحلق لمثل الغبار يحرم، بخلاف البخار، فإنّه ليس بحرام في نفسه.

أو يقال: إنّ الوصول إلى الحلق ليس بمحرّم، و لو كان تراباً؛ لأنّ الأكل حرام، و لازم ما ذكره القوم و التزموه بطلان الصوم بالوصول إلى الحلق، و لو


1- جامع المقاصد 3: 70، مسالك الأفهام 2: 17، مدارك الأحكام 6: 52 53.
2- مدارك الأحكام 6: 53.
3- كفاية الأحكام: 46/ السطر 18، ذخيرة المعاد: 499/ السطر 29، الحدائق الناضرة 13: 75.
4- التنقيح الرائع 1: 358، مستمسك العروة الوثقى 8: 261.
5- العروة الوثقى 2: 183، المسألة 29.

ص: 287

إلّا إذا انقلب في الفم ماء و ابتلعه (1)، كما أنّ الأقوى عدم لحوق الدخان (2) به أيضاً، نعم، يلحق به شرب الأدخنة على الأحوط. (3)

[التاسع: الحقنة]

التاسع: الحقنة.

أرجعه إلى الخارج كما هو متيسّر أحياناً، و هذا أيضاً من مبعدات مرامهم في المسألة.

و توهّم أنّه لو أرجعه يكون من القي ء، لا يخلو عن تأسّف.

قوله مدّ ظلّه: «و ابتلعه».

هذا أيضاً خروج عن فروع هذه المسألة، كما عرفت.

قوله مدّ ظلّه: «الدخان».

قد مرّ وجه اللحوق و عدمه في ذيل المسألة الأخيرة، و يؤيّد عدم اللحوق، مضافاً إلى قصور الأدلّة المقتضية للحوقه به، وجود الدخنة في رواية ابن سعيد، عن الرضا (عليه السّلام)، قال: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه قال: «جائز لا بأس به»(1).

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

و ذلك إمّا لأجل أنّه من الغليظ الملحق بالغبار الغليظ، لإلغاء الخصوصيّة أو لأجل صدق الشرب فعلًا، و في عصرنا، أو لأجل تنافيه في


1- تقدّم في الصفحة 284، الرقم 3.

ص: 288

في محيط المتشرّعة للصوم و الإمساك، أو لأجل أنّ المستفاد من الأدلّة ممنوعيّة الإدخال في الجوف، كما سيظهر تقريبه في ذيل المسألة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

و أمّا توهّم أنّ شرب الأدخنة لا يدخل في المعدة، و لا في المري، فلا يلحق بالأُمور السابقة، فهو في غير محلّه؛ لأنّه و إن يدخل قصبة الرئة إلّا أنّه يدخل في الحلق أولًا، ثمّ من الحلق ينقسم مجرى الهواء، و مجرى الغذاء، و قد عرفت أنّ الإيصال إلى الحلق مورد المنع، فإذا التحق بالغبار التدخين فالمنع لأجل ذلك، أو لأجل أنّ الإدخال في الجوف ممنوع، فلا فرق بين المجريين.

ص: 289

[كتاب المكاسب و المتاجر]

اشارة

كتاب المكاسب و المتاجر و هي أنواع، نذكرها و نذكر المسائل المتعلِّقة بها في طيِّ كتب:

ص: 290

ص: 291

[مقدمة تشتمل على مسائل]

اشارة

مقدمة تشتمل على مسائل(1)

[مسألة 1 حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة]

اشارة

مسألة 1 لا يجوز (1) حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة قوله: «لا يجوز».

تكليفاً و وضعاً على المشهور بينهم، و عليه الإجماعات الكثيرة المحكيّة عن القدماء و المتأخِّرين(2).

و توهّم حصر النزاع في الوضع(3)، ناشئ من الغفلة عن تقسيمهم


1- المتن من أوّل كتاب المتاجر إلى المسألة 9 من وسيلة النجاة و أضفنا إليه تعاليق الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) في عضادتين.
2- الخلاف 3: 166، المسألة 270، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 524/ السطر 19، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، و لاحظ: مفتاح الكرامة 4: 11 24، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 3 6.
3- انظر منية الطالب 1: 4/ السطر 2.

ص: 292

المكاسب إلى الحرام و المكروه و المباح، بل إلى الواجب و المستحبّ، و عن تخصيصهم البحث على حدة بالمكاسب المحرَّمة؛ لرجوع المسألة الوضعيّة في المقام إلى كتاب البيع، و الإجارة، و غيرهما؛ من اشتراط الماليَّة و الملك فيهما، أو الطهارة، فالتمسُّك بكلام العلّامة في «التذكرة» و دعواه الإجماع على عدم صحَّة البيع(1)، في غير محلّه؛ لأنَّه فرض البحث حول اشتراط الطهارة في المعقود عليه جهات البحث في حرمة التكسُّب بالأعيان النجسة.

و على هذا يقع الكلام في هذه المسألة في جهات: أصل الحرمة التكليفيّة، و عمومها، و أصل الحرمة الوضعيّة، و عمومها.

و لا شبهة في الحرمتين إجمالًا، و لا وجه يعتمد عليه لعموم المدَّعى في الطرفين؛ و ذلك لأنَّ أمر سنده دائر بين ما هو ضعيف دلالةً و سنداً، كعمومات المسألة المستدلّ بها، مثل رواية «تحف العقول»(2) و «الفقه


1- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 4 5.
2- سأله سائل .. و أمّا تفسير التجارات، في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له. و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أُمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله وهبته و عاريته. و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا، لما في ذلك من الفساد، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام و كذلك كلّ بيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللَّه، أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم، حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك. تحف العقول: 332 333.

ص: 293

الرضوي»(1) و «الدعائم»(2) و النبوي(3) المنسوب إلى الشهرة بين


1- اعلم يرحمك اللَّه أنّ كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد، و قوام لهم في أُمورهم، من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه وهبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه، لوجه الفساد، ممّا قد نهي عنه، و مثل: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و الربا، و جميع الفواحش، و لحوم السباع، و الخمر، و ما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم و فاسد للنفس. الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 250.
2- عن جعفر بن محمّد( عليه السّلام) أنّه قال: الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه، و هذا من قول جعفر بن محمّد( عليه السّلام) قول جامع لهذا المعنى. دعائم الإسلام 2: 18/ 23.
3- قال النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم):« إنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه». مسند أحمد 1: 247/ السطر 21 م و 322/ السطر 20، سنن أبي داود 2: 302/ 3488، عوالي اللّئالي 2: 110/ 301، مستدرك الوسائل 13: 73، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 8.

ص: 294

الفريقين(1)، و بين ما هو قويّ سنداً، و لكنَّه لا يفي بعموم المقصود، مثل ما ورد بيع الخمر(2) و الميتة(3)، بل و العذرة(4)، و نوع من الكلب(5)، فتأمَّل.


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 3/ السطر 20، منية الطالب 1: 4، الشرح الكبير، في ذيل المغني 4: 15.
2- وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5.
4- وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 2.
5- وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 3.

ص: 295

اللَّهمَّ إلّا أن يقال: بإلغاء الخصوصيَّة، و بدعوى فهم العرف منها عدم رضا الشرع بذلك و أنّه مبغوض لديه، و لكنَّه مشكل جدّاً.

و دعوى انجبار ضعفها بتلك الإجماعات و الشهرات(1)، بعد كونها شهرة غير عمليّة، غير مسموعة.

و استكشاف استنادهم إليها بعدم وجود رواية في المسألة غيرها، غير ممكن؛ لاحتمال استنادهم إلى ما لم يصل إلينا أو استنادهم إلى فهمهم من شتات المآثير.

و لو كانت هذه النصوص عندهم، فكيف لم ينقلوها في كتبهم المعدّة لنقل الأخبار؟! فهذه الشهرة ليست مستندة إلى مثلها.

و كونها كاشفة عن رواية عندهم ممنوع؛ لما سمعت، فينحصر الأمر بين أمرين، أو أُمور:

اتكالهم على القواعد.

أو اطلاعهم على رأي المعصوم و فتواه.

أو استنباطهم ذلك من الجزئيّات بعد إلغاء الخصوصيّات.

و حيث إنَّ قضيَّة القواعد حليَّتها و صحَّتها؛ لأنَّ الكلام في المعاملات الجامعة للشرائط العرفيّة، من شرط الماليّة و غيرها، و درج ما لا منفعة


1- مفتاح الكرامة 4: 16/ السطر 4.

ص: 296

التكسُّب بالأعيان النجسة (1) له فيها من الغلط؛ لرجوعه إلى أنّ البطلان ناشئ من فقد المقتضي.

و الحرمة لو كانت من جهة التشريع، فهي ليست مستندهم، لأنَّهم حرَّموا المعاملات الدارجة العقلائيّة التي فيها المنافع المحلَّلة المقصودة كما ترى في المتن و اتّفاقهم في الرأي لا يناسب كون مستندهم الفهم من الموارد الأُخر، بعد ما نعلم من أنَّهم ليسوا أهل هذا النحو من الاجتهاد المشابه للقياس.

فيتعيَّن اطلاعهم من أساتيذهم على الرأي الحجَّة و قول المعصومين (عليهم السّلام (و بذلك يتمّ عموم المدّعى بعد عموم دعواهم، فتدبّر، و ربّما يشكل ذلك؛ لاستنادهم بالنبوي و غيره، فتأمّل.

قوله: «بالأعيان النجسة».

لا خصوصية لهذا العنوان، و لا يوجد في الكتب منه أثر إلّا في «تحف العقول»(1) فلو كانت التجارة بها محرّمة فهي لكونها من الأعيان المحرّمة، باعتبار الأكل و الشرب و الانتفاع، كما يعرب عنه بعض فقرأت الرواية المذكورة. و لا يتمّ الاستشهاد بالنبوي(2) إلّا بمثل ذلك.


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 292، الهامش 2.
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 293، الهامش 3.

ص: 297

بجميع أنواعها (1) بالبيع و الشراء، و جعلها ثمناً في البيع، و أُجرة في الإجارة، و عوضاً، (1) مع أنَّ القائل بطهارة الخمر(2) لا يقول بصحّة بيعه و جوازه، لا للنصوص الخاصّة، بل لتلك العمومات.

و هكذا الدم الطاهر، فإنّه لكونه محرَّماً في الكتاب(3) على الإطلاق يمنع عن جواز بيعه، و صحّته بناء على الأخذ بالنبوي، و هكذا يحرم التكسب بالجلّال المحرّم و الموطوء، فتدبّر.

قوله: «بجميع أنواعها».

من البول، و الغائط، و المنيّ، و الدم، و الميتة، و الخمر، و الكلب، و المتنجّس الذي لا يقبل التطهير، فإنّه يصير منها أيضاً، و غيرها كالخنزير، و الفقّاع، و الأعراق المذكورة في محلّها، و قد عرفت ما في هذا العموم، كما أشار إليه الأُستاذ الوالد- مُدَّ ظلّه في التعليقة.

نعم في طائفة منها وردت روايات خاصّة، لا بأس في نقلها، و بيان حدود دلالتها، و قبل الخوض فيه لا بدّ من الإشارة الإجماليّة إلى جهتين:

أُولاهما: هي أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في المقام حلّيّة المعاوضة


1- لا يخلو عمومه من إشكال، لكن لا يترك الاحتياط
2- انظر المقنع: 453.
3- \i إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ\E. البقرة( 2): 173.

ص: 298

عليها، و صحّتها بعد كونها جامعة لشرائطها العرفية، و هكذا الشرعيّة غير الطهارة.

و الإشكال في صحّتها، لأجل أنّها ممّا لا ينتفع منها، و ليست لها الفائدة العقلائيّة؛ ناشئ من الغفلة عن الجهة المبحوث عنها في المكاسب المحرّمة بالذات، و هي حرمتها تكليفاً ذاتاً، لا تشريعاً و بالعرض، و هي حرمتها وضعاً؛ لأجل إحداث الشريعة شرطاً شرعيّاً فيها مثل الطهارة، أو مانعاً عنها بناءً على إمكان تصويره كالنجاسة، أو المحلّلية و المحرميّة بشرط أن لا يرجعان إلى اعتبار الماليّة، فلا تغفل جدّاً.

و مستند هذا الأصل عمومات الكتاب و السنّة، و اقتضاء بناء العقلاء و الملّة، بل هو مقتضى الأصل العملي إذا وصلت النوبة إليه، فتدبّر.

ثانيتهما: مقتضى الأصل الثانوي الحديث النبوي(1) المعلّل به في بعض كتب الشيخ(2)، و المعروف بانجبار السند، و المشهور بين الفريقين، فإنّه يورث حرمتها تكليفاً و وضعاً؛ لأنّ النجاسات و غيرها ممّا ثبتت حرمتها في الشريعة، أمّا حرمة أكثر منافعها كالميتة و الخنزير و الخمر و الكلب، أو معظمها، أو نوع منها كالعذرة و البول و المنيّ و الدم، فإنّه يحرم أكلها


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 293، الهامش 3.
2- الخلاف 3: 185، المسألة 310.

ص: 299

فيحرم ثمنها، و هو الملازم عرفاً لفساد المعاملة، كما لا يخفى.

و قد يقال: بأنّ الحرمة المنتسبة إلى ذات الشي ء لا تشمل إلّا ما هو المحرّم بجميع منافعه، أو ما يصحّح هذه النسبة(1)، فلا تشمل مثل الأبوال و العذرات و الأعراق، ممّا لا وجه محرّم لها إلّا الأكل الذي هو متروك طبعاً، و لأجل ذلك لا يقال: العذرة و البول من المحرّمات، بخلاف الخمر و الخنزير.

و لا تشمل مثل الدم أيضاً و إن ورد في الكتاب حرمته(2)؛ لأنّه مخصوص بمحرّميّة الأكل، فإثبات الحرمة المطلقة بالنبوي يتوقّف على ثبوت الحرمة للشي ء على وجه الإطلاق واقعاً، أو ادّعاءً. فلو كانت منافع العذرة و البول من التسميد و الصبغ محرّمة، فيشملها النبوي؛ لأنّها المنافع المرغوب فيها التي بها تصحّ دعوى حرمتها بذاتها، و عليه لا يثبت عموم المدّعى به على فرض صحّة سنده.

هذا و إلغاء الخصوصيّة من الثمن، و إسراء الحكم إلى سائر المعاوضات، في غاية الإشكال.

و يمكن دعوى: أنّ القضيّة الشرطيّة قضيّة واحدة، لا بدّ من لحاظ


1- انظر تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مصباح الفقاهة 1: 24.
2- البقرة( 2): 173.

ص: 300

خصوصيّات الألفاظ المستعملة فيها، ثمّ الاستظهار منها، و عليه مقتضى نسبة الحرمة إلى الشي ء في الصدر، أنّ المقصود هو الذي يمكن أن يكون محرّماً، و هو الفعل دون الذات «فإنّ اللّه إذا حرّم شيئاً أي الأكل و الشرب و الانتفاع حرّم ثمنه».

و مقتضى كلمة «الثمن» أنّ المحرّم هو الذات؛ لأنّها تقابل الشي ء.

و بعد ملاحظة أنّ الثمن لا خصوصيّة له من جهة، و هو كونه الدرهم و الدينار، بلا شبهة، و بعد إفتاء الأصحاب و تمسّكهم به في غير البيع(1)؛ يقدّم ظاهر الصدر فيقال: الشي ء إذا كان محرّماً أكله، فإن باعه للأكل يحرم ثمنه و إلّا فلا، و هكذا.

فتكون النتيجة: حرمة ثمن العذرة في صورة، و هكذا حرمة ثمن سائر النجاسات و المحرّمات. و هذا هو المساعد للاعتبار إلّا أنّه لا ينفع في المقام.

و توهّم: أنّه خلاف ما هو المحقّق في محلّه من أنّ الثمن لا يقابل المنافع(2)، غير مفيد؛ ضرورة أنّ الثمن لبّا يقابل المنفعة و إن كان في


1- جواهر الكلام 36: 340، العروة الوثقى 1: 156، فصل في الأواني، المسألة 4، و 2: 477، كتاب الحجّ، الفصل الثاني، المسألة 110.
2- جواهر الكلام 22: 208، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 79.

ص: 301

الإنشاء خلافه، بل قيل: تملّك الأعيان ليس إلّا تملّك المنافع على النحو الكلّي من جميع الجهات(1).

و قد يمكن دعوى: أنّ معنى الحديث هو: أنّ المحرّم الشرعي كالمحرّم العقلي، فكما أنّ الشي ء بلا منفعة لا يبذل بإزائه شي ء، كذلك هو، فما كان محرّماً بحيث يعدّ ساقطاً لدى الشرع يحرم ثمنه، إمّا وضعاً فقط، أو هو مع التكليف.

و المراد من الحرمة الثانية ما هو المراد من الحرمة الأُولى، فيكون تكليفاً، و لكنّه يلازم عرفاً فساد المعاملة، و إن يمكن دعوى دلالته على الصحّة أخذاً بمفهوم الثمن أوّلًا، و جمعاً بينه و بين ما يدلّ على صحّة المعاملة، مثل قوله) عليه السّلام): «لا بأس ببيع العذرة»(2) على ما يأتي، ثانياً.

و حول هذه الجملة تفاسير أُخر أوردناها في كتابنا الكبير في مواضع مختلفة منه(3)، فليراجع.

و لعمري إنّ هذا الحديث لا يسمن و لا يغني من جوع، لضعف السند، و قوّة اصطياده من المواقف الأُخر المسانخة معه، و عدم وضوح المقصود؛


1- لاحظ مصباح الفقاهة 1: 24.
2- الكافي 5: 226/ 3، تهذيب الأحكام 6: 372/ 1079، وسائل الشيعة 17: 175 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 3.
3- المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 302

فعليه لا بدّ من الفحص عن الموارد الخاصّة.

فمنها العذرة: و قد وردت فيها روايات، بعضها يدلّ على أنّه لا بأس ببيع العذرة، و بعضها يدلّ على أنّ ثمنها من السحت(1)، و بعضها مشتمل على الجهتين كمعتبرة سماعة(2)، فإنّها مع اشتمالها على أنّ ثمنها محرّم، و هكذا بيعها، مشتملة على أنّه «لا بأس ببيع العذرة».

و الرواية الأُولى و الثانية غير منقّحتي السند، إلّا أنّ فتوى المشهور على العمل بالثانية(3)، و لكنّها ليست شهرة عمليّة، و استكشاف الشهرة العمليّة، كما هو دأب جماعة مشكل جدّاً، كما مضى الإيماء إليه.

و ذلك فتواهم في البول و المنيّ(4) مع عدم ورود النصّ فيهما، فيعلم أنّ المستند أمر آخر، و لا أقلّ من الشكّ و هو كافٍ في المقام؛ فعليه يتعيّن


1- تهذيب الأحكام 6: 372/ 1080، وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 1.
2- عن سماعة بن مهران قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه) عليه السّلام( و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها. و قال: لا بأس ببيع العذرة. تهذيب الأحكام 6: 372/ 1081، وسائل الشيعة 17: 175 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، ألح، ديث 2.
3- السرائر 2: 219، مفتاح الكرامة 4: 20/ السطر 28.
4- الخلاف 3: 166، المسألة 270، مفتاح الكرامة 4: 20/ السطر 28.

ص: 303

الأخذ بالمجوّزة لموافقتها لعموم الكتاب أوّلًا، و مخالفتها لفتوى العامّة(1) ثانياً.

نعم، لو ثبتت الشهرة العمليّة يتعيّن الأخذ بالناهية؛ لأنّها المخيّرة بين الحجّة و اللّاحجّة، و على تقدير كونها لا حجّة أيضاً يتعيّن ذلك، كما لا يخفى.

و حمل الرواية الناهية على ما لا منفعة فيه غير تامّ، كما صنعه المجلسيّ (قدس سره)(2)، ضرورة أنّها وردت في موقف الانتفاع منها بالتسميد، فنفس ورودها فيها، دون مثل البول و المنيّ، يشهد على رائجيّة الانتفاع منها، فلا معنى للحمل المذكور، و تأبى كلمة «السحت» من الحمل على الكراهة.

و الرواية الثالثة تورث في المسألة أمراً آخراً و قد أشرنا إليه، و هو: أنّ الممنوع شرعاً هو الثمن، دون عنوان البيع بما هو بيع؛ و ذلك لورود النهي عن الثمن في المواضع الأُخر، و لتصريح الرواية بجواز البيع.

و انتساب الحرمة إلى عنوان البيع في رواية سماعة(3)، من باب


1- الفقه على المذاهب الأربعة 2: 231، الشرح الكبير، في ذيل المغني 4: 14.
2- ملاذ الأخيار 10: 379.
3- تقدّم في الصفحة 302، الهامش 2.

ص: 304

العرض و المجاز، لقوله (عليه السّلام) في ذيلها: «لا بأس ببيعها».

و حمل الرواية على الروايتين مستنداً إلى: أنّ سماعة كان يعمل به في مضمراته، لا يفيد حجّة شرعيّة في المسألة، بعد اتّحاد الرواية ظاهراً؛ فإنّه منه خيانة بالأحكام إلّا في بعض المواضع، و ما نحن فيه ليس كذلك، فتأمّل جيّداً.

و الحقّ: أنّ المسألة مشكلة جدّاً؛ ضرورة أنّ تعرّض الأصحاب للمكاسب المحرّمة، و ذكر هذه الأُمور فيها كلّها، شهيد على أنّ للشرع الأقدس أمراً جديداً في هذه المعاملات، و كان لا يرضى بها، لاستلزامها بعض ما لا ينبغي لنفوس المؤمنين، و صرف النظر عنها و الاعتماد على الصناعة مشكل إنصافاً.

و إثبات الجواز بما عن «توحيد المفضّل» المرويّ في «المستدرك»(1) كإثبات المنع بما عن «دعائم الإسلام» المرويّ في


1- عن الصادق( عليه السّلام)، أنّه قال:« فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب، في صغير الكلب و كبيره، و بما له قيمة و ما لا قيمة له، و أخس من هذا و أحقره الزبل و العذرة، الّتي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معاً، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع، الذي لا يعدله شي ء، حتّى أنّ كلّ شي ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلّا بالزبل و السماد، الّذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه. توحيد المفضّل: 107، مستدرك الوسائل 16: 188، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 20، الحديث 1.

ص: 305

«الجواهر»(1)؛ لا يرجعان إلى محصّل، فما ذهب إليه جماعة من المتأخّرين، من تجويز بيعها(2) بعد ما أحطت بما ذكرناه، في غاية الإشكال.

و منها المنيّ: فإنّه قد ورد في رواية الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)، عن أبيه في «الخصال» في حديث: «أنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (نهى عن خصال تسعة؛ عن مهر البغي، و عن عسيب الدابّة يعني كسب الفحل و عن خاتم الذهب»(3) و الظاهر أنّ التفسير من المعصوم (عليه السّلام)، أو عنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم).

و ربّما يشكل استفادة الحكم الإلزامي التكليفي أو الوضعي منها، لعدم الاطلاع بكيفيّة النهي بعد اختلاف الإفادة في اختلاف التعابير.

و على أيّ تقدير يعلم مبغوضيّة الكسب لوحدة السياق، و الكسب


1- روينا عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ أنّ رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام و عن عسب الفحل و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة، و قال هي ميتة. دعائم الإسلام 2: 18/ 22، جواهر الكلام 22: 17.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 39، مفتاح الكرامة 4: 21.
3- هكذا في وسائل الشيعة 17: 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 13 و في الخصال 2: 417. مع تفاوت يسير.

ص: 306

أعمّ من الإجارة و البيع، فلو كان كسب الفحل بيع المنيّ، فهو و إن لم يكن منه، إلّا أنّه متّحد معه في الحكم عرفاً، بل تحريم عنوان «كسب الفحل» لاشتماله على ما هو الساقط و المحرّم مثلًا، فتدبّر.

و لو كان مجرّد التوافق و الشهرة الفتوائيّة كافٍ في انجبار ضعف السند، كان القول بممنوعيّة كسب الفحل متعيّناً.

و منها الدم: فإنّ مقتضى إطلاق الآية الشريفة حرمته(1)، و ممنوعيّة بيعه و لو كان طاهراً، و هكذا قضيّة مرفوعة الواسطيّ(2).


1- \i إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ\E. البقرة( 2): 173.
2- عن أبي يحيى الواسطي رفعه، قال: مرّ أمير المؤمنين( عليه السّلام) بالقصّابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع: الدّم و الغدد، و آذان الفؤاد، و الطحال، و النخاع، و الخصي، و القضيب، فقال له بعض القصّابين: يا أمير المؤمنين. إما الطحال و الكبد إلّا سواء، فقال: كذبت يا لكع ايتني بتورين من ماء، أُنبّئك بخلاف ما بينهما، فاتي بكبد و طحال و تورين من ماء فقال: شقّوا الكبد من وسطه، و الطحال من وسطه، ثمّ أمر فمرسا في الماء جميعاً، فابيضّت الكبد، و لم ينقص منها شي ء، و لم يبيّض الطحال، و خرج ما فيه كلّه، و صار دماً كلّه،) و بقي جلد و عروق)، فقال له: هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم، و هذا دم. الكافي 6: 253/ 2، وسائل الشيعة 24: 171، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 31، الحديث 2.

ص: 307

اللَّهم إلّا أن يحملان على الأكل، لاقتضاء السياق فيهما، فيجوز بيعه لغير الأكل و لو كان من النجس.

و منها الميتة: فإنّ مقتضى الآية الشريفة(1) المستدلّ بها لحرمة الانتفاع بها مطلقاً في «الخلاف»(2) و غيره(3) ممنوعيّة بيعها على الإطلاق، و هو المدّعى عليه الإجماعات الكليّة و الجزئيّة(4).

و الذي يقتضي حرمته التكليفيّة قوله (عليه السّلام) في عدّة روايات «أنّ ثمنها من السحت»(5)، فليزم ممنوعيّته تكليفاً، أو ممنوعيّة عنوان الثمن.

و ممّا يشهد على فساد بيع الميتة على الإطلاق، رواية «جامع البزنطي» صاحب الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم، يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها


1- البقرة( 2): 173.
2- الخلاف 3: 240، المسألة 34.
3- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5.
4- السرائر 3: 574، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مفتاح الكرامة 4: 19.
5- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.

ص: 308

و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها»(1).

و رواية «قرب الإسناد» عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له أن يبيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها»(2).

و دعوى: أنّ هذه الطوائف بمقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و إلغاء الخصوصيّة عرفاً، كلّها ناظرة إلى المنع عن البيع بالنسبة إلى ما هو المحرّم فيها، و هو لحمها دون جلدها و غيره، فلو كانت سائر أجزائها ذات منفعة محلّلة، صحّت المعاوضة عليها(3).

غير مسموعة؛ لأنّ الانتفاع بجلدها ممّا لا يبعد جوازه في غير ما يشترط فيه الطهارة، و لكنّ إطلاق المنع عن البيع يشمله؛ لأنّ تعارف التجارة بها كما تشهد به الروايات خصوصاً رواية الصيقل الآتية ينافي الصرف المذكور.

فما ورد «أنّ ثمن الميتة سحت»(4) يشمل جميع أجزائها، لأنّها من


1- السرائر 3: 573، وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 7، الحديث 6.
2- هكذا في وسائل الشيعة 17: 96، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 17، و في قرب الإسناد: 268/ 1067 مع تفاوت يسير.
3- انظر المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 84 86.
4- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.

ص: 309

الميتة حتّى ما لا تحلّه الحياة، و حتّى الميتة الطاهرة.

نعم، في كلّ مسألة مستثنيات لا منع من الالتزام بها، فلا ينبغي الخلط بين الجهات في المسألة.

ثمّ لمّا كان مذهب العامّة في مسألة بيع الميتة مختلفاً، و منه مذهب أبي حنيفة، و هو الأعرف من غيره، و هو يقول بجواز بيع جلود الميتة بعد الدباغ و قبله(1)، و كان الشافعي جديداً يقول بجوازه بعد الدباغ(2)، و يظهر من «منتهى العلّامة»: أنّه مذهب جماعة منهم(3)؛ سكت المعصوم (عليه السّلام)- على احتمال قويّ في صحيحة الصيقل(4)، بعد كونها مكاتبة، مع أنّهم (عليهم السّلام (ليس دأبهم ذلك، أي الاختصار في الجواب بعد ما سأل عن مسائل


1- المجموع 9: 231.
2- المجموع 1: 227 229.
3- منتهى المطلب 2: 1009/ السطر 5.
4- عن أبي القاسم الصيقل و ولده: كتبوا إلى الرجل( عليه السّلام): جعلنا اللَّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا، و نحن نصلّي في ثيابنا، و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب: اجعل ثوباً للصلاة. التهذيب 6: 376/ 1100، وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 38، الحديث 4.

ص: 310

كثيرة؛ فالرواية مع صراحة دلالتها و تماميّة سندها، مخدوشة جهة صدورها، هذا بعد ذهاب الطائفة إلى عدم جواز بيع الجلود إلّا من شذّ منهم(1).

و من المحتمل قويّاً: أنّ الرواية ناظرة إلى صورة الاضطرار، لما فيه من تصريحه بذلك في الموضعين، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و منها الخمر: و هي في الكتاب مثل الميتة، و إطلاقه على ما صرّح به شيخ الطائفة(2) يقتضي ممنوعيّة جميع التقلّبات فيه، و هذا هو قضيّة المآثير الكثيرة المرويّة في «الكافي»(3) و «الفقيه»(4) و «المقنع»(5) و «جامع الأخبار»(6) و «عقاب الأعمال»(7) و «دعائم الإسلام»(8) و «فقه الرضا»(9)


1- لاحظ مفتاح الكرامة 4: 19 20.
2- الخلاف 3: 240، المسألة 34.
3- الكافي 5: 230، باب بيع العصير و الخمر.
4- الفقيه 3: 105/ 435.
5- المقنع: 451.
6- جامع الأخبار: 426/ 1190.
7- ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: 291/ 11.
8- دعائم الإسلام 2: 131/ 458.
9- الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 279.

ص: 311

و «لبّ اللباب»(1) للراوندي و «عوالي اللآلي»(2).

و قد صرّح الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه: «بأنّ أسنادها و إن لا تخلو عن خدشة، لكن يمكن دعوى الوثوق و الاطمئنان بالصدور إجمالًا»(3). انتهى.

و لو كان مستند المجمعين احتمالًا تلك الأخبار، كان للإشكال في حكم المسألة وجه، لعدم تماميّة دلالتها؛ لأنّ أحسن ما يستدلّ له على المدّعى رواية جابر المتضمّنة للعن رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (بائعها و مشتريها(4)، و كفاية اللعن في إثبات الحرمة مشكلة(5)، مع ما فيها من لعنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (غارسها، مع أنّه ممّا لا معنى له إلّا بالتوجيه، فتدبّر.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق معاقد الإجماعات(6)، ممنوعيّة بيع الخمر و لو


1- مستدرك الوسائل 13: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 3.
2- عوالي اللآلي 3: 562/ 62.
3- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 16.
4- عن جابر، عن أبي جعفر( عليه السّلام) قال: لعن رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها. الكافي 6: 429/ 4. وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 4.
5- لاحظ المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 16 17.
6- الخلاف 3: 185، المسألة 311، السرائر 2: 219، مفتاح الكرامة 4: 18.

ص: 312

كان للخلّ، و قد يشكل ذلك للانصراف، كما ادّعاه الشيخ في نظيره(1)، مع أنّه ورد في الخبر جواز أخذه و جعله خلًّا بالإفساد قبال الدَّيْن(2).

كون مقتضى إطلاق ما يدلّ على سحتيّة ثمنه(3) ذلك أيضاً، ممنوع؛ لاقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع، مقصوريّة حكم التحريم في صورة بيع المسكر، لا المادّة التي تنقلب خلًّا، سواء كان مسكراً أم لا، و سواء فيه حال المشتري من العلم و الجهل.

و هذا الانصراف بعد النظر في موارد الاستثناءات و التجويزات في الشريعة، قويّ جدّاً، و لا أقلّ من كونه قابلًا للقرينيّة في قبال المطلقات، و إليه ذهب الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه(4).

و الإنصاف: أنّ الانصراف لو تمّ في سائر الأخبار لا يتمّ في النبوي(5)، و ما ادّعاه الشيخ الأعظم في بيع الأصنام(6) لا يلازم صحّة دعواه هنا، لعدم


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14/ السطر 24.
2- تهذيب الأحكام 9: 118/ 508، الإستبصار 4: 93/ 358، وسائل الشيعة 25: 371 كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5.
4- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 40 و 121.
5- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 3.
6- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14/ السطر 34.

ص: 313

شمول النبوي تلك المسألة؛ و ذلك لأنّ موضوعه «الشي ء» نكرة، فكأنّه يورث حرمة الثمن إذا كانت الذات منتسبة إلى الحرمة بوجه، فهذا الخمر و العصير المغلي ممّا حرّمهما اللَّه تعالى فحرّم ثمنهما، فلاحظ و تأمّل. و ممّا ذكرنا يظهر حكم كلّ مسكر.

و لو كان الاستدلال بروايات الخمر تامّاً، فالنصوص المتعرّضة لخمريّة الفقّاع(1)، بل كلّ ما يورث عاقبة الخمر(2)، تكون حاكمة عليها، أو مبيّنة لما خفي على القوم من مصاديقها، و الأظهر هو الثاني.

و توهّم أنّ هذه المسألة من متفرّعات القول بنجاسة المسكر المائع، فاسد جدّاً لما مضى من أنّ عناوين النجس لا خصوصيّة لها.

و منها الكلب: و قد ورد فيه الروايات الكثيرة الناطقة بأنّ ثمنه سحت(3)، أو هو


1- وسائل الشيعة 17: 225، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 56، الحديث 1 و 2، وسائل الشيعة 25: 359، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 27.
2- الكافي 6: 412/ 1 و 2، تهذيب الأحكام 9: 112/ 486، وسائل الشيعة 25: 342، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 19، الحديث 1 و 2.
3- وسائل الشيعة 17: 93 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الأحاديث 5 و 7 و 8 و 9 و 14 و 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14.

ص: 314

منهيّ(1).

و الإشكال في إطلاقها بما مرّ، لا يرجع إلى محصّل، بعد فهم أصحاب الحديث منها الإطلاق، و هو يشهد على أنّ لها ذلك، كما لا يخفى.

و ما أورده الأُستاذ الوالد المحقّق- مدّ ظلّه هنا، زائداً على ما مرّ من: أنّ هذه المآثير، المتضمّنة لعدّ أثمان المحرّمات و الأنجاس من السحت، ليس إلّا مثل ما ورد في تعديد الواجبات و المحرّمات، فإنّ المقام مقام الإهمال لا الإطلاق(2)؛ غير بعيد إنصافاً.

نعم، الطائفة الأُخرى المتعرّضة لتحريم ثمن الكلب الذي لا يصيد(3)، ممّا لا يمكن إنكار إطلاقها؛ لأنّ التقييد من أمارات الإطلاق و مؤكّداته.

و يمكن دعوى: أنّ الاستثناء يشهد على أنّ المقصود هو الكلب الذي لا منفعة عقلائيّة فيه، من الحراسة و نحوها، و عليه يجوز بيع الكلب الهراش إذا كان يتّخذه المشتري فيعلّمه، كما هو الآن في بلدتنا «قم المشرفة» معمول، فإنّه كالعصير المغلي، فكيف لا يجوز هنا و يجوز


1- وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 4.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 98.
3- وسائل الشيعة 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 1 و 3 و 5 و 6 و 7.

ص: 315

هناك؟! و ما أفاده الشيخ الأعظم هناك، من انصراف النبوي و غيره(1)، يأتي هنا.

و هل يصحّ الالتزام بأنّ الشرع يقول بتحريم ثمن الكلب في الموضع الذي لا يقدم العاقل على بيعه و شرائه لسفهيّة المعاملة؟

و دعوى ممنوعيّة ذلك؛ لأنّ هذه الروايات تمنع عن اشتراء الكلب للتفريح و التفرّج، كما هو المتعارف في يومنا، بل ربّما يقال: بأنّها ناظرة إلى تحريم ثمن الكلاب التي يشتريها الخلفاء و يلعبون بها، مشكلة جدّاً؛ لأنّ إثبات النكتة الأخيرة غير ممكن، و الأصحاب يقولون بصحّة بيع ماله المنفعة العقلائيّة(2)، و هي الأعمّ من الأغراض العالية و الدانية؛ و لذلك أفتوا بصحّة بيع أواني الذهب و الفضّة، في صورة جواز الاقتناء(3)، و هكذا المجسّمة(4)، فلاحظ و تدبّر.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 8/ السطر 14.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 20/ السطر 15، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 13/ السطر 23 37.
3- مسالك الأفهام 3: 123، العروة الوثقى 1: 156، فصل في الأواني المسألة 4.
4- مفتاح الكرامة 4: 33/ السطر 15، و 4: 49/ السطر 11 و 23، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 25/ السطر 1، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 291.

ص: 316

و منها الخنزير: و ما وردت فيه(1) قاصرة الدلالة على حرمتها تكليفاً، و العجب أنّه لم يرد فيها الكلمة المعروفة في غيرها؛ من عدّ ثمنه سحتاً، و لا ظهور لمعاقد الإجماعات(2) في تلك المسألة التي هي المقصودة في هذا الكتاب، و قد غفل عنها بعض الأصحاب(3).

و أمّا دلالتها على فساد المعاملة، فهي عندهم واضحة.

و توهّم عدَم ورود الرواية فيها في غير محلّه؛ لأنّ الروايات المجوّزة المرتبطة بالذمّي(4)، كاشفة عن ممنوعيّتها من الغير، مع أنّه روي في «الوسائل» عن بعض أصحابنا، عن الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن نصراني أسلم، و عنده خمر و خنازير و عليه دَين، هل، يبيع خمره و خنازيره، فيقضي دَينه؟ قال: «لا»(5).


1- وسائل الشيعة 17: 226، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 57، الحديث 1 و 2.
2- المبسوط 2: 165 166، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 6/ السطر 11.
3- تذكرة الفقهاء 1: 24/ السطر 5، جواهر الكلام 22: 10 11، مصباح الفقاهة 1: 79 81.
4- وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60.
5- وسائل الشيعة 17: 226، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 57، الحديث 1.

ص: 317

و مقتضى الإطلاقات بترك الاستفصال، جواز المعاملة عليها، إلّا أنّ الثمن محرّم تكليفاً في جهة دون اخرى، و كأنّه في مقام بيان أنّ الشي ء إذا كان محرّماً، فهو إمّا محرّم من جميع الجهات؛ فيحرم ثمنه كذلك، و إذا كان محرّماً من جهة كالأكل مثلًا، فهو محرّم أكله لا صرفه في الدَّين مثلًا، و على مثل هذه قد وردت روايات كثيرة، جمعها في «الوسائل».

فمنها رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، في رجل كان له على رجل دراهم، فباع خمراً و خنازير، و هو ينظر، فقضاه، فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام»(1).

و منها: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّه) عليه السّلام)، في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع بها خمراً و خنازير، ثمّ يقضي منها، قال: «لا بأس» أو قال: «خذها»(2) و غير ذلك(3).

و اشتمالها على الخمر يورث حمل المطلقات هناك على فرض صرف الثمن في المأكل و المشرب.


1- الكافي 5: 231/ 9، وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60، الحديث 2.
2- الكافي 5: 232/ 11، وسائل الشيعة 17: 233، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60.

ص: 318

بل مطلق المعاوضة (1) عليها و لو بجعلها مهراً، أو عوضاً في الخلع و نحو ذلك، و قوله: «و أمّا للبائع فحرام»، نصّ في أنّ المسألة كما ذكرناها، إلّا أنّ الالتزام به في غاية الإشكال، و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(1).

فتحصَّل إلى هنا: أنّ الحرمة التكليفيّة و الوضعيّة في عموم المسألة غير مستندة، و في الكلّ يمكن الخدشة، إلّا أنّ الضرورة قائمة بأنّ الشرع المقدّس في هذه المسائل له أمر جديد، و هو غير إلحاق المحرّمات الشرعيّة بما لا منفعة له عقلائية.

و اشتهار الفتوى في القديم و الجديد، و في الكتب غير المعتمدة، دليل على أنّ الخروج عنها في غاية الإشكال، فالحرمة التكليفيّة في الميتة و الكلب، بل و الخنزير، و العذرة، بل و البول، بل و المنيّ و الخمر؛ قويّ جدّاً فيما إذا كانت المعاملة فاسدة، لأجل حرمته و سقوط منفعته، أو لاشتراط الطهارة، فلا تغفل.

قوله: «مطلق المعاوضة».

على المعروف بينهم، و لم أجد من صرّح بهذا العموم مدّعياً عليه الإجماع.

و يدلّ عليه: الروايات العامّة، مثل «تحف العقول» الناطقة بأنّ المحرّم جميع التقلّبات، و المصرّح فيها بالهبة و العارية(2).


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).
2- تقدّم في الصفحة 292، الهامش: 2.

ص: 319

و في دلالة «الفقه الرضوي»(1) شبهة.

و في «الدعائم» اختصاص بالبيوع، حيث قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول ..»(2)، مع أنّه قاصر الدلالة على الحرمة التكليفيّة في موردها.

و بطلان جميع المعاوضات عليها أيضاً، محلّ المنع؛ لقصور سند المسألة.

و التمسّك بإلغاء الخصوصيّة عن مواقف الأدلّة الخاصّة، في غاية الإشكال؛ لأنّ للبيع أحكاماً خاصّة، و لو صحّ الإلغاء في هذه الموارد كان الحكم بورود الربا في جميع المعاوضات متعيّناً، بل تفصيل الشرع بين المعدود و غيره(3) يشهد على أنّ هذه الأمور من القياس المنهيّ، و إن نبتلى بها في مختلف من المواضع.

و توهّم كون كلمة «الثمن» ظاهرة في العوض في البيع، من الظهور المستحدث بعد الاصطلاح؛ لما يظهر من بعض كتب اللغة خلافه؛ فاسد جدّاً، قال في «أقرب الموارد»: «الثمن: ما قدّره العاقدان عوضاً للمبيع، و إذا


1- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 1.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 2.
3- وسائل الشيعة 18: 132، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، و 152، الباب 16.

ص: 320

أُطلق الثمن أُريد به الدراهم و الدنانير، قال الفرّاء: الثمن عند العرب ما يكون دَيْنا في الذمّة»(1). انتهى.

و ليس مقصود الفرّاء من كلمة «ما» أعمّ من البيع، فإنّه ناظر كلامه إلى أنّ مطلق العوض ليس ثمناً.

و لو تمّ إلغاء الخصوصيّة فهو هنا غير بعيد إنصافاً، فمطلق العوض في البيع محرّم بالنبويّ.

و دعوى: أنّ سقوط ماليّته في البيع يستلزم فساد سائر المعاوضات، بل لأجلها اختار الماتن في غيرها أيضاً، غير مسموعة.

أوّلًا: بمنع لزوم اعتبار سقوط ماليته شرعاً، بل الشرع منع عن البيع و سائر المعاوضات مثلًا بإيجاد شرط في المبيع، كما هو ظاهر «التذكرة» من اشتراط الطهارة في المعقود عليه، و ادّعى عليه الإجماع(2)، و لو كان الأمر كما توهّم كان ذلك لغواً بل و تناقضاً، لأنّه اشترط الماليّة، ثمّ اشترط الطهارة، و كونها شرطاً متقوّم باعتبار الماليّة و بقائها.

و ثانياً: التفكيك في الأُمور الاعتباريّة و الشرعيّة واقع قطعاً، فلا بأس بإسقاط الماليّة لمصالح في البيع دون غيره، فكيف لا و أنت ترى أنّ


1- أقرب الموارد 1: 95.
2- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 4.

ص: 321

بل يقوى (1) عدم جواز هبتها و الصلح عنها أيضاً. و لا يدور حرمة بيعها و التكسّب بها مدار عدم المنفعة، الشرع فصّل، في مسألة تحريم الخمر و الخنزير و أمثالهما بين المستحلّ و غيره فهل يعقل ذلك، إلّا بوجه يورث معقوليّته هنا أيضاً؟! و على هذا تحتاج المسألة إلى التأمّل.

قوله: «بل يقوى».

و استشكل فيه بعض المحشّين و الشرّاح، و الوجه في المسألة، و الوجه في إشكالها، ما مضى. و دخول المعاملات الغير المعاوضيّة في معقد الاتّفاق ممنوع جدّاً.

ثمّ اعلم: أنّ قضيّة القواعد فيما تردّد المبيع بين كونه من الأعيان النجسة و الطاهرة، أو كونه من الأعيان المحرّمة و غير المحرّمة، هو الرجوع إلى أصالتي الحلّ و الطهارة لحكومتهما على الإطلاقات المانعة.

و يمكن دعوى التفصيل بين القاعدتين، بأنّ الأعيان النجسة ممنوع المعاملة، لاعتبار الطهارة، و لا دليل على سقوط ماليّتها، بخلاف الأعيان المحرّمة، فإنّها ساقطة ماليّتها، فمثل العذرة ليست من المحرّمات، بخلاف الميتة و الخمر، فعند ذلك يشكل إحراز الماليّة بعموم أصالة الحلّ.

اللَّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الماليّة كما تعتبر من الحلال الواقعي تعتبر من

ص: 322

بل يحرم ذلك و لو كانت (1) لها منفعة محلَّلة مقصودة كالتسميد في العذرة.

الحلّيّة الظاهريّة بنحو الكشف لا الانتزاع، فلا تخلط.

أو يقال: بأنّ قاعدتي الحلّ و الطهارة تتكفّلان الحلّيتين و الطهارتين الواقعيّة و الظاهريّة.

و ربّما يمكن دعوى أنّه على جميع التقادير لا يصحّ التمسّك و لا يفيد؛ لعدم الدليل الشرعي على اعتبار الماليّة في المعاملات حتّى تحصل الحكومة، فتأمّل جيّداً.

و تختصّ قاعدة الطهارة بشبهة و هي: إنّ الشرط إن كان الطهارة فهي تفيد، و لو كانت النجاسة مانعة فإثبات الطهارة لا يفي برفع المانع إلّا بالأصل المثبت. و ربّما يخطر بالبال اشتراك قاعدة الحلّ معها في تلك الشبهة أيضاً كما لا يخفى.

قوله: «و لو كانت».

قد عرفت أنّ بناء الكتاب على بيان المكاسب المحرّمة بالذات، لا المحرّمة بالتشريع(1)، و الفاسدة عرفاً، حتّى يجعل ذلك مورد التصريح على نحو ما في المتن.


1- تقدّم في الصفحة 298.

ص: 323

[و يستثنى من ذلك العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه]

و يستثنى من ذلك العصير المغلي (1) قبل ذهاب ثلثيه بناءً على نجاسته، حكم التكسّب بالعصير العنبي قوله: «العصير المغلي».

في كونه استثناء إشكال؛ لعدم الدليل على صحّة بيع العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه خصوصاً.

نعم، يشكل شمول العمومات لمثله؛ لأنّ النجس القابل للطهارة خارج عنها، و إلّا جميع المتنجّسات مشمول قوله في «تحف العقول»: «وجوه النجس»(1) كما عرفت، و هكذا النبوي(2)؛ لأنّ المحرّم فيه هو الذي حرّم، و لا يحلّ إلّا بانقلاب الموضوع، و لذلك العصير المغلي بنفسه لا يكون مستثنًى؛ لأنّه يعدّ خمراً في الروايات(3).

بل في «مفتاح الكرامة»: «قد نصّ عليه الأكثر من المتقدّمين»(4).

و لعمري إنّ النصوص في هذه المسألة ناظرة إلى تجويز العصير


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة باب 59 حديث 2 و 5 و 256: 285، كتاب الأطعمة و الأشربة المحرّمة باب 2، حديث 6 و 7 و باب 3 حديث 3 و 4، الكافي 6: 419، حديث 1 و 2 و 3 و 4، التهذيب 9: 119 120، حديث 513 و 514 و 515.
4- مفتاح الكرامة 4: 12/ السطر 17.

ص: 324

المغلي، قبل أن ينقلب خمراً(1).

و بعبارة اخرى: هذه المسألة من صغريات المستثنى منه إذا غلى العصير بنفسه، و إذا غلى بالنار، فتلك الأدلّة قاصرة عن شمولها، و عمومات المسألة مثلها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه من وجوه النجس؛ لأنّ العين النجس ليست ما لا تقبل الطهارة، بل هي: ما يكون نجاسته من قبل نفسه، مقابل المتنجّس، و أنّه حين غليانه محرّم؛ فيشمله النبوي.

و اختار الأستاذ الوالد- مُدّ ظلّه جواز المعاوضة عليه مطلقاً، حتّى حال خمريّته(2)، و لم يظهر لي وجه لمرامه، بعد كونه خمراً و تشمله تلك الروايات الواردة في الخمر.

نعم، لو قلنا: بأنّه لا يصير خمراً حتّى لو غلى بنفسه، فهو بحث تامّ صغروي فلا تخلط.

و المسألة من حيث صغراها تحتاج إلى التأمّل في مباحث النجاسات، و حيث أنّ أخبار المسألة كلّها ضعاف غير معتبرة، فلا خير في


1- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 124.

ص: 325

[حكم التكسّب بالكافر]

و الكافر (1) بجميع أقسامه حتَّى المرتدّ عن فطرة على الأقوى، (2) نقلها، و قد أقصينا البحث حولها في كتابنا الكبير(1).

حكم التكسّب بالكافر قوله: «و الكافر».

إجماعاً، و قيل: «عليه ديدن المسلمين في صدر الإسلام» و ربّما يستشمّ الحكم من بعض الروايات في المسألة(2).

قوله: «على الأقوى».

لأنّ شرائط الصحّة، من الماليّة و غيرها، موجودة، و لا دليل على المنع عنه.

و لو كان وجوب القتل منافياً لنفوذ البيع، لما كانت تصحّ إجارة من يجب قتله قصاصاً، و غيره من الأسباب الأُخر المقتضية له، مع أنّ الأمر هناك بديهيّ، فنفس الوجوب يجامع صحّة المعاملة.

و أمّا تصدّي الوالي لقتله فهو يوجب سفهيّة إقدام المعامل عليه إلّا لغرض العتق، و هذا لا ينحصر بصورة، بل لو تصدّى الظالم ذلك قهراً عليه،


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).
2- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 1، وسائل الشيعة 18: 243، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 1 و 2.

ص: 326

و كلب الصيد، (1) و ربّما يلحق به كلب الماشية و الزرع و البستان و الدور أيضاً (1)، و فيه تأمُّل و إشكال، فإنّه يوجب فساد المعاوضة لجهة أُخرى، كما لا يخفى.

هذا و لكنّ الحقّ: أنّ إيجاب القتل لا يجامع الإرادة الجديّة بوجوب الوفاء بالعقد، المستلزمة لحفظه.

نعم، لو كان الحكم مشروطاً، و لم يكن شرطه موجوداً، فهو ممّا لا بأس به، و لكنّه خلاف الفرض، و مثله ما لو كان معلّقاً، بل الحكم كذلك عرفاً، فلو سلّمنا إمكان الجمع ترتّباً، فالعقلاء لا يساعدون على صحّة هذه المعاملة، و على أنّ الشرع جمع بين إيجاب القتل و تصحيح البيع، فالحكمان التكليفيان غير قابلين للجمع، و الحكم التكليفي و الوضعي أيضاً كذلك. و في المسألة «إن قلت، قلتات» حول هذه الشبهة، فالأحوط ترك مثل هذا النقل و الانتقال.

جواز بيع كلب الصيد قوله: «و كلب الصيد».

بالإجماع، و الشهرة القطعيّة(2)، و النصوص الكثيرة(3)، و لا خلاف


1- هذا هو الأقوى
2- الخلاف 3: 181، منتهى المطلب 2: 1009/ السطر 12، مفتاح الكرامة 4: 28/ السطر 11.
3- وسائل الشيعة 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14.

ص: 327

في المسألة من حيث الاستثناء في الجملة، و من أنّه الكلب الصيود، إنّما الكلام في سائر الأصناف الأُخر، و منها الكلاب المستخدمة في البيوت، و التي هي الملاعب بها في القصور، و قد مرّ بعض الكلام حول المستثنى منه، و أُشير هناك إلى حقّ القول في المسألة(1).

و طريق الإشكال في المسألة من وجهين:

قصور المطلقات عن شمول هذه الأصناف؛ لأنّها بالاستثناء تكون ظاهرة في: أنّ المنع لفقد الجهة العقلائيّة في المستثنى منه.

و أنت خبير بما فيه؛ فإنّ هذه الروايات ناظرة إلى تحريم ما هو الراسخ عند العقلاء، لا الذي لا يرتكبه العرف بطبعه بالضرورة.

و إلغاء الخصوصيّة من المستثنى أو ادّعاء أنّ المراد من الصيد ليس ما هو المصطلح عليه، بل هو الكلب الذي يصطاد، و هي الكلاب التي فيها صفة اللهث، و هي الأعمّ من الصفة التي يأخذ بها الغزال أو السارق أو الذئب، فكلّها ممّا يصطاد، و يختلف صيدها حسب تربيتهم، أو حسب اقتضاءٍ في طباعهم.

و يؤيّد هذه الطريقة مرسلة «المبسوط» القاضية بجواز بيع كلب


1- تقدّم في الصفحة 314 315.

ص: 328

نعم لا إشكال (1) في إجارتها و إعارتها.

الماشية و الحائط(1)، فما أفاده الماتن من التردّد و الإشكال في الإلحاق، في نهاية المتانة و القوّة، خلافاً لما ذهب إليه الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه.

و ربّما يقال: بأنّه كيف يمكن الالتزام بجواز بيع كلب الصيد الذي يستعمله أبناء الملوك في السفر المحرّم و اللهو، و بحرمة الكلب الحارس للماشية و البيوت الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم؟! فعليه تكون هذه الروايات ناظرة إلى طائفة خاصّة من الكلاب، و هي المستعملة في لعب السلاطين و أتباعهم الرائجة في ذلك اليوم بينهم كثيراً، فلاحظ و تدبّر.

قوله: «لا إشكال».

للإجماع، و إلّا فقضية القواعد سريان الإشكال من البيع إلى غيره أيضاً، مثل الصلح و نحوه لما سرى منه إلى سائر التقلّبات.

و عندي في تماميّة هذا الإجماع المنقول، بل و المحصّل منه شبهة؛ ضرورة أنّ المسألة ذات رواية و ذات وجوه اعتباريّة، و لعلّهم إليها استندوا.

فالتفصيل بين البيع و غيره هنا، أي في المستثنى دون المستثنى منه خصوصاً في الكلب، في غاية الإشكال، بل و المنع، فتدبّر.


1- المبسوط 2: 166.

ص: 329

[مسألة 2: الأعيان النجسة لا يجوز الاكتساب بها]

مسألة 2: الأعيان النجسة عدا ما استثني و إن لم يعامل معها شرعا معاملة الأموال (1)، فلا يجوز الاكتساب بها، و لا يصحّ جعلها عوضاً أو معوّضاً في المعاوضات، بل وهبتها و الصلح عنها كما عرفت؛ قوله: «معاملة الأموال».

في المعاوضات إجمالًا على ما عرفت تفصيله.

و أمّا لو أتلفها فإن قلنا بأنّها غير جائز اقتناؤها، فيعلم سقوطها في الشريعة من جميع الجهات، فلا يكون المتلف ضامناً، و إلّا فهو ضامن؛ لعدم خروجها عن الملكيّة و إن سقطت ماليّتها في الجملة؛ لأنّ الملكيّة من الاعتبارات المتقوّمة بأثرٍ ما، على ما تحرّر في محلّه.

بل مقتضى ما سمعت منّا أنّ الماليّة تقبل التفكيك(1)، و لذلك يصحّ بيع شي ء للمستحلّ و لا يصحّ لغيره، و قد علمت أنّ مسألة سقوط الماليّة ممّا لا أساس لها رأساً إلّا مع تصريح الشرع به، أو خلعه جميع آثارها، نعم الأثر النادر في حال لا يورث عدّ شي ء مالًا.

و يمكن دعوى: أنّ أدلّة الضمانات قاصرة عن شمول هذه الموارد، و إلّا يلزم ضمان تلف الخمر، و قد ورد في النصوص الأمر بإهراقه(2).


1- تقدّم في الصفحة 320 321.
2- الكافي 5: 230/ 2، تهذيب الأحكام 7: 136/ 601، وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1.

ص: 330

لكن لِمَن كانت هي في يده و تحت استيلائه حقّ اختصاص (1) متعلّق بها، ناشئ إمّا من حيازتها، أو من كون أصلها مالًا له، كما إذا مات حيوان له فصار ميتة، أو صار عنبه خمراً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ كلّ شي ء إذا كان ذا منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، يعدّ مالًا و إن حرّم المبادلة عليه بأنواعها، و الأمر بالإهراق لا ينافي ذلك، بعد قوّة احتمال أنّ صاحبها يشربها.

قوله: «حقّ اختصاص».

قضية الصناعة: أنّ الحقّ ليس من الملك الضعيف، و لا من مراتب السلطنة، و عليه فنفس الاستيلاء يورث الحقّ المذكور، و لا دخالة لملك العين في ذلك؛ فإنّه إذا خرج عن ملكه لا يخرج عن تحت يده، فيعتبر عندئذٍ حقّ الاختصاص له.

فالعذرة التي تحتاز، و التي هي في يده إذا كانت قابلة للانتفاع بها شرعاً و عرفاً، لا يجوز التصرّف فيها بدون إذن صاحب الحقّ.

و ما ورد في الحديث النبويّ «من سبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به»(1) و إن لا يشمل الفرض الثاني، و لكنّه حكم قطعي لا يحتاج إلى شمول دليل، مع أنّ قضية الاستصحاب في بعض فروض المسألة، ممنوعيّة


1- عوالي اللآلي 3: 480/ 4، مستدرك الوسائل 17: 111، كتاب إحياء الموات، الباب 1، الحديث 4.

ص: 331

و هذا الحقّ قابل للانتقال إلى الغير بالإرث و غيره، (1) فيصحّ أن يصالح عنه بلا عوض، بل بالعوض أيضاً لو جعل مقابلًا لذلك الحقّ، لا عوضاً لنفس العين، لكنّه لا يخلو من إشكال، بل لا يبعد دخوله في الاكتساب المحظور.

الغير عن التصرّف فيه.

هذا و الذي يظهر لي: أنّ كبرى المسألة، و هي ثبوت الحقّ في الجملة، ممّا لا شبهة فيها، و لكنّها في هذه الأُمور ممنوعة؛ ضرورة أنّ هذه الأعيان لها المنافع المحلّلة و إن لم تكن غالبة، و لا كثيرة إلّا أنّها ليست قليلة، خصوصاً في بعض منها، و تلك الأُمور علل اعتبار الملك هنا، و لا دليل على سقوط الملكيّة و لو فرضنا سقوط الماليّة، مع ما عرفت فيه أيضاً، فتدبّر.

فقياس الأماكن المشتركة بهذه المسألة مع الفارق جدّاً، مع قصور دليله عن شمول تمام المدّعى كما ذكرناه.

قوله: «بالإرث و غيره».

إطلاق العبارة يقضي بجوازه بيعاً أيضاً، بل يصحّ جعل متعلّقه مورد الإجارة.

اللَّهمّ إلّا أن يدّعى اعتبار كون المبيع عيناً، و كون الإجارة ناقلة للمنفعة، و هما هنا منتفيان، و لكنّها ضعيفة على ما حرّرناه في محلّه(1).


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه، و لعلّه في كتاب الإجارة المفقودة.

ص: 332

و العجب إنّه قد يتوهّم: أنّ تضييع الحقّ لا يوجب الضمان؛ لأنّه ليس مالًا. و ما فيه أوضح من أن يبيّن.

نعم، دعوى: أنّ المنع عن عموم التقلّبات يشمله؛ لأنّه و إن لم يكن من التقلّب في المحظور و المحرّم إلّا أنّه يستلزمه، و لا فرق طبق إطلاقها بين التقلّبات الواردة عليها بالذات و الواردة عليها بالعرض؛ ممكنة.

و أعجب ممّا مضى توهّم أنّ المعاملات الأُخر الواردة على الأعيان، لا تورث إلّا التقلّب في الملكيّة المتعلّقة بالأعيان، فلا فرق بين الحقّ المتعلّق بالعين و الملكيّة، فالحكم في الفرضين متّحد.

و ما فيه واضح، بداهة أنّ العرف يكذّبه، و أنّ الملكيّة ليست معتبرة في التبادلات، كما في تبديل أحد الحاكمين الخمس بالزكاة في مورد، و كون الحقّ متقوّماً في الماليّة بالعين الخارجي لا يورث كونه مثل الملكيّة في الاعتبار، بل لا يعقل التبديل في الملكيّة على أن تكون الإضافة بالذات مورد المعاملة.

نعم، التبديل بين العينين في الملكيّة يستلزم الملكيّة المستأنفة بالتبع فلا تغفل.

و بالجملة في المسألة إشكال مبنوي مضى سبيله، و على فرض صحّة المبنى صحّة الدعوى السابقة مشكلة، فالمرجع هو الأصل السابق.

ص: 333

نعم، لو بذل له مالًا ليرفع يده و يعرض عنها فيحوزها الباذل، سلم من الإشكال، (1) نظير بذل المال لمن سبق إلى مكان من الأمكنة المشتركة كالمسجد و المدرسة، ليرفع يده عنه و يسكنه الباذل.

قوله: «من الإشكال».

إذا لا يعدّ من الأكل بالباطل، كما لو كان بناء الحائز في المسجد عليه، فيكون ذلك متجره، و يشكل مطلقاً؛ لأنّه يعدّ من المعاوضة عرفاً، و ليس منه العين و الأثر في الأنحاء المعروفة منها، و هو يندفع بالإطلاقات في محلّها.

و ربّما يشكل جواز حيازتها؛ لأنّها من الأسباب المملّكة، فيندرج في العموم المنفي في «تحف العقول».

ص: 334

[مسألة 3: لا إشكال في جواز بيع ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة، ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة]

مسألة 3: لا إشكال في جواز بيع ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة (1)، ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة كشعرها و صوفها، بل و لبنها أيضاً إذا قلنا بطهارته، كما مرّ في النجاسات.

قوله: «من أجزاء الميتة».

لعدم الدليل، و توهّم صدق الميتة عليها غير تامّ، لأنّها من صفات ذوات الأرواح، و إطلاقها على النباتات، باعتبار الروح النباتي، من المجاز.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بالتبعية في الحكم؛ لفناء الجزء في حكم الكلّ. فلو ورد مثلًا: «الكلب نجس» فكما يعلم منه نجاسة جميع أجزائه، كذلك لو ورد: «لا يجوز بيع الميتة» فإنّه لا يلاحظ صدق الميتة بالنسبة إلى جميع الأجزاء.

و لك دعوى: أنّ الميتة من صفات الحيوان كالذكاة، و ليست الأجزاء حتّى ما تحلّه الحياة ميتة إلّا تسامحاً، فعدّ الأليات المقطوعة ميتة لا يورث صحّة الإطلاق على نعت الحقيقة، فعليه لا بدّ من الاحتياط إلّا في مثل لبنها؛ فإنّه لا يعدّ من أجزائها، بل هو كحجر المثانة، و لذلك ليس فيه الروح النباتي، فضلًا عن غيره.

ص: 335

و في جواز بيع الميتة الطاهرة كالسمك الطافي إذا كانت له منفعة و لو من دهنه، إشكال، لا يبعد الجواز، بل لا يخلو من قوّة (1).

قوله: «لا يخلو من قوّة».

استشكل الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه في القوّة و منعها، فاحتاط في المسألة و قال في المكاسب المحرّمة: «ثمّ إنّ الميتة من غير ذي النفس السائلة تجوز المعاوضة عليها و على أجزائها؛ لقصور الأدلّة»(1). انتهى ما أردنا نقله منه- دام ظلّه.

و المسألة ليست من المسائل الإجماعيّة؛ لعدم معروفيّتها بين القدماء، فدعوى الشيخ (رحمه اللَّه ( «نفي الخلاف»(2) لا تورث شيئاً.

و توهّم أنّ تقييد مورد الإجماع بذي النفس السائلة، معناه اتفاقهم على جواز البيع في غيرها، فاسد؛ ضرورة أنّه لأجل درجها في النجاسات فلا شهرة على جواز بيعها، فالمتّبع إطلاقات الأدلّة، و الانصراف غير معلوم.

و اقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع ليست تامّة، بل في رواية البزنطيّ(3)، تجويز الانتفاع و النهي عن بيعها، فيعلم نفي الملازمة بمثلها


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 96.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 6/ السطر 10.
3- السرائر 3: 573، وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30، الحديث 4.

ص: 336

المؤيّد بتلك الإطلاقات، و لا ينافيها قوله) عليه السّلام): «هو الطهور ماؤه، و الحلّ ميتته»(1).

و لعمري إنّ هذه الإطلاقات ليست في حدّ الإطلاقات الكلّيّة القانونيّة، بل هي ناظرة إلى ما تعارف في عصر الصدور من أكل الميتة، و منها ما لا يراعى فيه الشرائط الشرعيّة في تذكيته، فتأمّل.

و المراد من السمك الطافي: هو الذي يموت و يعلو الماء، سواء كان من المحلّل أو المحرّم.

و لو قلنا بقبول سائر الحيوانات البحريّة التذكية، فبيعها يجوز؛ لأنّها ليست ميتة.

و ظاهر الأصحاب في تلك المسألة نفي ذلك؛ لعدم الأثر عليها، و هو ممنوع كما عرفت.


1- وسائل الشيعة 1: 136، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 2، الحديث 4.

ص: 337

[مسألة 4: لا إشكال في جواز بيع الأرواث الطاهرة إذا كانت لها منفعة]

مسألة 4: لا إشكال (1) في جواز بيع الأرواث الطاهرة إذا كانت لها منفعة، و أمّا الطاهر من الأبوال، قوله: «لا إشكال».

على المعروف بين المتعرّضين(1)، و ذلك لتماميّة المقتضي و عدم المانع، إلّا توهّم شمول أدلّة المنع عن بيع العذرة؛ لأنّها منها لغة، كما يعرب عنه جمع الشيخ في «الاستبصار» بين أخبار تلك المسألة، بحمل ما يدلّ على البأس بعذرة الإنسان، و ما يدلّ على عدم البأس بعذرة غير الإنسان(2)، و يؤيّد عموم اللغة ما في «أقرب الموارد»(3).

و قد عرفت: أنّ قضيّة القواعد تعيّن العموم بما يدلّ على أنّ بيع العذرة سحت و لا تهافت بين تلك الروايات(4).

نعم لك دعوى: أنّ السيرة خصوصاً في البلاد العربيّة و لا سيّما في الأعصار السابقة على خلاف هذا الإطلاق، و لا يمكن ردعها بمثله، فيعلم أنّ الحكم هو الجواز.


1- الخلاف 2: 82 مسألة 310 من كتاب البيوع، مجمع الفائدة و البرهان 8: 38 39، جامع المقاصد 4: 14، جواهر الكلام 22/ 19، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 4، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 58.
2- الاستبصار 3: 56.
3- أقرب الموارد 2: 757.
4- تقدّم في الصفحة 302 305.

ص: 338

فأمّا بول الإبل فيجوز بيعه (1) بلا إشكال، و أمّا غيره ففيه إشكال، لا يبعد الجواز، فيما كان له منفعة محلّلة مقصودة.

قوله: «فيجوز بيعه».

إجماعاً محكيّاً عن «جامع المقاصد»(1) و هو لا يفيد شيئاً.

و ما ورد في الحديث: «أبوالها خير من ألبانها»(2)، فيحتمل أن يكون في مقام ذمّ الألبان، لا مدح الأبوال، و لا دلالة لمثله على جواز البيع، كما لا يخفى.

فلو كان محلّلًا شربه كما يكون محلّلًا كثير من الأشياء إذا لم يورث الضرر، فهو لا يوجب صحّة المعاملة، لاشتراط المنفعة النوعيّة في صحّتها؛ بحيث يعدّ عند العرف من الأموال حال الاختيار، كما هو مختار الأصحاب طرّاً.

نعم، إذا كانت لها المنفعة الغالبة، فهي و غيرها في هذا الحكم متّحدان؛ لتماميّة المقتضي و قصور أدلّة المنع.

و بالجملة: لم يرد: «إنّ اللَّه إذا حلّل شيئاً حلّل ثمنه» نعم، بناء على شمول النبوي(3)، الأبوال المحرّم شربها يشكل ثمنها، و لكن حرمتها بعنوانها الذاتي غير تامّة، و بعنوانها العرضي و إن كانت مورد الفتوى إلّا أنّ المعاوضة


1- جامع المقاصد 4: 14.
2- الكافي 6: 338/ 1، وسائل الشيعة 25: 114، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 59، الحديث 3.
3- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.

ص: 339

ليست عليها.

و بعبارة أُخرى: تارة يبيع الخبث، و أُخرى يبيع البول، فإن باع الخبث فالثمن محرّم، و إلّا فلا، فليتأمّل جيّداً.

و ربّما يرد على المصنّف: أنّ منع المعاوضة في الأعيان النجسة و لو كانت ذوات منافع محلّلة مقصودة و عدم المنع هنا، بلا وجه؛ لإطلاق الدليلين و كون أحدهما متعرّضاً لعنوانها الذاتي، و الآخر للعنوان العرضي، لا يوجب الفرق المزبور.

ص: 340

[مسألة 5: لا إشكال في جواز بيع المتنجّس الذي يقبل التطهير]

مسألة 5: لا إشكال (1) في جواز بيع المتنجّس الذي يقبل التطهير، و كذا ما لا يقبله، و لكن يمكن الانتفاع به مع وصف نجاسته في حال الاختيار؛ بأن لا تكون منفعته المحلّلة المقصودة في حال الضرورة متوقّفة على طهارته، كالدهن المتنجّس الذي يمكن الانتفاع به بالإسراج و طلي السفن، و الصبغ و الطين المتنجّسين، و الصابون الذي لا يمكن تطهيره.

و أمّا ما لا يقبل التطهير و كان الانتفاع به متوقّفاً على طهارته، كالسكنجبين النجس و نحوه، فلا يجوز بيعه و المعاوضة عليه.

قوله: «لا إشكال».

اتفاقاً و هذا هو مقتضى الأصل المتقدّم(1) بعد قصور الأدلّة العامّة.

اللَّهمّ إلّا أن يتوهّم: أنّ المتنجّس من وجوه النجس الواردة في حديث «تحف العقول» و لكنّه بمعزل عن التحقيق، بل لو قلنا: بأنّ المتنجّس ليس إلّا نجساً لا يشمله الحديث، مع ما عرفت في أصل الحكم في النجاسات.

ثمّ إنّ وجه المسائل المشار إليها في المتن معلوم، ممّا سبق.

نعم، بناء على اعتبار المنفعة النوعيّة في صحّة البيع مثلًا، يشكل بيع الأدهان النجسة في المصارف النازلة، و لو تمّ الحكم فيها، فلا بأس ببيع السكنجبين لبعض المصارف اللازمة أحياناً.


1- تقدّم في الصفحة 295 و 297 298.

ص: 341

و ما يدلّ على صحّة بيع الدهن للاستصباح(1) إمّا يدلّ على جواز جميع هذه البيوع، أو يدلّ على ممنوعيّة بيع الدهن للاستصباح في عصرنا؛ لأنّه من المنافع النادرة، و منها طلي السفن بدهن الشاة النجس، فما ذكره صدراً و ذيلًا غير راجع إلى محصّل.


1- وسائل الشيعة 17: 97، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6.

ص: 342

[مسألة 6: لا بأس ببيع الترياق المشتمل على لحوم الأفاعي]

مسألة 6: لا بأس (1) ببيع الترياق المشتمل على لحوم الأفاعي (1)، مع استهلاكها فيه، كما هو الغالب، بل المتعارف، فجاز استعماله و ينتفع به منفعة محلّلة معتدّاً بها، و أمّا المشتمل على الخمر فلا يجوز بيعه؛ لعدم قابليّته للتطهير، مع عدم حلّيّة الانتفاع به مع وصف نجاسته.

قوله: «لا بأس».

هذا الحكم واضح إذا لم تكن الأفاعي من ذوات الأنفس السائلة أو شكّ فيه، و المراد من الاستهلاك هو: أن لا يعدّ في نظر العرف المركّب المعجون ذا أجزاء معلومة، بل كان عنواناً آخر بسيطاً أو مركّباً، فالمسألة نظير البيضة الموجود فيها الدم، فإنّه على القول بنجاسته فلا يجوز أكلها و إن استهلك؛ لتنجّسها به قبل ذلك، و على القول بطهارته يجوز أكلها بعد الاستهلاك، و في مثل الترياق الذي ليس من العناوين الذاتيّة المعلومة عند العرف يشكل الحكم؛ لأنّه يُسأل عنه و لا يجاب إلّا بأنّه: المعجون المشتمل على كذا و كذا، بخلاف البيضة، كما لا يخفى.

فكبرى المسألة واضحة، بخلاف صغراها و قد مضى حكم صحّة البيع و عدمها في المسألة السابقة، فلا وجه لإعادته و تكراره.


1- إذا لم يثبت أنّها من ذوات أنفس سائلات

ص: 343

و جواز التداوي به عند الاضطرار (1) ليس عليه المدار، بل المدار على حلّيّة الانتفاع بالشي ء في حال الاختيار.

قوله: «عند الاضطرار».

المقصود منه ليس حال المرض، و إلّا يلزم سقوط صحّة بيع الأدوية طرّاً، بل المقصود حال انحصار التداوي به، و يشهد له قوله: «حال الاختيار» فما توهّمه بعض الشرّاح ناشئ من قلّة الباع.

ص: 344

[مسألة 7: يجوز بيع الهرّة و يحلّ ثمنها]

مسألة 7: يجوز (1) بيع الهرّة و يحلّ ثمنها بلا إشكال.

و أمّا غيرها من أنواع السباع فالظاهر جواز بيع ما كان منها ذا منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، و كذا الحشرات، بل المسوخ أيضاً إذا كانت كذلك.

فهذا هو المدار في جميع الأنواع؛ فلا إشكال في بيع العلق الذي يمصّ الدم الفاسد، و دود القزّ، و نحل العسل و إن كانت من الحشرات، و كذا الفيل الذي ينتفع بظهره و عظمه و إن كان من المسوخ.

قوله: «يجوز».

في إطلاقه إشكال؛ فإنّ المدار على ما أفاده في ذيل المسألة، و قد مرّ ما يتعلّق بهذه الكبرى(1).

و توهّم إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم(2)، حتّى يجوز بيعه و إن كان فاقداً للشرائط العرفيّة، لا يخلو من تعسّف، و لقد عرفت منّا: أنّ هذه الروايات، سواء كانت مشتملة على صحّة البيع، أو على فساده، ناظرة إلى الشرائط الشرعية، سواء رجعت إلى إلغاء الشرط العرفي تعبّداً


1- تقدّم في الصفحة 295 و 297 298.
2- عن محمّد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه قال: ثمن الكلب الّذي لا يصيد سحت، ثمّ قال: و لا بأس بثمن الهرّة. تهذيب الأحكام 6: 356/ 1017، وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 3.

ص: 345

كالماليّة، أو إلى إيجاب الشرط الشرعي كالطهارة مثلًا، ففي مثل مسألتنا هذه تكون الرواية ناظرة إلى أنّ الهرّة جامعة للشرط الذي هو مفقود في غيرها كالكلب و الخنزير.

ثمّ إنّه غير خفيّ أنّ التعرّض لهذه المسائل في هذا الكتاب خروج عن وضعه؛ ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها هنا هي المكاسب المحرّمة تكليفاً، لا المحرّمة وضعاً، و لا المحلّلة، فلا ينبغي الخلط.

و دعوى دلالة رواية سهل بن زياد(1) على المنع من بعض المسوخ، غير مسموعة، مع ضعف سندها بغيره.

و مثلها في الضعف رواية صفوان، عن عبد الحميد بن سعيد المشتملة على نفي البأس عن بيع عظام الفيل و شرائها(2)، فإنّها لا تدلّ على الإشكال في نفسه؛ لعدم الانتفاع من غير عظمه.

و هكذا رواية عليّ بن جعفر عن أخيه المشتملة على نفي البأس


1- الكافي 5: 227/ 7، وسائل الشيعة 17: 171، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 4.
2- الكافي 5: 226/ 1، وسائل الشيعة 17: 171، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 2.

ص: 346

عن بيع جلود السباع و ركوبها إذا لم يسجد عليها(1)، و التقييد محمول على صورة عدم التذكية، بناء على قبولها إيّاها، كما هو المعروف(2).


1- مسائل علي بن جعفر: 189/ 382، وسائل الشيعة 17: 172، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 5.
2- شرح اللمعة 2: 267، كتاب الذباحة، مجمع الفائدة و البرهان 11: 87 89، المهذّب 2: 442، مسالك الأفهام 2: 186، كتاب السرائر 3: 114، جواهر الكلام 36: 192 200، قواعد الأحكام 1: 154.

ص: 347

[مسألة 8: يحرم بيع كلّ ما كان آلة للحرام]

مسألة 8: يحرم بيع (1) كلّ ما كان آلة للحرام، بحيث كانت منفعته المقصودة منحصرة فيه، مثل آلات اللهو كالعيدان، و المزامير، و البرابط و نحوها، و آلات القمار كالنرد، و الشطرنج و نحوهما، قوله: «يحرم بيع».

أمّا حرمتها الوضعيّة فبدعوى سقوط الماليّة عرفاً، بعد تحريم المنافع الرائجة.

و أمّا حرمتها التكليفيّة فللإجماعات المنقولة(1)، و الشهرات المحقّقة، بل ادعى صاحب «الرياض» الإجماع المستفيض عليه(2)، و للروايات الخاصّة في خصوص الهياكل المبتدعة(3)، و إن لم يمثّل بها الماتن، و في خصوص النرد، و الشطرنج، و الأربعة عشر، و آلات المزامير، و أُمور الجاهلية(4).

و ضعف سندها منجبر بعمل الأصحاب، و فتواهم، و لو كان مستندهم غير هذه الأخبار لوصل إلينا.


1- منتهى المطلب 2: 1011/ السطر 34، مجمع الفائدة و البرهان 8: 41، مفتاح الكرامة 4: 31.
2- رياض المسائل 1: 499/ السطر 29.
3- وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41.
4- وسائل الشيعة 17: 318، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 102 و 103 و 104.

ص: 348

و كما يحرم بيعها و شرائها يحرم صنعتها، (1) اللّهمّ إلّا أن يقال بتلقّيهم المسألة من مشايخهم من غير احتياجها إلى الرواية، فالأمر دائر بين كون المستند تلك المآثير الدالّة على المقصود، و بين كون المسألة من المتلقّيات عن الأئمّة الطاهرين- سلام الله تعالى عليهم أجمعين.

و وجوب الكسر يشهد على بطلان المعاملة أيضاً، لحرمة الاقتناء، و سقوط الشرط العرفي، و لزوم التضادّ بين إيجاب الكسر و إيجاب الوفاء، بل و تنفيذ المعاوضة و التجارة.

و دعوى القطع برضا الشرع المقدّس بهذا الحكم و عمومه، غير بعيدة انصافاً.

نعم، في خصوص هياكل الأصنام يشكل الأمر في مثل هذه الأعصار؛ و لذلك قوّينا جواز التجارة بها إلّا للعبادة، و تفصيل المسألة يطلب من كتابنا الكبير(1).

قوله: «يحرم صنعتها».

على المعروف بينهم، و لا خلاف بين المتعرّضين لها و إن لا دليل عليها


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).

ص: 349

إلّا رواية «تحف العقول» و قد مرّ ما يتعلّق بها(1)، و لكنّ المسألة قطعيّة؛ لأنّ مذاق الشرع معلوم فيها.

و دعوى جواز صنعتها إذا كانت للاقتناء و التزيين، كما في الأواني(2)، غير مسموعة؛ لأنّ ذلك فيها يوجب انحفاظ ماليّتها بخلافه في تلك الآلات، كما لا يخفى.

و في خصوص الشطرنج رواية عن أبي بصير تدلّ على مبغوضيّته بجميع مراتب وجوده(3)، فيحكم في الباقي بمثله؛ لعدم القول بالتفصيل، فتأمّل.

بل قضيّة رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السّلام) «و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللَّه محرّم»(4) ممنوعيّة الاقتناء، و لعلّ إطلاق الأمر بالاجتناب في الكتاب(5) يورث ممنوعيّة الصنعة، و أخذ الأُجرة عليها، و غيرهما مما ينافي الاجتناب، فتدبّر.


1- تقدّم في الصفحة 292 295.
2- مسالك الأفهام 3: 123.
3- السرائر 3: 577، وسائل الشيعة 17: 323، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 103، الحديث 4.
4- تفسير القمّي 1: 180، وسائل الشيعة 17: 321، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 102، الحديث 12.
5- \i يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ\E. المائدة( 5): 90.

ص: 350

و الأُجرة عليها، (1) قوله: «و الأُجرة عليها».

أي على صنعة هذه الأُمور كلّها.

و كونها محرّمة وضعاً فلبطلان الإجارة؛ لاشتراط كون موردها محلّلًا، و قد استوفينا البحث عنه في كتاب الإجارة(1).

و العجب إنّ الأصحاب تمسّكوا بالنبوي(2) في هذه المواقف(3)، مع بنائهم في المسائل السالفة على أنّه يدلّ على أنّ ما حرّم من الأعيان حرّم ثمنه، و لا معنى لحملة على ما حرّم أكله و نظائره؛ للزوم كون الثمن حذاء العين، و هي في الفرض ليست محرّمة، مع أنّ ظاهره أنّ ثمن المثمن المحرّم، حرام.

و توهّم أنّ حرمة الإعانة بالإثم توجب حرمة الإجارة، و الأُجرة، و الصنعة و غيرها، فاسد جدّاً؛ لعدم صدق الإعانة في هذه المواضع، مع أنّه لا يورث فساد المعاملة.

و لو كان مثل صنعة الأُمور المؤدّية إلى المحرّم إعانة عليها، لكان


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقود).
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- شرح تبصرة المتعلمين للمحقّق العراقي 5: 9، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14، و راجع مصباح الفقاهة 1: 148. و ربّما يستظهر من المكاسب المحرّمة للإمام الخميني قدّس سرّه الشريف و إن لم يصرّح بالرواية: 172.

ص: 351

بل يجب كسرها (1) و تغيير هيئتها.

جميع الحركات، من جميع الناس إلّا ما شذّ مثلها.

قوله: «بل يجب كسرها».

إذا كانت تحت استيلائه؛ لأنّها- على ما يعلم من الكتاب، و السنّة مبغوضة جدّاً، و إذا لم تكن كذلك ففي وجوب استراقها و لو سرقة ما يخلّ باللعب بها و وجوب كسرها و إن اطّلع عليها، و يؤدّي إلى الضرر و الحرج في أدنى مراتبهما المتعارف تحمّلهما في نوع الأُمور، و عدمه، وجهان، و الأقوى هو الأوّل.

و المقصود من الكسر إفناؤها و لو بإلقائها في البحر، و البر، بعد الأمن من الانتفاع بشي ء منها.

نعم، إبقاؤها في الصندوق، مع القطع بعدم الانتفاع بها مطلقاً، ما دامت موجودة غير جائز؛ لأنّ قطعه لا يفيد شيئاً بعد إمكان التخلّف، فحسماً لمادّة الفساد لا بدّ من كسرها أو تغييرها؛ بحيث لا يمكن الاستفادة منها، و مع كونهما غير ممكنين، يتعيّن الممكن من المراتب النازلة عقلًا.

ص: 352

نعم، يجوز بيع مادّتها من الخشب، و الصفر مثلًا بعد الكسر (1)، بل قبله أيضاً إذا اشترط على المشتري كسرها و أمّا مع عدم الاشتراط ففيه إشكال.

قوله: «بعد الكسر».

بالاتفاق(1)؛ لتماميّة الشرائط المعتبرة في صحّته، و لا دليل على ممنوعيّته تكليفاً، و هكذا قبل الكسر، مع اشتراط الكسر، خصوصاً إذا كان المشتري موثوقاً به، و أنّه وفى به و كسره.

و ربّما يشكل صحّة المعاملة مطلقاً و لو مع الشرط و الوثاقة؛ لأنّ المبيع عرفاً ليس إلّا ما هو المنهي، و لا يكون التفكيك بين المادّة و الصورة عرفيّاً.

نعم، إذا كانت الهيئة فانية في الأنظار؛ بحيث لا يعدّ المبيع إلّا في جملة الأحطاب، بقرينة اشترائه بقيمتها، يجوز البيع من غير لزوم الشرط، فالشرط لا يفيد صحّة المعاملة، و تركه لا يورث فسادها.

اللّهمّ إلّا أن يقال بعدم الدليل على ممنوعيّة بيع تلك الآلات، على نحو الإطلاق، فإذا باعها ممّن يستعملها في المحرّم، فهو ممنوع؛ لحرمة الإعانة على الإثم، و إذا شرط على المشتري الكسر، أو كان موثوقاً به في كسرها، فهو لا يعدّ من الإعانة عليه.


1- جامع المقاصد 4: 16، مسالك الأفهام 3: 122، رياض المسائل 1: 499.

ص: 353

و فيه: إنّ مجرّد البيع و الشراء ليس من الإعانة على الإثم، مع أنّها لا توجب فساد المعاملة؛ لانطباقها عليها.

و دعوى: أنّ صحّة بيعها من غير كسرها، توجب صحّة بيع الخمر، إذا كان مقصود المتبايعين المعاملة على المائع، و صحّة بيع اللباس الحرير، إذا كان المقصود اشتراء الإبريسم، غير نافعة؛ لأنّ من الممكن مساعدة العرف، في بعض الفروض دون بعض.

و توهّم أنّ إيجاب البيع و الوفاء به يضادّ إيجاب الكسر(1)، في محلّه إذا كان ما يجب كسره و إعدامه داخلًا في البيع بالمعنى الاسمي الدخيل في القيمة و إلّا فلا، و ما فرضناه من الصورة الثانية، فتدبّر.

و ربّما يمكن دعوى صحّة بيع تلك الآلات، بالنسبة إلى مادّتها المملوكة، لا هيئتها، فيكون من بيع ما يملك و ما لا يملك.

و لو أتلفها متلف فهل يضمن بالنسبة إلى المادّة أو لا أو يفصّل فإن كسرها فأتلفها بإحراقها فهو ضامن، و إن أحرقها حال تصوّر المادّة بالصورة فلا يحرق إلّا ما هو المبغوض؛ لأنّ المادّة غير ملحوظة، وجوه فتأمّل جيّداً.

و ممّا ذكرناه يظهر وجه الإشكال الذي أشار إليه الماتن (قدس سره).


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 166.

ص: 354

و أمّا أواني الذهب و الفضة، فحرمة بيعها و عدمها مبنيّان (1) على حرمة اقتنائها، و التزيّن بها باقية على صورتها و هيئتها، و عدمها، فعلى الأوّل يحرم بيعها و شرائها، بل و صياغتها، و أخذ الأُجرة عليها، بخلافه على الثاني، و قد مرّ في أحكام الأواني: إنّ أحوطهما الأوّل، و أظهرهما الثاني.

قوله: «مبنيّان».

ليس الأمر كما ذكر، فإنّه يجوز بيعها إذا كانت مادّتها مورد المعاملة، كما عرفت، فلو كان اقتناؤها محرّماً يصحّ بيعها قبل كسرها، و لا يجوز بيعها إذا كان الاقتناء و التزيّن من المنافع النادرة، أو المتروكة، أو غير المتعارفة، و هذا على مبناه رحمه اللَّه تعالى. و وجه الحكم في سائر أحكامها يظهر ممّا مرّ.

و يمكن دعوى: أنّ الممنوع هي الهيئة مع المادّة الكذائيّة، لا الهيئة وحدها، و لا المادّة وحدها؛ ضرورة أنّ الذهب جائز بيعه و هكذا الآنية، و ما هو المحرّم آنية الذهب و الفضّة، فلو باع الأواني بنعت الكلّي، ثمّ سلّم الأواني من الذهب و الفضّة، من غير كون المادّة قيداً في مورد المعاملة، يجوز البيع، و يصحّ الوفاء على إشكال، فتأمّل.

ص: 355

[مسألة 9: الدراهم الخارجة أو المغشوشة، المعمولة لأجل غشّ الناس، تحرم المعاملة بها]

مسألة 9: الدراهم الخارجة أو المغشوشة، المعمولة لأجل غشّ الناس، تحرم المعاملة بها (1)، و جعلها عوضاً أو معوّضاً في المعاملات، مع جهل من تدفع إليه، بل مع علمه و اطّلاعه أيضاً، على الأحوط لو لم يكن أقوى ..

قوله: «تحرم المعاملة».

أمّا في الدولة الحقّة فالحكم قطعيّ؛ للدخول في سلطان الحقّ، و أمّا في الدولة الباطلة، فما كان منها مغشوشاً بالمقدار المتعارف المقدّر بالثلث في بعض الروايات(1)، فهو ممّا لا بأس به قطعاً؛ لأنّه ليس


1- عن العلاء بن رزين، عن زيد الصانع قال: قلت لأبي عبد اللَّه( عليه السّلام): إنّي كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها: بخارى، فرأيت فيها دراهم تعمل ثلث فضّة، و ثلث مسا و ثلث رصاصاً. و كنت تجوز عندهم و كانت أعملها و أنفقها، قال: فقال أبو عبد اللَّه( عليه السّلام): لا بأس بذلك إذا كان تجوز عندهم، فقلت: أ رأيت إن حال عليها الحول و هي عندي و فيها ما يجب عليّ فيه الزكاة، أُزكيها؟ قال: نعم، إنّما هو مالك، قلت: فإن أخرجتها إلى بلدة لا ينفق فيها مثلها فبقيت عندي حتّى حال عليها الحول، أُزكّيها؟ قال: إن كنت تعرف أنّ فيها من الفضّة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة فزكّ ما كان لك فيها من الفضّة الخالصة) من فضّة( و دع ما سوى ذلك من الخبيث، قلت: و إن كنت لا أعلم ما فيها من الفضّة الخالصة إلّا أنّي أعلم أنّ فيها ما تجب فيه الزكاة؟ قال: فاسبكها حتّى تخلص الفضّة و يحترق الخبيث ثمّ تزكّي ما خلص من الفضّة لسنة واحدة. الكافي 3: 517/ 9، وسائل الشيعة 9: 153، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب و الفضّة، الباب 7، الحديث 1. عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن إنفاق الدراهم المحمول عليها، فقال: إذا جازت الفضّة المثلين فلا بأس. تهذيب الأحكام 7: 108/ 463، الإستبصار 3: 96/ 330، وسائل الشيعة 18: 186 كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 10، الحديث 3.

ص: 356

لأجل غشّ الناس.

و أمّا ما هو المحمول عليه بالمقدار الزائد على الثلث، فإن جعله ثمناً في بلاد الكفّار، مع الأمن من وصوله إلى سوق المسلمين، فمع اطّلاع البائع لا بأس به، و مع عدم اطّلاعه لا تجوز المعاملة، إذا كان من قصده الإعطاء به، و تجوز فيما كان الثمن كلّياً، فأعطى المغشوش، فإنّه حينئذٍ يكون للبائع الخيار.

و أمّا في بلاد الإسلام، فمع العلم أيضاً مشكل؛ للزوم المفاسد الكثيرة، فضلًا عن الجهل، فإنّه في هذه الصورة و إن لا يلزم الغرور، و لكنّه في معرض التبادلات الفاسدة.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ نوع المعاملات في الأثمان كليّة، فلا يلزم الفساد، فيجوز حتّى مع الجهل، فتأمّل.

و لكنّ الإنصاف: أنّ المستفاد من الأخبار، جواز الإنفاق و الصرف في القسم الأوّل، و عدم جوازه، و وجوب كسره في القسم الثاني، لاستلزام وقوع الناس في أيدي السلطان الجائر إذا اطّلع عليه، و لذلك أُمروا بالكسر.

ص: 357

نعم، لا يلزم إيقاعها في البالوعة؛ لأنّ الأمر به(1) كناية عن شدّة الحكم في الكسر، فلا تغفل و تدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ قضيّة بعض المآثير في بيع الصرف، مثل رواية عليّ بن رئاب قال: لا أعلمه إلّا عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الرجل يعمل الدراهم، يحمل عليها النحاس أو غيره، ثمّ يبيعها، قال: «إذا بيّن ذلك فلا بأس»(2)؛ هو التفصيل بين صورتي العلم و الجهل، و قضيّة المفهوم فساد المعاملة مع الحرمة التكليفيّة.

و فيه: إنّ مقتضى بعض النسخ «إذا بيّن الناس ذلك»(3) و هذا هو الإرشاد إلى ما ذكرناه من: أنّه إذا كان عند الناس معلوماً حتّى لا يقعوا في الفساد، فهو ممّا لا بأس به، لا المشتري وحده فعليه قضيّة الجمع بين روايات المسألة ما سمعت منّا.


1- الكافي 5: 160/ 3، وسائل الشيعة 17: 280، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 7: 109/ 467، وسائل الشيعة 18: 185، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 10، الحديث 2.
3- الكافي 5: 253/ 2.

ص: 358

إلّا إذا وقعت (1) المعاملة على مادّتها، و يشترط على المتعامل كسرها، أو يكون موثوقاً به في الكسر، إذ لا يبعد وجوب إتلافها و لو بكسرها، دفعاً لمادّة الفساد.

قوله: «إلّا إذا وقعت».

من هنا يكون المتن من تحرير الوسيلة للسيّد الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه العالي- الذي ألّفه في بورسا و الوجه ما عرفت، و قد مضى: أنّ اللازم جواز بيعها و إن كانت باقية على هيئتها؛ لعدم لحاظ الهيئة.

نعم، فيه ما ذكرناه في خصوص الدراهم من لزوم الكسر و لو كان البيع للتزيين؛ لإطلاق الدليل، و مساعدة الحكم العقلي و الموضوع عرفاً، ففي الآلات السابقة كان يجوز البيع، من غير الحاجة إلى اشتراط الكسر، و لا كون المشتري موثوقاً به، و هنا يجب الكسر، و لا ينفع الشرط؛ لأنّه به لا يحصل الأمن من الفساد العظيم الجائي، على احتمال قويّ من قبله؛ لأنّ الاشتراط لا يورث الفرار منه.

نعم، لا بأس بالبيع إذا كان المتعامل موثوقاً به في الكسر، و قد كسره بعده، و إلّا تبطل المعاملة حسب ما يستفاد من المآثير.

ص: 359

و المراد من المغشوش تارة: يكون ما هو فيه الغشّ، حسب المادّة إذا غشّت الشركة المجازة، و أُخرى: ما عليه الهيئة و السكّة الباطلة، و هو الفرض الأوّل في المتن، و ثالثة: هما معاً.

ص: 360

[مسألة 10: يحرم بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً، و الخشب مثلًا ليعمل صنماً]

مسألة 10: يحرم (1) بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً، و الخشب مثلًا ليعمل صنماً، أو آلة للهو، أو القمار و نحو ذلك، إمّا بذكر صرفه في المحرّم و الالتزام به في العقد، أو تواطئهما على ذلك قوله: «يحرم».

على المعروف بينهم، من زمن المحقّق(1)، و لا أظنّ عنوان المسألة في الأقدم عليهم، فلا شهرة في المسألة.

و قضيّة الصناعة جواز البيع، و صحّته، و فساد الشرط، لما تحرّر من أنّه لا يسري إلى المشروط.

و توهّم أنّه إعانة على الإثم(2) فاسد جدّاً، لما تقرّر: أنّ عمل الخمر ليس محرّماً أوّلًا، فيمكن حينئذٍ الالتزام بصحّة الشرط أيضاً، في خصوص الخمر، لا في مثل آلات القمار.

و ثانياً: هذا أسوأ حالًا من الإعانة، و ليس منها عنواناً؛ لأنّ المعين هو: الذي يدخل في إثم المعان، بأن يكون بانياً على الحرام، فأعانه، و أمّا إعطاء شي ء به، مشروطاً صرفه في المحرّم ليس من الإعانة و إن كان أسوأ منه عقلًا، فلا وجه لحرمته التكليفيّة و لو كانت الغاية محرّمة.


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 50، مفتاح الكرامة 4: 37، جواهر الكلام 22: 30.
2- مجمع الفائدة و البرهان: 8 50، مفتاح الكرامة 4: 37/ السطر 16، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 16/ السطر 5.

ص: 361

نعم، دعوى استفادة العرف من حرمة الإعانة على الإثم، حرمة هذه الأُمور(1)، بمكان من الإمكان، فتأمّل، و لكنّه لا يورث فساد التجارة إلّا على بعض المباني الفاسدة.

و أمّا حرمته الوضعيّة فهي في ما نحن فيه، و هو بيع العنب بشرط الصرف في المحرّم، ممنوعة إلّا على القول بالسراية.

نعم، في خصوص الصليب، و الصنم يحرم ذلك للنصّ، و هو موثّق عمرو بن حريث(2)، و صحيح ابن أُذينة(3).

و أمّا إرجاع الشرط إلى القيد الداخل في مورد الإنشاء، فيكون المملوك ما لا يعدّ ملكاً للبائع عرفاً؛ لأنّ ملكيّة الأعيان ليست ذات حيثيّات و حصص حتّى يكون الخمر في الدار ملكاً غير ماليّة الخمر في البيت،


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 10/ السطر 23.
2- عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: لا. تهذيب الأحكام 6: 373/ 1084، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 2.
3- عن ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: لا بأس به. و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: لا. الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.

ص: 362

و لو بأن يقول المشتري لصاحب العنب مثلًا: بعني منّاً من العنب لأعمله خمراً (1)، فباعه. و كذا تحرم إجارة المساكن (2)، ليباع و يحرز فيها الخمر، أو ليعمل فيها بعض المحرّمات، و إجارة السفن، أو الحمولة لحمل الخمر و شبهها بأحد الوجهين المتقدّمين.

فهو خارج عن هذه المسألة المفروض فيها الالتزام بالمحرّم في العقد. هذا و المسألة بعد تحتاج إلى التدبّر و التأمّل.

قوله: «لأعمله خمراً».

لا يخفى إنّ هذه العبارة تورث اندراج المسألة في المبحث الآتي، و هو بيع العنب ممّن يعلم أنّه يعمله خمراً.

قوله: «تحرم إجارة».

وجه الحرمة التكليفيّة حرمة الإعانة على الإثم، و وجه الفساد ما مرّ في أصل المسألة، و قوله (عليه السّلام) في معتبرة جابر قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يؤاجر بيته، فيباع فيه الخمر، قال: «حرام أجره»(1) و لعلّه يفيد الحرمة التكليفيّة المستلزمة عرفاً للفساد أيضاً، فلو أشكل إثبات الحكم التكليفي من تلك الجهة لا يشكل هنا، كما لا يخفى.


1- تهذيب الأحكام 6: 371/ 1077، وسائل الشيعة 17: 174 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 39، الحديث 1.

ص: 363

و كلمة «فيباع» إمّا معناه حتّى يباع أو معناه التفريع، و بيان الصدفة من دون تعلّق الغرض به، فإن كان الأوّل فيحرم الأجر و تحرم الإجارة، و إن كان الثاني فالفرض الأوّل لازمه بالأولويّة العرفيّة، فيثبت الحكم قطعاً، فكونها مجملة في الاستعمال لا يورث سقوط الكشف القطعي الحاصل من التقديرين، فتأمّل.

هذا و لكنّ الإنصاف: إنّ كلمة «فاء» ظاهرة في الثاني، و تكون الرواية معارضة بصحيح ابن أُذينة، قال: كتبت إلى أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) سألت عن الرجل، يؤاجر سفينته و دابّته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: «لا بأس»(1).

و قضيّة الجمع الالتزام بالكراهة الشديدة، أو معاملة التعارض، لإباء كلمة التحريم من الحمل على الكراهة، بعد إلغاء الخصوصيّة؛ و النتيجة هي الأخذ برواية ابن أُذينة، لتوافقها مع الكتاب، بعد سقوط الشهرة بين المتأخّرين عن المرجّحيّة و المميّزيّة، فلا تغفل.


1- الكافي 5: 227/ 6، وسائل الشيعة 17: 174، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 39، الحديث 2.

ص: 364

و كما يحرم البيع و الإجارة فيما ذكر يفسدان (1) أيضاً، فلا يحلّ له الثمن و الأُجرة.

قوله مدّ ظلّه: «يفسدان».

لما عرفت، و لأنّ الشرط المذكور يرجع إلى خلاف مقتضى ذات العقد؛ لأنّه في حكم حصر انتفاع المشتري من الوجه المحرّم، فكأنّه باعه بشرط عدم تملّكه؛ لأنّه بالنسبة إلى المنافع المحلّلة محروم حسب الشرط، و بالنسبة إلى المنفعة المحرّمة محروم حسب الشرع، و هذا يرجع إلى عدم اعتبار الملكيّة للمشتري لتقوّمها به إجمالًا.

هذا و الحقّ: أنّ الشرط المذكور لا يورث تقييد المبيع بالحصّة، و إلّا يلزم بطلان البيع؛ لأجل عدم اعتبار الملكيّة المتحصّصة بين المالك و العين، كما أُشير إليه، و فصّلناه في كتاب الإجارة(1)، و قلنا: أنّ المنافع تحصّص بالأزمنة، بخلاف الأعيان، فإنّها لا تحصّص بها، و لا بتلك القيود، فعليه هذا في حكم الالتزام في الالتزام المورث للخيار عند التخلّف، و حيث هو فاسد و لا يسري فساده إلى المشروط، يصحّ البيع و غيره من سائر المعاملات.

و إذا كان الحكم كذلك في هذه الفروض، فصحّة المعاوضات في الفروض الآتية بطريق أولى.

و التمسّك ب «تحف العقول» لا يخلو عن ذهول، بعد ما عرفت ما فيه من


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 365

و كذا بيع الخشب (1) لمن يعلم أنّه يجعله صليباً أو صنماً، بل و كذا بيع العنب، و التمر، و الخشب ممّن يعلم أنّه يجعلها خمراً، و آلة للقمار و للبرابط، و إجارة المساكن لمن يعلم أنّه يعمل فيها ما ذكر، أو يبيعها و أمثال ذلك، في وجه قويّ، و المسألة من جهة النصوص مشكلة جدّاً، و الظاهر أنّها معلّلة.

الشبهات، و اضطراب المتن و الفقرات(1).

قوله مدّ ظلّه: «و كذا بيع الخشب».

هذا هو مختاره، و لا موافق له في المسألة ظاهراً إلّا السيّد صاحب «الرياض»(2).

و الوجه فيه: أنّه بعد المراجعة إلى الرواية الناهية عن بيع الخشب لمن يعلم أنّه يجعله صلباناً(3)، و بعد المراجعة إلى الأخبار الواردة في أنّ الشرع الأنور يضادّ الخمر في جميع حلقات وجوده، حتّى نهى عن غرسها، و لعن رسول اللَّه كذا و كذا(4)؛ يعلم: أنّ الخمر مبغوض الوجود، و الإيجاد، و منهيّ كلّ ما يوصل إلى عمله، و محرّم ذلك كلّه.


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- رياض المسائل 1: 500/ السطر 16.
3- الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 3 5.

ص: 366

و لو وردت روايات ظاهرة في الترخيص(1)، فهي غير قابلة للتصديق، خصوصاً بعد لزوم تخصيص آية «تحريم المعاونة»(2)، و الالتزام بما لا يليق بشأن الأئمّة (عليهم السّلام)، من بيع عنبهم لمن يعمل خمراً، مع استنكار أواسط الناس عن ذلك، و تقبيح العقل مثله الآبي عن التقييد قطعاً، فما أفاده الأردبيلي(3)، و تبعه السيّد صاحب «الرياض»(4) في غاية المتانة.

و على هذا في جميع الصور يشكل الحكم، و يقرب القول بفساد المعاملات، و يحرم تكليفاً لحرمة الإعانة على الإثم.

هذا و الحقّ: أنّ المستفيضة المتضمّنة لنهي رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و لعنه الخمر، و غارسها إلى عشرة طوائف(5)، غير داخلة في الأدلّة الناهضة على تحريم الشي ء؛ لأنّ لعنه لا يدلّ على أزيد من الكراهة الشديدة، مع


1- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
2- المائدة( 5): 2.
3- مجمع الفائدة و البرهان 8: 46 51.
4- رياض المسائل 1: 500/ السطر 32.
5- عن جابر، عن أبي جعفر( عليه السّلام) قال: لعن رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها. الكافي 6: 429/ 4، وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 4.

ص: 367

عدم إمكان الالتزام بجميع المدلول، و خصوصاً بعد معارضته بما يدلّ على جواز ذلك، كما عرفت في صحيحة ابن أُذينة(1).

و حديث حرمة المعاونة على الإثم لا يشمل جميع المعدّات المطلقة، و الأسباب الناقصة الدخيلة، بل هي تختصّ بطائفة خاصّة و هي التي وقع في تتميم الإثم الذي أراد الآثم إتيانه.

و أمّا إعطاء الشراب مع اشتراط الشرب ليس عرفاً من المعاونة، و مجرّد كونها أسوأ حالًا لا يكفي؛ لأنّه ممّا لا يفتى به، كما في مثل ظهور الرجال عراة عند النساء، فتدبّر.

فعليه لا وجه لصرف النظر عن النصوص الصحيحة الصريحة، في جواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعها خمراً(2)، و جواز بيع الخشب لمن يصنعه برابط(3).

بل، لنا قلب الدليل، و جعل هذه الروايات قرينة قطعيّة على أنّ المسألة ليست على ما يظهر من تلك المآثير، فلا تغفل و لا تخلط.


1- تقدّم في الصفحة 361.
2- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
3- الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.

ص: 368

[مسألة 11: يحرم بيع السلاح من أعداء الدين]

مسألة 11: يحرم (1) بيع السلاح من أعداء الدين حال مقاتلتهم مع المسلمين، بل حال مباينتهم معهم؛ بحيث يخاف منهم عليهم، و أمّا في حال الهدنة معهم، أو زمان وقوع الحرب بين أنفسهم، و مقاتلة بعضهم مع بعض، فلا بدّ في بيعه من مراعاة مصالح الإسلام و المسلمين، و مقتضيات اليوم، قوله: «يحرم».

بالضرورة، و الحكم في بعض الفروض قطعي، و لا يحتاج إلى الدليل.

و الذي هو المقصود في هذه المسألة، دعوى فساد هذه المعاملة، و حرمتها التكليفيّة و إن لا ينطبق عليها العناوين و القواعد الكلّيّة، بداهة أنّ نظر العقل في هذه المسألة معلوم، بخلافه في سائر المواضيع، فله تجويز بيع العنب ليعمل خمراً، دون تجويز بيع السلاح حال الهدنة، مع احتمال استعمالها في الحرب علينا؛ لاختلاف الموضوعات بعد التأمّل حولها.

فما ورد من المطلقات الناهية عن بيع السلاح(1)، ربّما يكون ناظراً إلى دفع مادّة الفساد.

و مجرّد القطع بعدم ترتّب الحرب عليها لا يورث جوازه؛ لعدم الملازمة بين القطع و الواقع، فإنّه كثيراً ما يتخلّف عن الواقع، فما أشار


1- وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 4 6 7.

ص: 369

و الأمر فيه موكول إلى نظر والي المسلمين (1)، و ليس لغيره الاستبداد بذلك.

إليه الشهيد، بل أفتى به من ممنوعيّة بيع السلاح منهم(1)، غير بعيد، خصوصاً بعد ما أفاد من ترتّب التقوية قهراً عليه؛ ضرورة أنّ المسلمين إذا وقفوا على أهمّية مواقفهم الحربيّة، يخافون منهم، و ذلك يؤدّي إلى وقوع الفساد في حومتهم، و إلى مفاسد أُخر و التي لا بدّ من مراعاتها.

و ما ورد من تجويز ذلك حال الهدنة(2) أو مطلقاً(3)، محمول بالضرورة على صور مخصوصة، مع مراعاة الجهات الكثيرة.

و المراد من السلاح هو سلاح كلّ عصر، و المقصود من أعداء الدين أعمّ من الهاجمين على المملكة الإسلامية و إن لم يكونوا كذلك.

قوله مدّ ظلّه: «والي المسلمين».

و المتصدّي لحفظ مصالحهم و لو كان من الجائرين، إذا كان التصدّي بإذن المجتهد العادل.

فبالجملة: ملاحظة المصالح قد تؤدّي إلى تجويز حمل السلاح إلى بلاد الكفر، لعدم ترتّب الفساد عليه، و مقتضى العمومات حليّته


1- مفتاح الكرامة 4: 35/ السطر 2.
2- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 5.

ص: 370

و صحّته، و قد تؤدّي إلى المنع عنه، و مفاد المآثير يدور حول ذلك(1).

و العجب من الشيخ الأعظم حيث قال بعدم دلالة النواهي في هذه المسألة على الفساد(2).

و أنت خبير بأنّ الحمل المنهيّ عنه في المآثير، و إن كان أعمّ من البيع، و لكنّه يورث فساد جميع أنحاء الحمل المعاوضي، لمعلوميّته من تلك المآثير، بل في رواية السرّاد، عن الصادق (عليه السّلام)، أو رجل عنه، قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح، قال: فقال: «لا تبعه في فتنة»(3)؛ ما يورث الفساد على القاعدة كما ترى.

و مثله رواية الصدوق، في وصيّة النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لعليّ (عليه السّلام)(4).

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في سائر الفروع المذكورة في المسألة.

و لو قيل: العدول عن مقتضى الأخبار، بحكم العقل غير جائز؛ لأنّ هذه


1- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 20/ السطر 4.
3- الكافي 5: 113/ 4، وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 4.
4- الفقيه 4: 257/ 821، وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 7.

ص: 371

الأُمور ممّا لا يدرك جميع المصالح الممكنة في أطرافها، فلا بدّ من المراجعة إلى المطلقات، و هي جواز بيع السلاح من المشركين، و الكفّار، و أهل الحرب، و أعداء الدين إلّا في صورة واحدة، و هي حال قيام الفتنة و الحرب؛ للنصّ كصحيحة الحضرميّ(1)، أو صورة أُخرى، و هي حال الهدنة مع العلم بقيام الحرب بها؛ لقوله (عليه السّلام) ذيل الصحيحة المشار إليها «فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا، فهو مشرك»(2).

قلنا: هذه الأحكام من الضروريّات الأوّليّة، و لا يعقل التجاوز عنها بإطلاق رواية و لو كانت صحيحة، و تحتاج المسألة إلى غور آخر حولها، و لقد تعرّضنا لحدودها في كتابنا الكبير(3)، و لا يخفى أنّ عناوين المشركين، و أهل الحرب، و أعداء الدين مختلفة الصدق، و لكنّ المقصود معلوم.


1- عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) فقال له حكم السراج ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها؟ فقال: لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج و السلاح. الكافي 5: 112/ 1. وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 2.
3- مباحث المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 372

و يلحق بالكفّار من يعادي الفرقة الحقّة، من سائر (1) الفرق المسلمة، و لا يبعد (2) التعدّي إلى قطّاع الطريق و أشباههم، قوله مدّ ظلّه: «من سائر».

على المعروف بينهم، و هو قضيّة معتبرة الحضرميّ صريحاً، و رواية السرّاج، و إطلاق الفتنة، بل القدر المتيقّن منه ذلك كما قيل(1)، و هذا مع قطع النظر عن المصالح المعلومة أحياناً، فإنّه عند ذلك لا بدّ من متابعتها.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يبعد».

بمقتضى إطلاق بعض الأخبار المشار إليها، و قد يشكل: أنّ إطلاقها غير ثابت، و مقتضى القواعد صحّته إلّا إذا كان من قصده ذلك، فيندرج في المسائل السابقة، و حيث أنّ سند رواية السرّاد أو السرّاج غير منقّح، لا يتمّ الاستدلال بها في خصوص مسألتنا.

و توهّم ممنوعيّة ذلك لأدائه إلى قتل المؤمن، ناشئ من الجهل بالمسألة، كما لا يخفى.

و بالجملة: هذه المسألة خارجة عن كبرى كلّيّة منقّحة، في المكاسب المحرّمة، و هي: ممنوعيّة بيع السلاح لأعداء الدين، بل في نفسي أنّ هذه الكبرى تندرج حسب الأخبار في مسألة بيع العنب لمن يصنعه خمراً و يشربه، و تكون من جهة الحرمة مثل بيع الخشب لمن


1- الحدائق الناضرة 18: 208.

ص: 373

بل لا يبعد (1) التعدّي من بيع السلاح إلى بيع غيره ممّا يكون سبباً لتقويتهم على أهل الحقّ، كالزاد، و الراحلة، و الحمولة و نحوها.

يجعله صنماً و صلباناً، نعم، حسب القواعد العقليّة عرفت تفصيلها.

قوله مدّ ظلّه: «بل لا يبعد».

لحكم العقل، و من المحتمل جوازها لإطلاق معتبرة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: «إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس»(1) فإنّ مقتضى الإطلاقين، منطوقاً و مفهوماً، ممنوعيّة حمل السلاح لأنّه لا يستفاد منه إلّا في الحرب الباطل، و جواز غيره لأنّه لا ينتفع به على المسلمين في الحرب.

و تقوية المحارب لو كانت ممنوعة، لما كان وجه لما حكي من صنع بعض المعصومين (عليهم السّلام)، من عدم منع الماء على الأعداء(2) فتدبّر.

و قد يتوهّم اختصاص المنع المطلق بالمشركين، لأنّ دليل التقييد موضوعه المسلمين و أهل الشام، و لا يخفى وهنه و فساده، كما أشرنا إليه آنفاً.


1- مسائل علي بن جعفر: 176/ 320، وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 6.
2- وقعة صفّين: 162، تاريخ الطبري 6: 572، الكامل في التاريخ 3: 285.

ص: 374

[مسألة 12: يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان، و الحيوان إذا كانت الصورة مجسّمة]

مسألة 12: يحرم (1) تصوير ذوات الأرواح من الإنسان، و الحيوان إذا كانت الصورة مجسّمة كالمعمولة من الأحجار، و الفلزّات، و الأخشاب و نحوها.

قوله مدّ ظلّه: «يحرم».

بالاتفاق، و عليه الإجماعات المنقولة(1)، بل و المحصّلة، و لا خلاف في الصورة الأُولى، و هي تجسيم ذوات الأرواح، و هي القدر المتيقّن من معاقدها، و تلك المطلقات و النصوص الواردة في المسألة أو المهملات(2) و إلى زماننا لا مخالف لها، إلّا أنّ المحتمل ممنوعيّتها في عصر اتّخاذها أوثاناً من دون اللَّه تبارك و تعالى، و القرينة المقاميّة كالكلاميّة في المانعيّة عن انعقاد الإطلاق، و كما يصحّ أن يتّكل المتكلّم بها يصحّ بذاك أيضاً بالضرورة، فربّما تكون الروايات في المسألة ناظرة إلى تلك المسألة.

هذا و مناسبة الحكم و الموضوع لا تقتضي في المقام إلّا الكراهة، و لعلّه يشير إلى هذه الجهة ما ورد من الأخبار المشتملة على الأمر بتوهين الصور، و جعلها في الظهر، و الخلف، و التحت، و وطئها(3)، و أنّ


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 54، مفتاح الكرامة 4: 48/ السطر 16، جواهر الكلام 22: 41.
2- لاحظ وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3 و 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94.
3- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45، و 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32، و 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 4.

ص: 375

الأعاجم يعظّمونها، و إنّا لنمتهنها(1)، و نحقّرها، و نهينها، و الأخبار الكثيرة الزاجرة عن جعلها في القبلة(2)، و في اللباس الذي يصلّى فيه(3)، و هكذا ممّا يكون وجهه إلى ما كان عليه آبائهم، من العبادة، و من بقايا حبّهم لها، و ميلهم إليها.

و لو صحّ الأخذ بالمطلقات في المسألة- كما يأتي يلزم تخصيص الأكثر.

و ما ورد من تكليفهم بالنفخ في عدّة روايات(4)، يستلزم عود الأجسام في المعاد، مع إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(5) و لذلك جلّ أخبار الباب، و كلّ الروايات المتضمّنة لهذه الجملة، غير نقيّ السند.

و لا تكفي مرسلة ابن أبي عمير(6)، مع الإشكال في حجّيّتها، لإثبات هذا


1- الكافي 6: 477/ 7، وسائل الشيعة 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 4، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32.
3- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
4- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 9.
5- العنكبوت) 29): 64.
6- الكافي 6: 527/ 4، وسائل الشيعة 5: 304، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 2.

ص: 376

الرأي، مع أنّها غير مشتملة على كلمة «العذاب» و مجرّد التكليف أعمّ من الحرمة المقصودة، كما لا يخفى.

و لنعم ما أفاد الوالد المحقّق- مدّ ظلّه في ابتداء المسألة، من أنّ ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم و الموضوع، أنّ المراد «بالتماثيل و الصور» فيها هي: تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة؛ لأنّها مشتملة على التشديدات التي لا تناسب مطلق عمل المجسّمة، أو تنقيش الصور، لأعظميّة الكبائر منها، و هي ليست من الكبائر رأساً(1).

و لكنّه بعد ذلك التزم بحرمة عمل التجسيم على الإطلاق(2)، فكأنّه آخذ بأنّ هذه الأُمور لا تضرّ بالإطلاقات، و هو غير جيّد.

و سيأتي: أنّ الأمر يدور بين أمرين، إمّا جواز عمل التصوير حتّى التجسيم، و إمّا حرمته حتّى النقش، و حرمة اقتنائه؛ ضرورة أنّ التمثال و الصور حسب الاستعمال و اللغة، أعمّ من المجسّمات، و التقييد المستهجن ممنوع؛ فيكون القدر المتيقّن منها، ما صنع للعبادة، أو لحفظ الآثار و العتائق إشعاراً ب «شعائريّة» هذه الأُمور في السلف الفاجر.


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 257.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 260.

ص: 377

و الأقوى جوازه (1) مع عدم التجسيم، و إن كان الأحوط تركه.

و أمّا غير ذلك ممّا يرجع إلى ذوق الإنسان، و حسن فكرته، و ظهور قدرته، فلا دليل قطعي على ممنوعيّته.

و ممّا يشهد على جواز التجسيم هو ما يدلّ على جواز الاقتناء(1)، فإنّ التفكيك غير مساعد لفهم العرف قطعاً، كما سيأتي.

قوله مدّ ظلّه: «جوازه».

و هو الظاهر من متون الأصحاب، حيث قالوا بعد العنوان «كعمل الصور المجسّمة»(2) و سكتوا عن النقوش، و ليس سكوتهم نسياناً، بل هم لا يقولون بحرمة أزيد من الفرض الأوّل، و إليه ذهب «الجواهر» بل يستظهر منه أنّ الشهرة على خلاف التحريم(3).

و قد اختار جمع حرمته(4)، و الدليل الوحيد هي الروايات الخاصّة، بعد دعوى قصور العمومات عن شمولها، مثل قوله (عليه السّلام): «من صوّر صورة»(5) أو «من مثّل مثالًا»(6) لأنّ موضوعهما الأخصّ، أو هو المنصرف


1- وسائل الشيعة 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32.
2- شرائع الإسلام 2: 4، قواعد الأحكام 1: 120/ السطر 24، كفاية الأحكام: 85/ السطر 20.
3- جواهر الكلام 22: 42.
4- المهذّب 1: 344، السرائر 2: 215، الحدائق الناضرة 18: 100.
5- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 7.
6- وسائل الشيعة 5: 306، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 10.

ص: 378

إليه، أو يكون ذيل هذه الروايات، مثل قوله (عليه السّلام) «كلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ»(1) قرينة على الأخصّ، و لا أقلّ من صلاحيّتها للاقتران، و قد تقرّر عدم جواز التمسّك في هذه المواقف(2).

و من تلك الروايات صحيحة ابن مسلم الثقفيّ (رحمه اللَّه (قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن تماثيل الشجر، و الشمس، و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان»(3) و هي أظهر ما في الباب، مع وضوح قصورها؛ لعدم معلوميّة وجه السؤال أوّلًا، فمن المحتمل أن يكون المقصود الصلاة عليها، كما في روايات(4)، أو اللعب بها، أو غيرهما؛ و لأنّ كلمة «البأس» بمعنى العذاب، و هي الظاهرة في الحرمة بخلاف كلمة «لا بأس» فإنّه على ما في «أقرب الموارد»(5) يناسب الكراهة، و المفهوم المستفاد من هذه الرواية لا يفيد حينئذٍ شيئاً لتبعيّته للمنطوق قهراً. و من هنا يعلم الوجه


1- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 و 7 و 9.
2- تقدّم في الصفحة 134 136.
3- المحاسن: 619/ 54، وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
5- أقرب الموارد: 28.

ص: 379

في النواهي المتعلّقة بها مع مجهوليّة الوجه.

و دعوى الأخذ بالإطلاق، و الخروج عنه بالدليل، غير مسموعة في هذه المواقف، و لا سيّما بعد لزوم كونه على الكراهة في أكثر منافعها، بل كلّها إلّا إيجادها فلا تغفل.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في فساد التمسّك(1) بروايات الحسين بن زيد(2)، و أبي بصير(3)، و جرّاح المدائنيّ(4)، و عبد اللَّه بن طلحة(5)، فإنّها كلّها ضعيفة، بل في دلالة بعضها نظر واضح.

و توهّم دلالة موثّقة أبي العبّاس، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) في قول اللَّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ(6) فقال: «و اللَّه ما هي


1- انظر الحدائق الناضرة 18: 99، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 264.
2- الفقيه 4: 3/ 1، وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6.
3- الكافي 6: 526/ 1، وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 461/ 1505، وسائل الشيعة 5: 306، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 9.
5- مستدرك الوسائل 13: 210، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 75، الحديث 2.
6- سبأ) 34): 13.

ص: 380

و يجوز تصوير (1) غير ذوات الأرواح كالأشجار، و الأوراد و نحوها و لو مع التجسيم، تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها الشجر و شبهه»(1) على محرميّة النقش(2)؛ غير تامّ؛ لما في السند إشكال، لاشتراك أبي العبّاس، و لأنّ من المحتمل كونها زاجرة عن النسبة الباطلة إلى النبي (عليه السّلام)، و هو سليمان من غير النظر إلى حكم المنسوب، من الكراهة و الحرمة، كما في نسبة الولد إلى الحقّ تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «و يجوز تصوير».

بالاتفاق على ما يستظهر، خلافاً لجماعة ممّن لا يضرّ خلافهم.

و لعمري إنّ المسألة من حيث الروايات واضحة، اللّهمّ إلّا أن يقال بإطلاقات الأخبار العامّة(3)، و عدم دلالة الروايات الخاصّة(4) على جواز الإيجاد، فإنّ الوجود غير مبغوض، بخلاف الإيجاد، و ما عرفت من


1- الكافي 6: 527/ 7، وسائل الشيعة 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 1.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 23/ السطر 21.
3- وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3.
4- وسائل الشيعة 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 1 3.

ص: 381

الروايات المشار إليها في المسألة الثانية(1)، غير ناهض لتحريم النقش، و لا لتجويز تجسيم غير ذوات الأرواح، و تصويرها.

و قضيّة ذيل المآثير السابقة، و مقتضى التشبّه بالخالق، في ترسيم الأشجار، و بعض الأحجار؛ ممنوعية الكلّ.

و قصّة النفخ ليست ظاهرة إلّا في الكناية عن تعذيب العامل، و أنّه تعالى كان إذا صنع هذه الأُمور يقدر على أن ينفخ فيها فانفخ فيها، لو كنت تزعم الأُلوهيّة، أو تدخل في حومتها.

و لك القول بممنوعيّة الأشجار، دون غيرها؛ لأنّها ذوات الأرواح، خصوصاً على رأي بعض المحقّقين.

كما لك اختيار اختصاص الحكم بالحيوان، دون الإنسان و الملك و الجنّ؛ لانصرافه عنهم، كما في لباس المصلّي، و أعميّة كلمة «ذوات الأرواح» منه مخصّص به، فتأمّل.

فبالجملة: ليس كلّ ما يمكن أن يقال مورد الفتوى، و قد عرفت: أنّ المسألة من رأسها محلّ إشكال إلّا في صورة واحدة، و هي ما لو عمل الصور للعبادة، كما كانوا يصنعون ذلك، فتدبّر.

و في تلك الصورة يحرم عملها مطلقاً، و لا يجوز اقتناؤها، و يجب كسرها؛


1- تقدّم في الصفحة 378.

ص: 382

و لا فرق (1) بين أنحاء التصوير من النقش، و التخطيط، و التطريز، و الحكّ و غير ذلك، و يجوز العكس المتداول في زماننا بالآلات المتداولة، بل الظاهر أنّه ليس من التصوير.

لاقتضاء الأدلّة السابقة في مشابهها بالقطع.

و في المسألة احتمال آخر و هو حرمة عمل صورة الإنسان، دون سائر الحيوانات؛ لأنّها ليست ذوات الأرواح، و هو قضية رواية «تحف العقول» حيث قال في الصناعات المحلّلة: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني»(1) فإنّها تقيّد إطلاقات الأدلّة المانعة بالمفهوم.

قوله مدّ ظلّه: «و لا فرق».

لعدم الدليل بعد شمول الأدلّة إيّاها، نعم في العكس المتعارف في هذه الأزمنة، يشكل الحكم تارة: من أجل صدق التصوير، بدعوى أنّه انعكاس الأنوار النقرويّة على الصفحة السوداء، و في العمل الثاني يظهر ما وقع على تلك الصفحة، فالقوّة في الانعكاس انفعاليّة، كما في انفعال النفس من الصور الخارجيّة مثلًا، و التصوير فعل النفس، فلا يصدق عليه، كما صرّح به الفقيه الأصفهانيّ رحمه اللَّه تعالى(2) أيضاً.

و أُخرى: من أجل انصراف الأدلّة عن مثل العمل الإبداعي، كما في


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- وسيلة النجاة 2: 3، المسألة 12.

ص: 383

و كما يحرم عمل التصوير من ذوات الأرواح مجسمة، يحرم التكسّب (1) به، و أخذ الأُجرة عليه، هذا كلّه في عمل الصور. و أمّا بيعها، و اقتناؤها و استعمالها، و النظر إليها، فالأقوى جواز ذلك (2) كلّه حتّى المجسّمات.

المجسّمة الصادرة عن المكائن الحديثة، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «يحرم التكسّب».

بلا إشكال للنبويّ المذكور «إنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(1) و أنت خبير بقصوره عن إثبات الحرمة التكليفيّة لعنوان الكسب، فصيرورته أجيراً للعمل المذكور، أو بيعه ما صنعه، ليس من المحرّمات، نعم، يحرم ثمنه تكليفاً، و وضعاً على ما عرفت.

و ربّما يقال بالترتّب في الأحكام الوضعيّة، و تصويره يطلب من كتبنا الأُصوليّة(2).

قوله مدّ ظلّه: «جواز ذلك».

و هو المشهور، و قد حكي(3) عن الأردبيليّ تحريم الاقتناء(4)؛ لأنّ العرف يجد لملازمة بين الوجود و الإيجاد، في المحبوبيّة و المبغوضيّة، فما كان


1- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
2- تحريرات في الأُصول 2: 108 و مابعدها.
3- جواهر الكلام 22: 44.
4- مجمع الفائدة و البرهان 8: 56.

ص: 384

منها محرّماً إيجاده مبغوض وجوده، بل مبغوضيّة الوجود باعثة إلى النهي عن الإيجاد، و ما كان منها جائزاً وجوده جائز إيجاده، و مجرّد إمكان التفصيل غير كافٍ.

نعم، لا بدّ من القرائن الصريحة، فإنّ الالتزام بحرمة عمل التصوير على الشمعة الزائلة فوراً، في غاية البعد، فما دام لم يكن الإيجاد متعقّباً بالوجود الباقي عرفاً، لا يكون محرّماً.

و قد يقال بوجود القرائن القطعيّة على التفصيل المذكور(1)، و لكنّها غير تامّة.

و ممّا ذكرناه يظهر: أنّ الإيجاد في التماثيل و الصور حتّى المجسّمة، غير ممنوع، ممّا اتفقت الأخبار المذكورة في كتاب الصلاة على جواز الاقتناء(2) بالضرورة؛ فيعلم أنّ ما هو المنهي في المآثير الزاجرة، يختصّ بما هو المبغوض بقاءً، و هي الصور المصنوعة للاحترام و العبادة، و حفظاً للآثار القديمة، و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(3).


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 286.
2- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
3- مباحث المكاسب المحرّمة للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 385

نعم، يكره (1) اقتناؤها و إمساكها في البيت.

قوله مدّ ظلّه: «يكره».

للنصوص الكثيرة(1)، و ربّما يمكن دعوى استحباب كسرها، للأمر به في النصوص(2)، و تزول الكراهة بالتوهين، و التفريش، و الوطي بمقتضى بعض الروايات(3)، بل الظاهر استحباب هتكها في جميع الأماكن، و السرّ في ذلك كلّه هو: أنّ هذه النقوش و المجسّمات تشابه ما كانوا يعبدونه، و اللَّه العالم.


1- وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3.
2- وسائل الشيعة 4: 441، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45، الحديث 18 20 21، و 5: 171، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32، الحديث 5 10 12.
3- وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 4.

ص: 386

[مسألة 13: الغناء حرام فعله]

مسألة 13: الغناء حرام فعله، (1) قوله مدّ ظلّه: «فعله».

إجماعاً و اتفاقاً، و لا مخالف في حرمته إجمالًا، و ما نسب إلى العلمين السبزواريّ(1) و الكاشانيّ(2)، و تبعهما النراقيّ(3)، لا يستلزم إشكالًا، بعد ظهور جملاتهم في التزامهم بالحرمة في المجلس الخاصّ.

و يدلّ على أصل الحكم آيات(4)، و روايات وردت في ذيلها(5)، و طوائف اخرى منها وردت مستقلّة(6)، و لا شبهة في ذلك قطعاً.

إنّما البحث في إطلاق الحكم، و ما يمكن أن يكون سنداً له قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(7) و قد فسّر الثاني بالغناء(8).

و قوله تعالى:


1- كفاية الأحكام: 86/ السطر 19.
2- الوافي 3: 35/ السطر 8.
3- مستند الشيعة 2: 343/ السطر 10.
4- الحجّ) 22): 30، الفرقان) 25): 72، لقمان) 31): 6.
5- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
6- نفس المصدر.
7- الحجّ) 22): 30.
8- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 2 8 9 20 26.

ص: 387

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ(1).

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ(2) فإنّ الغناء على ما في روايات من لهو الحديث(3)، و الزور هو الغناء.

و يشكل: أوّلًا: بأنّ ماهيّة الغناء ليست قول الزور، فهو من مصاديقه باعتبار اشتماله على الزور الذي هو الباطل، فما هو الواجب اجتنابه ما لا يمكن الالتزام به، و هو مطلق الباطل.

و ثانياً: بأنّه من الكبائر و لا يلتزم به الفقيه.

و ثالثاً: بعدم دلالته على الحرمة، خصوصاً حرمة الفعل.

هذا مع أنّ الروايات الواردة في ذيل الآيات، بل و غيرها بكثرتها البالغة حدّ التواتر اللغوي، غير نقيّة السند إلّا ما شذّ منها.

و الذي يظهر لي: أنّ الغناء بمفهومه الوسيع ممّا لا دليل على حرمته، و ما هو المحرّم نوع منه، و قد تعرّضنا للمسألة في كتابنا الكبير(4)، و هذا غير ما صدر عن السابقين، فإنّي أقول بحرمته و لو لم يكن معه المحرّمات


1- لقمان) 31): 6.
2- الفرقان) 25): 72.
3- وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6 7 11 16 20 25.
4- مباحث المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 388

الأُخر، و لكنّه لا بدّ من أن يكون مجلس فيه الغناء، و معدّاً للّهو و الباطل.

و يشهد له، مضافاً إلى قصور الأدلّة عن إثبات حرمة مطلق الغناء، و احتمال كون المآثير ناظرة إلى المجالس المتعارفة في عصر الأخبار و الأحاديث، ما في اللغة: بأنّ الغناء مجلس التغنّي، و ما في جملة من الروايات، كرواية ابن أبي عمير، عن مهران بن محمّد، عن الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) يقول: «الغناء مجلس لا ينظر اللَّه إلى أهله، و هو ممّا قال اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ(1)»(2) و هذه الرواية لها الحكومة على المطلقات المفروضة.

و صحيحة زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة»(3) الحديث.

و رواية ابن محمّد المدنيّ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتاً اللَّه معرضٌ عن أهلها»(4) و رواية


1- لقمان) 31): 6.
2- الكافي 6: 433/ 16، وسائل الشيعة 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 16.
3- الكافي 6: 433/ 15، وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 1.
4- الكافي 6: 434/ 18، وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 12.

ص: 389

عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام (قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه، قال: «لا»(1) و غيرها.

فبالجملة: بعد التدبّر في المسألة يشكل حكمه، و عندي: أنّ حكم الغناء أصعب من موضوعه و ما ترى من إرسال حرمته من غير التدبّر في السند، من القصور في الاجتهاد ضرورة أنّ ما أوعد اللَّه عليه النار(2) كيف يرخّصه في الأعراس؟! و هل هذا إلّا الاستثناء المستهجن؟! و ممّا يشهد على ما ذكرناه، بل يدلّ عليه، صحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي تدخل عليها الرجال»(3).

و رواية ابن جعفر، عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الغناء، هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح؟ قال: «لا بأس به ما لم يعص به»(4)


1- مسائل علي بن جعفر 148/ 186، وسائل الشيعة 17: 312، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 32.
2- الكافي 6: 431/ 4، وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6.
3- الكافي 5: 120/ 3، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3.
4- قرب الإسناد: 294/ 1158، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 5.

ص: 390

و غيرها(1).

فإنّ هذه الروايات كالنصّ في نفي الحرمة عن بعض الأغاني.

و ما ورد في المغنّيات و المغنّي(2)، لا يدلّ على حرمة الغناء مرّة واحدة؛ لأنّ الموضوع أخصّ، بل فيه إشعار باختصاص الحرمة ببعض الفروض، و يشهد للاختصاص مرسلة الصدوق (رحمه اللَّه (قال: سأل رجل عليّ بن الحسين (عليه السّلام) عن شراء جارية لها صوت، فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة»(3) و في الأحاديث ما يساعد هذه المقالة كثير.

و الجمع بين الأخبار في نهاية الإشكال، بل قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه، حمل المطلق على المقيّد في المتوافقين أيضاً، لامتناع تعلّق الإرادة الجدّيّة بهما؛ لأنّ المقيّد هو المطلق مع القيد. و يشترط في حصول الإرادتين الجدّيّتين على العنوانين من كونهما متباينين، أو عموماً من وجه، فإنّهما في عالم التشريع متباينان، و تصادقهما خارج من محيط التقنين(4).


1- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 و 2.
2- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16.
3- الفقيه 4: 42/ 139، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 2.
4- تحريرات في الأُصول 5: 492.

ص: 391

و قد يقال: بأنّ الأخبار تجمعها نكتة اخرى و هي: أنّ الغناء بحسب المفهوم اللغوي عامّ، و هو ليس موضوعاً في الأدلّة، بل الموضوع الصوت المطرب الذي يأتي تفصيله(1)، و هو المعنى الأخصّ العرفي، و لكنّه غير تامّ، ضرورة أنّه يستلزم القول بانصراف الأدلّة إلى الحصّة الخاصّة، أو الحقيقة الثانويّة، كما قيل في لفظة «الحيوان» و هذا غير صحيح، مع أنّه به لا يجمع بين شتات المآثير، كما لا يخفى.

فما ذهب إليه الجماعة من اختصاص الحرمة بالاقتران بالمعاصي(2)، غير تامّ؛ لعدم تماميّة سنده، و ما ادّعي عليه الإجماع بقسميه في «الجواهر» في كتاب الشهادات(3)، غير مرضيّ، فلا يترك الاحتياط جدّاً.

و قد يستدلّ على حرمة الغناء مطلقاً بحرمة الاستماع و لو مرّة واحدة، للتلازم العرفي(4).

و فيه: أنّ حرمة الإيجاد ملازم عرفاً لحرمة الاستماع؛ لأنّه الأثر الواضح منه و لا عكس، هذا مع أنّ المحرّم من الاستماع كما يأتي، ليس إلّا


1- يأتي في الصفحة 396.
2- الوافي 3: 35/ السطر 8، مفاتيح الشرائع 2: 21، كفاية الأحكام: 86/ السطر 19، مستند الشيعة 2: 243/ السطر 10.
3- جواهر الكلام 41: 47.
4- الحدائق الناضرة 18: 106 108. انظر: مختلف الشيعة 5: 19 20.

ص: 392

و سماعه، (1) الاستماع إلى الغناء المحرّم، و عليه الشاهد في مآثيره الآتية.

قوله مدّ ظلّه: «و سماعه».

اتفاقاً، و لم يعهد المفصّل و الذي يقول بحرمة نوع منه يحرم استماعه، و لا يقول بحرمة الاستماع مطلقاً؛ للتلازم عرفاً و ملاكاً و دليلًا.

و يدلّ عليه: مضافاً إلى إطلاق الأمر بالاجتناب، بل إطلاق ما يدلّ على حرمته، فإنّ الغناء إيجاداً و استماعاً من المطلوب للنفوس، فما أوعد اللَّه عليه النار هو الغناء، و إطلاقه يشمل إيجاده و استماعه، و لا يقاس بالكذب و نحوه، لعدم التلذّذ في سماعه بخلاف الغيبة؛ قوله تعالى وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ(1) فإنّه ظاهر في ذمّ الاستماع، و بناء على الملازمة العرفيّة يعرف مذموميّة الإيجاد.

و فيه: ما قد عرفت من قصوره عن الدلالة على الحرمة.

و إدراج قول المستمع «أحسنت» في قول الزور، كما في معتبرة حمّاد ابن عثمان، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سألته عن قول الزور، قال: «منه قول الرجل للذي يغنّي أحسنت»(2)؛ يورث وهن الهيئة في اللزوم، خصوصاً بعد


1- الفرقان) 25): 72.
2- معاني الأخبار: 349/ 2، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 21.

ص: 393

اقترانه بالهيئة السابقة الظاهرة في الإرشاد، بل لا بدّ من الالتزام بكون الهيئة إرشاداً إلى أمر آخر، و إلّا يلزم وجوب الاجتناب عن قول الزور، لا حرمة الغناء.

و أيضاً يدلّ على الحكم المذكور، معتبرة عنبسة عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء الزرع»(1) و فيه ما لا يخفى.

رواية عاصم بن حميد قال: قال لي أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أنّى كنت؟» فظننت أنّه قد عرف الموضع فقلت: جعلت فداك، إنّي كنت مررت بفلان، فدخلت إلى داره، و نظرت إلى جواريه، فقال: «ذاك مجلس لا ينظر اللَّه عزّ و جلّ إلى أهله، أمنت اللَّه على أهلك و مالك»(2).

و هي تشهد على ما قوّيناه حسب الناظر القاصر، بناء على ارتباطها بهذه المسألة، و كونها كناية عن مجلس الغناء.

و لعمري إنّ الإشكال في حرمة الاستماع على الإطلاق حسب الصناعة، قويّ، و لكنّ العرف لا يقبل التفكيك.


1- الكافي 6: 434/ 23، وسائل الشيعة 17: 316، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 101، الحديث 1.
2- الكافي 6: 434/ 22، وسائل الشيعة 17: 317، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 101، الحديث 4.

ص: 394

و التكسّب به، (1) قوله مدّ ظلّه: «و التكسّب به».

للنصّ الخاصّ في المغنّي و المغنّية(1)، و «لأنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(2) و لبناء الأصحاب على الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة التكسّب به، مع الالتزام بفساده.

و قد يشكل في خصوص المقام أن قوله (عليه السّلام)، في جملة من الروايات «أنّ ثمن المغنّية حرام» أو «سحت»(3) و ورود الرواية في خصوص الجواري(4)، يومي إلى أنّ اتّخاذه كسباً من المحرّم، فيقيّد بالمفهوم هنا عموم النبوي، فتأمّل.

و توهّم: أنّ هذه الروايات مخصوصة بمسألة بيع القينات و الجواري المغنّيات، غير تامّ، لأنّ الثمن، كما في النبوي أعمّ، فتحرم الإجارة و غيرها من سائر أنواع الكسب، نعم في خصوص بيعها بعض


1- الفقيه 3: 105/ 436، وسائل الشيعة 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 17.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 3 7.
4- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 4 7.

ص: 395

و ليس هو مجرّد تحسين الصوت، بل هو مدّه و ترجيعه، بكيفيّة خاصّة مطربة، تناسب مجالس (1) اللهو، و محافل الطرب، و آلات اللهو و الملاهي، الروايات المتعارضة(1)، و تفصيل البحث حولها يطلب من محالّه.

و ممّا يدلّ على حرمة الإجارة النصوص الخاصّة الناطقة بأنّ أجر المغنّية و كسبها سحت و حرام(2).

قوله مدّ ظلّه: «مجالس».

و قد بلغت الأقوال و الاحتمالات في تعريفه إلى أكثر من عشرين، بل و الثلاثين، و اضطربت كلمات الفقهاء في ذلك، و قد أشار إليها السيّد العامليّ في «مفتاح الكرامة»(3) و صنّف شيخ مشايخنا محمّد رضا الأصفهاني في هذه المسألة رسالة لطيفة و قال: «الغناء: صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، و الطرب: هي الخفّة التي تعتري الإنسان فيكاد أن يذهب بالعقل، و تفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً»(4) انتهى.


1- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 و 4، و 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 17.
3- مفتاح الكرامة 4: 50/ السطر 10.
4- هذه الرسالة غير مطبوعة و نقل عنه الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) في المكاسب المحرّمة 1: 300.

ص: 396

و قال الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه، بعد ذلك و بعد الغور في تفصيل كلامه: «فالأولى تعريف الغناء: بأنّه صوت الإنسان الذي له رقّة، و حسن ذاتي و لو في الجملة، و له شأنيّة إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس»(1) انتهى.

و الذي ظهر لي: أنّه من الصوت ما طرب به، و كونه مطرباً فعليّاً و لو لجماعة غير مستمعين إليه، و لا وجه للاختصاص بالإنسان، و لا سائر القيود الزائدة، بل هو أمر عند العرف واضح.

و يمكن دعوى: أنّه في اللغة و الاستعمال مطلق الصوت الذي يؤدّي للتلذّذ و إن لم يتلذّذ به إلّا صاحبه، و كان في حدّ نفسه من أنكر الأصوات، خصوصاً إذا قلنا بأنّه محرّم بالعرض، لأجل انطباق عنوان المحرّم عليه، كاللهو و الباطل، و الزور، فإنّها أوسع دائرة في الصدق.

و الذي يظهر من الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) أنّه ينكر حرمة الغناء، حيث قال، بعد الفراغ عن البحث حوله: «فكلّ صوت يكون لهواً بكيفيّة، و معدوداً من ألحان أهل الفسوق و المعاصي، فهو حرام و إن فرض أنّه ليس بغناء، و كلّ ما لا يعدّ لهواً، فليس بحرام و إن فرض صدق الغناء عليه، فرضاً غير محقّق؛ لعدم الدليل على حرمة الغناء إلّا من حيث كونه باطلًا، و لهواً، و لغواً،


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 305.

ص: 397

و لا فرق (1) بين استعماله في كلام حقّ من قراءة القرآن، و الدعاء، و المرثية و غيره، من شعر أو نثر، و زوراً»(1) انتهى.

و هذه العبارة صريحة في إنكارها حرمته الذاتيّة، و إثباتها أنّه محرّم بالعناوين الكثيرة المحرّمة، فلا تغفل و تدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «و لا فرق».

للإطلاقات السابقة، و عدم معارضتها بشي ء، و الأمر عموماً بتحسين القرآن(2) لا يقاوم النهي الإلزامي، و خصوصاً بالترجيع فيه، و لا يستلزم جواز الطرب به، و بالتغنّي به، كما في رواية، عن تفسير الشيخ أبي عليّ «و تغنّوا بالقرآن، فمن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا»(3) فلا تورث جواز ما ثبت حرمته، و لا سيما بعد معارضتها برواية عبد اللَّه بن سنان، الناهية عن ترجيع القرآن، و الإتيان به بمثل ألحان أهل الفسق، و الكبائر(4)، و لكنّه خالفهم الأردبيليّ (قدِّس سرُّه) في القرآن و المراثي(5)، و لعلّه لما مضى من قصور الأدلّة،


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 37/ السطر 22.
2- وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 5 6.
3- مجمع البيان 1: 86، مع تفاوت يسير.
4- الكافي 2: 450/ 3، وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 8: 61.

ص: 398

بل يتضاعف (1) عقابه لو استعمله فيما يطاع به اللَّه تعالى. نعم، قد يستثنى غناء المغنّيات في الأعراس، و هو غير بعيد (2)، و لا يترك الاحتياط بالاقتصار على زفّ العرائس، و المجلس المعدّ له مقدّماً و مؤخّراً، لا مطلق المجالس، بل الأحوط الاجتناب مطلقاً.

و اغتشاشها، و ضعف أسنادها إلّا عدّة منها، مع ضعف ما ورد في خصوص القرآن، و النهي عن الترجيع فيه(1).

قوله مدّ ظلّه: «بل يتضاعف».

لاستلزامه اللعب بما هو الموضوع للعبادة، و قد عنون في «الوسائل» باباً في خصوص وجوب إكرام القرآن، و حرمة إهانته(2)، و المراد من تضاعف العقاب ليس اشتداده، بل يتكرّر ذلك لتكرّر العنوان المحرّم المنطبق على العمل الوحداني.

قوله مدّ ظلّه: «و هو غير بعيد».

و هذا هو الصريح في كلام جماعة(3)، و المخالف في المسألة فخر الدين(4)،


1- وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24.
2- وسائل الشيعة 6: 169، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 2.
3- النهاية: 367، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 22، جامع المقاصد 4: 24، مسالك الأفهام 3: 126.
4- إيضاح الفوائد 1: 405.

ص: 399

و لعلّه المنساق من كلام كلّ من تعرّض للمسألة و لم يتعرّض لهذا الاستثناء، و خصوصاً بعد تعرّضه للبعض الآخر(1)، للإشكال في موضوعه.

و ما يدلّ على الاستثناء روايات أبي بصير قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس»(2).

و في روايته الأُخرى قال: «المغنّية التي تزفّ العرائس، لا بأس بكسبها»(3).

و روايته الثالثة قال في كسب المغنّيات: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس»(4).

و لو تمّ الإشكال في سند بعضها لمكان عليّ بن أبي حمزة، أو لجهة أُخرى، و لكنّ الظاهر تماميّة بعض الأسناد، فمثلها تخرج عن المطلقات


1- شرائع الإسلام 4: 117، قواعد الأحكام 2: 236/ السطر 20، الدروس الشرعيّة 2: 126، كفاية الأحكام: 85/ السطر 31.
2- الكافي 5: 120/ 3، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3.
3- الكافي 5: 120/ 2، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 2.
4- الكافي 5: 119/ 1، وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1.

ص: 400

المانعة(1).

و يشكل العمل بهذه الروايات، لأجل إباء قوله (عليه السّلام): «الغناء ممّا وعد اللَّه عليه النار»(2) عن مثل هذا التقييد.

و لأجل أنّ المطلقات الكثيرة الواردة في المقامات المختلفة البالغة إلى حدّ التواتر(3) و الأكثر، تأبى عن التقييد برواية، فإنّ من المحتمل قويّاً كون روايات أبي بصير، رواية واحدة مختلفة الإسناد إلى أبي بصير، فيلزم التعارض، و لا تقاوم هي ذاك قطعاً.

و لأجل إعراض القدماء(4)، في احتمال قويّ لما سمعت منّا، و عمل المتأخّرين كالمحقّق و العلّامة(5)، لا يورث شيئاً كسراً و جبراً.

نعم، و لأجل احتمال كون الغناء في المستثنى المرتبة الأُولى منه على ما عرفت من بعض البحث فيه.


1- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
2- الكافي 6: 431/ 4، وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، و 17: 303 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
4- الكافي في الفقه: 281، المقنعة: 588، السرائر 2: 222.
5- المختصر النافع: 116، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 22.

ص: 401

و لأجل احتمال كون المغنّية تدعى للزفّ لا للغناء، و لأجل إعراض المشهور قطعاً عنها لو أُخذ بقيدها و مفهومه؛ لأنّ في الرواية الثالثة قال كسب المغنّيات: «التي يدخل عليها الرجال حرام»(1) مع أنّه حرام على الإطلاق، و بعد كونها رواية واحدة ينعقد إعراضهم عنها، بل قيل في صورة الشكّ في الإعراض، يشكل العمل بالسند، للزوم تقييده(2)، فلا يخفى.

هذا مع أنّ في السند بحثاً آخر.

و الحاصل من هذه الأُمور ذهاب الوثوق النوعي عن مثلها، فالاستثناء حكماً، مشكل إلّا على القول الآخر، و هو عدم ثبوت الإطلاق في الأدلّة الناهية، و القدر المتيقّن منها ما أسمعناك فلاحظ.

و لعلّ الماتن- مدّ ظلّه، لأجل هذه الأُمور أخذ بالقدر المتيقّن في الاستثناء، و احتاط في أصل المسألة، و اللَّه العالم.

ثمّ إنّه غير خفيّ أنّ موارد الاستثناء المذكورة في الروايات، كثيرة


1- الكافي 5: 119/ 1، وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1.
2- انظر المكاسب، الشيخ الأنصاري: 39/ السطر 3.

ص: 402

مثل العيدان، و الفرح(1)، و النياح(2)، و العرس(3) و غيرها(4)، إلّا أنّ ثبوت الحكم في بعضها، و الموضوع في الآخر، غير معلوم.


1- قرب الإسناد: 121، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 5.
2- الفقيه 3: 98/ 376، وسائل الشيعة 17: 127، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 17، الحديث 7.
3- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 3.
4- وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 5، مستدرك الوسائل 4: 273، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 20، الحديث 7 8.

ص: 403

[مسألة 14: معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم، حرام]

مسألة 14: معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم، حرام (1) بلا إشكال، بل ورد عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أنّه قال: «و من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج عن الإسلام»(1) و عنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين الظلمة و أعوان الظلمة حتّى من بري لهم قلماً و لاق لهم دواتاً» قال: «فيجتمعون في تابوت من حديد، ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(2).

قوله: «حرام».

على المعروف المشهور، و في عنوان المسألة احتمالات: أن يكون المقصود حرمة الإعانة على الإثم، و ذكر الظلم لكونه أعظم، و لخصوص بعض الروايات، مثل خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم»(3) و لعلّ المراد من الأوّل هو المتصدّي لظلم الظالم، لا الذي يظلم بنفسه.

و أن يكون المقصود إعانة من يعدّ من الظالمين و المتجاوزين على أموال الناس و أعراضهم، في ظلمهم، أو سائر المعاصي، و جميع ما نهوا عنه.


1- تنبيه الخواطر 1: 54، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 15، مع تفاوت يسير.
2- تنبيه الخواطر 1: 45، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 16.
3- الكافي 2: 250/ 16، وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 2.

ص: 404

و أن يكون المقصود إعانتهم في ظلمهم، و هو غصب الحكومة و إن لم يكن من أعوانهم الاصطلاحي.

و أن يكون المقصود الدخول في الأُمور المرتبطة بهم؛ بحيث يعدّ من عمّالهم و أعوانهم.

و الذي هو التحقيق: إنّ ها هنا مسائل: الأُولى: مسألة حرمة الإعانة على الإثم و لو كان الإثم ظلماً، كما يظهر من الكتاب إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(1) و يكون المراد من الظالمين المتلبّسين بالمبدإ، من غير حصول الكثرة، و الحرفة فيه.

و الحقّ: أنّها محرّمة بالكتاب(2)، و يساعده الاتّفاق و العقل في الجملة، و يدلّ عليه بعض الأخبار(3)، على إشكال فيه، و هو مقتضى الأدلّة الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر؛ فإنّ العرف يفهم منها حرمة الإعانة عليه.


1- لقمان) 31): 13.
2- المائدة( 5): 2.
3- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.

ص: 405

الثانية: مسألة إعانة الظالمين المشغولين بالظلم كالحكومات الجائرة و أمثالهم و لو كانوا شيعه في ظلمهم و تعدّيهم على الناس، من غصب الأموال، و قتل الأنفس، و هتك الأعراض، و هذا هو المحرّم للجهتين، بناء على معقوليّته فيما كان بين العنوانين عموماً مطلقاً، و هو القدر المتيقّن من الروايات الواردة في المسألة(1).

و من الظلم غصب الخلافة، و لعلّ المقصود من بعض الروايات المطلقة الفرض الأخير؛ لعدم تنافيه مع الإطلاق.

الثالثة: معونة الظالمين في غير الظلم و سائر المحرّمات و المعروف هو الجواز؛ لعدم الدليل، و للزوم بعض الإشكالات، و لاستلزامه الصعوبة في الدين، و لمنافاته لما دلّ على مجاملتهم، و حسن العشرة معهم، و جلب قلوبهم؛ كي يقولوا: رحم اللَّه جعفر بن محمّد، ما أحسن ما كان يؤدّب به أصحابه(2).

و ما ورد من المطلقات غير معمول به، فيدور الأمر بين الأخذ بإطلاقها،


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
2- وسائل الشيعة 8: 430، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 75، الحديث 1 و 12: 5، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 1، الحديث 2.

ص: 406

و أمّا معونتهم في غير المحرّمات، فالظاهر جوازه ما لم يعدّ من أعوانهم (1) و حواشيهم و المنسوبين إليهم، أو حملها على الصورة السابقة، أو سقوطها رأساً؛ لأنّ منشأ الإعراض يمكن أن يكون وجود القرائن المورثة للإجمال، كما لا يخفى، أو بعض جهات أُخر في سندها.

نعم، مقتضى بعض الروايات(1)، و حكم العقل بلزوم دفع الظلم، وجوب الإعراض عنهم، الموجب لسقوطهم، و هذا ما لا يحصل إلّا بالاتّفاق.

و لعمري إنّ اشتهار الفتوى بالجواز، و ترغيب الناس إلى أُمورهم لبعض المصالح المتوهّمة، أوقعهم فيما وقعوا فيه، و ابتلوا بالبليّات المدهشة إلى يوم القيامة، و لو كانوا متأمّلين في هذه المسألة و ما ورد فيها، لما بقي لهم شبهة في حرمة العشرة معهم إلّا في بعض المواضع الخاصّة ممّا كان التابعون قليلين، و إلى ما ذكر أُشير في المآثير(2).

قوله مدّ ظلّه: «ما لم يعدّ من أعوانهم».

للنصوص الخاصّة، ففي معتبرة ابن أبي يعفور، قال: كنت عند


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 1 2.
2- الكافي 5: 106/ 4، وسائل الشيعة 17: 199، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 1.

ص: 407

أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) إذا دخل عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق و الشدّة، فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «ما أُحبّ أنّي عقدت لهم عقدةً، أو وكيت لهم وكاءً، و إنّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللَّه بين العباد»(1).

و دلالتها على المطلوب قطعيّة، لأنّه القدر المتيقّن منه.

نعم، توهّم إطلاق الصدر بعد ظهور الذيل في العنوان المخصوص، مشكل إلّا بدعوى أعمّيّة عنوان أعوان الظلمة؛ فإنّ «عون الضعيف صدقة» أعمّ، و الظلمة لو كانت أخصّ لا تورث أعمّيّة المضاف بعد اقتضاء المناسبة خلافه.

ثمّ إنّه قد يتوهّم اختصاص الظلمة بالحكّام و السلاطين الجائرين، و الأمراء الفاسقين، من أهل الخلاف، المعاندين لأهل الحقّ في دينهم، أو الذين يقتلون النبيّين و أئمّة المؤمنين، حفظاً لسلطانهم كالعبّاسيين، و أمّا سلاطين الشيعة المظهرين للوداد و المحبّة بالنسبة إليهم، و إن كانوا


1- الكافي 5: 107/ 7، وسائل الشيعة 17: 179، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 6.

ص: 408

و لم يكن اسمه مقيّداً (1) في دفترهم و ديوانهم، فاسقين و غاصبين حقوق الفقهاء و المجتهدين، فهو خارج من هذه المآثير(1). نعم، إذا كان مظهراً للتشيّع، و مبدعاً للأحكام الكافرة و مضيّعاً للقوانين الحقّة، فهو داخل في حكم هذه المسألة بحكم العقل.

و يندفع ذلك بالعمومات(2)، بعد اقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع ذلك، كما هو الظاهر.

قوله مدّ ظلّه: «مقيّداً».

مقتضى إطلاق هذه العبارة ممنوعيّته و إن لم يلزم منه صدق العون، و أنّه من أعوان الظلمة.

و هذا هو قضيّة رواية يعقوب بن يزيد، عن ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهليّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللَّه يوم القيامة خنزيراً»(3) و يمثّله الحواشي فإنّهم لا يعدّون أعواناً.

و لكنّه ورد في المعتبرة قال، قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من اللَّه، و لا كثر ماله إلّا اشتدّ حسابه، و لا كثر تبعه إلّا


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 2: 154 156.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
3- تهذيب الأحكام 6: 329/ 913، وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 9.

ص: 409

و لم يكن ذلك موجباً (1) لازدياد شوكتهم و قوّتهم.

كثرت شياطينه»(1).

و في معتبرة اخرى قال، قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها، فإنّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من اللَّه عزّ و جلّ، و من آثر السلطان على اللَّه أذهب اللَّه عنه الورع و جعله حيراناً»(2).

و قضيّة المعتبرتين و غيرهما، حرمة العنوان الآخر، و هو كونه من المقرّبين و المعروفين بأنّه مورد احترامه، و يكون نافذاً فيه، و سيأتي في المسائل الآتية، عند تعرّض المصنّف- مدّ ظلّه تمام الكلام في المقام(3).

قوله: «و لم يكن موجباً».

يمكن دعوى لحوقها بالعنوان المشار إليه، فإنّ ذلك من الإعانة على الإثم، و هو غصب الخلافة، فإنّ ما يوجب بقاء الآثم في إثمه أو شركته في الإثم محرّم بالعقل و النقل، أو لحوقه بعنوان أعوان الظلمة؛ فإنّ من كان فعله المباح مرّة واحدة موجباً لذلك يعدّ به من أعوانه عرفاً، و في


1- عقاب الأعمال: 310/ 1، وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 12.
2- عقاب الأعمال: 310/ 2، وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 13.
3- ذيل مسألة 24 من التحرير عند تعرّض المصنّف عدم جواز الدخول في الولايات 4: 313.

ص: 410

خصوص ذلك ما أُشير إليه.

و من العجيب أنّ المسألة عندهم واضحة و لكن المسموع من بعض السالفين، و المشهور من جماعة من المعاصرين هداهم اللَّه تعالى، خلاف ذلك، و لقد أخّرتني الدهور إلى عصر عجيب، و ذو ردّة واهية نرى ميل العلماء إلّا الشاذّ منهم إلى الملوك و السلاطين، مستدلّين بصنع عليّ بن يقطين(1)، غافلين عن الجهات، ذاهلين لشدّة الحبّ إلى ما هم عليه عمّا هو وظيفتهم، و قد اتّفق في عصرنا رجوع الناس عن تقليد الراكن إلى أبوابهم، و وقع في قلوبهم الخلل و الزلل بالنسبة إلى عقائدهم، فبئس الملوك و بئس العلماء، خذلهم اللَّه تعالى أو هداهم.


1- انظر وسائل الشيعة 17: 193، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 1.

ص: 411

[مسألة 15: يحرم حفظ كتب الضلال]

مسألة 15: يحرم حفظ (1) كتب الضلال، و نسخها، و قراءتها، و درسها و تدريسها إن لم يكن غرض صحيح في ذلك، كأن يكون قاصداً لنقضها و إبطالها، و كان أهلًا لذلك، و مأموناً من الضلال، و أمّا مجرّد الاطّلاع على مطالبها، فليس من الأغراض الصحيحة المجوّزة لحفظها لغالب الناس، من العوام الذين يخشى عليهم الضلال و الزلل، فاللازم على أمثالهم التجنّب عن الكتب المشتملة على ما يخالف عقائد المسلمين، خصوصاً ما اشتمل منها على شبهات و مغالطات، عجزوا عن حلّها و دفعها، قوله مدّ ظلّه: «يحرم حفظ».

و عن «التذكرة» و «المنتهى»(1) نفي الخلاف عنه، و لعلّه المشهور بين جماعة من القدماء المتعرّضين للمسألة(2)، إلّا أنّ الأدلّة المذكورة من الآيات و الروايات، قاصرة عن إثبات هذا العنوان، و الدليل العقلي لا يورث الحرمة الشرعيّة؛ لعدم تماميّة قاعدة الملازمة، خصوصاً في مثل المقام فإنّ ما هو المبغوض في الشريعة معلوم، و هو الإفساد في الأرض، و الإضلال، و المقدّمات حتى الموصلة منها ليست محرّمة على ما تحرّر في محلّه(3).


1- تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 37، منتهى المطلب 2: 1013/ السطر 34.
2- المقنعة: 589، النهاية: 365، السرائر 2: 218، شرائع الإسلام 2: 4.
3- تحريرات في الأُصول 3: 206 و 290 291.

ص: 412

و قوله (عليه السّلام) في معتبرة عبد الملك الوارد في التنجيم: «أحرق كتبك»(1) لا يورث المطلوب بعد ظهور الصدر في أنّ الذيل كناية أو إرشاد إلى ترك العمل و القضاء بما في كتبه.

و قضيّة حكم العقل في الشبهات المهتمّ بها بعد معلوميّة غرض المولى، هو الاحتياط، و ذلك بلا فرق بين كتب الضلال، و المدارس التي توجبه، و من يكون مضلا و هادياً إلى سبل الفساد، و الزلل في العقائد، فإنّ عنوان المسألة ممّا لا شاهد عليه خصوصاً.

و ليس مطلق القراءة ممنوعاً، بل القراءة الممنوعة هي الملازمة للأثر الفاسد شخصاً، أو نوعاً، و هي التي يعقبها النظر، و التفكّر.

و سائر العناوين المشار إليها ليست من المحرّمات المتعدّدة عنواناً و المستقلّة دليلًا و ملاكاً.

و الأمان من الضلال إن كان شخصيّاً فيلزم جواز الاطّلاع عليها و إن لا يقصد النقض و الإبطال، و إن كان نوعيّاً فلا يجوز له النظر و لو للردّ و الإبطال، و المدار على حكم العقل و لا يكفي مجرّد الاحتمال، و إلّا يمكن منع القاطع بالأمن؛ لأنّ القطع يخطئ و يصيب.


1- الفقيه 2: 175/ 779، وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1.

ص: 413

و لا يجوز (1) لهم شراؤها، و إمساكها، و حفظها، بل يجب عليهم إتلافها.

و بالجملة: يندرج في المسألة الكتب الفلسفيّة المشتملة على شبهات عقليّة في المبدأ و المعاد، و مغالطات علميّة في التوحيد و غيره ممّا لا يسلم منها إلّا الأوحدي. و أمّا الكتب المضلّة عن سواء السبيل، و الراغبة إلى المعاصي و الفسق، و الباعثة إلى المفاسد الأخلاقيّة، فهي أيضاً ربّما تكون منها، لقوله تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و منها: الصحف و الجرائد، و المنشورات الرائجة في عصرنا، المشتملة على الفواحش؛ فإنّه ربّما يشملها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

قوله دام ظلّه: «و لا يجوز».

في المواضع الممنوعة عقلًا يكون الحكم ممنوعيّة هذه الأُمور احتياطاً، و غاية ما يمكن أن يقال للحرمة الوضعيّة، دعوى عدم رضا الشرع بذلك، و لكنّه ممنوع؛ لما ورد عنهم (عليهم السّلام (من بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنع خمراً؛ فإنّ في هذه الروايات ما يومئ إلى أنّ فساد المطالب الأُخر لا يسري إلى موضوعات اخرى.

و بالجملة: لا حرمة لمقدّمات المحرّم حتّى الموصلة منها، فالمنع مبني على الاحتياط.

و استكشاف الحكم التكليفي من قاعدة الملازمة على تقدير صحّتها

ص: 414

في نفسها، و كون المورد من مصاديقها يستلزم فساد المعاملة عليها، بناء على تماميّة النبوي سنداً و دلالة، فافهم و تدبّر.

و ممّا ذكرناه يظهر حال إتلافها و إمساكها، فإنّ الأمر فيهما كما عرفت، و قد يستظهر من قوله تعالى في مسألة المفسد في الأرض من أنّه يصلب، أو يقطع، أو ينفي؛ أنّ هذه الكتب تحرق و لكنّه غير تامّ، و للحاكم و الوالي جمع الكتب المضلّة الرائجة بين الناس، الموجبة لوقوعهم في الضلال و الزلل، فافهم و تأمّل.

ص: 415

[مسألة 16: عمل السحر و تعليمه و تعلّمه و التكسّب به حرام]

مسألة 16: عمل السحر و تعليمه و تعلّمه و التكسّب به حرام (1)، و المراد به ما يعمل من كتابة، أو تكلّم، أو دخنة، أو تصوير، أو نفث، أو عقد يؤثّر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، فيؤثّر في إحضاره، أو إنامته، أو إغمائه، أو تحبيبه، أو تبغيضه قوله دام ظلّه: «حرام».

أمّا عمله فعليه الإجماع منقولًا(1)، بل و محصّلًا، و ليس في المسلمين من يجوّزه على إطلاقه، بل في «الجواهر»: «هو من الضروريّات التي يدخل منكرها في سبيل الكافرين»(2).

و الذي هو القدر المتيقّن منه ما يستعمل ليضلّ عن سبيل اللَّه تعالى، و يوجب الزلل في العقائد، و حدوث احتمال كون عمل الأنبياء (عليهم السّلام (من سنخ أعمالهم، و هكذا لو ترتّب على عمله ما لا يرضى به الشرع الأقدس من المفاسد، فإنّ محمّد بن إدريس روى في آخر «السرائر» عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّه قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم ( «مَنْ مَشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب، يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللَّه تعالى من كتاب»(3).

و ظاهره كونه قرينة على ما ورد في السحر، بعد قصور تلك الروايات


1- منتهى المطلب 2: 1014/ السطر 17، رياض المسائل 1: 503/ السطر 24.
2- جواهر الكلام 22: 75.
3- السرائر 3: 593.

ص: 416

عن إثبات حرمة السحر بإطلاقه، فإنّ قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ساحر المسلمين يقتل، و ساحر الكفّار لا يقتل»(1) بعد شبهة في سنده، و إشكال أدبيّ في عبارته؛ لا يدلّ على أنّ السحر بذاته حرام، و على إطلاقه ممنوع، و لا سيما على ما احتملناه في الكتاب الكبير(2)، من أنّه من الإضافة اللّفظيّة أي سحر الكافر لا يورث شيئاً في نفس الكافر حتّى يقتل ساحرة، بخلاف المسلم، فلو أتى الكافر بسحر المسلم فهو أيضاً يقتل.

و قوله: «من كتاب» ربّما يكون إشارة إلى ما ورد فيه وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى(3).

و قوله تعالى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(4).

فإنّ المشي إليه خلاف الاعتقاد بالكتاب إلّا للتفريح. و قوله تعالى:


1- عن جعفر بن محمّد، عن أبيه( عليهما السّلام( قال: قال رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل، قيل: يا رسول اللَّه لِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال: لأنّ الشرك أعظم من السحر، لأنّ السحر و الشرك مقرونان. الفقيه 3: 371/ 1752، وسائل الشيعة 17: 146، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 2.
2- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).
3- طه( 20): 69.
4- يونس( 10): 81.

ص: 417

عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أيضاً دليل على ما ذكرناه.

و هكذا قوله تعالى وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ(1).

بل في قوله تعالى وَ لا يَنْفَعُهُمْ إشارة إلى تجويز الضرر المتدارك بالنفع، كما لا يخفى.

و ممّا يدلّ، أو يشهد على ما مرّ رواية إبراهيم بن هاشم عن شيخ من أصحابه الكوفيّين، قال: دخل عيسى بن ثقفي على أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) و كان ساحراً، يأتيه الناس، و يأخذ على ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك، أنا رجل كانت صناعتي السحر، و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت منه، و مَنّ اللَّه عليّ بلقائك، و قد تبت إلى اللَّه عزّ و جلّ، فهل لي في شي ء من ذلك مخرج؟ فقال له أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «حلّ و لا تعقد»(2).

و لو كان نفس السحر و تعلّمه حراماً كان صرفه في الحلّ أيضاً ممنوعاً،


1- البقرة( 2): 102.
2- الكافي 5: 115/ 7، وسائل الشيعة 17: 145، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 1.

ص: 418

و كان اللازم الأمر بإنسائه و إزالته من النفس، فيعلم منه: أنّ إعماله فيما تعارف ممّا يكشف عن اعتقاد العامل و المستأجر به محرّم.

و الأمر بالحلّ ليس مقصوراً بأنّ صورة جوازه تنحصر به، بل العرف يفهم منها أنّ الممنوع هو العقد، و لو كان في عمله تفريح فلا بأس به.

و ما روي «أنّ توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد»(1) دليل على أنّ ما عمله من المحرّمات لا يغفر إلّا بذلك، لا أنّ نفس كونه ساحراً و عالماً بالسحر، محرّم يحتاج إلى التوبة فإنّه لا معنى لأن يكون الحرام توبة عن الحرام، بل اللازم إيجاب الإنساء، كما لا يخفى.

حرمة تعليم و تعلّم السحر ممّا ذكرنا يظهر حال التعليم و التعلّم، و ما ورد عن عليّ (عليه السّلام) أنّه قال: «من تعلّم شيئاً من السحر، قليلًا كان أو كثيراً فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه، و حدّه أن يقتل إلّا أن يتوب»(2) يحمل على ما عرفت، مع أنّه لو كان كافراً،


1- علل الشرائع: 546، الباب 338، ذيل الحديث 1، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 3.
2- قرب الإسناد: 152/ 554، وسائل الشيعة 17: 148، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 7.

ص: 419

بالسحر لا يقتل لما ورد عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، فتأمّل.

و توهّم: أنّ التعلّم محرّم بمعناه المصدري على الإطلاق، و أمّا لو عصى و تعلّم فعليه التوبة، و هي الحلّ، و هذا هو مفاد الأخبار؛ و إن لا يبعد في حدّ ذاته إلّا أنّ الالتزام بالتفكيك مشكل في نظر العرف.

و ربّما يخطر بالبال أنّ تحريم السحر نوع فرار من الإتيان بما يشابه ما يتحدّى به النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (و هذا يورث سوء الظنّ بالمعجزة، بل المساعد للاعتبار تجويز السحر، حتّى يعلم منه حقيقة المعجزة، و تكون العقائد الحاصلة منها راسخة، فمن يتصدّى للأُمور المزاحمة لدعوة الأنبياء، ربّما يكون نظره تحقيق ما عندهم و إبطال ما عنده، فلو لم يلقَ السحرة ساجدين، لم يؤمن بموسى أحد من بني إسرائيل.

و لعلّ قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ساحر الكفّار لا يقتل» لأنّه غير مكلّف بهذا الفرع خصوصاً، و هذا لا ينافي التعليل المذكور في الرواية على إجمال فيه، فراجع.

و بالجملة: التصدّي للإتيان بسورة من الكتاب لو كان محرّماً في الشريعة فهو يستلزم الخلل، و حيث أنّ الساحر لا يفلح حيث أتى و لا يبقى و لا يستمرّ يكون الكتاب معجزة خالدة، فعندئذٍ يقال: بأنّ السحر المحرّم هو ما تعارف بين أبنائه من الأُمور الفاسدة، الّتي يترتّب عليها ما لا يرضي الشرع المقدّس به.

ص: 420

حكم التكسّب بالسحر ثمّ إنّ التكسّب به ربّما يكون ممنوعاً و لو كان إعماله جائزاً، بناء على أنّ المستفاد من الأدلّة: أنّ الحلّ توبة السحر فكأنّه مبنيّ على المجّانية، و أمّا على ما استظهرناه و احتملناه ففي مواقف المحرّم يكون ممنوعاً تكليفاً، و أمّا حرمته وضعاً فيمكن منعها؛ لأنّه (عليه السّلام) سكت في رواية إبراهيم بن هاشم عن حكم الأجر المأخوذ قبال سحره، و الوجه الثالث: أنّ عمله و تعليمه و تعلّمه فيما كان حراماً أخذ الأُجرة عليها و إعطاء الأُجرة حذاءها محرّم وضعاً و تكليفاً؛ للنبويّ و غيره ممّا عرف من الشرع.

فبالجملة: لو سلّمنا جميع ما في المتن من أنّه من السحر موضوعاً فما هو المحرّم منه صنف خاصّ، و ممّا يدلّ أو يشهد على ما قوّيناه بعد عدم مساعدة الدليل لحرمة التعليم و التعلّم تكليفاً، خصوصاً بعد سكوت «الشرائع» عن الأوّل(1)، و قصور رواية أبي البختريّ عن تحريم التعلّم الصرْف؛ رواية الصدوق، في «العيون» عن الحسن بن عليّ العسكريّ (عليه السّلام)، و هي رواية مفصّلة وردت في تفسير الكتاب، و قصّة


1- شرائع الإسلام 2: 4.

ص: 421

و نحو ذلك. (1) العسكريّ (عليه السّلام)، و هي رواية مفصّلة وردت في تفسير الكتاب، و قصّة الملكين ببابل «هاروت» و «ماروت»(1) و مثلها رواية عليّ بن الجهم، عن الرضا (عليه السّلام)(2).

حقيقة السحر و أقسامه قوله دام ظلّه: «و نحو ذلك».

في كون هذه الأُمور من السحر موضوعاً بحث، فإنّه مقابل المعجزة و يعرف بها، فهي ما لا واقعيّة لها، و يخيّل أنّه الواقع، و أمّا مجرّد «خفاء مأخذه» كما في بعض كتب اللغة(3)، فهو لا يكون سحراً؛ لأنّ منه ما هو مأخذه معلوم، من التصوير و الكتابة، و لو كان ذلك منه يلزم كون الأدعية المكتوبة المؤثّرة في بدن المريض، و في صيرورة الطفل ذكراً و هكذا، من السحر، لخفاء مأخذه، و لو رجع الأمر إليه تعالى، فهو أيضاً مشترك؛ لعدم


1- عيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 1: 266/ 1، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 4.
2- عيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 1: 271/ 2، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 5.
3- المصباح المنير: 317.

ص: 422

و يلحق بذلك (1) استخدام الملائكة، و إحضار الجنّ و تسخيرهم، و إحضار الأرواح و تسخيرها، و أمثال ذلك.

إمكان الخروج من حكومته، فالسحر موضوعاً في غاية الإشكال.

و الذي هو منه ما يقابل المعجزة، من إحياء الأموات، و تحريك الكائنات، و إراءة التخيّلات بالتصرّف في المبصرات بوجه لا يطلع الإنسان على الخطأ في الحسّ و إن كان له الواقعيّة التخيليّة في وعائها. ثمّ إنّ دعوى: أنّ الشريعة لا ترضى بهذه الأُمور، و ترى الأكل منها بالباطل؛ لأنّه خروج عمّا هو بناء النظم، في محلّه.

قوله دام ظلّه: «و يلحق به».

حكماً، لدعوى الفخر «أنّ مستحلّه كافر»(1) و هي غير كافية، و ليس دأب الشرائع تحريم الأُمور النادرة التي لا يتّفق إلّا للأوحدي.

نعم، ما تعارف في العصر من الأكاذيب و الإغراء بالجهل ممنوع و يعدّ من الأكل بالباطل، و من الملحقات بها، و يعدّ منها «المينايتزم» و بعض الأُمور الأُخر الحاصلة من القوى النفسانيّة التي حصلت من الرياضات الباطلة و الصحيحة، و هي الّتي بها يفعل الإنسان ما يشابه أعمال الأنبياء من بني إسرائيل، و كيف تكون هي محرّمة و علماء الأُمّة أفضل منهم، أو مثلهم، و قد حُكيت مشابهاتها من السابقين؟! و اللَّه العالم.


1- إيضاح الفوائد 1: 405.

ص: 423

بل يلحق أو يكون منه الشعبذة، و هي: إراءة (1) غير الواقع واقعاً، بسبب الحركة السريعة.

نعم، لو كان في الاستخدام و الإحضار و التسخير ظلم فهو محرّم، و أمّا لو كان ذلك برضاهم و ميلهم فالحرمة تحتاج إلى دليل آخر.

و ربّما يقال: إنّ هذه الأُمور كلّها أكاذيب، و لا يجوز عليه تعالى إقدار جماعة على جماعة بمثل هذه الكيفيّة، فليتدبّر.

قوله دام ظلّه: «و هي إراءة».

بل هي: الحركة السريعة الواقعة من المشعبذ غير قابلة للرؤية، ممّا يشترط فيها من زمان تكون تلك الحركة قبل مضيّه فيتوهّم خلاف الواقع.

مثلًا: المشعبذ يجعل تحت القلنسوة الموجودة في المجلس عند الناظرين، ما لا يراه هؤلاء النظّار، فإذا يسألونهم عمّا تحتها، فيجيبون، لا شي ء، مع أنّ في تحتها شيئاً.

ثمّ إنّ مقتضى ما في كتب الأصحاب قديماً و حديثاً حرمتها(1)، و هي قضيّة رواية الاحتجاج(2)، و الإجماع، و لكن للنظر فيها مجال واسع، لعدم كفاية هذه الإسناد. نعم، يبطل الكسب بها؛ لأنّه باطل، و هي فيما إذا استلزمت محرّماً آخر ممنوعة عقلًا.


1- جواهر الكلام 22: 94، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 34/ السطر 32.
2- الاحتجاج 2: 220.

ص: 424

و كذلك الكهانة (1): و هي: تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان، بزعم أنّه يلقى إليه الأخبار عنها بعض الجانّ، أو بزعم أنّه يعرف الأُمور بمقدّمات و أسباب يستدلّ بها على مواقعها.

قوله دام ظلّه: «الكهانة».

و هي محرّمة عرضاً؛ لأنّها من السحر، أو ذاتاً؛ لما ورد في النصوص ما يدلّ عليه، ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)»(1).

و في اخرى: «الكاهن ملعون»(2).

و في ثالثة: «الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(3).

و في رواية أبي خالد الكابليّ، قال: سمعت زين العابدين (عليه السّلام) إلى أن قال: «و الذنوب الّتي تظلم الهواء السحر و الكهانة»(4).

و في صحيحة الهيثم، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام) إلى أن قال: قال


1- الخصال: 19/ 68، وسائل الشيعة 17: 149، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 26، الحديث 2.
2- الخصال: 297/ 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 7.
3- الخصال: 297/ ذيل الحديث 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 8.
4- معاني الأخبار: 270/ 2، وسائل الشيعة 16: 281، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 8.

ص: 425

رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللَّه من كتاب»(1) و غيرها(2).

و منها يعلم: أنّها ما يشابه فعل الأنبياء و الرسل العالمين بما لا يعلم به الناس من قبل اللَّه تعالى، فلو كان إخباره مطابقاً للواقع فيورث الزلل في معتقدات الناس، و أنّ غير النبيّ يتّصل بالمبادي الخارجة عن أُفق أفهام الناس و عقولهم، و في ذلك مهلكة؛ لإمكان الاعتقاد بأنّه يطّلع من قبل الملائكة المحدّثين، و لا منع من الالتزام بحرمته على الإطلاق؛ لتماميّة بعض الروايات، و لكنّه مع ذلك لا يخلو عن إشكال إذا لم يترتّب عليه الباطل نوعاً.

و ممّا يدلّ على محرميّة الكهانة النصوص الناطقة بأنّ أجر الكاهن من السحت، ففي رواية السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «السحت ثمن الميتة» إلى أن قال: «و أجر الكاهن»(3) و مثلها ما في وصيّة


1- تقدّم في الصفحة 425، الهامش 1.
2- وسائل الشيعة 11: 373، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 8، وسائل الشيعة 12: 309، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 164، الحديث 11، وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.
3- الكافي 5: 126/ 2، وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5.

ص: 426

النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لعليّ (عليه السّلام)(1)، و فيها مضافاً إلى الدلالة على الحكم التكليفي دلالة على الوضعي، على ما تقرّر في وجه صحيح.

و توهّم: أنّ الملازمة العرفيّة ثابتة بين حرمة العمل و حرمة التعليم و التعلّم و إن سكت عنه الماتن مدّ ظلّه، غير بعيد، فتأمّل.

و تعريف الكهانة بما في المتن غير تامّ؛ لانطباقه على إخبار المنجّم، فهي عندي: الإخبار عن مقدّرات الإنسان، متلقّياً من غير الطرق المألوفة، جازماً أو متجزّماً.

و أمّا العالم بعلم المنايا و البلايا متلقّياً من الأنبياء و الأولياء فهو ليس بكاهن، فكأنّه متّصل بالغيب من غير الوسائط الشرعيّة، و كثيراً ما يتّفق صدق أخبارهم.

و من هؤلاء الذين يقرءون خطوط الكفّ و يخبرون بما هو واقع حقيقة، و لكن حرمة هذه الكهانة مشكلة جدّاً.

نعم، مع عدم اعتبار المستند، و عدم العلم بصدق الخبر لا يجوز الإخبار، و وجهه يحتاج إلى بسطٍ، تعرّضنا له في كتابنا الكبير(2).


1- الفقيه 4: 262/ 824، وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 9.
2- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 427

و القيافة (1) و هي: الاستناد إلى علامات خاصّة في إلحاق بعض الناس ببعض، و سلب بعض عن بعض على خلاف ما جعله الشارع ميزاناً للإلحاق و عدمه، من الفراش و عدمه.

قوله دام ظلّه: «و القيافة».

كان ينبغي تغيير العبارة؛ للزوم احتمال كونها من السحر، بناء على العطف، كما هو الظاهر، و قد حكي على حرمتها الإجماع(1)، و عن جماعة: «تحريمها بما إذا ترتّب عليها محرّم»(2) و في حرمتها بعنوانها إشكال؛ لقصور الأدلّة سنداً و دلالة، بل في بعضها ما يدلّ على جوازها بذاتها(3)، و ما اتّفق عليه الأصحاب أعمّ من الحرمة الشرعيّة؛ فإنّهم كثيراً ما عدّوا من المحرّمات ما هو الممنوع عقلًا، للملازمة بينه و بين المحرّم الشرعي، أو للاستلزام.

ثمّ إنّ ماهيّة هذا العلم أعمّ ممّا في المتن من جهات، و لعلّه يريد بيان الموضوع المحرّم، و هو الصنف الخاصّ منه.


1- منتهى المطلب 2: 1014/ السطر 32، مفتاح الكرامة 4: 80/ السطر 30.
2- الدروس الشرعيّة 3: 165، جامع المقاصد 4: 33، مسالك الأفهام 3: 329.
3- الكافي 1: 322/ 14.

ص: 428

و التنجيم (1) و هو: الإخبار على البتّ و الجزم عن حوادث الكون، من الرخص و الغلاء، و الجدب و الخصب، و كثرة الأمطار و قلّتها، و غير ذلك من الخير و الشر، و النفع و الضرر، مستنداً إلى الحوادث الفلكيّة، و النظرات و الاتصالات الكوكبيّة معتقداً تأثيرها في هذا العالم، على نحو الاستقلال، أو الاشتراك مع اللَّه تعالى عمّا يقول الظالمون، دون مطلق التأثير و لو بإعطاء اللَّه تعالى إيّاها، إذا كان عن دليل قطعي. و ليس منه الإخبار عن الخسوف، و الكسوف، و الأهلّة، و اقتران الكواكب و انفصالها، بعد كونه ناشئاً عن أُصول و قواعد سديدة، و الخطأ الواقع منهم أحياناً ناشئ من الخطأ في الحساب، و إعمال القواعد كسائر العلوم.

قوله مدّ ظلّه: «و التنجيم».

قد وردت في المسألة طوائف من الروايات إحداها: ما يمنع عنه، ففي مرسلة الصدوق قال: و قال (عليه السّلام): «المنجّم كالكاهن ..»(1).

ثانيها: ما يظهر منه الجواز، ففي رواية عبد الرحمن بن سيابة، قال: .. و إن كانت لا تضرّ بديني فواللَّه لأشتهيها و أشتهي النظر فيها، فقال: «ليس كما يقولون، لا تضرّ بدينك» ثمّ قال: «إنّكم تنظرون في شي ء منها كثيره لا يدرك،


1- الخصال: 297/ 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 8.

ص: 429

و قليله لا ينتفع به»(1) الحديث.

و مقتضى الطائفة الثالثة الجمع بينهما، بأن يكون المحرّم الاعتقاد بأنّ الهموم و الغموم و الأفراح و الخيرات و الشرور و البركات مستندة إلى الأفلاك، و هي المأخوذات و المؤثرات، كما في كثير من أشعار العرب و العجم، و الإخبار بأنّ الموجودات العليّة مناشئ المقدّرات الحسنة و السيّئة، كما كان دأب المنجّمين و الناظرين في العلويّات، و عليه اعتقاد كثير من الفلاسفة.

ففي الخصال، عن أبي الحصين، قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) يقول: «سُئل رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (عن الساعة، فقال: عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر»(2).

و في مرسلة الأعلام «المحقّق» و «العلّامة» و «الشهيدين»، قالوا: قال النبي (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما انزل على محمّد»(3).


1- الكافي 8: 195/ 233، وسائل الشيعة 17: 141، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 1.
2- الخصال: 62/ 87، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 6.
3- المعتبر 2: 688، تذكرة الفقهاء 6: 137، مسالك الأفهام 2: 53، وسائل الشيعة 17: 144، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 11.

ص: 430

فدعوى: أنّ التنجيم غير جائز و لو كان معتقداً تأثيره الإعدادي، لإطلاق دليل المنع أو لاستلزامه الكذب غير تامّة، لأنّ صدق الخبر و كذبه خارج عن الاختيار، و إذا كان مستنده موجباً لحصول العلم فهو كسائر المسانيد في العلوم الأُخر.

بل قضيّة رواية هشام الخفّاف، قال: قلت: لا و اللَّه، لا أعلم ذلك، قال: فقال: «صدقت، إنّ أصل الحساب حقّ، و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم»(1)؛ هو أنّ المنجّم يبتلي بالكذب، لما هو جاهل، و عليه لو كان الاطّلاع على جميع الجهات محتاجاً إلى العلم المذكور دون الأُمور المتعارفة، فالإخبار بنحو البتّ مع تماميّة السند حسب القواعد، يكون جائزاً، كما أفاده في المتن، و المراد من «دليل قطعي» ليس المقطوع به عقلًا كما هو واضح.

و في حرمة التعليم و التعلّم فيما كان حراماً نظر، و الوجه ما قد عرفت.

و يمكن دعوى دلالة معتبرة عبد الملك بن أعين، الآمرة بإحراق الكتب التي في النجوم(2) على ممنوعيّتها، فتدبّر.


1- الكافي 8: 351/ 549، وسائل الشيعة 17: 141، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 2.
2- الفقيه 2: 175/ 779، وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1.

ص: 431

ثمّ إنّ تعريف «التنجيم» بما في المتن غير تامّ، و المقصود بيان أنّ ما هو المحرّم هو العنوان المأخوذ حدّا له تسامحاً، كما أنّ منع تأثير العلل الماديّة بنحو الإعداد غير جائز، و إثبات الاستقلال و العليّة التامّة ممنوع، و كما أنّ الأوّل جبر و كفر كذلك الثاني شرك و تفويض، فالاستقلال بالوجهين ممنوع سواء كان المقصود كونها مؤثّرات لعدم الاعتقاد باللَّه العالم أو كان المقصود كونها عللًا مستقلّة بإفاضة القدير، فإنّه ممتنع أيضاً على ما تقرّر في محالّه.

هذا و يمكن دعوى: أنّ المتراءى من كلمات الأصحاب، و عدّ التنجيم من المحرّمات لا موجبات الكفر و الشرك، أنّ نفس النظر إليها، و الاعتقاد بأنّها ذات آثار في الأرض و من عليها، و القضاء على طبقه محرّم، و لو كانت مؤثّرات بنحو الإعداد أو العليّة كعلّيّة النار للحرارة، فما هو الممنوع لا يستلزم سلب تأثيرها واقعاً، فافهم و تدبّر.

ص: 432

[مسألة 17: يحرم الغشّ]

مسألة 17: يحرم (1) الغشّ قوله دام ظلّه: «يحرم».

على المعروف بينهم، و عليه النصوص، ففي معتبرة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لرجل يبيع التمر: «يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم؟!»(1).

و قد يشكل الحكم، لأجل أنّ ما صحّ سنده غير تامّة دلالته و بالعكس، خصوصاً إذا كانت المعاملة صحيحة.

نعم، إذا قلنا: بأنّ بيع المغشوش باطل و هو منهي أو فيه الغرر فيكون فاسداً فالتحريم مناسب، أو يقال: بأنّ الغشّ محرّم و إن لم يتّفق التجارة بالمغشوش، كان لذلك أيضاً وجه، و هو مساعدة بعض النصوص في المسألة، ففي معتبرة السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «نهى النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أن يشاب اللبن بالماء للبيع»(2). و مثلها غيرها ممّا يدلّ على ذلك(3)، و سيأتي زيادة توضيح إن شاء اللَّه تعالى.


1- الكافي 5: 160/ 2، وسائل الشيعة 17: 279، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 2.
2- الكافي 5: 160/ 5، وسائل الشيعة 17: 280، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 17: 279، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86.

ص: 433

بما يخفى في البيع و الشراء (1) كشوب اللبن بالماء، و خلط الطعام الجيّد بالردي ء، و مزج الدهن بالشحم أو بالدهن النباتي و نحو ذلك، من دون إعلام، قوله دام ظلّه: «البيع و الشراء».

خلافاً لما يظهر من الآخرين(1)، و منهم العلّامة في القواعد(2)، و هو قضيّة المطلقات، فهو حرام في سائر المعاوضات، بل و في مثل الخلع و النكاح والمباراة، و لو صدق في الهبات و الصدقات فهو كذلك.

نعم، مقتضى عدّة من النصوص و منها ما مرّ الاختصاص بالبيع(3) جمعاً بين المطلقات و تلك المقيّدات، و لكن حمله على المثال و الغالبيّة أولى من الحمل المزبور بعد كونهما موجبتين، و لمناسبة الموضوع للحرمة أينما كان أصدق.

قوله دام ظلّه: «و نحو ذلك».

ليس «الغشّ» مجرّد الخلط بين الجنسين المختلفين في القيمة، و لا منه ما لو خلط بينهما و باع بقيمة الجنس الأدنى، و ليس منه أن يؤدّي في مقام الوفاء الجنس الأعلى، و لا يختصّ بالمعاوضات الجنسيّة، بل


1- السرائر 2: 216، شرائع الإسلام 2: 4، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 29، الروضة البهيّة 1: 310/ السطر 15.
2- قواعد الأحكام 1: 121/ السطر 2.
3- وسائل الشيعة 17: 279 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86.

ص: 434

و لا تفسد (1) المعاملة به و إن حرّم فعله و أوجب الخيار (2) للطرف بعد الاطّلاع، يصدق في الهبة المعوّضة، و ليس معناه الغرور و التدليس حتّى يكونا متساوقين و مترادفين، و ليس منه ما يطّلع عليه المشتري و يرفع الغرر فيه بالمشاهدة، و لا منه بيع المغشوش و المخلوط بغشّ الآخر، بل هو: دسّ الشي ء في الشي ء، و إراءة الجنس، الغالي و بيعه بقيمة أو للبيع بقيمته.

و بعبارة اخرى: هو إحداث العيب الاختياري، و ليس منه ما لو كان الجنس الغالي قليلًا في قبال الداني، و أن لا يطلّع عليه المشتري، و عند ذلك يشكل صحّة المعاوضة، لا لأنّه يصدق عليه الغشّ حتّى يقال ما يقال، بل لأنّه يعدّ أكلًا للمال بالباطل، و أدلّة خيار العيب لا تشمل ما إذا حدث العيب باختيار البائع، بل هي تختصّ ببيع المعيب، و اللَّه العالم.

قوله دام ظلّه: «و لا تفسد».

لعدم تعلّق النواهي في الباب إلّا بعنوان خارج، و قد عرفت آنفاً.

قوله دام ظلّه: «الخيار».

خيار العيب فيما كان الغشّ موجباً للاختلال في سلامة المبيع، و خيار التدليس لو قلنا بجريان الغشّ في النكاح أو بجريان خياره في البيع حذاء خيار تخلّف الوصف، و خيار تخلّف الوصف فيما كان الغشّ بإظهار خلاف الواقع في الوصف المعتبر فيه، و للمسألة مقام آخر يطلب منه، و خيار تبعّض الصفقة فيما كان المغشوش ما يتمكّن المشتري عادة

ص: 435

نعم لو كان الغشّ بإظهار الشي ء على خلاف جنسه كبيع المموّه على أنّه ذهب و فضّة و نحو ذلك فسد (1) أصل المعاملة.

عادة من إخلاصه.

و في كونه من الغشّ، إشكال؛ لأنّه قد يعتبر كونه ممّا لا يعلم إلّا من قبل البائع أو الخبير المتضلّع، و ذلك في غير هذا الفرض يستلزم الغرر؛ لأنّه يرتفع بالمشاهدة، و عند ذلك يكون البيع باطلًا لجهة أُخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ذلك غشّ في البيع الفاسد، و ليس من شرائط حرمته صحّة البيع، بل و لا إثباته الخيار؛ لأنّه لو غشّ في المبيع يسيراً فإنّه لا يورث الخيار عرفاً و إن كان محرّماً شرعاً.

قوله دام ظلّه: «فسد».

إذا كانت المعاوضة شخصيّة، و لو كانت كلّيّة فالوفاء فاسد دونها، و هكذا في الفروض السابقة، و الوجه في المسألتين واضح لا يحتاج إلى التأمّل.

ص: 436

[مسألة 18: يحرم أخذ الأُجرة على ما يجب عليه فعله]

مسألة 18: يحرم (1) أخذ الأُجرة على ما يجب عليه فعله عيناً، بل و لو كفائيّاً، قوله دام ظلّه: «يحرم».

وضعاً على المشهور، بل ادّعى عليه «الرياض» الإجماع، و حاكياً عن جماعة(1)، و في «الجواهر»: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه»(2) و هو الموافق لما تقرّر عندنا في الكتاب الكبير، إذا كان المراد من الأُجرة المجعول في الإجارة، لا مطلق العوض، و منها الجعل في الجعالة، و مثلها عندي على إشكال في كبراها الإباحة بالعوض.

و أمّا أخذ العوض في الشروط البدويّة، بناء على صحّتها، أو في ضمن العقود اللازمة، بل و الجائزة، فهو عندي جائز، و ذلك لعدم تماميّة الوجوه المذكورة في الكتب المفصّلة، و قد تعرّضنا لها في المكاسب المحرّمة، و في صلاة الاستئجار، و في قضاء الولي(3).

و الوجه الوحيد فيها هو: أنّ لكلّ معاملة مصبّ خاصّ، معلوم الحدود عند العرف و العقلاء، و لا يجوز التوصّل إلى العقل في الاستنتاج منها حتّى يدخل البيع في مورد الإجارة و بالعكس، و الوكالة في مورد


1- رياض المسائل 1: 505/ السطر 27.
2- جواهر الكلام 22: 116.
3- ممّا يؤسف له فقدان هذه المباحث من مؤلّفات المؤلّف( قدّس سرّه).

ص: 437

الاستئجار على العمل، و بالعكس، حتّى لا تجوز الإجارة في مواقف النيابة، فإنّ لها موقفاً خاصّاً، و تكون النيابة بحذاء الإجارة و الوكالة، و لنا كتاب آخر في الفقه، و هو كتاب النيابة كالإجارة و الوكالة، و الاستئجار على النيابة، كالاستئجار على الوكالة، ممّا لا أصل له عند الناس.

و لو صحّ خلط مواقف العقود لكان القول: «بأنّ الإجارة من أصناف البيع» حقّا و بالعكس و هكذا، فعلى هذا يعلم: أنّ ماهيّة الإجارة موضوعة لمواقف معلومة عند العقلاء، و ليس اعتبارها بيد الفضلاء حتّى يجروها إلى أيّ مصبّ شاؤوا.

فالقول بالصحّة الإجارة فيما نحن فيه، في غاية الوهن، و نهاية الوهم؛ لعدم تأتّي ماهيّتها في هذه المواضيع، مع أنّ لنا في كون استئجار الحرّ من الإجارة حقيقة كلاماً، ذكرناه في كتاب الإجارة(1)، و لذلك لا تصحّ هي في المستحبّات، و في المباحات المشابهة مع الواجبات، بأن يستأجر مثلًا لزرع أرضه نفسه، و مثلها الواجبات النظاميّة، على إشكال في وجوبها.

و من العقود الباطلة في هذه المواقف، الجعالة؛ فإنّ ماهيّتها عند العرف مخصوصة بمصبّ معيّن، و لا معنى للاستفادة منها في كلّ موقف أشكل


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 438

الاستفادة عن سائر العقود، و هكذا الصلح، و غيره.

و الخلط بين المعتبرات المنجّزة العقلائيّة، و بين الاعتبارات التقديريّة المستحسنة الّتي كان يليق اعتبارها، أوقعهم في هذه المهالك، مع بعض الأخلاط الأُخر.

و بالجملة: ظاهرهم تحريم العوض من غير النظر إلى العناوين المنطبقة عليه، و حيث لا إطلاق لمعاقد الإجماعات المدّعاة، بل فيها الموهنات، فالقول بجواز أخذ العوض في الصور المذكورة قويّ.

بل في المسألة بعض روايات تدلّ على جوازه، و حملها على خلاف ظاهرها بلا وجه.

ففي مصحّحة محمّد بن الحسن الصفّار، عن أبي محمّد (عليه السّلام): أنّه كتب إليه: رجل كان وصيّ رجل فمات و أوصى إلى رجل، هل يلزم الوصيّ وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب (عليه السّلام): «يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ إن شاء اللَّه»(1).

و سيأتي الكلام في الروايات الأُخر، الّتي يمكن دعوى استفادة حرمة مطلق العوض بإلغاء الخصوصيّة. هذا تمام الكلام فيما هو الخارج عن


1- التهذيب 9: 215/ 850، وسائل الشيعة 19: 402، كتاب الوصايا، الباب 70، الحديث 1.

ص: 439

المكاسب المحرّمة.

و أمّا ما هو المقصود، و هو حرمته التكليفيّة فلعلّ الإجماعات ناظرة إليه؛ ضرورة أنّ عنوانه في هذا الباب قبال المكاسب المستحبّة، و المكروهة، قرينة قطعيّة عليه، و بطلانها لا يحتاج إلى إعمال التعبّد بعد اقتضاء القواعد إيّاه.

و ربّما يستشهد على الحرمة التكليفيّة بما ورد في النهي، و إظهار المبغوضيّة بالنسبة إلى أجر الأذان، و الإمامة، و القضاء، و تعليم القرآن، في كتاب الأمر بالمعروف(1)، و القضاء و الشهادات(2)، و كتاب الحج(3)، و الصلاة(4)؛ فإنّه بعد إلغاء الخصوصيّة يعلم ذلك في غير موردها.

هذا و لكنّ الروايات في المسائل المشار إليها، غير نقيّة السند، و ما هو يتمّ سنده محمول عندهم على الكراهة، و لو سلّمنا تماميّة السند


1- وسائل الشيعة 16: 275، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 27: 221، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1 و 5.
3- وسائل الشيعة 11: 163، كتاب الحجّ، أبواب النيابة في الحجّ، الباب 1.
4- وسائل الشيعة 5: 447، كتاب الصلاة، أبواب الأذان و الإقامة، الباب 38، و 6: 181، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 8، الحديث 1 و 3 و 7 و 8.

ص: 440

و الدلالة فإلغاؤها للتجاوز إلى عنوان المسألة حتّى يشمل التوصّليّات الواجبة، غير صحيح.

نعم، دعوى الأولويّة بالنسبة إلى سائر المستحبّات و الواجبات التعبديّة، ليست غريبة، خصوصاً بعد ملاحظة رواية العلاء بن سيّابة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «لا يصلّى خلف من يبتغي على الأذان و الصلاة الأجر»(1).

و معتبرة حمران المشتملة على المنكرات المبتلى بها الناس، و منها: «و رأيت الأذان بالأجر، و الصلاة بالأجر»(2) فإنّهما ظاهرتان في أخذ الأجر قبال الصلاة.

و لكنّ الإنصاف اختصاصهما بالصلاة بالناس، كما في رواية معتبرة عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «لا تصلّ خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بالناس أجراً، و لا تقبل شهادته»(3).

و قضيّة الأولوية ممنوعيّة مطلق العوض حتّى في الصور الّتي جوّزناها وضعاً.


1- الكافي 7: 396/ 11، وسائل الشيعة 27: 377، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 2.
2- الكافي 8: 36/ 7، وسائل الشيعة 16: 275، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 6.
3- الفقيه 3: 27/ 75، وسائل الشيعة 27: 378، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 6.

ص: 441

على الأحوط (1) فيه، كتغسيل الموتى و تكفينهم و دفنهم، نعم لو كان الواجب توصّلياً كالدفن، و لم يبذل المال لأجل أصل العمل، بل لاختيار عمل خاصّ، لا بأس به، فالمحرّم أخذ الأُجرة لأصل الدفن، و أمّا لو اختار الولي مكاناً خاصّاً و قبراً مخصوصاً و أعطى المال لحفر ذلك المكان الخاصّ، فالظاهر أنّه لا بأس به، كما لا بأس بأخذ الطبيب الأُجرة للحضور عند المريض و إن أشكل أخذها لأصل المعالجة، نعم، لا بأس قطعاً بإيجاد الداعي إلى العبادات، بعد عدم لزوم الإخلال بشرائطها، كما تقرّر في محلّه(1)، بل مقتضى أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، جواز إعطاء الأجر للتوصّل إلى المعروف على الوجه المزبور عندنا، و لكنّه أعمّ، و لو تمّ ما أُشير إليه يتعيّن التقييد جمعاً بين الأدلّة.

ثمّ إنّ ظاهر المتن جواز أخذ الأُجرة حذاء الواجب التخييري و لو كان تعبديّاً، و الوجه قصور القواعد عن إبطاله و إجمال معاقد الإجماعات، و قد عرفت ما فيهما، و يكفي الأوّل.

قوله دام ظلّه: «على الأحوط».

مخافة الإجماع، و إلّا فمقتضى ما أفاده في وجه بطلان أخذ الأُجرة في العيني، عدم بطلانه هنا.


1- تحريرات في الأُصول 3: 256.

ص: 442

و إجماله: أنّ جميع الواجبات العينيّة التعيينيّة كالصلاة و الصوم و الحجّ و نحوها اعتبر فيها مضافاً إلى أصل الوجوب، كونها على ذمّة العبد نحو الديون الخلقيّة، و يشهد لذلك المرام آيات و روايات، و عليه تكون الأعمال الواجبة ملك للَّه تعالى، و دَين على العبد، فلا يجوز إجارة نفسه لما لا يملكه، و يكون ملكاً للغير، فما كان من سائر الواجبات داخلة في هذا الاعتبار تخييريّاً كان أو كفائيّاً، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليها، و إلّا فيجوز، و ليس في الأدلّة ما يورث اندراج الكفائيّات فيها، فالأقوى صحّة الاستئجار فيها، كما لا يخفى.

و فيه: مضافاً إلى قصور دليله عن العينيّات التوصليّة، و انحصار أمثلته في العباديّة و التقرّبيّة كالخمس، و الزكاة، أنّ المكلّف بهذه التكاليف ليس أجيراً خاصّاً في نظر الشرع و العرف، و لو سلّمنا ذلك فالإجارة الثانية تبطل على المشهور، خلافاً لما اخترناه في كتاب الإجارة(1).

ثمّ إنّ بطلان الإجارة لا يورث بطلان أخذ الأجر بعنوان آخر، مثلًا لو امتنع الأجير الخاصّ من القيام بالوظيفة، فأعطاه المستأجر أو الأجنبي أجراً، لأجل قيامه بالوظيفة الشرعيّة الحاصلة من عقد الإجارة، يكون


1- كتاب الإجارة، من تحريرات في الأُصول) مفقود).

ص: 443

ذلك غير ممنوع، مع أنّ كلام الأصحاب ظاهر في منع مطلق الأجر(1)، بل استئجار المستأجر أجيره الخاصّ على الإقدام بإيجاد ما استؤجر له، غير ممنوع حسب ما أفاده في حقيقة الإجارة(2).

و عليه لا بأس بالإجارة في تلك الواجبات؛ لأنّها في طولها، و ما هو الممنوع كون الإجارة الثانية، مزاحمة لمفاد الإجارة الأُولى و التكاليف الإلهيّة، لا المؤكّدة و الباعثة كما لا يخفى.

و بالجملة: لا تجري العقود المعروفة، و المعاوضات المتعارفة في هذه المواقف، لقصور ماهيّاتها، و عدم كونها بيدنا في السعة و الضيق، من غير دخالة الوجوب و الاستحباب، بل في الأعمال المباحة هي قاصرة عن الجريان إلّا في بعض الصور الآتية.

و العجب من جماعة، حيث توهّموا: أنّ الممنوع في المقام هو الأُجرة، لا مطلق الأجر، و لكنّه عندي غير ممنوع.

و توهّم تنافيه لقصد القربة في العباديّات، مدفوع بما تقرّر في محلّه(3).

ثمّ إنّ الصورة المستثناة من الاستثناء المنقطع، مع أنّه قد يشكل


1- لاحظ: تذكرة الفقهاء 1: 583/ السطر 12، جامع المقاصد 4: 35، مجمع الفائدة و البرهان 8: 89.
2- تحرير الوسيلة 1: 570، كتاب الإجارة، المسألة 1.
3- تحريرات في الأُصول 3: 256.

ص: 444

ذلك؛ لاتّحاد الخصوصيّة مع الخاصّ، و التفكيك ليس عرفيّاً.

و منه يعلم حال أخذ الأُجرة للحضور، أو المشي إلى البيت، أو حمل الأثاث، و مقدّمات العمل، و الطبابة؛ فإنّه ممّا يفهم العرف بأنّ الشرع لو منع أخذ الأُجرة للطبيب حذاء الطبابة، منع عن هذه الأُمور، ممّا كان الصلاح في أمر ينقلب إلى الفساد بتلك الحيل القريبة من الأذهان العرفيّة، فكأنّه منع من إعاشة الطبيب من تلك الطريقة، و اعتبر مجّانيّة العمل وضعاً، و لزوم ذلك تكليفاً.

و الّذي هو التحقيق: أنّ الواجبات و غيرها، ممّا يتعلّق بالناس، و ليس من الوظائف الفرديّة، مثل العباديّات، و ما شابهها من التّوصليّات عينيّة كانت، أو تخييريّة، أو كفائيّة، أو غيرها، تجري فيها المعاوضات العقلائيّة؛ لتماميّة المقتضي و عدم وجود المانع، و ما توهّمت مانعيّته لا يرجع إلى محصّل، كما تحرّر منّا في كتابنا الكبير(1).

و ما هو من الوظائف الفرديّة التي لا تكون للناس فيه الأغراض و المنافع، لا تجري فيه ماهيّات المعاوضات.

نعم، أخذ الجعل حذاء صلاة نفسه بوجه مضى، ممّا لا بأس به. فالواجبات النظاميّة الّتي هي ترجع في الحقيقة إلى الواجبات العقليّة أو


1- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 445

و إن كان الأقوى جوازه (1).

الغيريّة، لحرمة الإخلال و الهرج و المرج، مصبّ عناوين المعاوضات، فلا بأس بأن يأخذ الطبيب أجرين، أجراً حذاء طبابته من المريض، و أجراً حذاء تهيئته للعيادة من الأمير و الحاكم، و هذا الأجر الأخير ينبغي أن يكون محلّ البحث، دون الأوّل، فلا تغفل.

و بعبارة أُخرى: تارة يأخذ البقّال و الصانع مقابل البقل و الصنع، و أُخرى مقابل البقّاليّة و التصنيع بالمعنى المصدري، أو بالمعنى الآخر، و هو تحمّل قبول ذلك؛ لأنّه أعظم شأناً من أن يكون طبيباً و صانعاً و بقّالًا، إذا تبيّن ذلك فيعلم: أنّ ما لا تأتي فيه ماهيّات العقود ما هو، و ما تأتي فيه ما هو، و تقدر على التمييز، و يعلم أيضاً وجه عدم استثناء الماتن للواجبات النظاميّة الكفائيّة، أو التخييريّة.

قوله: «و الأقوى جوازه».

و لو كان متعيّناً فإنّ التعيّن و التعيين في الكفائيّة و التخييريّة، لا يورث تصرّفاً في الجعل، كما في المشروطة و الموسّعة، فإنّه بحصول الشرط و ضيق الوقت، لا يكون واجباً مطلقاً و مضيّقاً، بل و لو اقتضى ذلك، كما عرفت.

نعم، لا معنى للمعاوضة على أن يكون طبيباً لنفسه، فإنّه من قبيل الاستئجار على أن يصلّي صلاته.

و توهّم الإشكال في أخذ الأُجرة على أصل الطبابة، و دفعه بأخذها

ص: 446

و لو كان العمل مبتدئاً يشترط فيه التقرّب كالتغسيل فلا يجوز (1) أخذها عليه على أيّ حال.

حذاء المقدّمات، كتوهّم الإشكال في أخذها حذاء العبادة، و دفعه بأخذها حذاء النيابة؛ فإنّ إمكان اعتبار الماليّة لشي ء باعتبار الأمر الآخر كما في الأوراق النقديّة، لا يكفي، بل لا بدّ من كونه عقلائيّاً، فلا تغفل.

قوله دام ظلّه: «فلا يجوز».

إجماعاً، و هذا هو القدر المسلّم من معاقد الإجماعات المحكيّة(1)، و إليه يشير قوله «على أيّ حال»، و ذلك لتنافي قصد القربة و الامتثال معها؛ لأنّها هي المؤثّر و المحرّك نحو العمل.

نعم، إذا كانت الأُجرة محرّكة بالعنوان الإلهي المنطبق عليها، كما في التحرّك من الجنّة و النار، و من التوسعة في الرزق، و غيرها، فهي جائزة.

و من هذا القبيل لو استأجر فأعطى الأُجرة قبل العمل، و صرفها، ثمّ بعد ذلك تمشي من القربة؛ للزوم أداء الدين، و لا يشترط القدرة على تسليم مورد الإجارة حين العقد، بل اللازم منها حين التسليم، كما هو الظاهر.

بل الّذي يظهر هو: أنّ العمل المأتي به لا بدّ من كونه عبادة للَّه تعالى، من غير رياء، و لا حاجة في عباديّة الشي ء إلى الأمر حتّى يلزم كون


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 89، رياض المسائل 1: 505/ السطر 27، مفتاح الكرامة 4: 92/ السطر 5.

ص: 447

نعم، لا بأس (1) بأخذها على الأُمور غير الواجبة، كما تقدّم في غسل الميّت.

التحرّك من قبله، بل الأوامر كلّها توصّليّة يتسامح و الاختلاف في التعلّقات، فلا تكون العبادة عبادة إلّا بصلاحيّة الذات و القصد، فلو عبد اللَّه لما أمره الأب، و الأمر بالمعروف، و لغير ذلك من البواعث المختلفة، صحّت عبادته، و لا دليل على تقوّم الصحّة بالأمر، و لا بمضريّة التحرّك من قبل الأمر الآخر بأبعادها.

و لكنّه مع ذلك كلّه تكون المعاوضات لعدم مشروعيّتها إلّا في مواضع معلومة عند العقلاء باطلة في المقام، و في المسائل الآتية أيضاً، و ليس مجرّد إمكان الإسراء كافٍ في صحّة سريان عناوين المعاملات في جميع المواضيع.

و ممّا حصّلنا يظهر بطلان الإجارة في صلاة الاستئجار، و صومه، و حجّه، و غير ذلك، و قد فصّلنا البحث حوله في كتاب الصلاة، من كتابنا الكبير(1) و في هذا المختصر لا وجه للإعادة.

قوله دام ظلّه: «لا بأس».

قد عرفت وجه الإشكال في صحّة المعاوضة على الأُمور اللّاحقة(2)، غير ذات الماليّة إلّا بالتقييد.


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث كتاب الصلاة من« تحريرات في الفقه».
2- تقدّم في الصفحة 443 و ما بعدها.

ص: 448

و ممّا يجب (1) على الإنسان تعليم مسائل الحلال و الحرام، فلا يجوز أخذها عليه.

قوله دام ظلّه: «و ممّا يجب».

كفائيّاً، و في كونه واجباً عند السؤال عيناً إشكال، بل منع، و لعلّ نظره إلى الإفتاء، أو نقل الفتوى للمحتاج إليه، في صورة الجواز، و أمّا نقله لمن يعرف فساده، فهو غير جائز؛ للزوم تفويت المصلحة، بل و في وجه، الإلقاء في التهلكة، و الإغراء إلى الجهل، دون من يؤخذ منه الصناعات العلميّة، و العلوم، لتحصيل الملكات الاجتهاديّة.

و لكنّ ممنوعيّة الأخذ غير تامّة بالوجوه المتوهّمة؛ لأنّها ترجع إلى توهّم تنافي الوجوب معه، و قد تقرّر خلافه، و عليه يأخذ الأجر حذاءه، و إذا لم يؤدّ فيعلمه، لئلّا يقع في الهلكة.

و دعوى لزوم تجويزها للأنبياء غير مسموعة؛ لاستلزامه الإخلال بالمقصد، مع ظهور فعلهم في المجّانيّة.

و بالجملة: هذا في الحقيقة يشبه الواجبات النظاميّة التي تجب مع العوض، و إن لم يوجد من يؤدّيه فعليه ذلك مجّاناً.

ص: 449

و أمّا تعليم القرآن فضلًا عن غيره من الكتابة و قراءة الخطّ و غير ذلك، فلا بأس (1) بأخذها عليه.

قوله دام ظلّه: «فلا بأس».

و لعلّه يشمل نفي الكراهة، كما عن «القواعد»(1) و «الإرشاد»(2).

و عن «الاستبصار»: «أنّه حرام مع الشرط»(3) و تبعه العلّامة في «التذكرة»(4)، و عن بعضهم: إطلاق الحكم بالتحريم(5)، و في المسألة أقوال أُخر(6).

و المشهور، بل المدّعى عليه الإجماع(7)، هو الجواز، و هو في محلّ الضعف، مع أنّه لا حاجة إليه.

و الأخبار مختلفة، ففي طائفة منها ما هو الصريح في الجواز بلا كراهة، مثل رواية الفضل بن أبي قرّة(8)، و في اخرى ما هو كالنصّ في


1- قواعد الأحكام 1: 230/ السطر 8.
2- إرشاد الأذهان 1: 358.
3- الاستبصار 3: 65 66.
4- تذكرة الفقهاء 2: 299/ السطر 39.
5- الكافي في الفقه، الحلبيّ: 283.
6- مفتاح الكرامة 4: 84/ السطر 6 و ما بعده.
7- السرائر 2: 223، مفتاح الكرامة 4: 86/ السطر 3.
8- الكافي 5: 121/ 2، وسائل الشيعة 17: 154، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29، الحديث 2.

ص: 450

و المراد بالواجبات المذكورة ما وجب على نفس الأجير، و أمّا ما وجب على غيره، و لا يعتبر فيه المباشرة، التحريم، مثل رواية «الفقيه» و «التهذيب» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، و اللَّه إنّي لأُحبّك في اللَّه، فقال له: «و اللَّه إنّي لُابغضك للَّه»، قال: و لم؟ قال: «لأنّك تبغي على الأذان أجراً، و تأخذ على تعليم القرآن أجراً، و سمعت رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً، كان حظّه يوم القيامة»(1). و لا جمع بينهما حسب الدلالة، و لا وجه لحمل مثلها على التقيّة.

نعم، دعوى إعراض المشهور عن هذه الرواية و ما شابهها، في محلّه؛ فتكون النتيجة حينئذٍ عدم الكراهة، مع ضعف أسناد المشتملات على النهي.

و تجويز الكسب مع الغرر، و عدم تعيين الأجر، بأن لا يشترط ضمن تجار، خلاف القواعد، و سيأتي بعض الكلام حوله إن شاء اللَّه تعالى.


1- الفقيه 3: 109/ 461، تهذيب الأحكام 6: 376/ 1099، وسائل الشيعة 17: 157، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 30، الحديث 1، مع تفاوت.

ص: 451

فلا بأس (1) بأخذ الأُجرة عليه حتّى في العبادات التي يشرع فيها النيابة، فلا بأس بالاستئجار للأموات في العبادات كالحجّ و الصوم و الصلاة.

قوله دام ظلّه: «فلا بأس».

قد مرّ تفصيل البحث حول ذلك في كتاب الصلاة(1)، و المختار عدم جوازه.


1- كتاب الصلاة للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 452

[مسألة 19: يكره اتّخاذ بيع الصرف]

مسألة 19: يكره اتّخاذ (1) بيع الصرف، و الأكفان، و الطعام، حرفة، و كذا بيع الرقيق؛ فإنّ شرّ الناس من باع الناس، و كذا اتخاذ الذبح، و النحر صنعة، و كذا صنعة الحياكة، و الحجامة، (2) قوله دام ظلّه: «يكره اتّخاذ».

و هو مقتضى رواية إسحاق بن عمّار، قال: دخلت على أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فخبّرته أنّه ولد لي غلام، قال: «أ لا سمّيته محمّداً؟» قلت: قد فعلت إلى أن قال: «إذا عزلته عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت، لا تسلّمه صيرفيّاً، فإنّ الصيرفيّ لا يسلم عن الربا، و لا تسلّمه بيّاع أكفان، فإنّ صاحب الأكفان يسرّه الوباء إذا كان، و لا تسلّمه بيّاع طعام، فإنّه لا يسلم من الاحتكار، و لا تسلّمه جزّاراً، فإن الجزّار تسلب منه الرحمة، و لا تسلّمه نخاساً، فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (قال: شرّ الناس من باع الناس»(1).

و دعوى ظهورها في الاتّخاذ حرفة، غير بعيدة، كما في «الجواهر»(2).

قوله دام ظلّه: «و الحجامة».

قد ورد في روايات المسألة تجويزها عند عدم الشرط(3)، و ظاهرها


1- الكافي 5: 114/ 4، تهذيب الأحكام 6: 361/ 1037، وسائل الشيعة 17: 135، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 21، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 22: 129 130.
3- وسائل الشيعة 17: 104، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 9، التهذيب 6: 354/ 1008.

ص: 453

صحّة هذا التكسّب الفاقد للشرط، و هو خلاف الضرورة الثابتة في محلّه، من لزوم كون العوض معلوماً في جميع المكاسب القديمة و الحديثة.

و دعوى أنّه ليس كسباً غير تامّة جدّاً.

و دعوى التخصيص ممّا لا بأس به، بل هذه المآثير تشهد على ما اخترناه في كتاب الإجارة، من التوسعة في هذه الأُمور، و عدم تماميّة ما سلكه المشهور، من لزوم الاطّلاع على القيود في العقود.

ثمّ إنّ من المحتمل قويّاً، توجيه بعض مآثير الباب، الواردة في الحياكة(1)، إلى الحائك الذي هو «الكاذب»، لا الذي هو «الناسج» و ما ورد من «أنّ ولد الحائك لا ينجب إلى سبعة أبطن»(2) محمول عليه، فتأمّل جيّداً.


1- وسائل الشيعة 17: 140، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 23.
2- لم نعثر على هذه الرواية في المعاجم الروائية و لكن نقلها عدة من الفحول في كتبهم لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 16 و مفتاح الكرامة 4: 7 و جواهر الكلام 22: 132.

ص: 454

و كذا التكسّب بضراب الفحل (1)، بأن يؤاجره لذلك، مع ضبطه بالمرّة و المرّات المعيّنة، أو بالمدّة، أو بغير الإجارة. نعم، لا بأس بأخذ الإهداء و الإعطاء لذلك.

قوله دام ظلّه: «و كذا التكسّب بضراب الفحل».

بلا خلاف معروف بين المتعرّضين؛ لما ورد به الخبر(1).

و صحّة هذا النحو من الكسب الفاقد لشرط المعاوضة هنا، مشكلة لعدم الدليل عليه، و لا يكفي الاتّفاق المشار إليه؛ لقصوره عن الجبر.

ثمّ إنّ الكسب بالفحل إمّا بالإجارة، أو بالبيع، و في الفرضين إشكال آخر، فإنّ النطفة من النجاسات، و ما ورد من الإجماعات في محلّه يشمل الفرض، إلّا أنّ قضيّة صحيحة معاوية بن عمّار(2) و غيرها(3)، هو الجواز، و قد تعرّضنا لها في محلّه و قلنا بدلالتها على أنّ المنع في سائر النجاسات، ربّما كان لأجل فقد الشرط، فتدبّر.


1- وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12.
2- الكافي 5: 116/ 5، وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12، الحديث 1.

ص: 455

[مسألة 20: لا ريب أنّ التكسّب و تحصيل المعيشة بالكدّ و التعب محبوب عند اللَّه تعالى]

مسألة 20: لا ريب أنّ التكسّب و تحصيل المعيشة بالكدّ و التعب محبوب عند اللَّه تعالى، و قد ورد عن النبيّ صلّى اللَّه تعالى عليه و آله، و الأئمّة (عليهم السّلام (بالحثّ و الترغيب عليه مطلقاً(1)، و على خصوص التجارة(2)، و الزراعة(3)، و اقتناء الأغنام، و البقر(4) روايات كثيرة، نعم، ورد النهي عن إكثار الإبل(5).

[مسألة 21: يجب على كلّ من يباشر التجارة، و سائر أنواع التكسّب، تعلّم أحكامها]

مسألة 21: يجب (1) على كلّ من يباشر التجارة، و سائر أنواع التكسّب، تعلّم أحكامها، و المسائل المتعلّقة بها، ليعرف صحيحها من فاسدها، و يسلم من الربا، قوله مدّ ظلّه: «يجب».

في أنّه أيّ قسم من الوجوب خلاف، فعن جماعة كالأردبيليّ(6)، أحب «المعالم»(7) وجوبه النفسي و لو أتى بالواقع، و عن كثير وجوبه


1- وسائل الشيعة 17: 66، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 23.
2- وسائل الشيعة 17: 41، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 1 و 2 و 4.
3- وسائل الشيعة 17: 41، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 10، و 19: 32، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 3.
4- وسائل الشيعة 11: 508، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 29 و 30 و 48.
5- وسائل الشيعة 11: 501، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 24.
6- انظر مجمع الفائدة و البرهان 2: 110 عند قوله: و اعلم أيضاً انّ سبب بطلان الصلاة ..
7- معالم الدين: 201.

ص: 456

حال تخلّف المأتي به عن الواقع(1)، فيعاقب مرّتين، و الحقّ عدم وجوبه، على ما تقرّر في مقامه(2).

نعم، يصحّ العقوبة على الواقع مع الجهل الذي ليس عذراً، و ما ورد من الترغيب إلى التعلّم(3) لا يدلّ على أكثر منه و إمكان الحمل على النفسي لا يكفي بعد عدم مساعدة العرف فهماً.

و توهّم الاستحباب النفسي مطلقاً أو في خصوص الصورة الآتية، لا يتمّ حسب ظواهر المآثير.

و بالجملة: إذا كان المتاجر في بلد يعلم المشتري أحكام التجارة، فلا يجب عليه التعلّم إلّا إذا احتمل تخلّفه عن علمه، فالمقدار اللازم هو ما إذا احتمل وقوعه في الخلاف، فكما لا يجب على البقّال تعلّم أحكام الربا، لعدم ابتلائه به، كذلك لا يجب على العالم بعدم الابتلاء، بخلاف الواقع المنجّز المستلزم للعقاب.


1- لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 229.
2- تحريرات في الأُصول 3: 87 90.
3- وسائل الشيعة 17: 381، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 1.

ص: 457

و القدر اللازم: أن يكون عالماً و لو عن تقليد (1) بحكم التجارة و المعاملة التي يوقعها حين إيقاعها، بل و لو بعد إيقاعها (2) إذا كان الشكّ في الصحّة و الفساد فقط، قوله دام ظلّه: «و لو عن تقليد».

لا وجه له بعد إمكان الاحتياط، نعم إذا لم يمكن ذلك يجب التعلّم، و هو الأعمّ من الاجتهاد.

و يمكن دعوى وجوبه مطلقاً، لما تقرّر منّا من: أنّ حجيّة العلم كحجيّة غيره في الحاجة إلى الإمضاء؛ لإمكان سلبها عنه(1)، و مقتضى إطلاق هذه المآثير عدم حجيّة العلم بعدم التورّط في الحرام، فتأمّل.

ثمّ إنّ وجوب التعلّم يختصّ بمورد يحتمل فيه الحكم الإلزامي، كما في التقليد أيضاً و لو لأجل التشريع، و قد مرّ البحث حوله في كتاب التقليد(2).

قوله: «و لو بعد إيقاعها».

و ذلك؛ لأنّ العقل الحاكم في المسألة يرى كفاية الحجّة الشرعيّة، و منها التقليد، فالمعذّر عن احتمال مخالفة الواقع، أنحاء، و الكلّ في نظره بنسبة واحدة، فلا حاجة إلى الاجتهاد.


1- تحريرات في الأُصول 6: 20 21.
2- مباحث الاجتهاد و التقليد من مستند تحرير الوسيلة مفقودة.

ص: 458

و أمّا إذا اشتبه حكمها من جهة الحرمة و الحليّة، لا من جهة مجرّد الصحّة و الفساد، يجب (1) الاجتناب عنها ثمّ إنّه قد يشكل تجويز المعاملة مع الشكّ في أحكامها؛ لاستلزامه الإخلال بمقوّمها، و هو القصد و الإرادة الجديّة، فإنّها كيف تترشّح إلى عنوان التجارة مع الشكّ في وقوعها، و مع التزامه بعدم الوقوع لو تبيّن الخلاف؟! و ليس صورة المعاملة بيعاً و لا إجارة، ما دام لم يكن موجوداً، و إن كان فاسداً في نظر الشرع أو العرف الخاصّ.

نعم، إذا اتّفق غفلته عن حاله، فإنّه حينئذٍ يتمكّن، و لكنّه خلاف المفروض في المتن ظاهراً.

قوله دام ظلّه: «يجب».

لما تقرّر في محلّه و أُشير إليه، فإنّ البراءات الثلاثة العقليّة، و العقلائيّة، و الشرعيّة، غير جارية، فلو أقدم على ذلك، فإن لم يتمكّن من الإنشاء الجدّي كما عرفت فتلك المعاملة غير قابلة للتصحيح.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ أدلّة الفضولي لا تقصر عن شمول المورد، فإنّه و إن لم يكن بيعاً إلّا أنّه يصير بيعاً بعد لحوق الإمضاء، كما يصير في الموارد الأُخر مؤثراً به.

و إن تمكّن منه، فإن تبيّن بعد المراجعة أنّه الصحيح الحلال فلا شي ء

ص: 459

كموارد الشكّ في أنّ المعاملة ربويّة (1)، بناءً على حرمة نفس المعاملة أيضاً، كما هو كذلك على الأحوط.

عليه إلّا التجرّي، و إن تبيّن أنّه الصحيح الحرام فلا شي ء عليه إلّا التوبة، و إن تبيّن أنّه الفاسد الحلال، فإن كان من موارد المقبوض المغصوب فعليه أحكامه، و إن كان من موارد المقبوض المرضي تقديراً فلا شي ء عليه إلّا التجرّي، و إن تبيّن أنّه الفاسد الحرام فقد علم حكمه ممّا أُشير إليه.

قوله دام ظلّه: «ربويّة».

لا يبعد ظهور الكتاب(1) و السنّة(2) في: أنّه محرّم تكليفاً كالقمار، بل لو كان المحرّم فيه التصرّف في مال الغير كسائر المعاملات الفاسدة، فلا وجه لقوله تعالى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ..(3) و لا سيما لو كان من الموارد الحاصل فيها الطيب التقديري.

و قد يشكل: بأنّ المحرّم الذي لا يبعد كونه أشدّ من عشرين زنية(4)، بل ثلاثين زنية(5) كما يأتي في الكتاب، هو الربا و هو الزيادة


1- البقرة( 2): 275 279.
2- وسائل الشيعة 18: 117، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1.
3- البقرة( 2): 279.
4- وسائل الشيعة 18: 119، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 6 و 22.
5- وسائل الشيعة 18: 118، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 5.

ص: 460

بعنوانها لا بعنوان التصرّف في مال الغير، فكون نفس المعاملة الربويّة محرّمة، غير معلوم، و لا سيّما على مختار جماعة، من صحّة أصل المعاملة(1)، كما لا يخفى.


1- جواهر الكلام 23: 334.

ص: 461

[مسألة 22: للتجارة و التكسّب آداب مستحبّة و مكروهة]

مسألة 22: للتجارة و التكسّب آداب (1) مستحبّة و مكروهة، أمّا المستحبّة فأهمّها: الإجمال في الطلب، و الاقتصاد فيه؛ بحيث لا يكون مضيّعاً و لا حريصاً. و منها: إقالة النادم (2) في البيع و الشراء لو استقاله. و منها: التسوية بين المبتاعين في السعر، فلا يفرّق بين المماكس و غيره، بأن يقلّل الثمن للأوّل و يزيده للثاني، نعم لا بأس بالفرق بسبب الفضل و الدين، و نحو ذلك ظاهراً. و منها: أن يقبض لنفسه ناقصاً و يعطي راجحاً.

قوله دام ظلّه: «آداب».

استحباب هذه المذكورات و غيرها المزبور في المفصّلات و كراهتها شرعاً إلّا بعضاً منها، غير معلوم.

نعم، بناءً على إثباتها بأدلّة التسامح(1) فلا يبعد، خصوصاً على القول بشمولها لفتوى الفقيه الذي لا يكون سندها إلّا الرواية دون الفتوى المستندة إلى القواعد.

قوله دام ظلّه: «إقالة النادم».

كونها من الآداب مبني على عدم كونها من المعاملات كالبيع، و مثلها الفسخ. ثمّ إنّ اشتراط الندامة مشكل بعد إطلاق بعض الروايات(2)،


1- وسائل الشيعة 1: 80، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.
2- الكافي 5: 153/ 16، وسائل الشيعة 17: 386، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 2.

ص: 462

و تعارف القيد في الأُخرى(1) لا يورث التقيّد، و اختصاصها بالبيع غير معلوم بعد الإطلاق في رواية سماعة(2)، و تعارف القيد المذكور في الأُخرى(3)، و قد ذكرنا المسألة في كتاب الإجارة(4)، و اشتراطها بالاستقالة، لأجل أنّ الندامة لا تلازم رضاه بالإقالة؛ لأنّه خلاف شرفه و دينه، و إذا لم يكن نادماً فلا بدّ منها حتّى يتحقّق عنوان الإقالة.

و اعتبار كون المستقيل مسلماً أو مؤمناً، غير ثابت لما أُشير إليه، إلّا أنّ ظهور القيد هنا قويّ في التقييد، فكأنّ هذا القيد أولى بالذكر ممّا صنعه الماتن تبعاً لغيره.

و ممّا ذكرناه: يظهر وجه النظر في سائر القيود المذكورة في المتون تبعاً للنصوص، على أنّ إلغاء الخصوصيّة هنا غير بعيد جدّاً.


1- وسائل الشيعة 17: 385، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 1 و 3 و 4 و 5.
2- الخصال: 224/ 55، وسائل الشيعة 17: 387، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 17: 385، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 1 و 2 و 4.
4- كتاب الإجارة للمؤلّف) قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 463

و أمّا المكروهة فأُمور: مدح البائع لمتاعه، و منها: ذمّ المشتري لما يشتريه، و منها: اليمين صادقاً على البيع و الشراء، و منها: البيع في موضع يستتر فيه العيب (1)، و منها: الربح على المؤمن إلّا إذا كان الشراء للتجارة، أو كان اشتراؤه للمتاع أكثر من مائة درهم، فإن ربح قوت اليوم منه غير مكروه، أو للضرورة، و منها: الربح على من وعده بالإحسان إلّا مع الضرورة، و منها: السوم ما بين الطلوعين، قوله دام ظلّه: «يستتر فيه العيب».

هذا هو المعروف بينهم، و من الممكن دعوى ممنوعيّته؛ لأنّه أكل للمال بالباطل، و ما ورد في خيار العيب(1) ربّما كان يختصّ بما إذا لم يكن المالك عامداً إلى سترة. و هذا هو الظاهر من رواية السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «مَن باع و اشترى فليحفظ خمس خصال، و إلّا فلا يشترينّ، و لا يبيعنّ: الربا، و الحلف، و كتمان العيب، و الحمد إذا باع، و الذمّ إذا اشترى»(2).

و كون بعضها مكروهاً لا يكون قرينة بعد كون الربا محرّماً، و بعد اقتضاء القواعد حرمته.


1- وسائل الشيعة 18: 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16.
2- الكافي 5: 150/ 2، وسائل الشيعة 17: 383، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 2، الحديث 2.

ص: 464

و منها: الدخول (1) في السوق أوّلًا و الخروج منه آخراً، و منها: مبايعة الأدنين الذين لا يبالون بما قالوا و ما قيل لهم، و ما ورد عن الرضا (عليه السّلام) حين مروره على هشام بن الحكم بائع السابري في الظلال: «يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ، و الغشّ لا يحلّ»(1) أيضاً يدلّ على ما ذكرناه.

نعم، إذا كان المشتري مقدماً على المعيب لما تعلّق غرضه بالأعمّ، و يعامل معه على قيمة المعيب، فتكون المعاملة صحيحة لازمة.

قوله دام ظلّه: «الدخول».

بنحو التقييد، فلو كان أوّل داخل فقط فلا كراهة ظاهراً.

و يمكن دعوى ظهور الخبر في الحرمة(2)، إلّا أنّ اشتماله على خلاف ضرورة الإسلام من كون أبغض البقاع عند اللَّه الأسواق يوهنه، فلا تثبت الكراهة، و يحتمل أن يكون المراد الأسواق الخاصّة، و يكون أوّل من دخل، و آخر من خرج على الدوام عاصياً.


1- الكافي 5: 160/ 6، وسائل الشيعة 17: 466، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 58، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 468، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 60، الحديث 1- 2.

ص: 465

و منها: التعرّض للكيل أو الوزن أو العدّ أو المساحة إذا لم يحسنه (1)، و منها: الاستحطاط من الثمن بعد العقد.

قوله دام ظلّه: «إذا لم يحسنه».

سواء كان ذلك تبرّعاً، أو بالاستئجار من قبل المالكين، أو للإيفاء بتجارته، و الثاني هو المقصود هنا ظاهراً، و لعلّه المراد من رواية الحنّاط، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) مرسلًا، قال: قلت له: رجل من نيّته الوفاء، و هو إذا كال لم يحسن أن يكيل، قال: «فما يقول الذين حوله؟» قلت: يقولون: لا يوفي، قال: «هذا ممّن لا ينبغي له أن يكيل»(1).

و قد يشكل: إنّ عدم الإحسان في الماليّات الموجب للاحتمال العقلائي على التضييع، خلاف الاحتياط، بل ممنوع، فعليه تحمل الرواية على الصورة الثالثة، مع القطع بالوفاء، و احتمال تضييع ماله بإعطاء الزائد، و ممّا يشهد على أنّه الاحتمال العقلائي قولهم فيها: أنّه لا يوفي.

و كلمة «لا ينبغي» ليست صريحة في الجواز، لاستعمالها في المحرّمات، كما في روايات الاستصحاب(2)، فتدبّر.


1- الكافي 5: 159/ 4، وسائل الشيعة 17: 394، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 8، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 3: 482، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 44، الحديث 1.

ص: 466

و منها: الدخول في سوم المؤمن على الأظهر (1)، و قيل بالحرمة، و لا يكون منه الزيادة فيما إذا كان البيع في المزايدة، و منها: تلقّي الركبان و القوافل، و استقبالهم للبيع عليهم، أو الشراء منهم قبل وصولهم إلى البلد، قوله دام ظلّه: «على الأظهر».

وفاقاً لجماعة(1)، و خلافاً لمثل الشيخ(2) و «السرائر»(3) و «الغنية»(4) و المقصود منه: جلب البيع بالمداخلة في مقاولة أخيه المسلم أو المؤمن.

و هذا هو المراد من النبويّ: «لا يسوم الرجل على سوم أخيه»(5) و من رواية الحسين بن زيد، عن الصادق (عليه السّلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام)، و فيه: «و نهى رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم»(6).


1- شرائع الإسلام 2: 14، تذكرة الفقهاء 1: 84 5/ السطر 29، اللمعة الدمشقيّة: 109.
2- النهاية: 374، المبسوط 2: 160.
3- السرائر 2: 235.
4- الغُنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 525/ السطر 3.
5- هذه الرواية غير موجودة في الجوامع الروائية الإماميّة و إن كانت موجودة في كتبهم الفقهيّة، راجع المبسوط 2: 160، السرائر 2: 234. لاحظ دعائم الإسلام 2: 34/ 74، مسند أحمد بن حنبل 2: 411، السنن الكبرى، البيهقي 5: 345.
6- الفقيه 4: 3/ 1، وسائل الشيعة 17: 458، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 49، الحديث 3.

ص: 467

و من مرسلة مجمع البحرين: «لا يسوم أحدكم على سوم أخيه»(1).

و يمكن دعوى عدم تماميّة الكراهة فضلًا عن الحرمة؛ لأنّ ضعف السند لا ينجبر بعمل بعض القدماء، خصوصاً إذا كان من المحتمل تلقّيهم الحكم من غير ما استندوا إليه كما هو كثير، و لا تكون الشهرة قويّة حتّى يكشف بها رأي المعصوم، أو الرواية التي تكون واضحة الدلالة.

و ما في «الجواهر» من: أنّ الأشدّ منه البيع على البيع، المروي في المرسل عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)(2)، لا يخلو من غرابة؛ لأنّه مضافاً إلى تحريف معنى السوم، و ما حكى عن الصحاح من اشتباهاته، و من خلط المعنى المجازي بالصحيح، أنّ تحريك البائع إلى الفسخ و الاستقالة ليس أشدّ؛ لأنّ الأقربيّة إلى اللزوم ليست مناطه، كما لا يخفى.

و حمل النبويّ على السوم بمعنى البيع، و غيره على السوم بمعنى المقاولة، غير صحيح.

و بالجملة: ينبغي الدقّة في الاستعمالات، حتّى لا يلزم الخلط، فربّما يستعمل البيع مجازاً و توسّعاً في المقاولة، و ربّما ينعكس و يستعمل السوم فيه.


1- مجمع البحرين 6: 94.
2- جواهر الكلام 22: 460، الفقيه 4: 4/ 1، وسائل الشيعة 17: 357، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه، الباب 12، الحديث 12.

ص: 468

و قيل: يحرم (1) و إن صحّ البيع و الشراء، و هو الأحوط، ثمّ إنّ خصوصيّة السوم في البيع و الشراء غير مصدّقة، و شرطيّة الإيمان غير مبرهنة، و لعلّ ذلك يكشف عن استنادهم إلى غير هذه الروايات، و مثل الخصوصيّة المشار إليها خصوصيّة الرجل، فإنّها ملغاة أيضاً، و احتمال كون المراد من النبويّ الأخ النسبي لا يضرّ بظهوره بعد ملاحظة غيره.

و ربّما يمكن دعوى دلالة متن هذه الروايات على الكراهة، بعد الغضّ عمّا في سندها، بأنّ تعليق الحكم على الرجل إشارة إلى أنّ هذا التدخّل خلاف الرجوليّة، و هو المساعد للاعتبار و يقتضيه المناسبة بين الحكم و الموضوع.

قوله دام ظلّه: «و قيل يحرم».

و هو قول جماعة كابن الجنيد(1)، و الشيخ في «الخلاف»(2) و التقي(3)، و القاضي(4)، و «السرائر»(5) و غيرهم(6)، و عن الإسكافيّ، بطلانها(7)،


1- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 29.
2- الخلاف 3: 172، المسألة 282.
3- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 20 21.
4- نفس المصدر.
5- السرائر 2: 237.
6- الدروس الشرعيّة 3: 179، جامع المقاصد 4: 37.
7- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 29.

ص: 469

و المشهور على الكراهة، و يظهر من المحكي عن «نهاية الإحكام» ذهاب جمع إلى عدم الكراهة(1).

و بكلٍّ وجه، و ذلك لإمكان الشبهة في السند، و عدم تماميّة الجبر، فلا كراهة، و لإمكان تصحيحه، و وجود النهي عن عنوان المعاملة و أثرها و هو جواز الأكل، في النصوص(2)، و لإمكان دعوى ظهور النهي في المعاملة في التكليف محضاً، و ما تعلّق بعنوان الاشتراء(3) ليس يفيد الفساد لتعلّقه بغير في غيره، فيكون النهي ظاهراً في الحرمة، و لوجود القرينة لا يستفاد منه البطلان، و لإمكان دعوى أنّ قضيّة الجمع بين المآثير المختلفة في الموضوعات المنهيّة، هي الكراهة.

و يمكن دعوى: أنّ المحرّم هو عنوان تلقّي الركبان، و الاشتراء ليس محرّماً، و لكنّه فاسد، جمعاً بينها، و لك اختيار القول السادس، أو السابع، و هو حرمة التلقّي، أو الكراهة، و صحّة المعاملة، و كون البائع بالخيار بعد الاطّلاع على حدود القيم السوقيّة، فإنّ العرف ينتقل من هذه المآثير إلى أنّ النهي لأجل وقوعهم في الغبن، أو لصدق الغرر.


1- نهاية الإحكام 2: 517.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.
3- نفس المصدر.

ص: 470

و إن كان الأظهر الكراهة (1)، و إنّما يكره بشروط:

أحدها: كون الخروج بقصد ذلك.

ثانيها: تحقّق مسمّى الخروج من البلد.

نعم، فيما زاد على الأربعة فراسخ، و فيها، فهو مكان آخر يعدّ الخارج مسافراً إلى التجارة، و جالباً لمال التجارة إلى البلد، و يختلف قيمة الأشياء بعد لحاظ هذه المسافة، التي هي تحتاج إلى المئونة الملحوظة في الأموال، فلا بأس به.

قوله دام ظلّه: «الأظهر الكراهة».

و ذلك لتماميّة السند، لوجود أرباب الإجماع فيه و صحّته إليهم، و لذهاب الأُمّة إلى الممنوعيّة بالمعنى الأعمّ، مستندين إليها، أو ظاهرهم الاستناد إليها.

و لم يحك من أحد نقل عدم الكراهة، و ما عن «نهاية الإحكام» باطل لما قال في ذيله: «و ليس حراماً، إجماعاً»(1) مع أنّك عرفت ذهاب العظام إليها.

و لأنّ اختلاف الموضوعات المنهيّ عنها في النصوص بنحو الترتّب، شاهد قويّ على الكراهة؛ فإنّ المقنّن ليس من دأبه فرض العصيان.


1- نهاية الإحكام 2: 517.

ص: 471

ثالثها (1): أن يكون دون الأربعة فراسخ، فلو تلقّى في الأربعة فصاعداً لم يثبت الحكم، بل هو سفر تجارة، و قوله (عليه السّلام): «لا تلق، و لا تشتر ما تلقى، و لا تأكل منه»(1) و قوله (عليه السّلام) أيضاً: «لا تلق، و لا تشتر ما تلقى، و لا تأكل من لحم ما تلقى»(2) معناه أنّه لا تلق، و إذا لقيت فلا تشتر، و إذا اشتريت فلا تأكل، و هذا يناسب الكراهة عرفاً على الأظهر.

قوله دام ظلّه: «ثالثها».

أمّا وجه الأوّل عدم صدقه بدون القصد؛ فإنّ المخاطب هو الحاضر في البلد، الخارج منه إلى ما دون المسافة، و يكون خروجه للتجارة و الارتزاق، و هو المنصرف من الروايات، و منه يعلم وجه الشرط الثاني، و يعلم انحلال الشرط الأوّل إلى شرطين، كما لا يخفى.

و أمّا وجه الثالث فلما ورد في النصّ عن منهال القصّاب قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «لا تلقَ، فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (نهى عن التلقّي» قال: و ما حدّ التلقّي؟ قال: «ما دون غدوة و روحة» قلت: فكم الغدوة و الروحة؟ قال:


1- الكافي 5: 168/ 2، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2.
2- الفقيه 3: 174/ 779، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 3.

ص: 472

و الأقوى (1) عدم اعتبار كون الركب جاهلًا بسعر البلد.

«أربعة فراسخ» قال ابن أبي عمير: و ما فوق ذلك فليس بتلقٍ(1).

و ما ورد من الإطلاق في بعض الأحاديث(2)، محمول عليه.

و وجه التفسير واضح؛ لأنّ سير القوافل في اليوم ثمانية فراسخ، ففي نصفه نصفها، فإذا سار أربعة فراسخ يتحقّق السفر، و يكون بحسب النصّ جلباً، و قد مضى البحث حوله.

قوله دام ظلّه: «و الأقوى».

لإطلاق النصّ، و قد يقال: إنّ الأحوط عدم الخروج لاستلزام الغرر، و العاقل لا يقدم على المعاملة مع الجهل بحال السعر في البلد المتوجّه إليه، و القريب منه، فلو أقدم تكون المعاوضة سفهيّة و باطلة، خصوصاً إذا أخبر الخارج كذباً عن سعر البلد.

و توهّم إطلاق النصّ خصوصاً للفرض الأخير، غير تامّ، و لكنّه في غير الفرض الأخير يتمّ، فإنّ الجهالة في المبيع ترتفع، و إذا كان البائع عاقلًا فإقدامه على السعر خارج البلد، ربّما كان لأجل الجهات المرغوب فيها،


1- الكافي 5: 169/ 4، وسائل الشيعة 17: 442، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.

ص: 473

و هل يعمّ الحكم غير البيع و الشراء كالإجارة و نحوها؟ وجهان. (1) من عدم المكث الكثير في البلد و غيره.

و أمّا في الفرض الأخير فيشكل وضعاً؛ لأنّه أكل بالباطل، و أدلّة خيار الغبن(1) ناظرة إلى غير تلك الصورة.

و ربّما يمكن دعوى حرمته التكليفيّة، زائداً على الكذب المحرّم، للعلم بأنّ مذاق الشرع بري ء من هذا النحو من التكسّب.

قوله دام ظلّه: «وجهان».

من وجود النهي عن الاشتراء في الروايتين اللتين هما الأصل في المسألة(2)، و من إطلاق بعض مآثير الباب(3)، و إمكان إلغاء الخصوصيّة بحمل القيد على الغالب في خصوص المقام؛ لاقتضاء النكتة أعمّيته.

و يمكن دعوى التفصيل بين ما يكون مثل البيع في نقل العين، كالصلح و نحوه، و ما هو مثل الإجارة، فإنّ المآثير منصرفة عنها، خصوصاً إذا كان الركب مستأجرين و الخارج مؤجراً، كما لا يخفى.


1- وسائل الشيعة 18: 31، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.
3- وسائل الشيعة 17: 442، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 1 و 5.

ص: 474

ثمّ إنّ مقتضى رواية عروة بن عبد اللَّه، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً من المصر»(1) خصوصيّة التجارة و زائداً عليها، خصوص البلد و المصر، و مقتضى الإطلاقات عدمها.

و يمكن اختصاص الحكم بالتجارة، فإنّها الأعمّ من البيع، و أخصّ من الهبة المعوّضة أحياناً، و قضيّة الإطلاقات عدم الفرق بين كون القادم من أهالي البلد و غيره.


1- الكافي 5: 168/ 1، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 5.

ص: 475

[مسألة 23: يحرم الاحتكار]

مسألة 23: يحرم (1) الاحتكار، قوله: «يحرم».

إذا كان يؤدّي الاحتكار إلى الإضرار، و إحداث الهرج، و إخلال النظام، فهو ممنوع عقلًا؛ لأنّ العناوين الأُخر المحرّمة مترتّبة عليه، فما هو محلّ البحث إمّا نفس المنع و الحبس انتظاراً للغلاء، أو هو مع استلزامه وقوعهم في المشقّة لاحتياجهم إليه، فإنّه عندئذٍ يمكن تجويزه ذاتاً، و منعه و تحريمه.

و الذي يظهر لي: أنّ الأصحاب لا يختلفون في حكم المسألة، إلّا في بعض الجهات الراجعة إلى حدود موضوعها، فمن قال بالكراهة يكون ناظراً إلى المعنى اللغوي للاحتكار، و من اختار الحرمة نظراً إلى الموضوع المقصود في الأخبار.

و ما يساعده المآثير و المناسبات(1) هو: أنّ نفس الحكرة ليست محرّمة، و هي بمقتضى إطلاق طائفة من النصوص(2) ممنوعة كراهة؛ لأنّ كلمة اللعن و أشباهه، مع بعض القرائن الأُخر، لا تدلّ إلّا على الكراهة.

نعم، إذا كانت الحكرة في موقف حاجة الناس و المسلمين، و في


1- وسائل الشيعة 17: 427، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 28.
2- وسائل الشيعة 17: 424، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 3 و 8.

ص: 476

و هو: حبس الطعام و جمعه، يتربّص به الغلاء، مع ضرورة المسلمين (1) و حاجتهم، و عدم وجود من يبذلهم قدر كفايتهم، نعم مجرّد حبس الطعام انتظاراً لعلوّ السعر، مع عدم ضرورة الناس، و وجود الباذل، ليس بحرام. و إن كان مكروهاً.

موضع استلزم وقوعهم في الحرج و المشقّة، بأن لا يكون عند غيره الطعام، فالظاهر حرمته، لقوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إيّاك أن تحتكر»(1) وارداً في موقف ضرورتهم، و أمره (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (بالبيع و النهي عن الحبس(2).

و توهّم كون الروايات في الفرض الأوّل قرينة على صرف هذه النواهي في الفرض الثاني، لا يخلو من غرابة.

قوله دام ظلّه: «المسلمين».

قضيّة المآثير قاطبة(3) عدم الفرق بينهم و بين غيرهم، من الّذين هم في ذمّة الإسلام، أو في تعاهدهم من المحترمين أموالًا و أنفساً.

نعم، في رواية حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، ذكر المسلمين على حسب اقتضاء القضيّة الخارجيّة، لا الاشتراط و التقييد، و توهّم


1- الكافي 5: 165/ 4، وسائل الشيعة 17: 428، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 28، الحديث 3.
2- الكافي 5: 164/ 2، وسائل الشيعة 17: 429، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 423، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27 28 29 30.

ص: 477

و لو حبسه في زمان الغلاء لصرفه في محاويجه، لا للبيع، فلا حرمة (1) فيه، و لا كراهة، اقتضاء بعض الخطابات ذلك، غير تامّ.

فالأقوى ممنوعيّته حتّى بالنسبة إلى غيرهم، خصوصاً أهل الذمّة، و لو كان الأمر كما توهّم لكان ذلك طريقاً إلى منافع أرباب الاحتكار، و ليس في الأخبار منه العين و الأثر، مضافاً إلى أنّه خلاف المذاق من الشريعة المقدّسة.

قوله دام ظلّه: «فلا حرمة».

لظاهر اللّغويين القائلين: إنّ الحكرة هي: الحبس انتظاراً للغلاء(1)، و لا خصوصيّة لمفهوم الحبس في موضوع الحكم، بل المنع عن التقلّبات من الشراء و غيره أيضاً، محرّم و مكروه في موضعهما المذكور و لو اقتضى كلام بعض أهل اللغة أعميّة مفهوم الحكرة(2)، و لكنّ الظاهر من الأخبار هو ذاك، فتأمّل.

ثمّ إنّ الإطلاق المذكور يمنع فيما يؤدّي الاحتكار إلى الإخلال بالنظم، و وقوع المسلمين و المحترمين في المشقّة المؤدّية احتمالًا إلى الهلاكة، إلّا إذا كان الاحتمال المذكور سارياً في حقّ المحتكر أيضاً، فلا تغفل.


1- الصحاح، 2: 635، المصباح المنير: 175، لسان العرب 3: 267.
2- معجم مقاييس اللغة 2: 92.

ص: 478

و الأقوى (1) عدم تحقّقه إلّا في الغلّات الأربع، و السمن، و الزيت، قوله دام ظلّه: «و الأقوى».

للنصّ، ففي معتبر غياث بن إبراهيم، عن الصادق (عليه السّلام): «ليس الحكرة إلّا في الحنطة، و الشعير، و التمر، و الزبيب، و السمن»(1) و في المروي عن «الخصال» زيادة: الزيت على الخمسة(2).

و للتجاوز عنها إلى غيرها نحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة، و هي ممنوعة جدّاً، أو إلى دعوى الإطلاق، و هي مضافاً إلى ظهور بعض كلمات بعض اللّغويّين في: أنّ مادّة الاحتكار أخصّ(3)، خلافاً لبعضهم الآخر(4)، يقيّد بالمفهوم في رواية غياث.

نعم، دعوى لغويّة خصوصيّتها إذا لم تكن مورد الحاجة المتعارفة، كالحنطة في طبرستان مثلًا، و لحوق غيرها بها فيما صار من الرزق الغالب بعد مراجعة النصوص في المسألة، غير بعيدة.

هذا و قد يشكل جريانها في الزيت؛ لأنّ مقتضى ما تحرّر منّا في محلّه(5):


1- الكافي 5: 164/ 1، وسائل الشيعة 17: 425، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 4.
2- الخصال 1: 329/ 23.
3- المصباح المنير: 175، لسان العرب 3: 267.
4- القاموس المحيط 2: 13.
5- تحريرات في الأُصول 5: 455 و مابعدها.

ص: 479

أنّ الجمع بين مفهوم الحصر و المنطوق بالتقييد، ليس من الجمع العقلائي، و عندئذٍ إذا ثبت سند القيد يحمل الحصر على الأفراد التي تشتمل على الأهميّة بالذكر، و عليه يمكن دعوى: أنّ الحكرة ممنوعة في جميع ما يحتاج إليه المسلمون.

هذا فيما لم يكن مستلزماً لوقوعهم في المشقّة المستلزمة للإخلال بالنظم، و إلّا فهو ممنوع عقلًا، كما مرّ الإيماء إليه.

ثمّ إنّ أمثال هذه المسائل بيد أمير المصر، و سلطان الممالك، و عليه حفظ شؤون الملك حسب ما يراه مع رعاية مصالح المالك و الملك و الرعيّة.

و يحتمل أن تكون المسألة من قبيل المسائل الصادرة عن النبيّ و الأمير «صلّى اللَّه تعالى عليهما» بما هما سلطان الناس، و سائس الأُمّة، و مقتضى قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «حكمي على الأوّلين حكمي على الآخرين»(1) نفوذه في عصرنا، و لزوم التبعيّة لهما (عليهما السّلام).


1- لم نعثر على هذه الرواية في مجامعنا الروائيّة و كذا في كتب العامّة و يقرب منه ما ورد في الكافي و فيه:« لأنّ حكم اللَّه في الأوّلين و الآخرين .. سواء» و أيضاً ما في عوالي اللآلي 1: 456/ 197 و فيه« حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» لاحظ أيضاً العناوين 1: 26 و القواعد الفقهية 2: 45.

ص: 480

نعم هو أمر مرغوب عنه (1) في مطلق ما يحتاج إليه الناس، لكن لا يثبت لغير ما ذكر (2) أحكام الاحتكار.

قوله دام ظلّه: «هو أمر مرغوب عنه».

قد عرفت وجه ما ذكره الأصحاب وجهاً له، مضى ما فيه، و لعلّه- مدّ ظلّه أجمل في بيان الحكم فيما سوى الستّة؛ لما في دليله من الإجمال، فإنّ قوله: «مرغوب عنه» أعمّ من الحرمة، و الكراهة، و المذموميّة الأخلاقيّة المعلومة من مذاق الشريعة، و ما يحتاج إليه الناس أعمّ من المأكولات، و المشروبات، و الملابس، و الآلات.

و لعلّ قوله تعالى وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ(1) من الرمز إلى هذه المسألة، فإنّ الماعون معناه المعروف، و كلّ ما ينتفع الناس به.

قوله دام ظلّه: «لا يثبت لغير ما ذكر».

لأنّ المرغوب عنه أعمّ من الحرمة كما عرفت، و أمّا إذا كان محرّماً، كما هو الظاهر من المتن بعد ملاحظة هذه العبارة، فإن كان دليله نصوص هذه المسألة بوجه مضى أو بوجوه أُخر أُشير إليها، فعندئذ تثبت أحكام الحكرة، و إن كان دليله قاعدة «نفي الضرر و الحرج» ففي جريانهما في المقام؛ بحيث ينتج حرمة الحبس و المنع بحث، لا أظنّ التزامه به إلّا على بعض التقاريب؛ ضرورة أنّ القاعدتين تتكفّلان نفي ما يوجب الضرر و الحرج على المكلّف لا الآخرين.


1- الماعون) 107): 7.

ص: 481

و يجبر المحتكر (1)، اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ مورد قاعدة «لا ضرر» يدلّ على نفي سلطنة المالك، إذا كان إطلاقها موجباً لوقوع الغير في الضرر، فتدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ القاعدتين عامّتان متكفّلتان لنفي الأحكام المزاحمة، و تحريم الإضرار و الإحراج، فعندئذٍ لا يجوز الاحتكار المؤدّي إلى ضرر المسلمين، و وقوعهم في المشقّة و الحرج.

و من المباحث في القاعدتين: أنّهما ناظرتان إلى نفي الضرر و الحرج عن النوع من غير النظر إلى الشخص، فلو كان الاحتكار موجباً للضرر على النوع، و نفيه موجباً للضرر على الشخص، و هكذا في جانب الحرج، يقدّم لحاظ النوع، فإنّهما منّة على الأُمّة لا على كلّ واحد واحد منهم حتّى يلزم التزاحم بين الضرر الشخصي و النوعي، و المشقّة الشخصيّة و النوعيّة.

فعليه يحرم الاحتكار، و يمنع عنه، من غير سريان أحكامه الخاصّة الثابتة في الموارد المنصوصة.

قوله دام ظلّه: «و يجبر المحتكر».

إجماعاً محكيّاً عن غير واحد(1)، و هو قضيّة النصّ(2)، و في إطلاق


1- المهذّب البارع 2: 370، التنقيح الرائع 2: 42، مفتاح الكرامة 4: 109.
2- وسائل الشيعة 17: 429، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29، الحديث 1، و الباب 30، الحديث 1.

ص: 482

على البيع (1) و لا يعيّن عليه السعر على الأحوط، (2) المتن نظر، و لعلّه يريد صورة الاحتكار المحرّم، لا الأعمّ منه و من المكروه.

قوله مدّ ظلّه: «على البيع».

لما في النصّ، و لكنّه محمول على المثال، فلو اجبر على التجارة فاختار القرض أو الهبة المعوّضة أو غير ذلك من الصلح و نحوه، فهو أيضاً جائز؛ لمعلوميّة الملاك، و المقصود من الإجبار، بل الإجبار على الأمر الكلّي، و اختيار المجبور أحد مصاديقه، أوفق بالاحتياط من الإجبار على خصوص البيع، فتدبّر.

قوله: «السعر على الأحوط».

إجماعاً محكيّاً عن «المبسوط»(1) و «السرائر»(2) و «التذكرة»(3) و هو الموافق للقواعد؛ لأنّ الإجبار على خلافها، و تقتضيه النصوص(4)، و عن «السرائر»: «أخبار متواترة»(5).

و قد يشكل في ذلك كلّه؛ لأنّ الإجماعات معلومة السند، و القواعد


1- المبسوط 2: 195.
2- السرائر 2: 239.
3- تذكرة الفقهاء 1: 585/ السطر 32.
4- وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30.
5- السرائر 2: 239 و حكى عنه مفتاح الكرامة 4: 109.

ص: 483

محكومة بما يقتضيه ظاهر كلام الأمير في «النهج» قال: «فامنع من الاحتكار؛ فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (منع منه، و ليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، واسعاً لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع»(1) فإنّ الظاهر اختيار البيع بيد الحاكم.

و لا ينافيه رواية ضمرة(2) مع إجمالها، و عدم تماميّة سندها، و لا رواية حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فإنّ قوله: «و بعه كيف شئت، و لا تحبسه»(3) مجمل من حيث أنواع الكيف، مع أنّه غير قابل للعمل به في صورة الإجحاف، و لا دلالة فيه على المنع من التسعير.

و ما ورد في الروايات الكثيرة: «أنّ السعر بيد اللَّه عزّ و جلّ»(4) غير هذا التسعير المقصود في المقام، كما لا يخفى.


1- نهج البلاغة: 615، وسائل الشيعة 17: 427، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 13.
2- تهذيب الأحكام 7: 161/ 713، وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30، الحديث 1.
3- مرَّ تخريجها في الصفحة: 298، الهامش: 2.
4- وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30.

ص: 484

بل له أن يبيع بما شاء إلّا إذا أجحف (1)، فيجبر على النزول (2)، من دون أن يسعّر عليه، قوله دام ظلّه: «إلّا إذا أجحف».

و هو مختار جماعة(1)، و قضيّة ما في النهج، و ضعف السند ينجبر بعملهم بعد اقتضاء القواعد بطلان المعاملة المجبور عليها، فتأمّل.

و هذا هو المناسب في المقام من إرادة الحاكم رفع المشقّة و الحرج، و إحداث النظم في المصر و البلد؛ ضرورة أنّه مع الإجحاف لا يرفع ذلك، و لا يحصل المقصود من تجويز البيع بلا رضا المالك، و لا سيّما في الإجحاف الكثير.

قوله: «فيجبر على النزول».

رعاية للقواعد و نصوص المسألة، و حفظاً على الخروج عنها بالقدر المتيقّن، و ممّا مضى و تقدّم.

ثمّ إنّ تعيين السعر عليه يختصّ على فرض الجواز بما إذا لم يرد المالك البيع بأقلّ من الثمن المتعارف، و في المسألة بعض مباحث ترجع إلى بيع المكره، فتطلب من محالّها.


1- الوسيلة: 260، مختلف الشيعة: 346/ السطر 15، إيضاح الفوائد 1: 409، الروضة البهيّة 1: 331/ السطر 24.

ص: 485

و مع عدم تعيينه يعيّن الحاكم (1) بما يرى المصلحة (2).

قوله دام ظلّه: «يعيّن الحاكم».

أو من هو المنصوب من قبله في خصوص هذه القضيّة، أو في الأمر الكلّي.

قوله مدّ ظلّه: «بما يرى المصلحة».

و هي العمل بموازين العدل من غير أن يجحف بالفريقين.

ص: 486

[مسألة 24: لا يجوز مع الاختيار الدخول في الولايات، و المناصب، و الأشغال من قبل الجائر]

مسألة 24: لا يجوز (1) مع الاختيار الدخول في الولايات، و المناصب، و الأشغال من قبل الجائر و إن كان أصل الشغل مشروعاً، قوله دام ظلّه: «لا يجوز».

على المشهور، بل في الفرض الثاني حرمته من الضروريّات المفروغ عنها، و ذلك إمّا لأنّها محرّمة بذاتها و بعنوان التولّي و التقلّد من قبل السلطان الجائر، كما هو ظاهر بعض النصوص(1)، و هذا هو الداخل في الروايات الزاجرة عن الدخول في أعوان الظلمة(2)، بل هم الظالمون، أو لأنّ تصدّى الخلافة الإسلاميّة، و السلطنة على الرعيّة غصب، فيكون محرّماً؛ فلا يحرم عمل العاملين من قبلهم بهذا العنوان.

اللّهمّ إلّا أن يقال: هو أيضاً غصب الولاية التي هي حقّ الشيعة و أتباع الأئمّة (عليهم السّلام)، أو يختلف وجه الحرمة المنطبق، فإنّ الخليفة يحرم فعله لكونه غصباً و عدواناً، و العمّال يحرم فعلهم و تصدّيهم لكونه دخولًا في سلطان الغير، أو لكونه عون الظالم أو سبباً لبقاء الظلم و ازدياد شوكته، أو لأنّ التدخّل في هذه الأُمور يستلزم المحرّمات فيكون ممنوعاً عقلًا.

و الّذي تقتضيه الصناعة حلّيّة العنوان المذكور بنفسه، و لا دليل على حرمة غصب الخلافة بعنوانه.


1- وسائل الشيعة 17: 187، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.

ص: 487

نعم، هو قبيح عقلًا؛ لأنّه ظلم، و لا يحرم الظلم عندنا بعنوانه حتّى يلزم كون الغصب محرّماً بعنوانين، بل لا يعقل؛ لأنّ النسبة بين عنوان الظلم و العناوين الخاصّة الّتي من مصاديقه العموم المطلق، لا من وجه.

و هذا هو المتراءى من روايات المسألة؛ لأنّ مقتضى الجمع بين ما يدلّ على حرمته بعنوانه(1)، و ما يدلّ على حرمته لاستلزامه المحرّم(2) هو الالتزام بحلّيّة العنوان المذكور ذاتاً، و حرمته عقلًا و تبعاً.

و نتيجة هذا: أنّه لو فرض عدم ترتّب المحرّم على تقلّد الأمر و تصدّي الخلافة، لكان هذا جائزاً، بل و لمكان حفظ المسلمين عن المفاسد المرتقبة في المعيشة و دفع شرّ الكفّار عنهم، يكون مأجوراً. و هذا هو الصريح في رواية ابن إدريس نقلًا من كتاب «مسائل الرجال»(3).

و توهّم الفرق بين العامل الكذائي و المعمول له غير تامّ، فإنّ سلطان الإسلام لو كان يدخل في أمره لدفع الشرّ عن حدود الإسلام، مريداً بسط السنّة و الكتاب، معتقداً أنّ غيره لا يتمكّن من ذلك، غير مبال بأمر الإمام


1- وسائل الشيعة 17: 191، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4 6 7.
3- السرائر 3: 583.

ص: 488

و نهيه، فإنّه مثل العامل الداخل في الأمر مريد هذه الحسنات.

هذا فيعلم من ذلك أنّ المآثير في المسألة قاصرة عن إفادة ما هو المحرّم في الشريعة قطعاً، أو تحتاج إلى التعمّق و التأمّل الشديد، و هو يعطي أنّ المآثير في المقام خمس طوائف، على ما فصّلناها في كتابنا الكبير.

و نتيجة هذه الطوائف: أنّ التولّي و تقلّد الأمر من أعظم المحرّمات الإلهيّة، الّتي لا تترخّص إلّا في مواقف التقيّة و الضرورة، مع لزوم جبر المفسدة الواقعة فيها بالأعمال الصالحة، و قضاء حوائج الشيعة، ف إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ(1) كما في رواية مفضّل بن مريم(2)، و «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان» كما في «الفقيه»(3)، و ما ورد في ترخيص الدخول في ولاياتهم و مناصبهم كثيراً(4) على مبنى التقيّة حتّى عن مثل زرارة، كما في صحيحة الوليد بن صبيح(5)، و لا سيّما إنّ المسألة في نهاية


1- هود( 11): 114.
2- وسائل الشيعة 17: 198، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 6.
3- الفقيه 3: 108/ 453، وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46.
5- الكافي 5: 105/ 2، وسائل الشيعة 17: 187، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 1.

ص: 489

الدقّة في الحفظ على دمائهم و دماء أصحابهم.

و دخول مثل عليّ بن يقطين للإذن الخاصّ و لمصالح عالية مؤقّتة(1).

و بالجملة: تصدّي أُمور الممالك محرّم، و الإعانة على هذا الظلم العظيم محرّم بأن يتصدّى الولايات و المناصب حتّى على الشيعة، و الاستثناء ينحصر بصورة التقيّة و الضرورة، راعياً مصالح الأُمّة حال الاشتغال.

و لا معنى لأن يكون المستثنى في المقام مستحبّاً لما تقرّر: أنّ الاستثناء عن العناوين المقبحة لا يعقل، إلّا فيما زاحم الملاك الأقوى البالغ حدّ الإيجاب، و السرّ كلّ السرّ أنّ الشقاوة و السعادة الدنيويّة و الأُخرويّة تنشأ عن الخلافة الصحيحة و السلطنة العادلة، و الفاسدة الظالمة، و جميع الخيرات و الشرور مربوطة بهما، و عندئذٍ يجب بحكم العقل إيجاد هذه و اقتناء ذاك و لو بالسياسة المنفيّة، الّتي هي المنساق من مآثير المسألة بعد التدبّر و التأمّل.

هذا كلّه حول السلطان الجائر المدّعى للخلافة الإسلاميّة، الّذي هو القدر المتيقّن من الأدلّة حسب زمان صدورها.

و أمّا من يتصدّى الممالك الإسلاميّة من غير الادّعاء المذكور، فهو


1- وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 1 و 8 و 16.

ص: 490

عندي أيضاً من الفساق في تقلّده؛ لما تقرّر منّا أنّه حقّ الفقهاء(1)، و ليس أمر الممالك مرخى و مرسل العنان من قبل الشريعة الخاتمة، للزوم الخلف فعلى الإسلام تعيين الوظيفة في جميع الأعصار، و لا يجوز عليه إيقاع المسلمين في الهرج و المرج حتّى يتكدّر منه روح كلّ أحد، و لا يميل إليه ذو مسكة.

و لا فرق عندنا بين الإمام و المنصوب من قبله عامّاً و خاصّاً، في وجوب تصدّي الملك، و تعيين الحدود، و بسط العدل و الإسلام إلى أن يأتي قائم الأُمّة عجّل اللَّه تعالى فرجه.

و لو كان الأمر كما زعمه زملائنا القدماء و المتأخّرون(2)، لكان يجب إرسال الرسول، لاتّحاد هذه الجاهليّة مع الجاهليّة الاولى في الاقتضاء، فلا يجوز وضع اليد على اليد مدّعياً أنّ الإسلام أمر به، فإنّه إثم و بهتان عظيم، و هذا ممّا لا يحتاج فيه إلى الدليل، كما في أصل التوحيد و الرسالة، و لا ينبغي الخلط بين المانع عن التقدّم و البسط، و عدم اقتضاء الإسلام ذلك، فإنّه في الثاني نقص عليه و خذلان.


1- لاحظ ثلاث رسائل للمؤلّف( قدِّس سرُّه) رسالة ولاية الفقيه.
2- انظر مفتاح الكرامة 4: 114.

ص: 491

مع قطع النظر عن تولّيه من قبله كجباية الخراج و جمع الزكاة، و تولّي المناصب الجنديّة و الأمنيّة، و حكومة البلاد و نحو ذلك، فضلًا عمّا كان غير مشروع في نفسه (1)، كأخذ العشور و المكوس و غير ذلك من أنواع الظلم المبتدعة.

قوله دام ظلّه: «غير مشروع في نفسه».

المراد من المناصب المشروعة هي المتعارفة في جميع الحكومات حتّى العادلة، و من غير المشروعة هي ما لا يتعارف في حكومة العدل، فإنّ أخذ المكوس و العشور ليس من شؤون السلطان العادل.

نعم، هو بعنوانه ليس من المحرّمات حتّى يكون حراماً، مع رضاء الأُمّة الراقية القائلة بلزومها لحفظ المملكة، و لذلك يمكن إحداث هذه الشؤون في الدولة الحقّة إذا كانت محتاجة إلى الإعانة في الإدارة، فيأمر السلطان العادل الرعيّة بأن يعطي كذا و كذا زائداً على الأخماس و الزكوات.

و ممّا يؤسف عليه أنّ الإسلام ليس معروفاً كما هو، و لا متلقّياً من أتباعه حقّه، فهو الغريب كما بدأ غريباً.

ص: 492

نعم، يسوغ كلّ ذلك (1) مع الجبر و الإكراه، بإلزام من يخشى من التخلّف عن إلزامه على نفسه أو عرضه أو ماله المعتدّ به، إلّا في الدماء المحترمة بل في إطلاقه بالنسبة إلى تولّي بعض أنواع الظلم كهتك أعراض طائفة من المسلمين، و نهب أموالهم، و سبي نسائهم، و إيقاعهم في الحرج، مع خوفه على عرضه ببعض مراتبه الضعيفة، أو على ماله إذا لم يقع في الحرج، قوله: «يجوز كلّ ذلك».

للعقل و النقل، ففي موثّقة مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان، يعملون لهم، و يجبون لهم، و يوالونهم، قال: «ليس هم من الشيعة، و لكنّهم من أُولئك» ثمّ قرأ أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) هذه الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ..(1) إلى أن قال: «ثمّ احتجّ اللَّه على المؤمنين الموالين للكفّار فقال تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ..(2) إلى قوله تعالى وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ(3) فنهى اللَّه عزّ و جلّ أن يوالي المؤمن الكافر إلّا عند التقيّة(4).


1- المائدة( 5): 78.
2- المائدة( 5): 80.
3- المائدة( 5): 81.
4- تفسير القمّي 1: 176، وسائل الشيعة 17: 190، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 10.

ص: 493

بل مطلقاً في بعضها إشكال، بل منع. (1) و هذه الرواية تشتمل على جهات شتّى دالّة على ما أفدناه، من حرمة التولّي بذاته، و من ممنوعيّة الدخول حتّى للشيعة، و من حرمة تصدّي الخلافة و السلطة بالأولويّة القطعيّة، و من أنّهم في حكم الكافر، و الشيعة بما هي شيعة لا تتصدّى أمرهم، فيعلم ممنوعيّته شديداً، و مقتضى مفهوم الحصر انحصار الدخول بحال التقيّة دون مصالح أُخر يأتي ذكرها، و من أعمّية السلطان من المدّعين للخلافة الإسلاميّة، و من كونه عامّيّاً مسلماً، و استثناء التقيّة شاهد على أنّ الموالاة هي التولّي، لا الوداد و المحبّة، و حملها على ترتيب آثار الوداد فاسد.

قوله دام ظلّه: «إشكال، بل منع».

و ذلك لأنّ وجه الرخصة إن كان مراعاة المقتضيات، فهي في جانب المستثنى منه أقوى، بل لا تقاوم الأموال الأعراض، فلا يجوز هتك عرض المؤمن و لو بذهاب جميع أمواله، و إن كان المآثير الخاصّة(1)، و عمومات التقيّة(2)، و حديث الرفع(3)، فهي منصرفة عن هذه المواقف، فإنّه كيف يجوز


1- وسائل الشيعة 17: 202، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48، الحديث 4- 5.
2- وسائل الشيعة 16: 203، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 24 25.
3- التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس و ما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.

ص: 494

و يسوّغ خصوص القسم الأوّل و هو الدخول في الولاية على أمر مشروع في نفسه القيام بمصالح (1) المسلمين و إخوانه في الدين، بل لو كان دخوله فيها بقصد الإحسان إلى المؤمنين، و دفع الضرر عنهم كان راجحاً، الالتزام بهدم الكعبة، و ردّ الكتاب و السنّة حذاء النفس فضلًا عن المال، فيما إذا كان في هدمه و ردّه ضلالة الناس و كفرهم، و التزلزل في عقائدهم، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

أ فما سمعتم تقبّل المئات من أعاظم المؤمنين و أقارب الرسول الأكرم (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (في الجهاد لبسط الإسلام و هداية الضالّين؟ أ فما تدرك أنّ أساس التقيّة لحفظ أُصول الإسلام، و عقائد الناس، و إحداث الوحدة الإسلاميّة بين الملل قبال الملّة الكافرة؟ فلا ينبغي إجرار أذيال هذه الأدلّة إلى غير مصابّها حتّى يضلّ القاصرون.

قوله: «القيام بمصالح».

إجماعاً محكيّاً(1)، و هو قضيّة حكم العقل و النقل(2)، فإنّ ملاك الدخول يتكاسر بالمصالح العالية الإسلاميّة فتارة: تبلغ المصلحة إلى حدّ الوجوب، كما لو تمكّن من حفظ الدماء المحترمة و الأعراض، و أُخرى: إلى حدّ الندب، كما لو تمكّن من دفع المنكرات غير البالغة إلى حدّ


1- فقه القرآن، الراونديّ 2: 24، انظر مفتاح الكرامة 4: 114، جواهر الكلام 22: 160.
2- وسائل الشيعة 17: 201، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48.

ص: 495

القاهريّة على ملاك مفسدة الدخول و لكنّها غالبة، و ثالثة: إلى حدّ الكراهة، كما لو انكسر ملاك الحرمة بمصلحة مترتّبة عليه.

و في صحيحة الحلبيّ قال: سُئل أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل مسلم، و هو في ديوان هؤلاء، و هو يحبّ آل محمّد (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و يخرج مع هؤلاء في بعثهم فيُقتل تحت رايتهم، قال: «يبعثه اللَّه على نيّته» قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئاً فيغنيه اللَّه به، فمات في بعثهم، قال: «هو بمنزلة الأجير، إنّه إنّما يعطي اللَّه العباد على نيّاتهم»(1).

و أنت خبير بقصور هذه الوجوه عن تجويز ما هو الممنوع صغرىً و كبرى، فإن الإجماع المحكي و المحصّل منه في أمثال المسألة لا يفي بشي ء؛ لكثرة الأدلّة و اطّلاع العقل على حدودها.

و انكسار المفاسد بالمصالح لا يورث تجويز المحرّم، كما لا ينكسر ملاك المحرّم بانطباق عناوين كثيرة من المستحبّات.

و حفظ الملاك الأهمّ في فرض لا يورث انقلاب الحكم المحرّم واجباً أو مستحبّاً أو مرجوحاً، على ما تقرّر منّا في الأُصول(2).


1- تهذيب الأحكام 6: 338/ 944، وسائل الشيعة 17: 201، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48، الحديث 2.
2- تحريرات في الأُصول 4: 216 218.

ص: 496

نعم، العامل معذور في ارتكاب المهمّ، مع أنّ الاطّلاع على هذه التكاسرات في الملاكات و المصالح غير ممكن بنحو الكلّي، و لا سيّما إذا كان اللازم القطع بترتّب المصالح على دخوله فيها و مع كونه مطابقاً للواقع، و إلّا فلا يعد معذوراً؛ لأنّ المقرّر جواز عدم كون العلم من الأعذار، و يمكن سلب اعتباره عنه.

فالدليل الوحيد هو النصوص، و الذي يظهر لي بعد التعمّق فيها: قصور هذه الطائفة من الأخبار لترخيص الدخول، فإنّ شدّة المنع في المستثنى منه توجب الشبهة في هذه المآثير، مع ضعف سند كثير منها و قصور دلالة الأخيرين، فإنّ خبر الحلبيّ مشعر بأنّه (عليه السّلام) لاحظ بعض المحاذير في العصر، و أقدم على الجواب بما هو المجمل، فإنّ من المحتمل قويّاً إرادته من قوله: «يبعثه اللَّه على نيّته» ما لا ينافي ممنوعيّة فعله شرعاً، و من قوله (عليه السّلام): «هو بمنزلة الأجير» ما ورد في قصّة صفوان الجمال(1)، الذي هو أجير هارون، المحبّ لبقائه حتّى يرد أجرته، و لو كان المقصود منها تجويز الدخول لمجرّد القصد إلى توجيه الخير إلى المسلم لا يبقى أحد إلّا و هو مسودّ السمعة في ديوانهم.


1- رجال الكشي 2: 740/ 828، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 17.

ص: 497

و لعمري إنّه كيف يمكن الركون إلى مثل رواية زياد بن أبي سلمة، عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام)، فقال لي: «يا زياد، لأن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحدٍ منهم عملًا، أو أطأ بساط رجل منهم، ألّا لماذا؟» قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه ..»(1).

فإنّه مع ندائها بمثل ذلك في جانب يرخّص هذا الأمر العظيم و المحرّم الكبير في نهاية السهولة في قبال الأمر اليسير جدّاً، و لا سيّما أنّ الظاهر منها الرخصة في قبال القصد إليه و إن لم يتحقّق أو يكون مظنون العدم تحقّقه.

و إلى مثل ما رواه الكشّيّ في ترجمة محمّد بن إسماعيل بن بزيع على نقل الشيخ عنه عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: «إنّ للَّه تعالى في أبواب الظلمة من نوّر اللَّه به البرهان، و مكّن له في البلاد ليدفع به عن أوليائه، يصلح اللَّه بهم أُمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرّ، و إليهم مرجع ذوي الحاجة من شيعتنا، بهم يؤمّن اللَّه روعة المؤمنين في دار الظلمة، أُولئك المؤمنون حقّا، أُولئك أُمناء اللَّه في أرضه، أُولئك نور اللَّه في رعيّته يوم القيامة،


1- الكافي 5: 109/ 1، وسائل الشيعة 17: 194، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 9.

ص: 498

و يزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر نور الكواكب الدرّيّة لأهل الأرض، أُولئك نورهم يوم القيامة تضي ء منه القيامة، خلقوا و اللَّه للجنّة، و خلقت الجنّة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه؟» قلت: بماذا جعلت فداك؟ قال: «يكون معهم فيسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمّد»(1).

فإنّه كيف يحصل لأحد احتمال صدق مثل هذه المآثير قبال ما ورد عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، و يحتمل إرادة الجماعة الغائبين عن أعينهم، الحافظين لمنافع المؤمنين و اللَّه العالم.

فالخروج عن المآثير المانعة عن الدخول(2) بمثل هذه و أشباهها، في غاية الإشكال و المنع.

ثمّ إنّه ممّا تقرّر يظهر الوجه في سائر ما أفاده- مدّ ظلّه، و لو كان وجه الرخصة انكسار الملاك في المستثنى منه، لما كان وجه لاختصاص الترخيص بالقسم الأوّل، كما لا يخفى.

فما سلكه في المقام الشيخ الأعظم من تحرير المسألة حول ما


1- حكى الشيخ الأعظم الرواية عن رجال الكشّي راجع المكاسب، الشيخ الأنصاري: 56/ السطر 23، و لكنّ الرواية ليست موجودةً في رجال الكشّي بل رواها النجاشيّ في رجاله، انظر رجال النجاشي: 331، الرقم 893.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42 و 45.

ص: 499

بل ربّما بلغ الدخول في بعض المناصب و الأشغال لبعض الأشخاص أحياناً إلى حدّ الوجوب، كما إذا تمكّن شخص بسببه على دفع مفسدة دينيّة (1)، أو المنع عن بعض المنكرات الشرعيّة مثلًا، و مع ذلك فيها خطرات كثيرة إلّا لمن عصمه اللَّه تعالى.

يدركه العقل من المصالح و المفاسد(1)، لا يرجع إلى محصّل، و هكذا ما أفاده غيره حول الدليل اللفظي(2).

و من العجب أنّهم كانوا يرون الخطرات في هذه الأشغال و المناصب، و يؤيّدهم المآثير الناطقة بأنّ «تناول السماء أيسر عليك من ذلك»(3) أي العدل و مع ذلك كانوا يرخّصونه في حذاء احتمال الأمر اليسير، أو الظنّ به.

قوله دام ظلّه: «مفسدة دينيّة».

مقتضى ما تحرّر منه- مدّ ظلّه في كتابه الكبير(4) انحصار الدليل في المستثنى بالمآثير، و لو تَمَّ ذلك فيشكل إلحاق مصالح الدين بمصالح المسلمين إلّا بدعوى الأولويّة القطعيّة؛ ضرورة أنّ المسلم بما هو مسلم


1- المكاسب، الشيخ الأنصاريّ: 56/ السطر 10.
2- انظر حاشية الإيروانيّ على المكاسب 1: 45/ السطر 3 و ما بعده.
3- الكافي 5: 107/ 9، وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4.
4- المكاسب المحرّمة، الإمام الخمينيّ 2: 174 175 و مابعدها.

ص: 500

محترم، فكيف لا يراعي الإسلام في المقام؟! مع أنّ إطلاقات أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(1) يرخّص في هذه المواقف، و كون النسبة عموماً من وجه بينها و بين نصوص المسألة يؤيّد الرخصة للرجوع إلى البراءة أو قاعدة التزاحم مع أنّ دليل العقل لو لم يكن تامّاً في كثير من المواضيع لعدم الاطّلاع على الملاكات، و لكنّه هنا يتمّ إذا كان الداخل عالماً بحصول المعروف و دفع المنكر و رفعه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ هذه المسألة من قبيل مسألة تزاحم المحرّمات و المستحبّات، فكما تكون أدلّتها قاصرة عن شمول موردها كذلك هنا.


1- وسائل الشيعة 16: 117، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 1.

ص: 501

[مسألة 25: ما تأخذه الحكومة من الضريبة على الأراضي]

مسألة 25: ما تأخذه الحكومة من الضريبة على الأراضي مع شرائطها جنساً أو نقداً، و على النخيل و الأشجار، يعامل معها (1) معاملة ما يأخذه السلطان العادل، فيبرأ ذمّة الدافع عمّا كان عليه من الخراج الذي هو اجرة الأرض الخراجيّة، و يجوز لكلّ أحد شرائه، و أخذه مجاناً و بالعوض، و التصرّف فيه بأنواع التصرّف، بل لو لم تأخذه الحكومة و حوّل شخصاً على من عليه الخراج بمقدار فدفعه إلى المحال، يحلّ له، قوله دام ظلّه: «يعامل معها».

و في «الرياض»: «و عليه الإجماع المستفيض(1)؛ ضرورة عدم استقامة تعيّش الإنسان بدون نماء الأراضي و الغرس فيها، و الفرض أنّ الجميع بأيديهم». و في «الجواهر» ما يشبه ذلك، إلى أن قال: «بل لعلّ المسألة من الضروريّات، لا يحتاج في إثباتها إلى الروايات، و لعلّ وقوع البحث بين الكركيّ و القطيفيّ- رحمهما اللَّه تعالى دعا إلى التطويل في المسألة، و كم من مسألة ضروريّة صارت نظرية لسبق الشبهة»(2).

أقول: الأراضي في زمن السلطان الجائر على قسمين: إمّا للمسلمين، و إمّا للإمام (عليه السّلام)، فما كان منها مفتوحة بأيديهم بإذنه (عليه السّلام) فهي لهم، و ما كان غير ذلك فهي له (عليه السّلام) مع سائر الشرائط المقرّرة، و على التقديرين تصدّي


1- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
2- لاحظ جواهر الكلام 22: 181 182.

ص: 502

السلطان الجائر و عمّاله لها على خلاف الموازين الشرعيّة، لأنّها بيد الإمام العادل، أو المنصوب من قبله خاصّاً أو عامّاً، فتقبّلها منهم أوّلًا و تقبيلها للغير ثانياً، غير جائز على حسب الأصل الأوّلي، و التصرّف في منافعها و ثمارها حسيّا و اعتباريّاً، أيضاً ممنوع بمقتضى ما عرفت.

و توهّم أنّها لو كانت لهم فتصرّفهم فيها جائز غير تامّ؛ لأنّه على تقدير كونها لهم، على نحو كون الزكاة للفقراء، بمعنى أنّه كما يجوز للفقير أخذ الزكاة تمامها و إن كان الفقير الآخر موجوداً، فيجوز له الاستيفاء من الأرض أكثر من نصيبه، و لكنّه أيضاً غير جائز لاحتياجه إلى الإذن، فيكون تقبّله باطلًا.

إذا عرفت ذلك، فإن استكشفنا إمضاء الشرع لتصدّيهم فيكون الأموال عندهم كالأموال عند السلطان العادل، فيجوز جميع الاستمتاعات منها بلا فرق بين أنحائها، و ما اشتهر من ممنوعيّة مثل الإحالة لعدم كونها مقبوضة(1)، غير راجع إلى محصّل.

و عندئذٍ لا فرق بين أنحاء الفرق الإسلاميّة، و المحترمين في الدولة الإسلاميّة، و يجب حينئذٍ مراعاة شؤون العامل المتصدّي، و لا يجوز الاستراق، و لا التخلّف عمّا تعاهدوا عليه من الثلث و الربع الخمس باسم المقاسمة، و لا من الخراج المعيّن عليه، كما أنّ العامل إذا تعدّى و أخذ


1- لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 107، مفتاح الكرامة 4: 246 247.

ص: 503

الزائد على السهم المقرّر، فإنّه لا يجوز التصرّف فيما أخذه ظلماً و عدواناً، فهؤلاء أهل الجور كأهل العدالة بعد إمضاء صاحب الشريعة.

بل قضيّة صحيحة أبي عبيدة، قيل له: فما ترى في الحنطة و الشعير يجيئنا القاسم، فيقسم لنا حظّنا، و يأخذ حظّه، فيعزله بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل»(1) هو أنّ الأخذ من العامل بغير كيل اتّكالًا على كيله بعد حضورهم جائز، و الأخذ منه إذا يأخذ ظلماً و جوراً من غير مراعاة الشرائط المقرّرة ممنوع، فليتأمّل.

و إذا احتملنا أنّ الذي وقع عليه الإمضاء ليس إلّا الانتفاعات من تلك الأموال، و للحذر عن وقوع المسلمين في الحرج و المشقّة، و خصوص الشيعة في التعب و الإعضال، أجازوا ذلك، فحينئذٍ لا يلزم مراعاة النظم، و يجوز الاستنقاذ و الفرار من إعطاء الثمن فيما إذا اشترى و لو ببذل شي ء إلى العامل، مثلًا يأخذ منه المقاسمة، و غير ذلك، ممّا تعارف في هذه الأعصار، و يعدونه الرشوة فراراً عن العشور و الضريبة الموظّفة من قبل الدول.

و لو كان قضيّة الحرج أو لزوم الاختلال و الهرج، جواز التصرّف،


1- الكافي 5: 228/ 2، وسائل الشيعة 17: 219، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 5.

ص: 504

و صحّة الآثار المترتّبة عليها، من براءة الذمّة عن الخراج و المقاسمة و من عدّها من المئونة في الزكاة؛ فهو مقصور و لا يمكن توزينه، و يستلزم ذلك المشقّة و الإعضال، بل و الاختلال، فإذن ينحصر الدليل بالسيرة، و الأدلّة اللفظيّة.

أمّا السيرة: فهي قضيّة خارجيّة تقصر عن إفادة وجه الجواز، و لعلّ الوجه أُمور مختلفة في الموضوعات المتشتّتة، و للحاكم الإلهي ترخيص المسلمين في التصرّف في أموال محترمة، في مواقف خاصّة.

بل من المحتمل قويّاً كون جميع ما في أيديهم الباطلة للإمام (عليه السّلام)؛ لكونها من الأنفال، فلا يستفاد منها إمضاء الضريبة على الأراضي الخراجيّة التي هي للمسلمين، فما يأخذ السلطان الجائر لو ينحصر بالمحرّم أو اختلط بالمحرّم، و وجه الاختلاط كما يمكن أن يكون لحلّية الخراج و المقاسمة، أو لحلّية الأنفال، أو لحلّية الأموال الأُخر الداخلة في أموالهم فرضاً، كما في عصرنا؛ فهو غير ممنوع التصرّف و التقلّب، لتلك السيرة المشاهدة بين الملل و العلماء، بل و المعروف من الأئمّة (عليهم السّلام).

و أمّا أنّها تكفي و تبرئ الذمّة فللإجماعات المحصّلة و المنقولة(1)، و لعدم معهوديّة خلافه، مع أنّه لو كان لبان؛ لابتلاء المتديّنين من أوّل الأمر بتلك الأراضي.

و أمّا الأدلّة اللفظيّة: فهي مختلفة و متشتّتة في الكتب، و المحصّل لنا


1- مفتاح الكرامة 4: 246/ السطر 22 و ما بعده.

ص: 505

منها ليس إلّا رفع المنع عن تلك الأموال، و لا دلالة لها على إمضاء التصدّي حتّى يترتّب عليه الحلّيّة حتّى لنفس العامل فيما يأخذه عوضاً عن عمله، أو فيما يتصرّف فيه عند ما يدخل ضيفاً عند أحد من المسلمين، فإنّ إمضاء التصدّي خلاف ما عليه الروايات الكثيرة الواردة في الذبّ عنهم(1)، و النهي عن التدخّل في أُمورهم(2)، و المشي معهم(3)، و المعاونة لهم(4)، و التسويد في ديوانهم(5) و هكذا، فكلّ ما كان من قبلهم (عليهم السّلام (فهو بالنسبة إلى الأُمّة راحة و ترخيص و إرشاد و تحليل و خلاص من المشقّة و الحرج، و بالنسبة إلى سلطانهم تضييق و تحديد و منع و عناد؛ لأنّ في تصدّيهم بقاء الأباطيل و سلطان الشيطان.

فالأمر بالاشتراء(6)، و ردّ سهم السلطان(7)، و أمثال ذلك لا يدلّ على أمر،


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
2- وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4 و 12.
3- وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 15.
4- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
5- وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 9.
6- وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 1 و 3 و 4.
7- وسائل الشيعة 9: 192، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 10، و 19: 44، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 10، الحديث 1.

ص: 506

بعد احتمال كون كثير من الروايات الموافقة لمذاقهم محمولًا على التقيّة، و صادراً من الجهات السياسيّة، و منها التقيّة المداراتيّة حقناً لدمائهم، و صوناً لأعراضهم.

فالفرار من إعطاء سهم السلطان مع الأمن من الوقوع في الهلكة، و خصوصاً مع القدرة على ردّه إلى السلطان العادل سرّاً، جائز، بل واجب و يشهد له: معتبر زرارة، قال: اشترى ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة أُرزاً بثلاثمائة ألف، قال: فقلت له: و يحك، انظر إلى خمس هذا المال فابعث به إليه و احتبس الباقي، فأبى عليّ، قال: فأدّى المال، و قدم هؤلاء فذهب أمر بني أُميّة، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، فقال مبادراً للجواب: «هو له، هو له»، فقلت له: إنّه قد أدّاها، فعضّ على إصبعه(1).

فإنّه يعلم منه: أنّ مع بروز آثار ضعف الدولة السابقة كيف أدّى إليهم ما ليس لهم؟! و لا يستظهر منها أنّ المسألة مبنيّة على اختلاط الحرام بالحلال، و أنّه يجوز في هذه الصورة التصرّف، و الحرام هي الزكاة، و الحلال هي الضريبة حتّى يلزم مراعاة أحكام العلم الإجمالي، و مجرّد وجود بعض المآثير الظاهرة في ذلك لا يورث كون هذه المسألة على هذا المبنى.


1- تهذيب الأحكام 6: 337/ 936، وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 2.

ص: 507

و قد عرفت كلام صاحب «الرياض»(1) و «الجواهر»(2) الفحلين- رضوان اللَّه تعالى عليهما، الظاهر في تحليل المحرّم، و عرفت أنّ الظاهر عدم ثبوت الإذن من قبل الأئمّة، و العادل من الأُمّة في الجهاد حتّى تكون الأراضي للمسلمين فيكون تصرّفهم فيها من التصرّف في أموالهم، و كان ذلك بحسب الحكم الوضعي حلالًا، و تصرّفاً غير غصبي، و إن يحرم ذلك لجهة أُخرى تكليفيّة محضة، مثل تصرّف الناذر في ماله إذا نذر ترك التصرّف لأمر راجح.

و رواية «الاحتجاج»(3) غير تامّة سنداً، و غير قابلة للتصديق دلالة.

و رضاهم ببسط الإسلام لا يكفي ظاهراً؛ لكون تلك الأراضي المحياة في ء المسلمين، و لأجل ذلك لا بدّ من الاقتصار على القدر الخارج من الأصل، المحرّر بالدليل المعتبر.

و مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ في أنّ تلك الأراضي للمسلمين أو من الأنفال، كونها للإمام (عليه السّلام)؛ لأنّ ما لا يكون بخيل، و لا ركاب، و لا كذا و كذا فهو للإمام، و الاستصحاب النافي للقيد يورث شرعاً ذلك، فليتأمّل


1- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
2- جواهر الكلام 22: 181 182.
3- الاحتجاج 2: 572، وسائل الشيعة 17: 217، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 15.

ص: 508

و تبرأ (1) ذمّة المحال عليه عمّا عليه، جيّداً. و ما ورد: «هو له، هو له» أو «إنّ لك في بيت المال نصيباً»(1) لا يدلّ على خلاف ذلك؛ لأنّ من المحتمل قويّاً كون الجملتين إنشائيّة أو إخباراً عن الإنشاء، و التحليل السابق، بل تجويز الأخذ من تلك الأموال من غير مراعاة النصيب المعيّن و أخذهم (عليهم السّلام (منها كثيراً، يشهد على أنّ الأموال المأخوذة من ثمرات أملاكهم، فلاحظ و تدبّر.

قوله: «و تبرّأ».

لما عرفت، و ما يظهر من جماعة من أنّ الحلّيّة منوطة بالأخذ و القبض(2)، لا يرجع إلى محصّل.

نعم، لا ملازمة بين الحلّيّة و الإبراء، إلّا أنّ سقوط الذمّة إجماعي، مع أنّه كان مورد الابتلاء، فلو لم يترتّب عليه تلك الآثار الواضحة لكان واضحاً عند الأصحاب، و معلوماً عند المتأخّرين منهم- رضوان اللَّه تعالى عليهم.


1- تهذيب الأحكام 6: 336/ 933، وسائل الشيعة 17: 214، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 6.
2- لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 107، المكاسب، الشيخ الأنصاريّ: 73/ السطر 25.

ص: 509

لكن الأحوط خصوصاً في مثل هذه الأزمنة (1) رجوع من ينتفع بهذه الأراضي، و يتصرّف فيها في أمر خراجها، و كذلك من يصل إليه من هذه الأموال شي ء، إلى حاكم الشرع أيضاً.

قوله مدّ ظلّه: «هذه الأزمنة».

البحث في هذه المسألة كان من جهات، بيّن أكثرها، لأنّه تارة: يبحث عن أنّ تقبّل الأرض يندرج تحت أحد العناوين المتعارفة من الصلح و الإجارة، أو يختصّ بعنوان مستقلّ آخر؟ الظاهر هو الثاني. و ربّما يكون من جهة شبيه الضمان الاجتماعي و عقد التأمين، فإنّ الخراج يؤخذ على الأرض سواء تمكّن العامل من الاستيفاء من الأرض أم لا، و سواء حصلت الشرائط في صحّة الإجارة فيها أم لم تحصل، فتأمّل.

و لو كان تلاحظ هذه الشرائط دون المدّة لكان الأوّل أقرب، لما تقرّر منّا: أنّ المدّة ليست من مقوّمات المنفعة(1) خلافاً لما توهّمه بعض المحقّقين، و لا دليل على مانعيّة الغرر في مطلق المعاملات، خصوصاً فيما نحن فيه.

و أُخرى: يبحث عن تقبيل المتقبّلات من الآخرين، و سيأتي بعض الكلام فيه، و هذان البحثان يشترك فيهما العادل و الجائر.

و ثالثة: في أنّ تلك الأراضي إذا لم تكن أنفالًا، ملك المسلمين، أم هي لهم منفعة و حقّاً؟ الظاهر هو الثاني، لعدم مساعدة الاعتبار لملكيّة الذات،


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه و لعلّه في كتاب الإجارة المفقودة.

ص: 510

مع المنع عن التصرّفات الناقلة كالبيع و غيره، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

و هكذا الأنفال للإمام ملكاً شخصيّاً، أو للإمام أي للدولة الإسلامية بأنّه لا يرث الثاني من الأوّل حتّى يتقسّم، أو يختصّ بولد دون ولد؟ الظاهر هو الثاني، و هي الضريبة لبسط الإسلام، و ترويج الدولة الحقّة، و تشكيل المدينة الفاضلة.

و رابعة: أنّ حلّيّة تلك الأموال الموجودة في خزائن الدول تختصّ بالدولة الإسلاميّة المدّعية خلافة رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، أو يشترك فيها غيرهم؟

و أنّها تختصّ بالموجودين في عصر الأئمّة، كبني أُميّة و بني العباس، أو يشترك فيها غيرهم؟

و أنّها تختصّ بالدولة الإسلاميّة الجائرة أو يشترك فيها المعنونون بالإسلام، و الذاكرون له و إن كان عملهم مورثاً لكفرهم شرعاً، و هم عند علماء المذهب من الكفّار و المرتدّين، ككثير من سلاطين الدول الإسلاميّة الفعليّة، فإنّهم على حسب صنائعهم يعدّون مرتدّين عن الطريقة الحقّة، و معاندين للإسلام و لعلمائه و أبنائه؟

و خامسة: هل الحلّيّة تختصّ بالشيعة و غيره ممنوعون، أو يشترك فيها أهل الإسلام دون العمّال و من هم في ديوانهم و من أعوانهم، أو يشترك فيها هؤلاء أيضاً إلّا إذا كان العمل الذي تصدّاه من المحرّمات الشرعيّة أو يشترك فيها أهل الذّمم أيضاً، بل الدول المعاهدة مع الدولة الإسلامية،

ص: 511

فلا يكون تصرّف هؤلاء فيها غصباً؟

و سادسة: يظهر في بعض أُمور لا حاجة إلى الإيماء إليها.

و الذي يظهر لي في الأمر الرابع هو أنّ قضيّة المنع الأكيد من الدخول في الولايات و المناصب، و من الإعانة و نحوها تمايلهم إلى إبطال هذه الدولة و بعث الأُمّة الإسلاميّة إلى تشكيل السلطنة الحقّة، و إليه يشير ما في بعض الأخبار(1)، و قد مضى أنّ مفادها إغراء المسلمين إلى السياسة الخاصّة المصطلح عليها بالسياسة المنفيّة(2).

و لو كان الإذن عامّاً لجميع الأُمم، بل لجميع أفراد الشيعة، لاختلّ نظام تلك السياسة، بل قضيّتها منع الناس عن هذه الأراضي و ثمارها، و إيجاد المشقّة و الكلفة عليهم حتّى يتولّد منها الثورة، و يتزايد التهاجم على تلك الدول الباطلة بوجه محفوظ من إراقة الدماء، و هتك الأعراض، كما قد يشاهد ذلك في الأُمم الراقية، الّتي هي تابعة في الاعتقادات الدينيّة للرجل الديني المتضلّع، و لكنّه مع ذلك كلّه صدر الإذن للشيعة؛ لطيب مولدهم و مأكلهم و مشربهم، و إليه يشير ما ورد من فساد منابتهم، و اندراجهم في من


1- الكافي 5: 106/ 4، وسائل الشيعة 17: 199، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 1.
2- تقدّم في الصفحة 489 490.

ص: 512

لا طيب لمولده، و يعدّ من أولاد الزّنا(1).

فالّذي هو القدر المتيقّن من الأمر الخامس هو الإذن الخاصّ، و ما يظهر من الأصحاب و من عموم تعليلاتهم، خصوصاً ما ورد في كلام صاحب «الرياض»(2) و «الجواهر»(3) رحمهما اللَّه تعالى من التعليلات الراجعة إلى السيرة، و المشاهدات الخارجيّة و القضايا الجزئيّة، غير قابل للتصديق.

نعم، الظاهر اشتراك الحاضر و الغائب في هذا الإذن، و لا يختصّ به التابعون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار.

و يمكن دعوى لزوم الرجوع إلى الحاكم؛ لأنّ الإذن الصادر من الإمام العادل لا يكفي لحلّيّة الأموال للغيّاب، و لكنّها إذا كانت بنحو العموم الظاهر في الأعمّيّة من العصر الحاضر، تكون مستلزمة لكشف الكفاية، و إلّا لم يكن وجه لمثله، فتدبّر.


1- بحار الأنوار 27: 145، كتاب الإمامة، الباب 5، و 38: 189، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 63 في النوادر، الحديث 1.
2- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
3- جواهر الكلام 22: 181.

ص: 513

و الظاهر أنّ حكم السلطان المؤالف كالمخالف (1)، و إن كان الاحتياط بالرجوع إلى الحاكم في الأوّل أشدّ.

قوله دام ظلّه: «كالمخالف».

قد عرفت عموم الإذن بالنسبة إلى الطائفة الحقّة مطلقاً، و الاحتياط بالرجوع إلى الحاكم خصوصاً في المؤالف، و لا سيّما في المؤالف الصوري، لا الواقعي، حسن جدّاً؛ لما علمت من بعض الاحتمالات في المسألة، و منها يعلم وجه الأشدّيّة أيضاً، فليتدبّر جيّداً.

ص: 514

[مسألة 26: يجوز لكلّ أحد أن يتقبّل الأراضي الخراجيّة]

مسألة 26: يجوز لكلّ أحد أن يتقبّل الأراضي الخراجيّة، و يضمنها من الحكومة بشي ء، و ينتفع بها بنفسه بزرع أو غرس أو غيره، أو يقبلها قوله: «يقبلها».

ظاهرهم أنّه عنوان آخر مستقلّ حيال سائر العناوين، و لا يلتزمون بعدم خروجهم عن العناوين الشائعة، كما يشاهد منهم في المواضع غير العزيزة، و ما قيل من أنّ الإجماع قائم على الحصر غير مصدّق في محلّه.

هذا و لكنّ الإنصاف شاهد على أنّ حقيقة الإجارة ليست إلّا هذا، و عدم لزوم مراعاة جميع الشرائط المعتبرة في صحّتها في غير ما نحن فيه هنا لا يورث انسلاب ماهيّتها عمّا نحن فيه.

ثمّ إنّه يمكن أن يتقبّلها بعنوان الصلح و المزارعة أيضاً، مع لزوم مراعاة الشرائط الشرعيّة فيهما؛ لأنّ القدر المتيقّن من سقوط الشرط هو ما كان التقبّل بعنوان الإجارة، و ذلك لوقوعه قهراً إجارة، بخلاف المزارعة و الصلح فإنّهما لا يقعان قهراً، فالتقبّل ليس عنواناً مستقلا، بل هو الإجارة بالحمل الشائع، و قضيّة السيرة عدم مراعاة شرائطها فيه بحيث توهّم كونه ماهيّة اخرى حذاء سائر الماهيّات الاعتباريّة.

و يدلّ عليه: مضافاً إلى مقطوعيّة الحكم، صحيح داود بن سرحان، عن

ص: 515

و يضمنها لغيره (1) و لو بالزيادة، على كراهية (2) في هذه الصورة، إلّا أن يحدث فيها حدثاً كحفر نهر أو عمل فيها بما يعين المستأجر، بل الأحوط ترك التقبيل بالزيادة إلّا معه.

أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)(1) و صحيح الحلبيّ(2) و غيرهما(3).

قوله دام ظلّه: «لغيره».

مع مراعاة الشرائط المحرّرة في تحويل مورد المعاوضة إلى الغير، و مع كون التقبّل الأوّل غير محدود سلطنته على مورد التقبّل، كما في سائر الكتب كالمزارعة و الإجارة و المساقاة و غيرها.

و يمكن دعوى خصوصيّته في المقام و هو أنّ العين للمسلمين، فتحويلها إلى المستأجر الثاني غير ممنوع، فلتتأمّل تعرف.

قوله دام ظلّه: «على كراهية».

لما تقرّر في كتاب الإجارة، و قالوا هناك: أنّ الأقوى جواز الإجارة ثانياً


1- الكافي 5: 265/ 5، وسائل الشيعة 19: 57، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 17، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 7: 201/ 888، وسائل الشيعة 19: 59، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 18، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 19: 45، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 10، الحديث 2، 19: 52، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 15، الحديث 3.

ص: 516

مع عدم الشرطين في الأرض على كراهية، و إن كان الأحوط الترك(1)، و قد مضى البحث حول هذه المسائل في محلّها في كتابنا الكبير(2).

و الذي هو الإشكال هنا هو: أنّ التقبّل ليس من الإجارة المتعارفة حتّى تأتي فيها الممنوعات فيها و شرائطها، بل ظاهر جماعة أنّه عنوان آخر، فشمول أخبار تلك المسألة(3) لهذه الصورة محلّ بحث.

و المراد من الشرطين إحداث الحدث، و كون الأُجرة في الإجارة الثانية من غير جنس الأُجرة في الإجارة الأُولى، و كان عليه- مدّ ظلّه الإشارة إلى الشرط الثاني في المتن أيضاً حتّى يستوفي المسألة من جهاتها، و لا سيّما بعد تصديقه الشرط الثاني في كتاب الإجارة على إشكال فيه(4).


1- العروة الوثقى 2: 608، كتاب الإجارة، الفصل 5، المسألة 1.
2- كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه مفقود.
3- وسائل الشيعة 19: 126، كتاب الإجارة، الباب 21.
4- تحرير الوسيلة 1: 579، كتاب الإجارة، المسألة 25.

ص: 517

هذا آخر ما أردناه في هذا المضمار، و قد تمّ بيد الفقير إلى اللَّه الغني، صباح يوم الجمعة، التاسع من شهر صفر المظفّر، من السنة السابعة، من العشر التاسع، من القرن الرابع عشر، من الهجرة النبويّة، على هاجرها آلاف الصلاة و التحيّة، في النجف الأشرف، في الأيّام الّتي كنّا فيها بحكم القضاء الإلهي مقصيين من بلادنا، و قد أخرجنا ربّنا منها إلى تركيا، ثمّ منه إلى هذه البلدة الطيّبة على مشرّفها الثناء الجميل، و نرجو منه الخير الكثير، و أن يوفّقنا لأن نقتل في سبيله بعد ما نقتل أعدائه، و الحمد للَّه أوّلًا، و آخراً، و ظاهراً، و باطناً، فإنّه خير موفّق و معين. 7/ صفر المظفر 1397 ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.